دلائل النبوة للبيهقي محققا

بَابُ ذِكْرِ الْعَقَبَةِ [الْأُولَى] [ (1) ] وَمَا جَاءَ فِي بَيْعَةِ مَنْ حَضَرَ الْمَوْسِمَ مِنَ الْأَنْصَارِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ بِبَغْدَادَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَتَّابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بن إبراهيم بن عتبة، عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.
(ح) وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الشَّعْرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ فِي قِصَّةِ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ، قَالَ:
«فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا حَضَرَ الْمَوْسِمُ [ (2) ] حَجَّ نَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِيهِمْ: مُعَاذُ بن عَفْرَاءَ، وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، ورافع بن مالك، وذكوان، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ، وَالَّذِي اصطفاه الله به
__________
[ (1) ] الزيادة من (ص) و (هـ) . والعقبة موضع على يسار الطريق القاصد منى من مكة.
[ (2) ] الموسم: أي موسم الحج، وفيه كانت تقام الأسواق المشهورة مثل سوق: عكاظ، وكان يفد عليه العرب من جميع الأنحاء، ولكل قبيلة منزل خاص تنزل بِهِ.

(2/430)


مِنْ كَرَامَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ أَيْقَنُوا بِهِ وَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى مَا سَمِعُوا مِنْهُ، وَعَرَفُوا مَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صِفَتِهِ، فَصَدَّقُوهُ، وَاتَّبَعُوهُ وَكَانُوا مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ الَّذِي سُبِّبَ لَهُ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالُوا: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَنَحْنُ حِرَاصٌ عَلَى مَا أَرْشَدَكَ اللهُ بِهِ مُجْتَهِدُونَ لَكَ بِالنَّصِيحَةِ، وَإِنَّا نُشِيرُ عَلَيْكَ بِرَأْيِنَا فَامْكُثْ عَلَى رِسْلِكَ بِاسْمِ اللهِ حَتَّى نَرْجِعَ إِلَى قَوْمِنَا، فَنَذْكُرُ لَهُمْ شَأْنَكَ، وَنَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَلَعَلَّ الله عز وجل إن يُصْلِحَ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيَجْمَعَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ، فَإِنَّا الْيَوْمُ مُتَبَاغِضُونَ مُتَبَاعِدُونَ، وَإِنَّكَ إِنْ تَقْدَمَ عَلَيْنَا وَلَمْ نَصْطَلِحْ لَا يَكُونُ لَنَا جَمَاعَةٌ عَلَيْكَ، وَلَكِنَّا نُوَاعِدُكَ الْمَوْسِمَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ.
فَرَضِيَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَدَعُوهُمْ سِرًّا وَأَخْبَرُوهُمْ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَالَّذِي بَعَثَهُ اللهُ بِهِ وَتَلَوْا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، حَتَّى قَلَّ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا قَدْ أَسْلَمَ فِيهَا نَاسٌ، ثُمَّ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلّم: معاذ بن عَفْرَاءَ، وَرَافِعَ بْنَ مَالِكٍ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا مِنْ قِبَلِكَ يُفَقِّهْنَا وَيَدْعُو النَّاسَ بِكِتَابِ اللهِ، فَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُتَّبَعَ.
قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم: مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ابن قُصَيٍّ، فَنَزَلَ فِي بَنِي تَيْمٍ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَجَعَلَ يَدْعُو النَّاسَ سرا، ويفشو الْإِسْلَامُ، وَيَكْثُرُ أَهْلُهُ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ شَدِيدٌ اسْتِخْفَاؤُهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ، وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ أَقْبَلَ هُوَ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ حَتَّى أَتَيَا بِئْرَ بَنِي مَرْقٍ، فَجَلَسَا هُنَالِكَ وَبَعَثَا إِلَى رَهْطٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَتَوْهُمَا مُسْتَخْفِينَ، فَبَيْنَمَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُهُمْ، وَيَقُصُّ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ أُخْبِرَ بِهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: بَلْ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَأَتَاهُمْ فِي لَأَمْتِهِ مَعَهُ الرُّمْحُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِأَبِي أُمَامَةَ: عَلَامَ تَأْتِينَا فِي دُورِنَا بِهَذَا الْوَحِيدِ الْغَرِيبِ الطَّرِيدِ

(2/431)


يُسَفِّهُ ضُعَفَاءَنَا بِالْبَاطِلِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، لَا أَرَاكَ بَعْدَهَا تُسِيءُ مِنْ جِوَارِنَا، فَقَامُوا وَرَجَعُوا.
ثُمَّ إِنَّهُمْ عَادُوا مَرَّةً أُخْرَى لِبِئْرِ بَنِي مَرْقٍ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، فَذُكِرُوا لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الثَّانِيَةَ، فَجَاءَهُمْ فَتَوَاعَدَهُمْ وَعِيدًا دُونَ وَعِيدِهِ الْأَوَّلِ فَلَمَّا رَأَى أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ مِنْهُ لِينًا قَالَ لَهُ [يَا ابْنَ خَالَةٍ اسْتَمِعْ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنْ سَمِعْتَ مُنْكَرًا فَارْدُدْهُ بِأَهْدَى مِنْهُ، وَإِنْ سَمِعْتَهُ [ (3) ] حَقًّا فَأَجِبْ إِلَيْهِ.
فَقَالَ: مَاذَا تَقُولُ؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [ (4) ] .
فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: مَا أَسْمَعُ إِلَّا مَا أَعْرِفُ، فَرَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَقَدْ هَدَاهُ اللهُ وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُمَا إِسْلَامَهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَدَعَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ إِسْلَامَهُ وَقَالَ: مَنْ شَكَّ مِنْكُمْ فِيهِ فَلْيَأْتِ بِأَهْدَى مِنْهُ، فو الله لَقَدْ جَاءَ أَمْرٌ لَتُحَزَّنَّ [فِيهِ] [ (5) ] الرِّقَابُ، فَأَسْلَمَتْ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ عِنْدَ إِسْلَامِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَدُعَائِهِ- إِلَّا مَنْ لَا يُذْكَرُ فَكَانَتْ أَوَّلُ دَارٍ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَتْ بِأَسْرِهَا.
ثُمَّ إِنَّ بَنِي النَّجَّارِ أَخْرَجُوا مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ وَاشْتَدُّوا عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَانْتَقَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَدْعُو آمِنًا وَيَهْدِي اللهُ عَلَى يَدَيْهِ، حَتَّى قَلَّ دَارٌ مِنْ دور الأنصار إِلَّا قَدْ أَسْلَمَ أَشْرَافُهَا.
وَأَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وَكُسِرَتْ أَصْنَامُهُمْ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ أعز أهل
__________
[ (3) ] في (هـ) : «إن سمعت» .
[ (4) ] الآيات (1- 3) من سورة الزخرف.
[ (5) ] ليست في (هـ) .

(2/432)


الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ مُصْعَبٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَكَانَ يُدْعَى الْمُقْرِئُ.
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وكَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يقدمها رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ.
هَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قِصَّةَ الْأَنْصَارِ فِي الْخَرْجَةِ الْأُولَى.
وَذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ شُيُوخِهِ أَتَمَّ مِنْ ذِكْرِهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَقِيَ أَوَّلًا نَفَرًا مِنْهُمْ فِيهِمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ثُمَّ انْصَرَفُوا حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ أَتَى الْمَوْسِمَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَقَوْهُ بِالْعَقَبَةِ وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى فَبَايَعُوهُ فِيهِمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَبَعَثَ بَعْدَهُمْ أَوْ مَعَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم مصعب بن عمير رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ جَمَاعَتِهِمْ وَنَحْنُ نَرْوِي بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الْقِصَّةَ بِتَمَامِهَا [ (6) ]] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ- رَحِمَهُ اللهُ-، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ:
فَلَمَّا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِظْهَارَ دِينِهِ، وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَهُ فِيهِ النَّفَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ مَوْسِمٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا [ (7) ] مِنَ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللهُ بِهِمْ خَيْرًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ،
__________
[ (6) ] هذه الفقرة كاملة ما بين الحاصرتين ساقطة من (ص) .
[ (7) ] الرّهط: دون العشرة. بسكون الهاء، وتفتح.

(2/433)


قَالُوا: «لَمَّا لَقِيَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ [لَهُمْ] [ (8) ] : «مِمَّنْ أَنْتُمْ؟» قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ.
قَالَ: «أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ؟» قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: «أَفَلَا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمْكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: فَجَلَسُوا مَعَهُ، فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إِلَى اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ،
وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللهُ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ يَهُودَ [ (9) ] كَانُوا مَعَهُمْ بِبِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَهْلَ شِرْكٍ، وَأَصْحَابَ أَوْثَانٍ، فَكَانُوا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثٌ الْآنَ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ [ (10) ] نَتَّبِعُهُ فَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ.
فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أُولَئِكَ النَّفَرَ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ يَا قَوْمِ اعْلَمُوا وَاللهِ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي تَوَعَّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ فَلَا تَسْبِقَنَّكُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَبِلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا وَلَا قَوْمٌ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا بَيْنَهُمْ وَعَسَى الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْمَعَهُمُ اللهُ بِكَ وَسَنَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فَنَدْعُوهُمْ إِلَى أَمْرِكَ، وَنَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَجَبْنَاكَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ، فَإِنْ يَجْمَعْهُمُ اللهُ عَلَيْكَ فَلَا رَجُلَ أَعَزُّ مِنْكَ.
ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ قَدْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا وَهُمْ فِيمَا يَزْعُمُونَ سِتَّةُ نَفَرٍ مِنَ الْخَزْرَجِ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ، وَعَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ رِفَاعَةَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ، وَقُطْبَةُ بْنُ
__________
[ (8) ] الزيادة من سيرة ابن هشام (2: 38) .
[ (9) ] (يهود) لا ينصرف للعلمية والتأنيث.
[ (10) ] (أظلّ زمانه) : أي قرب ودنا.

(2/434)


عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ زِيَادِ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَذَكَرَ أَنْسَابَهُمْ إِلَّا أَنِّي اخْتَصَرْتُهَا.
قَالَ: فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ إِلَى قَوْمِهِمْ ذَكَرُوا لَهُمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى فَشَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا ذِكْرٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ.
حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ أَتَى [ (11) ] الْمَوْسِمَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَقَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ، وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى، فَبَايَعُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ مِنْهُمْ:
أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَعَوْفٌ وَمُعَاذٌ ابْنَا الْحَارِثِ، ورافع بن مالك، وذكوان ابن عَبْدِ قَيْسٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَيَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ حَلِيفَانِ لَهُمْ» [ (12) ] .
وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ الْإِسْفَرَائِنِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، قَالَ حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ أَنَّهُ بَيْنَمَا نَفَرٌ مِنْهُمْ قَدْ رَمَوَا الْجَمْرَةَ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهَا اعْتَرَضَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: مِنَ الْخَزْرَجِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى رِوَايَةِ يُونُسَ، إِلَّا أَنَّهُ عَدَّ فِي الستة عوف بن عفراء، ومعاذ بن عفراء بدل مِنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وعقبة بن عامر.
__________
[ (11) ] في السيرة: «وافى» .
[ (12) ] سيرة ابن هشام (2: 37- 41) ، وأسماء الصحابة ممن بايعوا مفصلة تفصيلا تاما.

(2/435)


أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بن بكير، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ، قال: حدثني عبادة ابن الصَّامِتِ، قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى وَنَحْنُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، أَنَا أَحَدُهُمْ فَبَايَعْنَاهُ بَيْعَةَ النِّسَاءِ عَلَى: أَلَا نُشْرِكَ بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيَهُ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ. فَإِنْ وَفَّيْتُمْ بِذَلِكَ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ وَإِنْ غَشِيتُمْ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ» [ (13) ] .
وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْثَدُ ابن عَبْدِ اللهِ الْيَزَنِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ الصُّنَابِحِيُّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: كُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ لَمْ يَقُلْ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الْحَرْبُ.
وَذَكَرَهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنِ ابن إسحاق.
وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ، وَأَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ وَهُوَ مَرْثَدٌ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي مِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلّم وقال
__________
[ (13) ] سيأتي الحديث في الحاشية التالية.

(2/436)


بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا نَنْتَهِبَ، وَلَا نَعْصِيَ، بِالْجَنَّةِ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ. فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ [ (14) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بن محمد المقري، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا وَهْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: «ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلّم ومَعَهُمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ [بْنِ قَتَادَةَ] [ (15) ] أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إِنَّمَا بَعَثَهُ [ (16) ] بَعْدَهُمْ وَإِنَّمَا كَتَبُوا إِلَيْهِ: أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ فَشَا فِينَا، فَابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ يُقْرِئْنَا الْقُرْآنَ، وَيُفَقِّهُنَا فِي الْإِسْلَامِ وَيُقِيمُنَا لِسُنَّتِهِ وَشَرَائِعِهِ، وَيَؤُمُّنَا فِي صَلَاتِنَا، فَبَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ فَكَانَ يَنْزِلُ [ (17) ] مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أسعد بن زرارة، وكان مُصْعَبُ يُسَمَّى بِالْمَدِينَةِ الْمُقْرِئَ، وَكَانَ أَبُو أُمَامَةَ يَذْهَبُ بِهِ إِلَى دُورِ الْأَنْصَارِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُفَقِّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ [ (18) ] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي بكر، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ
__________
[ (14) ] أخرجه البخاري في: 63- كتاب مناقب الأنصار (43) باب وفود الأنصار إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلّم، الحديث (3893) ، فتح الباري (7: 219- 220) .
وأخرجه مسلم في: 29- كتاب الحدود، (10) باب الحدود كفارات لأهلها، الحديث (44) ، صفحة (3: 1333- 1334) .
[ (15) ] الزيادة من سيرة ابن هشام.
[ (16) ] في (ص) و (هـ) : «بعث» .
[ (17) ] في (ص) و (هـ) : منزل» ، وفي سيرة ابن هشام: «وكان منزله» .
[ (18) ] أخرجه ابن هشام. في السيرة (2: 42) .

(2/437)


ابن مُعَيْقِيبٍ: أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ خَرَجَ بِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ حَتَّى أَتَى بِهِ دَارَ بَنِي ظَفَرٍ وَدَارَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَأَتَاهُمَا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدَّارَيْنِ مُسْلِمًا وَسَمِعَ بِهِمَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ [ (19) ] » .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: «لَمَّا انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الْقَوْمُ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَعَهُمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَؤُمَّهُ بَعْضُ» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُعَيْقِيبٍ، قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ مَعَ النَّفَرِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى إِلَى الْمَدِينَةِ يُفَقِّهُ أَهْلَهَا، وَيُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ، قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَقُولُ: مَا أَدْرِي مَا الْعَقَبَةُ الْأُولَى.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَلَى لَعَمْرِي لَقَدْ كَانَتْ عَقَبَةٌ وَعَقَبَةٌ.
قَالَا: وَكَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، وَكَانَ إِنَّمَا يُسَمَّى بِالْمَدِينَةِ الْمُقْرِئَ، فَخَرَجَ بِهِ يَوْمًا أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ إِلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِ بَنِي ظَفَرٍ، وَهِيَ قَرْيَةُ لِبَنِي ظَفَرٍ دُونَ قَرْيَةِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ- وَكَانَا ابْنَيْ عَمٍّ- يُقَالُ لَهَا بِئْرُ مَرْقٍ [ (20) ] فَسَمِعَ بِهِمَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَكَانَ ابْنُ خَالَتِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، فَقَالَ لِأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ: ائْتِ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فَازْدَجِرْهُ عَنَّا
__________
[ (19) ] سيرة ابن هشام (2: 43) .
[ (20) ] بئر مرق بالمدينة، ويروى بسكون الراء أيضا.

(2/438)


فَلْيَكُفَّ عَنَّا مَا نَكْرَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِهَذَا الرَّجُلِ الْغَرِيبِ مَعَهُ يَتَسَفَّهُ بِهِ سُفَهَاؤنَا وَضُعَفَاؤُنَا، فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الْقَرَابَةِ كَفَيْتُكَ ذَلِكَ.
فَأَخَذَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ الْحَرْبَةَ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَاهُمَا، فَلَمَّا رَآهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ: هَذَا وَاللهِ سَيِّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَكَ فَأَبْلِ اللهَ فِيهِ بَلَاءً حَسَنًا.
قَالَ: إِنْ يَقْعُدْ أُكَلِّمْهُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا فَقَالَ: يا أسعد! مالنا وَلَكَ تَأْتِينَا بِهَذَا الرَّجُلِ الْغَرِيبِ يَسْفَهُ بِهِ سُفَهَاؤُنَا وَضُعَفَاؤُنَا، فَقَالَ: أَوَ تَجْلِسُ فَتَسْمَعُ فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ.
فَقَالَ: قَدْ أَنْصَفْتُمْ، ثُمَّ رَكَزَ الحربة وجلس، فكلمه مصعب بْنُ عُمَيْرٍ وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فو الله لَعَرَفْنَا الْإِسْلَامَ فِي وَجْهِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ لِتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ، وَكَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا دَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا: تَغْتَسِلَ، وَتُطَهِّرَ ثيابك، وتشهد شهادة الحق، وَتُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَفَعَلَ.
ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ وَرَائِي رَجُلًا مِنْ قَوْمِي إِنْ تَابَعَكُمَا لَمْ يُخَالِفْكُمَا أَحَدٌ بَعْدَهُ.
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُقْبِلًا قَالَ:
أَحْلِفُ بِاللهِ لَقَدْ رَجَعَ عَلَيْكُمْ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ، مَاذَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: قَدِ ازْدَجَرْتُهُمَا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ يُرِيدُونَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ لِيُخْفِرُوكَ فِيهِ، لِأَنَّهُ ابْنُ خَالَتِكَ، فَقَامَ إِلَيْهِ سَعْدٌ مُغْضَبًا فَأَخَذَ الْحَرْبَةَ مِنْ يَدَهِ، قَالَ: وَاللهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ قَدْ طَلَعَ عَلَيْهِمَا، قَالَ لِمُصْعَبٍ: هَذَا وَاللهِ سَيِّدُ مَنْ وَرَاءَهُ مِنْ قَوْمِهِ إِنْ هُوَ تَابَعَكَ لَمْ يُخَالِفْكَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاصْدُقِ اللهَ فِيهِ، فَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ: إِنْ يَسْمَعْ مِنِّي أُكَلِّمْهُ.

(2/439)


فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمَا، قَالَ: يَا أَسْعَدُ! مَا دَعَاكَ إِلَى أَنْ تَغْشَانِي بِمَا أَكْرَهُ- وَهُوَ مُتَشَتِمٌ- أَمَا وَاللهِ لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ مَا طَمِعْتَ فِي هَذَا مِنِّي، فَقَالَ لَهُ: أَوْ تَجْلِسَ فَتَسْمَعَ فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ أُعْفِيتَ مِمَّا تَكْرَهُ.
قَالَ: أَنْصَفْتُمَانِي، ثُمَّ رَكَزَ الْحَرْبَةَ وَجَلَسَ فَكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فو الله لَعَرَفْنَا فِيهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ لِتَسَهُّلِ وَجْهِهِ [ (21) ] .
ثُمَّ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَكَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا دَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدِّينِ؟
فَقَالَا لَهُ: تَغْتَسِلُ، وَتُطَهِّرُ ثيابك وتشهد شهادة الحق، وَتَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ فَفَعَلَ ثُمَّ أَخَذَ الْحَرْبَةَ وَانْصَرَفَ عَنْهُمَا إِلَى قَوْمِهِ.
فَلَمَّا رَآهُ رِجَالُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، قَالُوا: نُقْسِمُ بِاللهِ لَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُمْ سَعْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدَكُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: أَيُّ رَجُلٍ تَعْلَمُونِي فِيكُمْ؟ قَالُوا: نَعْلَمُكَ وَاللهِ خَيْرَنَا وَأَفْضَلَنَا فِينَا رَأْيًا، قَالَ: فَإِنَّ كَلَامَ نِسَائِكُمْ وَرِجَالِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ، وَتَصَدِّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلّم، فو الله مَا أَمْسَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا.
ثُمَّ انْصَرَفَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ إِلَى مَنْزِلِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ [ (22) ] .
كَذَا قَالَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ: فَأَقَامَ عِنْدَهُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ دَارِ بَنِي أمية ابن زَيْدٍ وَخَطْمَةَ وَوَائِلِ وَوَاقِفِ. ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ.
__________
[ (21) ] فِي (ص) : «لسهولة» ، وفي سيرة ابن هشام: «لإشراقه وتسهّله» .
[ (22) ] الخبر بطوله في سيرة ابن هشام (2: 43- 46) .

(2/440)


وَرُوِّينَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يقدمها رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ» .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي حِينَ كُفَّ بَصَرُهُ فَإِذَا خَرَجْتُ بِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ فَسَمِعَ الْأَذَانُ بِهَا اسْتَغْفَرَ لِأَبِي أُمَامَةَ: أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَمَكَثْتُ حِينًا أَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ: كَانَ أَسْعَدُ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فِي هَزْمٍ [ (23) ] مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، فِي نَقِيعِ الْخَضِمَاتِ [ (24) ] قُلْتُ وَكَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا.
قُلْتُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُخَالِفَ هَذَا قَوْلَ ابْنِ شِهَابٍ، وَكَأَنَّ مُصْعَبَ جَمَّعَ بِهِمْ بِمَعُونَةِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَأَضَافَهُ كَعْبٌ إليه والله أعلم [ (25) ] .
__________
[ (23) ] (الهزم) : «المنخفض من الأرض» .
[ (24) ] اسم موضع.
[ (25) ] سيرة ابن هشام (1: 42- 43) ، وانظر في بيعة العقبة الأولى أيضا: طبقات ابن سعد (1: 219) ط. بيروت، والطبري (2: 353) وما بعدها. ط- المعارف، وابن سيد الناس (1: 197) ، ط. بيروت، والطبري (2: 353) وما بعدها. ط- المعارف، وابن سيد الناس (1: 197) ، وتاريخ الإسلام للذهبي (2: 192) ، والبداية والنهاية (3: 145) ، والنويري (16: 310) ، والدرر لابن عبد البر (67) .

(2/441)


بَابُ ذِكْرِ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ [ (1) ] وَمَا جَاءَ فِي بَيْعَةِ مَنْ حَضَرَ الْمَوْسِمَ مِنَ الْأَنْصَارِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ وعَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ الْإِسْفَرَايِنِيُّ بِهَا، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ خثيم، عن ابن الزُّبَيْرِ: مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَبِثَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ الْحَاجَّ فِي مَنَازِلِهِمْ في المواسم:
مجنّة، وعكاط، وَمَنَازِلِهِمْ بِمِنًى مَنْ يُؤْوِينِي وَيَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يُؤْوِيهِ وَلَا يَنْصُرُهُ، حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ يَرْحَلُ صَاحِبُهُ مِنْ مِصْرَ أَوِ الْيَمَنِ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ أَوْ ذَوُو رَحِمِهِ فَيَقُولُونَ: احْذَرْ فَتَى قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنْكَ! يَمْشِي بَيْنَ رِحَالِهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِهِمْ، حَتَّى بَعَثَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ مِنْ يَثْرِبَ، فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ يَثْرِبَ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُظْهِرُونَ الإسلام.
__________
[ (1) ] أنظر العقبة الثانية: طبقات ابن سعد (1: 221) ، تاريخ الطبري (2: 361) وما بعدها، وسيرة ابن هشام (2: 47) ، والدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر، (68) ، وتاريخ الإسلام للذهبي (2: 200) ، والبداية والنهاية (3: 150) ، وابن سيد الناس (1: 192) ، والنويري (16: 312) .

(2/442)


ثُمَّ بَعَثَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وائَتَمَرْنَا وَاجْتَمَعْنَا سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَّا فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَذَرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ يَطُوفُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ، فَرَحَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدَنَا شِعْبَ الْعَقَبَةِ فَاجْتَمَعْنَا فِيهِ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنٍ، حَتَّى تَوَافَيْنَا عِنْدَهُ فَقُلْنَا:
يَا رَسُولَ اللهِ! عَلَى مَا نُبَايِعُكَ فَقَالَ بَايعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ يَثْرِبَ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ [ (2) ] أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ.
فَقُمْنَا نُبَايعُهُ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ رَجُلًا إِلَّا أَنَا، فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ! إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أكبار الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، إِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى عَضِّ السُّيوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ، كَافَّةً فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عند الله عز وجل، فَقُلْنَا: أَمِطْ يَدَكَ يَا أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، فو الله لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقْبِلُهَا، فَقُمْنَا إِلَيْهِ نُبَايعُهُ رَجُلًا رَجُلًا، يَأْخُذُ عَلَيْنَا شَرْطَهُ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ» [ (3) ] .
وحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ إِمْلَاءً، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمُقْرِئُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ
__________
[ (2) ] في (ص) : «به» .
[ (3) ] وأخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (3: 339- 440) .

(2/443)


أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي وَسَطِ الْحَدِيثِ قَالَ «فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ يَا ابْنَ أَخِي لَا أَدْرِي مَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ جَاءُوكَ! [ (4) ] إِنِّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ فَلَمَّا نَظَرَ الْعَبَّاسُ فِي وجُوهِنَا، قَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا أَعْرِفُهُمْ هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ عَلَامَ نُبَايِعُكَ» فَذَكَرَهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْقَيْنِ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «خَرَجْنَا فِي الْحِجَّةِ الَّتِي بَايَعْنَا فِيهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ مَعَ مُشْرِكِي قومنا، ومعنا البراء ابن مَعْرُورٍ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ، قَالَ: يَا هَؤُلَاءِ! تَعْلَمُنَّ، أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا، وَاللهِ مَا أَدْرِي تُوَافِقُونَ عَلَيْهِ، أَمْ لَا؟ فَقُلْنَا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا بِشْرٍ؟ قَالَ: إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ إِلَى هَذِهِ الْبَنِيَّةِ، وَلَا أَجْعَلُهَا مِنِّي بِظَهْرٍ [ (5) ] .
فَقُلْنَا: لَا، وَاللهِ لَا تَفْعَلُ. وَاللهِ مَا بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَّا إِلَى الشَّامِ [ (6) ] ، قَالَ: فَإِنِّي وَاللهِ لَمُصَلٍّ إِلَيْهَا، فَكَانَ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ تَوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَتَوَجَّهْنَا إِلَى الشَّامِ.
حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، فَقَالَ لِيَ الْبَرَاءُ: يَا ابْنَ أَخِي! انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، حَتَّى أَسْأَلَهُ عَمَّا صَنَعْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَلَقَدْ وَجَدْتُ فِي نَفْسِي منه
__________
[ (4) ] في (ح) : «ما هذا القوم الذي جاءوك» ، وأثبتّ ما في (ص) و (هـ) ، وهو موافق لسياق الحديث كما ورد في مسند الإمام أحمد (3: 339) .
[ (5) ] يعني الكعبة.
[ (6) ] في السيرة لابن هشام (2: 47) : زيادة: «وما نريد أن نخالفه» .

(2/444)


بِخِلَافِكُمْ إِيَّايَ. قَالَ فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ [ (7) ] عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَلَقِينَا رَجُلًا بِالْأَبْطَحِ [ (8) ] ، فَقُلْنَا: هَلْ تَدُلُّنَا عَلَى محمد بن عبد الله بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ:
وَهَلْ تَعْرِفَانِهِ إِنْ رَأَيْتُمَاهُ؟ فَقُلْنَا: لَا، وَاللهِ مَا نَعْرِفُهُ. وَلَمْ نَكُنْ رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ: فَهَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبَّاسَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقُلْنَا: نَعَمْ، وَقَدْ كُنَّا نَعْرِفُهُ: كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْنَا بِالتِّجَارَةِ، فَقَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا المسجد فانظرا العباس، فهو الرجل الَّذِي مَعَهُ.
قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَالْعَبَّاسُ نَاحِيَةَ الْمَسْجِدِ جَالِسَيْنِ، قَالَ: فَسَلَّمْنَا، ثُمَّ جَلَسْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مالك، فو الله مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ «الشَّاعِرَ» ؟ قَالَ:
نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ الْبَرَاءُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي قَدْ كُنْتُ رَأَيْتُ فِيَ سَفَرِي هَذَا رَأْيًا، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْالَكَ عَنْهُ لِتُخْبِرَنِي عَمَّا صَنَعْتُ فِيهِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ:
رَأَيْتُ أَنْ لَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ، فَصَلَّيْتُ إِلَيْهَا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ:
«قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ، لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا» ، فَرَجَعَ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ،
وَأَهْلُهُ يَقُولُونَ: قَدْ مَاتَ عَلَيْهَا [ (9) ] ، وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ، قَدْ رَجَعَ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَصَلَّى مَعَنَا إِلَى الشام.
__________
[ (7) ] في (ح) : «نسل» .
[ (8) ] عند ابن هشام: «فلقينا رجلا من أهل مكة» .
[ (9) ] في سيرة ابن هشام: «وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم، وقال عون بن أيوب الأنصاري:
ومنّا المصلّي أوّل النّاس مقبلا* على كعبة الرّحمن بين المشاعر يعني: البراء بن المعرور، وهذا البيت في قصيدة له» .

(2/445)


ثُمَّ قَدْ وَاعَدَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ الْعَقَبَةَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَنَحْنُ سَبْعُونَ رَجُلًا لِلْبَيْعَةِ، وَمَعَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرٍ، وَإِنَّهُ لَعَلَى شَرْكِهِ، فَأَخَذْنَاهُ فَقُلْنَا يَا أَبَا جَابِرٍ: وَاللهِ إِنَّا لَنَرْغَبُ بِكَ أَنْ تَمُوتَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ فَتَكُونَ لِهَذِهِ النَّارِ غَدًا حَطَبًا، وَإِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا يَأْمُرُ بِتَوحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَقَدْ أَسْلَمَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِكَ، وقَدْ وَاعَدَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لِلْبَيْعَةِ، فَأَسْلَمَ وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ وَحَضَرَهَا مَعَنَا، فَكَانَ نَقِيبًا.
فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَاعَدَنَا فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِمِنًى أَوَّلَ اللَّيْلِ مَعَ قَوْمِنَا فَلَمَّا اسْتَثْقَلَ النَّاسُ فِي النَّوْمِ تَسَلَّلْنَا مِنْ قُرَيْشٍ تَسَلُّلَ الْقَطَا، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعْنَا بِالْعَقَبَةِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَعَمُّهُ الْعَبَّاسُ [ (10) ] لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ، فَقَالَ:
«يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ- وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ- أَوْسَهَا وَخَزْرَجَهَا-: إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَهُوَ فِي مَنَعَةٍ [ (11) ] مِنْ قَوْمِهِ وَبِلَادِهِ قَدْ مَنَعْنَاهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيهِ، وَقَدْ أَبَى إِلَّا الِانْقِطَاعَ إِلَيْكُمْ وَإِلَى مَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَخْشَوْنَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خُذْلَانًا فَاتْرُكُوهُ فِي قَوْمِهِ فَإِنَّهُ فِي مَنَعَةٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ [ (12) ] .
فَقُلْنَا قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، تَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللهِ [ (13) ] ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ، وَدَعَا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَلَا الْقُرْآنَ، وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَجَبْنَاهُ بالإيمان به
__________
[ (10) ] في السيرة: «وهو يومئذ على دين قومه» .
[ (11) ] ابن هشام: «وقد منعناه من قومنا» .
[ (12) ] ابن هشام: «فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده» .
[ (13) ] ابن هشام: «فخذ لنفسك ولربك ما أحببت» .

(2/446)


وَالتَّصْدِيقِ لَهُ، وَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ! خُذْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ، فَقَالَ: إِنِّي أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا مَنَعْتُمْ مِنْهُ أَبْنَاءَكُمْ ونسائكم» .
فَأَجَابَهُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ [ (14) ] فَقَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحق مما تمنع مِنْهُ أُزُرَنَا، [ (15) ] فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَنَحْنُ وَاللهِ أَهْلُ الْحَرْبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ [ (16) ] ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ.
فَعَرَضَ فِي الْحَدِيثِ [ (17) ] ، أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إن بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَقْوَامٍ حِبَالًا، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنِ اللهُ أَظْهَرَكَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا [ (18) ] ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «بَلِ الدَّمُ الدَّمُ، وَالْهَدْمُ الْهَدْمُ [ (19) ] أَنَا مِنْكُمْ، وَأَنْتُمْ مِنِّي: أُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ، وَأُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ» [ (20) ] .
__________
[ (14) ] ابن هشام: «بيده فقال» .
[ (15) ] أزرنا: نساءنا، والمرأة يكنى عنها بالإزار.
[ (16) ] الحلقة: السلاح عاما.
[ (17) ] ابن هشام: «فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ» .
[ (18) ] ابن هشام: «يعني اليهود» .
[ (19) ] في الروض الأنف: «قال ابن قتيبة: كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار: دمي دمك، وهدمي هدمك، أي: ما هدمت من الدماء هدمته أنا.
ويقال أيضا: اللدم اللدم والهدم الهدم، وأنشد:
* ثمّ الحقي بهدمي ولدمي* فاللدم جمع لا دم، وهم أهله الذين يلتدمون عليه إذا مات، وهو من لدمت صدره إذا ضربته، والهدم: قال ابن هشام: الحرمة، وإنما كني عن حرمة الرجل وأهله بالهدم لأنهم كانوا أهل نجعة وارتحال ولهم بيوت يستخفونها يوم ظعنهم، فكلما ظعنوا هدموها، والهدم (بالتحريك) بمعنى المهدوم. كالقبض بمعنى المقبوض، ثم جعلوا الهدم وهو البيت المهدوم عبارة عما حوى ... ثم قال: هدمي هدمك: أي رحلتي مع رحلتك، أي لا أظعن وأدعك» اه.
[ (20) ] سيرة ابن هشام (2: 47- 51) ، وعنه الطبري (2: 362) .

(2/447)


فَقَالَ لَهُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا رَسُولَ اللهِ نُبَايِعْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا» ، فَأَخْرَجُوهُمْ لَهُ.
فَكَانَ نَقِيبَ بَنِي النَّجَّارِ: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ.
وَكَانَ نَقِيبَ بَنِي سَلِمَةَ: الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو بن حرام.
وكان نقيب بن سَاعِدَةَ: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو.
وَكَانَ نَقِيبَ بَنِي زُرَيْقٍ: رَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ.
وَكَانَ نَقِيبَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ.
وَكَانَ نَقِيبَ الْقَوَافِلِ [ (21) ] بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ: عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَفِي الْأَوْسِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ.
وَكَانَ نَقِيبَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا: تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ.
قَالَ فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَضَرَبَ عَلَيْهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ فَبَايَعُوا، فَصَرَخَ الشَّيْطَانُ عَلَى الْعَقَبَةِ بِأَبْعَدِ- وَاللهِ- صَوْتٍ مَا سَمِعْتُهُ قَطُّ: فَقَالَ يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ هَلَّا لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ وَالصُّبَّاءُ [ (22) ] مَعَهُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، هَذَا ابْنُ أُزْيَبٍ [ (23) ] أَمَا وَاللهِ لَأَفْرُغَنَّ لَكَ، ارْفَضُّوا [ (24) ] إلى رحالكم» ،
__________
[ (21) ] في (ص) : «القلاقل» ، وهو تحريف.
[ (22) ] الصباء: جمع صابئ.
[ (23) ] قال ابن الأثير: «هو شيطان اسمه: أزب الكعبة» ، وقيل: الإزب: القصير الدميم.
[ (24) ] (ارفضوا إلى رحالكم) : تفرقوا إليها.

(2/448)


فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ أَخُو بَنِي سَالِمٍ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ غَدًا عَلَى أَهْلِ مِنًى بِأَسْيَافِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ، ارْفَضُّوا إِلَى رِحَالِكُمْ» ، فَرَجَعْنَا إِلَى رِحَالِنَا فَاضْطَجَعْنَا عَلَى فُرُشِنَا.
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَقْبَلَتْ جِلَّةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ: الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فَتًى شَابٌّ وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ جَدِيدَانِ، حَتَّى جَاءُونَا فِي رِحَالِنَا، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ! إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ جِئْتُمْ إِلَى صَاحِبِنَا لِتَسْتَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَإِنَّهُ وَاللهِ مَا مِنَ الْعَرَبِ أَحَدٌ أَبْغَضُ إِلَيْنَا أَنْ يَنْشِبَ الْحَرْبُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ، فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاللهِ مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ وَمَا فَعَلْنَاهُ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى أَبِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَهُوَ صَامِتٌ، وَأَنَا صَامِتٌ، فَلَمَّا تَثَوَّرَ الْقَوْمُ لِيَنْطَلِقُوا، قُلْتُ كَلِمَةً كَأَنِّي أَشْرِكُهُمْ فِي الْكَلَامِ: يَا أَبَا جَابِرٍ أَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا وَكَهْلٌ مِنْ كُهُولِنَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَّخِذَ مِثْلَ نَعْلَيْ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ؟ فَسَمِعَهُ الْفَتَى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَرَمَى بِهِمَا إِلَيَّ، وَقَالَ: وَاللهِ لَتَلْبَسَنَّهُمَا، فَقَالَ أَبُو جَابِرٍ: مَهْلًا أحفظت لعمر اللهِ الرَّجُلَ، يَقُولُ أَخْجَلْتَهُ:
ارْدُدْ عَلَيْهِ نَعْلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَرُدُّهُمَا، فَأْلٌ صَالِحٌ: وَاللهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَسْلُبَنَّهُ [ (25) ] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُمْ وَأَتَوْا عَبْدَ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَسَأَلُوهُ، وَكَلَّمُوهُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ جَسِيمٌ، وَمَا كَانَ قَوْمِي لِتَفَوَّتُوا عَلَيَّ بِمِثْلِهِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ» [ (26) ] .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بن محمد الْمَقْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ محمد
__________
[ (25) ] سيرة ابن هشام (2: 57) .
[ (26) ] السيرة لابن هشام (2: 57) .

(2/449)


ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قال:
حدثنا وهب جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِإِسْنَادِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَمَعْنَاهُ.
وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ: أَخَا بَنِي سَالِمٍ، قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ! هَلْ تَدْرُونَ عَلَى مَا تُبَايعُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّهَا إِذَا نَهَكَتْ أَمْوَالُكُمْ مُصِيبَةً، وَأَشْرَافُكُمْ قَتْلًا: أَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنَ الْآنَ فَهُوَ وَاللهِ إِنْ فَعَلْتُمْ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْتَضْلِعُونَ لَهُ وَافُونَ لَهُ بِمَا عَاهَدْتُمُوهُ عَلَيْهِ عَلَى مُصِيبَةِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ، فَهُوَ وَاللهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قال عاصم: فو الله مَا قَالَ الْعَبَّاسُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إِلَّا لِيَشْتَدَّ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ بِهَا الْعَقْدُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مَا قَالَهَا إِلَّا لِيُؤَخِّرَ بِهَا أَمْرَ الْقَوْمِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِيشْهَدَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ أَمْرَهُمْ فَيَكُونَ أَقْوَى لَهُمْ» .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ بِبَغْدَادَ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ قَالَ حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: «انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ مَعَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ إِلَى السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: لِيَتَكَلَّمْ مُتَكَلِّمُكُمْ وَلَا يطيل الْخُطْبَةَ فَإِنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَيْنًا وَإِنْ يَعْلَمُوا بِكُمْ يَفْضَحُوكُمْ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ لِرَبِّكَ مَا شِئْتَ، ثُمَّ سَلْ لِنَفْسِكَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا

(2/450)


شِئْتَ، ثُمَّ أَخْبِرْنَا مَا لَنَا مِنَ الثَّوَابِ عَلَى اللهِ وَعَلَيْكُمْ إِذَا فَعَلْنَا، ذلك، قال: أسلكم لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَسَلُكُمْ لِنَفْسِي وَلِأَصْحَابِي أَنْ تُؤْوُونَا وَتَنْصُرُونَا وَتَمْنَعُونَا مِمَّا مَنَعْتُمْ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ، قَالُوا: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ لَكُمُ الْجَنَّةُ قَالُوا فَلَكَ ذَلِكَ» .
أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ: محمد ابن يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: «انْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ وَكَانَ ذَا رَأْيٍ إِلَى السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ لَيْلًا عَلَى الْعَقَبَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ
وَزَادَ: قَالَ: فَسَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ فَمَا سَمِعَ الشِّيبُ وَلَا الشُّبَّانُ خُطْبَةً أَقْصَرَ وَلَا أَبْلَغَ مِنْهَا.
وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَالِدٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ بِنَحْوِهِ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو مَسْعُودٍ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا.
وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يَقُولُ: مَا سَمِعَ الشِّيبُ وَالشُّبَّانُ خُطْبَةً مِثْلَهَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمَشٍ الْفَقِيهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْفَضْلِ الْفَحَّامُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الرَّقِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ: عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، قَالَ: قَدِمَتْ رَوَايَا

(2/451)


خَمْرٍ فَأَتَاهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَحَرَّقَهَا [ (27) ] وَقَالَ: إِنَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَعَلَى أَنْ نَقُولَ فِي اللهِ لَا تَأْخُذُنَا فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ بِمَا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَلَنَا الْجَنَّةُ. فَهَذِهِ بَيْعَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ بَايَعْنَاهُ عَلَيْهَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الْحَرْبِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي: عُسْرِنَا، وَيُسْرِنَا، وَمَنْشَطِنَا، وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، يَقُولُ: وَإِنِ اسْتُؤْثِرَ عَلَيْكُمْ وَقَوْمِي يَلُومُونَنِي عَلَى هَذَا الْحَرْفِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَأُحَدِّثَنَّكَ مَا سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُنِي وَلَا تُنَازِعُنَّ الْأَمْرَ أهله وأن تقول بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ أَنْتَ عَلَى قَوْمِكَ بِمَا فِيهِمْ وَأَنَا عَلَى بَاقِي قَوْمِي كَفَالَةٌ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ» .
وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عن إِسْحَاقَ، قَالَ: وحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمُ ابْعَثُوا لِي مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا كُفَلَاءَ عَلَى قَوْمِهِمْ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ كَكَفَالَةِ الحواريين لعيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ أَحَدُ
__________
[ (27) ] في (هـ) : «فخرّقها» .

(2/452)


بَنِي النَّجَّارِ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَنْتَ نَقِيبٌ عَلَى قَوْمِكَ فَبَايَعُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَخَذَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ثُمَّ سَمَّاهُمْ»
كَمَا مَضَى فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، قَالَ: «كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَحَدَ النُّقَبَاءِ وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا» .
قَالَ مَالِكٌ: فَحَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنَ الْأَنْصَارِ «أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُشِيرُ لَهُ إِلَى مَنْ يَجْعَلُهُ نَقِيبًا، قَالَ مَالِكٌ: كُنْتُ أَعْجَبُ كَيْفَ جَاءَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلَانِ، وَمِنْ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، حَتَّى حَدَّثَنِي هَذَا الشَّيْخُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُشِيرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْبَيْعَةِ، يَوْمَ الْعَقَبَةِ، قَالَ لِي مَالِكٌ: عِدَّةُ النُّقَبَاءِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ» [ (28) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَتَّابٍ،
__________
[ (28) ] قَالَ ابن عبد البر في: الدرر في اختصار المغازي والسير ص (71) :
وكان المبايعون لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلّم تلك الليلة سبعين رجلا وامرأتين. واختار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، وهم:
أسعد بن زرارة بن عدس أبو أمامة، وهو أحد الستة، وأحد الإثني عشر، وأحد السبعين، وسعد بن الربيع، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ العجلان وهو أيضا أحد الستة وأحد الاثني عشر وأحد السبعين، والبراء بْنُ مَعْرُورَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو بن حرام، وسعد بن عبادة بن دليم، والمنذر ابن عمرو بن خنيس، وعبادة بن الصامت وهو أحد الستة في قول بعضهم، وأحد الاثني عشر وأحد السبعين.
فهؤلاء تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةٌ من الأوس:
أسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة بن الحارث، ورفاعة بن عبد المنذر.
وهؤلاء هم النقباء. وقد أسقط قوم رفاعة بن عبد المنذر منهم، وعدّوا مكانه أبا الهيثم بن التّيهان، والله أعلم.

(2/453)


قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أَوْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.
(ح) وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ فُلَيْحٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا يَعْقُوبُ قَالَ وَذَكَرَ حَسَّانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، وَهَذَا لَفْظُ حَدِيثِهِ، عَنِ ابْنِ عَتَّابٍ، قَالَ:
«ثُمَّ حَجَّ الْعَامَ الْمُقْبِلَ مِنَ الْأَنْصَارِ سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ ذَوِي أَسْنَانِهِمْ، وَثَلَاثُونَ مِنْ شَبَابِهِمْ أَصْغَرُهُمْ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَهُوَ أَبُو مَسْعُودٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَلَقَوْهُ بِالْعَقَبَةِ وَمَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِالَّذِي خَصَّهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةَ، وَالْكَرَامَةِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلَى أَنْ يُبَايِعُوهُ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، أَجَابُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَصَدَّقُوهُ، وَقَالُوا: اشْتَرِطْ عَلَيْنَا لِرَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ وَلِنَفْسَكَ مَا شِئْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ،
فَلَمَّا اطْمَأَنَّتْ بِذَلِكَ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الشَّرْطِ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمَوَاثِيقَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ بِالْوَفَاءِ، وَعَظَّمَ الْعَبَّاسُ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ أَنَّ أُمَّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سَلْمَى بِنْتَ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي مُبَايَعَةِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ له أَوَّلًا، وَمَا قَالَ وَمَا أَجَابَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِمَعْنَى مَا مَضَى فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَسْمَاءَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، قَالَ عُرْوَةُ: فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ سَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَةً» [ (29) ] .
__________
[ (29) ] في سيرة ابن هشام أنهم كانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، وعند ابن سعد: أنهم كانوا سبعين يزيدون رجلا أو رجلين.

(2/454)


وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ: قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بن بكير، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «فَجَمِيعُ من شهد العقبة من الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَأَفْنَاءِ الْقَبَائِلِ سَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ مِنْ بَنِي الْخَزْرَجِ إِحْدَاهُمَا أُمُّ عُمَارَةَ وَزَوْجُهَا وَابْنَاهَا فَجَمِيعُ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ نَفْسًا» [ (30) ] .
وَسَمَّاهُمُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَذِكْرُهُمْ هَهُنَا مِمَّا يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ [ (31) ] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ بَيْعَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ الْغَدُ فَتَّشَتْ قُرَيْشٌ عَنِ الْخَبَرِ وَالْبَيْعَةِ فَوَجَدُوهُ حَقًّا، فَانْطَلَقُوا فِي طَلَبِ الْقَوْمِ، فَأَدْرَكُوا: سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَأَفْلَتَهُمْ مُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فَشَدُّوا يَدَيْ سَعْدِ إِلَى عُنُقِهِ بِنِسْعَةٍ [ (32) ] ، وَكَانَ ذَا شَعْرٍ كَثِيرٍ، فَطَفِقُوا يَجْبِذُونَهُ بِجُمَّتِهِ، وَيَصُكُّونَهُ، وَيَلْكِزُونَهُ إِلَى أَنْ جَاءَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ، وَالْحَارِثُ بْنُ أُمَيَّةَ وَكَانَ سَعْدٌ يُجِيرُهُمَا إِذَا قَدِمَا الْمَدِينَةَ حَتَّى أَطْلَقَاهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَخَلَّيَا سَبِيلَهُ» [ (33) ] .
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: «كَانَتْ حَوَّاءُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ السَّكَنِ، عِنْدَ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ الْخَطِيبِ، كَذَا قَالَ وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ الْخَطِيمِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ أُمُّهَا عَقْرَبُ بِنْتُ مُعَاذٍ أُخْتَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأَسْلَمَتْ حَوَّاءُ، فَحَسُنَ إِسْلَامُهَا، وَكَانَ زَوْجُهَا قَيْسٌ عَلَى كَفْرِهِ، فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَهِيَ تُصَلِّي، فَيُؤْذِيهَا، وَكَانَ لَا يَخْفَى عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ أَمْرٌ يَكُونُ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا بَلَغَهُ وَأُخْبِرَ به.
__________
[ (30) ] سيرة ابن هشام (2: 63) و (2: 74) .
[ (31) ] أسماؤهم عند ابن هشام على حسب القبائل (2: 64- 75) ، ورتبهم الصالحي مصنف السيرة الشامية أبجديا على الأحرف (3: 293- 307) .
[ (32) ] النسع: الشراك الذي يشد به الرحل.
[ (33) ] سيرة ابن هشام (2: 58- 59) .

(2/455)


قَالَ قَيْسٌ فَقَدِمْتُ مَكَّةَ فِي رَهْطٍ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِي حُجَّاجًا، فَبَيْنَا نَحْنُ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ عَنِّي فَدُلَّ عَلَيَّ فَأَتَانِي فَقَالَ أَنْتَ قَيْسٌ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ زَوْجُ حَوَّاءَ قلت نعم قال فمالك تَعْبَثُ بِامْرَأَتِكَ وَتُؤْذِيهَا عَلَى دِينِهَا فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَفْعَلُ قَالَ فَلَا تَفْعَلْ ذَلِكَ بِهَا دَعْهَا لِي، قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَيْسٌ الْمَدِينَةَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ وَقَالَ فَشَأْنُكِ بِدِينِكِ فو الله مَا رَأَيْتُهُ إِلَّا حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الْهَيْئَةِ.
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ قَدْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَبَايَعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِهَا، وَكَانَ عَمْرٌو سَيِّدًا مِنْ سَادَاتِ بَنِي سَلِمَةَ، وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ فِي دَارِهِ صَنَمًا مِنْ خَشَبٍ يُقَالُ لَهُ: مُنَافَةُ فَلَمَّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلِمَةَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَابْنُهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو وَغَيْرُهُمَا كَانُوا يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ عَلَى صَنَمِ عَمْرٍو فَيَحْمِلُونَهُ فَيَطْرَحُونَهُ فِي بَعْضِ حُفَرِ بَنِي سَلِمَةَ، وَفِيهَا عِذَرُ النَّاسِ مُنَكَّسًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا أَصْبَحَ عَمْرٌو، قَالَ: وَيْلَكُمْ مَنْ عَدَا عَلَى إِلَهِنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، ثُمَّ يَغْدُو يَلْتَمِسُهُ حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ غَسَّلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللهِ لَوْ أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ هَذَا بِكَ لَأُحَرِّقَهُ، فَإِذَا أَمْسَى وَقَامَ عَمْرٌو عَدَوْا عَلَيْهِ فَفَعَلُوا بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَفَعَلَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا أَلَحُّوا عَلَيْهِ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ حَيْثُ أَلْقَوْهُ فَغَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ ثُمَّ جَاءَ بِسَيْفِهِ فَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي وَاللهِ مَا أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِكَ مَا تَرَى فَإِنْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ فَامْتَنِعْ، فَهَذَا السَّيْفُ مَعَكَ، فَلَمَّا أَمْسَوْا وَنَامَ عَدَوْا عَلَيْهِ فَأَخَذُوا السَّيْفَ مِنْ عُنُقِهِ، ثُمَّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيِّتًا، فَعَلَّقُوهُ، وَقَرَنُوهُ بِحَبْلٍ، ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي بِئْرٍ مِنْ آبَارِ بَنِي سَلِمَةَ فِيهَا عِذَرُ النَّاسِ، وَغَدَا عَمْرٌو فَلَمْ يَجِدْهُ، فَخَرَجَ يَتْبَعُهُ حَتَّى وَجَدَهُ فِي الْبِئْرِ مُنَكَّسًا مَقْرُونًا بِكَلْبٍ مَيِّتٍ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْصَرَ شَأْنَهُ وَكَلَّمَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَقَالَ عَمْرٌو حِينَ أَسْلَمَ، وَعَرَفَ مِنَ اللهِ مَا عَرَفَ وَهُوَ يذكر صنمه ذلك:
. تَاللهِ [ (34) ] لَوْ كُنْتَ إِلَهًا لَمْ تَكُنْ ... أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قَرَنْ [ (35) ]
__________
[ (34) ] ابن هشام: «والله» .
[ (35) ] القرن: الحبل.

(2/456)


أُفٍّ لِمَصْرَعِكَ [ (36) ] إِلَهًا مُسْتَدَنْ ... الْآنَ فَتَّشْنَاكَ عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ [ (37) ]
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ ذِي الْمِنَنْ ... الْوَاهِبِ الرَّزَّاقِ وَدَيَّانِ الدِّيَنْ
هُوَ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ قَبْلِ أَنْ ... أَكُونَ فِي ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ
بِأَحْمَدَ الْمَهْدِيِّ النَّبِيِّ المؤتمن [ (38) ]
__________
[ (36) ] ابن هشام: «أفّ لملقاك» .
[ (37) ] مستدن: ذليل، والغبن يكون في الرأي، وهو سفاهة الرأي.
[ (38) ] الزيادة من سيرة ابن هشام، والخبر عنده (2: 61- 63) .

(2/457)