دلائل
النبوة للبيهقي محققا الجزء الثالث
جُمَّاعُ أَبْوَابِ مَغَازِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ وَبِسَرَايَاهُ
[ (1) ] عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِصَارِ دُونَ الْإِكْثَارِ إذا الْقَصْدُ
مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُ دَلَائِلِ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَإِعْلَامُ
صِدْقِهِ فِي رِسَالَتِهِ وَمَا ظَهَرَ فِي أَيَّامِهِ مِنْ نَصْرِ اللهِ
[تَعَالَى] [ (2) ] أَهْلَ دِينِهِ وَإِنْجَازِهِمْ مَا وَعَدَهُمْ عَلَى
لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عليه وسلم بِقَوْلِهِ:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ،
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً، يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ [ (3) ] .
__________
[ (1) ] كان عدد الغزوات التي خرج فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ غازيا سبعا وعشرين، وقد قاتل بنفسه في تسع
منها، هي: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين،
والطائف، وبلغ عدد بعوثه أو سراياه سبعا وأربعين، وقيل: بل نحوا من ستين.
وفي اصطلاح الرواة وأصحاب السير أن الغزوة هي الحرب التي يحضرها الرسول صلى
اللَّه عليه وسلم بنفسه، وأما البعث، أو السرية فإنه يرسل فيها طائفة من
أصحابه.
قال الصالحي في السيرة الشامية (4: 16) :
أسماء الغزوات، هي: غزوة الأبواء ويقال لها: ودّان، ثم غزوة بواط، ثم غزوة
سفوان، وهي بدر الأولى لطلب كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ، ثُمَّ غزوة العشيرة، ثم
غزوة بدر الكبرى، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ بالكدر، ويقال لها:
قُرْقُرَةَ الْكُدْرِ، ثُمَّ غَزْوَةُ السّويق، ثم غَزْوَةِ غَطَفَانَ،
وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي أَمَرَّ ثم غزوة الفرع، من بحران بالحجاز، ثم غزوة
بَنِي قَيْنُقَاعَ، ثُمَّ غَزْوَةُ أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بني
النّضير، ثم غزوة بدر الأخيرة وهي غزوة بدر الموعد، ثم غزوة دومة
(3/5)
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ: مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ
بْنِ هَانِئٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ: مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ،
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ:
«لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ الْمَدِينَةَ وَآوَتْهُمُ الْأَنْصَارُ، رَمَتْهُمُ
الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَكَانُوا لَا يَبِيتُونَ إِلَّا
بِالسِّلَاحِ، وَلَا يُصْبِحُونَ إِلَّا فِيهِ، فَقَالُوا: تُرَوْنَ أَنَّا
نَعِيشُ حَتَّى نَبِيتَ مُطْمَئِنِّينَ لَا نَخَافُ إِلَّا اللهَ عز وجل؟
فنزلت
__________
[ () ] الجندل، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وهي المريسيع، ثُمَّ
غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ، ثُمَّ غزوة بني
لحيان، ثم غزوة الحديبية، ثُمَّ غَزْوَةُ ذِي قَرَدٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ
خَيْبَرَ، ثُمَّ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَهِيَ غزوة محارب وبني ثعلبة
ثم غزوة عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، ثُمَّ غَزْوَةُ فَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ
غَزْوَةُ حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك، وفي بعض ذلك تقديم وتأخير عن
بعض المحدثين.
قال ابن إسحاق، وابن سعد وابن حزم، وابن الأثير رحمهم الله: قاتل النبي صلى
الله عليه وسلم فِي تِسْعِ غَزَوَاتٍ: بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَالْخَنْدَقِ،
وَقُرَيْظَةَ، وَالْمُصْطَلِقِ وهي المريسيع، وَخَيْبَرَ، وَالْفَتْحِ،
وَحُنَيْنٍ، وَالطَّائِفِ، ويقال: أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم قاتل
أيضا في بني النضير ووادي القرى، والغابة. وقال ابن عقبة: قاتل في ثمانية
مواطن وأهمل عد قريظة، لأنه ضمها إلى الخندق لكونها كان إثرها، وأفردها
غيره لوقوعها منفردة بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع لغيره، عد الطائف وحنينا
واحدة لكونها كانت في إثرها.
روى الخطيب البغدادي في الجامع وابن عساكر في تاريخه عن زين العابدين علي
بن الحسين بن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، قال: كنا نعلم مغازي رسول
الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن.
ورويا عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري المدني قال: كان أبي
يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعدها علينا وسراياه، ويقول:
يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها. ورويا أيضا عن الزهري قال: في علم
المغازي خير الدنيا والآخرة.
[ (2) ] الزيادة من (ض) و (هـ) .
[ (3) ] الآية الكريمة (55) من سورة النور.
(3/6)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ- قَرَأَ إِلَى قَوْلِهِ- وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ
ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [ (4) ] .
__________
[ (4) ] وقال أبو العالية رفيع راوي الحديث- ونقله القرطبي (12: 297) :
«مَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عشر
سنين بعد ما أوحي إليه خائضا هو وأصحابه، يدعون إلى الله سرا وجهرا، ثم أمر
بالهجرة إلى المدينة، وكانوا فيها خائضين: يصبحون، ويمسون في السلاح،
فقال رجل: يا رسول الله! أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال
عليه السلام: «لا تلبثون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم
محتبيا ليس عليه حديدة» ،
ونزلت هذه الآية، وأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فوضعوا السلاح، وأمنوا»
.
قال النحاس: «فكان في هذه الآية دلالة على نبوة رسول الله صلى اللَّه عليه
وسلم، لأن الله جل وعز أنجز ذلك الوعد» .
(3/7)
بَابُ بَعْثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وسلم عَمَّهُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَبَعْثِ
عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، وَبَعْثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ،
وَغَزْوَةِ الْأَبْوَاءِ، وَهِيَ: وَدَّانُ، وَغَزْوَةِ بُوَاطٍ، وَهِيَ:
رَضْوَى، وَغَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ، وَبَدْرٍ الْأُولَى
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
جَعْفَرٍ: مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَغْدَادِيُّ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُلَاثَةَ: [ (5) ] مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ،
عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ (ح) .
وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ بِبَغْدَادَ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا [ (6) ] أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ
عَتَّابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَمِّهِ
مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ (ح) .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الشَّعْرَانِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا جَدِّي قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ،
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ، مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: «ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْزَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا، وَكَانَ أَوَّلَ
بَعْثٍ بَعَثَهُ، فساروا حتى بلغوا
__________
[ (5) ] في (ص) : «أبو عادثة» .
[ (6) ] لفظ «قال أخبرنا» من (ص) فقط، وفي (ح) : «أخبرنا» ، وكذا في (هـ) ،
هكذا في سائر فقرات الكتاب.
(3/8)
سِيفَ [ (7) ] الْبَحْرِ مِنْ أَرْضِ
جُهَيْنَةَ، فَلَقَوْا أَبَا جَهْلٍ بْنَ هِشَامٍ فِي ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَخْشِيُّ بْنُ عَمْرٍو
الْجُهَنِيُّ، وَكَانَ مَخْشِيٌّ وَرَهْطُهُ حُلَفَاءَ لِلْفَرِيقَيْنِ
جَمِيعًا، فَلَمْ يَعْصُوهُ فَرَجَعَ الْفَرِيقَانِ كِلَاهُمَا إِلَى
بِلَادِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ فَلَبِثَ رَسُولُ الله صلى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ غَزَا، فَأَوَّلُ غَزْوَةٍ
غَزَاهَا فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ حَتَّى
بَلَغَ الْأَبْوَاءَ [ (8) ] ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَرْسَلَ سِتِّينَ رَجُلًا
مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ
مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عُبَيْدَةَ بْنَ
الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ [ (9) ] ، فَلَقَوْا بَعْثًا عَظِيمًا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَاءٍ يُدْعَى الْأَحْيَاءَ مِنْ رَابِغٍ،
فَارْتَمَوْا بِالنَّبْلِ، وَانْحَازَ الْمُسْلِمُونَ وَلَهُمْ حَامِيَةٌ
تُقَاتِلُ عَنْهُمْ حَتَّى هَبَطُوا ثَنِيَّةَ الْمِرَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ يَرْمِي عَنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ انْكَفَأَ بَعْضُهُمْ عَنْ
بَعْضٍ، وأَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ: سعد بن أبي
__________
[ (7) ] (سيف) ساحل.
[ (8) ] الأبواء قرية من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما
يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا، وقيل: الأبواء: جبل على يمين آرة، ويمين
الطريق المصعد إلى مكة من المدينة، وهناك بلد ينسب إلى هذا الجبل،
وبالأبواء قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ أُمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه
عليه وسلم» .
وانظر في بعث حمزة: ابن هشام (2: 223- 224) ، وابن سعد (2: 6) ، والواقدي
(1:
9) ، والطبري (2: 404) ، والدرر (96) ، والبداية والنهاية (3: 234) وسبل
الهدى (4: 25) .
[ (9) ] في (ح) : عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ المطلب، وله
ترجمة في الإصابة (2: 449) : عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ
بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ القرشي المطلبي ... أسلم قديما، وكان رأس بني عبد
مناف، وكانت أول راية عقدت في الإسلام له، واستشهد في بدر.
واختلف أهل السير في أي البعثين كان أول: أبعث حمزة، أو بعث عبيدة، فقال
ابن إسحاق:
أول راية عقدها رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، وأول سرية بعثها عبيدة
بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ ابْنُ إسحاق: وبعض الناس يزعمون أنّ راية حمزة أول
راية عقدها رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، وقال المدائني: «أول سرية
بعثها رسول الله صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ في ربيع الأول من سنة اثنتين إِلَى سِيفِ الْبَحْرِ مِنْ أرض
جهينة.
(3/9)
وَقَّاصٍ، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ الْتَقَى
فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي قِتَالٍ، وَفَرَّ عُتْبَةُ بْنُ
غَزْوَانَ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ يَوْمَئِذٍ إِلَى
الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَا فِي حَبْسِ قُرَيْشٍ قَدْ أَسْلَمَا قَبْلَ
ذَلِكَ، فَتَوَصَّلَا بِالْمُشْرِكِينَ حَتَّى خَرَجَا إِلَى عُبَيْدَةَ
وَأَصْحَابِهِ» .
هَذَا لَفْظُ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ [ (10) ] ، وَفِي حَدِيثِ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: «فَلَقِيَهُ أَبُو جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ فِي
ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ وَقَالَ: ثُمَّ لَبِثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ خَرَجَ فِي صَفَرٍ حَتَّى
بَلَغَ الْأَبْوَاءَ» ، وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ.
وَأَخْبَرَنَا عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ: «ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَهَيَّأَ لِحَرْبِهِ، فَقَامَ فِيمَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ مِنْ
جِهَادِ عَدُوِّهِ، وَقِتَالِ مَنْ أَمَرَهُ بِهِ مِمَّنْ يَلِيهِ مِنْ
مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِاثْنَتَيْ
عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ فَأَقَامَ بِهَا يَعْنِي أَحَدَ عَشَرَ
شَهْرًا، ثُمَّ خَرَجَ غَازِيًا حَتَّى نَزَلَ وَدَّانَ [ (11) ] يُرِيدُ
قُرَيْشًا وَبَنِي ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ
كِنَانَةَ وَهِيَ غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ، فَوَادَعَهُ فِيهَا بَنُو
ضَمْرَةَ، وَكَانَ الَّذِي وَادَعَهُ مِنْهُمْ سَيِّدَهُمْ فِي زَمَانِهِ
مَخْشِيَّ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا [ (12) ]
فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ صَفَرٍ وَصَدْرًا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ وَبَعَثَ فِي مُقَامِهِ ذَلِكَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ
الْمُطَّلِبِ فِي سِتِّينَ رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ
مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، وَكَانَ أول لواء عقده رسول الله صلى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي
__________
[ (10) ] حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ في الدرر لابن عبد البر (96) ،
وسيرة ابن هشام (2: 224) ، والبداية والنهاية (3: 243) .
[ (11) ] (ودّان) : قرية جامعة بين مكة والمدينة من نواحي الضرع، بينها
وبين هرشي ستة أميال، وبينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال، قريبة من
الجحفة.
[ (12) ] (لم يلق كيدا) أي: لم يلق حربا، ولم يخرج لقتاله أحد.
(3/10)
مُقَامِهِ هَذَا: حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ إِلَى سِيفِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ [ (13) ] فِي
ثَلَاثِينَ رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ
الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، فَالْتَقَى عُبَيْدَةُ وَالْمُشْرِكُونَ فِي
ثَنِيَّةِ الْمِرَّةِ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ: أَحْيَاءٌ، وَكَانَتْ
بَيْنَهُمُ الرِّمَايَةُ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ
حَرْبٍ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ: سَعْدَ
بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: ثُمَّ انْحَازَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
فَانْحَازَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ
وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ.
قَالَ: وَخَرَجَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي ثَلَاثِينَ
رَاكِبًا إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَلَقِيَهُمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ
فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ، فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو
الْجُهَنِيُّ وَكَانَ حَلِيفًا لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، فَرَجَعَ
حَمْزَةُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
رَايَةِ عُبَيْدَةَ وَحَمْزَةَ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كَانَتْ رَايَةُ
حَمْزَةَ قَبْلَ رَايَةِ عُبَيْدَةَ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ رَايَةُ
عُبَيْدَةَ قَبْلَ رَايَةِ حَمْزَةَ، وذَلِكَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيَّعَهُمَا جَمِيعًا مَعًا فَأَشْكَلَ [ (14)
] ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ [ (15) ] .
قَالَ: ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عليه وَسَلَّمَ فِي
رَبِيعٍ الْآخِرِ يُرِيدُ قُرَيْشًا حَتَّى بَلَغَ بُوَاطَ [ (16) ] مِنْ
نَاحِيَةِ رَضْوَى [ (17) ] ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، فَلَبِثَ
بِهَا بَقِيَّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَبَعْضَ جُمَادَى الْأُولَى،
ثُمَّ غَزَا يُرِيدُ قُرَيْشًا فَسَلَكَ رَسُولُ الله صلى اللَّه عليه
وَسَلَّمَ عَلَى نَقْبِ بَنِي دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ حَتَّى نَزَلَ
الْعُشَيْرَةَ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ جمادي
__________
[ (13) ] (العيص) هنا موضع من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش
التي كانوا يأخذون منها إلى الشام، وأصل العيص: منبت الشجر.
[ (14) ] في سيرة ابن هشام: «فَشُبِّهَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ» .
[ (15) ] الخبر في سيرة ابن هشام (2: 228- 230) .
[ (16) ] (بواط) جبل من جبال جهينة بقرب ينبع.
[ (17) ] (رضوى) جبل على بعد يوم من ينبع، وأربعة أيام من المدينة ذو شعاب
وأودية، وبه مياه وأشجار.
(3/11)
الْأُولَى وَلَيَالِيَ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ، وَوَادَعَ فِيهَا بَنِي مُدْلِجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي
ضَمْرَةَ» [ (18) ] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَيْثَمٍ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ
مُحَمَّدُ بْنُ خَيْثَمٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ،
قَالَ: «كُنْتُ أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ فِي
غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ، فَلَمَّا نَزَلَهَا رَسُولُ
اللهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِهَا شَهْرًا، فَصَالَحَ
بِهَا بَنِي مُدْلِجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ، فَوَادَعَهُمْ،
فَقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا الْيَقْظَانِ
أَنْ نَأْتِيَ هَؤُلَاءِ- نَفَرٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يَعْمَلُونَ فِي
عَيْنٍ لَهُمْ- نَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ؟ فَأَتَيْنَاهُمْ، فَنَظَرْنَا
إِلَيْهِمْ سَاعَةً، ثُمَّ غَشِيَنَا النَّوْمُ، فَعَمَدْنَا إِلَى صَوْرٍ
[ (19) ] مِنَ النَّخْلِ فِي دَقْعَاءَ [ (20) ] مِنَ الأرض فنمنا فيه فو
الله مَا أَهَبَّنَا [ (21) ] إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عليه
وَسَلَّمَ بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْنَا وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ
الدَّقْعَاءِ، فَيَوْمَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: يَا أَبَا تُرَابٍ- لِمَا عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ-[
(22) ] ، فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِنَا، فَقَالَ: ألا
__________
[ (18) ] سيرة ابن هشام (2: 233- 234) .
[ (19) ] (الصور) : النخل الصغار.
[ (20) ] (دقعاء) التربة اللينة.
[ (21) ] (أهبّنا) : أيقظنا.
[ (22) ]
أخرج البخاري في كتاب الصلاة، باب نوم الرجال في المسجد- عَنْ سَهْلِ بْنِ
سَعْدٍ قال: جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتُ
فاطمة، فلم يجد عليا في البيت. فقال: «أين ابن عمّك» ؟ قالت: كان بيني
وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل عندي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّه عليه وسلم لإنسان: «انظر أين هو» ؟ فجاء فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللهِ! هو في المسجد راقد. فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَهُوَ مضطجع قد سقط رداؤه عن شقّه وأصابه تراب. فَجَعَلَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: «قم. أبا تراب!
قم. أبا تراب!» .
وأخرج البخاري أيضا في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم، باب
مناقب علي بن أبي طالب.
(3/12)
أُخْبِرُكُمْ بِأَشْقَى النَّاسِ
رَجُلَيْنِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ أُحَيْمِرُ [ (23)
] ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ
عَلَى هَذِهِ، وَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، حَتَّى يَبُلَّ مِنْهَا هَذِهِ، وَوَضَعَ يَدَهُ
عَلَى لِحْيَتِهِ [ (24) ] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ لَمْ يَقُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ حِينَ رَجَعَ مِنَ الْعُشَيْرَةِ
كَمَّلَ عَشْرَ لَيَالٍ، حَتَّى أَغَارَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ
[ (25) ] عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِ، حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ
سَفَوَانُ مِنْ نَاحِيَةِ بَدْرٍ، وَهِيَ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْأُولَى،
وَفَاتَهُ كُرْزٌ، فَلَمْ يُدْرِكْهُ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّه عليه وَسَلَّمَ فَأَقَامَ، جُمَادَى [ (26) ] وَرَجَبًا
وَشَعْبَانَ، وَقَدْ كَانَ بَعَثَ بَيْنَ ذَلِكَ سَعْدًا فِي ثَمَانِيَةِ
رهط فرجع
__________
[ () ] القرشي الهاشمي- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قال: إن كانت أحب أسماء
علي رضي الله عنه إليه لأبو تراب، وإن كان ليفرح أن يدعى بها. وما سمّاه
أبو تراب إِلَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم. غاضب يوما فاطمة:
فخرج فاضطجع إلى الجدار في المسجد. فجاءه النبي صلى اللَّه عليه وسلم
يتبعه. فقال هو ذا مضطجع في الجدار. فجاءه النبي صلى اللَّه عليه وسلم
وامتلأ ظهره ترابا. فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم يمسح
التراب عن ظهره ويقول «اجلس. يا أبا تراب!» .
وأخرج البخاري في كتاب الأدب، باب التكنّي بأبي تراب، وإن كانت له كنية
أخرى:
عَنْ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا جاء
إلى سعد بن سهل فقال: هذا فلان، لأمير المدينة، يدعو عليّا عند المنبر.
قال: فيقول ماذا؟ قال: يقول له أبو تراب. فضحك وقال:
والله! ما سمّاه إِلَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَمَا كَانَ له اسم أحبّ إليه منه.
فاستطعمت الحديث سهلا وقلت: يا أبا عباس! كيف؟ قال: دخل علي على فاطمة ثم
خرج فاضطجع في المسجد. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم (أين
ابن عمك) ؟ قالت: في المسجد. فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره، وخلص
التراب إلى ظهره، فجعل يمسح التراب عن ظهره فيقول «اجلس يا أبا تراب!»
مرّتين.
[ (23) ] في (هـ) : «أحيم» .
[ (24) ] سيرة ابن هشام (2: 236- 237) .
[ (25) ] كان من رؤساء المشركين قبل أن يسلم، ثم أسلم- بعد- ذلك واستشهد في
غزوة الفتح.
[ (26) ] جمادي الآخرة كما في السيرة لابن هشام.
(3/13)
وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا» [ (27) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ: عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ
الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ، قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بَعَثَنَا فِي رَكْبٍ وَلَا نَكُونُ مِائَةً
وَأَمَرَنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ أَوْ
جُهَيْنَةَ، فَأَغَرْنَا عَلَيْهِمْ وَكَانُوا كَثِيرًا، فَلَجَأْنَا إِلَى
جُهَيْنَةَ فَسَرَيْنَا، وَقَالُوا لِمَ تُقَاتِلُونَا فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ، فَقُلْنَا: إِنَّمَا نُقَاتِلُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ مَنْ
أَخْرَجَنَا مِنَ الْبَلَدِ الْحَرَامِ، وكان الفيء إذا ذَاكَ أَنَّ مَنْ
أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، فَقَالَ بعضنا: نأتي غير قُرَيْشٍ هَذِهِ
فَنَقْتَطِعُهَا، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا، بَلْ نُقِيمُ مَكَانَنَا.
قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِي،
فَقُلْنَا: نَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَنُخْبِرُهُ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَامَ غَضْبَانَ مُحْمَرَّ الْوَجْهِ، فَقَالَ: ذَهَبْتُمْ
مِنْ عِنْدِي جَمِيعًا، وَجِئْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ
كَانَ قَبْلَكُمُ الْفُرْقَةُ، وَلَأَبْعَثَنَّ عَلَيْكُمْ رَجُلًا لَيْسَ
بِأَخْيَرِكُمْ: أَصْبَرُكُمْ عَلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، فَبَعَثَ
عَلَيْنَا عَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ [ (28) ] ، وَكَانَ أَوَّلَ أَمِيرٍ
أَمَّرَهُ فِي الإسلام» .
__________
[ (27) ] الخبر في السيرة لابن هشام (2: 238) .
[ (28) ] عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشِ بن رئاب بن يعمر الأسدي، أحد السابقين،
هاجر إلى الحبشة، وإلى المدينة، وآخى النبي صلى اللَّه عليه وسلم بينه وبين
عاصم بن ثابت، أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عليه وسلم على أول
سرية في الإسلام، وشهد بدرا، وكان من أعظم أبطال غزوة أحد، واستشهد فيها
على يد أبي الحكم بن الأخنس بن شريق الذي قتل كافرا قبل انتهائها، وكان عبد
الله من جملة الشهداء الذين مثّل بهم المشركون ونساؤهم، ومن حديثه أنه دعا
قبل الغزوة، فقال: اللهم ارزقني غدا رجلا شديدا بأسه فيقتلني، ثم يأخذني،
فيجدع أنفي، وأذني، فإذا لقيتك قلت: يا عبد الله! فيم جدع أنفك وأذنك؟
فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت ... وهو ابن أُمَيْمَةُ بِنْتِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ.. ودفن هو وحمزة في قبر واحد، وكان له يوم قتل نيف وأربعون
سنة.
(3/14)
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ،
عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ سَعْدِ
بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه
عليه وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ إِلَّا
أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْفَيْءَ، وَقَالَ: فَرَجَعَ أُنَاسٌ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَمْتُ أَنَا فِي أُنَاسٍ
مِنَّا لِنَتَقَبَّضَ عِيرَ قُرَيْشٍ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ [ (29) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْأَصْبَهَانِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْجَهْمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ
الْفَرَجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، قَالَ:
«أَوَّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ رسول الله صلى اللَّه عليه وَسَلَّمَ لِحَمْزَةَ
بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-[ (30) ] فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرِهِ يَعْتَرِضُ
لِعِيرٍ مِنْ قُرَيْشٍ [ (31) ] .
قَالَ: وَبَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ إِلَى مَكَّةَ
لِيَنْقُلَا سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ زَوْجَتَهُ وَبَنَاتِهِ، وَذَلِكَ
فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ: أَنَّ اللِّوَاءَ الَّذِي عَقَدَهُ رَسُولُ اللهِ
صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ لَتِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ رسول
الله صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ
الْهِجْرَةِ فِي ثَمَانِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى رَضْوَى يُرِيدُ
عِيرَاتِ قريش
__________
[ () ] وقال شاعر العروبة والإسلام: أحمد محرم في ديوانه مجد الإسلام يشيد
ببطولته وصبره من قصيدة مطلعها:
أبشر، فذلك ما سألت قضاه* رب هداك، فكنت عند هداه آثرته ورضيت بين عباده*
من صالح الأعمال ما يرضاه
[ (29) ] سيرة ابن هشام (2: 240) .
[ (30) ] الزيادة من مغازي الواقدي.
[ (31) ] مغازي الواقدي (1: 2) .
(3/15)
الَّتِي كَانَ يَحْمِلُهَا أُمَيَّةُ بْنُ
خَلَفٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَكَانَ
حَامِلُ لِوَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَئِذٍ: سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيَّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا.
وَذُكِرَ أَنَّ رسول الله صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا بَدْرًا
الْأُولَى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ سَرْحُ
الْمَدِينَةِ بِالْحِمَى، فَاسْتَاقَهُ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ،
فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثَرِهِ فِي
الْمُهَاجِرِينَ، وَكَانَ حَامِلُ لِوَائِهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَطَلَبَهُ رسول
الله صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ بَدْرًا، فَلَمْ
يَلْحَقْهُ، فَلَمَّا فَاتَهُ كُرْزٌ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ
فَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْغَزَاةُ: بَدْرًا الْأُولَى.
وَذُكِرَ أَنَّ رسول الله صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي
السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْعُشَيْرَةِ فِي الْمُهَاجِرِينَ،
فَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ
وَكَانَ يَحْمِلُ لِوَاءَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، حَتَّى
بَلَغَ بَطْنَ يَنْبُعَ، فَوَادَعَ بِهَا بَنِي مُدْلِجٍ، وَحُلَفَاءَهُمْ
مِنْ بَنِي ضمرة ثم رجع» [ (32) ] .
__________
[ (32) ] مقتطفات من مغازي الواقدي (1: 2- 3) .
(3/16)
بَابُ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [ (1) ]
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو الصَّيْرَفِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا [ (2) ] أَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ ابن عَبْدِ اللهِ
الْمُزَنِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي شُعَيْبُ بْنُ
أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ «أَنَّ رسول الله صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ
سَرِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ ابن
جَحْشٍ الْأَسَدِيَّ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى هَبَطُوا نَخْلَةَ فَوَجَدُوا
بِهَا عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فِي عِيرِ تِجَارَةٍ لِقُرَيْشٍ فِي
يَوْمٍ بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَاخْتَصَمَ الْمُسْلِمُونَ
فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: هَذِهِ غِرَّةٌ مِنْ عَدُوٍّ، وَغُنْمٌ
رُزِقْتُمُوهُ، وَلَا نَدْرِي أَمِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ هَذَا الْيَوْمُ
أَمْ لَا، وَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: لَا نَعْلَمُ الْيَوْمَ إِلَّا مِنَ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا نَرَى أَنْ تَسْتَحِلُّوهُ لِطَمَعٍ
أَشْفَيْتُمْ عَلَيْهِ، فَغَلَبَ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ
عَرَضَ الدُّنْيَا، فَشَدُّوا عَلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلُوهُ،
وَغَنِمُوا عِيرَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ابْنُ
الْحَضْرَمِيِّ أَوَّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُشْرِكِينَ، فَرَكِبَ وَفْدُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ حَتَّى قَدِمُوا
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا:
أَتُحِلُّ القتال في الشهر الحرام؟
__________
[ (1) ] ذكرت مفصلة في طبقات ابن سعد (2: 10) ، وتاريخ الطبري (2: 410) ،
ومغازي الواقدي (1: 13- 19) ، وسيرة ابن هشام (2: 238- 239) ، والدرر (99)
لابن عبد البر، والبداية والنهاية (3: 248) ، والنويري (17: 6) .
[ (2) ] في (ح) حدثنا، وأثبت ما في (ص) ، وكذا في سائر الخبر.
(3/17)
فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ: قِتالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ (3) ] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
فَحَدَّثَهُمُ اللهُ فِي كِتَابِهِ: أَنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ حَرَامٌ كَمَا كَانَ، وَإِنَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ: مِنْ صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ حِينَ يَسْجُنُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ وَيَحْبِسُونَهُمْ أَنْ
يُهَاجِرُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَكُفْرِهِمْ بِاللهِ، وَصَدِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ،
وَإِخْرَاجِهِمْ أَهْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُمْ سُكَّانُهُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَفِتْنَتِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الدِّينِ.
فَبَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلَ
ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَحَرَّمَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ كَمَا كَانَ
يُحَرِّمُهُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ [ (4) ] .
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أَبِي عَمْرٍو قَالَا:
حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ
بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ
رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم عَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ إِلَى نَخْلَةَ
فَقَالَ لَهُ: كُنْ بِهَا حَتَّى تَأْتِيَنَا بِخَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ
قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِقِتَالٍ، وَذَلِكَ فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ أَيْنَ
يَسِيرُ، فَقَالَ: اخْرُجْ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ، حَتَّى إِذَا سِرْتَ
يَوْمَيْنِ، فَافْتَحْ كِتَابَكَ وَانْظُرْ فِيهِ فَمَا أَمَرْتُكَ بِهِ
فَامْضِ لَهُ، وَلَا تَسْتَكْرِهَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى
الذَّهَابِ مَعَكَ، فَلَمَّا سَارَ يَوْمَيْنِ فَتَحَ الْكِتَابَ فَإِذَا
فِيهِ:
أَنِ امْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ [بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ] [ (5)
] ، فَتَأْتِيَنَا مِنْ أَخْبَارِ قُرَيْشٍ بِمَا
__________
[ (3) ] الآية الكريمة (217) من سورة البقرة.
[ (4) ] أول سورة التوبة.
[ (5) ] الزيادة من سيرة ابن هشام.
(3/18)
اتَّصَلَ إِلَيْكَ مِنْهُمْ،
فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ قَرَأَ الْكِتَابَ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً،
مَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الشَّهَادَةِ فَلْيَنْطَلِقْ مَعِي
فَإِنِّي مَاضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عليه وَسَلَّمَ،
وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَرْجِعْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللَّه عليه وَسَلَّمَ قَدْ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ مِنْكُمْ أَحَدًا،
فَمَضَى مَعَهُ الْقَوْمُ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَحْرَانَ أَضَلَّ
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا
كَانَا يَعْتَقِبَانِهِ، فَتَخَلَّفَا عَلَيْهِ يَطْلُبَانِهِ، وَمَضَى
الْقَوْمُ حَتَّى نَزَلُوا نَخْلَةَ، فَمَرَّ بِهِمْ عَمْرُو بْنُ
الْحَضْرَمِيِّ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ، وَعُثْمَانُ وَالْمُغِيرَةُ
ابْنَا عَبْدِ اللهِ، مَعَهُمْ تِجَارَةٌ قَدِمُوا بِهَا مِنَ الطَّائِفِ،
أَدَمٌ، وَزَبِيبٌ، فَلَمَّا رَآهُمُ الْقَوْمُ أَشْرَفَ لَهُمْ وَاقِدُ
بْنُ عَبْدِ اللهِ [ (6) ] ، وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا
رَأَوْهُ حَلِيقًا قَالُوا عُمَّارٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ بَأْسٌ،
وَائْتَمَرَ الْقَوْمُ بِهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَقَالُوا: لَئِنْ
قَتَلْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَتَقْتُلُونَهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ،
وَلَئِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ لَيَدْخُلُنَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مَكَّةَ
الْحَرَمَ فَلَيَمْتَنِعُنَّ مِنْكُمْ، فَأَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى
قَتْلِهِمْ، فَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ
الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَأْسَرَ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ
اللهِ، وَالْحَكَمَ بْنَ كَيْسَانَ وَهَرَبَ الْمُغِيرَةُ، فَأَعْجَزَهُمْ،
وَاسْتَاقُوا الْعِيرَ،
فَقَدِمُوا بِهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ لَهُمْ: وَاللهِ مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ [ (7) ] فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ،
فَأَوْقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَسِيرَيْنِ
وَالْعِيرَ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ، أُسْقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ، وَظَنُّوا أَنْ قَدْ هَلَكُوا، وَعَنَّفَهُمْ إِخْوَانُهُمْ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ بَلَغَهُمْ أَمْرُ
هَؤُلَاءِ:
قَدْ سَفَكَ مُحَمَّدٌ الدَّمَ الْحَرَامَ، وَأَخَذَ فِيهِ الْمَالَ،
وَأَسَرَ فِيهِ الرِّجَالَ وَاسْتَحَلَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَأَنْزَلَ
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ في ذلك: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ
قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ،
وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [ (8) ] .
__________
[ (6) ] في سيرة ابن هشام: «أشرف عليهم عكّاشة بن محصن» .
[ (7) ] في (ص) و (هـ) : «بالقتال» .
[ (8) ] [217- البقرة] .
(3/19)
يَقُولُ: الْكُفْرُ بِاللهِ أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ، فَلَمَّا نَزَلَ ذَلِكَ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه
عليه وسلم الْعِيرَ وَفَدَى الْأَسِيرَيْنِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا
رَسُولَ اللهِ! أَتَطْمَعُ لَنَا أَنْ تَكُونَ غَزْوَةً، فَأَنْزَلَ اللهُ
عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا
وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [ (9)
] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَكَانُوا ثَمَانِيَةً وَأَمِيرُهُمُ التَّاسِعُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشِ»
[ (10) ] .
وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ بِبَغْدَادَ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَتَّابٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا
الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ عَمِّهِ [ (11) ] مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ
(ح) .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الشَّعْرَانِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا جَدِّي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، فَذَكَرَ قِصَّةَ عَبْدِ اللهِ
__________
[ (9) ] الآية الكريمة (218) من سورة البقرة.
[ (10) ] الخبر في سيرة ابن هشام (2: 239- 243) ، وعدهم: ثمانية سوى
أميرهم: عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشِ- رضي الله عنهم- 1- أَبُو حُذَيْفَةَ
بْنُ عُتْبَةَ بن ربيعة بن عبد شمس.
2- عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حرثان.
3- عتبة بن غزوان بن جابر.
4- سعد بن أبي وقاص.
5- عامر بن ربيعة.
6- وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بن عبد مناف.
7- خالد بن البكير.
8- سهيل بن بيضاء.
[ (11) ] ليست في (ص) ، ولا في (هـ) .
(3/20)
ابن جَحْشٍ بِمَعْنَى مَا مَضَى إِلَّا
أَنَّهُ قَالَ: «فَتَخَلَّفَ رَجُلَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ إِضْلَالَ
الْبَعِيرِ، وَذَكَرَ أَنَّ عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ حَلَقَ رَأْسَهُ،
ثُمَّ أَوْفَى عَلَى رَجُلٍ [ (12) ] ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّمْيَ
لِوَاقِدٍ، قَالَ: وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَهِيَ
هَاجَتْ بَيْنَهُمُ الْقِتَالَ، وَحَرَّشَتْ بَيْنَ النَّاسِ.
قَالَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ:
فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ لِيُفَادُوا الْأَسِيرَيْنِ فَأَبَى رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ تَكُونُوا قَدْ
أَصَبْتُمْ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ، وَعُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ، فَلَمْ
يُفَادِهِمَا حَتَّى قَدِمَ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ، فَفُودِيَا،
فَأَسْلَمَ الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ، وَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى
اللَّه عليه وَسَلَّمَ، وَرَجَعَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ، كَافِرًا، قَالَ فِيهِ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عِنْدَ ذَلِكَ
وَاقِدٌ وَقَدْتَ الْحَرْبَ، وَعَمْرٌو عَمَرَتِ الْحَرْبَ،
وَالْحَضْرَمِيُّ حَضَرَتِ الْحَرْبَ، فَكَانَ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا
وَكَانَ لَهُمْ فِيمَا تَفَاءَلُوا [ (13) ] مِنْ ذَلِكَ وَأَحَبُّوا مَا
يسوءهم» .
__________
[ (12) ] في (ص) و (هـ) : «على جبل» .
[ (13) ] في (ص) : «تقاولوا» .
(3/21)
|