دلائل النبوة للبيهقي محققا

جُمَّاعُ أَبْوَابِ وُفُودِ الْعَرَبِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ (1) ]
ذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ فِي الْمَغَازِي فِيمَا لَمْ أَجِدْ نُسْخَةَ سَمَاعِي [وَقَدْ أَنْبَأَنِي بِهِ إِجَازَةً] [ (2) ] أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ مُحَمَّدَ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَهُمْ، حَدَّثَنَا أحمد ابن عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
فَلَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَفَرَغَ مِنْ تَبُوكَ وَأَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ وَبَايَعَتْ ضَرَبَتْ إِلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَدَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا كَمَا قَالَ اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ يَضْرِبُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ [ (3) ] .
__________
[ (1) ] انظر في تلك الوفود:
- طبقات ابن سعد (1: 291) وما بعدها.
- سيرة ابن هشام (4: 171) وما بعدها.
- تاريخ الطبري (3: 115) وما بعدها.
- ابن حزم (259) .
- عيون الأثر (2: 295) وما بعدها.
- البداية والنهاية (5: 40) .
- نهاية الأرب. الجزء الثامن عشر.
- السيرة الشامية (6: 386) وما بعدها.
[ (2) ] ليست في (ك) .
[ (3) ] سيرة ابن هشام (4: 171) ، ونقله ابن كثير في التاريخ (5: 40) .
وفي الوفود قال الدكتور: محمد حسين هيكل في حياة محمد (468) :

(5/309)


__________
[ () ] بغزوة تبوك تمت كلمة ربك في شبه جزيرة العرب كلها، وأمن محمد كل عادية عليها. والحق انه لم يكد يستقر بعد ان عاد من هذه الغزوة الى المدينة حتى بدأ كل من اقام على شركه من اهل شبه الجزيرة يفكر. ولئن كان المسلمون، الذين صحبوا محمدا في مسيره الى الشام كابدوا من صنوف المشاق واحتملوا من القيظ والظمأ أهوالا، قد عادوا وفي نفوسهم شيء من السخط ان لم يقاتلوا ولم يغنموا بسبب انسحاب الروم الى داخل الشام ليتحصنوا بمعاقلهم فيها- لقد ترك هذا الانسحاب في نفوس قبائل العرب المحتفظة بكيانها وبدينها أثرا عمقا، وترك في نفوس قبائل الجنوب باليمن وحضرموت وعمان أثرا أشد عمقا. أليس الروم هؤلاء هم الذين غلبوا الفرس واستردوا منهم الصليب وجاءوا به الى بيت المقدس في حفل عظيم، وفارس كانت صاحبة السلطان على اليمن وعلى البلاد المجاورة لها أزمانا طويلة! فإذا كان المسلمون على مقربة من اليمن ومن غيرها من البلاد العربية جمعاء، فما أجدر هذه البلاد بأن تتضام كلها في تلك الوحدة التي تستظل بعلم محمد، علم الإسلام، لتكون بمنجاة من تحكم الروم والفرس جميعا! وماذا يضر أمراء القبائل والبلاد ان يفعلوا وهم يرون محمدا يثبت من جاءه معلنا الإسلام والطاعة في إمارته وعلى قبيلته؟! فلتكن السنة العاشرة للهجرة إذا سنة الوفود، وليدخل الناس في دين الله أفواجا، وليكن لغزوة تبوك ولانسحاب الروم امام المسلمين من الأثر أكثر مما كان لفتح مكة والانتصار في حنين وحصار الطائف.
وقد أفرد الحافظ العلامة الشيخ برهان الدين البقاعي رحمه الله تعالى الكلام على تفسير سورة النصر إعلاما بتمام الدين اللازم عن مدلول اسمها، اللازم عن موت النبي صلّى الله عليه وسلم اللازم عنه العلم بأنه ما برز إلى عالم الكون والفساد إلا لإعلاء كلمة الله تعالى وإدحاض كلمة الشيطان، اللازم عنه أنه صلّى الله عليه وسلم خلاصة الوجود وأعظم عبد للمولى الودود [وعلى ذلك دل ايضا اسمها على التوديع وحال نزولها وهو أيام التشريق من سنة حجة الوداع.
« (بسم الله) الذي له الأمر كله فهو العليم الحكيم، (الرحمن) الذي أرسلك رحمة للعالمين، فعمهم بعد نعمة الإيجاد بأن بين لهم إقامة معاشهم ومعادهم بك طريق النجاة وغاية البيان بما أنزل عليك من معجز القرآن الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله. (الرحيم) الذي خص من أراده بالإقبال [به] الى حزبه وجعله من اهل قربه [بلزوم الصراط المستقيم] لما دلت التي قبلها على أن الكفار قد صاروا الى حال لا عبرة لهم فيه ولا التفات إليهم، ولا خوف بوجه منهم ما دام الحال على المتاركة كأنه قيل فهل يحصل نصر عليهم وظفر بهم [بالمعاركة] ، فأجاب بهذه الصورة بشارة للمؤمنين ونذارة للكافرين.
«ولكنه لما لم يكن ذلك بالفعل إلا عام حجة الوداع يعني بعد فتح مكة بسنتين كان كأنه لم يستقر الفتح إلا حينئذ، فلم ينزل سبحانه هذه السورة إلا في ذلك الوقت وقبل منصرفه من غزوة حنين قبل ذلك. فقال تعالى: (جاء) [ولما كانت المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها، يسوقها إليها سائق القدرة فتقرب منها شيئا فشيئا كانت كأنها آتية إليها فلذلك حصل التجوز بالمجيء عن

(5/310)


__________
[ () ] الحصول فقال] : (رجاء) أي استقر وثبت في المستقبل لمجيء وقته المضروب له في الأزل، [وزاد في تعظيمه بالإضافة ثم بكونها الى اسم الذات فقال] : (نصر الله) اي الملك الأعظم الذي لا مثل له ولا أمر لأحد معه [على جميع الناس في كل امر تريده، ولما كان النصر درجات، وكان قد أشار سبحانه بمطلق الإضافة اليه ثم بكونها الى الإسم الأعظم الى ان المراد أعلاها صرح به فقال] :
(والفتح) اي الذي نزلت سورته بالحديبية مبشرة بغلبة حزبه الذي أنت قائدهم وهاديهم ومرشدهم [لا سيما] على مكة التي لها بيته ومنها ظهر دينه، وبها كان أصله وفيها مستقر عموده وعز جنوده، فذل بذلك جميع العرب، [وقالوا: لا طاقة لنا بمن أظفره الله بأهل الحرم] ففروا بهذا الذل حتى كان ببعضهم هذا الفتح، ويكون بهم كلهم فتح جميع البلاد، وللإشارة الى الغلبة على جميع الأمم ساقه تعالى في أسلوب الشرط ولتحققها عبر عنه «بإذا» .
«ورأيت الناس) أي العرب الذين كانوا حقيرين عند جميع الأمم فصاروا بك هم الناس وصار سائر اهل الأرض لهم اتباعا. «يدخلون» شيئا فشيئا فشيئا محددا دخولهم مستمرا (في دين الله) أي شرع من لم تزل كلمته هي العليا في حال الخلق بقهره لهم على الكفر [الذي لا يرضاه لنفسه عاقل ترك الحظوظ] وفي حال طواعيتهم بقسره لهم على الطاعة وعبر عنه بالدين الذي معناه الجزاء لأن العرب كانوا لا يعتقدون القيامة التي لا يتم الجزاء إلا بها. (أفواجا) أي قبائل وزمرا، زمرا وجماعات كثيفة كالقبيلة بأسرها أمة بعد امة، في خفة وسرعة ومفاجأة ولين، واحدا واحدا أو نحو ذلك، لأنهم قالوا: أما إذا ظفر بأهل الحرم وقد كان الله تعالى أجارهم من اصحاب الفيل [الذين لم يقدر احد على ردهم] فليس لنابه يدان [فتبين من هذا القياس المنتج هذه النتيجة البديهية بقصة اصحاب الفيل ما رتبه الله إلا إرهاطا لنبوته وتأسيسا لدعوته فألقوا بأيديهم وأسلموا قيادهم حاضرهم وباديهم] . ولما كان التقدير: فقد سبح الله تعالى نفسه بالحمد بإبعاد نجس الشرك عن جزيرة العرب بالفعل قال:
(فسبح) أي نزه أنت بقولك وفعلك [بالصلاة وغيرها] موافقة لمولاك لما فعل تسبيحا ملبسا (بحمد) أي بكمال (ربك) [الذي أنجز لك الوعد بإكمال الدين وقمع المعتدين] المحسن إليك بجميع ذلك لأن كله لكرامتك وإلا فهو عزيز حميد على كل حال تعجبا [لتيسير الله على هذا الفتح ما لم يخطر بالبال] وشكرا لما أنعم به سبحانه عليه من انه أراه تمام ما أرسل لأجله ولأن كل حسنة يعملها اتباعه له مثلها.
«ولما أمره صلّى الله عليه وسلم بتنزيهه عن كل نقص ووصفه بكل كمال مضافا الى الرب، امره بما يفهم منه العجز عن الوفاء بحقه لما له من العظمة المشار إليها بذكره مرتين بالاسم الأعظم الذي له من الدلالة على العظم والعلو الى محل الغيب الذي لا مطمع في دركه مما تتقطع الأعناق دونه فقال: (واستغفره) أي اطلب غفرانه إنه كان غفارا، إيذانا بأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره لتقتدي بك أمتك في المواظبة على الأمان الثاني لهم، فإن الأمان الأول الذي هو وجودك بين أظهرهم قد دنا رجوعه الى معدنه في الرفيق الأعلى والمحل الأقدس، وكذا فعل صلّى الله عليه وسلم يوم دخل مكة مطأطئا رأسه حتى انه ليكاد

(5/311)


__________
[ () ] يمس واسطة الرحل تواضعا لله تعالى وإعلاما لأصحابه أن ما وقع إنما هو بحول الله تعالى، لا بكثرة من معه من الجمع وإنما جعلهم سببا لطفا منه بهم، ولذلك نبه من ظن منهم او هجس في خاطره ان للجمع مدخلا فيما وقع من الهزيمة في حنين أولا وما وقع بعد من النصرة بمن ثبت مع النبي صلّى الله عليه وسلم وهم لا يبلغون ثلاثين نفسا. ولما امر بذلك فأرشد السياق الى أن التقدير: وتب إليه، علله مؤكدا لأجل استبعاد من يستبعد مضمون ذلك من رجوع الناس في الردة ومن غيره بقوله: (إنه) اي المحسن إليك بخلافته لك في أمتك، ويجوز أن يكون التأكيد دلالة ما تقدم من ذكر الجلالة مرتين على غاية العظمة والفوت على الإدراك بالاحتجاب بأردية الكبرياء والعزة والتجبر والقهر، مع أن المألوف أن من كان على شيء من ذلك كان بحيث لا يقبل عذرا ولا يقبل نادما. (كان) أي لم يزل (توابا) أي رجاعا لمن ذهب به الشيطان من أهل رحمته. فهو الذي رجع بأنصارك عما كانوا عليه من الاجتماع على الكفر والاختلاف بالعداوات فأيدك بدخولهم في الدين شيئا فشيئا حتى اسرع بهم بعد سورة الفتح الى أن دخلت مكة في عشرة آلاف، وهو أيضا يرجع بك الى الحال التي يزداد بها ظهور رفعتك في الرفيق الأعلى، ويرجع بمن تخلخل من أمتك في دينه بردة أو معصية دون ذلك [إلى ما كان عليه من الخير ويسير بهم أحسن سير] .
«فقد رجع آخر السورة الى أولها بأنه لولا تحقق وصفه بالتوبة لما وجد الناصر الذي وجد به الفتح، والتحم مقطعها اي التحام بمطلعها، وعلم ان كل جملة منها مسببة عما قبلها، فتوبة الله تعالى على عبيده نتيجة توبة العبد باستغفاره الذي هو طلب المغفرة بشروطه، وذلك ثمرة اعتقاده الكمال في ربه تبارك وتعالى، وذلك ما دل عليه إعلاؤه لدينه وفسره للداخلين فيه على الدخول مع أنهم أشد الناس شكائم وأعلاهم همما وعزائم وقد كانوا في غاية الإباء له والمغالبة للقائم به، وذلك هو فائدة الفتح الذي هو آية النصر. وقد علم أن بالآية الأخيرة من الاحتباك ما دل بالأمر بالاستغفار [على الأمر] بالتوبة وبتعليل الأمر بالتوبة على تعليل الأمر بالاستغفار» .
انتهى ما أوردته من كلام الشيخ برهان الدين البقاعي، وتأتي بقيته في الوفاة النبوية إن شاء الله تعالى.

(5/312)


بَابُ وَفْدِ عُطَارِدِ بْنِ حَاجِبٍ فِي بَنِي تَمِيمٍ
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أَبِي عَمْرٍو، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
وَقَدِمَتْ وُفُودُ الْعَرَبِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم، فَقَدِمَ عَلَيْهِ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ التَّمِيمِيُّ فِي أَشْرَافٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مِنْهُمُ: الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَالزِّبْرِقَانَ بْنُ بَدْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، وَالْحَبْحَابُ [بْنُ يَزِيدَ] وَنُعَيْمُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ فِي وَفْدٍ عَظِيمٍ مِنْ تَمِيمٍ، فِيهِمْ: عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، وَكَانَ الْأَقْرَعُ وَعُيَيْنَةُ شَهِدَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم حُنَيْنًا وَالْفَتْحَ وَالطَّائِفَ، فَلَمَّا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ دَخَلَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ الْمَسْجِدَ نَادَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ: أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ، فَآذَى ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم مِنْ صِيَاحِهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكَ لِنُفَاخِرَكَ فَائْذَنْ لِشَاعِرِنَا وَخَطِيبِنَا، فَقَالَ: نَعَمْ، قَدْ أَذِنْتُ لِخَطِيبِكُمْ فَلْيَقُمْ، فَقَامَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مُلُوكًا الَّذِي لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا، وَالَّذِي وَهَبَ لَنَا أَمْوَالًا عِظَامًا، نَفْعَلُ بِهَا الْمَعْرُوفَ، وَجَعَلَنَا أَعَزَّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَأَكْثَرَهُ عَدَدًا وَأَيْسَرَهُ عُدَّةً، فَمَنْ مِثْلُنَا فِي النَّاسِ؟ أَلَسْنَا رؤوس النَّاسِ وَأُولِي فَضْلِهُمْ، فَمَنْ فَاخَرَنَا فَلْيَعُدَّ مِثْلَ مَا عَدَدْنَا، فَلَوْ شِئْنَا لَأَكْثَرْنَا مِنَ

(5/313)


الْكَلَامِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحِي مِنَ الْإِكْثَارِ لِمَا أَعْطَانَا، أَقُولُ هَذَا لِأَنْ تَأْتُوا بِمِثْلِ قَوْلِنَا وَأَمْرٍ أَفْضَلَ مِنْ أَمْرِنَا، ثُمَّ جَلَسَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ: قُمْ فَأَجِبْهُ،
فَقَامَ فَقَالَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ خَلْقُهُ قَضَى فِيهِنَّ أَمْرَهُ، وَوَسِعَ كُرْسِيُّهُ، عِلْمَهُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَطُّ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَاصْطَفَى مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ رَسُولًا أَكْرَمَهُ نَسَبًا، وَأَصْدَقَهُ حَدِيثًا، وَأَفْضَلَهُ حَسَبًا، فانزل عليه كتابه، وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَكَانَ خِيرَةَ اللهِ مِنَ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ فَآمَنَ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَوِي رَحِمِهِ أَكْرَمُ النَّاسِ أَحْسَابًا وَأَحْسَنُهُمْ وُجُوهًا، وَخَيْرُ النَّاسِ فِعْلًا، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ الْخَلْقِ إِجَابَةً، وَاسْتَجَابَ اللهُ حِينَ دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ [صَلَّى اللهُ عليه وسلم] [ (1) ] ، نَحْنُ، فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ [ (2) ] وَوُزَرَاءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، فَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ مَنَعَ مَالَهُ وَدَمَهُ، وَمَنْ نَكَثَ جَاهَدْنَاهُ فِي اللهِ أَبَدًا، وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَيْنَا يَسِيرًا. أَقُولُ هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ قِيَامَ الزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ وَإِنْشَادَهُ [ (3) ] ، وَجَوَابَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ [ (4) ] إِيَّاهُ.
__________
[ (1) ] من (أ) فقط.
[ (2) ] في الأصول: «فنحن أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم» وأثبتنا ما في سيرة ابن هشام ليتسق المعنى.
[ (3) ] من قصيدة مطلعها:
نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النّهاب وفضل العزّ يتّبع
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ... من الشّواء إذا لم يؤنس القزع
[ (4) ] وهي قصيدة حسان الرائعة الشهيرة:
إنّ الذّوائب من فهر وإخوتهم ... قد بيّنوا سنّة للنّاس تتّبع
يرضى بهم كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله وكلّ الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم ... أو حاولوا النّفع في أشياعهم نفعوا

(5/314)


فلما فرغ حسّان مِنْ قَوْلِهِ قَالَ الْأَقْرَعُ: [وَأَبِي] [ (5) ] إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ خَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَشَاعِرُهُ أَشْعُرُ مِنْ شَاعِرِنَا، وَأَصْوَاتُهُمْ أَعْلَى مِنْ أَصْوَاتِنَا.
فَلَمَّا فَرَغُوا أَجَازَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَأَحْسَنَ جَوَائِزَهُمْ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ قَدْ خَلَّفَهُ الْقَوْمُ فِي ظَهْرِهِمْ، وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ وَكَانَ يُبْغِضُ ابْنَ الْأَهْتَمِ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلَيْكَ السَّلَامُ إِنَّهُ قَدْ كَانَ غلام مِنَّا فِي رِحَالِنَا، وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ وَأَزْرَى بِهِ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا أَعْطَى الْقَوْمَ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ- حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ قَيْسٍ- يهجوه، فذكر بياتا قالهنّ [ (6) ] .
__________
[ () ]
سجيّة تلك منهم غير محدثة ... إنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع
إن كان في النّاس سبّاقون بعدهم ... فكلّ سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرقع النّاس ما أوهت أكفّهم ... عند الدّفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن سابقوا النّاس يوما فاز سبقهم ... أو وازنوا أهل مجد بالنّدى متعوا
أعفّة ذكرت في الوحي عفّتهم ... لا يطبعون ولا يرديهم طمع
لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسّهم من مطمع طبع
إذا نصبنا لحيّ لم ندبّ لهم ... كما يدبّ إلى الوحشيّة الذّرع
نسموا إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزّعانف من أظفارها خشعوا
لا يفخرون إذا نالوا عدوّهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع
كأنّهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد بحلية في أرساغها فدع
خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا ... ولا يكن همّك الأمر الّذي منعوا
فإنّ في حربهم، فاترك عداوتهم ... شرّا يخاض عليه السّمّ والسّلع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفاوتت الأهواء والشّيع
أهدى لهم مدحتي قلب يوازره ... فيما أحبّ لسان حائك صنع
فإنّهم أفضل الأحياء كلّهم ... إن جدّ بالنّاس جدّ القول أو شمعوا
[ (5) ] الزيادة من سيرة ابن هشام (4: 178) .
[ (6) ] الخبر كله في سيرة ابن هشام (4: 178) ، ونقله ابن كثير في التاريخ (5: 42- 44) . وقال عمرو بن الأهتم:
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندّا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيّا كزيّ الأعاجم

(5/315)


وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ بِبَغْدَادَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ، قَالَ:
قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْأَهْتَمِ، أَخْبَرَنِي عَنْ هَذَا الزِّبْرِقَانُ، فَأَمَّا هَذَا فَلَسْتُ أَسْأَلُكَ عَنْهُ لِقَيْسٍ، قَالَ: وَأُرَاهُ كَانَ قَدْ عَرَفَ قَيْسًا، قَالَ: فَقَالَ مُطَاعٌ فِي أُذُنَيْهِ شَدِيدُ الْعَارِضَةِ، مَانِعٌ لِمَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، قَالَ: فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: قَدْ قَالَ مَا قَالَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي أَفْضَلُ مِمَّا قَالَ، قَالَ: فَقَالَ عَمْرٌو وَاللهِ مَا عَلِمْتُكَ إِلَّا زَمْرَ الْمُرُوءَةِ ضَيِّقَ الْعَطِيَّةِ، أَحْمَقَ الْأَبِ، لَئِيمَ الْخَالِ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ صَدَقْتَ فِيهِمَا جَمِيعًا أَرْضَانِي فَقُلْتُ بِأَحْسَنَ مَا أَعْلَمُ فيه، واسخطني فقلت بأسوء مَا أَعْلَمُ فِيهِ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم إن مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا.
هَذَا مُنْقَطِعٌ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْصُولًا.
أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ كَامِلُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُسْتَمْلِي أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْعَلَّافُ بِبَغْدَادَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ مَحْفُوظٍ عَنْ أَبِي الْمُقَوِّمِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَبُو الْمُقَوِّمِ اسْمُهُ يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: [ (7) ] .
جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ التَّمِيمِيُّونَ، فَفَخَرَ الزِّبْرِقَانُ، فَقَالَ: يَا رسول الله أنا سَيِّدُ تَمِيمٍ وَالْمُطَاعُ فِيهِمْ وَالْمُجَابُ أَمْنَعُهُمْ مِنَ الظُّلْمِ وَآخُذُ لَهُمْ بِحُقُوقِهِمْ، وَهَذَا يَعْلَمُ ذَلِكَ يَعْنِي عَمْرَو بْنَ الْأَهْتَمِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، إِنَّهُ لَشَدِيدُ الْعَارِضَةِ مَانِعٌ لِجَانِبِهِ مُطَاعٌ فِي أُذُنَيْهِ، فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ عَلِمَ مِنِّي غَيْرَ مَا قَالَ،
__________
[ (7) ] نقله الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (5: 45) ، وقال: «هذا إسناد غريب جدا» ، وقال المزي في تحفة الأشراف: الحكم بن عتيبة لم يسمع من مقسم سوى خمسة أحاديث.

(5/316)


وَمَا مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلَّا الْحَسَدُ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ: أَنَا أَحْسُدُكَ، فو الله إِنَّكَ لَئِيمُ الْخَالِ، حَدِيثُ الْمَالِ، أَحْمَقُ الْوَلَدِ، مُضَيَّعٌ فِي الْعَشِيرَةِ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ صَدَقْتُ فِيمَا قُلْتُ أَوَّلًا، وَمَا كَذَبْتُ فِيمَا قُلْتُ آخِرًا، وَلَكِنِّي رَجُلٌ إِذَا رَضِيتُ قُلْتُ أَحْسَنَ مَا عَلِمْتُ وَإِذَا غَضِبْتُ قُلْتُ أَقْبَحَ مَا وَجَدْتُ، وَلَقَدْ صَدَقْتُ فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى جَمِيعًا،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ: عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ الْمُجَوَّزُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَغَرِّ، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ [ (8) ] .
أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْهَيْثَمِ: عُتْبَةُ بْنُ خَيْثَمَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خاتم بْنِ خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ الْفَقِيهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ البوسنجي، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سليمان، عن قيس ابن الرَّبِيعِ، عَنِ الْأَغَرِّ، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ جَدِّهِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ.
أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم [ (9) ] [أَنْ يَغْتَسِلَ] [ (10) ] بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَأَنْ يَقُومَ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رَضِيَ الله عنهما-[ (11) ] يعلّمانه [ (12) ] .
__________
[ (8) ] انظر الحاشية (12) من هذا الباب في تخريج الحديث.
[ (9) ] الزيادة من (أ) و (ك) .
[ (10) ] سقطت من (أ) .
[ (11) ] ليست في (ح) ولا في (ك) .
[ (12) ] الحديث أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل، الحديث (355) ، ص (1: 98) ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، عن سفيان، عن الأغر بن الصباح، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ حُصَيْنٍ بن قيس بن عاصم، عن جده قيس.
وأخرجه الترمذي في بَابُ مَا ذُكِرَ فِي الاغتسال عند ما يسلم الرجل عن بندار، عن ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ بمعناه، وقال: «حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه» .

(5/317)


بَابُ وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ [ (1) ] وَدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَكِفَايَةِ اللهِ تَعَالَى شَرَّهُ، وَشَرَّ أَرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ بَعْدَ أَنْ عَصَمَ مِنْهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ آثَارِ النُّبُوَّةِ
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ ثُمَامَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الرَّاسِبِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَبِي الْعَلَاءِ، قَالَ: وَفَدَ أَبِي فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَنْتَ سَيِّدُنَا، وَذُو الطَّوْلِ عَلَيْنَا، فَقَالَ: مَهْ مَهْ، قُولُوا بِقَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَجِرَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، السَّيِّدُ اللهُ، السَّيِّدُ اللهُ، السَّيِّدُ اللهُ.
وذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ عَنِ الْعُطَارِدِيِّ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم] [ (2) ] وَفْدُ بَنِي عَامِرٍ فِيهِمْ: عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلٍ وَأَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ، وَخَالِدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَحَيَّانُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ مَالِكٍ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ
__________
[ (1) ] وانظر فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ: سيرة ابن هشام (4: 179) ، وطبقات ابن سعد (1: 310) ، تاريخ الطبري (3: 144) ، البداية والنهاية (5: 56- 60) ، عيون الأثر (2: 295) ، نهاية الأرب (18: 51- 58) شرح المواهب (4: 11- 13) ، وغيرها.
كما رواها ابن المنذر وابن حاتم، وأبو نعيم وابن مردويه، عن ابن عباس، والحاكم عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وأبو نعيم عن عروة.
[ (2) ] ليست في (ح) .

(5/318)


رُؤَسَاءَ الْقَوْمِ وَشَيَاطِينَهُمْ، فَقَدِمَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلٍ، فَقَالَ: [ (3) ] تَالَلَّهِ لَقَدْ كُنْتُ آلَيْتُ أَنْ لَا أَنْتَهِيَ مِنْ تَتَبُّعِ الْعَرَبِ عَقِبِي، أَفَأَنَا أَتَّبِعُ عَقِبَ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ؟ ثُمَّ قَالَ لِأَرْبَدَ إِذَا قَدِمْنَا عَلَى الرَّجُلِ فَإِنِّي شَاغِلٌ عَنْكَ وَجْهَهُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَاعْلُهُ بِالسَّيْفِ [ (4) ] فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَامِرٌ: يَا مُحَمَّدُ! خَالِّنِي [ (5) ] ، فَقَالَ: «لَا، وَاللهِ حَتَّى تُؤْمِنَ بِاللهِ وَحْدَهُ» ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ خَالِّنِي، فَقَالَ: «لَا حَتَّى تُؤْمِنَ بِاللهِ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ» فَلَمَّا أَبَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَمَا وَاللهِ لَأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا حُمْرًا، وَرِجَالًا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ اكْفِنِي عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ»
فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَامِرٌ لِأَرْبَدَ:
وَيْحَكَ يَا أَرْبَدُ!! أَيْنَ مَا كُنْتُ أَمَرْتُكَ بِهِ؟ وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ رَجُلٌ أَخْوَفُ عِنْدِي عَلَى نَفْسِي مِنْكَ، وَايْمُ اللهِ لَا أَخَافُ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا، قَالَ: لَا أَبَا لَكَ لَا تعجل عليّ فو الله مَا هَمَمْتُ بِالَّذِي أَمَرْتَنِي بِهِ مِنْ مَرَّةٍ: لادخلت بَيْنِي وَبَيْنَ الرَّجُلِ حَتَّى مَا أَرَى غَيْرَكَ أَفَأَضْرِبُكَ بِالسَّيْفِ؟ ثُمَّ خَرَجُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَعَثَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الطَّاعُونَ فِي عُنُقِهِ فَقَتَلَهُ اللهُ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولَ، ثُمَّ خَرَجَ أَصْحَابُهُ حِينَ وَارَوْهُ حَتَّى قَدِمُوا [ (6) ] أَرْضَ بَنِي عَامِرٍ أَتَاهُمْ قَوْمُهُمْ فَقَالُوا مَا وراك يَا أَرْبَدُ فَقَالَ لَقَدْ دَعَانَا إِلَى عِبَادَةِ شَيْءٍ لَوَدِدْتُ أَنَّهُ عِنْدِي فَأَرْمِيَهُ بِالنَّبْلِ هَذِهِ حَتَّى أَقْتُلَهُ،
__________
[ (3) ] في نسخة (أ) ابتداء من هذه الكلمة وحتى آخر الجزء- حسب تجزئة نسخة (أ) والتي تنتهي بعد قليل عند ابتداء وفد عبد القيس ورد لوحات من الآيات التي ظهرت عند حفر الخندق، وقد تقدمت الأخبار في ذلك.
[ (4) ] «فاعله بالسيف» يريد: اقتله، ويروى: فاعله بالسيف: بالغين المعجمة، وهو من الغيلة وهي القتل خديعة وخفية.
[ (5) ] (خالّني) : أي تفرد لي خاليا حتى أحدثك على انفراد، ومعناها الثاني: اتخذني خليلا أي صاحبا.
[ (6) ] في (ح) : «قدم» .

(5/319)


فَخَرَجَ بَعْدَ مَقَالَتِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مَعَهُ جَمَلٌ يَتْبَعُهُ، فَأَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى [ (7) ] عَلَيْهِ وَعَلَى جَمَلِهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُمَا وَكَانَ أَرْبَدُ أَخًا لِلَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ لِأُمِّهِ، فَبَكَاهُ وَرَثَاهُ [ (8) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فِي قِصَّتَيْ بِئْرِ مَعُونَةَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قَالَ يَحْيَى: فَمَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ ثَلَاثِينَ صَبَاحًا «اللهُمَّ اكْفِنِي عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ بِمَا شِئْتَ، وَابْعَثْ عَلَيْهِ دَاءً يَقْتُلُهُ» ، فَبَعَثَ اللهُ عَلَيْهِ طَاعُونًا فَقَتَلَهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن رحا، أَنْبَأَنَا هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا [ (9) ] أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ حزام بْنِ مِلْحَانَ قَالَ، وَكَانَ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَكَانَ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فَقَالَ] :
أُخَيِّرْكَ بَيْنَ ثَلَاثِ خِصَالٍ: يَكُونُ لَكَ أَهْلُ السَّهْلِ، وَيَكُونُ لِي أَهْلُ الْمَدَرِ، وأَكُونَ خَلِيفَتَكَ مِنْ بَعْدِكَ، أَوْ أَغْزُوَكَ بِغَطَفَانَ بِأَلْفِ أَشْقَرَ وَأَلْفِ شَقْرَاءَ، قَالَ:
فَطُعِنَ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ، فَقَالَ: أَغُدَّةٌ كفرة الْبَكْرِ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، ائْتُونِي بِفَرَسِي فَرَكِبَ فَمَاتَ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [ (10) ] فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ.
__________
[ (7) ] الزيادة من (ك) .
[ (8) ] الخبر رواه ابن هشام في السيرة (4: 179- 180) وقصيدة لبيد كاملة ومطلعها:
ما إن تعدّى المنون من أحد ... لا والد مشفق ولا ولد
[ (9) ] في (ك) : «حدثني» .
[ (10) ] أخرجه البخاري في: 64- كتاب المغازي (28) باب غزوة الرجيع، الحديث (4091) فتح

(5/320)


أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ الزَّاهِدُ- رَحِمَهُ اللهُ-، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَاهِرٍ الْحُسَيْنِيُّ بِالْمَدِينَةِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ، بْنُ يَحْيَى ابن الْحَسَنِ بْنِ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُؤَمَّلٍ، عَنْ أَبِيهَا عَنْ جَدِّهَا مُؤَمَّلِ بْنِ جَمِيلٍ، قَالَ:.
أَتَى عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: يَا عَامِرُ أَسْلِمْ، قَالَ: أُسْلِمُ عَلَى أَنَّ الْوَبَرَ لِي، وَلَكَ، الْمَدَرُ، قَالَ: لَا. ثُمَّ قَالَ: يَا عَامِرُ أَسْلِمْ، قَالَ: أُسْلِمُ عَلَى أَنَّ الْوَبَرَ لِي، وَلَكَ الْمَدَرُ، قَالَ: فَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ يَا مُحَمَّدُ لَأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا جُرْدًا، وَرِجَالًا مُرْدًا، أَوْ لَأَرْبِطَنَّ بِكُلِّ نَخْلَةٍ فَرَسًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اللهُمَّ اكْفِنِي عَامِرًا وَاهْدِ قَوْمَهُ
فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ، صَادَفَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا: سَلُولِيَّةُ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، وَنَامَ فِي بَيْتِهَا، فَأَخَذَتْهُ غُدَّةٌ فِي حَلْقِهِ، فَوَثَبَ عَلَى فَرَسِهِ وَأَخَذَ رُمْحَهُ، وَأَقْبَلَ يَجُولُ، وَهُوَ يَقُولُ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبِكْرِ، وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ، فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ حَالُهُ حَتَّى سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ مَيِّتًا، وَاللهُ أَعْلَمُ [ (11) ] .
__________
[ () ] الباري (7: 385) عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ عن هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، قال: حدثني أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خاله- أخ لِأُمِّ سُلَيْمٍ- فِي سَبْعِينَ راكبا، وَكَانَ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ عَامِرُ بن الطفيل خير بين ثلاث خصال فقال: يكون لك أهل السهل لي وأهل الْمَدَرِ، أَوْ أَكُونَ خَلِيفَتَكَ، أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف. فطعن عامر في بيت أم فُلَانٍ فَقَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَكْرِ، فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ من آل بَنِي فُلَانٍ. ائْتُونِي بِفَرَسِي، فَمَاتَ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ. فَانْطَلَقَ حَرَامٌ أَخُو أُمِّ سليم- وهو رَجُلٌ أَعْرَجُ وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ قَالَ: كُونَا قريبا حَتَّى آتِيَهُمْ، فَإِنْ أَمَّنُونِي كنتم وَإِنْ قَتَلُونِي أَتَيْتُمْ أَصْحَابَكُمْ، فقال: أتؤمنوني أبلغ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ وَأَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ فَطَعَنَهُ، قَالَ همام أحسبه حتى أنفذه بالرمح، قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ ورب الكعبة، فَلُحِقَ الرَّجُلُ فَقُتِلُوا كُلُّهُمْ غير الْأَعْرَجَ كَانَ فِي رَأْسِ جهل، فأنزل الله عَلَيْنَا ثُمَّ كَانَ مِنَ الْمَنْسُوخِ «أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا» فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم عليهم ثلاثين صَبَاحًا، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وبني لحيان وعصية الذين عصوا الله وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، وهنا ينتهي.
[ (11) ] من (ح) ، وهنا ينتهي الجزء السادس من نسخة (أ) ، وبعده السابع وأوله وفد عبد القيس وجاء في أوله:

(5/321)


__________
[ () ] «السفر السابع من كتاب دلائل النبوة لمعرفة أحوال صاحب الشريعة أبي القاسم محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب رسول رب العزة والمصطفى من جميع البرية صلّى الله عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه الطاهرين وسلم تسليما تأليف الشيخ الامام: أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي رحمه الله ورضي عنه رواية ولد ولده الشيخ السديد أبي الحسن عبد الله بن محمد بن أحمد البيهقي، رواية الشيخ الإمام الحافظ أبي محمد المبارك ابن علي بن الحسين البغدادي المعروف بابن الطباخ- رحمه الله- رواية الإمام الحافظ ابي نزار بن الحسين اليماني عنه أجازة، رواية الإمام الحافظ مجد الدين أبي محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري عنه، رواية محمد بن إبراهيم ابن أبي القاسم الميدومي، رواية العبد الفقير إلى رحمة ربه محمد بن عبد الحكم الشافعي عفا الله عنه ولطف به عنه.
وجاء في أول السابع من تجزئه نسخة (أ) : بسم الله الرّحمن الرّحيم، رب يسر، باب وفد عبد القيس.

(5/322)


بَابُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ [ (1) ] وَإِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطُلُوعِهِمْ قَبْلَ قُدُومِهِمْ
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ. مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ فُورَكٍ- رَحِمَهُ اللهُ-[تَعَالَى] [ (2) ] أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يقول:
__________
[ (1) ] وانظر فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: سيرة ابن هشام (4: 186) ، وطبقات ابن سعد (1: 314) ط.
صادر، تاريخ الطبري (3: 136- 137) ، عيون الأثر (2: 298) ، البداية والنهاية (5:
46- 48) ، نهاية الأرب (18: 65) شرح المواهب (4: 13- 19) .
وسبب وفودهم أن منقذ بن حبان أحد بني غنم، بن وديعة كان متجره إلى يثرب في الجاهلية، فشخص إلى يثرب بملاحف ونمر من هجر بعد هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم إليها.
فبينا منقذ قاعد إذ مر به النبي صلّى الله عليه وسلم، فنهض منقذ إليه فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أمنقذ بن حبان كيف جميع هيأتك وقومك» ؟ ثم سأله عن أشرافهم رجل رجل، يسميهم بأسمائهم. فأسلم منقذ وتعلم سورة الفاتحة واقرأ باسم ربك، ثم رحل قبل هجر. فكتب النبي صلّى الله عليه وسلم معه إلى جماعة عبد القيس كتابا، فذهب به وكتمه أياما، ثم اطلعت عليه امرأته وهي بنت المنذر بن عائذ- بالذال المعجمة- ابن الحارث والمنذر هو الأشج سماه النبي صلّى الله عليه وسلم به لأثر كان في وجهه.
وكان منقذ رضي الله عنه يصلي ويقرأ، فأنكرت امرأته ذلك، وذكرته لأبيها المنذر، فقالت:
«أنكرت بعلي منذ قدم من يثرب، إنه يغسل أطرافه ويستقبل الجهة تعني القبلة، فيحني ظهره مرة، ويضع جبينه مرة، ذلك ديدنه منذ قدم» . فتلاقيا فتجاريا ذلك، فوقع الإسلام في قلبه.
ثم سار الأشجع إلى قومه عصر ومحارب بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقرأه عليهم فوقع الإسلام في قلوبهم وأجمعوا على المسير إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسار الوفد فلما دنوا من المدينة قال النبي صلّى الله عليه وسلم لجلسائه:
«أتاكم وفد عبد القيس خير أهل المشرق [وفيهم الأشج العصري غير ناكثين ولا مبدلين ولا مرتابين إذ لم يسلم قوم حتى وتروا» ] .
[ (2) ] من (ح) فقط.

(5/323)


إن وفد عبد القيس لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟
قَالُوا: رَبِيعَةُ، قَالَ: مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ غَيْرَ الْخَزَايَا وَلَا النَّدَامَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا حَيٌّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَإِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَإِنَّهُ يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وَإِنَّا لَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ [ (3) ] ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللهِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغَانِمِ الْخُمُسَ [ (4) ] ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرَ، فَاحْفَظُوهُنَّ وَادْعُوا إِلَيْهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ.
أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ [ (5) ] .
__________
[ (3) ] قولهم: إِلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، وفي لفظ: الشهر الحرام، والمراد به شهر رجب وكانت مضر تبالغ في تعظيمه ولذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة حيث قال: رجب مضر. والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخر. ولذا ورد في بعض الروايات: الأشهر الحرم، وفي بعضها: إلّا في كل شهر حرام.
[ (4) ] قال الحافظ ابن حجر: كيف قال آمركم بأربع؟ والمذكورة خمس. وقد أجاب عنه القاضي عياض تبعا لابن بطال: كان الأربع ما عدا أداء الخمس. قال: وكأنه أراد إعلامهم بقواعد الايمان وفروض الأعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع لهم جهاد، لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد إلى ذكرها بعينها لأنها مسببة عن الجهاد، ولكن الجهاد إذ ذاك كان فرض عين. قال: وكذلك لم يذكر الحج لأنه لم يكن فرض. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذكر غير ذلك، وما ذكره القاضي عياض رحمه الله تعالى المعتمد والمراد شهادة أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أي مع وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، كما صرح به في رواية عباد بن عباد في المواقيت.
[ (5) ] قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (1: 184) : اختلف العلماء في الجواب عن هذا الإشكال (على أقوال أظهرها ما قاله الإمام ابن بطال في شرح صحيح البخاري قال: أمرهم بالأربع التي وعدهم بها ثم زادهم خامسة يعني أداء الخمس لأنهم كانوا مجاورين لكفار مضر فكانوا أهل جهاد وغنائم. وأضاف النووي: وأما قبوله صلّى الله عليه وسلم أن يؤدوا خمسا من المغنم فليس عطفا على قوله

(5/324)


وأَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ هِلَالُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَفَّارُ بِبَغْدَادَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَيَّاشٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ
__________
[ () ] شهادة أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فإنه يلزم منه أن يكون الأربع خمسا وإنما هو عطف على قوله بأربع فيكون مضافا الى الأربع لا واحدا منها. هذا نقلا عن أبي عمرو بن الصلاح وزاد هذا قائلا: واما عدم ذكر الصوم في الرواية الأولى فهو إغفال من الراوي.
الحديث أخرجه البخاري في عشرة مواضع، في: 2- كتاب الإيمان (40) باب أداء الخمس من الإيمان، الفتح (1: 129) ، من طريق علي بن الجعد، عن شعبة عن أبي جمرة، عن ابن عباس، وفي كتاب الخمس، عن أبي النعمان عن حماد، وفي خبر الواحد، عن علي بن الجعد، عن شعبة، وعن إسحاق، عن النضر، عن شعبة، وفي كتاب العلم عن بندار، عن غندر، عن شعبة، وفي الصلاة عن قتيبة، عن عباد بن عباد، وفي الزكاة عن حجاج بن المنهال، عن حماد، وفي الخمس عن أبي النعمان، عن حماد، وفي مناقب قريش عن مسدد، عن حماد، وفي المغازي عن سليمان بن حرب، عن حماد، وعن إسحاق، عن أبي عامر العقدي، عن قرة، وفي الأدب عن عمران بن ميسرة، عن عبد الوارث، عن أبي التياح، وفي التوحيد عن عمرو بن علي، عن أبي عاصم، عن قرة.
وأخرجه مسلم في: 1- كتاب الإيمان (6) باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم وشرائع الدين، ح 23- 26 (1: 46- 48) عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبو موسى، وبندار، ثلاثتهم عن عبد ربه، وعن عبيد الله بن معاذ عن أبيه، وعن نصر بن علي، عن أبيه، عن قرة، وأخرجه مسلم كذلك في «الأشربة» ، عن خلف بن هشام، عن حماد بن زيد، وعن يحيى بن يحيى، عن عباد ابن عباد.
وأخرجه أبو داود في «الأشربة» عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، وعن مسدد، عن عباد ابن عباد، وفي كتاب «السنة» عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، وهو عند «الترمذي» في «الأشربة» عن قتيبة عن عباد، وقال: حسن صحيح، وأخرجه «النسائي» في «العلم» ، عن بندار، وفي «الإيمان» ، عن قتيبة، عن عباد بن عباد، وأخرجه مالك في «الموطأ» في كتاب «الأشربة» ، والإمام أحمد في «مسنده» (1: 27، 28، 50) ومواضع أخرى كثيرة.
بيان اللغات: (الدباء) اليقطين اليابس، اي الوعاء منه وهو القرع، وهو جمع، والواحدة: دباءة (الحنتم) الجرار الخضر يجلب فيها الخمر، (النقير) جذع ينقرون وسطه وينبذون فيه، (المقير) هو المزفت، وهو المطلي بالقار وهو الزفت، ومعنى النهي عن هذه الأربع هو أنه نهى عن الإنتباذ فيها، وهو أن يجعل في الماء حبات من تمر أو زبيب، أو نحوهما ليحلو ويشرب، وإنما خصت هذه بالنهي لأنه يسرع إليها الإسكار فيها، فيصير حراما نجسا.

(5/325)


الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ لَقِيَ الْوَفْدَ، وَذَكَرَ أبا نَضْرَةَ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا حَيٌّ مِنْ رَبِيعَةَ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، وَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَيْكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ إِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا بِهِ، أَوْ عَمِلْنَا بِهِ، فَقَالَ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَتُؤْتُوا الزَّكَاةَ:، وَتَصُومُوا رَمَضَانَ:
وَتُعْطُوا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا عِلْمُكَ بِالنَّقِيرِ؟ قَالَ: جِذْعٌ تَنْقُرُونَهُ، ثُمَّ تُلْقُونَ فِيهِ مِنَ الْقَطْيَاءِ وَالتَّمْرِ، ثُمَّ تَصُبُّونَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، حَتَّى يَغْلِيَ فَإِذَا سَكَنَ شَرِبْتُمُوهُ حَتَّى [ (6) ] إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَضْرِبُ ابْنَ عَمِّهِ بِالسَّيْفِ، قَالَ: وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ بِهِ ضَرْبَةٌ كَذَلِكَ، قَالَ: كُنْتُ أخبأها حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: فَفِيمَا نَشْرَبُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: اشْرَبُوا فِي أَسْقِيَةِ الْأَدَمِ الَّتِي يُلَاثُ عَلَى أَفْوَاهِهَا.
قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَرْضَنَا كَثِيرَةُ الْجِرْذَانِ لَا تَبْقَى بِهَا أَسْقِيَةُ الْأَدَمِ، قَالَ: وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ، وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ. قَالَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ: الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ [ (7) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ: الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرُّوذْبَارِيُّ، أَنْبَأَنَا إسماعيل بن محمد ابن إِسْمَاعِيلَ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ السَّمْحِ، حدثنا قيس بن
__________
[ (6) ] في (ك) ، و (ح) : «فعسى أن» .
[ (7) ] صحيح مسلم في: 1- كتاب الإيمان، (6) باب الأمر بالإيمان بالله، الحديث (26) ، (1: 48- 49) ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عن ابن عكيّة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عروبة.

(5/326)


حَفْصٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا طَالِبُ بْنُ حُجَيْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا هُودُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مَزْيَدَةَ الْعَصَرِيَّ [ (8) ] ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ إِذْ قَالَ لَهُمْ: سَيَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَاهُنَا رَكْبٌ هُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، فَقَامَ عُمَرُ فَتَوَجَّهَ نَحْوَهُمْ فَلَقِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَاكِبًا، فَقَالَ:
مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: مِنْ بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ، قَالَ: فَمَا أَقْدَمَكُمْ هَذِهِ الْبِلَادَ أَتِجَارَةٌ؟
قَالُوا: لَا، قَالَ: أَمَا إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم قَدْ ذَكَرَكُمْ آنِفًا [ (9) ] فَقَالَ خَيْرًا، ثُمَّ مَشَى مَعَهُمْ حَتَّى أَتَوَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ لِلْقَوْمِ: هَذَا صَاحِبُكُمُ الَّذِي تُرِيدُونَهُ، فَرَمَى الْقَوْمُ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ رَكَائِبِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ مَشَى إِلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ هَرْوَلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَعَى حَتَّى أَتَوَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذُوا بِيَدِهِ فَقَبَّلُوهَا، وَتَخَلَّفَ الْأَشَجُّ فِي الرِّكَابِ حَتَّى أَنَاخَهَا، وَجَمَعَ مَتَاعَ الْقَوْمِ، ثُمَّ جَاءَ يَمْشِي حَتَّى أَخَذَ بِيَدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ. فَقَالَ جَبْلٌ جُبِلَتْ عَلَيْهِ أَمْ تَخَلُّقًا مِنِّي؟ قَالَ: بَلْ جَبْلٌ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى مَا يُحِبُّ اللهُ وَرَسُولُهُ [ (10) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ:
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْنَقُ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ أَبَانَ بِنْتُ الْوَازِعِ بْنِ زَارِعٍ، عَنْ جَدِّهَا زَارِعٍ وَكَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، قَالَ:
فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلَهُ، وَانْتَظَرَ الْمُنْذِرُ الْأَشَجُّ حَتَّى أَتَى عيتبه، فَلَبِسَ ثَوْبَيْهِ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أم الله
__________
[ (8) ] له ترجمة في أسد الغابة (1: 96) و (4: 417) .
[ (9) ] ليست في (ح) .
[ (10) ] رواه أبو يعلى والطبراني بسند جيد، ونقله ابن كثير في التاريخ (5: 47- 48) .

(5/327)


جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا، قَالَ: بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي على خلقتين يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ [ (11) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي طَاهِرٍ الدَّقَّاقُ بِبَغْدَادَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي قِلَابَةَ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّقَاشِيِّ وَأَنَا أَسْمَعُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَجَاءُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ- بَعْدَ جُمُعَةٍ بِالْمَدِينَةِ- جُمُعَةُ الْبَحْرَيْنِ بحواثاء قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى عَبْدِ الْقَيْسِ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ حَبَّانَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ [ (12) ] .
وأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَارُودُ بْنُ الْمُعَلَّى بْنِ عَمْرِو بْنِ حَنَشِ بْنِ يَعْلَى الْعَبْدِيُّ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فِي عَبْدِ الْقَيْسِ، فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ الْجَارُودُ بْنُ الْمُعَلَّى رَجُلًا نَصْرَانِيًّا، فَجَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي عَلَى دِينِي، وَإِنِّي تَارِكٌ دِينِي لِدِينِكَ، فَتَضْمَنُ لِي مَا فِيهِ، قَالَ: نَعَمْ، أَنَا ضَامِنٌ لَكَ أَنَّ الَّذِيَ أَدْعُوكَ إِلَيْهِ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَ أَصْحَابُهُ.
ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ احْمِلْنَا، قَالَ: وَاللهِ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عليه،
__________
[ (11) ] مسند أحمد (4: 206) .
[ (12) ] فتح الباري (2: 379) و (8: 86) .

(5/328)


فَقَالَ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بِلَادِنَا ضَوَالَّ مِنْ ضَوَالِّ النَّاسِ، فَنَتَبَلَّغُ عَلَيْهَا، قَالَ: لَا، تِلْكَ حَرَقُ النَّارِ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ رُجُوعَ الْجَارُودِ إِلَى قَوْمِهِ وَأَنَّهُ كَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ صُلْبًا عَلَى دِينِهِ حَتَّى هلك [ (13) ] .
__________
[ (13) ] رواه ابن هشام في السيرة (4: 186) ونقله ابن كثير في التاريخ (5: 48) .

(5/329)


بَابُ وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ [ (1) ]
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، [قَالَ] : [ (2) ] : حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، [قَالَ] : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، [قَالَ] : حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ، فِيهِمْ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، فَكَانَ مَنْزِلُهُمْ فِي دَارِ امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَأَتَوْا بِمُسَيْلِمَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم، يَسْتُرُونَهُ بِالثِّيَابِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي يَدَهِ عَسِيبٌ [ (3) ] مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَسْتُرُونَهُ بِالثِّيَابِ كَلَّمَهَ وَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْعَسِيبَ الَّذِي فِي يَدِي مَا أَعْطَيْتُكَهُ.
__________
[ (1) ] انظر في وفد بني حنيفة:
- طبقات ابن سعد (1: 316) .
- سيرة ابن هشام (4: 178) .
- تاريخ الطبري (3: 137) .
- عيون الأثر (2: 299) .
- صحيح البخاري (6: 2- 4) .
- البداية والنهاية (5: 48) .
- شرح المواهب (4: 19) .
[ (2) ] الزيادة من (ك) ، وكذا في بقية الإسناد.
[ (3) ] العسيب: جريد النخل.

(5/330)


قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ لِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَدِيثَهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ هَذَا، زَعَمَ أَنَّ وَفْدَ بَنِي حَنِيفَةَ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَلَّفُوا مُسَيْلِمَةَ فِي رَحْلِهِمْ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا ذَكَرُوا لَهُ مَكَانَهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا قَدْ خَلَّفْنَا صَاحِبًا لَنَا فِي رِحَالِنَا، وَرِكَابِنَا يَحْفَظُهَا لَنَا، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ لِلْقَوْمِ، وَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بِأَشَرِّكُمْ مَكَانًا، يَعْنِي لِحِفْظِهِ ضَيْعَةَ أَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ الَّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَجَاءَهُ بِالَّذِي أَعْطَاهُ، فَلَمَّا قَدِمُوا الْيَمَامَةَ ارْتَدَّ عَدُوُّ اللهِ، وَتَنَبَّأَ، وَقَالَ: إِنِّي أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَهُ أَلَمْ يَقُلْ لَكُمْ حِينَ ذَكَرْتُمُونِي لَهُ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بِأَشَرِّكُمْ مَكَانًا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَسْجَعُ السَّجَاعَاتِ فَيَقُولُ لَهُمْ فِيمَا يَقُولُ مُضَاهَاةً لِلْقُرْآنِ لَقَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَى الْحُبْلَى، أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى بَيْنَ صِفَاقٍ وَحَشَا، وَوَضَعَ عَنْهُمُ الصَّلَاةَ، وَأَحَلَّ لَهُمُ الْخَمْرَ وَالزِّنَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَشْهَدُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَصْفَقَتْ مَعَهُ حَنِيفَةُ عَلَى ذَلِكَ [ (4) ] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ كَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم:
مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللهِ! إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، وَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الْأَمْرِ، وَلِقُرَيْشٍ نِصْفَ الْأَمْرِ، وَلَكِنْ قُرَيْشٌ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولَانِ بِهَذَا الْكِتَابِ.
فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يَورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ سَنَةِ عشر [ (5) ] .
__________
[ (4) ] رواه ابن هشام في السيرة (4: 189- 190) .
[ (5) ] رواه ابن هشام في السيرة (4: 210- 211) .

(5/331)


وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أَبِي عَمْرٍو، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
فَحَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَهُ رَسُولَا مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ بِكِتَابِهِ يَقُولُ لَهُمَا وَأَنْتُمَا تَقُولَانِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ؟ قَالَا: نَعَمْ، فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا [ (6) ] .
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: جَاءَ ابْنُ النَّوَّاحَةِ وَابْنُ أَثَالٍ رَسُولَيْنِ لمُسَيْلِمَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمَنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، وَلَوْ كُنْتُ قَاتِلًا رَسُولًا لَقَتَلْتُكُمَا [ (7) ] .
قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَمَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ فَأَمَّا ابْنُ أَثَالٍ فَقَدْ كَفَانَا اللهُ وَأَمَّا ابْنُ النَّوَّاحَةِ فَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي حَتَّى أَمْكَنَ اللهُ تَعَالَى منه.
قلت: أما تمامة بْنُ أَثَالٍ فَإِنَّهُ أَسْلَمَ وَقَدْ مَضَى الْحَدِيثُ فِي إِسْلَامِهِ.
وَأَمَّا ابْنُ النَّوَّاحَةِ فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَتَلَهُ بِالْكُوفَةِ حِينَ أَمْكَنَ اللهُ مِنْهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّاءَ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ:
__________
[ (6) ] رواه ابن هشام في السيرة (4: 210) .
[ (7) ] أخرجه النسائي في السير (الكبرى) ، عن ابي قدامة السرخسي، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سفيان، وأشار اليه المزي في تحفة الاشراف (7: 48) .

(5/332)


مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللهِ ابن مَسْعُودٍ، فَقَالَ: إِنِّي مَرَرْتُ بِبَعْضِ مَسَاجِدِ بَنِي حَنِيفَةَ وهم يقرؤون قِرَاءَةً مَا أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّاحِنَاتُ طَحْنًا وَالْعَاجِنَاتُ عَجْنًا، وَالْخَابِزَاتُ خَبْزًا، وَالثَّارِدَاتُ ثَرْدًا وَاللَّاقِمَاتُ لَقْمًا، قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللهِ فَأَتَى بِهِمْ وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا وَرَأْسُهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ النَّوَّاحِ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ فَقُتِلَ، ثُمَّ قَالَ: مَا كُنَّا بِمَحْذُورِ الشَّيْطَانِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا كُنَّا نَحْدِرُهُمْ إِلَى الشَّامِ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَكْفِيَنَاهُمْ.
أَخْبَرَنَا ابْنُ بِشْرَانَ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ، حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ، يَقُولُ: لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْنَا بِهِ لَحِقْنَا بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ لَحْقَنَا بِالنَّارِ، قَالَ [ (8) ] وَكُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ نُلْقِي ذَاكَ وَنَأْخُذُهُ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا حَثْيَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جِئْنَا بِغَنَمٍ فَحَلَبْنَاهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَطَفْنَا بِهِ.
قَالَ: وَكُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ نَقُولُ جَاءَ مُنَصِّلُ الْأَسِنَّةِ لَا نَدَعُ حَدِيدَةً فِيهَا سَهْمٌ وَلَا حَدِيدَةً فِي رُمْحٍ إِلَّا انْتَزَعْنَاهُ فَأَلْقَيْنَاهُ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ صَلْتِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ [ (9) ] .
__________
[ (8) ] ليست في (ح) .
[ (9) ] صحيح البخاري (6: 4) .

(5/333)


بَابُ رُؤْيَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ وَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَيْنِ، وَتَصْدِيقِ اللهِ سُبْحَانَهُ رُؤْيَاهُ ومَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ آثَارِ النُّبُوَّةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ فِي الْأَمَالِي، أَخْبَرَنِي أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ عبيد ابن إِبْرَاهِيمَ الْحَافِظُ، بِهَمْدَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ دِيزِيلُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ اتَّبَعْتُهُ، وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَفِي يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِطْعَةُ جَرِيدٍ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ وَأَصْحَابِهِ فَقَالَ: إِنْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللهُ، وَإِنِّي أَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيْتُ، وَهَذَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ يُجِيبُكَ عَنِّي، ثُمَّ انْصَرَفَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَأَلْتُ عَنْ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ إِنَّكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيْتُ، فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِيَ يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا، فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنِ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا: كَذَّابَيْنَ يَخْرُجَانِ مِنْ بَعْدِي، فَهَذَا أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ صَاحِبُ صَنْعَاءَ، وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةُ صَاحِبُ الْيَمَامَةِ.

(5/334)


رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ [ (1) ] . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ [ (2) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمَشٍ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ ابن الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَقَالَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلَيَّ، وَأَهَمَّانِي، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبَ صَنْعَاءَ، وصَاحِبُ الْيَمَامَةِ] [ (3) ] .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ نَصْرٍ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ [ (4) ] ، وَقَدْ صَدَّقَ اللهُ تَعَالَى رُؤْيَا رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ، أَمَّا الْأَسْوَدُ صَاحِبُ صَنْعَاءَ فَإِنَّهُ قَتَلَهُ فَيْرُوزُ بْنُ الدَّيْلَمِيِّ.
أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْمُبَارَكِ الصَّنْعَانِيُّ، وعيسى ابن مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ- كَانَ جَاوَرَ بِمَكَّةَ حَتَّى مَاتَ- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّنْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بُزُرْجَ، قَالَ: خَرَجَ أَسْوَدُ الْكَذَّابُ وَكَانَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَنْسٍ، وَكَانَ مَعَهُ شَيْطَانَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا سُحَيْقٌ،
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في: 64- كتاب المغازي، (71) باب قصة الأسود العنسي، الحديث (9378) ، و (9379) ، وفي: 61- كتاب المناقب، (25) باب علامات النبوة في الإسلام، وفي التوحيد أيضا عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي حسين، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ.
[ (2) ] مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ في: 42- كتاب الرؤيا، (4) باب رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم، الحديث (21) ، ص (4: 1780- 1781) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين ساقط من (ح) .
[ (4) ] أخرجه البخاري في: 64- كتاب المغازي، (70) بَابُ وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ، ومسلم في: 42- كتاب الرؤيا، (4) باب رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم الحديث (22) ، ص (1781) .

(5/335)


وَالْآخَرِ شُقَيْقٌ، وَكَانَا يُخْبِرَانِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ يَحْدُثُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، فَسَارَ الْأَسْوَدُ حَتَّى أَخَذَ ذِمَارَ، وَكَانَ بَاذَانُ إِذْ ذَاكَ مَرِيضًا بِصَنْعَاءَ، فَلَمَّا مَاتَ، جَاءَ الْأَسْوَدَ شَيْطَانُهُ وَهُوَ عَلَى قَصْرِ ذِمَارَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَوْتِ بَاذَانَ، فَنَادَى الْأَسْوَدُ فِي قَوْمِهِ: يَا آلَ يَحَابِرَ، وَيَحَابِرُ فَخِذٌ مِنْ مُرَادٍ: إِنَّ سُحَيْقًا قَدْ أَجَارَ ذِمَارَ، وَأَبَاحَ لَكُمْ صَنْعَاءَ.
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي خُرُوجِهِ إِلَى صَنْعَاءَ وَأَخْذِهِ صَنْعَاءَ، وَاسْتِنْكَاحِهِ الْمَرْزُبَانَةَ امْرَأَةَ بَاذَانَ، وَإِرْسَالِهَا إِلَى دَاذَوَيْهِ خَلِيفَةِ بَاذَانَ، وَفَيْرُوزَ، وَخُرَّزَاذَ بْنِ بُزُرْجَ وَجُرْجُسْتَ هَذَا الشَّيْطَانُ فَائْتَمِرُوا بِهِ وَأَنَا أَكْفِيكُمُوهُ، وَأَنَّهُمُ ائْتَمِرُوا بِقَتْلِهِ مَعَ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، فَاجْتَمَعَ دَاذَوَيْهِ وَفَيْرُوزُ وَأَصْحَابُهُمَا، وَكَانَ عَلَى بَابِ الْأَسْوَدِ أَلْفُ رَجُلٍ يَحْرُسُونَهُ، فَجَعَلْتِ الْمَرْزُبَانَةُ تَسْقِيهِ خَمْرًا صِرْفًا فَكُلَّمَا قَالَ: شُوبُوهُ، صَبَّتْ عَلَيْهِ مِنْ خَمْرٍ كَانَ حَتَّى سَكِرَ، فَدَخَلَ فِي فِرَاشِ بَاذَانَ، وَكَانَ مِنْ رِيشٍ. فَانْقَلَبَ عَلَيْهِ الْفِرَاشُ وَجَعَلَ دَاذَوَيْهِ وَأَصْحَابُهُ يَنْضَحُونَ الْجِدَارَ بِالْخَلِّ وَيَحْفِرُونَهُ مِنْ نَحْوِ بُيُوتِ أَهْلِ بُزُرْجَ بِحَدِيدَةٍ، حَتَّى فَتَحُوهُ قَرِيبًا مِنْهُ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِ دَاذَوَيْهِ وَجُرْجُسْتَ، فَلَمْ يُرْزَقَا قَتَلَهُ، فَخَرَجَا فَدَخَلَ فَيْرُوزُ وَابْنُ بُزُرْجَ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِمَا الْمَرْأَةُ: أَنَّهُ فِي الْفِرَاشِ، فَتَنَاوَلَ فَيْرُوزُ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ فَعَصَرَ عُنُقَهُ فَدَقَّهَا وَطَعَنَهُ ابْنُ بُزُرْجَ بِالْخِنْجَرِ فَشَقَّهُ مِنْ تَرْقُوَتِهِ إِلَى عَانَتِهِ، ثُمَّ احْتَزَّ رَأْسَهُ، وَخَرَجُوا وَأَخْرَجُوا الْمَرْأَةَ مَعَهُمْ وَمَا أَحَبُّوا مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ [ (5) ] .
وَأَمَّا قَتَلُ مُسَيْلِمَةَ فِي حَرْبِ الْيَمَامَةِ فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ مَشْهُوَرٌ وَسَنَأْتِي عَلَيْهِ فِي ذِكْرِ أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
__________
[ (5) ] المعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان (3: 262) .

(5/336)


باب وفد طيّء [ (1) ] مِنْهُمْ زَيْدُ الْخَيْلِ وَعَدِيُّ ابن حَاتِمٍ وَمَا قَالَ لِزَيْدٍ وَإِخْبَارِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدِيًّا بِبَعْضِ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ وَمَا ظَهَرَ فِيهِ مِنْ آثَارِ النُّبُوَّةِ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم وفد طيّء فِيهِمْ: زَيْدُ الْخَيْلِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ كَلَّمُوهُ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم الإسلام، فَأَسْلَمُوا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ذُكِرَ لِي رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ بِفَضْلٍ ثُمَّ جَاءَنِي إِلَّا رَأَيْتُهُ دُونَ مَا يُقَالُ لِي فِيهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ زَيْدِ الْخَيْلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ كُلَّمَا كَانَ فِيهِ» ثُمَّ سَمَّاهُ زَيْدَ الْخَيْرِ، وَقَطَعَ لَهُ كَذَا وَكَذَا وَأَرَضِينَ مَعَهُ، وَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ كِتَابًا، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أن يَنْجُ زَيْدٌ مِنْ حُمَّى
__________
[ (1) ] انظر في وفد طيء:
- ابن سعد (1: 321) .
- سيرة ابن هشام (4: 188) .
- عيون الأثر (2: 301) .
- تاريخ الطبري (3: 111) .
- نهاية الأرب (18: 76) .
- البداية والنهاية (5: 63) .
- شرح المواهب (4: 25) .

(5/337)


الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ» ! يُقَالُ قَدْ سَمَّاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمٍ غَيْرِ الْحُمَّى، وَغَيْرِ أُمِّ مِلْدَمٍ، فَلَمْ يُثْبِتْهُ، فَلَمَّا انْتَهَى مِنْ بَلَدِ نَجْدٍ إِلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِ، يُقَالُ لَهُ: قِرَدَةُ أَصَابَتْهُ الْحُمَّى فَمَاتَ بِهَا، فَلَمَّا مَاتَ عَمَدْتِ امْرَأَتُهُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ كُتُبٍ مَعَهُ فَحَرَّقَتْهَا بِالنَّارِ. [ (2) ]
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَفِرَارَهُ وَأَخْذَ خَيْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُخْتَهُ وَقُدُومَهُمْ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم] مَنَّ عَلَيْهَا وَكَسَاهَا وَأَعْطَاهَا نَفَقَةً، فَخَرَجَتْ مَعَ رَكْبٍ حَتَّى قَدِمَتِ الشَّامَ وَأَشَارَتْ عَلَى أَخِيهَا بِالْقُدُومِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ قَدِمَ عليه وأسلم [ (3) ] .
__________
[ (2) ] رواه ابن هشام في السيرة (4: 188) ، ونقله ابن كثير في التاريخ (5: 63) .
[ (3) ] وتفصيل الخبر رواه ابن هشام في السيرة (4: 189) ، قال:
وأما عدي بن حاتم فكان يقول- فيما بلغني-: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ به مني، أما أنا فكنت امرأ شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير في قومي بالمرباع، فكنت في نفسي على دين، وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي، فلما سمعت بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي وكان راعيا لإبلي: لا أبالك، أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا فاحتبسها قريبا مني فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني، ففعل. ثم (إنه) أتاني ذات غداة فقال: يا عدي، ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد. قال: فقلت: فقرب إليّ أجمالي، فقربها، فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الجوشية، (ويقال: الحوشية، فيما قال ابن هشام) وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر. فلما قدمت الشام أقمت بها، وتخالفني خيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سبايا من طيء، وقد بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هربي إلى الشام.
قال: فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا تحبس فيها، فمر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة، فقال: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليّ منّ الله عليك.
قال: «ومن وافدك؟» قالت: عدي بن حاتم، قال: «الفار من الله ورسوله؟» قالت: ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتركني، حتى إذا كان من الغد مر بي، فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس. قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بي، وقد يئست منه، فأشار إليّ رجل من خلفه: أن قومي فكلميه. قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليّ منّ الله عليك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون

(5/338)


أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله ابن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،
__________
[ () ] لك ثقة حتى يبلغك الى بلادك ثم آذنيني» . فسألت عن الرجل الذي أشار الى ان أكمله، فقيل:
علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأقمت حتى قدم ركب من بلى أو قضاعة. قالت: وإنما أريد أن اتي أخي بالشام، قالت: فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، قال: فكساني رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وحملني، وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام. قال عدي: فو الله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إليّ تؤمنا، قال:
فقلت: ابنة حاتم؟ قال: فإذا هي هي، فلما وقفت عليّ انسحلت تقول: القاطع، الظالم، احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك عورتك، قال: قلت: أي أخيه لا تقولي إلا خيرا، فو الله مالي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت. قال: ثم نزلت، فأقامت عندي، فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا، فان يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن وأنت أنت. قال: قلت: والله إن هذا للرأي. قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: «من الرجل» ؟ فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وانطلق بي إلى بيته، فو الله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها. قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك، قال: ثم مضى بي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى (إذا) دخل بي بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا، فقذفها إلي، فقال: «اجلس على هذه» .
قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: «بل أنت» . فجلست عليها، وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك. ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم ألم تك ركوسيا؟» قال: قلت: بلى، قال: «أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟» قال: قلت: بلى، قال: «فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك» . قال: قلت: أجل والله، وعرفت انه نبي مرسل يعلم ما يجهل. ثم «لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فو الله ليوشكن المال ان يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها (حتى) تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى ان الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم» . قال:
فأسلمت، وكان عدي يقول: قد مضت اثنتان، وبقيت الثالثة، وو الله لتكونن: قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وايم الله لتكونن الثالثة: ليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه.

(5/339)


قَالَ: سَمِعْتُ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: [ (4) ] .
جَاءَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ رُسُلَهُ وَأَنَا بِعَقْرَبٍ فَأَخَذُوا عَمَّتِي، وَنَاسًا، قَالَ: فَلَمَّا أَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصُفُّوا لَهُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! غَابَ الْوَافِدُ، وَانْقَطَعَ الْوَلَدُ، وَأَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ مَا بِي مِنْ خِدْمَةٍ، فَمُنَّ عَلَيَّ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ، قَالَ: مَنْ وَافِدُكِ؟ قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: الَّذِي فَرَّ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَتْ: فَمُنَّ عَلَيَّ، قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعَ وَرَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ تَرَى أَنَّهُ عَلِيٌّ قَالَ: سَلِيهِ حِمْلَانًا، قَالَ: فَسَأَلَتْهُ فَأَمَرَ لَهَا بِهِ، قَالَ: فَأَتَتْنِي فَقَالَتْ: لَقَدْ فَعَلْتَ فَعْلَةً مَا كَانَ أَبُوكَ يَفْعَلُهَا ائْتِهِ رَاغِبًا أَوْ رَاهِبًا، فَقَدْ أَتَاهُ فُلَانٌ فَأَصَابَ مِنْهُ، قَالَ:
فَأَتَيْتُهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ امْرَأَةٌ وَصِبْيَانٌ أَوْ صَبِيٌّ، فَذَكَرَ قُرْبَهُمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم، قَالَ:
فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ مُلْكَ كِسْرَى، وَلَا قَيْصَرَ، فَقَالَ لِي: يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ مَا أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَهَلْ مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ، مَا أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ اللهُ أَكْبَرُ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنَ اللهِ، فَأَسْلَمْتُ فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ اسْتَبْشَرَ، وَقَالَ: إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الْيَهُوَدُ، وَإِنَّ الضَّالِّينَ النَّصَارَى، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَلَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ تَرْضَخُوا مِنَ الْفَضْلِ ارْتَضَخَ امْرُؤٌ بِصَاعٍ، بِبَعْضِ صَاعٍ، بِقَبْضَةٍ، بِبَعْضِ قَبْضَةٍ، قَالَ شُعْبَةُ: وَأَكْثَرُ عِلْمِي أَنَّهُ قَالَ:
بِتَمْرَةٍ، بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَإِنْ أَحَدَكُمْ لَاقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَقَائِلٌ مَا أَقُولُ: أَلَمْ أَجْعَلْكَ سَمِيعًا بَصِيرًا؟ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالًا وَوَلَدًا؟ فَمَاذَا قَدَّمْتَ؟ فَيَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ، فَلَا يَجِدُ شَيْئًا، فَمَا يَتَّقِي النَّارَ إِلَّا بِوَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَبِكَلِمَةٍ لَيِّنَةٍ، إِنِّي لَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَاقَةَ لَيَنْصُرَنَّكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ لَيُعْطِيَنَّكُمْ، أَوْ لَيَفْتَحُ لَكُمْ حَتَّى تَسِيرَ الظعينة
__________
[ (4) ] أخرجه بطوله الإمام أحمد في «مسنده» (4: 378- 379) ، وبعضه باختلاف يسير في الترمذي في تفسير سورة الفاتحة الحديث (2953) ، ص (5: 202- 204) ، وقال: «حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك» .

(5/340)


بَيْنَ الْحِيرَةِ وَيَثْرِبَ أَوْ أَكْثَرُ مَا تَخَافُ السَّرِقَةَ عَلَى ظَعِينَتِهَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُوسُفَ الْعُمَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عُبَيْدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ صُرَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ وهما الثُّمَالِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ ابن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا سُبْحَانَ اللهِ! مَا أَزْهَدَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فِي خَيْرٍ عَجَبًا، لِرَجُلٍ يَجِيئُهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فِي الْحَاجَةِ فَلَا يَرَى نَفْسَهُ لِلْخَيْرِ أَهْلًا، فَلَوْ كَانَ لَا يَرْجُو ثَوَابًا وَلَا يَخْشَى عِقَابًا لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يسَارِعَ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى سُبُلِ النجاحِ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: نَعَمْ، وَمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ: لمّا أتى بسبايا طيّء وَقَفَتْ جَارِيَةٌ حَمْرَاءُ لَعْسَاءُ ذَلْفَاءُ عَيْطَاءُ، شَمَّاءُ الْأَنْفِ، مُعْتَدِلَةُ الْقَامَةِ وَالْهَامَةِ، دَرْمَاءُ الْعَيْنِ، خَدِلَةُ السَّاقَيْنِ، لَفَّاءُ الْفَخِذَيْنِ، خَمِيصَةُ الْخَصْرَيْنِ، ضَامِرَةُ الْكَشْحَيْنِ، مَصْقُولَةُ الْمَتْنَيْنِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا أُعْجَبْتُ بِهَا وقلت: لا طلبنّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْعَلَهَا فِي فَيْئِي فَلَمَّا تَكَلَّمَتْ أُنْسِيتُ جَمَالَهَا لِمَا رَأَيْتُ مِنَ فَصَاحَتِهَا، فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ! إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُخَلِّىَ عَنَّا وَلَا تُشْمِتْ بِي أَحْيَاءَ الْعَرَبِ فَإِنِّي ابْنَةُ سَيِّدِ قَوْمِي، وَإِنَّ أَبِي كَانَ يَحْمِي الذِّمَارَ، وَيَفُكُّ الْعَانِي، وَيُشْبِعُ الْجَائِعَ، وَيَكْسُو الْعَارِي، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيُفْشِي السَّلَامَ، وَلَا يَرُدُّ طَالِبَ حَاجَةٍ قَطُّ، أَنَا ابْنَةُ حَاتِمِ طيّء، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا جَارِيَةُ! هَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا لَوْ كَانَ أَبُوكِ مُسْلِمًا لَتَرَحَّمْنَا عَلَيْهِ، خَلُّوا عَنْهَا فَإِنَّ أَبَاهَا كَانَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَاللهُ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ دينار، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلَّا بحسن الخلق [ (5) ] .
__________
[ (5) ] نقله الحافظ ابن كثير عن المصنف. البداية والنهاية (5: 67- 68) ، وقال: «هذا حديث حسن المتن، غريب الإسناد جدا، عزيز المخرج» .

(5/341)


أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ: عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ يَعْنِي ابْنَ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ حُذَيْفَةَ، قَالَ رَجُلٌ: كُنْتُ أَسْأَلُ النَّاسَ عَنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي لَا أَسْأَلُهُ، فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَرِهْتُهُ أَشَدَّ مَا كَرِهْتُ شَيْئًا قَطُّ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْصَى أَرْضِ الْعَرَبِ مِمَّا يَلِي الرُّومَ، ثُمَّ كَرِهْتُ مَكَانِي أَشَدَّ مِمَّا كَرِهْتُ مَكَانِيَ الْأَوَّلَ، فَقُلْتُ: لَوْ أَتَيْتُهُ فَسَمِعْتُ مِنْهُ فَأَتَيْتُهُ فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فاسْتَشْرَفَنِيَ النَّاسُ، وَقَالُوا: جَاءَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ، جَاءَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ! أَسْلِمْ تَسْلَمْ، فَقُلْتُ إِنِّي عَلَى دِينٍ، قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَذَا ثَلَاثًا، قَالَ:
أَلَسْتَ رَكُوسِيًّا [ (6) ] ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَلَسْتَ تَرْأَسُ قَوْمَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ:
أَلَسْتَ تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ [ (7) ] ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ، قَالَ: فَوَجَدْتُ بِهَا عَلَيَّ غَضَاضَةً.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَمْنَعَكَ أَنْ تُسْلِمَ أَنْ تَرَى بِمَنْ عِنْدَنَا خَصَاصَةً، وَتَرَى النَّاسَ عَلَيْنَا إِلْبًا وَاحِدًا، هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ عَلِمْتُ مَكَانَهَا، قَالَ: فَإِنَّ الظَّعِينَةَ سَتَرْحَلُ مِنَ الْحِيرَةِ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ بِغَيْرِ جِوَارٍ، وَلَتُفْتَحَنَّ عَلَيْنَا كُنُوزُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، قُلْتُ: كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ: كُنُوزُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلَيَفِيضَنَّ الْمَالُ حَتَّى يَهُمَّ الرَّجُلُ مَنْ يَقْبَلُ مَالَهُ مِنْهُ صَدَقَةً، قَالَ: فَقَدْ رَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْحَلُ مِنَ الْحِيرَةِ بِغَيْرِ جِوَارٍ، وَكُنْتُ فِي أَوَّلِ خَيْلٍ أَغَارَتْ عَلَى الْمَدَائِنِ وو والله لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةَ إِنَّهُ لَحَدِيثُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم [ (8) ] .
__________
[ (6) ] (الركوسية) قوم لهم دين بين دين النصارى والصابئين.
[ (7) ] (المرباع) ربع الغنيمة.
[ (8) ] سيرة ابن هشام (4: 191) ، ونقله ابن كثير في التَّارِيخَ (5: 63- 64) .

(5/342)


وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سَعِيدِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ [قَالَ] [ (9) ] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ [قَالَ] :
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، عَنْ رَجُلٍ كَانَ يُسَمَّى اسْمَيْنِ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ.
وأَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ البوسنجي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ الْفَرَّاءُ:
مَحْبُوبُ بْنُ مُوسَى، أَنْبَأَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ محمد ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَمِمَّا زَادَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمِ فَلَمَّا رَآنِي قَامَ قَائِمًا وَأَخَذَ الْوِسَادَةَ فَأَلْقَاهَا إِلَيَّ فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا وَجَلَسَ هُوَ بِالْأَرْضِ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ صَنَعَ مَا صَنَعَ وَقَعَتْ عَلَيَّ غَضَاضَةٌ وَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ يُرِيدُ عُلُوَّا فِي الدُّنْيَا وَلَا فَسَادًا [ (10) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَدِيبُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ زَاجٌ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ أَنْبَأَنَا سَعْدٌ الطَّائِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَشَكَاهُ قَطْعَ السَّبِيلِ، قَالَ: يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ! هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ؟ قُلْتُ لَمْ أَرَهَا وَقَدْ أُنْبِئْتُ
__________
[ (9) ] الزيادة من (ك) .
[ (10) ] موجودة في سيرة ابن هشام، في الموضع السابق.

(5/343)


عَنْهَا، قَالَ: فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَمُرَّنَّ الظَّعِينَةُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحِيحُ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللهَ- قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وبين نفسي فأين زعّار طيء الَّذِينَ سَعَّرُوا الْبِلَادَ- وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى، قُلْتُ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، قَالَ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفَّيْهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ، وَلَيَلْقَيَنَّ اللهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ، قَالَ عَدِيٌّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اتَّقُوا النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ تَمْرَةً فَبِكَلِمَةٍ طَيْبَةٍ.
قَالَ عَدِيٌّ: قَدْ رَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْكُوفَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللهَ، وَكُنْتُ فيمن افتح كُنُوزَ ابْنِ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ سَتَرَوْنَ مَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ [ (11) ] وأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أَنْبَأَنَا أَبُو سَهْلِ بْنُ زِيَادٍ النَّحْوِيُّ بِبَغْدَادَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ السَّقَطِيُّ حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أنبأنا سفيان الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ بِكُمْ إِذَا خَرَجَتِ الظَّعِينَةُ مِنْ قُصُورِ الْيَمَنِ حَتَّى تَأْتِيَ الْحِيرَةَ لَا تَخَافُ إِلَّا اللهَ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَأَيْنَ طيء وَخَيْلُهَا وَرِجَالُهَا وَمَقَانِبُهَا؟ قَالَ: إِذًا يَكْفِيكَ اللهُ طَيِّئًا وَمَنْ سِوَاهَا.
وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَنْبَأَنَا أَبُو سَهْلٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا حَامِدٌ، حدثنا سفيان،
__________
[ (11) ] أخرجه الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ في: 61- كتاب المناقب (25) باب علامات النبوة في الإسلام، الحديث (3595) ، فتح الباري (6: 610- 611) .

(5/344)


عَنْ بَيَانِ بْنِ بِشْرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم، نَحْوَهُ وَزَادَ فِيهِ: لَا تَخَافُ إِلَّا اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهَا.
قَالَ عَدِيٌّ: فَأَشْهَدُ لَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ خَرَجَتْ مِنْ صَنْعَاءَ حَتَّى نَزَلَتِ الْحِيرَةَ لَا تَخَافُ شَيْئًا إِلَّا اللهَ تَعَالَى.

(5/345)


بَابُ قُدُومِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ [ (1) ] عَلَى النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَإِخْبَارِهِ أَصْحَابَهُ فِيمَا بَيْنَ خُطْبَتِهِ بِدُخُولِهِ عَلَى صِفَتِهِ ثُمَّ دُعَائِهِ لَهُ حِينَ بَعَثَهُ فِي رِجَالٍ مِنْ أَحْمَسَ إِلَى ذِي الْخَلَصَةِ وَمَا ظَهَرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا [مِنْ] آثَارِ النُّبُوَّةِ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا حَمْزَةُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَقَبِيُّ بِبَغْدَادَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ (ح) .
وَأَنْبَأَنَا أَبُو حَازِمٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَبْدَوِيُّ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو أَحْمَدَ: مُحَمَّدُ ابن مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ: الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ يونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شِبْلٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَمَّا دَنَوْتُ مِنْ مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَخْتُ رَاحِلَتِي، وَحَلَلْتُ عَيْبَتِي [ (2) ] فَلَبِسْتُ حُلَّتِي، فَدَخَلْتُ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَمَانِي النَّاسُ بِالْحَدَقِ، فَقُلْتُ لِجَلِيسِي: يَا عَبْدَ اللهِ! هَلْ ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم مِنْ أَمْرِي شَيْئًا؟ قَالَ [ (3) ] : نَعَمْ ذَكَرَكَ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إِذْ عَرَضَ لَهُ في
__________
[ (1) ] هو جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بن جابر بن مالك بن نضر بن ثعلبة، البجلي الصحابي يكنى أبا عمرو، وقيل:
يكنى: أبا عبد الله. له ترجمة في الإصابة، واسد الغابة.
[ (2) ] (العيبة) : ما يجعل المسافر فيه ثيابه.
[ (3) ] أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (4: 360- 364) ، والطبراني برجال ثقات.

(5/346)


خُطْبَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَوْ مِنْ هَذَا الْفَجِّ مِنْ خَيْرِ ذِي يَمَنٍ، وَإِنَّ عَلَى وَجْهِهِ لَمِسْحَةَ مَلَكٍ فَحَمِدْتُ اللهَ عَلَى مَا أَبْلَانِي.
لَفْظُ حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو: عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ السَّمَّاكِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَلَّامٍ السَّوَّاقُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الخراسانيّ، حدثنا حسين بْنُ عُمَرَ الْأَحْمَسِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: يَا جَرِيرُ! لِأَيِّ شَيْءٍ جِئْتَ؟
قُلْتُ: جِئْتُ لَأُسْلِمَ عَلَى يَدَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَأَلْقَى إِلَيَّ كِسَاءً، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ» ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا جَرِيرُ! أَدْعُوكَ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، وَأَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَتُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ» ، قَالَ: فَفَعَلْتُ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَرَانِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي [ (4) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْفَرَّاءُ، أَنْبَأَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ (ح) .
وَأَنْبَأَنَا أَبُو النَّضْرِ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قال:
__________
[ (4) ] رواه الطبراني وابن سعد عن جرير، ونقله ابن كثير في تاريخه (5: 78) عن المصنف، وقال:
«هذا حديث غريب من هذا الوجه» .

(5/347)


قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةَ [ (5) ] ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كِفْلٌ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، قَالَ: فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا» .
قَالَ: فَسِرْتُ إِلَيْهَا فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ أَحْمَسَ، فَأَتَيْنَاهَا، فَحَرَّقْنَاهَا نَارًا، قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ لَهَا كَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ قَدْ سُيِّرَتْ فِيهَا نُصُبٌ لَهُمْ، قَالَ قَيْسٌ فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ أَحْمَسَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا، كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ. قَالَ: فَبَارَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ، قَالَ قَيْسٌ: فَبَعَثَ جَرِيرٌ بَشِيرًا. أَبَا أَرْطَاةَ- لَفْظُ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ خَالِدٍ [ (6) ] .
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ أَوْجُهٍ عَنِ إسماعيل [ (7) ] .
__________
[ (5) ] (الخلصة) : بفتح الخاء المعجمة، واللام المهملة، وهو نبات له حب احمر، وذو الخلصة اسم البيت الذي فيه الصنم.
[ (6) ] أخرجه البخاري عن مسدد في: 56- كتاب الجهاد، (154) باب حرق الدور، والنخيل، الحديث (3020) ، فتح الباري (6: 154) ، والبخاري عن مسدد أيضا مختصرا في: 64- كتاب المغازي (62) باب غزوة ذي الخلصة، الحديث (4355) ، فتح الباري (8: 70) .
[ (7) ] البخاري: فتح الباري الموضع السابق، الحديث (4356) ومسلم فِي: 44- كِتَابِ فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ، (29) باب من فضائل جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، الحديث (137) ، (4: 1926) .

(5/348)


بَابُ قُدُومِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ [ (1) ]
ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ حُجْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ أُمِّهِ أُمِّ يَحْيَى، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، قَالَ:
بَلَغَنَا ظُهُورُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي مُلْكٍ عَظِيمٍ وَطَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، فَرَفَضْتُ ذَلِكَ وَرَغِبْتُ فِي اللهِ وَفِي رَسُولِهِ وَفِي دِينِهِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنِي أَصْحَابُهُ أَنَّهُ بَشَّرَهُمْ بِمَقْدَمِي قَبْلَ أَنْ أَقْدَمَ بِثَلَاثٍ وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَهُ فِي التَّارِيخِ [ (2) ] .
__________
[ (1) ]
قال ابن عبد البر: هو وائل بن حجر بن ربيعة بن وائل الحضرمي يكنى أبا [هنيدة، الحضرمي] ، وكان قيلا من أقيال حضرموت، وكان أبوه من ملوكهم، وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُقَالُ إنه بشر به أصحابه قبل قدومه فقال: «يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضرموت طائعا راغبا فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي رسوله وهو بقية أبناء الملوك» . فلما دخل عليه رحب به وأدناه من نفسه على مقعده.
[ (2) ]
في «التاريخ الكبير» (4: 175- 176) ، ورواه البزار، والطبراني، وبقية الخبر.
بَلَغَنَا ظُهُورِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا في بلد عظيم ورفاهية عظيمة فرفضت ذلك، ورغبت إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وإلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فلما قدمت عليه اخبرني أصحابه انه بشر بمقدمي عليهم قبل أن اقدم بثلاث ليال، قال الطبراني: فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم سلمت عليه فرد عليّ، وبسط لي رداءه وأجلسني عليه، ثم صعد منبره وأقعدني معه ورفع يديه وحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلّى على النبي صلّى الله عليه وسلم- واجتمع الناس إليه فقال لهم: «يا أيها الناس، هذا وائل بن حجر قد أتاكم من أرض بعيدة، من حضرموت، طائعا غير مكره، راغبا في الله ورسوله وفي دين بيته، بقية أبناء الملوك» فقلت: يا

(5/349)


__________
[ () ] رسول الله، ما هو إلا أن بلغنا ظهورك، ونحن في ملك عظيم وطاعة، وأتيتك راغبا في دين الله، فقال: «صدقت» . وعن وائل حجر قال: جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «هذا وائل بن حجر جاء حبا لله ولرسوله» وبسط يده وأجلسه وضمه اليه وأصعده المنبر، وخطب الناس فقال: «ارفقوا به فإنه حديث عهد بالملك» . فقلت إن أهلي غلبوني على الذي لي فقال: «أنا أعطيكه وأعطيك ضعفه» .
وروى الطبراني، وأبو نعيم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصعده اليه على المنبر، ودعا له، ومسح رأسه وقال: «اللهم بارك في وائل وولد ولده» ونودي: الصلاة جامعة، ليجتمع الناس سرورا بقدوم وائل ابن حجر الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم معاوية بن أبي سفيان ان ينزله منزلا بالحرة فمشى معه، ووائل راكب، فقال له معاوية: اردفني خلفك-[وشكا إليه حر الرمضاء] قال: لست من أرداف الملوك. قال: فألق الي نعليك. قال: لا، إني لم أكن لألبسهما وقد لبستهما. قال: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي. قال: امشي في ظل ناقتي، كفاك به شرفا.

(5/350)


بَابُ قُدُومِ الْأَشْعَرِيِّينَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَقْدَمُ قَوْمٌ هُمْ أَرَقُّ مِنْكُمْ قُلُوبًا فَقَدِمَ الْأَشْعَرِيُّونَ مِنْهُمْ:
أَبُو مُوسَى، فَجَعَلُوا يَرْتَجِزُونَ.
غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّهْ ... مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ
قُلْتُ: وَقَدْ مَضَى قَبْلَ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قُدُومَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَعَ أَصْحَابِهِ كَانَ مع أبي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنْ الْحَبَشَةِ زَمَنَ خَيْبَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَجَعَ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ فَقَدِمَ بِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا طَاهِرٌ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: تَلَوْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ (1) ] فقال لي
__________
[ (1) ] الآية الكريمة (54) من سورة المائدة.

(5/351)


رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ قَوْمُكَ يَا أَبَا مُوسَى أَهْلُ الْيَمَنِ» [ (2) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ بِبَغْدَادَ، أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَضْعَفُ قُلُوبًا، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ، السَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ، وَالْفَخْرُ [ (3) ] وَالْخُيَلَاءُ [ (4) ] فِي الْفَدَّادِينَ [ (5) ] أَهْلِ الْوَبَرِ [ (6) ] ، قِبَلَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ الدَّارِمِيِّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ [ (7) ] .
__________
[ (2) ] رواه السيوطي في الدر المنثور (2: 292) ، وقال: «أخرجه ابو الشيخ، وابن مردويه، والحاكم في جمعه لحديث شعبة والبيهقي» ، وقال القرطبي في تفسيره للآية، قال الحسن وقتادة وغيرهما:
نزلت في أبي بكر الصديق وأصحابه. وقال السدي: نزلت في الأنصار. وقيل: هي إشارة الى قوم لم يكونوا موجودين في ذلك الوقت، وأن أبا بكر قاتل اهل الردة بقوم لم يكونوا وقت نزول الآية، وهم أحياء من اليمن من كندة وبجيلة، ومن أشجع. وقيل: إنها نزلت في الأشعريين، ففي الخبر أنها لما نزلت قدم بعد ذلك بيسير سفائن الأشعريين، وقبائل اليمن من طريق البحر، فكان لهم بلاء في الإسلام في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي الله عنه على يدي قبائل اليمن، هذا أصح ما قيل في نزولها، والله أعلم.
وروى الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللهِ فِي «المستدرك» بإسناده: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى ابي موسى الأشعري لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فقال: هم قوم هذا
قال القشيري: فاتباع ابي الحسن من قومه، لأن كل موضع أضيف فيه قوم إلى نبي أريد به الأتباع.
[ (3) ] الفخر: بفاء مفتوحة فخاء معجمة ساكنة فراء: ادعاء العظم والكبر والشرف.
[ (4) ] الخيلاء: والخيلاء بضم الخاء المعجمة وكسرها: الكبر والعجب.
[ (5) ] الفدّادون: بفاء مفتوحة فدال مهملة مفتوحة مشددة فألف فدال مهملة اخرى: الذين تعلوا أصواتهم في حروثهم ومواشيهم [واحدهم فداد يقال فداد الرجل يفد فديدا إذا اشتد صوته] . وقيل هم المكثرون من الإبل وقيل هم الجمالون والبقارون والحمارون والرعيان. وقيل بتخفيف الدال جمع فدان وهي البقر التي يحرث بها وأهلها اهل جفاء وغلظة.
[ (6) ] الوبر: بواو فموحدة مفتوحتين فراء للإبل بمنزلة الشعر لغيره.
[ (7) ] أخرجه مسلم في: 1- كتاب الإيمان (21) باب تفاضل اهل الإيمان فيه، ورجحان اهل اليمن

(5/352)


أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ (ح) .
وَأَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ الْأِيَادِيُّ بِبَغْدَادَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ خَلَّادٍ النَّصِيبِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرحمن بن محمد ابن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ:
أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ كَأَنَّهُمُ السَّحَابُ، هُمْ خِيَارُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: إِلَّا نَحْنُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا نَحْنُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا نَحْنُ، قَالَ: إِلَّا أَنْتُمْ كَلِمَةً ضَعِيفَةً [ (8) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدَانَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابن سُلَيْمَانَ الْبَاغَنْدِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ (ح) .
وَأَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرٍو الْبِسْطَامِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أَنْبَأَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَبْشِرُوا يَا بَنِي تَمِيمٍ، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ، وَجَاءَ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ، قَالُوا: قَدْ قَبْلِنَا.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ [ (9) ]
__________
[ () ] فيه، الحديث (89) ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي اليمان، عن شعيب، عن الزهري:
... ص (1: 73) .
[ (8) ] رواه الحافظ ابن قيم الجوزي في زاد المعاد، ونقله عنه الصالحي في السيرة الشامية (6: 416) .
[ (9) ] الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ في: 64- كتاب المغازي، (74) باب قدوم الأشعريين، الحديث (4386) ، فتح الباري (8: 98) .

(5/353)


بَابُ قُدُومِ الْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ [ (1) ] وَحِكَايَةِ صِفَةِ خُطْبَتِهِ [صلى الله عليه وسلم] يَوْمَ الْجُمُعَةِ
أَخْبَرَنَا ابْنُ قَتَادَةَ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ أَبُو الصَّلْتِ الْحَوْشَبِيُّ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ زُرَيْقٍ الطَّائِفِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ الْكُلْفِيُّ، ولَهُ صُحْبَةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا، قَالَ:
قَدِمْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ سَابِعَ سَبْعَةٍ، أَوْ تَاسِعَ تِسْعَةٍ، قَالَ: فَأَذِنَ لَنَا فَدَخَلْنَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَيْنَاكَ لِتَدْعُوَ لَنَا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَدَعَا لَنَا بِخَيْرٍ، وَأَمَرَ بِنَا فَأُنْزِلْنَا، وَأَمَرَ لَنَا بِشَيْءٍ مِنْ تَمْرٍ، وَالشَّأْنُ يَوْمَئِذٍ إِذْ ذَاكَ دُونٌ، فَلَبِثْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ أَوْ قَالَ: عَصًا، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ طَيِّبَاتٍ خَفِيفَاتٍ مُبَارَكَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ إِنْ تَفْعَلُوا، وَلَنْ تُطِيقُوا كُلَّمَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ سَدِّدُوا وأبشروا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ الْكُلْفِيُّ من بني تميم، وله ترجمة في أسد الغابة (2: 31) .
[ (2) ] الحديث أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب الرجل يخطب على قوس، وأخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (4: 212) .

(5/354)


بَابُ قُدُومِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ [ (1) ] عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا رُوِيَ فِي قِصَّتِهِ مِنْ خُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أُصْبُعَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا ظَهَرَ فِي الْبِئْرِ الَّتِي شَكَا إِلَيْهِ قِلَّةَ مَائِهَا بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ مِنْ آثَارِ النُّبُوَّةِ
أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلْوَشَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْأَسَدَ آبَادِيُّ بِهَا، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ: أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ: بِشْرُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ الْحَارِثِ الصُّدَائِيَّ، صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم يحدث، قَالَ:.
أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى قَوْمِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! ارْدُدِ الْجَيْشَ وَأَنَا لَكَ بِإِسْلَامِ قَوْمِي وَطَاعَتِهِمْ، فَقَالَ لِيَ: اذْهَبْ فَرُدَّهُمْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ رَاحِلَتِي قَدْ كَلَّتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَرَدَّهُمْ.
قَالَ الصُّدَائِيُّ: وَكَتَبْتُ إِلَيْهِمْ كِتَابًا، فَقَدِمَ وَفْدُهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَخَا صُدَاءَ! إِنَّكَ لَمُطَاعٌ فِي قَوْمِكَ، فَقُلْتُ بَلِ اللهُ هَدَاهُمْ لِلْإِسْلَامِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَلَا أُؤَمِّرُكَ عَلَيْهِمْ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رسول
__________
[ (1) ] (صداء) : حي من اليمن، وانظر جمهرة أنساب العرب لابن حزم (388) ، وشرح المواهب (4:
60) ، وعيون الأثر (2: 324) ، وطبقات ابن سعد (1: 326) .

(5/355)


اللهِ، قَالَ: فَكَتَبَ لِي كِتَابًا أَمَّرَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مُرْنِي بِشَيْءٍ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ، قَالَ: نَعَمْ، فَكَتَبَ لِي كِتَابًا آخَرَ، قال الصدايّ: فَكَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ.
وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم مَنْزِلًا فَأَتَاهُ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ يَشْكُونَ عَامِلَهُمْ وَيَقُولُونَ أَخَذَنَا بِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْ فعل ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَأَنَا فِيهِمْ فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي الْإِمَارَةِ لِرَجُلٍ مُؤْمِنٍ.
قال الصّدايّ فَدَخَلَ قَوْلُهُ فِي نَفْسِي، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَعْطِنِي، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَصُدَاعٌ فِي الرَّأْسِ وَدَاءٌ فِي الْبَطْنِ، فَقَالَ السَّائِلُ: فَأَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم:
إن الله عز وجل لَمْ يَرْضَ فِيهَا بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكِ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ أَوْ أَعْطَيْنَاكَ حقك.
قال الصّدايّ فَدَخَلَ ذَلِكَ فِي نَفْسِي أَنِّي سَأَلْتُهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَأَنَا غَنِيٌّ.
ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَشَى [ (2) ] مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ فَلَزِمْتُهُ، وَكُنْتُ قَرِيبًا، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَنْقَطِعُونَ عَنْهُ، وَيَسْتَأْخِرُونَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِي، فَلَمَّا كَانَ أَوَانُ صَلَاةِ الصُّبْحِ، أَمَرَنِي فَأَذَّنْتُ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أُقِيمُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ نَاحِيَةَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْفَجْرِ، فَيَقُولُ: لَا، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَرَّزَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيَّ وَهُوَ يَتَلَاحَقُ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: «هَلْ مِنْ مَاءٍ يَا أخا صداء» ؟ قُلْتُ: لَا إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ لَا يَكْفِيكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ: اجْعَلْهُ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ ائْتِنِي بِهِ، فَفَعَلْتُ فَوَضَعَ كَفَّهُ فِي الْمَاءِ، قَالَ الصُّدَائِيُّ: فَرَأَيْتُ بَيْنَ
__________
[ (2) ] أي سار وقت العشاء.

(5/356)


إصبعين من أصابعه عينا تَفُورُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلَا أَنِّي أَسْتَحِي مِنْ رَبِّي- عَزَّ وَجَلَّ- لَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا، نَادِ أَصْحَابِي مَنْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الْمَاءِ، فَنَادَيْتُ فِيهِمْ فَأَخَذَ مَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم: إِنَّ أَخَا صُدَاءَ هُوَ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ، فَقَالَ الصُّدَائِيُّ:
فَأَقَمْتُ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم الصَّلَاةَ أَتَيْتُهُ بِالْكِتَابَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ! أَعْفِنِي مِنْ هَذَيْنِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَدَا لَكَ، فَقُلْتُ: سَمِعْتُكَ يَا نَبِيَّ اللهِ تَقُولُ: «لَا خَيْرَ فِي الْإِمَارَةِ لِرَجُلٍ [ (3) ] مُؤْمِنٍ وأنا أومن بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، وَسَمِعْتُكَ تَقُولُ لِلسَّائِلِ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَهُوَ صُدَاعٌ فِي الرَّأْسِ وَدَاءٌ فِي الْبَطْنِ» وَسَأَلْتُكَ وَأَنَا غَنِيٌّ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ ذَاكَ، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْبَلْ وَإِنْ شِئْتَ فَدَعْ، فَقُلْتُ: أَدَعُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَدُلَّنِي عَلَى رَجُلٍ أُؤَمِّرْهُ عَلَيْكُمْ، فَدَلَلْتُهُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ فَأَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ لَنَا بِئْرًا إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ وَسِعَنَا مَاؤُهَا، وَاجْتَمَعْنَا عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ قَلَّ مَاؤُهَا فَتَفَرَّقْنَا عَلَى مِيَاهٍ حَوْلَنَا، وَقَدْ أَسْلَمْنَا وَكُلُّ مَنْ حَوْلَنَا لَنَا عَدُوٌّ، فَادْعُ اللهَ لَنَا فِي بِئْرِنَا أَنْ يَسَعَنَا مَاؤُهَا فَنَجْتَمِعَ عَلَيْهَا ولا نتفرق، فَدَعَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَعَرَكَهُنَّ فِي يَدِهِ وَدَعَا فِيهِنَّ، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبُوا بِهَذِهِ الْحَصَيَاتِ فَإِذَا أَتَيْتُمُ الْبِئْرَ فَأَلْقُوا وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَاذْكُرُوا اسْمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الصُّدَائِيُّ: فَفَعَلْنَا مَا قَالَ لَنَا فَمَا اسْتَطَعْنَا بَعْدُ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى قَعْرِهَا يَعْنِي البئر [ (4) ] .
__________
[ (3) ] في (ح) : «إلا لرجل مؤمن» .
[ (4) ] رواه البغوي، وابن عساكر وحسّنه عن زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ، وروى بعضه ابن سعد في الطبقات (1: 326- 327) ، ونقله الصالحي في السيرة الشامية (6: 532- 534) .

(5/357)


بَابُ مَا جَاءَ فِي قُدُومِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ [ (1) ] عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ السُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ: مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَغْدَادِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، أَنْبَأَنَا أَبُو خَالِدٍ يَزِيدُ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ، قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم فَأَتَيْنَاهُ فَأَنَخْنَا بِالْبَابِ وَمَا فِي النَّاسِ أَبْغَضُ إِلَيْنَا مِنْ رَجُلٍ نَلِجُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجْنَا مَا فِي النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ رَجُلٍ دَخَلْنَا عَلَيْهِ، قَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ مِنَّا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَلَا سَأَلْتَ رَبَّكَ مُلْكًا كَمُلْكِ سُلَيْمَانَ؟ قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: فَلَعَلَّ لِصَاحِبِكُمْ عِنْدِ اللهِ أَفْضَلَ مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ، لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا أَعْطَاهُ دَعْوَةً، فَمِنْهُمْ مَنِ اتَّخَذَ بِهَا دُنْيَا فَأُعْطِيَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ دَعَا بِهَا عَلَى قَوْمِهِ إِذَا عَصَوْهُ فَأُهْلِكُوا بِهَا، وَإِنَّ اللهَ أَعْطَانِي دَعْوَةً فَاخْتَبَأْتُهَا عِنْدَ رَبِّي شَفَاعَةً لأمتي يوم القيامة [ (2) ]
__________
[ (1) ] عبد الرحمن بن أبي عقيل بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بن عوف بن ثقيف الثقفي، كذا نسبه هشام بن الكلبي، وقد اختلفوا في نسبه، وأجمعوا على أنه من ثقيف وأن له صحبة، وفي الاستيعاب لابن عبد البر: له صحبة صحيحة.
[ (2) ] رواه ابن مندة والطبراني والبزار برجال ثقات، ونقله ابن كثير في التاريخ (5: 85) .

(5/358)


بَابُ قِصَّةِ دَوْسٍ [ (1) ] وَالطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَمَا ظَهَرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مِنَ النُّورِ ثُمَّ فِي رَأْسِ سَوْطِهِ، وَمَا كَانَ فِي رُؤْيَاهُ وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَرَاهِينِ الشَّرِيعَةِ
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ- رَحِمَهُ اللهُ-، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ، حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ [قَالَ] [ (2) ] حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ عَلَى رَسُولِ الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللهَ عَلَيْهَا، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَائْتِ بِهِمْ ثَلَاثًا.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ سُفْيَانَ [ (3) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَدِيبُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ هُوَ ابْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ باليلة مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّتِ، قَالَ: وَأَبَقَ مِنِّي غُلَامٌ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى
__________
[ (1) ] طبقات ابن سعد (1: 353) ، شرح المواهب (4: 37) .
[ (2) ] الزيادة من (ب) ، وكذا في سائر الإسناد.
[ (3) ] الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الله المديني، عن سفيان ... فِي: 80- كِتَابِ

(5/359)


النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الْغُلَامُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا غُلَامُكَ؟ قُلْتُ: هُوَ لِوَجْهِ اللهِ فَأَعْتَقْتُهُ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ [ (4) ] .
وَقَدْ مَضَى عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ فِيهِمْ أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ وَنَفَرًا مِنْ دَوْسٍ فِيهِمُ الطُّفَيْلُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِخَيْبَرَ.
حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو عُثْمَانَ [رَحِمَهُ اللهُ] [ (5) ] إِمْلَاءً، [قَالَ أَخْبَرَنَا] [ (6) ] أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو لُبَابَةَ الْمَيْهَنِيُّ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: كَانَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ يُحَدِّثُ أَنَّهُ قَدِمَ مَكَّةَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فَمَشَى إِلَيْهِ رِجَالُ قُرَيْشٍ، وَكَانَ الطُّفَيْلُ رَجُلًا شَرِيفًا شَاعِرًا لَبِيبًا، فَقَالُوا لَهُ إِنَّكَ قَدِمْتَ بِلَادَنَا وَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ كَالسِّحْرِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ [ (7) ] وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا فَلَا تَكْلِمَنَّهُ وَلَا تَسْمَعَنَّ منه، قال: فو الله مَا زَالُوا بِي حَتَّى أَجْمَعْتُ أَنْ لَا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا أُكَلِّمَهُ حَتَّى حَشَوْتُ فِي أُذُنَيَّ حِينَ غَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ كُرْسُفًا فَرَقًا مِنْ أَنْ يَبْلُغَنِي شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ.
__________
[ () ] الدعوات، (59) باب الدعاء للمشركين، الحديث (6397) ، فتح الباري (11: 196) .
وأخرجه البخاري أيضا في: 64- كتاب المغازي (75) بَابُ قِصَّةِ دَوْسٍ، وَالطُّفَيْلِ بن عمرو الدوسي، الحديث (4392) ، فتح الباري (8: 101) .
[ (4) ] أخرجه البخاري في: 64- كتاب المغازي (75) باب قصة دوس، فتح الباري (8: 101) .
[ (5) ] ليست في (ك) ، وفي (ح) : « «رحمه الله تعالى» .
[ (6) ] الزيادة من (ب) وكذا في سائر الإسناد.
[ (7) ] في (ح) : «بين الرجل وبين أبيه» .

(5/360)


قَالَ: فَغَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَقُمْتُ قَرِيبًا مِنْهُ فَأَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ، فَسَمِعْتُ كَلَامًا حَسَنًا فقلت في نفسي: وثكل أُمَّاهُ، وَاللهِ إِنِّي لِرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ مَا يَخْفَى عَلَيَّ الْحَسَنُ مِنَ الْقَبِيحِ فَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ أَنْ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ مَا يَقُولُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ حَسَنًا قَبِلْتُ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا تَرَكْتُ، قَالَ: فَمَكَثْتُ حَتَّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِهِ، فَتَبِعْتُهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ قَالُوا لِي كذا وكذا، فو الله ما برحوا يخوّفوني أَمْرَكَ حَتَّى سَدَدْتُ أُذُنَيَّ بِكُرْسُفٍ لِئَلَّا أَسْمَعَ قَوْلَكَ، ثُمَّ أَبَى الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِيهِ، فَسَمِعْتُ قَوْلًا حَسَنًا فَاعْرِضْ عَلَيَّ أَمَرَكَ. قَالَ: فَعَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَلَا عَلَيَّ الْقُرْآنَ فَلَا وَاللهِ مَا سَمِعْتُ قَوْلًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَمْرًا أَعْدَلَ مِنْهُ، فَأَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ شَهَادَةَ الْحَقِّ،
وَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ [ (8) ] اللهِ إِنِّي امْرُؤٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي وَإِنِّي رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ فَدَاعِيهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً تَكُونُ لِي عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً.
قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَى قَوْمِي حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةٍ يُقَالُ لَهَا كَذَا وَكَذَا تُطْلِعَنِي عَلَى الْحَاضِرِ، وَقَعَ نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيَّ مِثْلُ الْمِصْبَاحِ! قَالَ: قُلْتُ: اللهُمَّ فِي غَيْرِ وَجْهِي إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهَا مُثْلَةٌ وَقَعَتْ فِي وَجْهِي لِفِرَاقِ دِينِهِمْ، قَالَ:
فَتَحَوَّلَ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ وَأَنَا أَهْبِطُ إِلَيْهِمْ مِنَ الثَّنِيَّةِ حَتَّى جِئْتُهُمْ فَأَصْبَحَتُ فِيهِمْ.
فَلَمَّا نَزَلَتُ أَتَانِي أَبِي وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَقُلْتُ: إِلَيْكَ عَنِّي يَا أَبَتِ، فَلَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، قَالَ: لَمَ يَا بُنَيَّ؟ قُلْتُ أَسْلَمْتُ وَتَابَعْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ، قَالَ: يَا بُنَيَّ فَدِينِي دِينُكَ، قَالَ: قُلْتُ: فَاذْهَبْ يَا أَبَتِ فَاغْتَسِلْ وَطَهِّرْ ثيابك، ثم تعال
__________
[ (8) ] في (ح) : «يَا رَسُولَ اللهِ» .

(5/361)


حَتَّى أُعَلِّمَكَ مَا عُلِّمْتُ، قَالَ: فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ ثُمَّ جَاءَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ.
ثُمَّ أَتَتْنِي صَاحِبَتِي فَقُلْتُ لَهَا: إِلَيْكِ عَنِّي فَلَسْتُ مِنْكِ وَلَسْتِ مِنِّي، قَالَتْ: لَمَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قُلْتُ: فَرَّقَ الْإِسْلَامُ بَيْنِي وَبَيْنَكِ: أَسْلَمْتُ وَتَابَعْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: فَدِينِي دِينُكَ. قَالَ: قُلْتُ فَاذْهَبِي إِلَى حَنَى ذِي الشَّرَى فَتَطَهَّرِي مِنْهُ وَكَانَ ذُو الشَّرَى صَنَمًا لدوس وكان الحنى حِمًى حَوْلَهُ وَبِهِ وَشْلٌ مِنْ مَاءٍ يَهْبِطُ مِنْ جَبَلٍ إِلَيْهِ، قَالَتْ: بِأَبِي وَأُمِّي أَتَخْشَى عَلَيَّ الصِّبْيَةَ مِنْ ذِي الشَّرَى شَيْئًا؟ قَالَ: قُلْتُ لَا أَنَا ضَامِنٌ لَكِ، قَالَ: فَذَهَبَتْ وَاغْتَسَلَتْ ثُمَّ جَاءَتْ فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَتْ.
ثُمَّ دَعَوْتُ دَوْسًا إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَبْطَئُوا عَلَيَّ
فَجِئْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ:
يَا نَبِيَّ اللهِ! إِنَّهُ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى دَوْسٍ الزِّنَا، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا» ، ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَادْعُهُمْ إِلَى اللهِ وَارْفُقْ بِهِمْ»
فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمْ فَلَمْ أَزَلْ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ، ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ أَسْلَمَ مَعِي مِنْ قَوْمِي، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ، فَنَزَلْتُ الْمَدِينَةَ بِسَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ، ثُمَّ لَحِقْنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَنَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ ابْنُ يَسَارٍ: فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، خَرَجَ الطُّفَيْلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى فَرَغُوا مِنْ طُلَيْحَةَ، ثُمَّ سَارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْيَمَامَةِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ عَمْرُو بْنُ الطُّفَيْلِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا فَاعْبُرُوهَا لِي: رَأَيْتُ أَنَّ رَأْسِي قَدْ حُلِقَ، وَأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ فَمِي طَائِرٌ، وَأَنَّ امْرَأَةً لَقِيَتْنِي فَأَدْخَلَتْنِي فِي فَرْجِهَا، وَرَأَيْتُ أَنَّ ابْنِي يَطْلُبُنِي طَلَبًا حَثِيثًا، ثُمَّ رَأَيْتُهُ حُبِسَ عَنِّي.
قَالُوا: خَيْرًا رَأَيْتَ: قَالَ: أَمَا وَاللهِ إِنِّي قَدْ أَوَّلْتُهَا. قَالُوا: وَمَا أَوَّلْتَهَا؟، قَالَ: أَمَّا حَلْقُ رَأْسِي فَوَضْعُهُ، وَأَمَّا الطَّائِرُ الَّذِي خَرَجَ مِنْ فَمِي فَرُوحِي، وَأَمَّا

(5/362)


الْمَرْأَةُ الَّتِي أَدْخَلَتْنِي فِي فَرْجِهَا فَالْأَرْضُ تُحْفَرُ فَأُغَيَّبُ فِيهَا، وَأَمَّا طَلَبُ ابْنِي إِيَّايَ ثُمَّ حَبْسُهُ عَنِّي فَإِنِّي أُرَاهُ سَيَجْتَهِدَ لِأَنْ يُصِيبَهُ مِنَ الشَّهَادَةِ مَا أَصَابَنِي. فَقُتِلَ الطُّفَيْلُ شَهِيدًا بِالْيَمَامَةِ، وَجُرِحَ ابْنُهُ عَمْرٌو جِرَاحًا شَدِيدًا، ثُمَّ قُتِلَ عَامَ الْيَرْمُوكِ شَهِيدًا فِي زَمَنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-[ (9) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ:
أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: [يَا رَسُولَ اللهِ!] [ (10) ] هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ [ (11) ] وَمَنَعَةٍ [ (12) ] ؟ (قَالَ حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) فَأَبَى ذَاكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلْأَنْصَارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ مَعَهُ الطُّفَيْلُ وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَاجْتَوَوَا [ (13) ] الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ [ (14) ] فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ [ (15) ] فَشَخَبَتْ [ (16) ]
__________
[ (9) ] رواه ابن هشام في السيرة، ونقله الحافظ ابن حجر في زاد المعاد، والصالحي في السيرة الشامية (6: 511) .
[ (10) ] الزيادة من صحيح مسلم.
[ (11) ] (هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حصين) قال ابن حجر: يعني أرض دوس.
[ (12) ] (ومنعة) بفتح النون وإسكانها، وهي العزة والامتناع. وقيل: منعة جمع مانع كظلمة وظالم أي جماعة يمنعوك ممن يقصدك بمكروه.
[ (13) ] (فاجتووا المدينة) معناه كرهوا المقام بها لضجر ونوع من سقم. قال أبو عبيد والجوهري وغيرهما: اجتويت البلد إذا كرهت المقام به، وإن كنت في نعمة. قال الخطابي: وأصله من الجوى، وهو داء يصيب الجوف.
[ (14) ] (مشاقص) جمع مشقص. قال الخليل وابن فارس وغيرهما: هو سهم فيه نصل عريض. وقال آخرون: سهم طويل، ليس بالعريض، وقال الجوهريّ: المشقص ما طال وعرض. وهذا هو الظاهر هنا لقوله: فقطع بها براجمه. ولا يحصل ذلك إلا بالعريض.
[ (15) ] (براجمه) البراجم مفاصل الأصابع، واحدتها برجمة.
[ (16) ] (فشخبت يداه) أي سال دمها، وقيل: سال بقوة.

(5/363)


يَدَاهُ فَمَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ،
فَقَصَّ الطُّفَيْلُ رُؤْيَاهُ عَلَى رسول الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ! وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ [ (17) ] عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ [ (18) ] .
__________
[ (17) ] أخرجه مسلم في: 1- كتاب الإيمان، (49) بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ قاتل نفسه لا يكفر، الحديث (184) ، ص (1: 108- 109) .
[ (18) ] هنا تنتهي نسخة (ب) ، الموصوفة في أول الكتاب، وقد جاء في نهايتها: «كمل الجزء الثاني من كتاب دلائل النبوة وهو آخر الجزء الرابع من النسخة المنقول منها هذه النسخة، ويتلوه إن شاء الله الجزء الثالث، بَابُ قِصَّةِ مُزَيْنَةَ وَمَسْأَلَتِهِمْ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(5/364)


بَابُ قِصَّةِ مُزَيْنَةَ وَمَسْأَلَتِهِمْ [ (1) ] وَظُهُوَرِ الْبَرَكَةِ فِي التَّمْرِ الَّذِي مِنْهُ أَعْطَاهُمْ عُمَرُ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ الْعَدْلُ، بِبَغْدَادَ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ دَعْلَجٍ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَنْبَأَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ [ (2) ] رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فَلَمَّا أَرَدْنَا أن نتصرف، قَالَ: يَا عُمَرُ زَوِّدِ الْقَوْمَ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا شَيْءٌ مِنْ تَمْرٍ مَا أَظُنُّهُ يَقَعُ مِنَ الْقَوْمِ مَوْقِعًا، قَالَ: فَانْطَلِقْ فزودهم. قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِمْ عُمَرُ فَأَدْخَلَهُمْ مَنْزِلَهِ، ثُمَّ أَصْعَدَهُمْ إِلَى عُلَيَّةٍ، فَلَمَّا دَخَلْنَا إِذَا فِيهَا مِثْلُ الْجَمَلِ الْأَوْرَقِ، فَأَخَذَ الْقَوْمُ مِنْهُ حَاجَتَهُمْ، قَالَ النُّعْمَانُ: وَكُنْتُ فِي آخِرِ مِنْ خَرَجَ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا فِيهَا مِنَ التَّمْرِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ [ (3) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدَانَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصفار، حدثنا
__________
[ (1) ] ابتداء من قصة مزينة تبدأ المقابلة مع النسخة (ف) والموصوفة في أول الكتاب.
وفي وفود مزينة انظر طبقات ابن سعد (1: 291) ، ونهاية الأرب (18: 19- 20) وشرح المواهب (4: 37) .
[ (2) ] في مسند أحمد: «في أربعمائة» .
[ (3) ] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5: 445) ، والطبراني، وأبو نعيم، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ.

(5/365)


إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ- أَبُو عُثْمَانَ-، حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ حُصَيْنٍ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ النُّعْمَانِ، قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ، فَقُلْنَا: مَا مَعَنَا مِنْ زَادٍ نَتَزَوَّدُهُ، فَقَالَ: يَا عُمَرُ زَوِّدْهُمْ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا فَضْلَةٌ مِنْ تَمْرٍ لَا تُغْنِي عَيْشَتَنَا، فَانْطَلَقَ بِنَا عُمَرُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى علّيّة له لِيَفْتَحَهَا، فَإِذَا فِيهَا مِثْلُ الْبَكْرِ الْأَوْرَقِ [ (4) ] مِنْ تَمْرٍ، فقال: هلمّوا فتزوّدا مِنْ هَذَا التَّمْرِ، فَتَزَوَّدْنَا، فَكُنْتُ مِنْ آخِرِهِمْ فَنَظَرْتُ وما أفقد موضع تَمْرَةٍ مِنْ مَكَانِهَا، وَقَدْ تَزَوَّدْنَا مِنْهُ أَرْبَعَمِائَةٍ.
تَابَعَهُ زَائِدَةُ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ [ (5) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: قَالَ لَنَا النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَأَمَرَنَا بِأَمْرِهِ، ثُمَّ قَالَ:
يَا عُمَرُ! زَوِّدْهُمْ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا عِنْدِي مَا أُزَوِّدُهُمْ، قَالَ: زَوِّدْهُمْ فَفَتَحَ لَنَا عُلَيَّةً فِيهَا قَدْرٌ مِنْ تَمْرٍ مِثْلُ الْجَمَلِ الْبَارِكِ، فَتَزَوَّدْنَا مِنْهَا أَرْبَعَمِائَةِ رَاكِبٍ، قَالَ: فَكُنْتُ فِي آخِرِ مَنْ خَرَجَ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهَا فَمَا فَقَدْتُ مِنْهَا مَوْضِعَ تَمْرَةٍ.
وأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بِشْرَانَ، أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حدثنا إسماعيل ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعِيدٍ الْمُزَنِيِّ، قال: أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم أَرْبَعُونَ رَجُلًا [ (6) ] أَوْ أَرْبَعُمِائَةٍ تَسْأَلُهُ الطَّعَامَ، فَقَالَ لِعُمَرَ: اذْهَبْ فَأَعْطِهِمْ، فَقَالَ: يَا
__________
[ (4) ] (البكر) : الفتي من الإبل.
[ (5) ] انظر الحاشية قبل السابقة. (3) .
[ (6) ] كذا في (أ) ، وفي (ك) و (ف) و (ح) : «راكبا» .

(5/366)


رَسُولَ اللهِ! مَا هِيَ إِلَّا آصُعٌ مِنْ تَمْرٍ مَا أَرَى يُقَيِّظْنَ بَنِيَّ، قَالَ: اذْهَبْ فَأَعْطِهِمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ سَمِعٌ وَطَاعَةٌ، قَالَ: فَأَخْرَجَ عُمَرُ الْمِفْتَاحَ مِنْ حُجْزَتِهِ فَفَتَحَ، فَإِذَا شِبْهُ الْفَصِيلِ الرَّابِضِ مِنْ تَمْرٍ، قَالَ: خُذُوا، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مَا أَحَبَّ، ثُمَّ الْتَفَتُّ وَكُنْتُ مِنْ آخِرِ الْقَوْمِ وَكَأَنَّا لَمْ نَرْزَأْهُ تَمْرَةً.
قُلْتُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَوْلُهُ مَا أَرَى يُقَيِّظْنَ بَنِيَّ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَكْفِيهِمْ لِقَيْظِهِمْ وَالْقَيْظُ هُوَ حَرَارَةُ الصَّيْفِ.

(5/367)


بَابُ قُدُومِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ [ (1) ] وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، وَقُدُومِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيُّ مُفَارِقًا لِمُلُوكِ كِنْدَةَ مُبَاعِدًا لَهُمْ، وَقَدْ كَانَ قُبَيْلُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ هَمْدَانَ وَمُرَادٍ وَقْعَةٌ أَصَابَتْ فِيهَا هَمْدَانُ مِنْ مُرَادٍ حَتَّى أَثْخَنُوهُمْ فِي يَوْمٍ يُقَالُ لَهُ يَوْمُ «الرَّدْمِ» ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ شعرا:
لَمَّا رَأَيْتُ مُلُوكَ كِنْدَةَ أَعْرَضَتْ ... كَالرِّجْلِ خَانَ الرِّجْلَ عِرْقُ نَسَائِهَا
يَمَّمْتُ رَاحِلَتِي أَؤُمُّ مُحَمَّدًا ... أَرْجُو فَوَاضِلَهَا وَحُسْنَ ثَرَائِهَا [ (2) ]
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ فِيمَا بَلَغَنِي: يَا فَرْوَةُ هَلْ سَاءَكَ مَا أَصَابَ قَوْمَكَ يَوْمَ الرَّدْمِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَنْ ذَا يُصِيبُ قَوْمَهُ ما أصاب
__________
[ (1) ] انظر في خبر قُدُومِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ: سيرة ابن هشام (4: 191) ، وطبقات ابن سعد (1، 328) ، وعيون الأثر (2: 305) ، ونهاية الأرب (2: 239) ، البداية والنهاية (5: 70) ، وانظر ترجمة فروة بن مسيك في أسد الغابة (4: 180) ، والإصابة.
[ (2) ] في الأغاني (15: 210) : «وحسن ثراها» .

(5/368)


قَوْمِي يَوْمَ الرَّدْمِ، لَا يَسُوءُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزِدْ قَوْمَكَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا خَيْرًا.
وَاسْتَعْمَلَهُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُرَادٍ وَزُبَيْدٍ وَمَذْحِجٍ كُلِّهَا، وَبَعَثَ معه خالد ابْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَكَانَ مَعَهُ فِي بِلَادِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ (3) ] .
قَالَ وقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ فَأَسْلَمَ فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ عَمْرٌو.
قُلْتُ: يَعْنِي فِيمَنِ ارْتَدَّ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [ (4) ] : وَقَدْ قِيلَ إِنَّ عَمْرًا لَمْ يَأْتِ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم وقد قال:
إنني بالنبي موقنة نفسي ... وَإِنْ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ عِيَانَا
سَيِّدَ الْعَالَمِينَ طُرًّا وَأَدْنَا ... هُمُ إِلَى اللهِ حِينَ ثَابَ مَكَانَا
جَاءَنَا بِالنَّامُوسِ مِنْ لَدْنِ اللهِ ... وَكَانَ الْأَمِينُ فِيهِ الْمُعَانَا
حُكْمُهُ بَعْدُ حِكْمَةٌ وَضِيَاءٌ ... قَدْ هُدِينَا بِنُورِهَا مِنْ عَمَانَا
وَرَكِبْنَا السَّبِيلَ حِينَ رَكِبْنَاهُ ... جَدِيدًا بِكُرْهِنَا وَرِضَانَا
وَعَبَدَ الْإِلَهَ حَقًّا وَكُنَّا ... لِلْجَهَالَاتِ نَعْبُدُ الْأَوْثَانَا
وَائْتَلَفْنَا بِهِ وَكُنَّا عَدُوًّا ... وَرَجَعْنَا بِهِ مَعًا إِخْوَانَا
فَعَلَيْهِ السلام واللم مِنَّا ... حَيْثُ كُنَّا مِنَ الْبِلَادِ وَكَانَا
إِنْ نَكُنْ لَمْ نَرَ النَّبِيَّ فَإِنَّا ... قَدْ تَبِعْنَا سَبِيلَهُ إِيمَانَا
فِي أَبْيَاتٍ أُخَرَ ذَكَرَهَا.
__________
[ (3) ] الخبر في سيرة ابن هشام (4: 191- 193) ، ونقله ابن كثير في التاريخ (5: 70) .
[ (4) ] رواه ابن هشام في السيرة (4: 193) ، وابن كثير في التاريخ (5: 72) .

(5/369)


قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَدِمَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ.
حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، قَالَ: قَدِمَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَمَانِينَ أَوْ سِتِّينَ رَاكِبًا مِنْ كِنْدَةَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ جَمِيعُهُمْ [ (5) ] مَسْجِدَهُ قَدْ رَجَّلُوا جُمَمَهُمْ [ (6) ] .
وَتَكَحَّلُوا وَلَبِسُوا جُبَابَ الْحِبَرَاتِ مُكَفَّفَةً [ (7) ] بِالْحَرِيرِ فَلَمَّا دَخَلُوا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَوَلَمْ تُسْلِمُوا؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَمَا بَالُ هَذَا الحديد فِي أَعْنَاقِكُمْ، فَشَقُّوهُ، وَنَزَعُوهُ، وَأَلْقَوْهُ، ثُمَّ قَالَ الْأَشْعَثُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ [وَأَنْتَ ابْنُ آكِلِ الْمُرَارِ] [ (8) ] [قَالَ] : [ (9) ] فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: نَاسِبُوا بِهَذَا النَّسَبِ ابْنَ رَبِيعَةَ بن الحارث، وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَانَا تَاجِرَيْنِ وَكَانَا إِذَا سَارَا بِأَرْضِ الْعَرَبِ سُئِلَا: مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ يَتَعَزَّزُونَ بِذَلِكَ فِي الْعَرَبِ وَيَدْفَعُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ بَنِي آكِلِ الْمُرَارِ مِنْ كِنْدَةَ كَانُوا مُلُوكًا نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ لَا نَقْفُو أُمَّنَا [ (10) ] وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا [ (11) ] .
__________
[ (5) ] في (ح) : «جميعا» .
[ (6) ] أي مشطوا شعورهم وسرحوها.
[ (7) ] (مكففة) : مطرزة.
[ (8) ] سقطت من (ح) .
[ (9) ] الزيادة من (ك) فقط.
[ (10) ] (لا نقفو أمنا) : لا نتبعها في نسبها.
[ (11) ] رواه ابن هشام في السيرة (4: 196) ، ونقله ابن كثير في التاريخ (5: 72) وجاء بعدها في سيرة ابن هشام توضيحا لها:
فقال الأشعث بن قيس: هل فرغتم يا معشر كندة، والله لا أسمع رجلا يقولها إلا ضربته ثمانين.
قال ابن هشام: الأشعث (بن قيس) من ولد آكل المرار من قبل النساء، وآكل المرار: الحرث ابن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحرث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندي، ويقال: كندة، وإنما سمى آكل المرار لأن عمرو بن الهبولة الغساني أغار عليهم، وكان الحرث

(5/370)


أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ، أَنْبَأَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَرْبٍ، وَحَجَّاجٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ هَيْصَمٍ، عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَفْدُ كِنْدَةَ وَلَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنِّي أَفْضَلُهُمْ، قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللهِ ألمستم مِنَّا؟ قَالَ: لَا نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ لا نقفوا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا، وَقَالَ الْآخَرُ لَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا،
فَكَانَ الْأَشْعَثُ يَقُولُ: لَا أُوتَى بِرَجُلٍ نَفَى رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ إِلَّا جَلَدْتُهُ الْحَدَّ.
__________
[ () ] غائبا، فغنم وسبي، وكان فيمن سبى أم ناس بنت عوف بن محلم الشيباني، امرأة الحرث بن عمرو، فقالت لعمرو في مسيره: لكأني برجل أدلم أسود كأن مشافره مشافر بعير آكل مرار قد أخذ برقبتك، تعني الحرث، فسمى آكل المرار، والمرار: شجر، ثم تبعه الحرث في بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فلحقه فقتله، واستنقذ امرأته، وما كان أصاب. فقال الحرث بن حلزة اليشكري لعمرو بن المنذر- وهو عمرو بن هند اللخميّ: -
وأقدناك ربّ غسّان بالمن ... ذر كرها إذ لا تكال الدّماء
لأن الحرث الأعرج الغساني قتل المنذر أباه. وهذا البيت في قصيدة له. وهذا الحديث أطول مما ذكرت، وإنما منعني من استقصائه ما ذكرت من القطع. ويقال: بل آكل المرار حجر بن عمرو بن معاوية، وهو صاحب هذا الحديث، وإنما سمى آكل المرار لأنه أكل هو وأصحابه في تلك الغزوة شجرا يقال له المرار.

(5/371)


بَابُ قُدُومِ صُرَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ [ (1) ] عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَفْدٍ مِنَ الْأَسْدِ [ (2) ] وَإِسْلَامِهِ وَرُجُوعِهِ إِلَى جُرَشَ وَقُدُومِ رَجُلَيْنِ مِنْ جُرَشَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِخْبَارِهِ إِيَّاهُمَا بِإِصَابَةِ صُرَدَ قَوْمَهُمَا فِي السَّاعَةِ الَّتِي أَصَابَهُمْ فِيهَا، ومَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ آثَارِ النُّبُوَّةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَزْدِيُّ [فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ فِي وَفْدٍ مِنَ الْأَزْدِ] [ (3) ] ، فَأَمَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنِ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُجَاهِدَ بِمَنْ أَسْلَمَ مَنْ كَانَ يَلِيهِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ، فَخَرَجَ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ يَسِيرُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ بِجُرَشَ [ (4) ] وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَدِينَةٌ مُغْلَقَةٌ وَبِهَا قَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ، وَقَدْ ضَوَتْ [ (5) ] إِلَيْهِمْ خَثْعَمُ فَدَخَلُوهَا مَعَهُمْ حِينَ سَمِعُوا بِمَسِيرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ، فَحَاصَرُوهُمْ فِيهَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، وَامْتَنَعُوا مِنْهُ فِيهَا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُمْ قَافِلًا حَتَّى إِذَا كَانَ فِي جَبَلٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ كَشَرٌ [ (6) ] ظنّ أهل
__________
[ (1) ] ترجمته في أسد الغابة (3: 17) .
[ (2) ] في (ح) و (ك) : «الأزد» .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين سقطت من نسخة (ح) ، وثابتة في بقية النسخ.
[ (4) ] من مخاليف اليمن. معجم البلدان (3: 84) .
[ (5) ] (ضوت) : انضمت.
[ (6) ] في معجم البلدان (5: 285) : شكر: جبل باليمن قريب من جرش له ذكر في المغازي، وفي أسد الغابة أن الجبل يقال له «كشر» .

(5/372)


جُرَشَ أَنَّهُ إِنَّمَا وَلَّى عَنْهُمْ مُنْهَزِمًا، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ حَتَّى إِذَا أَدْرَكُوهُ عَطَفَ عَلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ جُرَشَ بَعَثُوا مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ يَرْتَادَانِ وَيَنْظُرَانِ، فَبَيْنَمَا هُمَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةً بَعْدَ الْفِطْرِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: بِأَيِّ بِلَادٍ شَكَرٌ؟ فَقَالَ الْجُرَشِيَّانِ: يَا رَسُولَ اللهِ بِبِلَادِنَا جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ كَشَرٌ، وَكَذَلِكَ يُسَمِّيهِ أَهْلُ جُرَشَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ بِكَشَرٍ، وَلَكِنْ شَكَرٌ، قَالَ: فَمَا لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «إِنَّ بُدْنَ اللهِ لَتُنْحَرُ عِنْدَهُ الْآنَ» ، فَجَلَسَ الرَّجُلَانِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَإِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَا لَهُمَا: وَيْحَكُمَا أن رسول الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَنْعِي لَكُمَا قَوْمَكُمَا، فَقُومَا فَسَلَاهُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ- عَزَّ وَجَلَّ- فَيَرْفَعَ عَنْ قَوْمِكُمَا، فَقَامَا إِلَيْهِ فَسَأَلَاهُ [ذَلِكَ] [ (7) ] فَقَالَ اللهُمَّ ارْفَعْ عَنْهُمْ فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعِينَ إِلَى قَوْمِهِمَا، فوجدا قَوْمَهُمَا أُصِيبُوا يَوْمَ أَصَابَهُمْ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا مَا ذَكَرَ، فَخَرَجَ وَفْدُ جُرَشَ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم فَأَسْلَمُوا، وَحَمَى لَهُمْ حِمًى حَوْلَ قَرْيَتِهِمْ عَلَى أَعْلَامٍ مَعْلُومَةٍ لِلْفَرَسِ وَالرَّاحِلَةِ وَلِلْمُثِيرَةِ: بقرة الحرث [ (8) ] .
__________
[ (7) ] سقطت من (ح) .
[ (8) ] رواه ابن هشام في السيرة (4: 197) .

(5/373)


بَابُ قُدُومِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ [ (1) ] عَلَى رَسُولِ الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخْبَرَنَا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أَبِي عَمْرٍو قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ: ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمَ فَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَعَقَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ: أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ: مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! إِنِّي سَائِلُكَ وَمُغلِظٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلَا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ.
فَقَالَ: لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي، فَسَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ إِلَهَكَ وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، آللَّهُ بَعَثَكَ إِلَيْنَا رَسُولًا؟ فَقَالَ: اللهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكَ اللهَ وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَعْبُدَهُ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَخْلَعَ هَذِهِ الْأَنْدَادَ الَّتِي كَانَ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَ؟ فقال رسول
__________
[ (1) ] وانظر في قدوم ضمام: سيرة ابن هشام (4: 184) ، طبقات ابن سعد (1: 299) ، عيون الأثر (2: 297) ، البداية والنهاية (5: 60) .

(5/374)


الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ نَعَمْ» ، ثُمَّ جَعَلَ يَذْكُرُ فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ فَرِيضَةً فَرِيضَةً [الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَفَرَائِضَ الْإِسْلَامِ] [ (2) ] ، كُلَّهَا يَنْشُدُهُ عِنْدَ كُلِّ فَرِيضَةٍ كَمَا يَنْشُدُهُ فِي الَّتِي كَانَ قَبْلَهَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ، قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَسَأُؤَدِّي هَذِهِ الفرائض وأجتنب ما نهيني عَنْهُ لَا أَزِيدُ وَلَا أُنْقِصُ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى بَعِيرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَلَّى: إِنْ يَصْدُقْ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ [ (3) ] يَدْخُلِ الْجَنَّةَ،
وَكَانَ ضِمَامٌ رَجُلًا جَلْدًا أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى بَعِيرَهُ فَأَطْلَقَ عِقَالَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَكَانَ أَوَّلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ بِئْسَتِ اللَّاتُ وَالْعُزَّى، فَقَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ اتَّقِ الْجُذَامَ وَالْبَرَصَ وَالْجُنُونَ، فَقَالَ: وَيْلَكَ إِنَّهُمَا وَاللهِ لَا تَضُرَّانِ وَلَا تَنْفَعَانِ، إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عنه، فو الله مَا أَمْسَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي حَاضَرِهِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمٌ [ (4) ] .
__________
[ (2) ] ما بين الحاصرتين ليست في (ح) .
[ (3) ] (العقيصة) : الشعر المعقوص أي الملتوي.
[ (4) ] رواه ابن هشام في السيرة (4: 184- 186) ، ونقله ابن كثير في التاريخ (5: 60) ، ورواه الإمام أحمد، والشيخان والترمذي والنسائي رحمهم الله تعالى من طريق سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثابت، والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ الله كلاهما عن أنس وأبو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللهِ بْنُ محمد البغوي عن الزهري، والإمام أحمد وابن سعد وأبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله تعالى عنهم قال أنس في رواية ثابت: «نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء كان يعجبنا أن نجد الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع» . وفي رواية شريك: «بينا نحن جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، وَفِي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «بينا النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه متكئا، أو قال جالسا في المسجد إذ جاء رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله» وفي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: «بَعَثَ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، ضِمَامَ بْنَ ثعلبة وافدا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمَ عليه وأناخ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي أصحابه، وَكَانَ ضِمَامٌ رَجُلًا جَلْدًا أشعر ذا غديرتين فأقبل حتى انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قَالَ أنس في رواية شريك:

(5/375)


__________
[ () ] «فقال: أيّكم محمد؟» وفي حديث ابن عباس: «أيّكم ابن عبد المطلب» ؟ والنبي صلّى الله عليه وسلم متّكى بين ظهرانيهم فقلنا له: هذا الأبيض المتكئ» .
وفي رواية: «جاءهم رجل من أهل البادية فقال: أيّكم ابن عبد المطلب؟ قالوا: هذا الأمغر المرتفق. قال: فدنا منه وقال: إني سائلك فمشدد عليك- وفي لفظ فمغلظ عليك- في المسألة، فلا تجد عليّ في نفسك، قال: لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك قال انس في رواية ثابت:
فقال: يا محمد أتانا رسولك فقال لنا إنك تزعم ان الله تعالى أرسلك؟ قال: «صدق» . قال:
فمن خلق السماء؟ قال: «الله» قال: فمن خلق الأرض؟ قال: «الله» . قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: «الله» .
وقال أبو هريرة وأنس في رواية شريك، فقال: «أسألك بربّك ورب من قبلك» ، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «فأنشدك الله إلهك وإله من قبلك وإله من هو كائن بعدك» ، وفي رواية عن أنس فقال: «فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال» ،
قال ابن عباس في حديثه: «آلله أمرك أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا وأن ندع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون» ؟
قال: «اللهم نعم» .
وفي رواية ثابت عن أنس فقال: «فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال»
وفي حديث أبي هريرة ورواية شريك عن أنس: «أسألك بربّك ورب من قبلك ورب من بعدك الله أرسلك إلى الناس كلهم؟» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم نعم» .
وفي رواية ثابت عن أنس قال: «وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا» قال:
«صدق» . قال: «فبالذي أرسلك» ، وفي رواية شريك عن أنس قال: «أنشدك بالله» .
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله أمرك أن تصلي هذه الصلوات الخمس» ؟ قال: اللهم نعم» .
وفي رواية ثابت عن أنس قال: «وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا» . قال: «صدق» .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أنشدك بالله الله أمرك أن تأخذ من أموال أغنيائنا فترده على فقرائنا» ؟ قال: «اللهم نعم» . قال: «فبالذي أرسلك» وفي رواية شريك: «أنشدك الله الله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا» ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم نعم» .
وفي رواية ثابت: «وزعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا» . قال: «صدق» . قال:
«فبالذي أرسلك» وفي رواية شريك: «وأنشدك الله الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة» ؟
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من اثني عشر شهرا» ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم نعم» .

(5/376)


قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ.
قُلْتُ وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قِصَّةَ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ تَزِيدُ وَتُنْقَصُ ومن ذلك الوجه أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ [ (5) ] .
__________
[ () ] وفي رواية ثابت قال: «وزعم رسولك أن علينا حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا» . قال:
«نعم» . وفي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: «ثُمَّ جَعَلَ يَذْكُرُ فَرَائِضَ الإسلام. [فريضة فريضة] فريضة الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها ينشده عن كل فريضة منها كما ينشده عن التي قبلها حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما تنهيني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص» .
وفي رواية شريك: «آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر» . وفي حديث أبي هريرة: «وأما هذه الهناة فو الله إن كنا لنتنزه عنها في الجاهلية» .
وفي رواية ثابت: «ثم ولّى فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن شيئا» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن صدق ليدخلن الجنة» . وفي حديث ابن عباس: «إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة» . وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «فلما أن ولّى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فقه الرّجل» .
قال: «فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «ما رأيت أحدا أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام بن ثعلبة» . فأتى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلّم به: بئست اللات والعزى. فقالوا: مه يا ضمام! اتق البرص، اتقّ الجذام، اتقّ الجنون. فقال: «ويلكم» ! إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا فأستنقذكم به مما كنتم فيه وإني أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه» . قال: «فو الله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل أو امرأة إلّا مسلما» زاد ابن سعد: «وبنوا المساجد وأذنوا بالصلوات» قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.
[ (5) ] صحيح البخاري في كتاب الإيمان باب الزكاة في الإسلام (1: 32) ط. الأميرية، ومسلم بشرح النووي (1: 166) باب بيان الصلوات.

(5/377)


بَابُ قُدُومِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ [ (1) ] الْقُشَيْرِيِّ وَدُخُولِهِ [ (2) ] عَلَى النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِجَابَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْقُدُومِ عَلَيْهِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَزِينٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، لَفْظًا عَنْ دَاوُدَ الْوَرَّاقِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ معاوية ابن حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا دُفِعْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: أَمَا إِنِّي سَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعِينَنِي عَلَيْكُمْ بِالسَّنَةِ تُحْفِيكُمْ [ (3) ] وَبِالرُّعْبِ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، قَالَ:
فَقَالَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، أَمَا إِنِّي قد خلقت هذا وهكذا ألّا أومن بِكَ وَلَا أَتَّبِعَكَ فَمَا زَالَتِ السَّنَةُ تُحْفِينِي، وَمَا زَالَ الرُّعْبُ يُجْعَلُ فِي قَلْبِي حَتَّى قُمْتُ بَيْنَ يَدَيْكَ، أَفَبِاللهِ الَّذِي أَرْسَلَكَ، أَهُوَ أَرْسَلَكَ بِمَا تَقُولُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَهُوَ أَمَرَكَ بِمَا تَأْمُرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي نِسَائِنَا، قَالَ: هُنَّ «حَرْثٌ لَكُمْ فأتوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» [ (4) ] ، وَأَطْعِمُوهُمْ مما تأكلوا واكسوهم مما تلبسوا، ولا
__________
[ (1) ] معاوية بن حيدة بن معاوية بن حيدة بن قشير بن كعب القشيري معدود في أهل البصرة، غزا خراسان، ومات بها، ومن ولده: بهز بن حكيم بن معاوية.. وله ترجمة في الإصابة (3:
432) ، وفي أسد الغابة (4: 385) .
[ (2) ] الزيادة من (ح) فقط.
[ (3) ] (تحفيكم) : تستأصلكم.
[ (4) ] وفي التنزيل: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم» [البقرة- 223] .

(5/378)


تَضْرِبُوهُمْ وَلَا تُقَبِّحُوهُمْ، قَالَ: أَفَيَنْظُرُ أَحَدُنَا إِلَى عَوْرَةِ أَخِيهِ إِذَا اجْتَمَعَا؟ قَالَ:
لَا قَالَ: فَإِذَا تَفَرَّقَا، قَالَ: فَضَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى فَخِذَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى ثُمَّ قَالَ: اللهُ أَحَقُّ أَنْ تَسْتَحْيُوا، قَالَ: وَسَمِعَهُ يَقُولُ: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِمُ الْفِدَامُ [ (5) ] فَأَوَّلُ مَا يَنْطِقُ مِنَ الْإِنْسَانِ كفه وفخذه [ (6) ] .
__________
[ (5) ] (الفدام) ما يشدّ على فم الابر والكوز، والمراد: يمنعون من الكلام حتى تتكلم جوارحهم.
[ (6) ] أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (5: 3) .

(5/379)


بَابُ قُدُومِ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللهِ [ (1) ] وَأَصْحَابِهِ عَلَى النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَقَوْلِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُمْ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو جَنَابٍ الْكَلْبِيُّ، حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ طَارِقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ بِسُوقِ الْمَجَازِ إِذْ أَقْبَلُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ لَهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا، وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ، يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ كَذَّابٌ فَلَا تُصَدِّقُوهُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟
قَالَ: هَذَا غُلَامٌ [ (2) ] مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا الَّذِي يَفْعَلُ بِهِ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عَمُّهُ عَبْدُ الْعُزَّى [ (3) ] ، قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ النَّاسُ وَهَاجَرُوا خَرَجْنَا مِنَ الرَّبَذَةِ [ (4) ] نُرِيدُ الْمَدِينَةَ نَمْتَارُ مِنْ تَمْرِهَا، فَلَمَّا دَنَوْنَا من
__________
[ (1) ] هو طارق بن عبد الله المحاربي من محارب بني خصفة، له صحبة، روى عنه جامع بن شداد، وربعي بن خراش، وله ترجمة في أسد الغابة (3: 49) ، وفي الإصابة، وفي خبر وفوده انظر البداية والنهاية (5: 85) ، وشرح المواهب (4: 48) .
[ (2) ] في القاموس: الغلام الطار الشارب أو من حين يولد إلى أن يشيب والمراد الثاني- عن شرح المواهب.
[ (3) ] أي أبو لهب.
[ (4) ] قال الفيومي في المصباح المنير: الربذة وزان قصبة خرقة الصائغ يجلو بها الحلي وبها سميت الربذة وهي قرية كانت عامرة في صدر الإسلام بها قبر أبي ذر الغفاري وجماعة من الصحابة، وهي في وقتنا

(5/380)


حِيطَانِهَا وَنَخْلِهَا، قُلْنَا: لَوْ نَزَلْنَا فَلَبِسْنَا ثِيَابًا غَيْرَ هَذِهِ إِذَا رَجُلٌ فِي طِمْرَيْنِ [ (5) ] لَهُ فَسَلَّمَ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ الْقَوْمُ؟ قُلْنَا مِنَ الرَّبَذَةِ، قَالَ: وَأَيْنَ تُرِيدُونَ قُلْنَا نُرِيدُ هَذِهِ الْمَدِينَةَ، قَالَ: مَا حَاجَتُكُمْ فِيهَا قُلْنَا نَمْتَارُ مِنْ تَمْرِهَا، قَالَ [ (6) ] : وَمَعَنَا ظَعِينَةٌ [ (7) ] لَنَا وَمَعَهَا جَمَلٌ أَحْمَرُ مَخْطُومٌ، فَقَالَ: أَتَبِيعُونَ جَمَلَكُمْ هَذَا؟ قَالُوا نَعَمْ بِكَذَا وَكَذَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ قَالَ: فَمَا اسْتَوْضَعَنَا مِمَّا قُلْنَا شَيْئًا، فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَانْطَلَقَ، فَلَمَّا تَوَارَى عَنْهُ بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ وَنَخْلِهَا، قُلْنَا: مَا صَنَعْنَا وَاللهِ مَا بِعْنَا جَمَلَنَا مِمَّنْ نَعْرِفُ، وَلَا أَخَذْنَا لَهُ ثَمَنًا،
قَالَ: تَقُولُ الْمَرْأَةُ الَّتِي مَعَنَا:
وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا كَأَنَّ وَجْهَهُ شَقَّةُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ أَنَا ضَامِنَةٌ لِثَمَنِ جَمَلِكُمْ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ، هَذَا تَمْرُكُمْ فَكُلُوا وَاشْبَعُوا وَاكْتَالُوا وَاسْتَوْفُوا، فَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا، وَاكْتَلْنَا وَاسْتَوْفَيْنَا، ثُمَّ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَأَدْرَكْنَا مِنْ خُطْبَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «تَصَدَّقُوا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ خَيْرٌ لَكُمْ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ وَأَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ أَوْ قَالَ:
رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَنَا فِي هَؤُلَاءِ دِمَاءٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ:
«إِنَّا لَا نَجْنِي عَلَى وَلَدٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» .
وأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ طَارِقٍ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ وَقَالَ فِيهِ: قَالَتِ الظَّعِينَةُ: فَلَا تَلَاوَمُوا فَلَقَدْ رَأَيْتُ وَجْهَ رَجُلٍ لَا يَغْدِرُ بِكُمْ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ مِنْ وَجْهِهِ.
__________
[ () ] دارسة لا يعرف بها رسم، وهي عن المدينة في جهة الشرق على طريق حاج العراق نحو ثلاثة أيام هكذا أخبرني به جماعة من أهل المدينة في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة.
[ (5) ] طمرين بكسر الطاء أي ثوبين خلقين أو كساءين باليين من غير الصوف.
[ (6) ] القائل هو طارق بن عبد الله.
[ (7) ] الظعينة امرأة في هودج سميت بذلك ولو كانت في بيتها لأنها تصير مظعونة أي يظعن بها زوجها.

(5/381)


بَابُ وَفْدِ نَجْرَانَ [ (1) ] وَشَهَادَةِ الْأَسَاقِفَةِ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ، وَامْتِنَاعِ مَنِ امْتَنَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُلَاعَنَةِ ومَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ آثَارِ النُّبُوَّةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ نَصَارَى نَجْرَانَ بِالْمَدِينَةِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ النَّدِيِّ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم دَخَلُوا عَلَيْهِ مَسْجِدَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَانَتْ صَلَاتُهُمْ، فَقَامُوا يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ فَأَرَادَ النَّاسُ مَنَعَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُمْ فَاسْتَقْبَلُوا الْمَشْرِقَ فَصَلُّوا صَلَاتَهُمْ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، وأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، عَنْ كُرْزِ ابن علقمة، قال:
__________
[ (1) ] وانظر في وفود نجران:
- سيرة ابن هشام (2: 175) ، طبقات ابن سعد (1: 357) ، فتوح البلدان للبلاذري (70) ، البداية والنهاية (5: 52) ، نهاية الأرب (18: 121) ، شرح المواهب (4: 41) .

(5/382)


قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم وَفْدُ نَصَارَى نَجْرَانَ سِتُّونَ رَاكِبًا، مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَالْأَرْبَعَةُ وَعِشْرُونَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ منهم إليهم يؤول أَمْرُهُمُ:
الْعَاقِبُ أَمِيرُ الْقَوْمِ وَذُو رَأْيِهِمْ صَاحِبُ مَشُورَتِهِمْ وَالَّذِينَ لَا يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ وَأَمْرِهِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ.
وَالسَّيِّدُ ثُمَالُهُمْ [ (2) ] وصاحب رجلهم وَمُجْتَمَعِهِمْ وَاسْمُهُ الْأَيْهَمُ.
وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أَحَدُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَأَسْقُفُّهُمْ [ (3) ] وَحَبْرُهُمْ وَإِمَامَهُمْ وَصَاحِبُ مِدْرَاسِهِمْ وَكَانَ أَبُو حَارِثَةَ قَدْ شَرُفَ فِيهِمْ وَدَرَسَ كُتُبَهُمْ حَتَّى حَسُنَ عَمَلُهُ فِي دِينِهِمْ وَكَانَتْ مُلُوكُ الرُّومِ [ (4) ] مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ قَدْ شَرَّفُوهُ وَمَوَّلُوهُ وَأَخْدَمُوهُ وَبَنَوْا لَهُ الْكَنَائِسَ وَبَسَطُوا عَلَيْهِ الْكَرَامَاتِ لِمَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَمَلِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِهِمْ.
فَلَمَّا وُجِّهُوَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم مِنْ نَجْرَانَ جَلَسَ أَبُو حَارِثَةَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ مُوَجِّهًا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى جَنْبِهِ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: كُوزُ بْنُ عَلْقَمَةَ يُسَايِرُهُ، إِذْ عَثَرَتْ بَغْلَةُ أَبِي حَارِثَةَ، فَقَالَ لَهُ كُوزٌ: تَعِسَ الْأَبْعَدُ، يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو حَارِثَةَ: بَلْ أَنْتَ تَعِسْتَ، فَقَالَ لَهُ: وَلِمَ يَا أَخُ؟ فَقَالَ: وَاللهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ، قَالَ لَهُ كُوزٌ: فَمَا يَمْنَعُكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ هَذَا؟ قَالَ: مَا صَنَعَ بِنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ شَرَّفُونَا وَمَوَّلُونَا وَأَكْرَمُونَا، وَقَدْ أَبَوْا إِلَّا خِلَافَهُ وَلَوْ فَعَلْتُ نزعوا منا كلما تَرَى، فَأَضْمَرَ عَلَيْهَا مِنْهُ أَخُوهُ كُوزُ بْنُ عَلْقَمَةَ حَتَّى أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ [ (5) ] .
__________
[ (2) ] (ثمالهم) : ثمال القوم: هو أصلهم الذي يرجعون إليه ويقوم بأمورهم وشؤونهم.
[ (3) ] (الأسقف) : عظيم النصارى.
[ (4) ] سقطت من (ح) .
[ (5) ] رواه ابن هشام في السيرة (2: 204) ، ونقله ابن كثير في التَّارِيخَ (5: 56) .

(5/383)


أَخْبَرَنَا أَبُو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أَبِي عَمْرٍو، قَالَا: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس، قَالَ: اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَأَحْبَارُ يَهُوَدَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَازَعُوا عِنْدَهُ، فَقَالَتِ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا يَهُوَدِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا نَصْرَانِيًّا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ، وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [ (6) ] ، فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ الْقُرَظِيُّ حِينَ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ النَّصَارَى وَالْأَحْبَارُ فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَتُرِيدُ مِنَّا يَا مُحَمَّدُ أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ نَصْرَانِيٌّ، يُقَالُ لَهُ الرَّبِّيسُ: وَذَلِكَ تُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ، وَإِلَيْهِ تَدْعُو؟ أَوْ كَمَا قَالَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: مَعَاذَ اللهِ أَنْ أَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ أَوْ آمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي وَلَا أَمَرَنِي، فَأَنْزَلَ اللهُ- عَزَّ وَجَلَّ- فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ (7) ] .
ثُمَّ ذَكَرَ مَآخِذَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ بِتَصْدِيقِهِ إِذَا هُوَ جَاءَهُمْ وإقراره بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ إِلَى قَوْلِهِ:
مِنَ الشَّاهِدِينَ [ (8) ] .
__________
[ (6) ] الآيات الكريمة (65- 68) من سورة آل عمران.
[ (7) ] الآيتان الكريمتان (79- 80) من سورة آل عمران، والخبر رواه ابن هشام في السيرة (2: 180- 181) .
[ (8) ] الآية الكريمة (81) من سورة آل عمران.

(5/384)


زَادَ أَبُو عَبْدِ اللهِ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يسألونه عن عيسى بن مَرْيَمَ ثُمَّ نَزَلَتْ فِيهِمْ فَاتِحَةُ آلِ عِمْرَانَ إِلَى رَأْسِ الثَّمَانِينَ مِنْهَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الله الحافظ، وأَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ يَشُوعَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ يُونُسُ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم كَتَبَ إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِ «طس» [ (9) ] سُلَيْمَانَ بِسْمِ إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم إِلَى أُسْقُفِّ نَجْرَانَ، وَأَهْلِ نَجْرَانَ: إِنْ أَسْلَمْتُمْ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللهَ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ وَأَدْعُوكُمْ إِلَى وِلَايَةِ اللهِ مِنْ وِلَايَةِ الْعِبَادِ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْجِزْيَةُ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَقَدْ آذَنْتُكُمْ بِحَرْبٍ وَالسَّلَامُ.
فَلَمَّا أَتَى الْأُسْقُفَّ الْكِتَابُ وَقَرَأَهُ فَظِعَ بِهِ وذعره ذعرا شديدا، فعبث إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يُقَالُ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ وَدَاعَةَ، وَكَانَ مِنْ [أَهْلِ] [ (10) ] هَمْدَانَ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُدْعَى إِذَا نَزَلَتْ مُعْضِلَةٌ قَبْلَهُ، لَا الْأَيْهَمُ، وَلَا السَّيِّدُ، وَلَا الْعَاقِبُ، فَدَفَعَ الْأُسْقُفُّ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى شُرَحْبِيلَ، فَقَرَأَهُ فقال للأسقف: يَا أَبَا مَرْيَمَ! مَا رَأْيُكَ؟ فَقَالَ شُرَحْبِيلُ: قَدْ عَلِمْتَ مَا وَعَدَ اللهُ إبراهيم
__________
[ (9) ] الآية الأولى من سورة النمل، وقد عقّب ابن القيم في «زاد المعاد» فقال:
«وقد وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هذا، وقال: قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ (طس. تلك آيات القرآن وكتاب مبين) وذلك غلط على غلط، فإن هذه السورة مكية باتفاق، وكتابه إلى نجران بعد مرجعه من تبوك» .
[ (10) ] الزيادة من (ح) فقط.

(5/385)


فِي ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ مِنَ النُّبُوَّةِ فَمَا يُؤْمِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، لَيْسَ لِي فِي النُّبُوَّةِ رَأْيٌ، لَوْ كَانَ أمر مِنَ أَمْرِ الدُّنْيَا أَشَرْتُ عَلَيْكَ فِيهِ، وَجَهِدْتُ لَكَ، فَقَالَ لَهُ الْأُسْقُفُّ: تَنَحَّ فَاجْلِسْ فَتَنَحَّى شُرَحْبِيلُ فَجَلَسَ نَاحِيَةً.
فَبَعَثَ الْأُسْقُفُّ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ شُرَحْبِيلَ، وَهُوَ مِنْ ذِي أَصْبَحَ مِنْ حِمْيَرٍ، فَأَقْرَأَهُ الْكِتَابَ، وَسَأَلَهُ عَنِ الرَّأْيِ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِ شُرَحْبِيلَ، فَقَالَ لَهُ الْأُسْقُفُّ: فَاجْلِسْ، فَتَنَحَّى فَجَلَسَ نَاحِيَةً.
فَبَعَثَ الْأُسْقُفُّ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يُقَالُ لَهُ: جَبَّارُ بْنُ فَيْضٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ أَحَدُ بَنِي الْحِمَاسِ، فَأَقْرَأَهُ الْكِتَابَ وَسَأَلَهُ عَنِ الرَّأْيِ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِ شُرَحْبِيلَ وَعَبْدِ اللهِ، فَأَمَرَهُ الْأُسْقُفُّ فَتَنَحَّى فَجَلَسَ نَاحِيَةً.
فَلَمَّا اجْتَمَعَ الرَّأْيُ مِنْهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ جَمْعًا أَمَرَ الْأُسْقُفُّ بِالنَّاقُوسِ فَضُرِبَ بِهِ، وَرُفِعَتِ الْمُسُوحُ فِي الصَّوَامِعِ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ إِذَا فَزِعُوا بِالنَّهَارِ وَإِذَا كَانَ فَزَعُهُمْ لَيْلًا ضَرَبُوا بِالنَّاقُوسِ وَرُفِعَتِ النِّيرَانُ فِي الصَّوَامِعِ، فَاجْتَمَعَ حِينَ ضُرِبَ النَّاقُوسُ وَرُفِعَتِ الْمُسُوحُ أَهْلُ الْوَادِي أَعْلَاهُ وَأَسْفَلُهُ، وَطُولُ الْوَادِي مَسِيرَةُ يَوْمٍ لِلرَّاكِبِ السَّرِيعِ وَفِيهِ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ قَرْيَةً، وَعِشْرُونَ وَمِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَهُمْ عَنِ الرَّأْيِ فِيهِ فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَهْلِ الْوَادِي مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا شُرَحْبِيلَ بْنَ وَدَاعَةَ الْهَمْدَانِيَّ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ شُرَحْبِيلَ الْأَصْبَحِيَّ وَجَبَّارَ بْنَ فَيْضٍ الْحَارِثِيَّ فَيَأْتُونَهُمْ بِخَبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ الْوَفْدُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَضَعُوا ثِيَابَ السَّفَرِ عَنْهُمْ وَلَبِسُوا حُلَلًا لَهُمْ يَجُرُّونَهَا مِنْ حِبَرَةٍ، وَخَوَاتِيمَ الذَّهَبِ، ثُمَّ انْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمُ السَّلَامَ، وَتَصَدَّوْا لَكَلَامِهِ نَهَارًا طَوِيلًا فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ وَعَلَيْهِمْ تِلْكَ الْحُلَلُ وَالْخَوَاتِيمُ الذَّهَبُ، فَانْطَلَقُوا يَتْبَعُونَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَا مَعْرِفَةً لَهُمْ، كَانَا يَجْدَعَانِ الْعَتَائِرَ إِلَى نَجْرَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيَشْتَرُوا لَهُمَا مِنْ بَزِّهَا وَثَمَرِهَا وَذُرَتِهَا، فَوَجَدُوهُمَا فِي نَاسٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي

(5/386)


مَجْلِسٍ،
فَقَالُوا: يَا عُثْمَانُ وَيَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! إِنَّ نَبِيَّكُمَا كَتَبَ إِلَيْنَا بِكِتَابٍ فَأَقْبَلْنَا مُجِيبِينَ لَهُ، فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ سَلَامَنَا، وَتَصَدَّيْنَا لَكَلَامِهِ نَهَارًا طَوِيلًا فَأَعْيَانَا أَنْ يُكَلِّمَنَا فَمَا الرَّأْيُ مِنْكُمَا: أَنَعُودُ أَمْ نَرْجِعُ؟ فَقَالَا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وهو فِي الْقَوْمِ: مَا تَرَى يَا أَبَا الْحَسَنِ فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ لِعُثْمَانَ وَلِعَبْدِ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: أَرَى أَنْ يَضَعُوا حُلَلَهُمْ هَذِهِ وَخَوَاتِيمَهُمْ وَيَلْبَسُوا ثِيَابَ سَفَرِهِمْ، ثُمَّ يعودون إِلَيْهِ. فَفَعَلَ وَفْدُ نَجْرَانَ ذَلِكَ، وَوَضَعُوا حُلَلَهُمْ وَخَوَاتِيمَهُمْ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمُوا فَرَدَّ بِسَلَامِهِمْ ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَقَدْ أَتَوْنِي الْمَرَّةَ الْأُولَى وَإِنَّ إِبْلِيسَ لَمَعَهُمْ» .
ثُمَّ سَاءَلَهُمْ وَسَاءَلُوهُ فَلَمْ تَزَلْ بِهِ وَبِهِمُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى قَالُوا لَهُ: مَا تَقُولُ فِي عيسى بن مَرْيَمَ؟ فَإِنَّا نَرْجِعُ إِلَى قَوْمِنَا وَنَحْنُ نَصَارَى يَسُرُّنَا إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا أَنْ نَعْلَمَ مَا تَقُولُ فِيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا عِنْدِي فِيهِ شَيْءٌ يَوْمِي هَذَا، فَأَقِيمُوا حَتَّى أُخْبِرَكُمَا بِمَا يُقَالُ فِي عِيسَى» .
فَأَصْبَحَ الْغَدُ وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ إلى قوله فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [ (11) ] .
__________
[ (11) ] [آل عمران الآيات (59- 61) ] ، وتفسيرها أي في كونه خلق من غير أب كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تراب يابس فجعله بشرا: لحما ودما «ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فيكون» فمثل عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدم أي شأنه الغريب كشأن آدم عليهما السلام. «خلقه من تراب» جملة مفسرة للتمثيل لما له من الشبه وهو أنه تعالى خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم فشبّه حاله بما هو أغرب إفحاما للخصم وقطعا لمواد الشبهة، والمعنى خلق قالبه مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ له «كن» أي أنشأه بشرا سويّا بقوله «كن» كقوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ. ويجوز أن تكون «ثمّ» لتراخي الخبر لا المخبر فيكون حكاية حال ماضية.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ خبر محذوف أي الحقّ المذكور مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ

(5/387)


فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم الْغَدَ بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ أَقْبَلَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ فِي خَمِيلٍ لَهُ وَفَاطِمَةُ تَمْشِي عِنْدَ ظَهْرِهِ لِلْمُلَاعَنَةِ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ عِدَّةُ نِسْوَةٍ فَقَالَ شُرَحْبِيلُ لِصَاحِبَيْهِ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ شُرَحْبِيلَ وَيَا جَبَّارُ بْنَ فَيْضٍ قَدْ عَلِمْتُمَا أَنَّ الْوَادِيَ إِذَا اجْتَمَعَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلُهُ لَمْ يَرِدُوا وَلَمْ يَصْدُرُوا إِلَّا عَنْ رأي، وَإِنِّي وَاللهِ أَرَى أَمْرًا مُقْبِلًا إِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مَلِكًا مَبْعُوثًا فَكُنَّا أَوَّلَ الْعَرَبِ طَعَنَ فِي عَيْنِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ لَا يَذْهَبُ لَنَا مِنْ صَدْرِهِ وَلَا مِنْ صُدُورِ قَوْمِهِ حَتَّى يُصِيبُونَا بِجَائِحَةٍ وَإِنَّا لِأَدْنَى الْعَرَبِ مِنْهُمْ جِوَارًا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ نبيا مرسلا فلا عنّاه فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَّا شَعْرٌ وَلَا ظُفُرٌ إِلَّا هَلَكَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبَاهُ: فَمَا الرَّأْيُ يَا أَبَا مَرْيَمَ فَقَدْ وَضَعَتْكَ الْأُمُورُ عَلَى ذِرَاعٍ، فَهَاتِ رَأْيَكَ، فَقَالَ: رَأْيِي أَنْ أُحَكِّمَهُ فَإِنِّي أَرَى رَجُلًا لَا يَحْكُمُ شَطَطًا أَبَدًا، فَقَالَا لَهُ:
أَنْتَ وَذَاكَ.
فَتَلَقَّى شُرَحْبِيلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ خَيْرًا مِنْ مُلَاعَنَتِكَ، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ شُرَحْبِيلُ: حُكْمُكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَيْلَتُكَ إِلَى الصَّبَاحِ فَمَهْمَا حَكَمْتَ فِينَا فَهُوَ جَائِزٌ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَلَّ وَرَاءَكَ أَحَدٌ يُثَرِّبُ عَلَيْكَ! فَقَالَ شُرَحْبِيلُ: سَلْ صَاحِبَيَّ فَسَأَلَهُمَا، فَقَالَا لَهُ: مَا تَرِدُ الْوَادِي وَلَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ رَأْيِ شُرَحْبِيلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم: كَافِرٌ أَوْ قَالَ جَاحِدٌ موفق.
__________
[ () ] خطاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم لزيادة الثبات أو لكل سامع. فلما أصبحوا عادوا فقرأ عليهم الآيات فأبوا أن يقرأوا. وفي ذكر طلبه صلى الله عليه وسلم مباهلة أهل نجران بأمر الله تعالى وامتناعهم من ذلك قال الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي جادَلك من النصارى في عيسى من بعد ما جاءك من البينات الموجبة للعلم. فَقُلْ تَعالَوْا هلمّوا بالرأي والعزم نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ أي يدع كل منّا ومنكم نفسه وعزة أهله وألصقهم بقلبه أي المباهلة، وإنما قدم على النفس لأن الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم، ثم نتباهل أي يلعن الكاذب منا، والبهلة بالضم [والفتح] اللعنة وأصله الترك من قولهم بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار. «ثم نبتهل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الكاذبين» عطف فيه بيان.

(5/388)


فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَاعِنُهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ أَتَوْهُ فَكَتَبَ لَهُمْ هَذَا الْكِتَابَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِنَجْرَانَ إِذْ كَانَ عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ وَكُلِّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ وَرَقِيقٍ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ، وَتَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ مِنْ حُلَلِ الْأَوَاقِي فِي كُلِّ رَجَبٍ أَلْفُ حُلَّةٍ، وَفِي كُلِّ صَفَرٍ أَلْفُ حُلَّةٍ، وَمَعَ كُلِّ حُلَّةٍ أُوقِيَّةٌ مِنَ الْفِضَّةِ فَمَا زَادَتْ عَلَى الْخَرَاجِ أَوْ نَقَصَتْ عَنِ الْأَوَاقِي فَبِالْحِسَابِ، وَمَا قَضَوْا مِنْ دُرُوعٍ أَوْ خَيْلٍ أَوْ رِكَابٍ أَوْ عُرُوضٍ أُخِذَ مِنْهُمْ بِالْحِسَابِ، وَعَلَى نَجْرَانَ مُؤْنَةُ رُسُلِي، وَمُتْعَتُهُمْ مَا بَيْنَ عِشْرِينَ يَوْمًا فَدُونَهُ، وَلَا تُحْبَسُ رُسُلِي فَوْقَ شَهْرٍ، وَعَلَيْهِمْ عَارِيَةٌ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا إِذَا كَانَ كَيَدٌ وَمَعَرَّةٌ، وَمَا هَلَكَ مِمَّا أَعَارُوا رُسُلِي مِنْ دُرُوعٍ أَوْ خَيْلٍ أَوْ رِكَابٍ فَهُوَ ضَمَانٌ عَلَى رُسُلِي حَتَّى يؤَدُّوهُ إِلَيْهِمْ، وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَأَرْضِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَأَنْ لَا يُغَيِّرُوا مِمَّا كَانُوا عليه وَلَا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَلَا مِلَّتِهِمْ، وَلَا يغيّروا أسقف من اسقفيته وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلَا وَاقِهًا مِنْ وُقَيْهَاهُ [ (12) ] ، وكلما تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ دِنْيَةٌ وَلَا دَمُ جَاهِلِيَّةٍ وَلَا يُحْشَرُونَ وَلَا يُعْشَرُونَ وَلَا يَطَأُ أَرْضَهُمْ جَيْشٌ، وَمَنْ سَأَلَ فِيهِمْ حَقًّا فَبَيْنَهُمُ النِّصْفُ غَيْرَ ظَالِمِينَ وَلَا مَظْلُومِينَ بِنَجْرَانَ، وَمَنْ أَكَلَ رِبًا مِنْ ذِي قَبَلٍ فَذِمَّتِي مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ رَجُلٌ بِظُلْمِ آخَرَ، وَعَلَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ جِوَارُ اللهِ عَزَّ وجل وذمة مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَدًا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ، مَا نَصَحُوا وَأَصْلَحُوا فِيمَا عَلَيْهِمْ غَيْرَ مُثْقَلِينَ بِظُلْمٍ.
شَهِدَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَغَيْلَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مِنْ بَنِي نَصْرٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيُّ، وَالْمُغِيرَةُ [ (13) ] وَكَتَبَ. حتى إذا قبضوا
__________
[ (12) ] الواقه: ولي العهد بلغتهم.
[ (13) ] زاد ابن سعد: «وعامر مولى أبي بكر، وفي الخراج لأبي يوسف أن الذي كتب لهم هذا الكتاب:

(5/389)


كِتَابَهُمُ انْصَرَفُوا إِلَى نَجْرَانَ فَتَلَقَّاهُمُ الْأُسْقُفُّ وَوُجُوهُ نَجْرَانَ عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ مِنْ نَجْرَانَ وَمَعَ الْأُسْقُفِّ أَخٌ لَهُ مِنْ أُمِّهِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ مِنَ النَّسَبِ يُقَالُ لَهُ بِشْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَلْقَمَةَ، فَدَفَعَ الْوَفْدُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى الْأُسْقُفِّ فَبَيْنَا هو يقرأه وَأَبُو عَلْقَمَةَ مَعَهُ وَهُمَا يَسِيرَانِ إِذْ كَبَّتْ بِبِشْرٍ نَاقَتُهُ فَتَعَّسَ بِشْرٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُكَنِّي عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ الْأُسْقُفُّ عِنْدَ ذَلِكَ قَدْ وَاللهِ تَعَّسْتَ نَبِيًّا مُرْسَلًا، فَقَالَ: بِشْرٌ: لَا جَرَمَ وَاللهِ لَا أَحُلُّ عَنْهَا عُقَدًا حَتَّى آتِيَهُ، فَضَرَبَ وَجْهَ نَاقَتِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ وَثَنَى الْأُسْقُفُّ نَاقَتَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ افْهَمْ عَنِّي إِنِّي إِنَّمَا قُلْتُ هَذَا لِيَبْلُغَ عَنِّي الْعَرَبَ مَخَافَةَ أَنْ يَرَوْا أَنَّا أَخَذْنَا حَقَّهُ أَوْ رَضِينَا نُصْرَتَهُ، أَوْ بَخَعْنَا لِهَذَا الرَّجُلِ بِمَا لَمْ تَبْخَعْ بِهِ الْعَرَبُ، وَنَحْنُ أَعَزُّهُمْ وَأَجْمَعُهُمْ دَارًا، فَقَالَ لَهُ بِشْرٌ: لَا وَاللهِ لَا أَقْبَلُ مَا خَرَجَ مِنْ رَأْسِكِ أَبَدًا فَضَرَبَ بِشْرٌ نَاقَتَهُ وهو مولّي لِلْأُسْقُفِّ ظَهْرَهُ وَهُوَ يَقُولُ:
إِلَيْكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضِيَنُهَا [ (14) ] ... مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا
مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا
حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ وَلَمْ يَزَلْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم حَتَّى اسْتُشْهِدَ أَبُو عَلْقَمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَدَخَلَ وَفْدُ نَجْرَانَ فَأَتَى الرَّاهِبَ لَيْثُ بْنُ أَبِي شَمِرٍ الزُّبَيْدِيُّ وَهُوَ فِي رَأْسِ صَوْمَعَةٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ نَبِيًّا بُعِثَ بِتِهَامَةَ، وَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْأُسْقُفِّ فَأَجْمَعَ رَأْيُ أَهْلِ الْوَادِي عَلَى أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ شُرَحْبِيلُ بْنُ وَدَاعَةَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ شرحبيل، وحبّار بْنُ فَيْضٍ فَتَأْتُونَهُمْ بِخَبَرِهِ، فَسَارُوا حَتَّى أَتَوَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَاهُمْ إِلَى الْمُلَاعَنَةِ، فَكَرِهُوَا مُلَاعَنَتَهُ وَحَكَّمَهُ شُرَحْبِيلُ، فَحَكَمَ عَلَيْهِمْ حُكْمًا وَكَتَبَ لَهُمْ بِهِ كِتَابًا، ثُمَّ أَقْبَلَ الْوَفْدُ بِالْكِتَابِ حَتَّى دَفَعُوا إِلَى الْأُسْقُفِّ، فَبَيْنَا الْأُسْقُفُّ يقرأه
__________
[ () ] عبد الله بن أبي بكر، وفي كتاب الأموال لأبي عبيد: شهد بذلك عثمان بن عفان وثقيقيب، وفي اليعقوبي (2: 67) أن الذي كتب هذه الوثيقة: علي بن أبي طالب.
[ (14) ] الوضين: بطان منسوج بعضه على بعض يشدّ به الرحل على البعير كالحزام للسرج.

(5/390)


وَبِشْرٌ مَعَهُ إِذْ كَبَّتْ بشر نَاقَتُهُ فَتَعَّسَهُ، فَشَهِدَ الْأُسْقُفُّ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَانْصَرَفَ أَبُو عَلْقَمَةَ نَحْوَهُ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ فَقَالَ الرَّاهِبُ: أَنْزِلُونِي وَإِلَّا رَمَيْتُ نَفْسِي مِنْ هَذِهِ الصَّوْمَعَةِ فَأَنْزَلُوهُ، فَانْطَلَقَ الرَّاهِبُ بِهَدِيَّةٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا هَذَا الْبُرْدُ الَّذِي يَلْبَسُهُ الْخُلَفَاءُ، وَالْقَعْبُ وَالْعَصَا، وَأَقَامَ الرَّاهِبُ بَعْدَ ذَلِكَ سِنِينَ يَسْمَعُ كَيْفَ يَنْزِلُ الْوَحْيُ وَالسُّنَنُ وَالْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ، وَأَبَى اللهُ لِلرَّاهِبِ الْإِسْلَامَ فَلَمْ يُسْلِمْ، وَاسْتَأْذَنَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجْعَةِ إِلَى قَوْمِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكَ حَاجَتُكَ يَا رَاهِبُ إِذْ أَبِيتَ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ إِنَّ لِي حَاجَةً وَمَعَاذَ اللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: إِنَّ حَاجَتَكُ وَاجِبَةٌ يَا رَاهِبُ، فَاطْلُبْهَا إِذَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَلَمْ يَعُدْ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِنَّ الْأُسْقُفَّ أَبَا الْحَارِثِ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ وَوُجُوهُ قَوْمِهِ وَأَقَامُوا عِنْدَهُ يَسْمَعُونَ مَا يُنْزِلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ فَكَتَبَ لِلْأُسْقُفِّ هَذَا الْكِتَابَ وَلِأَسَاقِفَةِ نَجْرَانَ، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) لِلْأُسْقُفِّ أَبِي الْحَارِثِ وَكُلِّ أَسَاقِفَةِ نَجْرَانَ وَكَهَنَتِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَأَهْلِ بِيَعِهِمْ وَرَقِيقِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَمُتَوَاطِئِهِمْ، وَعَلَى كُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ لَا يُغَيَّرُ أسقفّ من أسقفيّته، وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلَا كَاهِنٌ مِنْ كَهَانَتِهِ، وَلَا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَلَا سُلْطَانِهِمْ وَلَا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ أَبَدًا مَا نَصَحُوا اللهَ وَأَصْلَحُوا عَلَيْهِمْ غَيْرَ مُثْقَلِينَ بِظُلْمٍ وَلَا ظَالِمِينَ. وَكَتَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ.
فَلَمَّا قَبَضَ الْأُسْقُفُّ الْكِتَابَ اسْتَأْذَنَ فِي الِانْصِرَافِ إِلَى قَوْمِهِ وَمَنْ مَعَهُ فَأَذِنَ لَهُمْ فَانْصَرَفُوا حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم [ (15) ] .
__________
[ (15) ] سيرة ابن هشام فقرات متفرقة من (2: 175- 204) ، ونقله ابن كثير في التاريخ (5: 54- 56) .

(5/391)


أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَنَاحُ بْنُ نَذِيرِ بْنِ جَنَاحٍ الْقَاضِي بِالْكُوفَةِ، أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ، حَدَّثَنَا عبد الله ابن مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ صِلَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
أَنَّ السَّيِّدَ وَالْعَاقِبَ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَأَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ لَا تلاعنه، فو الله لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنْتَهَ لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا، قَالُوا لَهُ: نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ فَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمَا رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ» فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُهُ فَقَالَ:
قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، فَلَمَّا قَامَ، قَالَ: «هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» كَذَا قَالَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ موسى عَنْ إِسْرَائِيلَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ.
ورَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ [ (16) ] .
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مُخْتَصَرًا [ (17) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَبَّانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وأَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ: إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ السُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَغْدَادِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قال:
__________
[ (16) ] الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ الْحُسَيْنِ.. في: 64- كتاب المغازي (72) باب قصة أهل نجران، الحديث (4380) ، فتح الباري (8: 93) .
[ (17) ] سنن ابن ماجة في المقدمة في فضل أبي عبيدة، الحديث (135) ، ص (1: 48) .

(5/392)


بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ فَقَالُوا: فِيمَ؟ قَالُوا: أرأيت ما تقرؤون:
يا أخت هارون، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ عِيسَى وَمُوسَى [ (18) ] مَا قَدْ عَلِمْتُمْ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَفَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ.
لَفْظُ حَدِيثِ السُّوسِيِّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شيبة [ (19) ] .
__________
[ (18) ] (ف) : «بين موسى وعيسى» .
[ (19) ] مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، فِي: 38- كتاب الآداب (1) باب النهي عن التكني بأبي القاسم، الحديث (8) ، ص (3: 1684) ، وأخرجه الترمذي في تفسير سورة مريم عن أبي سعيد الأشج.

(5/393)