عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. القدسي حديث الغار:
قرأت على
أبي الفتح الشيباني بدمشق أخبركم الحسن بن علي
بن الحسين بن الحسن بن محمد بن البن الأسدي
قراءة عليه وأنت تسمع قال: أنا جدي قال أنا
أبو القاسم بن أبي العلاء قال: أنا ابن أبي
النصر قال: أنا خيثمة ثنا عبد الله بن أحمد
الدورقي ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا عوف بن عمرو
القيسي أخو رياح القيسي ثنا أبو مصعب المكي
قال أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة
ابن شعبة فسمعتهم يتحدثون أن النبي صلى الله
عليه وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت في
وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته وأمر
الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار وأقبل
فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم
حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم
على أربعين ذراعا تعجل بعضهم ينظر في الغار
فلم ير إلا حمامتين وحشيتين بفم الغار فرجع
إلى أصحابه فقالوا له: ما لك قد رأيت حمامتين
وحشيتين فعرفت أنه ليس فيه أحد فسمع النبي صلى
الله عليه وسلم ما قال فعرف رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن الله عز وجل قد درأ عنه.
ج / 1 ص -241-
حديث الهجرة1
وخبر سراقة بن مالك بن جعشم:
روينا من طريق البخاري ثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل قال ابن
هشام: فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم
قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا
يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية فلما
ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك
الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد الغارة فقال: أين تريد يا أبا بكر قال
أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة:
فإن مثلك يا أبا بكر لا يَخرُج ولا يُخرَج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم
وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار فارجع فاعبد
ربك ببلدك فرجع وارتحل مع ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف
قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب
المعدوم ويصل الرحم ويتحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق فلم
يكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه
في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا
نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو
بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم
بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن
فيتقصف عليه نساء المشركين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا العنوان في نسخة، وفى نسخة أخرى "ذكر الهجرة إلى المدينة".
ج / 1 ص -242-
وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يكاد
يملك عينيه إذا قرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا
إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على
أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن
بالصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا بهذا فإن
أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن بذلك
فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر
الاستعلان، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبى بكر فقال: قد علمت
الذي عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلي ذمتي فإني
لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال له أبو بكر: فإني
أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ
بمكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين:
"إني رأيت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين"، وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر
بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
"على رسلك فإني
أرجو أن يؤذن لي" فقال أبو
بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال:
"نعم" فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف
راحلتين عنده ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر. قال ابن شهاب: قال عروة:
قالت عائشة: فبينا نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال
قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم
يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر فدى له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه
الساعة إلا أمر قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن
له فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:
"أخرج من عندك"،
فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال:
"فإنه قد أذن لي في الخروج"، فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"نعم"، قال أبو بكر فخذ بأبي أنت
ج / 1 ص -243-
يا
رسول الله إحدى راحلتي هاتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"بل بالثمن"،
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت
أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت
ذات النطاقين قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار
في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو
غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا
يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام
ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما
حين يذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى
ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل في كل ليلة من تلك الليالى الثلاث
واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من بني الديل وهو من
بني عبد بن عدي هاديا خريتا -والخريت الماهر بالهداية- قد غمس حلفا في
آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه
راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث
وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم على طريق السواحل. قال
ابن شهاب وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن
مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا
رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر دية كل
واحد لمن قتله أو أسره فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج
أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة: إني قد رأيت
آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة: فعرفت أنهم هم
فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ثم لبثت
في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء
أكمة فتحبسها علي
ج / 1 ص -244-
وأخذت
رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه1 وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي
فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت
فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضربهم أم
لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت
قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر
الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم
زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان
ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم
بالأمان، فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت
من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن
قومك جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم
الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا:
"أخف عنا"،
فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي في رقعة من أدم
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن
الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين
كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبا بكر ثياب بياض. وسمع المسلمون بالمدينة خروج رسول الله صلى الله
عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم
حر الظهيرة فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم
أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم2 لأمر ينظر إليه فبصر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الزج الحديدة التي في أسفل الرمح.
2 الأطم هو بناء مرتفع.
ج / 1 ص -245-
أن قال
بأعلى صوته: يا معاشر1 العرب هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى
السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات
اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك في يوم الاثنين من شهر
ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
صامتا فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحيى أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو
بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند
ذلك فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة
ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول
صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان
مربدا2 للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر سعد بن زرارة فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته:
"هذا إن شاء الله تعالى المنزل" ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد
ليتخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله. وقع في البخاري في رواية
أبي ذر عن أبي الهيثم الكشميهني عن الفربري3 هنا زيادة فأبى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا
فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنائه ويقول وهو
ينقل اللبن:
هذا الحمال لا حمال خيبر
هذا أبر ربنا وأطهر
اللهم إن الأجر أجر الآخرة
فارحم الأنصار والمهاجرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "يا معشر".
2 المربد هو الموضع الذي يجعل فيه التمر لينشف كالبيدر للحنطة.
3 في الأصل " القوبري".
ج / 1 ص -246-
تمثل
بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي. قال ابن شهاب ولم يبلغنا في الأحاديث
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات.
كذا وقع في هذا الخبر أن الذي كسا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا
بكر الزبير وذكر موسى بن عقبة أنه طلحة بن عبيد الله في خبر ذكره.
وروينا من طريق البخاري أن أبا بكر كان يُسأل عن النبي صلى الله عليه
وسلم: من هذا؟ فيقول: هذا الرجل يهديني الطريق قال: فيحسب الحاسب أنه
يعني الطريق وإنما يعني سبيل الخير. وروينا من طريق ابن إسحاق أنه عليه
السلام أعلم عليا بخروجه وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع
التي كانت عنده للناس وأن أبا بكر خرج بماله كله وهو فيما قيل خمسة
آلاف أو ستة آلاف درهم. أخبرنا عبد الله بن أحمد بن فارس ويوسف بن
يعقوب بن المجاور قراءة على الأول وأنا أسمع بالقاهرة وبقراءتي على
الثاني بسفح قاسيون قالا: ثنا أبو اليمن الكندي قال: أخبرنا هبة الله
بن أحمد الحريري قال: أنا أبو طالب العشاري قال: أنا أبو الحسين بن
سمعون ثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك قال: أنا يحيى بن إسماعيل
الجريري1 ثنا جعفر بن على ثنا سيف عن بكر بن وائل عن الزهري عن عروة عن
عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما أحد أمنّ
عليّ في صحبته وذات يده من أبي بكر وما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر
ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا".
وجهل أهل مكة الخبر عنهم إلى أن سمعوا الهاتف يهتف بالشعر الذي فيه ذكر
أم معبد فعلموا أنهم توجهوا نحو يثرب وأنهم قد نجوا منهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح الجيم وكسر الراء نسبة إلى جرير بن عبد الله.
ج / 1 ص -247-
حديث أم معبد1:
أخبرنا الشيخان أبو الفضل عبد الرحيم بن يوسف المزي بقراءة والدي عليه
وأبو الهيجاء غازي بن أبي الفضل بقراءتي عليه قالا: أنا ابن طبرزذ قال:
أنا ابن الحصين قال: أنا ابن غيلان قال: أنا أبو بكر الشافعي ثنا محمد
بن يونس القرشي ثنا عبد العزيز بن يحيى مولى العباس بن عبد المطلب ثنا
محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده أبي
سليط وكان بدريا قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة
ومعه أبو بكر الصديق وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وابن أريقط يدلهم على
الطريق مروا بأم معبد الخزاعية وهي لا تعرفهم فقال لها:
"يا أم معبد هل عندك من لبن؟"، قالت: لا والله وإن الغنم لعازبة، قال:
"فما هذه الشاة التي أرى؟" لشاة رآها في كفاء البيت، قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال:
"أتأذنين في حلابها"، قالت: لا والله ما ضربها من فحل قط فشأنك بها، فدعا بها، فمسح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر المؤلف خبر سراقة بن مالك قبل قصة أم معبد، وقد قال مغلطاي في
سيرته أنه عليه السلام نزل بقديد على أم معبد... فذكر قصتها ثم قال:
فلما راحوا من قديد تعرض لهما سراقة بن مالك المدلجي فذكر قصته.
فالحاصل أن الترتيب يقتضي ذكر قصة أم معبد قبل قصة سراقة كما شرطه
المؤلف في أول سيرته ولعله فعل ذلك لأن خبر سراقة في الصحيح، وحديث
الهجرة لا ينفك عنه، وحديث أم معبد ليس كذلك ولا هو في الصحيح.
ج / 1 ص -248-
ظهرها
وضرعها ثم دعا بإناء يربض1 الرهط فحلب فيه فملاه فسقى أصحابه عللا بعد
نهل ثم حلب فيه آخر فغادره عندها وارتحل فلما جاء زوجها عند المساء
قال: يا أم معبد ما هذا اللبن ولا حلوبة في البيت والغنم عازبة2 قالت:
لا والله إلا أنه مر بنا رجل ظاهر الوضاءة متبلج الوجه في أشفاره وطف3
وفي عينيه دعج4 وفى صوته صحل5 غصن بين الغصنين لا تشنؤه من طول ولا
تقتحمه من قصر لم تعبه ثجلة6 ولم تزره صعلة7 كأن عنقه أبريق فضة إذا
صمت فعليه البهاء وإذا نطق فعليه وقار له كلام كخرزات النظم أزين
أصحابه منظرا وأحسنهم وجها أصحابه يحفون به إذا أمر ابتدروا أمره وإذا
نهى ايتفقوا عند نهايته، قال: هذه والله صفة صاحب قريش ولو رأيته
لاتبعته ولأجتهدن أن أفعل. قال: فلم يعلموا بمكة أين توجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حتى سمعوا هاتفا على رأس أبي قبيس وهو
يقول:
جزى الله خيرا والجزاء بكفه
رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما رحلا بالحق وانتزلا به
فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فما حملت من ناقة فوق رحلها
أبر وأوفى ذمة من محمد
وأكسى لبرد الحال قبل ابتذاله
وأعطى برأس السابح المتجرد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يرويهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض من ربض أي أقام.
2 أي: في المرعى البعيد.
3 أي: في شعر أجفانه طول.
4 أي: شدة سواد.
5 أي: غير حاد.
6 أي: ضخم بطن.
7 أي: صغر رأس.
ج / 1 ص -249-
وبه
قال أبو بكر الشافعي حدثنا محمد بن يحيى بن سليمان ثنا أحمد بن محمد بن
أيوب ثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق قال: حدثت عن أسماء بنت أبي
بكر رضي الله عنهما أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر رضى
الله عنه فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر قالت: قلت:
والله لا أدري أين أبي قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم
خدي لطمة خرم منها قرطي قالت: ثم انصرفوا فمضى ثلاث ليال ما ندري أين
توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة
يغني بأبيات غنى بها العرب وأن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه
حتى خرج بأعلى مكة:
جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واغتدوا به
فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت: فلما سمعنا قوله
عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث. وقد روينا حديث
أسماء هذا متصلا من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء أخبرناه عبد
الله بن أحمد بن فارس قراءة عليه وأنا أسمع بالقاهرة وأبو الفتح يوسف
بن يعقوب الشيباني بقراءتي عليه بسفح قاسيون قالا: أنا أبو اليمن زيد
بن الحسن الكندي قال: أنا أبو القاسم هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري
قال: أنا أبو طالب محمد بن علي بن الفتح قال: أنا أبو الحسين محمد بن
أحمد ثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني قال: أنا يحيى بن
إسماعيل ثنا جعفر بن علي ثنا سيف عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء
ابنة أبي بكر رضي الله عنهما قالت: ارتحل النبي صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر فلبثنا أياما ثلاثة أو أربعة أو خمس ليال لا ندري أين توجه
ولا يأتينا
ج / 1 ص -250-
عنه
خبر حتى أقبل رجل من الجن. الحديث بنحو ما تقدم. وروينا عن أبي بكر
الشافعي بالسند المتقدم ثنا بشر بن أنس أبو الخير ثنا أبو هشام محمد بن
سليمان بن الحكم بن أيوب بن سليمان بن زيد بن ثابت بن يسار الكعبي
الربعي الخزاعي قال: حدثني عمي أيوب بن الحكم قال الشافعي: وحدثني أحمد
بن يوسف بن يوسف بن تميم البصري ثنا أبو هشام محمد بن سليمان بقديد قال
حدثني عمي أيوب بن الحكم عن حزام بن هشام عن أبيه هشام عن جده حبيش بن
خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة؛ فذكر نحو ما تقدم من خبر أبي
سليط، وذكر الأبيات وزاد فيها:
فيا لقصي ما زوى الله عنكم
به من فعال لا تجازى وسؤدد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت
عليه صريحا ضرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها بحالب
ترددها في مصدر ثم مورد
فلما سمع بذلك حسان بن
ثابت قال يجاوب الهاتف:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم
وقدس من يسري إليهم ويغتدي
ترحل عن قوم فضلت عقولهم
وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم
وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وقد نزلت منه على أهل يثرب
ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جده
بصحبته من يسعد الله يسعد1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "مجمع الزوائد" اختلافات وغلط يصحح مما جاء هنا.
ج / 1 ص -251-
واجتاز
رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ذلك بعبد يرعى غنما فكان من شأنه
ما رويناه من طريق البيهقي بسنده عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق
النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفيين مرا بعبد يرعى غنما
فاستسقياه اللبن فقال: ما عندي شاة تحلب غير أن ههنا عناقا1 حملت أول
وقد أخدجت2 وما بقي لها لبن فقال:
"ادع بها"،
فدعا بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت
وقال: جاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر ثم حلب فسقى الراعي ثم حلب
فشرب فقال الراعي: بالله من أنت فوالله ما رأيت مثلك قال:
"أوتراك تكتم علي حتى أخبرك؟"،
قال: نعم قال:
"فإني محمد
رسول الله"، فقال: أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ؟ قال:
"إنهم ليقولون ذلك" قال: فأشهد أنك رسول الله وأن ما جئت به حق وأنه لا يفعل ما فعلت
إلا نبي وأنا متبعك قال:
"إنك لن تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فائتنا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العناق هي الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة.
2 أي ولدت قبل أوانها.
ج / 1 ص -252-
ذكر فوائد تتعلق بهذه الأخبار:
العثان بضم
العين المهملة والثاء المثلثة: شبه الدخان وهو مفسر في الخبر بذلك
وجمعه عواثن. الحمال جمع أو مصدر أي هذا الحمل أو المحمول من اللبن
أفضل من حمال خيبر التمر والزبيت المحمول منها، قيل رواه المستملي
بالجيم فيهما وله وجه والأول أظهر. وأم معبد عاتكة بنت خالد إحدى بني
كعب من خزاعة وهي أخت حبيش بن خالد الذي روينا الخبر من طريقه وله صحبة
وكان منزلها بقديد1.
وأبو سليط أسيرة بن عمرو أنصاري من بني النجار شهد بدرا وما بعدها.
ووقع في الأبيات التى رويناها في الخبر من طريقه:
فما حملت من ناقة فوق رحلها... البيت.
والذي يليه في ذلك الشعر وليس ذلك بمعروف والمعروف في هذا الشعر أنه
لأبي أناس الديلي رهط أبي الأسود صحابي ذكره أبو عمر، وعمه سارية بن
زنيم الذي قال له عمر بن الخطاب: يا سارية الجبل، وكان أبو أناس شاعرا
وهو القائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
تعلم رسول الله أنك قادر
على كل حاف من تهام ومنجد
وهي طويلة منها:
وما حملت من ناقة فوق رحلها
أبر وأوفى ذمة من محمد
وتضمن حديث أم معبد
أشياء من صفة النبي صلى الله عليه وسلم يأتي شرحها في الشمائل إن شاء
الله تعالى. وكفاء البيت: سترة في البيت من أعلاه إلى أسفله من مؤخره،
وقيل: الكفاء الشقة التي تكون في مؤخر الخباء وقيل: هو كساء يلقى على
الخباء كالإزار حتى يبلغ الأرض وقد أكفى البيت. ذكره ابن سيده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مصغر هو موضع بين مكة والمدينة. |