عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. القدسي ج / 2 ص -31-
غزوة بدر الأخيرة:
قال ابن إسحاق ولما قدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام
بها بقية جمادى الأولى إلى آخر رجب ثم خرج في
شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان حتى نزله. قال
ابن هشام: واستعمل على المدينة عبد الله بن
عبد الله بن أبي سلول الأنصاري. قال ابن
إسحاق، فأقام عليه ثمان ليال ينتظر أبا سفيان
وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من
ناحية الظهران وبعض الناس يقول قد بلغ عسفان
ثم بدا له في الرجوع فقال: يا معشر قريش إنه
لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر
وتشربون فيه اللبن وأن عامكم هذا عام جدب وإني
راجع فارجعوا فرجع الناس وسماهم أهل مكة جيش
السويق يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على بدر
ينتظر أبا سفيان لميعاده فأتاه مخشي بن عمرو
الضمري وهو الذي كان وادعه على بني ضمرة في
غزوة ودان فقال: يا محمد أجبت لميعاد قريش على
هذا الماء قال: "نعم يا أخا بني ضمرة وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك
ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك"، قال: لا والله يا محمد ما لنا بذلك منك حاجة ثم انصرف رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وروى الحاكم
في الإكليل عن الواقدي قال: وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد خرج في هذه الغزوة في
ألف وخمسمائة من أصحابه وكانت الخيل عشرة
أفراس فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرس
لأبي بكر وفرس لعمر وفرس لأبي قتادة وفرس
لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وفرس للمقداد
وفرس للخباب وفرس للزبير وفرس لعباد بن بشر،
وذكر عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف
على المدينة عبد الله بن رواحة.
ج / 2 ص -32-
غزوة دومة الجندل:
ودومة بضم الدال وفتحها
سميت بدومة ابن إسماعيل؛ لأنه نزلها، ثم غزا رسول الله صلى الله عليه
وسلم دومة الجندل، قال ابن هشام في شهر ربيع الأول واستعمل على المدينة
سباع بن عرفطة الغفاري ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن نصل
إليها ولم يلق كيدا فأقام بالمدينة بقية سنته، وقال ابن سعد: قالوا:
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بدومة الجندل جمعا كثيرا يظلمون
من مربهم، وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة وهي طرف من أفواه الشام
بينها وبين دمشق خمس ليال وبينها وبين المدينة خمس عشرة أو ست عشرة
ليلة فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وخرج لخمس ليال بقين من
شهر ربيع الأول في ألف من المسلمين فكان يسير الليل ويكن النهار ومعه
دليل له من بني عذرة يقال له مذكور فلما دنا منهم إذا هم مغربون وإذا
آثار النعم والشاء فهجم على ماشيتهم ورعاتهم فأصاب من أصاب وهرب من هرب
في كل وجه وجاء الخبر أهل دومة فتفرقوا ونزل رسول الله صلى الله عليه
وسلم بساحتهم فلم يلق بها أحدا فأقام بها أياما وبث السرايا وفرقها،
فرجعت ولم تصب منهم أحدا وأخذ منهم رجل، فسأله رسول الله صلى الله عليه
وسلم عنهم، فقال: هربوا حيث سمعوا أنك أخذت نعمهم فعرض عليه الإسلام
فأسلم ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لعشر ليال بقين
من شهر ربيع الآخر، وفي هذه الغزوة وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم
عيينة بن حصن أن يرعى بتغلمين وما والاها إلى المراض وكانت بلاده قد
أجدبت1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هامش الأصل "بلغ مقابلة لله الحمد".
ج / 2 ص -33-
غزوة الخندق:
وقال ابن إسحاق: ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس1، وقال ابن سعد:
في ذي القعدة فحدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير عن عروة بن الزبير
ومن لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك ومحمد بن كعب القرظي والزهري
وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر وغيرهم من علمائنا كل قد
اجتمع حديثه في الحديث عن الخندق وبعضهم يحدث ما لا يحدث بعض قالوا:
إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من يهود منهم سلام بن مشكم وابن أبي
الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضريون وهوذة بن
قيس وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير ومن بني وائل وهم الذين
حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا حتى قدموا على
قريش مكة يدعونهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إنا
سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل
الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه أفديننا خير أم دينه قالوا:
بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فأنزل الله فيهم:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}، الآية إلى قوله:
{وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا}، فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول
الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا لذلك واتعدوا له ثم خرج أولئك النفر
من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه وأن قريشا قد تابعوهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث ابن عمر "عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن
أربع عشرة سنة..." الذي في الصحيحين احتج به ابن حزم وتاج الدين
الفاكهاني في رياض الأفهام على أنها كانت في سنة أربع.
ج / 2 ص -34-
على
ذلك واجتمعوا معهم فيه فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب وخرجت
غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة والحارث بن عوف المري في بني
مرة ومسعود بن رخيلة فيمن تابعه من أشجع فلما سمع بهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم ومما أجمعوا له من الأمر ضرب على المدينة الخندق فعمل
رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبا للمسلمين في الأجر وعمل معه
المسلمون فيه فدأب ودأبوا وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن
المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين وجعلوا يورون بالضعف من العمل
ويتسللون إليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن وجعل
الرجل من الملمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد له منها يذكر
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق بها فإذا قضى
حاجته رجع إلى ما كان عليه من عمله رغبة في الخير واحتسابا به. قرأت
على السيدة الأصيلة مؤنسة خاتون ابنة المولى السلطان الملك العادل سيف
الدين أبي بكر بن أيوب رحم الله سلفها أخبرتك الشيخة الأصيلة أم هانئ
عفيفة بنت أحمد بن عبد الله الفارقانية إجازة قالت: أنا أبو طاهر عبد
الواحد بن أحمد بن محمد بن الصباغ قال: أنا أبو نعيم قال: أنا أبو علي
محمد بن أحمد بن الحسن فثنا أبو جعفر محمد بن نصر الصايغ فثنا إبراهيم
بن حمزة فثنا عبد العزيز بن محمد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن
عمر قال: بعثني خالي عثمان بن مظعون لآتيه بلحاف فأتيت النبي صلى الله
عليه وسلم فاستأذنته وهو بالخندق فأذن لي وقال لي:
"من لقيت منهم فقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن
ترجعوا"، قال:
فكان ذلك في برد شديد فلقيت الناس فقلت لهم: إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا قال: والله ما عطف علي منهم اثنان أو واحد.
كذا وقع في هذا الخبر عثمان بن مظعون وعثمان بن مظعون توفي قبل هذا
وإخوة عثمان قذامة والسائب وعبد الله تأخروا. وقدامة مذكور فيمن شهد
الخندق وهم أخوال عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، قال ابن إسحاق فأنزل
الله عز وجل في ذلك:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى
يَسْتَأْذِنُوهُ} إلى قوله:
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
ثم قال: يعني للمنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون من غير
إذن:
{لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ
ج / 2 ص -35-
بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}
الآية إلى قوله:
{أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قد يعلم ما أنتم عليه من صدق أو كذب إلى قوله:
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقال ابن سعد: وتجهزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب
فكانوا أربعة آلاف وعقدوا اللواء في دار الندوة وحمله عثمان بن طلحة
وقادوا معهم ثلثمائة فرس وكان معهم ألف وخمسمائة بعير وخرجوا يقودهم
أبو سفيان بن حرب ورأتهم بنو سليم بمر الظهران وكانوا سبعمائة يقودهم
سفيان بن سيد شمس حليف حرب بن أمية وهو أبو أبي الأعور السلمي الذي كان
مع معاوية بصفين وخرجت معهم بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد الأسدي،
وخرجت فزارة فأوعبت وهم ألف يقودهم عيينة بن حصن، وخرجت أشجع وهم
أربعمائة يقودهم مسعود بن رخيلة وخرجت بنو مرة وهم أربعمائة يقودهم
الحارث بن عوف وخرج معهم غيرهم. وقد روى الزهري أن الحارث بن عوف رجع
بني مرة فلم يشهد الخندق منهم أحد، وكذلك روت بنو مرة والأول أثبت أنهم
شهدوا الخندق مع الحارث بن عوف فكان جميع القوم الذين وافوا الخندق ممن
ذكر من القبيلة عشرة آلاف وهم الأحزاب وكانوا ثلاثة عساكر وعناج1 الأمر
إلى أبي سفيان فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس
وأخبرهم خبر عدوهم وشاورهم في أمرهم فأشار عليه سلمان بالخندق فأعجب
ذلك المسلمين وعسكر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سفح سلع وكان
المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ثم خندق
على المدينة فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده لينشط الناس
وكمل في ستة أيام. انتهى ما نقله ابن سعد. وغيره يقول حفر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الخندق بضع عشرة ليلة وقيل: أربعا
وعشرين وكان في حفر الخندق آيات من أعلام النبوة منها أن جابرا كان
يحدث أنه اشتد عليهم في بعض الخندق كدية2 فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأخذ المعول وضرب فعاد كثيبا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ملاكه وما يقوم به.
2 قطعة صلبة لا يعمل فيها الفأس.
ج / 2 ص -36-
أهيل1. وروي في هذا الخبر أنه عليه السلام دعا بماء فتفل عليه ثم دعا
بما شاء الله أن يدعو به ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية فيقول من
حضرها: فوالذي بعثه بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأسا ولا
مسحاة. ومنها خبر الحفنة من التمر الذي جاءت به ابنة بشير بن سعد
لأبيها وخالها عبد الله بن رواحة ليتغديا به فقال لها رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"هاتيه"، فصبته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأهما ثم أمر
بثوب فبسط له ثم قال لإنسان عنده اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء
فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل
الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب. ومنها حديث شويهة جابر وكانت
غير جد سمينة قال: صنعتها وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله صلى الله
عليه وسلم وحده فلما قلت له أمر صارخا فصرخ: أن انصرفوا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله قال: قلت: إنا لله وإنا
إليه راجعون، قال: فأقبل الناس معه فجلس فأخرجناها إليه فبرك ثم سمى
الله عز وجل ثم أكل وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء آخرون حتى
صدر أهل الخندق عنها. رواه البخاري وفيه: وهم ألف فأقسم بالله لقد
أكلوا حتى تركوه وانحرفوا وأن برمتنا لتغط كما هي وإن عجيننا ليخبز كما
هو، ومنها حديث سلمان الفارسي أنه قال ضربت في ناحية من الخندق فغلظت
علي ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني فلما رآني أضرب ورأى شدة
المكان على نزل فأخذ المعول من يدي، فضربه ضربة لمعت تحت المعول برقة
ثم ضرب به أخرى فلمعت تحته برقة أخرى ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة
أخرى قال: قلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله ما هذا الذي رأيت يلمع تحت
المعول وأنت تضرب؟ قال: "أوقد رأيت
ذلك يا سلمان؟"، قال: قلت:
نعم قال: "أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن وأما الثانية فإن الله فتح
علي بها الشام والمغرب وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق".
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول حين فتحت
هذه الأمصار في زمن عمر وزمن عثمان افتتحوا ما بدا لكم فوالذي نفس أبي
هريرة بيده ما فتحتم من مدينة ولا نفتخر لها إلى يوم القيامة إلا وقد
أعطى الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: رملا سائلا.
ج / 2 ص -37-
محمدا
صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك. ولما فرغ رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال وغطفان ومن
تبعهم بذنب نقمي إلى جانب أحد وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب
هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالنساء والذراري أن يجعلوا
في الآطام1. وقال ابن سعد: كان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة ولواء
الأنصار بيد سعد بن عبادة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سلمة
بن أسلم في مائتي رجل وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة
ويظهرون التكبير وذلك أنه كان يخاف على الذراري من بني قريظة، وكان
عماد بن بشر على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيره من الأنصار
يحرسونه كل ليلة. كذا قال ابن سعد في هذا الموضع، وقال في باب حراس
النبي صلى الله عليه وسلم حرسه يوم بدر حين نام في العريش سعد بن معاذ
ويوم أحد: محمد بن مسلمة ويوم الخندق الزبير بن العوام. رجع إلى ابن
سعد: وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه
يوما ويغدو خالد بن الوليد يوما ويغدو عمرو بن العاص يوما ويغدو هبيرة
بن أبي وهب يوما ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما ويغدو ضرار بن الخطاب
الفهري يوما فلا يزالون يجيلون خيلهم ويتفرقون مرة ويجتمعون أخرى
ويناوشون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدمون رماتهم فيرمون.
رجع إلى ابن إسحاق: وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن
أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم وكان قد وادع رسول الله صلى الله
عليه وسلم على قومه وعاقده على ذلك فلما سمع كعب بحيى أغلق دونه باب
حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فناداه حيي ويحك يا كعب افتح لي
قال: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشئوم وإني قد عاهدت محمدا فلست ناقض ما
بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاء وصدقا قال: ويحك افتح لي أكلمك قال: ما
أنا بفاعل قال: والله إن أغلقت دوني إلا تخوفا على جشيشتك2 أن آكل معك
منها فأحفظ الرجل2 ففتح له فقال: ويحك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الأبنية المرتفعة.
2 الجشيشة هي أن تطحن الحنطة ثم تجعل في القدور ويلقي عليها لحم أو تمر
وتطبخ. ويقال لها: الدشيشة بالدال.
3 أي: أغضبه.
ج / 2 ص -38-
يا كعب
جئتك بعز الدهر وببحر طام جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من
رومة وغطفان حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أحد قد عاهدوني وعاقدوني
على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، قال له كعب: جئتني والله
بذل الدهر وبجهام1 قد هراق ماءه يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي
دعني وما أنا عليه؛ فإني لم أَرَ من محمد إلا صدقا ووفاء، فلم يزل حيي
بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاه عهدا من الله
وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك
حتى يصيبني ما أصابك فنقض كعب بن أسد عهده وبرئ مما كان بينه وبين رسول
الله عليه الصلاة والسلام فلما انتهى إلى رسول الله عليه الصلاة
والسلام الخبر وإلى المسلمين بعث رسول الله عليه الصلاة والسلام سعد بن
معاذ وسعد بن عبادة ومعهما ابن رواحة وخوات بن جبير فقال:
"انطلقوا حتى
تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم فإن كان حقا فالحنوا إلي لحنا حتى
أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا
وبينهم فاجهروا بذلك للناس"، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم نالوا من رسول
الله عليه الصلاة والسلام وقالوا من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد
ولا عقد، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه وكان رجلا فيه حدة فقال له سعد
بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، وذكر
ابن عائذ أن الذي شاتمهم سعد بن عبادة والذي قال له ما بيننا وبينهم
أربى من المشاتمة سعد بن معاذ ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما على رسول
الله عليه الصلاة والسلام فسلموا عليه ثم قالوا: بمضل والقارة أي كغدر
عضل والقارة بأصحاب الرجيع، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين" وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل
منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ولحم النفاق من بعض المنافقين حتى قال معتب
بن قشير كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن
على نفسه أن يذهب إلى الغائط، وقيل: لم يكن معتب من المنافقين وقد شهد
بدرا. قاله ابن هشام. وقال ابن عائذ وقال رجال ممن معه: يا أهل يثرب لا
مقام لكم فارجعوا. قال ابن إسحاق: وقال أوس بن قيظي: يا رسول الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السحاب الذي لا ماء فيه.
ج / 2 ص -39-
إن
بيوتنا عورة من العدو وذلك عن ملأ من رجال قومه فأذن لنا أن نخرج فنرجع
إلى ديارنا فإنها خارج من المدينة. فأقام رسول الله عليه الصلاة
والسلام وأقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة قريب من شهر لم يكن
بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار؛ وقال ابن عائذ وأقبل نوفل بن عبد
الله بن المغيرة المخزومي على فرس له ليوثبه الخندق فوقع في الخندق
فقتله الله وكبر ذلك على المشركين وأرسلوا إلى رسول الله عليه الصلاة
والسلام أنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه فرد إليهم رسول
الله عليه الصلاة والسلام أنه خبيث خبيث الدية فلعنه الله ولعن ديته
ولا نمنعكم أن تدفنوه ولا أرب لنا في ديته، وقيل: أعطوا في جثته عشرة
آلاف. قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام كما حدثني
عاصم بن عمر عن الزهري إلى عيينة بن حصن من حذيفة بن بدر الفزاري وإلى
الحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على
أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه فجرى بينه وبينهما للصلح حتى كتبوا
الكتب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة في ذلك فلما أراد
رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن
عبادة يذكر ذلك لهما واستشارهما فيه فقالا: يا رسول الله أأمرا تحبه
فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا
قال:
"بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن
قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر
ما"، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على
الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن
يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له
وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا
السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله عليه الصلاة
والسلام:
"فأنت وذاك"،
فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال ليجهدوا علينا فأقام
رسول الله عليه الصلاة والسلام والمسلمون وعدوهم محاصروهم ولم يكن
بينهم قتال إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي
جهل وهبيرة بن أبي وهب وضرار بن الخطاب تلبسوا للقتال ثم خرجوا على
خيلهم حتى مروا بمنازل
ج / 2 ص -40-
بني
كنانة فقالوا: تهيئوا يا بني كنانة للحرب فستعلمون من الفرسان اليوم ثم
أقبلوا تعنق1 بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا: والله
إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا
فضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع وخرج
علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين حتى أخذوا عليهم النغرة التي
أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم. وكان عمرو بن عبد ود قد
قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق
خرج معلما ليرى مكانه فلما وقف هو وخيله قال: من يبارز فبرز له علي بن
أبي طالب رحمه الله، وذكر ابن سعد في هذا الخبر أن عمرا كان ابن تسعين
سنة فقال علي: أنا أبارزه فأعطاه رسول الله عليه الصلاة والسلام سيفه
وعممه وقال: اللهم أعنه عليه.
رجع إلى الأول فقال له: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من
قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه قال له: أجل قال له علي: فإني
أدعوك إلى الله وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام وإلى الإسلام، قال: لا
حاجة لي بذلك قال له علي: فإني أدعوك إلى النزال، قال له: لم يابن أخي
فوالله ما أحب أن أقتلك قال علي: لكني والله أحب أن أقتلك، قال: فحمي
عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم أقبل على علي فتناولا
وتجاولا فقتله علي وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة،
وقال علي في ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه
ونصرت دين محمد بضراب
فصددت حين تركته متجدلا
كالجذع بين دكادك ورواب
وعففت عن أثوابه ولو انني
كنت المقطر بزني أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه
ونبيه يا معشر الأحزاب
وعن ابن إسحاق من غير
رواية البكائي أن عمرا لما نادى بطلب من يبارزه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العنق هو نوع من سير الإبل والدواب.
ج / 2 ص -41-
قام
علي رضى الله عنه وهو مقنع في الحديد فقال: أنا له يا نبي الله فقال
له:
"اجلس إنه عمرو"،
ثم كرر عمرو النداء وجعل يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من
قتل منكم دخلها؟ أفلا تبرزون لي رجلا؟ فقام علي فقال: أنا يا رسول
الله، فقال:
"اجلس إنه عمرو"،
ثم نادى الثالثة وقال:
ولقد بححت من النداء
بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجع
وقفة الرجل المناجز
وكذاك أني لم أزل
متسرعا قبل الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى
والجود من خير الغرائز
فقام علي رضى الله عنه
فقال: أنا له يا رسول الله، فقال: $"إنه عمرو"، فقال: وإن كان عمرا،
فأذن له رسول الله عليه الصلاة والسلام فمشى إليه علي وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتاك
مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة
والصدق منجي كل فائز
إني لأرجو أن أقيم
عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى
ذكرها عند الهزاهز
فقال عمرو: من أنت؟ قال:
أنا علي، قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال: غيرك يا
بن أخي من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أهريق دمك، فقال علي:
لكني والله ما أكره أن أهريق دمك، فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار ثم
أقبل نحو علي مغضبا ويقال: إنه كان على فرسه، فقال له علي: كيف أقاتلك
وأنت على فرسك؟ ولكن انزل معي فنزل عن فرسه ثم أقبل نحوه فاستقبله علي
بدرقته فضربه عمرو فيها فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، فضربه
علي على حبل العاتق فسقط وثار العجاج وسمع رسول الله عليه الصلاة
والسلام التكبير، فعرف أن عليا قد قتله. قال ابن هشام وكان شعار أصحاب
رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم الخندق ويوم بني قريظة "حم لا
ينصرون".
ج / 2 ص -42-
قال
ابن إسحاق وحدثني أبو ليلى عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن
الأنصاري أخو بني حارثة أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة
يوم الخندق وكان من أحصن حصون المدينة قال وكانت أم سعد بن معاذ معها
في الحصن قالت: وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمر سعد وعليه درع له
مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها وفى يده حربته يرقد1 بها ويقول:
لبث قليلا يشهد الهيجا حمل2
لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت له أمه: الحق أي
بني فقد والله أخرت، قالت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: يا أم سعد
والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي قالت وخفت عليه حيث أصاب
السهم منه فرمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل رماه كما حدثني عاصم:
حبان بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي فلما أصابه، قال: خذها مني وأنا
ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار، ويقال: بل الذي رماه
خفاجة بن عاصم بن جبارة، وقيل: بل الذي رماه أبو أسامة الجشمي حليف بني
مخزوم.
رجع إلى ابن إسحاق ثم قال سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا
فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وأخرجوه
وكذبوه اللهم إن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا
تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. وذكر ابن عائذ أن المشركين جهزوا نحو
رسول الله عليه الصلاة والسلام كتيبة عظيمة غليظة فقاتلوهم يوما إلى
الليل فلما حضرت العصر دنت الكتائب فلم يقدر النبي عليه الصلاة والسلام
ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على ما أرادوا
فانكفأت مع الليل فزعموا أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال:
"شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا". وقرأت على أبي النور إسماعيل بن نور بن قمر الهبتي أخبركم الشيخ
أبو نصر موسى بن عبد القادر الجبلي قراءة عليه وأنت تسمع فأقر به قال:
أنا أبو بكر بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الارقداد هو الإسراع.
2 بفتح الحاء والميم وهو حمل بن سعدانة بن حارثة الكلبي.
ج / 2 ص -43-
الزاغوني قال: أنا ابن البسري قال: أنا المخلص فثنا يحيى بن محمد فثنا
محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي فثنا أبو مالك الجنبي عمرو بن هاشم فثنا
يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما
صلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم الخندق الظهر والعصر حتى غابت
الشمس. رواية سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب ذهب بعض الناس إلى أنها
مرسلة لأنه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وقيل ولد لسنتين خلتا من
خلافة عمر وهو الصحيح إن شاء الله فتكون متصلة وله عنه أحاديث يسيرة هي
عندهم متصلة ويقول في بعضها: سمعت عمر رضي الله عنه على المنبر. وذكر
ابن سعد في هذا الخبر أنهم شغلوا عن صلاة الظهر والعصر والمغرب
والعشاء. قال ابن سعد: وأقام أسيد بن الحضير على الخندق في مائتين من
المسلمين وكر خالد بن الوليد في خيل من المشركين يطلبون غرة المسلمين
فناوشوهم ساعة، ومع المشركين وحشي فزرق1 الطفيل بن النعمان من بني سلمة
بمزراقه فقتله وانكشفوا وسار رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى قبته
فأمر بلالا فأذن وأقام الظهر فصلى ثم أقام بعد لكل صلاة إقامة إقامة
وصلى هو وأصحابه ما فاتهم من الصلوات وقال:
"شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا"، ولم يكن لهم بعد ذلك قتال جميعا حتى انصرفوا إلا أنهم لا يدعون
الطلائع بالليل يطمعون في الغارة. قال ابن إسحاق فأقام رسول الله عليه
الصلاة والسلام وأصحابه فيما وصف الله عز وجل من الخوف والشدة بمظاهرة
عدوهم وإتيانهم إليهم من فوقهم ومن أسفل منهم ثم إن نعيم بن مسعود
الأشجعي أتى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله إني
أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال: رسول الله عليه
الصلاة والسلام:
"إنما أنت فينا رجل واحد فخذ عنا ما استطعت؛ فإن الحرب خدعة"، فخرج نعيم
بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال: يا بني
قريظة قد عرفتم ودِّي إياكم وخاصة ما بينى وبينكم قالوا: صدقت لست
عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كما أنتم؛ البلد بلدكم
وبه أموالكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: رماه بمزراقه وهو الرمح القصير.
ج / 2 ص -44-
ونساؤكم وأبناؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره وإن قريشا
وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم
ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك
لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا
بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكون
بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه قالوا: لقد
أشرت بالرأي ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من
رجال قريش قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وأنه قد بلغني أمر قد رأيت
أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عني، قالوا: نفعل قال: تعلمون أن معشر
يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أنا
قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش
وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من
بقي منهم حتى نستأصلهم فأرسل إليهم: نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون
منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا ثم خرج حتى أتى غطفان
فقال: يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليّ ولا أراكم
تتهموني قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم قال: فاكتموا عليّ قالوا: نعم،
ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة
خمس وكان من صنيع الله لرسوله عليه الصلاة والسلام أرسل أبو سفيان بن
حرب ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان
فقالوا لهم إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فأعدوا للقتال حتى
نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه فأرسلوا إليه أن اليوم يوم السبت
وقد علمتم ما نال منا من تعدٍ في السبت ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى
تعطونا رهنا؛ فلما رجع الرسول بذلك قالوا: صدقنا والله نعيم بن مسعود
فردوا إليهم الرسل وقالوا: والله لا نعطيكم رهنا أبدا فاخرجوا معنا إن
شئتم وإلا فلا عهد بيننا وبينكم، فقال بنو قريظة: صدق والله نعيم بن
مسعود وخذل الله بينهم واختلفت كلمتهم وبعث الله عليهم ريحا عاصفا في
ليال شديدة البرد فجعلت الريح تقلب أبنيتهم وتكفأ قدورهم فلما اتصل
برسول الله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمرهم بعث حذيفة من اليمان
ليأتيه بخبرهم فأتاهم واستتر في
ج / 2 ص -45-
غمارهم
وسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش ليتعرف كل امرئ منكم جليسه قال
حذيفة: فأخذت بيد جليسي وقلت من أنت؟ فقال: أنا فلان، ثم قال أبو سفيان
يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ولقد هلك الكراع والخف
وأخلفتنا بنو قريظة ولقينا من هذه الريح ما ترون ما يستمسك لنا بناء
ولا تثبت لنا قدر ولا تقوم لنا نار فارتحلوا فإني مرتحل ووثب على جمله
فما حل عقال يده إلا وهو قائم، قال حذيفة ولولا عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم إليّ إذ بعثني أن لا أحدث شيئا لقتلته بسهم ثم أتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عند رحيلهم فوجدته قائما يصلي فأخبرته فحمد
الله وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم. وروينا من
طريق البخاري فثنا محمد بن كثير قال: أنا سفيان عن محمد بن المنكدر
قال: سمعت جابرا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب:
"من يأتينا
بخبر القوم"، فقال الزبير: أنا ثم قال:
"من يأتينا بخبر القوم" فقال الزبير: أنا ثم قال:
"من يأتينا بخبر القوم"، فقال الزبير: أنا ثم قال:
"إن لكل نبي حواري وإن حواريي الزبير". كذا وقع في هذا الخبر، والمشهور أن الذي توجه ليأتي بخبر القوم
حذيفة بن اليمان كما روينا عنه من طريق ابن إسحاق وغيره قال يعني النبي
صلى الله عليه وسلم:
"من رجل يقوم
فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع
-يشترط
له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة-
أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة"،
فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجذع وشدة البرد فلما لم يقم
أحد دعاني فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال:
"يا حذيفة اذهب فادخل في القوم".
وذكر الحديث. وذكر ابن عقبة ومحمد بن عائذ خروج حذيفة إلى المشركين
ومشقة ذلك عليه إلى أن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"قم فحفظك الله من أمامك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك حتى ترجع إلينا" فقام حذيفة
مستبشرا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه احتمل احتمالا فما شق
عليه شيء مما كان فيه، وعند ابن عائذ فقبض حذيفة على يد رجل عن يمينه
فقال: من أنت؟ قال: أنا معاوية بن أبي سفيان، وقبض على يد آخر عن يساره
فقال: من أنت؟ فقال: أنا فلان، وفعل ذلك خشية أن يفطن له فبدرهم
بالمسألة. وقد روينا في خبر نعيم بن مسعود غير ما ذكرناه. وقال صلى
الله عليه وسلم حين أجلى الأحزاب الآن نغزوهم ولا
ج / 2 ص -46-
يغزوننا نحن نسير إليهم. ذكره البخاري بسنده، وقال ابن سعد: وأقام عمرو
بن العاص وخالد بن الوليد في مائتي فارس ساقة1 لعسكر المشركين وردءا
لهم مخافة الطلب وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء
لسبع ليال بقين من ذي القعدة. وكان مما قيل من الشعر يوم الخندق قول
عبد الله بن الزبعرى السهمي:
حي الديار محا معارف رسمها
طول البلى وتراوح الأحقاب
قفرا كأنك لم تكن تلهو بها
في نعمة بأوانس أتراب
فاترك تذكر ما مضى من عيشة
ومحلة خلق المقام بباب
واذكر بلاء معاشر واشكرهم
ساروا بأجمعهم من الأنصاب
أنصاب مكة عامدين ليثرب
في ذي غياطل جحفل جبجاب2
فدع الحزون مناهجا معلومة
في كل نشز ظاهر وشعاب
فيه الجياد شوازب مجنوبة
قب البطون لواحق الأقراب
من كل سلهبة3 وأجرد سلهب
كالسيد4 بادر غفلة الرقاب
جيش عيينة قاصد بلوائه
فيه وصخر قائد الأحزاب
قرمان كالبدرين أصبح فيهما
غيب الفقير ومعقل الهراب
حتى إذا وردوا المدينة وارتدوا
للموت كل مجرب قضاب
شهرا وعشرا قاصدين محمدا
وصحابه في الحرب غير صحاب
لولا الخنادق غادروا من جمعهم
قتلى لطير سغب وذئاب
فأجابه حسان بن ثابت رضي
الله عنه:
هل رسم دارسة المقام بباب
متكلم لمحاور بجواب
فدع الديار وذكر كل خريدة
بيضاء آنسة الحديث كعاب
واشك الهموم إلى الإله وما ترى
من معشر ظلموا الرسول غضاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الساقة هم الذين يسوقون الجيش.
2 سيأتي تفسير الغريب من كلام المؤلف.
3 السلهب من الخيل: الطويل.
4 أي: الذئب.
ج / 2 ص -47-
ساروا بجمعهم إليه وألبوا
أهل القرى وبوادي الأعراب
جيش عيينة وابن حرب فيهم
متخمطون بحلية الأحزاب
حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا
قتل الرسول ومغنم الأسلاب
وغدوا علينا قادرين بأيدهم
رُدُّوا بغيظهم على الأعقاب
بهبوب معصفة تفرق جمعهم
وجنود ربك سيد الأرباب
وكفى الآله المؤمنين قتالهم
وأثابهم في الأجر خير ثواب
من بعد ما قنطوا ففرق جمعهم
تنزيل نصر مليكنا الوهاب
وأقر عين محمد وصحابه
وأذل كل مكذب مرتاب
وقال هبيرة بن أبي وهب
يعتذر من فراره، ويبكي عمرو بن عبد ود ويذكر عليًّا، وقد سبق بعض هذه
الأبيات:
لعمري ما وليت ظهري محمدا
وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل
ولكنني قلبت أمرا فلم أجد
لسيفي غناء أن ضربت ولا نبل
وقفت فلما لم أجد لي مقدما
شددت كضرغام هزبر أبي شبل
ثنى عطفه عن قرنه حين لم تجد
مكرا وقدما كان ذلك من فعلى
فلا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا
وحق بحسن المدح مثلك من مثل
ولا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا
فقد مت محمود الثنا ماجد الأصل
فمن لطوال الخيل تقدع بالقنا
وللفخر يوما عند قرقرة البزل
هنالك لو كان ابن عبد لزارها
وفرجها حقا فتى غير ما وغل
فعنك علي لا أرى مثل موقف
وقفت علي نجد المقدم كالفحل
فما ظفرت كفاك فخرا بمثله
أمنت به ما عشت من زلة النعل
الغيطلة الشجر الملتف
والغيطلة الجلبة والغيطلة التباس الظلام، وجبجاب الصوت، والمتخمط
الشديد الغضب.
ج / 2 ص -48-
ذكر شهداء الخندق:
من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ وأنس بن أوس بن عتيك وعبد الله بن سهل،
ومن بني جشم بن الخزرج ثم من بني سلمة الطفيل بن النعمان وثعلبة بن
عنمة، ومن بني النجار كعب بن زيد. وذكر شيخنا الحافظ أبو محمد عبد
المؤمن الدمياطي في نسب الأوس له في بني ظفر قيس بن زيد بن عامر بن
سواد بن ظفر شهد أحدا وحضر الخندق ومات هناك ودفن، وذكر في نسب الخزرج
له عبد الله بن أبي خالد بن قيس بن مالك بن كعب بن عبد الأشهل بن حارثة
بن دينار بن النجار قتل يوم الخندق شهيدا ذكره ابن الكلبي1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هامش الأصل: بلغ مقابلة لله الحمد. |