عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. القدسي ج / 2 ص -113-
غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية:
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالمدينة يعني بعد غزوة بني المصطلق
رمضان وشوالا وخرج من ذي القعدة معتمرا لا
يريد حربا. وعند ابن سعد يوم الاثنين لهلال ذي
القعدة قال ابن هشام واستعمل على المدينة
بميلة ابن عبد الله الليثي قال: ابن إسحاق
واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من
الأعراب وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن
يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فأبطأ عليه
كثير من الأعراب وخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق
به من العرب وساق الهدي معه وأحرم بالعمرة
ليأمن الناس من حربه وليعلم الناس أنه إنما
خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له. حدثني محمد
بن مسلم بن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير عن
مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه
قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام
الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا وساق
معه الهدي سبعين بدنة وكان الناس سبعمائة رجل
فكانت كل بدنة عن عشرة نفر. وقال ابن عقبة عن
جابر عن كل سبعة بدنة. وذكر ابن عائد عن
الوليد بن مسلم عن الزهري كانوا أربع عشرة
مائة. وروينا عن البراء من طريق ابن سعد وغيره
كانوا ألفا وأربعمائة وروينا عن جابر كانوا
خمس عشرة مائة أخبرنا الشيخ نظام الدين أبو
عبد الله محمد بن الحسن بن الحسين الخليلي
قراءة عليه وأنا أسمع بمصر قال أنا أبو نصر بن
الدجاجي إجازة من بغداد قال: أنا أبو الحسن
محمد بن محمد بن علوي الكوفي قراءة عليه وأنا
ج / 2 ص -114-
أسمع
قال: أنا أبو الفرج محمد بن أحمد بن علوان الخازن قال: أنا القاضي أبو
عبد الله الجعفي فثنا أبو جعفر محمد بن رباح الأشجعي فثنا أبو الحسن
علي بن منذر الطريفي فثنا محمد بن فضيل بن غروان الضبي فثنا حصين بن
عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال: عطش الناس
يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة يتوضأ منها
فأقبل الناس نحوه فقال:
"ما لكم
ما لكم؟"، قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ماء نشرب ولا نتوضأ منه إلا ما في
ركوتك فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الركوة1 فجعل الماء
يفور من بين أصابعه أمثال العيون قال: فشربنا وتوضأنا. قال: فقلت
لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة،
وقال ابن سعد: ويقال: ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون رجلا. وأحرم معه زوجه
أم المؤمنين. وروينا عن عبد الله بن أبي أوفى من طريق ابن سعد كانوا
ألفا وثلاثمائة. قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي، وابن هشام يقول بسر فقال: يا
رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل2 قد
لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم
عنوة أبدا وهذا خالد بن الوليد في خيلهم وقد قدموها إلى كراع الغميم،
وقال ابن سعد: قدموا مائتي فارس عليها خالد بن الوليد ويقال: عكرمة بن
أبي جهل قال: ودنا خالد في خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فتقدم في
خيله فقام بإزائه وصف أصحابه وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف. رجع إلى ابن إسحاق: قال: فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
"يا ويح قريش
أكلتهم الحرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إناء صغير يشرب فيه الماء.
2 يريد النساء والصبيان.
ج / 2 ص -115-
ماذا
عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي
أرادوا وأين أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين وإن لم يفعلوا
قاتلوا وبهم قوة فما تطن قريش فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني
الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة"، ثم قال:
"من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟". فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول
الله؛ قال: فسلك بهم طريقا وعرا أجذل بين شعاب فلما خرجوا منه وقد شق
ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم للناس قولوا:
"نستغفر الله
ونتوب إليه"، فقالوا
ذلك فقال: "والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها"، قال ابن شهاب فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: "اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض" في طريق يخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة قال:
فسلك الجيش ذلك الطريق فلما رأت قريش فترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم
ركضوا راجعين إلى قريش وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك
في ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة قال: فسلك الجيش ذلك الطريق
فلما رأته ناقته بركت، فقال الناس خلأت1 فقال:
"ما خلأت
وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة لا تدعوني قريش اليوم
إلى خطة يسألون فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياهما"،
ثم قال للناس: "انزلوا"، قيل له: يا رسول الله، أبالوادي ماء ننزل عليه؟ فأخرج سهما من
كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه
فحاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن2 قال: فحدثني بعض أهل العلم عن
رجال من أسلم أن الذي أنزل في القليب ناجية بن جندب سائق بدن رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وقد زعم لي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حرنت.
2 مثل لتوسع الناس بكثرة الماء.
ج / 2 ص -116-
بعض
أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الذي نزلت بسهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم فالله أعلم. قال الزهري: في حديثه فلما اطمأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة فكلموه
وسألوه ما الذي جاء به فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا
للبيت ومعظما لحرمته ثم قال: لهم نحوا مما قال لبسر بن سفيان فرجعوا
إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد إن محمدا لم يأت
لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت فاتهموهم وجبهوهم وقالوا: إن كان جاء
ولا يريد قتالا فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تحدث بذلك عنا
العرب وكانت خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها
لا يخفون عليه شيئا كان بمكة ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف
أخابني عامر فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال:
"هذا الرجل
غادر"، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه قال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه فرجع إلى قريش
وأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعثوا إليه
الحليس بن علقمة بن ريان وكان يومئذ سيد الأحابيش وهو أحد بني الحارث
بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدى في وجهه حتى يراه"، فلما رأى الهدي يسير إليه من عرض الوادي بقلائده قد أكل أوباره من
طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم إعظاما لما رأي فقال لهم ذلك، فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي
لا علم لك فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك وقال: يا
معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم أقصد عن
بيت الله من جاءه معظما، والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وما جاء
له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال: فقالوا: مه كف عنا يا حليس
حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. قال الزهري في حديثه: ثم بعثوا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم
ج / 2 ص -117-
عروة
بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلفي منكم من
بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ وقد عرفتم أنكم والد
وأني ولد، وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت
من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي، قالوا: صدقت ما أنت
عندنا بمتهم فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه
ثم قال يا محمد: أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لنقضها بهم
إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون
الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك
غدا. قال: وأبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد
فقال: امصص بظر اللات أنحن ننكشف عنه! قال: من هذا يا محمد؟ قال: "هذا ابن أبي
قحافة"، قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها
قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، قال:
والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الحديد. قال فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه
وسلم ويقول اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا
تصل إليك، قال فيقول عروة ويحك ما أفضك وما أغلظك، قال: فتبسم رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال:
"هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة"، قال: أي غدر وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس؟. قلت: كذا وقع في هذا
الخبر أن عروة عم المغيرة. وإنما هو عم أبيه. هو المغيرة بن شعبة بن
أبي عامر بن مسعود فعروة وأبو عامر أخوان. قال ابن هشام: أراد عروة
بقوله هذا أن المغيرة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من
ثقيف فتهايج الحيان من ثقيف وبنو مالك رهط المقتولين والأحلاف رهط
المغيرة فودى عروة المقتولين ثلاثة
ج / 2 ص -118-
عشر
دية وأصلح ذلك الأمر. قال الزهري: فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم
نحوا مما كلم به أصحابه وأخبره أنه لم يأت يريد حربا فقام من عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ إلا
ابتدروا وضوءه ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شيء إلا
أخذوه، فقال: يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه
والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في
أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم، قال ابن
إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش
بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يقال له:
الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا به جمل رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وحدثني بعض من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس أن
قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين رجلا وأمروهم أن يطيفوا
بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا فأخذوا
أخذا فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم وقد
كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل ثم
دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال
يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي بمكة وما بمكة من بني عدي بن كعب
أحد يمنعني وقد عرفت قريش عدواني إياها وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل
أعزبها مني عثمان بن عفان فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن
عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه لم
يأت إلا زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته فخرج عثمان بن عفان إلى مكة
فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فجعله بين
يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق
عثمان حتى أتى
ج / 2 ص -119-
أبا
سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله
به. فقال لعثمان حين فزع من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم
إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله
صلى الله عليه وسلم فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله صلى الله عليه
وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل قال ابن إسحاق. فحدثني عبد الله بن أبي
بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا
نبرح حتى نناجز القوم ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى
البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة فكان الناس يقولون بايعهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم على الموت وكان جابر بن عبد الله يقول: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن
لا نفر فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ولم يتخلف عنه أحد من
المسلمين حضره إلا الجد بن قيس أحد بني سلمة فكان جابر يقول والله
لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ1 إليها يستتر بها من الناس.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.
قال ابن هشام: فذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن أول من
بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي. قال
ابن إسحاق: قال الزهري ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ائت محمدا وصالحه ولا يكن في
صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا
عنوة أبدا، فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم
مقبلا قال قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل فلما انتهى سهيل
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي لصق بالأرض يستتر بالنابة.
ج / 2 ص -120-
الكلام
وتراجعا ثم جرى بينهما الصلح فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب وثب
عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال له: يا أبا بكر أليس رسول الله؟ قال:
بلى قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى
قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه1 فإني
أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول
الله ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألست
برسول الله؟ قال:
"بلى" قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: "بلى"
قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا؟
قال:
"أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني"، قال: فكان عمر يقول: ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت
يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حين رجوت أن يكون خيرا. ثم دعا رسول
الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال اكتب:
"بسم الله الرحمن الرحيم", قال: فقال سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم
فكتبها ثم قال:
"اكتب هذا
ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو"،
قال: فقال سهيل بن عمرو: لو شهدتك أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب
اسمك واسم أبيك قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع
الحرب عن الناس عشر سنين. يأمن فيهن الناس ويكف
بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه ومن
أتى قريشا ممن مع محمد
لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة2
وأنه لا
إسلال ولا إغلال3
وأنه من
أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عقد قريش
وعهدهم دخل فيه"، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغرز ركاب الدابة، أي اتسع قوله ونعله ولا تخالفه.
2 أي صدرا نقيا من الغل والخداع مطريا على الوفاء.
3 الإسلال السرقة الخفية، وقيل سل السيوف، أو سل بالشيء بالليل خلسة.
والإغلال الخيانة.
ج / 2 ص -121-
وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وأنك ترجع عنا عامك
هذا فلا تدخل علينا مكة وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فدخلتها
بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها
بغيرها فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن
عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه
وسلم فلما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم في نفسه دخل الناس من ذلك عليهم أمر عظيم حتى كادوا يهلكون
فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه وضرب وجهه وأخذ بتلبيبه تم قال يا
محمد قد لحت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: "صدقت"،
فجعل يبتزه بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى
صوته يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنوني في ديني فزاد الناس
ذلك إلى ما بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا أبا جندل
اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا إنا
قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله
وإنا لا نغدر بهم". قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول اصبر يا
أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب قال: ويدني قائم
السيف منه، قال: يقول عمر: وددت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه. قال: فضن
الرجل بأبيه ونفذت القضية فلما فرغ الكتاب أشهد على الصلح رجالا من
المسلمين ورجالا من المشركين: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد
الرحمن بن عوف وعبد الله بن سهيل بن عمرو وسعد بن أبي وقاص ومحمود بن
سلمة ومكرز بن حفص وهو مشرك وعلي بن أبي طالب
ج / 2 ص -122-
وكان
هو كاتب الصحيفة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربا في الحل
وكان يصلي في الحرم فلما فرغ من الصلح قام إلى هديه فنحره ثم جلس فحلق
رأسه وكان الذي حلقه فيما بلغني في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل
الخزاعي فلما رأى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق
تواثبوا ينحرون ويحلقون. وذكر ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن
ابن عباس دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحمة للمحلقين ثلاثا،
وللمقصرين مرة. وذكر ابن سعد بسنده أن عثمان وأبا قتادة الأنصاري ممن
لم يحلق، وقال ابن أبي نجيح: حدثني مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه
برة1 من فضة ليغيظ بذلك المشركين. قال الزهري في حديثه: ثم انصرف رسول
الله صلى الله عليه وسلم من وجهه ذلك قافلا حتى إذا كان بين مكة
والمدينة نزلت سورة الفتح:
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}.
ثم كانت القصة فيه وفى أصحابه حتى انتهى إلى ذكر البيعة فقال:
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} الآية. ثم ذكر من تخلف عنه من الأعراب ثم قال حين استنفرهم للخروج
معه فأبطئوا عليه:
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا
أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} ثم القصة عن خبرهم حتى انتهى إلى قوله:
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ
لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا
كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا}. ثم القصة عن خبرهم وما عرض عليهم من جهاد القوم أولي البأس الشديد
فذكر آيات من سورة الفتح. وذكر ابن عائذ فيما رواه عن محمد بن شعيب عن
عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم الباء وفتح الراء وهي حلقة تجعل في أنف البعير.
ج / 2 ص -123-
قال:
ووعده ربه أنه فاتحها وبين له فتحها ولم يجعل لمن تخلف عنه بالمدينة من
غير معذرة نصيبا في مغانم خيبر فقال:
{سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} حتى بلغ إلا قليلا. وقال ابن عقبة في تفسير قوله: {فَتْحًا قَرِيبًا} رجوعهم من العام المقبل إلى مكة معتمرين وقيل: خيبر. وهاجرت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في تلك
المدة فخرج أخواها عمارة والوليد في ردها بالعهد فلم يفعل النبي صلى
الله عليه وسلم ذلك. ونزلت:
{إِذَا
جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ} الآيات. وكان ممن طلق عند نزول قوله تعالى:
{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} عمر بن الخطاب طلق امرأته قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها
معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما وأم كلثوم بنت جرول فتزوجها أبو
جهم بن حذيفة بن غانم رجل من قومه وهما على شركهما. وروي أن بعض من كان
مع النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما قدم المدينة: ألم تقل يا رسول
الله أنك تدخل مكة آمنا قال:
"بلى أفقلت لكم من عامي هذا"، قالوا: لا قال:
"فهو كما قال جبريل". وذكر
ابن عقبة عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الناس
حين بلغه أن قريشا تجمع له فقال:
"أترون أن نغير
على ما جمعوا لنا على جل أموالهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا مغيظين
موتورين وإن تبق منهم عنق نقطعها أم ترون أن نؤم البيت الحرام فمن صدنا
عنه قاتلناه"، قال أبو بكر الصديق: الله ورسوله أعلم جئنا لأمر فنرى أن نؤمه فمن
صدنا عنه قاتلناه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فنعم".
ويقال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بسر
بن سفيان الكعبي فقال: إن قريشا قد نزلت بذي طوى وذكر نحو ما تقدم.
وفيه بعد كتابة الصحيفة بالصلح فهم ينتظرون نفاذ ذلك وإمضاءه رمى رجل
من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر فكان بينهم شيء من قتال يترامون
بالنبل والحجارة فصاح الفريقان
ج / 2 ص -124-
كلاهما
وارتهن كل واحد من الفريقين من كان عنده من الآخرين فارتهن المشركون
عثمان بن عفان ومن كان معه وارتهن المسلمون سهيل بن عمرو ومن كان معه
من المشركين يقولون: فعند ذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
المسلمين إلى البيعة وأراد القتال فبايعوه على الموت وقال جابر: على أن
لا يفروا وعمر آخذ بيده. والشجرة سمرة والخيل مائة فرس فبايعناه غير
الجد بن قيس فلما رأت قريش ذلك رعبهم الله وأرسلوا من كان في أيديهم من
المسلمين فدعوا إلى الموادعة والصلح والمسلمون لهم عالون وصالحهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم وكره عمر الصلح ثم رجع عن ذلك ولما رجع عليه
السلام من الحديبية كلمه بعض أصحابه فقالوا: جهدنا وفى الناس ظهر1
فانحره لنأكل من لحمه ولندهن من شحومه ولنحتذي من جلوده فقال عمر بن
الخطاب: لا نفعل يا رسول الله فإن الناس إن يكن فيهم بقية ظهر أمثل
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ابسطوا أنطاعكم2
وعباءكم"
ففعلوا ثم قال:
"من كان عنده
بقية من زاد أو طعام فلينثره" ودعا
لهم ثم قال:
"قربوا أوعيتكم"،
فأخذوا ما شاء الله. وقد روينا نحوه من حديث إياس بن سلمة بن الأكوع عن
أبيه من طريق مسلم وفي آخره فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهل من وضوء
فجاء رجل بأداوة3 فيها نطفة4 من ماء فأفرغها في قدم فتوضأنا كلنا
الحديث. قال ابن عقبة وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية
راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا بفتح لقد
صدونا عن البيت وصد هدينا ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من
المسلمين كانا خرجا إليه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قول
أولئك فقال: "بئس الكلام
بل هو أعظم الفتح قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم
ويسألوكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الظهر الإبل.
2 النطع البساط من الأديم.
3 إناء صغير.
4 أي: قليل.
ج / 2 ص -125-
القضية
ويرغبون إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم
وردكم الله سالمين مأجورين فهو أعظم الفتوح"، وفيه:
"أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم
أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار
وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا"، فقال
المسلمون: صدق الله ورسوله فهو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا
فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وأمره منا. وذكر ابن عائذ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أقام في غزوته هذه شهرا ونصفا. وقال ابن سعد: أقام
بالحديبية بضعة عشر يوما ويقال عشرين ليلة ثم انصرف رسول الله صلى الله
عليه وسلم فلما كانوا بضجنان نزلت عليه
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} فقال جبريل: نهنئك يا رسول الله وهنأه المسلمون. وروينا عن ابن سعد
قال: أنا إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس عن مجمع بن يعقوب عن أبيه
أنه قال لما صد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حلقوا بالحديبية
ونحروا بعث الله ريحا عاصفا فاحتملت أشعارهم فألقتها في الحرم. وعن
طارق بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن المسيب فتذاكروا الشجرة فضحك
ثم قال حدثني أبي أنه كان ذلك العام معهم وأنه قد شهدها فنسرها من
العام المقبل. وروينا عن ابن سعد قال: أنا عبد الوهاب بن عطاء قال: أنا
عبد الله بن عوف عن نافع قال: كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها
شجرة الرضوان فيصلون عندها قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأوعدهم فيها
وأمر بها فقطعت. وروينا عن ابن عمر قال: كانت رحمة من الله. وروينا عن
ابن سعد قال: أنا عبد الوهاب بن عطاء العجلي قال: أنا خالد الحذاء قال:
أخبرني أبو المليح عن أبيه قال: أصابنا يوم الحديبية مطر لم يبل أسافل
نعالنا فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن صلوا في رحالكم1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في حاشية الأصل "بلغ مقابلة لله الحمد".
ج / 2 ص -126-
ذكر فوائد تتعلق بخبر الحديبية:
الحديبية بئر سمي المكان بها والأعرف فيها التخفيف ورأيت بخط جدي قال
الأستاذ نقلا عن أبي علي الشلوبين هي بتخفيف الياء لا غير كأنه تصغير
حدبا المقصورة. قال ابن السراج والجعرانة بإسكان العين قاله الأصمعي
وأتي بالتشديد وذكر أنه سمعه من فصحاء العرب. وإحرامه عليه السلام كان
من ذي الحليفة. والأجزل الكثير الحجارة. والجرول الحجارة. والعوذ
المطافيل النساء اللاتي معهن أطفالهن وقال السهيلي جمع عائذ وهي الناقة
التي معها ولدها يريد أنهم خرجوا بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا
بألبانها ولا يرجعوا حتى يناجزوا محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وخلأت القصواء حرنت والخلأ في الإبل كالحران في غيرها من الدواب. وماء
رواء وروي وقوم رواء من الماء عن ثعلب. وناجية كان اسمه ذكوان فسماه
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نجا من كفار قريش ناجية. وجبهت الرجل
استقبلته بما يكره. يتألهون يعظمون أمر الإله. وقال الخشني: التأله
التعبد. ورأيت عن ابن الكلبي في نسب الحليس بن ريان أنه الحليس بن عمرو
بن عامر بن المغفل وهو الريان بن عبد ياليل ويقال: الخليس بن يزيد بن
ريان. والأوباش والأوشاب الأخلاط من الناس. وأبو سنان الأسدي اسمه وهب
بن محصن أخو عكاشة بن محصن.
روينا عن أبي عروبة فثنا علي بن المنذر فثنا محمد بن فضيل عن عاصم عن
ج / 2 ص -127-
عامر
قال: كان أول من بايع بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي قال: يا رسول الله
بايعني قال:
"على ماذا؟"،
قال: على ما في نفسك قال:
"ما في نفسي؟"، قال: الفتح أو الشهادة، فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وجاء الناس فجعلوا يقولون نبايعك على بيعة أبي سنان كذا روي هذا عن
الشعبي من غير وجه. والصواب سنان بن أبي سنان. قال الواقدي: فيما حكى
عنه أبو عمرو سنان أول من بايع بيعة الرضوان وتوفي سنان سنة اثنتين
وثلاثين وأما أبوه أبو سنان فمات في حصار بني قريظة ذكر ذلك أبو جعفر
الطبري وغيره وقال: كان أسن من أخيه عكاشة بسنتين قال: ودفن في مقبرة
بني قريظة اليوم. وقد تقدم ذلك. وقد ذكر أن أول المبايعين يومئذ عبد
الله بن عمر. قال أبو عمر: ولا يصح. وقد روينا من طريق البخاري قال:
حدثني شجاع بن الوليد قال سمع النضر بن محمد فثنا صخر عن نافع قال: إن
الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر وليس كذلك ولكن عمر يوم
الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار ليقاتل عليه
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة وعمر لا يدري بذلك
فبايعه عبد الله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر يستليم للقتال
فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة قال فانطلق
عمر فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي التي يتحدث
الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر.
وروينا من طريق مسلم عن سلمة بن الأكوع ثم إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم دعا للبيعة في أصل الشجرة قال: فبايعته أول الناس ثم بايع وبايع
الحديث. قال السهيلي: وفي هذا الحديث مصالحة المشركين على غير مال يؤخذ
منهم وذلك جائز إذا كان بالمسلمين ضعف وقد تقدم مصالحتهم على مال
يعطونه في غزوة الخندق. قال واختلف هل يجوز صلحهم إلى أكثر من عشر
سنين، وحجة من منع ذلك أن حظر الصلح هو
ج / 2 ص -128-
الأصل
بدليل آية القتال وقد ورد التحديد بالعشر في حديث ابن إسحاق فحصلت
الإباحة في هذا المقدار متحققة وبقيت الزيادة على الأصل. قلت: ليس في
مطلق الأمر بالقتال ما يمنع من الصلح وإن كان المراد ما في سورة براءة
من ذلك مما نزل بعد هذه الواقعة ففي التخصيص بذلك اختلاف بين العلماء.
وأما تحديد هذه المدة بالعشر فأهل النقل مختلفون في ذلك فروينا عن ابن
سعد كما روينا عن ابن إسحاق وروينا عن موسى بن عقبة قال: وكان الصلح
بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش سنتين يأمن بعضهم بعضا.
وكذلك روينا عن ابن عائذ عن محمد بن شعيب عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن
عكرمة عن ابن عباس أن مدة الصلح كانت إلى سنتين والله أعلم. وأما كتابة
الصلح فقرئ على عبد الرحيم بن يوسف المزي وأنا أسمع أخبركم أبو علي
حنبل بن عبد الله قال: أنا ابن الحصين قال: أنا أبو علي بن المذهب قال:
أنا القطيعي قال: أنا عبد الله بن أحمد فثنا أبي فثنا محمد بن جعفر
فثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقول: لما صالح رسول
الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية كتب علي رضي الله عنه كتابا
بينهم قال: فكتب محمد رسول الله فقال المشركون: لا نكتب محمد رسول الله
ولو كنت رسول الله لم نقاتلك قال: فقال لعلي:
"امحه"، قال:
فقال: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
الحديث. وقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك بيده وعد
ذلك من وقف عنده معجزة له عليه السلام وما شهد به القرآن من أنه النبي
الأمي الذي لا يحسن الكتابة مع ما كان يأتي به من أقاصيص الأولين
وأخبار الأمم الماضين هو المعجزة العظمى لما تضمن من تكذيب من نسب ذلك
إلى علم تلقاه من أساطير الأولين ممن قال اكتتبها فهي تملي عليه. وهذا
علم عظيم من أعلام نبوته وأصل كبير من دلائل صدقه في أنه عليه السلام
ج / 2 ص -129-
إنما
يتلقى ذلك من الوحي. وسلامة هذا الأصل من شبهة قد تركت للملحد حجة في
معارضته وإن بعدت أولى. وذكر الإمام أبو الوليد الباجي أنه كتب فأنكر
ذلك علماء الأندلس فبعث إلى الآفاق يستفتي بمصر والشام والعراق وغير
ذلك فجلهم قال: لم يكتب النبي صلى الله عليه وسلم بيده قط ورأوا ذلك
محمولا على المجاز وأن معنى كتب أمر بالكتابة وقالت طائفة يسيرة منهم:
كتب. وجرت هذه المسألة يوما بحضرة شيخنا الإمام أبي الفتح القشيري رحمه
الله فلم يعبأ بقول من قال: كتب وقال عن الباجي هو قول أحوجه إلى أن
يستنجد بالعلماء من الآفاق. وأبو جندل اسمه العاصي وهو أخو عبد الله بن
سهيل شهد عبد الله بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان إسلامه قبل
ذلك وأول مشاهد أبي جندل الفتح وإنما ذكرنا ذلك ليعرف1 الفرق بينهما
فقد ذكر أن بعض من ألف في الصحابة سمى أبا جندل عبد الله وليس كذلك.
ورجع أبو جندل إلى مكة يوم الحديبية في جوار مكرز بن حفص فيما حكى ابن
عائذ. قال أبو القاسم السهيلي: وذكر قول الله سبحانه: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ}، وهذا عند أهل العلم مخصوص بنساء أهل العهد والصلح وكان الامتحان
أن تستحلف المرأة المهاجرة أنها ما هاجرت ناشزا ولا هاجرت إلا لله
ولرسوله فإذا حلفت لم ترد ورد صداقها إلى بعلها وإن كانت من غير أهل
العهد لم تستحلف ولم يرد صداقها. وعيبة مكفوفة أي صدور منطوية على ما
فيها لا تبدي عداوة. والإغلال الخيانة. والإسلال السرقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة "ليعلم".
ج / 2 ص -130-
ذكر الخبر عن أبي بصير وأبي جندل:
ال ابن
إسحاق فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه أبو بصير
عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي وكان ممن حبس بمكة فلما قدم على رسول
الله صلى الله عليه وسلم كتب فيه أزهر بن عبد عوف بن الحارث بن زهرة
والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وبعثا رجلا من بني عامر بن لؤلي ومعه مولى لهم فقدما على رسول
الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الأزهر والأخنس فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
"يا أبا البصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح لنا في
ديننا الغدر وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا
فانطلق إلى قومك"، قال: يا
رسول الله أتردني إلى المشركين يفتنوني في ديني قال:
"يا أبا بصير انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا
ومخرجا"، فانطلق معهما حتى إذا كان بذي الحليفة جلس إلى جدار وجلس معه
صاحباه فقال أبو بصير: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم انظر
إليه إن شئت فاستله أبو بصير ثم علاه حتى قتله وخرج المولى سريعا حتى
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد فلما رآه رسول
الله صلى الله عليه وسلم طالعا قال:
"إن هذا الرجل
قد رأى فزعا"، فلما
انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويحك ما
لك؟"، قال: قتل صاحبكم صاحبي فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا
السيف حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله
وفت
ج / 2 ص -131-
ذمتك
وأدى الله عنك أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث
بي قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ويلمه محش1
حرب لو
كان معه رجال". ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص من ناحية ذي المروة على ساحل البحر
بطريق قريش التي كانوا يأخذون إلى الشام وبلغ المسلمين الذين كانوا
احتبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير:
"ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال"، فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا
فكانوا قد ضيقوا على قريش لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه ولا تمر بهم
عير إلا اقتطعوها حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
تسأله بأرحامها إلا آواهم فلا حاجة لهم بهم فآواهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقدموا عليه المدينة.
وذكر ابن عقبة هذا الخبر أطول من هذا وسمى الرجل الذي بعثته قريش في
طلب أبي بصير جحيش بن جابر من بني منقذ، قال: وكان ذا جلد ورأي في أنفس
المشركين وجعل لهما الأخنس في طلب أبي بصير جعلا فقدما على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فدفع أبا بصير إليهما فخرجا به حتى إذا كانا بذي
الحليفة سل جحيش سيفه ثم هزه فقال: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج
يوما إلى الليل. وذكر نحو ما تقدم، وفيه فجاء أبو بصير بسلبه إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: خمسه يا رسول الله، قال: إني إذا خمسته
لم أف بالذي عاهدتهم عليه ولكن شأنك بسلب صاحبك واذهب حيث شئت فخرج أبو
بصير معه خمسة نفر كانوا قدموا معه مسلمين من مكة حتى إذا كانوا بين
العيص وذي المروة من أرض جهينة وانفلت أبو جندل بن سهيل في سبعين راكبا
أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبي بصير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المحش بكسر الميم ما تحرك به النار وكذلك المحشة.
ج / 2 ص -132-
وكرهوا
أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة المشركين وكرهوا
الثواء بين ظهري قومهم فنزلوا مع أبي بصير في منزل كريه إلى قريش
فقطعوا به مادتهم من طريق الشام وأبو بصير يصلي لأصحابه فلما قدم عليه
أبو جندل كان هو يؤمهم واجتمع إلى أبي جندل ناس من غفار وأسلم وجهينة
وطوائف من الناس حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون لا يمر بهم عير
لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها. وذكر مرور أبي العاص بن الربيع بهم
وقصته. قلت: وقد تقدم أن أبا العاص أخذ في سرية زيد بن حارثة إلى العيص
قال وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير أن
يقدما عليه ومن معهما من المسلمين أن يلحقوا ببلادهم وأهليهم فقدم كتاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم في يده يقرأه فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند
قبره مسجدا وقدم أبو جندل على رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ناس من
أصحابه ورجع سائرهم إلى أهليهم. وقال أبو جندل فيما حكاه الزبير:
أبلغ قريشا عن أبي جندل
أنا بذي المروة فالساحل
في معشر تخفف أيمانهم
بالبيض فيها والقنا الذابل
يأبون أن نبقى لهم رفقة
من بعد إسلامهم الواصل
أو يجعل الله لهم مخرجا
والحق لا يغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه
أو يقتل المرء ولم يأتل
وأبو بصير سماه ابن
إسحاق عتبة ومن الناس من يسميه عبيدا وهو ابن أسيد ابن جارية بن أسيد
بن عبد الله بن سلمة بن عبد الله بن غبرة بن عوف بن قسي وهو ثقيف بن
منبه بن بكر بن هوازن حليف بني زهرة. |