كتاب المغازي للواقدي

سَرِيّةُ أَمِيرِهَا غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بِالْكَدِيدِ
فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ
حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْجُهَنِيّ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ مَكِيثٍ الْجُهَنِيّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ اللّيْثِيّ أَحَدَ بَنِي كَلْبِ بْنِ عَوْفٍ فِي سَرِيّةٍ كُنْت فِيهِمْ 1 وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنّ الْغَارَةَ عَلَى بَنِي الْمُلَوّحِ بِالْكَدِيدِ ، وَهُمْ مِنْ بَنِي لَيْثٍ. فَخَرَجْنَا حَتّى إذَا كُنّا بِقُدَيْدٍ لَقِينَا الْحَارِثَ بْنَ مَالِكِ بْنِ البرصاء فأخذناه فقال:
ـــــــ
1 هكذا في الأصل، وفي الزرقاني أيضاً. [شرح على المواهب اللدنية، ج2، ص 316]. وفي ابن سعد: "كتب فيهم". [الطبقات، ج2، ص 89].

(2/750)


إنّمَا جِئْت أُرِيدُ الْإِسْلَامَ. فَقُلْنَا: لَا يَضُرّك رِبَاطُ لَيْلَةٍ إنْ كُنْت تُرِيدُ الْإِسْلَامَ وَإِنْ يَكُنْ غَيْرُ ذَلِكَ نَسْتَوْثِقُ مِنْك. فَشَدَدْنَاهُ وَثَاقًا، وَخَلّفْنَا عَلَيْهِ رَجُلًا مِنّا يُقَالُ لَهُ سُوَيْدُ بْنُ صَخْرٍ وَقُلْنَا: إنْ نَازَعَك فَاحْتَزْ رَأْسَهُ. ثُمّ سِرْنَا حَتّى أَتَيْنَا الْكَدِيدَ عِنْدَ غُرُوبِ الشّمْسِ فَكَمَنّا نَاحِيَةَ الْوَادِي، فَبَعَثَنِي أَصْحَابُ رَبِيئَةٍ 1 لَهُمْ فَخَرَجْت فَأَتَيْت تَلّا مُشْرِفًا عَلَى الْحَاضِرِ 2 يُطْلِعُنِي عَلَيْهِمْ حَتّى إذَا أَسْنَدْت فِيهِ وَعَلَوْت عَلَى رَأْسِهِ انْبَطَحْت، فَوَاَللّهِ إنّي لَأَنْظُرُ إذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ خِبَاءٍ لَهُ فَقَالَ [لِامْرَأَتِهِ] : وَاَللّهِ إنّي لَأَرَى عَلَى هَذَا التّلّ سَوَادًا مَا رَأَيْته عَلَيْهِ صَدْرَ يَوْمِي هَذَا، فَانْظُرِي إلَى أَوْعِيَتِك لَا تَكُونُ الْكِلَابُ أَخَذْت مِنْهَا شَيْئًا. فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ وَاَللّهِ مَا أَفْقِدُ مِنْ أَوْعِيَتِي شَيْئًا. فَقَالَ: نَاوِلِينِي قَوْسِي وَنَبْلِي فَنَاوَلَتْهُ قَوْسَهُ وَسَهْمَيْنِ مَعَهَا، فَأَرْسَلَ سَهْمًا، فَوَاَللّهِ مَا أَخْطَأَ بِهِ جَنْبِي، فَانْتَزَعْته فَوَضَعْته وَثَبَتَ مَكَانِي. ثُمّ رَمَانِي الْآخَرَ فَخَالَطَنِي بِهِ أَيْضًا، فَأَخَذْته فَوَضَعْته وَثَبَتَ مَكَانِي. فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَاَللّهِ لَوْ كَانَ زَائِلَةً 3 لَتَحَرّكَ بَعْدُ لَقَدْ خَالَطَهُ سَهْمَايَ لَا أَبَا لَك إذَا أَصْبَحْت فَاتّبِعِيهَا; لَا تَمْضُغُهُمَا الْكِلَابُ. ثُمّ دَخَلَ خِبَاءَهُ وَرَاحَتْ مَاشِيَةُ الْحَيّ مِنْ إبِلِهِمْ وَأَغْنَامِهِمْ فَحَلَبُوا وَعَطَنُوا4 ، فَلَمّا اطْمَأَنّوا وَهَدَءُوا شَنَنّا عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ فَقَتَلْنَا الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَيْنَا الذّرّيّةَ وَاسْتَقْنَا النّعَمَ وَالشّاءَ فَخَرَجْنَا نَحْدُرُهَا قِبَلَ الْمَدِينَةِ حَتّى مَرَرْنَا بِأَبِي 5 البرصاء
ـــــــ
1 الربيئة: الطليعة. [الصحاح، ص 52].
2 الحاضر: القوم المقيمون بمحلهم. [السيرة الحلبية، ج2، ص 312].
3 هكذا في الأصل. وفي ابن سعد: "ربيئة". [الطبقات، ج2، ص 90]. والزائلة: كل شيء من الحيوان يزول عن مكانه ولا يستقر. [النهاية، ج2، ص135].
4 عطنت الإبل إذا سقيت وبركت عند الحياض لتعاد إلى الشرب مرة أخرى .[النهاية، ج3، ص 107].
5 في الأصل: "بابن".

(2/751)


فَاحْتَمَلْنَاهُ وَاحْتَمَلْنَا صَاحِبَنَا. وَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ فِي قَوْمِهِمْ فَجَاءَنَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ وَنَظَرُوا إلَيْنَا وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الْوَادِي وَهُمْ مُوَجّهُونَ إلَيْنَا، فَجَاءَ اللّهُ الْوَادِيَ مِنْ حَيْثُ شَاءَ بِمَاءٍ مَلَأَ جَنْبَيْهِ وَاَيْمُ اللّهِ مَا رَأَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ سَحَابًا وَلَا مَطَرًا، فَجَاءَ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَجُوزُهُ فَلَقَدْ رَأَيْتهمْ وُقُوفًا يَنْظُرُونَ إلَيْنَا وَقَدْ أَسْنَدْنَا فِي الْمُشَلّلِ 1 وَفُتْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى طَلَبِنَا، فَمَا أَنْسَى رَجَزَ أَمِيرِنَا غَالِبٍ:
أَبَى أَبُو الْقَاسِمِ أَنْ تَعَزّ بِي2 ... وَذَاكَ قَوْلُ صَادِقٍ لَمْ يَكْذِبْ
فِي خَضِلٍ 3 نَبَاتُهُ مُغْلَوْلِبِ 4 ... صُفْرٍ أَعَالِيهِ كَلَوْنِ الْمُذْهَبِ
ثُمّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ .
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُقْبَةَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عُمَرَ الْأَسْلَمِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت مَعَهُمْ وَكُنّا بَضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، شِعَارُنَا: أَمِتْ! أَمِتْ!
ـــــــ
1 المشلل: ثنية مشرفة على قديد. [معجم ما استعجم، ص 560].
2 تعزبى: معناه تقيمي، يقال تعزبت الإبل في المرعى إذا أقامت فيه. [شرح أبي ذر، ص 450].
3 الخضل: النبات الأخضر المبتل. [شرح أبي ذر، ص 450].
4 المغلولب: الكثير الذي يغلب على الماشية حين ترعاه. [شرح أبي ذر، ص 451].

(2/752)


سَرِيّةُ كَعْبِ بْنِ عُمَيْرٍ إلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ
فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبَ بْنَ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيّ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا حَتّى انْتَهَوْا إلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ مِنْ أَرْضِ الشّامِ، فَوَجَدُوا جمعا من جمعهم

(2/752)


كَثِيرًا، فَدَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَشَقُوهُمْ بِالنّبْلِ. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلُوهُمْ أَشَدّ الْقِتَالِ حَتّى قَتَلُوا، فَأَفْلَتْ مِنْهُمْ رَجُلٌ جَرِيحٌ فِي الْقَتْلَى، فَلَمّا بَرَدَ عَلَيْهِ اللّيْلُ تَحَامَلَ حَتّى أَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ بِالْبَعْثِ إلَيْهِمْ فَبَلَغَهُ أَنّهُمْ قَدْ سَارُوا إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَتَرَكَهُمْ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ قَالَ: كَانَ كَعْبٌ يَكْمُنُ النّهَارَ وَيَسِيرُ اللّيْلَ حَتّى دَنَا مِنْهُمْ فَرَآهُ عَيْنٌ لَهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِقِلّةِ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءُوا عَلَى الْخُيُولِ فَقَتَلُوهُمْ.

(2/753)