كتاب المغازي للواقدي غَزْوَةُ بَنِي
جَذِيمَةَ
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ
حَكِيمِ بْنِ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: لَمّا
رَجَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ هَدْمِ الْعُزّى إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُقِيمٌ بِمَكّةَ
بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي
جَذِيمَةَ وَبَعَثَهُ دَاعِيًا لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ
يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا. فَخَرَجَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَبَنِي سُلَيْمٍ ; فَكَانُوا
ثَلَثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، فَانْتَهَى إلَيْهِمْ بِأَسْفَلَ
مَكّةَ ، فَقِيلَ لِبَنِي جَذِيمَةَ هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ. قَالُوا: وَنَحْنُ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ قَدْ
صَلّيْنَا وَصَدّقْنَا بِمُحَمّدٍ وَبَنَيْنَا الْمَسَاجِدَ وَأَذّنّا
فِيهَا. فَانْتَهَى إلَيْهِمْ خَالِدٌ فَقَالَ: الْإِسْلَامُ قَالُوا:
نَحْنُ مُسْلِمُونَ قَالَ: فَمَا بَالُ السّلَاحِ عَلَيْكُمْ؟ قَالُوا:
إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ عَدَاوَةً فَخِفْنَا
أَنْ تَكُونُوا هُمْ فَأَخَذْنَا السّلَاحَ لِأَنْ نَدْفَعَ عَنْ
أَنْفُسِنَا مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ. قَالَ: فَضَعُوا
السّلَاحَ فَقَالَ: لَهُمْ رجل
(3/875)
مِنْهُمْ
يُقَالُ: لَهُ جَحْدَمُ يَا بَنِي جَذِيمَةَ إنّهُ وَاَللّهِ خَالِدٌ
وَمَا يَطْلُبُ مُحَمّدٌ مِنْ أَحَدٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُقِرّ
بِالْإِسْلَامِ وَنَحْنُ مُقِرّونَ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ خَالِدٌ لَا
يُرِيدُ بِنَا مَا يُرَادُ بِالْمُسْلِمِينَ وَإِنّهُ مَا يَقْدِرُ
مَعَ السّلَاحِ إلّا الْإِسَارَ ثُمّ بَعْدَ الْإِسَارِ السّيْفُ
قَالُوا: نُذَكّرُك اللّهَ تَسُومَنَا. فَأَبَى يُلْقِي1 سَيْفَهُ
حَتّى كَلّمُوهُ جَمِيعًا فَأَلْقَى سَيْفَهُ وَقَالُوا: إنّا
مُسْلِمُونَ وَالنّاسُ قَدْ أَسْلَمُوا، وَفَتَحَ مُحَمّدٌ مَكّةَ ،
فَمَا نَخَافُ مِنْ خَالِدٍ ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاَللّهِ
لَيَأْخُذَنكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ مِنْ الْأَحْقَادِ الْقَدِيمَةِ.
فَوَضَعَ الْقَوْمُ السّلَاحَ ثُمّ قَالَ: لَهُمْ خَالِدٌ.
اسْتَأْسِرُوا فَقَالَ: جَحْدَمٌ يَا قَوْمُ مَا يُرِيدُ مِنْ قَوْمٍ
مُسْلِمِينَ يَسْتَأْسِرُونَ إنّمَا يُرِيدُ مَا يُرِيدُ فَقَدْ
خَالَفْتُمُونِي وَعَصَيْتُمْ أَمْرِي، وَهُوَ وَاَللّهِ السّيْفُ.
فَاسْتَأْسَرَ الْقَوْمُ فَأُمِرَ بَعْضُهُمْ يَكْتِفُ بَعْضًا،
فَلَمّا كُتِفُوا دَفَعَ إلَى كُلّ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
الرّجُلَ وَالرّجُلَيْنِ وَبَاتُوا فِي وَثَاقٍ فَكَانُوا إذَا جَاءَ
وَقْتُ الصّلَاةِ يُكَلّمُونَ الْمُسْلِمِينَ فَيُصَلّونَ ثُمّ
يَرْبِطُونَ. فَلَمّا كَانَ فِي السّحَرِ وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ
اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ فَقَائِلٌ يَقُولُ مَا نُرِيدُ بِأَسْرِهِمْ
نَذْهَبُ بِهِمْ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَائِلٌ يَقُولُ نَنْظُرُ هَلْ يَسْمَعُونَ أَوْ يُطِيعُونَ
وَنَبْلُوهُمْ وَنُخْبِرُهُمْ. وَالنّاسُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ
فَلَمّا كَانَ فِي السّحَرِ نَادَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: مَنْ
كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فَلْيُذَافّهِ - وَالْمُذَافّةُ الْإِجْهَازُ
عَلَيْهِ بِالسّيْفِ. فَأَمّا بَنُو سُلَيْمٍ فَقَتَلُوا كُلّ مَنْ
كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ. وَأَمّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ
فَأَرْسَلُوا أُسَارَاهُمْ.
قَالَ: فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ . عَنْ إيَاسِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
وَكَانَ فِي يَدِي أَسِيرٌ فَأَرْسَلْته وَقُلْت: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت
وَكَانَ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أُسَارَى فَأَرْسَلُوهُمْ.
ـــــــ
1 في الأصل: "فأبى ملقي"
(3/876)
قَالَ:
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: وَأَرْسَلْت أَسِيرِي، وَمَا أُحِبّ أَنّي قَتَلْته
وَأَنّ لِي مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسٌ أَوْ غَرَبَتْ وَأَرْسَلَ
قَوْمِي مَعِي مِنْ الْأَنْصَارِ أَسْرَاهُمْ.
قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: لَمّا نَادَى خَالِدٌ "مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ
فَلْيُذَافّهِ" أَرْسَلْت أَسِيرِي.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ
سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا بَشِيرٍ الْمَازِنِيّ يَقُولُ كَانَ
مَعِي أَسِيرٌ مِنْهُمْ. قَالَ: فَلَمّا نَادَى خَالِدٌ "مَنْ كَانَ
مَعَهُ أَسِيرٌ فَلْيُذَافّهِ" أَخْرَجْت سَيْفِي لِأَضْرِبَ عُنُقَهُ
فَقَالَ: لِي الْأَسِيرُ يَا أَخَا الْأَنْصَارِ، إنّ هَذَا لَا
يَفُوتُك، اُنْظُرْ إلَى قَوْمِك قَالَ: فَنَظَرْت فَإِذَا
الْأَنْصَارُ طُرّا قَدْ أَرْسَلُوا أُسَارَاهُمْ. قَالَ: قُلْت:
انْطَلِقْ حَيْثُ شِئْت فَقَالَ: بَارَكَ اللّهُ عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ
مَنْ كَانَ أَقْرَبَ رَحِمًا مِنْكُمْ قَدْ قَتَلُونَا بَنُو سُلَيْمٍ.
قَالَ: فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: لَمّا نَادَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي
الْأَسْرَى يُذَافّونَ وَثَبَتَ بَنُو سُلَيْمٍ عَلَى أَسْرَاهُمْ
فَذَافّوهُمْ - وَأَمّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَأَرْسَلُوا
أَسْرَاهُمْ - غَضِبَ خَالِدٌ عَلَى مَنْ أَرْسَلَ مِنْ الْأَنْصَارِ،
فَكَلّمَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ وَقَالَ: اتّقِ
اللّهَ يَا خَالِدُ وَاَللّهِ مَا كُنّا لِنَقْتُلَ قَوْمًا
مُسْلِمِينَ قَالَ: وَمَا يُدْرِيك ؟ قَالَ: نَسْمَعُ إقْرَارَهُمْ
بِالْإِسْلَامِ وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ بِسَاحَتِهِمْ.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي
حَدْرَدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إنّا فِي الْجَيْشِ وَقَدْ كُتّفَتْ
بَنُو جَذِيمَةَ، أُمِرَ بَعْضُهُمْ فَكَتَفَ بَعْضًا. فَقَالَ: رَجُلٌ
مِنْ الْأَسْرَى: يا فتى
(3/877)
فَقُلْت: مَا
تُرِيدُ ؟ قَالَ: هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِرُمّتِي1 هَذِهِ فَمُقَدّمِي
إلَى النّسَيّاتِ ثُمّ رَادّي فَفَاعِلٍ بِي مَا فُعِلَ بِأَصْحَابِي ؟
قَالَ: قَدْ سَأَلْت يَسِيرًا . قَالَ: وَأَخَذْت بِرُمّتِهِ
فَانْتَهَيْت بِهِ إلَى النّسْوَةِ . فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهِنّ
كَلّمَ امْرَأَةً مِنْهُنّ بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ. قَالَ: ثُمّ رَجَعْت
بِهِ حَتّى رَدَدْته فِي الْأَسْرَى، فَقَامَ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَ
عُنُقَهُ. وَيُقَالُ: إنّ فَتًى مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ أَدْرَكَهُ
الْجَيْشُ عَشِيّةً فَنَادَى فِي الْقَوْمِ فَكَفّ عَنْهُ وَكَانَ
الّذِينَ يَطْلُبُونَهُ2 بَنُو سُلَيْمٍ، وَكَانُوا عَلَيْهِ
مُتَغَيّظِينَ فِي حُرُوبٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ بِبَرْزَةَ وَغَيْرِهَا،
وَكَانَتْ بَنُو جَذِيمَةَ قَدْ أَصَابُوهُمْ بِبَرْزَةَ3 وَهُمْ
مَوْتُورُونَ يُرِيدُونَ الْقَوَدَ مِنْهُمْ فَشَجُعُوا عَلَيْهِ
فَلَمّا لَمْ يَرَ إلّا أَنّهُمْ يَقْتُلُونَهُ شَدّ عَلَيْهِمْ
فَقَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلًا، ثُمّ شَدّ عَلَيْهِمْ ثَانِيَةً فَقَتَلَ
مِنْهُمْ آخَرُ ثُمّ جَاءَ الظّلَامُ فَحَالَ بَيْنَهُمْ وَوَجَدَ
الْفَتَى فُرْجَةً حَتّى إذَا كَانَ الْغَدَاةُ جَاءَ وَقَدْ قَتَلَ
مِنْ الْقَوْمِ رَجُلَيْنِ وَالنّسَاءُ وَالذّرّيّةُ فِي يَدِ خَالِدٍ
فَاسْتَأْمَنَ فَعَرَضَ فَرَسَهُ فَلَمّا نَظَرُوا إلَيْهِ قَالُوا:
هَذَا الّذِي صَنَعَ بِالْأَمْسِ مَا صَنَعَ فَنَاوَشُوهُ عَامّةَ
النّهَارِ ثُمّ أَعْجَزَهُمْ وَكَرّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ
أَنْ أَنْزِلَ عَلَى أَنْ تُعْطُونِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لِتَصْنَعُنّ
لِي مَا تَصْنَعُونَ بِالظّعُنِ إنْ استحييتموهن اسْتَحْيَيْت وَإِنْ
قَتَلْتُمُوهُنّ قَتَلْت ؟ قَالُوا: لَك ذَلِكَ. فَنَزَلَ بِعَهْدِ
اللّهِ وَمِيثَاقِهِ فَلَمّا نَزَلَ قَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: هَذَا
صَاحِبُنَا الّذِي فَعَلَ بِالْأَمْسِ مَا فَعَلَ. قَالُوا:
انْطَلِقُوا بِهِ إلَى الْأَسْرَى مِنْ الرّجَالِ فَإِنْ قَتَلَهُ
خَالِدٌ فَهُوَ إمَامٌ وَنَحْنُ لَهُ تَبَعٌ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ
كَانَ كَأَحَدِهِمْ. فَقَالَ: بَعْضُهُمْ إنّمَا جَعَلْنَا لَهُ
الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الظّعُنِ وأنتم تعلمون
ـــــــ
1 الرمة: قطعة من الحبل. " القاموس المحيط، ج4، صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 122
2 في الأصل: الذي يطلبونه"
3 في الأصل: "ببررة" .وبرزة: موضع في ديار بني كنانة، وفي هذا الموضع
اوقعت بنو فراس بن مالك من بنو كنانة ببني سليم. "معجم ما
استعجم،صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 152
(3/878)
أَنّ خَالِدًا
لَا يَقْتُلُ الظّعُنَ إمّا يَقْسِمُهُنّ وَإِمّا يَعْفُو عَنْهُنّ.
قَالَ: الْفَتَى: فَإِذَا فَعَلْتُمْ بِي مَا فَعَلْتُمْ فَانْطَلِقُوا
بِي إلَى نُسَيّاتٍ هُنَاكَ ثُمّ اصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ.
قَالَ: فَفَعَلُوا، وَهُوَ مَكْتُوفٌ بِرُمّةٍ حَتّى وَقَفَ عَلَى
امْرَأَةٍ مِنْهُنّ فَأَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَقَالَ: أَسْلِمِي
حُبَيْشٌ عَلَى نَفَدِ الْعَيْشِ1 لَا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْت شِعْرًا :
أَثِيبِي2 بِوُدّ قَبْلَ أَنْ تَشْحَطَ3 النّوَى ... وَيَنْأَى
الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ
أَلَمْ يَكُ حَقّا أَنْ يُنَوّلَ عَاشِقٌ ... تَكَلّفَ إدْلَاجَ4
السّرَى وَالْوَدَائِقِ5
أَلَمْ أَكُ قَدْ طَالَبْتُكُمْ فَلَقِيتُكُمْ ... بِحَلْيَةَ6 أَوْ
أَدْرَكْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ7
فَإِنّي لَا ضَيّعْت سِرّ أَمَانَةٍ ... وَلَا رَاقٍ عَيْنِي بَعْدَك
الْيَوْمَ رَائِقُ
سِوَى أَنّ مَا نَالَ الْعَشِيرَةَ شَاغِلٌ ... لَنَا عَنْك إلّا أَنْ
يَكُونَ التّوَاثُقُ
أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ قُسَيْطٍ وَابْنُ أَبِي الزّنَادِ .
قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي حُرّةَ عَنْ الْوَلِيدِ
عَنْ سَعِيدٍ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيّ قَالَ: أَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ
يَوْمَئِذٍ بَعْدَ أَنْ ضربت عنقه. يقول:
ـــــــ
1 في الأصل: " أسلم حبيس على بعد العيش" وما أثبتناه عن ابن سعد. "
الطبقات، ج 2 ص 107" وعلى نفد العيش: يريد على تمامه، من قولك نفد
الشيء إذا تم. " شرح أبي ذر، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 381".
2 في الأصل: "أبيني" وما أثبتناه عن ابن سعد. " الطبقات ج 2 ص 107" وعن
ابن إسحاق أيضا. " السيرة النبوية، ج 4 ص 76
3 تشحط: أي تبعد، والشحط: البعد. " شرح أبي ذر، ص381"
4 الإدلاج: سير الليل كله. " لسان العرب،ج2 ص97"
5 الودائق: جمع وديقة ، وهي شدة الحر. " شرح أبي ذر، صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 381"
6 كلمة غامضة في الأصل، وما أثبتناه عن ابن سعد ." الطبقات، ج 2ص107"
وعن ابن إسحاق أيضا." السيرة النيوية، ج 4،ص76". وحلية: واد بتهامة،
أعلاه لهذيل وأسفله لكنانة. " معجم البلدان، ج3، صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 331" .
7 في الأصل: "الحوائق" وما أثبتناه عن ابن سعد. " الطبقات، ج2 ص107".
وعن ابن إسحاق أيضا. "السيرة النبوية،ج4،ص 76" والخوانق: بلد في
ديارفهم. "معجم ما استعجم،ص327".
(3/879)
ثُمّ وَضَعَتْ
فَاهَا عَلَى فِيهِ فَالْتَقَمَتْهُ فَلَمْ تَزَلْ تُقَبّلُهُ حَتّى
مَاتَتْ.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ إيَاسِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "لَمّا قَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَابَ عَبْدُ
الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى خَالِدٍ مَا صَنَعَ قَالَ: يَا خَالِدُ
أَخَذْت بِأَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ قَتَلْتهمْ بِعَمّك الْفَاكِهِ
قَاتَلَك اللّهُ قَالَ: وَأَعَانَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ عَلَى
خَالِدٍ فَقَالَ: خَالِدٌ أَخَذْتهمْ بِقَتْلِ أَبِيك فَقَالَ: عَبْدُ
الرّحْمَنِ كَذَبْت وَاَللّهِ لَقَدْ قَتَلْت قَاتِلَ أَبِي بِيَدِي
وَأَشْهَدْت عَلَى قَتْلِهِ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ. ثُمّ الْتَفَتَ
إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: أَنْشُدُك اللّهَ هَلْ عَلِمْت أَنّي قَتَلْت
قَاتِلَ أَبِي ؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ اللّهُمّ نَعَمْ. ثُمّ قَالَ:
عَبْدُ الرّحْمَنِ وَيْحَك يَا خَالِدُ وَلَوْ لَمْ أَقْتُلْ قَاتِلَ
أَبِي كُنْت تَقْتُلُ قَوْمًا مُسْلِمِينَ بِأَبِي فِي الْجَاهِلِيّةِ
؟ قَالَ: خَالِدٌ وَمَنْ أَخْبَرَك أَنّهُمْ أَسْلَمُوا ؟ فَقَالَ:
أَهْلُ السّرِيّةِ كُلّهُمْ يُخْبِرُونَنَا أَنّك وَجَدْتهمْ قَدْ
بَنَوْا الْمَسَاجِدَ وَأَقَرّوا بِالْإِسْلَامِ ثُمّ حَمَلْتهمْ عَلَى
السّيْفِ. قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُغِيرَ عَلَيْهِمْ فَأَغَرْت بِأَمْرِ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: عَبْدُ
الرّحْمَنِ كَذَبْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَغَالَظَ عَبْدُ الرّحْمَنِ وَأَعْرَضَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَالِدٍ وَغَضِبَ عَلَيْهِ
وَبَلَغَهُ مَا صَنَعَ بِعَبْدِ الرّحْمَنِ فَقَالَ: "يَا خَالِدُ
ذَرُوا لِي أَصْحَابِي مَتَى يُنْكَ أَنْفُ الْمَرْءِ يُنْكَ لَوْ
كَانَ أُحُدٌ ذَهَبًا تُنْفِقُهُ قِيرَاطًا قِيرَاطًا فِي سَبِيلِ
اللّهِ لَمْ تُدْرِكْ غَدْوَةً أَوْ رَوْحَةً مِنْ غَدَوَاتِ أَوْ
رَوْحَاتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ"
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: "قَالَ: عُمَرُ لِخَالِدٍ وَيْحَك يَا خَالِدُ أَخَذْت
بَنِي جَذِيمَةَ بِاَلّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ أَوَ
لَيْسَ الْإِسْلَامُ قَدْ مَحَا مَا كَانَ قَبْلَهُ فِي الْجَاهِلِيّةِ
؟ فَقَالَ: يَا أَبَا حَفْصٍ وَاَللّهِ مَا أَخَذْتهمْ إلّا بِالْحَقّ
أَغَرْت عَلَى قَوْمٍ مشركين
(3/880)
وَامْتَنَعُوا،
فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدّ - إذْ امْتَنَعُوا - مِنْ قِتَالِهِمْ
فَأَسَرْتهمْ ثُمّ حَمَلْتهمْ عَلَى السّيْفِ. فَقَالَ: عُمَرُ أَيّ
رَجُلٍ تَعْلَمُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ ؟ قَالَ: أَعْلَمُهُ
وَاَللّهِ رَجُلًا صَالِحًا. قَالَ: فَهُوَ أَخْبَرَنِي غَيْرَ الّذِي
أَخْبَرْتنِي، وَكَانَ مَعَك فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ. قَالَ: خَالِدٌ
فَإِنّي أَسَتَغْفِرُ اللّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ. قَالَ: فَانْكَسَرَ
عَنْهُ عُمَرُ وَقَالَ: وَيْحَك، ايتِ رَسُولَ اللّهِ يَسْتَغْفِرْ لَك
"
قَالَ: حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْن أَبِي قَتَادَةَ،
عَنْ أَهْلِهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ قَالَ:
لَمّا نَادَى خَالِدٌ فِي السّحَرِ "مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ
فَلْيُذَافّهِ " أَرْسَلْت أَسِيرِي وَقُلْت لِخَالِدٍ اتّقِ اللّهَ
فَإِنّك مَيّتٌ وَإِنّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ قَالَ: يَا أَبَا
قَتَادَةَ، إنّهُ لَا عِلْمَ لَك بِهَؤُلَاءِ. قَالَ: أَبُو قَتَادَةَ:
فَإِنّمَا يُكَلّمُنِي خَالِدٌ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ التّرَةِ
عَلَيْهِمْ.
قَالُوا: "فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتّى
رُئِيَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ وَيَقُولُ" اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك
مِمّا صَنَعَ خَالِد"وَقَدِمَ خَالِدٌ وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاتِبٌ.
قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كَانَ بَيْنَ
عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَخَالِدٍ كَلَامٌ فَأَعْرَضَ عَنْهُ
عَبْدُ الرّحْمَنِ فَمَشَى خَالِدٌ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ إلَى
عَبْدِ الرّحْمَنِ فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ حَتّى رَضِيَ عَنْهُ فَقَالَ:
اسْتَغْفِرْ لِي يَا أَبَا مُحَمّدٍ!
قَالُوا: وَدَخَلَ عَمّارٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَقَدْ حَمَشَ
قَوْمًا1 قَدْ صَلّوْا وَأَسْلَمُوا . ثُمّ وَقَعَ بِخَالِدٍ عِنْدَ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَالِدٌ جَالِسٌ لَا
يَتَكَلّمُ فَلَمّا قَامَ عَمّارٌ وَقَعَ بِهِ خَالِدٌ فَقَالَ:
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" مَهْ يَا خَالِدُ لَا
تَقَعْ بِأَبِي اليقظان فإنه
ـــــــ
1 حمش القوم: ساقهم بغضب. " القاموس المحيط، ج 2 ص270
(3/881)
مَنْ يُعَادِهِ
يُعَادِهِ اللّهُ وَمَنْ يُبْغِضْهُ يُبْغِضْهُ اللّهُ وَمَنْ
يُسَفّهْهُ يُسَفّهْهُ اللّهُ. قَالُوا: فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ اسْتَقْرَضَ مَالًا بِمَكّةَ
وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّا
عَلَيْهِ السّلَامُ فَأَعْطَاهُ مَالًا، فَقَالَ: انْطَلِقْ إلَى بَنِي
جَذِيمَةَ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ تَحْتَ قَدَمَيْك، فَدِ1
لَهُمْ مَا أَصَابَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ . فَخَرَجَ عَلِيّ
عَلَيْهِ السّلَامُ بِذَلِكَ الْمَالِ حَتّى جَاءَهُمْ فَوَدَى لَهُمْ
مَا أَصَابَ خَالِدٌ وَدَفَعَ إلَيْهِمْ مَالَهُمْ وَبَقِيَ لَهُمْ
بَقِيّةُ الْمَالِ فَبَعَثَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ أَبَا رَافِعٍ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيَسْتَزِيدَهُ فَزَادَهُ مَالًا، فَوَدَى لَهُمْ كُلّ مَا أَصَابَ
حَتّى إنّهُ لَيَدِي لَهُمْ مِيلَغَةَ2 الْكَلْبِ حَتّى إذَا لَمْ
يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ يَطْلُبُونَهُ بَقِيَ مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ
السّلَامُ بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ. فَقَالَ: عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ
هَذِهِ الْبَقِيّةُ مِنْ هَذَا الْمَالِ لَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمّا أَصَابَ خَالِدٌ مِمّا لَا
يَعْلَمُهُ وَلَا تَعْلَمُونَهُ. فَأَعْطَاهُمْ ذَلِكَ الْمَالَ ثُمّ
انْصَرَفَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرَهُ. وَيُقَالُ: إنّمَا الْمَالُ الّذِي بَعَثَ بِهِ مَعَ
عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ اسْتَقْرَضَهُ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَصَفْوَانَ
بْنِ أُمَيّةَ، وَحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، فَبَعَثَ مَعَ
عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَلَمّا رَجَعَ عَلِيّ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا صَنَعْت يَا
عَلِيّ ؟ فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدِمْنَا عَلَى
قَوْمٍ مُسْلِمِينَ قَدْ بَنَوْا الْمَسَاجِدَ بِسَاحَتِهِمْ فَوَدَيْت
لَهُمْ كُلّ مَنْ قَتَلَ خَالِدٌ حَتّى مِيلَغَةَ الْكِلَابِ ثُمّ
بَقِيَ مَعِي بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ فَقُلْت: هَذَا مِنْ رَسُولِ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمّا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا
تَعْلَمُونَهُ. قَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَصَبْت! مَا أَمَرْت خَالِدًا بِالْقَتْلِ . إنّمَا
أَمَرْته بِالدّعَاءِ". وَكَانَ رسول الله صلى
ـــــــ
1 في الأصل: "فدى"
2 في الأصل: "مبلغة". والميلغة: الإناء الذي يلغ فيه الكلب. "النهاية،
ج4 ص230"
(3/882)
الله عليه وسلم
لَا يُقْبِلُ عَلَى خَالِدٍ وَيَعْرِضُ عَنْهُ وَخَالِدٌ يَتَعَرّضُ
لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْلِفُ مَا
قَتَلَهُمْ عَلَى تِرَةٍ وَلَا عَدَاوَةٍ . فَلَمّا قَدِمَ عَلِيّ
وَوَدَاهُمْ أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى خَالِدٍ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ مِنْ عِلْيَةِ
أَصْحَابِهِ حَتّى تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ
مُحَمّدٍ الْأَخْنَسِيّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" لَا تَسُبّوا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَإِنّمَا
هُوَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللّهِ سَلّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ!
قَالَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" نِعْمَ عَبْدُ اللّهِ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ، وَأَخُو الْعَشِيرَةِ وَسَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللّهِ سَلّهُ
عَلَى الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِين!
قَالَ: وَحَدّثَنِي يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ مُحَمّدٍ الْأَخْنَسِيّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يُغِيرَ
عَلَى بَنِي كِنَانَةَ، إلّا أَنْ يَسْمَعَ أَذَانًا أَوْ يَعْلَمَ
إسْلَامًا، فَخَرَجَ حَتّى انْتَهَى إلَى بَنِي جَذِيمَةَ
فَامْتَنَعُوا أَشَدّ الِامْتِنَاعِ وَقَاتَلُوا وَتَلَبّسُوا
السّلَاحَ فَانْتَظَرَ بِهِمْ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ لَا يَسْمَعُ أَذَانًا، ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ
مَنْ قَتَلَ وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ فَادّعَوْا بَعْدُ الْإِسْلَامَ.
قَالَ: عَبْدُ الْمَلِكِ وَمَا عَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ [ عَلَى خَالِدٍ ] وَلَقَدْ كَانَ
الْمُقَدّمَ حَتّى مَاتَ. وَلَقَدْ خَرَجَ مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى
حُنَيْنٍ عَلَى مُقَدّمَتِهِ. وَإِلَى تَبُوكَ، وَبَعَثَهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُكَيْدِرٍ وَدَوْمَةِ
الْجَنْدَلِ. فَسَبَى مَنْ سَبَى ثُمّ صَالَحَهُمْ وَلَقَدْ بَعَثَهُ
رَسُولُ اللّهِ إلَى بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ إلَى نَجْرَانَ أَمِيرًا
(3/883)
وَدَاعِيًا
إلَى اللّهِ وَلَقَدْ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ، فَلَمّا حَلَقَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ أَعْطَاهُ
نَاصِيَتَهُ فَكَانَتْ فِي مُقَدّمِ قَلَنْسُوَتِهِ فَكَانَ لَا
يَلْقَى أَحَدًا إلّا هَزَمَهُ اللّهُ تَعَالَى ; وَلَقَدْ قَاتَلَ
يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَوَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ. فَجَعَلَ يَقُولُ
الْقَلَنْسُوَةُ الْقَلَنْسُوَةُ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَا أَبَا
سُلَيْمَانَ عَجَبًا لِطَلَبِك الْقَلَنْسُوَةَ وَأَنْتَ فِي حَوْمَةِ
الْقِتَالِ فَقَالَ: إنّ فِيهَا نَاصِيَةَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ أَلْقَ بِهَا أَحَدًا إلّا وَلّى. وَلَقَدْ
تُوُفّيَ خَالِدٌ يَوْمَ تُوُفّيَ وَهُوَ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ
وَقَبْرُهُ بِحِمْصٍ ; فَأَخْبَرَنِي مَنْ غَسّلَهُ وَحَضَرَ مَوْتَهُ
وَنَظَرَ إلَى مَا تَحْتَ ثِيَابِهِ مَا فِيهِ مَصَحّ ; مَا بَيْنَ
ضَرْبَةِ سَيْفٍ أَوْ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةٍ بِسَهْمٍ.
وَلَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ الّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
لَيْسَ بِذَلِكَ ثُمّ يَذْكُرُهُ بَعْدُ فَيَتَرَحّمُ عَلَيْهِ
وَيَتَنَدّمُ عَلَى مَا كَانَ صَنَعَ فِي أَمْرِهِ وَيَقُولُ سَيْفٌ
مِنْ سُيُوفِ اللّهِ تَعَالَى "وَلَقَدْ نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَبَطَ مِنْ لَفْتٍ1 فِي حَجّتِهِ.
وَمَعَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "مَنْ هَذَا" ؟ فَقَالَ: الرّجُلُ فُلَانٌ. قَالَ: "بِئْسَ
عَبْدُ اللّهِ فُلَانٌ" ثُمّ طَلَعَ آخَرُ فَقَالَ: "مَنْ الرّجُلُ" ؟
فَقَالَ: فُلَانٌ. فَقَالَ: "بِئْسَ عَبْدُ اللّهِ فُلَانٌ" ثُمّ
طَلَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ: "مَنْ هَذَا" ؟ قَالَ:
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. قَالَ: "نِعْمَ عَبْدُ اللّهِ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ" وَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ مُبَيّضٌ قَالَ:
سَمِعْت خَالِدَ بْنَ إلْيَاسَ يَقُولُ بَلَغْنَا أَنّهُ قُتِلَ
مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ رجلا.
ـــــــ
1 في الأصل: "حين هبطا من لقب" . ولفت ثنية بين مكة والمدينة. " معجم
البلدان، ج 7، ص333"
(3/884)
غزوة حنين
حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ
قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ
اللّهِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ
وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو مَعْشَرٍ وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ
وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، وَعَبْدُ الصّمَدِ بْنُ مُحَمّدٍ
السّعْدِيّ، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ وَبُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ
وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ ; فَكُلّ قَدْ
حَدّثَنَا بِطَائِفَةٍ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ حَدّثَنَا مِمّنْ لَمْ
أُسَمّ أَهْلُ ثِقَةٍ فَكُلّ قَدْ حَدّثَنَا بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا
الْحَدِيثِ وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ وَقَدْ جَمَعْت كُلّ
مَا قَدْ حَدّثُونِي بِهِ . قَالُوا: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ مَشَتْ أَشْرَافُ هَوَازِنَ
بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَثَقِيفٌ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَحَشَدُوا
وَبَغَوْا وَأَظْهَرُوا أَنْ قَالُوا: وَاَللّهِ مَا لَاقَى مُحَمّدٌ
قَوْمًا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ فَسِيرُوا
إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ إلَيْكُمْ. فَأَجْمَعَتْ هَوَازِنُ
أَمْرَهَا وَجَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ1 - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ
ثَلَاثِينَ سَنَةً - وَكَانَ سَيّدًا فِيهَا، وَكَانَ مُسَبّلًا2،
يَفْعَلُ فِي مَالِهِ وَيُحْمَدُ. فَاجْتَمَعَتْ هَوَازِنُ كُلّهَا،
وَكَانَ فِي ثَقِيفٍ سَيّدَانِ لَهَا يَوْمَئِذٍ قَارِبُ بْنُ
الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْأَحْلَافِ، هُوَ [الّذِي] قَادَهَا
; وَفِي بَنِي مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ -
وَيُقَالُ: الْأَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ - وَهُوَ الّذِي قَادَهَا
مُوَالِيًا3 ثَقِيفًا ; فَأَوْعَبَتْ كُلّهَا مَعَ هَوَازِنَ، وَقَدْ
أَجْمَعُوا الْمَسِيرَ إلَى مُحَمّدٍ فَوَجَدَ ثَقِيفًا إلَى ذَلِكَ
سِرَاعًا، فَقَالُوا: قَدْ كُنّا نَهُمّ بِالْمَسِيرِ إلَيْهِ
وَنَكْرَهُ أن
ـــــــ
1أي " مالك بن عوف النصري" كما في ث، وسيأتي بعد.
2 المسبل: هو الذي يطول ثوبه ويرسله إلى الأرض إذا مشى، وإنما يفعل ذلك
كبرا واختيالا." النهاية، ج 2،ص145"
3 في الأصل "واليا"
(3/885)
يَسِيرَ
إلَيْنَا . وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ سَارَ إلَيْنَا لَوَجَدَ حِصْنًا
حَصِينًا نُقَاتِلُ دُونَهُ وَطَعَامًا كَثِيرًا، حَتّى نُصِيبَهُ أَوْ
يَنْصَرِفَ. وَلَكِنّا لَا نُرِيدُ ذَلِكَ وَنَسِيرُ مَعَكُمْ
وَنَكُونُ يَدًا وَاحِدَةً . فَخَرَجُوا مَعَهُمْ. قَالَ: غَيْلَانُ
بْنُ سَلَمَةَ الثّقَفِيّ لَبَنِيهِ وَهُمْ عَشَرَةٌ إنّي أُرِيدُ
أَمْرًا كَائِنَةً لَهُ أُمُورٌ لَا يَشْهَدُهَا رَجُلٌ مِنْكُمْ إلّا
عَلَى فَرَسِهِ. فَشَهِدَهَا عَشَرَةٌ مِنْ وَلَدِهِ عَلَى عَشَرَةِ
أَفْرَاسٍ فَلَمّا انْهَزَمُوا بَأَوْطَاسٍ هَرَبُوا، فَدَخَلُوا
حِصْنَ الطّائِفِ فَغَلّقُوهُ. وَقَالَ: كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ
يالَيْل: يَا مَعْشَرَ ثَقِيفٍ، إنّكُمْ تَخْرُجُونَ مِنْ حِصْنِكُمْ
وَتَسِيرُونَ إلَى رَجُلٍ لَا تَدْرُونَ أَيَكُونُ لَكُمْ أَمْ
عَلَيْكُمْ فَمُرُوا بِحِصْنِكُمْ أَنْ يُرَمّ مَا رَثّ مِنْهُ.
فَإِنّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلّكُمْ تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ. فَأَمَرُوا
بِهِ أَنْ يُصْلَحَ. وَخَلّفُوا عَلَى مَرَمّتِهِ رَجُلًا وَسَارُوا.
وَشَهِدَهَا نَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ لَيْسُوا بِكَثِيرٍ مَا
يَبْلُغُونَ مِائَةً وَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلَا
كِلَابٌ. وَلَقَدْ كَانَتْ كِلَابٌ قَرِيبَةً فَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ
لِمَ تَرَكَتْهَا كِلَابٌ فَلَمْ تَحْضُرْهَا ؟ فَقَالَ: أَمَا
وَاَللّهِ إنْ كَانَتْ لَقَرِيبَةٌ وَلَكِنّ ابْنَ أَبِي الْبَرَاءِ
مَشَى فَنَهَاهَا عَنْ الْحُضُورِ فَأَطَاعَتْهُ وَقَالَ: وَاَللّهِ
لَوْ نَأَوْا1 مُحَمّدًا مِنْ بَيْنِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
لَظَهَرَ عَلَيْهِ2 .
وَنَصَرَهَا دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ فِي بَنِي جُشَمٍ وَهُوَ
يَوْمَئِذٍ ابْنُ سِتّينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ. شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ
فِيهِ شَيْءٌ إلّا التّيَمّنُ بِهِ وَمَعْرِفَتُهُ بِالْحَرْبِ وَكَانَ
شَيْخًا مُجَرّبًا، وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ يَوْمَئِذٍ. وَجِمَاعُ
النّاسِ. ثَقِيفٌ وَغَيْرُهَا مِنْ هَوَازِنَ، إلَى مَالِكِ بْنِ
عَوْفٍ النّصْرِيّ، فَلَمّا أَجْمَعَ مَالِكٌ الْمَسِيرَ بِالنّاسِ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النّاسَ
فَجَاءُوا مَعَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ
حَتّى نَزَلُوا بَأَوْطَاسٍ. وَاجْتَمَعَ النّاسُ بِهِ فَعَسْكَرُوا
وَأَقَامُوا بِهِ وَجُعِلَتْ الأمداد
ـــــــ
1 في الأصل:" حمد"
2 في الأصل : عليها.
(3/886)
تَأْتِيهِمْ
مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ. وَدُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ يَوْمَئِذٍ فِي
شِجَارٍ1 يُقَادُ بِهِ عَلَى بَعِيرٍ فَمَكَثَ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمّا
نَزَلَ الشّيْخُ لَمَسّ الْأَرْضَ بِيَدِهِ. فَقَالَ: بِأَيّ وَادٍ
أَنْتُمْ ؟ قَالُوا: بَأَوْطَاسٍ. قَالَ: نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ لَا
حَزْنٌ ضَرِسٌ2 وَلَا سَهْلٌ دَهْسٌ3 مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ
الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَثُغَاءَ الشّاءِ وَخُوَارَ
الْبَقَرِ. وَبُكَاءَ الصّغِيرِ ؟ قَالُوا: سَاقَ مَالِكٌ مِنْ النّاسِ
أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. قَالَ: يَا مَعْشَرَ
هَوَازِنَ، أَمَعَكُمْ مِنْ بَنِي كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ أَحَدٌ ؟
قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمَعَكُمْ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ
أَحَدًا ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ بَنِي هِلَالِ
بْنِ عَامِرٍ أَحَدٌ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: دُرَيْدٌ لَوْ كَانَ
خَيْرًا مَا سَبَقْتُمُوهُمْ إلَيْهِ وَلَوْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ
شَرَفًا مَا تَخَلّفُوا عَنْهُ فَأَطِيعُونِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ،
وَارْجِعُوا وَافْعَلُوا مَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ.
قَالَ: فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ ؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ،
وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ. قَالَ: ذَانِكَ الْجَذَعَانِ4 مِنْ عَامِرٍ لَا
يَضُرّانِ وَلَا يَنْفَعَانِ ثُمّ قَالَ: أَيْنَ مَالِكٌ ؟ قَالُوا:
هَذَا مَالِكٌ. فَدَعَا لَهُ فَقَالَ: يَا مَالِكٌ. إنّك تُقَاتِلُ
رَجُلًا كَرِيمًا ; وَقَدْ أَصْبَحْت رَئِيسَ قَوْمِك، وَإِنّ هَذَا
كَائِنٌ الْيَوْمَ لِمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيّامِ يَا مَالِكُ مَا لِي
أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَخُوَارَ الْبَقَرِ
وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَثُغَاءَ الشّاءِ ؟ قَالَ: مَالِكٌ سُقْت مَعَ
النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ. قَالَ: دُرَيْدٌ
وَلِمَ ؟ قَالَ: مَالِكٌ أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ
أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَوَلَدَهُ وَنِسَاءَهُ حَتّى
ـــــــ
1 في الأصل: "سحار"، والتصحيح عن ابن إسحاق. " السيرة النبوية،
ج4،ص80". والشجار: مركب مكشوف دون الهودج. "النهاية، ج2،ص206".
2 الحزن: المرتفع من الأرض. والضرس: الذي فيه حجارة محددة. " شرح أبي
ذر،ص384".
3 دهس: أي لين، كثير التراب."شرح أبي ذر،ص384".
4 الجذعان:يريدأنهما ضعيفان في الحرب،بمنزلة الجذع في سنه"شرح أبي
ذر‘ص384"
(3/887)
يُقَاتِلَ
عَنْهُمْ1. قَالَ: فَأَنْقَضَ2 بِيَدِهِ ثُمّ قَالَ: رَاعِي ضَأْنٍ مَا
لَهُ وَلِلْحَرْبِ ؟ وَهَلْ يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ ؟ إنّهَا إنْ
كَانَتْ لَكُمْ لَمْ يَنْفَعْك إلّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ
وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك فُضِحْت فِي أَهْلِك وَمَالِك ثُمّ قَالَ: مَا
فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ ؟ قَالُوا: لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ
أَحَدٌ. قَالَ: غَابَ الْجَدّ وَالْحَدّ، وَلَوْ كَانَ يَوْمُ رِفْعَةٍ
وَعَلَاءٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ. يَا مَالِكُ إنّك
لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ بَيْضَةِ3 هَوَازِنَ إلَى نُحُورِ الْخَيْلِ
شَيْئًا: فَإِذَا صَنَعْت مَا صَنَعْت فَلَا تَعْصِنِي فِي هَذِهِ
الْخُطّةِ ارْفَعْهُمْ إلَى مُمْتَنِعِ بِلَادِهِمْ وَعُلْيَا
قَوْمِهِمْ وَعِزّهِمْ ثُمّ الْقَ الْقَوْمَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ
فَإِنْ كَانَتْ4 لَك لَحِقَ بِك مِنْ وَرَاءَك ; وَكَانَ أَهْلُك لَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك أَلْفَاك ذَلِكَ وَقَدْ
أَحْرَزْت أَهْلَك وَمَالَك. فَغَضِبَ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ:
وَاَللّهِ لَا أَفْعَلُ. وَلَا أُغَيّرُ أَمْرًا صَنَعْته، إنّك قَدْ
كَبِرْت وَكَبُرَ عِلْمُك. وَحَدَثَ بَعْدَك مَنْ هُوَ أَبْصَرُ
بِالْحَرْبِ مِنْك قَالَ: دُرَيْدٌ يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، وَاَللّهِ
مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ هَذَا فَاضِحُكُمْ فِي عَوْرَتِكُمْ
وَمُمَكّنٌ مِنْكُمْ عَدُوّكُمْ. وَلَاحِقٌ بِحِصْنِ ثَقِيفٍ
وَتَارِكُكُمْ فَانْصَرِفُوا وَاتْرُكُوهُ فَسَلّ مَالِكٌ سَيْفَهُ
ثُمّ نَكّسَهُ5 ثُمّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، وَاَللّهِ
لَتُطِيعُنّنِي أَوْ لَأَتّكِئَن عَلَى السّيْفِ حَتّى يَخْرُجَ مِنْ
ظَهْرِي وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا ذِكْرٌ
وَرَأْيٌ فَمَشَى بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: وَاَللّهِ لَئِنْ
عَصَيْنَا مَالِكًا، وَهُوَ شَابّ، ليقتلن نفسه ونبقى
ـــــــ
1 في الأصل: "حتى يقاتلوا عنه"
2 أي صفق بإحدى يديه على الأخرى حتى يسمع لهما نقيض، أي
صوت."النهاية،ج4،ص171".
3 بيضة هوازن: جماعتهم." شرح أبي ذر،ص385".
4 في الأصل: "فإن كان لك".
5 نكسه: أي قلبه. " الصحاح، ص983"
(3/888)
مَعَ دُرَيْدٍ.
شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا قِتَالَ فِيهِ. ابْنُ سِتّينَ وَمِائَةِ سَنَةً.
وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ مَعَ مَالِكٍ. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ دُرَيْدٌ
وَأَنّهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ. قَالَ: هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ
وَلَمْ أَغِبْ عَنْهُ:
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبّ فِيهَا وَأَضَعْ
وَكَانَ دُرَيْدٌ قَدْ ذُكِرَ بِالْفُرُوسِيّةِ وَالشّجَاعَةِ وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ عِشْرُونَ سَنَةً وَكَانَ سَيّدَ بَنِي جُشَمٍ
وَأَوْسَطَهُمْ نَسَبًا . وَلَكِنّ السّنّ أَدْرَكَتْهُ حَتّى فَنِيَ
فَنَاءً - وَهُوَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ
.
قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: افْتَتَحَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ
مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ . وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : {إِذَا جَاءَ
نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ} 1 "قَالُوا: وَكَانَ فَتْحُ مَكّةَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ . فَأَقَامَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ
يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ . ثُمّ غَدَا يَوْمَ السّبْتِ لِسِتّ لَيَالٍ
خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ . وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَكّةَ عَتّابَ بْنِ
أُسَيْدٍ يُصَلّي بِهِمْ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يُعَلّمُهُمْ السّنَنَ
وَالْفِقْهَ .
قَالُوا: وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ - وَأَلْفَيْنِ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ . فَلَمّا
فَصَلَ2 قَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ لَوْ لَقِينَا بَنِي شَيْبَانَ
مَا بَالَيْنَا3، وَلَا يَغْلِبُنَا الْيَوْمَ أَحَدٌ مِنْ قِلّةٍ .
فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ
فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ
كَثْرَتُكُمْ} 4 الآية
ـــــــ
1 سورة 110 النصر1
2 فصل: أي خرج." الصحاح، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1790" .
3 بالى بالشيء يبالي إذا اهتم به." لسان العرب، ج18، ص91".
4سورة 9 التوبة:25
(3/889)
قَالَ:
حَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ،
عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: قَالَ: أَبُو
بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللّهِ . لَا
نَغْلِبُ الْيَوْمَ مِنْ قِلّةٍ . فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي
ذَلِكَ " {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}
1الْآيَةَ
قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ
عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ.
قَالَ: "قَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ وَخَيْرُ السّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ.
وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَلَا تُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ
أَلْفًا مِنْ قِلّةٍ - كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ "قَالُوا: وَخَرَجَ مَعَ
رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ كَثِيرٌ. مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ . "وَكَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَعَارَ
مِنْهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِأَدّاتِهَا كَامِلَةً . فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ
. طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "عَارِيَةً مُؤَدّاةً" وَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفْوَانَ "اكْفِنَا حَمْلَهَا" .
فَحَمَلَهَا صَفْوَانُ عَلَى إبِلِهِ حَتّى انْتَهَوْا إلَى أَوْطَاسٍ
، فَدَفَعَهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ
الدّيلِيّ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللّيْثِيّ - وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ
مَالِكٍ - قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ. وَكَانَتْ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ
وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ
يُقَالُ: لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ2، يَأْتُونَهَا كُلّ سَنَةٍ
يُعَلّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا،
يَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا. قَالَ: فَرَأَيْنَا يَوْمًا، وَنَحْنُ
نَسِيرُ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَجَرَةً
عظيمة خضراء فسترتنا3
ـــــــ
1 سورة 9 التوبة:25
2 في الأصل: "ذات أنواط" وما أثبتناه هو قراءة ث، وهو كذلك في كل
المراجع.
3 في الأصل: "فساترتنا"
(3/890)
مِنْ جَانِبِ
الطّرِيقِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ
أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. قَالَ: فَقَالَ: رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ
أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ: قَوْمُ
مُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنّكُمْ
قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1 "إنّهَا لِلسّنَنِ سَنَنِ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ"
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ
ذَاتُ أَنْوَاطٍ شَجَرَةً عَظِيمَةً. أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ
يَذْبَحُونَ بِهَا وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا، وَكَانَ مَنْ حَجّ
مِنْهُمْ وَضَعَ رِدَاءَهُ عِنْدَهَا. وَيَدْخُلُ بِغَيْرِ رِدَاءٍ
تَعْظِيمًا لَهَا، فَلَمّا مَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ قَالَ: لَهُ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ
فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ يَا رَسُولَ اللّهِ اجْعَلْ لَنَا
ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَكَبّرَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَقَالَ: "وَكَذَا
فَعَلَ قَوْمُ مُوسَى بِمُوسَى"
. قَالَ: "قَالَ: أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ . لَمّا كُنّا دُونَ
أَوْطَاسٍ نَزَلْنَا تَحْتَ شَجَرَةٍ وَنَظَرْنَا إلَى شَجَرَةٍ
عَظِيمَةٍ فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ تَحْتَهَا، وَعَلّقَ بِهَا رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ وَقَوْسَهُ. قَالَ:
وَكُنْت مِنْ أَقْرَبِ أَصْحَابِهِ إلَيْهِ. قَالَ: فَمَا أَفْزَعَنِي
إلّا صَوْتُهُ "يَا أَبَا بُرْدَةَ "فَقُلْت: لَبّيْكَ فَأَقْبَلَتْ
سَرِيعًا، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَالِسٌ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ جَالِسٌ فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إنّ هَذَا الرّجُلَ جَاءَ وَأَنَا نَائِمٌ
فَسَلّ سَيْفِي ثُمّ قَامَ بِهِ عَلَى رَأْسِي فَفَزِعْت بِهِ وَهُوَ
يَقُولُ يَا مُحَمّدُ مَنْ يُؤَمّنُك مِنّي الْيَوْمَ ؟ قُلْت: اللّهُ
قَالَ: أَبُو بُرْدَةَ فَوَثَبْت إلَى سَيْفِي فَسَلَلْته، فَقَالَ:
ـــــــ
1 سورة 7 لأعراف: 138
(3/891)
رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِمْ1 سَيْفَك" قَالَ: قُلْت: يَا
رَسُولَ اللّهِ دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ عَدُوّ اللّهِ فَإِنّ هَذَا
مِنْ عُيُونِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: فَقَالَ: لِي : اُسْكُتْ يَا
أَبَا بُرْدَةَ. قَالَ: فَمَا قَالَ: لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا وَلَا عَاقَبَهُ. قَالَ: فَجَعَلْت
أَصِيحُ بِهِ فِي الْعَسْكَرِ لِيَشْهَدَهُ النّاسُ فَيَقْتُلُهُ
قَاتِلٌ بِغَيْرِ أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَمّا أَنَا فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَفّنِي عَنْ قَتْلِهِ. فَجَعَلَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ. "اُلْهُ عَنْ
الرّجُلِ يَا أَبَا بُرْدَةَ" قَالَ: فَرَجَعْت إلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا أَبَا بُرْدَةَ إنّ
اللّهَ مَانِعِي وَحَافِظِي حَتّى يُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى الدّينِ
كُلّهِ"
قَالُوا: وَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَى حُنَيْنٍ مَسَاءَ لَيْلَةِ الثّلَاثَاءِ لِعَشْرِ لَيَالٍ
خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ. وَبَعَثَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ رِجَالًا مِنْ
هَوَازِنَ يَنْظُرُونَ إلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ - ثَلَاثَةَ نَفَرٍ
- وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَفَرّقُوا فِي الْعَسْكَرِ فَرَجَعُوا إلَيْهِ
وَقَدْ تَفَرّقَتْ أَوْصَالُهُمْ. فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ وَيْلَكُمْ
؟ قَالُوا: رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ فَوَاَللّهِ
مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى وَقَالُوا لَهُ مَا
نُقَاتِلُ أَهْلَ الْأَرْضِ إنْ نُقَاتِلْ [إلّا] أَهْلَ السّمَوَاتِ -
وَإِنّ أَفْئِدَةَ عُيُونِهِ تَخْفُقُ - وَإِنْ أَطَعْتنَا رَجَعْت
بِقَوْمِك، فَإِنّ النّاسَ إنْ رَأَوْا مِثْلَ مَا رَأَيْنَا
أَصَابَهُمْ مِثْلَ الّذِي أَصَابَنَا. قَالَ: أُفّ لَكُمْ بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ أَجْبَنُ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. فَحَبَسَهُمْ عِنْدَهُ
فَرَقًا أَنْ يَشِيعَ ذَلِكَ الرّعْبُ فِي الْعَسْكَرِ. وَقَالَ:
دِلّونِي عَلَى رَجُلٍ شُجَاعٍ. فَأَجْمِعُوا لَهُ عَلَى رَجُلٍ
فَخَرَجَ ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِ وَقَدْ أَصَابَهُ نَحْوَ مَا أَصَابَ
مَنْ قَبْلَهُ مِنْهُمْ فَقَالَ: مَا رَأَيْت ؟ قَالَ: رَأَيْت رجالا
بيضا على
ـــــــ
1 شم سيفك: أي أغمده. " الصحاح، ص 1963"
(3/892)
خَيْلٍ بُلْقٍ.
مَا يُطَاقُ النّظَرُ إلَيْهِمْ فَوَاَللّهِ مَا تَمَاسَكْت أَنْ
أَصَابَنِي مَا تَرَى فَلَمْ يُثْنِهِ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ.
قَالُوا: وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ1 الْأَسْلَمِيّ فَقَالَ: انْطَلِقْ فَادْخُلْ فِي
النّاسِ حَتّى تَأْتِيَ بِخَبَرِ مِنْهُمْ وَمَا يَقُولُ مَالِكٌ.
فَخَرَجَ عَبْدُ اللّهِ فَطَافَ فِي عَسْكَرِهِمْ ثُمّ انْتَهَى إلَى
ابْنِ عَوْفٍ فَيَجِدُ عِنْدَهُ رُؤَسَاءُ هَوَازِنَ، فَسَمِعَهُ
يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ إنّ مُحَمّدًا لَمْ يُقَاتِلْ قَطّ قَبْلَ
هَذِهِ الْمَرّةِ، وَإِنّمَا كَانَ يَلْقَى أَغْمَارًا لَا عِلْمَ
لَهُمْ بِالْحَرْبِ فَيُنْصَرُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كَانَ فِي السّحَرِ
فَصَفّوا مَوَاشِيَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ مِنْ
وَرَائِكُمْ ثُمّ صُفّوا صُفُوفَكُمْ. ثُمّ تَكُونُ الْحَمَلَةُ
مِنْكُمْ وَاكْسِرُوا جُفُونَ2 سُيُوفِكُمْ فَتَلْقَوْنَهُ بِعِشْرِينَ
أَلْفِ سَيْفٍ مَكْسُورِ الْجَفْنِ3 وَاحْمِلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ
وَاحِدٍ. وَاعْلَمُوا أَنّ الْغَلَبَةَ لِمَنْ حَمَلَ أَوّلًا فَلَمّا
وَعَى ذَلِكَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ رَجَعَ إلَى النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَ بِكُلّ مَا سَمِعَ.
فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ: فَقَالَ:
كَذَبَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ. فَقَالَ: ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ لَئِنْ
كَذّبْتنِي لَرُبّمَا كَذّبَتْ بِالْحَقّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ
اسْمَعْ4 مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ قَالَ: صَدَقَ كُنْت ضَالّا
فَهَدَاك اللّهُ!
قَالَ: وَكَانَ سَهْلُ بْنُ الْحَنْظَلِيّةِ الْأَنْصَارِيّ يَقُولُ
سِرْنَا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ
هَوَازِنَ، فَأَسْرَعَ السّيْرَ حَتّى أَتَاهُ رجل فقال:
ـــــــ
1 في الأصل: " أبي جدرد". وما أثبتناه عن كل مراجع السيرة الأخرى.
2 جفون: جمع جفن:، وهو غمد السيف. "القاموس المحيط، ج4 ، ص209"
3 في الزرقاني، عن الواقدي: "مكسورة الجفون". "شرح على المواهب
اللدنية، ج 3،ص8"
4 في الزرقاني، عن الواقدي: "ألا تسمع" . "شرح على المواهب اللدنية،ج3،
ص0"
(3/893)
يَا رَسُولَ
اللّهِ. قَدْ تَقَطّعُوا مِنْ وَرَائِك فَنَزَلَ فَصَلّى الْعَصْرَ
وَأَوَى إلَيْهِ النّاسَ فَأَمَرَهُمْ فَنَزَلُوا، وَجَاءَهُ فَارِسٌ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي انْطَلَقْت [مِنْ] بَيْنِ
أَيْدِيكُمْ عَلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا بِهَوَازِنَ عَلَى
بَكْرَةِ أَبِيهَا1 بِظُعُنِهَا وَنِسَائِهَا وَنَعَمِهَا فِي وَادِي
حُنَيْنٍ. فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ: "تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إنْ شَاءَ
اللّهُ" ثُمّ قَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"أَلَا فَارِسٌ يَحْرُسُنَا اللّيْلَةَ" ؟ إذْ أَقْبَلَ أُنَيْسُ بْنُ
أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ عَلَى فَرَسِهِ فَقَالَ: أَنَا ذَا يَا
رَسُولَ اللّهِ. فَقَالَ: انْطَلِقْ حَتّى تَقِفَ عَلَى جَبَلِ كَذَا
وَكَذَا، فَلَا تَنْزِلَن إلّا مُصَلّيًا أَوْ قَاضِي حَاجَةٍ وَلَا
تَغُرّن مَنْ خَلْفَك قَالَ: وَبِتْنَا حَتّى أَضَاءَ الْفَجْرُ
وَحَضَرْنَا الصّلَاةَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَأَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ
اللّيْلَةَ" ؟ قُلْنَا: لَا وَاَللّهِ فَأُقِيمَتْ الصّلَاةُ فَصَلّى
بِنَا، فَلَمّا سَلّمَ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَنْظُرُ خِلَالَ الشّجَرِ فَقَالَ: "أَبْشِرُوا، قَدْ جَاءَ
فَارِسُكُمْ" وَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي وَقَفْت عَلَى
الْجَبَلِ كَمَا أَمَرْتنِي، فَلَمْ أَنْزِلْ عَنْ فَرَسِي إلّا
مُصَلّيًا أَوْ قَاضِيَ حَاجَةٍ حَتّى أَصْبَحْت، فَلَمْ أُحِسّ
أَحَدًا. قَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"انْطَلِقْ فَانْزِلْ عَنْ فَرَسِك، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا". فَقَالَ:
"مَا عَلَى هَذَا أَلّا يَعْمَلَ بَعْدَ هَذَا عَمَلًا ؟ "
قَالُوا: وَخَرَجَ رِجَالٌ مِنْ مَكّةَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا2 - عَلَى غَيْرِ
دِينٍ - رُكْبَانًا وَمُشَاةً ينظرون لمن تكون
ـــــــ
1 على بكرة أبيها: هذه كلمة للعرب يريدون بها الكثرة وتوفر العدد وأنهم
جاءوا جميعالم يتخلف منهم أحد. وليس هناك بكرة في الحقيقة، وهي التي
يستقى عليها الماء، فاستعيرت في هذا الموضع" النهاية، ج1، ص 91"
2 في الأصل:" فلم يتغادر منهم أحدا".
(3/894)
الدّائِرَةُ
فَيُصِيبُونَ مِنْ الْغَنَائِمِ وَلَا يَكْرَهُونَ أَنْ تَكُونَ
الصّدْمَةُ1 لِمُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَخَرَج أَبُو سُفْيَانَ بْنُ
حَرْبٍ فِي أَثَرِ الْعَسْكَرِ كُلّمَا مَرّ بِتُرْسٍ سَاقِطٍ أَوْ
رُمْحٍ أَوْ مَتَاعٍ مِنْ مَتَاعِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَمَلَهُ وَالْأَزْلَامُ فِي كِنَانَتِهِ. حَتّى أَوْقَرَ2
جَمَلَهُ. وَخَرَجَ صَفْوَانُ وَلَمْ يُسْلِمْ وَهُوَ فِي الْمُدّةِ
الّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاضْطَرَبَ خَلْفَ النّاسِ وَمَعَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ،
وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو
سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَبْدُ اللّهِ
بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، يَنْظُرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدّائِرَةُ
وَاضْطَرَبُوا خَلْفَ النّاسِ وَالنّاسُ يَقْتَتِلُونَ فَمَرّ بِهِ
رَجُلٌ فَقَالَ: أَبْشِرْ أَبَا وَهْبٍ هُزِمَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ
فَقَالَ: لَهُ صَفْوَانُ إنّ رَبّا مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ
رَبّ مِنْ هَوَازِنَ إنْ كُنْت مَرْبُوبًا.
قَالَ: وَلَمّا كَانَ مِنْ اللّيْلِ عَمَدَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ إلَى
أَصْحَابِهِ فَعَبّأَهُمْ فِي وَادِي حُنَيْنٍ - وَهُوَ وَادٍ أَجْوَفَ
ذُو شِعَابٍ وَمَضَايِقَ - وَفَرّقَ النّاسُ فِيهِ وَأَوْعَزَ إلَى
النّاسِ أَنْ يَحْمِلُوا عَلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ حَمْلَةً
وَاحِدَةً. وَعَبَأَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْحَابَهُ وَصَفّهُمْ صُفُوفًا فِي السّحَرِ وَوَضَعَ الْأَلْوِيَةَ
وَالرّايَاتِ فِي أَهْلِهَا ; مَعَ الْمُهَاجِرِينَ لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ
عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي
وَقّاصٍ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ وَفِي الْأَنْصَارِ رَايَاتٌ مَعَ الْخَزْرَجِ لِوَاءٌ
يَحْمِلُهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ - وَيُقَالُ: لِوَاءُ
الْخَزْرَجِ الْأَكْبَرُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ - وَلِوَاءُ
الْأَوْسِ مَعَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَفِي كُلّ بَطْنٍ مِنْ
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ لِوَاءٌ أَوْ رَايَةٌ . وَفِي بَنِي عَبْدِ
الْأَشْهَلِ رَايَةٌ يحملها
ـــــــ
1 الصدمة: قوة المصيبة وشدتها. " النهاية،ج2،ص256"
2 أوقر جمله: أي حمله وقرا. "النهاية،ج4 ص224".
(3/895)
أَبُو
نَائِلَةَ وَفِي بَنِي حَارِثَةَ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو بُرْدَةَ
بْنُ نِيَارٍ وَفِي ظَفَرٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا قَتَادَةُ بْنُ
النّعْمَانِ. وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا جَبْرُ بْنُ عَتِيكٍ فِي بَنِي
مُعَاوِيَةَ وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا هِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ فِي بَنِي
وَاقِفٍ وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ
الْمُنْذِرِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَرَايَةُ يَحْمِلُهَا
أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ فِي بَنِي سَاعِدَةَ وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا
عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ فِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ وَرَايَةٌ
يَحْمِلُهَا أَبُو سَلِيطٍ فِي بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ وَرَايَةٌ
يَحْمِلُهَا سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَنِي مَازِنٍ. وَكَانَتْ
رَايَاتُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي الْجَاهِلِيّةِ خُضْرٌ وَحُمْرٌ
فَلَمّا كَانَ الْإِسْلَامُ أَقَرّوهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ
وَكَانَتْ رَايَاتُ الْمُهَاجِرِينَ سُودٌ وَالْأَلْوِيَةُ بِيضٌ.
وَكَانَ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي أَسْلَمَ رَايَتَانِ إحْدَاهُمَا
مَعَ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ، وَالْأُخْرَى مَعَ جُنْدُبِ بْنِ
الْأَعْجَمِ. وَكَانَ فِي بَنِي غِفَارٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو
ذَرّ وَمَعَ بَنِي ضَمْرَةَ وَلَيْثٍ وَسَعْدِ بْنِ لَيْثٍ رَايَةٌ
يَحْمِلُهَا أَبُو وَاقِدٍ اللّيْثِيّ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ.
وَكَانَ مَعَ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو رَايَتَانِ يَحْمِلُ إحْدَاهُمَا
بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ، وَالْأُخْرَى أَبُو شُرَيْحٍ. وَكَانَ فِي
بَنِي مُزَيْنَةَ ثَلَاثُ رَايَاتٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا بِلَالُ بْنُ
الْحَارِثِ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا النّعْمَانُ بْنُ مُقْرِنٍ،
وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ.
وَكَانَ فِي جُهَيْنَةَ أَرْبَعُ رَايَاتٍ رَايَةٌ مَعَ رَافِعِ بْنِ
مَكِيثٍ. وَرَايَةٌ مَعَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَرَايَةٌ مَعَ
أَبِي زُرْعَةَ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ وَرَايَةٌ مَعَ سُوَيْدِ بْنِ
صَخْرٍ. وَكَانَتْ فِي بَنِي أَشْجَعَ رَايَتَانِ وَاحِدَةٌ مَعَ
نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَالْأُخْرَى مَعَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ.
وَكَانَتْ فِي بَنِي سُلَيْمٍ ثَلَاثُ رَايَاتٍ رَايَةٌ مَعَ
الْعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَرَايَةٌ مَعَ خِفَافِ بْنِ نُدْبَةَ
وَرَايَةٌ مَعَ الْحَجّاجِ بْنِ عِلَاطٍ(1). وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــ
1 في الأصل:" الحجاج بن عيلاط"، وما أثبتناه عن ابن سعد." الطبقات، ج2،
ص10" وعن البلاذري أيضا." أنساب الأشراف،ج1،ص53"
(3/896)
قَدْ قَدِمَ
سُلَيْمًا مِنْ يَوْمِ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ فَجَعَلَهُمْ مُقَدّمَةَ
الْخَيْلِ وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى مُقَدّمَتِهِ
حَتّى وَرَدَ الْجِعِرّانَةِ. قَالُوا: وَانْحَدَرَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ وَقَدْ مَضَتْ
مُقَدّمَتُهُ وَهُوَ عَلَى تَعْبِئَةٍ فِي وَادِي حُنَيْنٍ،
فَانْحَدَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
انْحِدَارًا - وَهُوَ وَادٍ حُدُورٌ1 - وَرَكِبَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ دُلْدُلَ وَلَبِسَ
دِرْعَيْنِ الْمِغْفَرَ وَالْبَيْضَةَ وَاسْتَقْبَلَ الصّفُوفَ وَطَافَ
عَلَيْهَا بَعْضَهَا خَلْفَ بَعْضٍ يَنْحَدِرُونَ فِي الْوَادِي،
فَحَضّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَبَشّرَهُمْ بِالْفَتْحِ إنْ صَدَقُوا
وَصَبَرُوا، فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ يَنْحَدِرُونَ فِي غَلَسِ2
الصّبْحِ.
فَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يُحَدّثُ يَقُولُ لَمّا انْتَهَيْنَا إلَى
وَادِي حُنَيْنٍ - وَهُوَ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ لَهُ
مَضَايِقُ وَشِعَابٌ - فَاسْتَقْبَلْنَا مِنْ هَوَازِنَ شَيْءٌ لَا
وَاَللّهِ مَا رَأَيْت مِثْلَهُ فِي ذَلِكَ الزّمَانِ قَطّ مِنْ
السّوَادِ وَالْكَثْرَةِ قَدْ سَاقُوا نِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
وَأَبْنَاءَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ ثُمّ صَفّوا صُفُوفًا. فَجَعَلُوا
النّسَاءَ فَوْقَ الْإِبِلِ وَرَاءَ صُفُوفِ الرّجَالِ ثُمّ جَاءُوا
بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَجَعَلُوهَا وَرَاءَ ذَلِكَ
لِئَلّا يَفِرّوا بِزَعْمِهِمْ. فَلَمّا رَأَيْنَا ذَلِكَ السّوَادَ
حَسِبْنَاهُ رِجَالًا كُلّهُمْ فَلَمّا تَحَدّرْنَا فِي الْوَادِي،
فَبَيْنَا نَحْنُ فِيهِ غَلَسَ الصّبْحُ إنْ شَعَرْنَا إلّا
بِالْكَتَائِبِ قَدْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا مِنْ مَضِيقِ الْوَادِي
وَشِعْبِهِ فَحَمَلُوا حَمَلَةً وَاحِدَةً. فَانْكَشَفَ أَوّلُ
الْخَيْلِ - خَيْلِ سُلَيْمٍ - مُوَلّيَةً فَوَلّوْا، وَتَبِعَهُمْ
أَهْلُ مَكّةَ وَتَبِعَهُمْ النّاسُ مُنْهَزِمِينَ مَا يَلْوُونَ عَلَى
شَيْءٍ. قَالَ: أَنَسٌ فَسَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَالنّاسُ
مُنْهَزِمُونَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أنصار الله وأنصار
ـــــــ
1 في الأصل:"وهو وادي حذور"، ولعل الصواب ما أثبتناه.والحدور:المكان
ينحدر منه." لسان العرب،ج5 ص244"
2 الغلس:ظلمة آخر الليل."النهاية،ج3،ص166".
(3/897)
رَسُولِهِ!
أَنَا عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ صَابِرٌ! قَالَ: ثُمّ تَقَدّمَ
بِحَرْبَتِهِ أَمَامَ النّاسِ فَوَاَلّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقّ مَا
ضَرَبْنَا بِسَيْفٍ وَلَا طَعَنّا بِرُمْحٍ حَتّى هَزَمَهُمْ اللّهُ
ثُمّ رَجَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
الْعَسْكَرِ يَأْمُرُ أَنْ يُقْتَلَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ
وَجَعَلَتْ هَوَازِنُ تُوَلّي وَثَابَ مَنْ انْهَزَمَ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ
الزّهْرِيّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ الْتَقَى
الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فَوَلّى الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ
فَلَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَا مَعَهُ إلّا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ آخِذًا بِثَفَرِ1 بَغْلَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
يَأْلُو مَا أَسْرَعَ نَحْوَ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: فَأَتَيْته حَتّى
أَخَذْت بِحَكَمَةِ2 بَغْلَتِهِ وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ شَهْبَاءُ
فَشَجَرْتهَا3 بِالْحَكَمَةِ. وَكُنْت رَجُلًا صَيّتًا. فَقَالَ:
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى مِنْ
النّاسِ مَا رَأَى ; لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ قَالَ:يَا عَبّاسُ
اُصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ"
فَنَادَيْت: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ4
قَالَ: فَأَقْبَلُوا كَأَنّهُمْ الْإِبِلُ إذَا حَنَتْ إلَى
أَوْلَادِهَا، يَقُولُونَ يَا لَبّيْكَ يَا لَبّيْكَ" فَيَذْهَبُ
الرّجُلُ
ـــــــ
1في الأصل: "بتقر". والثفر، بالتحريك: السير في مؤخر السرج." القاموس
المحيط،ج1،ص383"
2 الحكمة: ما أحاط بحنكى الفرس من لجامه وفيها العذاران. "القاموس
المحيط ج4،ص98".
3 في الأصل: "فسجرها بالحكمة" ، وشجرتها: أي ضربتها بلجامها أكفها.
"القاموس المحيط، ج2،ص56".
4 في الأصل: " يا أصحاب الشجرة"، وما أثبتناه عن الطبري."تاريخ،ص1661".
والسمرة: الشجرة التي كانت عندها بيع الرضوان عام الحديبية."النهاية ج2
،ص181".
(3/898)
مِنْهُمْ
فَيُثْنِي بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُ دِرْعَهُ
فَيُقَدّمُهَا فِي عُنُقِهِ وَيَأْخُذُ تُرْسَهُ وَسَيْفَهُ ثُمّ
يَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ فَيُخَلّي سَبِيلَهُ فِي النّاسِ وَيَؤُمّ
الصّوْتَ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى إذَا ثَابَ إلَيْهِ النّاسُ اجْتَمَعُوا.
فَكَانَتْ الدّعْوَةُ أَوّلًا: يَا لَلْأَنْصَارِ ثُمّ قُصِرَتْ
الدّعْوَةُ فَنَادَوْا: يَا لَلْخَزْرَجِ قَالَ: وَكَانُوا صُبُرًا
عِنْدَ اللّقَاءِ صُدُقًا عِنْدَ الْحَرْبِ. قَالَ: فَأَشْرَفَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْمُتَطَاوَلِ فِي
رَكَائِبِهِ فَنَظَرَ إلَى قِتَالِهِمْ فَقَالَ: الْآنَ حَمِيَ
الْوَطِيسُ ثُمّ أَخَذَ بِيَدِهِ مِنْ الْحَصَى فَرَمَاهُمْ ثُمّ
قَالَ: "انْهَزِمُوا . وَرَبّ الْكَعْبَةِ" فَوَاَللّهِ مَا زِلْت
أَرَى أَمْرَهُمْ مُدْبِرًا، وَحَدّهُمْ كَلِيلًا حَتّى هَزَمَهُمْ
اللّهُ وَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ. وَيُقَالُ:
إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
لِلْعَبّاسِ نَادِ "يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ" فَرَجَعَتْ الْأَنْصَارُ
وَهُمْ يَقُولُونَ الْكَرّةُ بَعْدَ الْفَرّةِ. قَالَ: فَعَطَفُوا
عَطْفَةَ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، قَدْ شَرَعُوا الرّمَاحَ حَتّى
إنّي لَأَخَافُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رِمَاحَهُمْ أَشَدّ مِنْ خَوْفِي رِمَاحَ الْمُشْرِكِينَ
يَؤُمّونَ الصّفُوفَ وَيَقُولُونَ يَا لَبّيْكَ يَا لَبّيْكَ فَلَمّا
اخْتَلَطُوا وَاجْتَلَدُوا1، وَرَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى بَغْلَتِهِ فِي رَكَائِبِهِ يَقُولُ"اللّهُمّ
إنّي أَسَلُكَ2 وَعْدَك، لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا". ثُمّ
قَالَ: لِلْعَبّاسِ نَاوِلْنِي حَصَيَاتٍ فَنَاوَلَهُ حَصَيَاتٍ مِنْ
الْأَرْضِ ثُمّ قَالَ: "شَاهَتْ الْوُجُوهُ وَرَمَى بِهَا وُجُوهَ
الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ: انْهَزِمُوا. وَرَبّ الْكَعْبَةِ"
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ
عَاصِمِ بْنِ عمرو بن
ـــــــ
1 اجتلد: أي ضرب بالسيف."لسان العرب،ج4،ص98".
2 سألت أسأل، وسلت أسل بمعنى."لسان العرب،ج13،ص338".
(3/899)
قَتَادَةَ،
عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: لَمّا انْكَشَفَ النّاسُ وَاَللّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ
هَزِيمَتِهِمْ حَتّى وُجِدَ الْأَسْرَى عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَتّفِينَ. قَالَ: وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ إلَى أَبِي سُفْيَانَ
بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ مُقَنّعٌ فِي الْحَدِيدِ وَكَانَ مِمّنْ صَبَرَ
يَوْمَئِذٍ وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ هَذَا"؟ قَالَ: ابْنُ أُمّك يَا
رَسُولَ اللّهِ. وَيُقَالُ: إنّهُ قَالَ: "مَنْ أَنْتَ" ؟ قَالَ:
"أَخُوك" - فِدَاك أَبِي وَأُمّي - أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ.
فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ
أَخِي، "نَاوِلْنِي حَصًى مِنْ الْأَرْضِ" فَنَاوَلْته فَرَمَى بِهَا
فِي أَعْيُنِهِمْ كُلّهِمْ. وَانْهَزَمُوا.
قَالُوا: فَلَمّا انْكَشَفَ النّاسُ انْحَازَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى
دَابّتِهِ لَمْ يَنْزِلْ. إلّا أَنّهُ قَدْ جَرّدَ سَيْفَهُ وَطَرَحَ
غِمْدَهُ وَبَقِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ
الْعَبّاسُ وَعَلِيّ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبّاسٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ
بْنُ الْحَارِثِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَيْمَنُ بْنُ
عُبَيْدٍ الْخَزْرَجِيّ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو بَكْرٍ،
وَعُمَرُ عَلَيْهِمْ السّلَامُ.
وَيُقَالُ: إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمّا انْكَشَفَ النّاسُ قَالَ: لِحَارِثَةَ بْنِ النّعْمَانِ يَا
حَارِثَةُ "كَمْ تَرَى الّذِينَ ثَبَتُوا" ؟ قَالَ: فَلَمّا الْتَفَتَ
وَرَائِي تَحَرّجًا1، فَنَظَرْت عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي،
فَحَزَرْتُهُمْ مِائَةً فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ هُمْ مِائَةٌ
حَتّى كَانَ يَوْمٌ مَرَرْت عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يُنَاجِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ عِنْدَ بَابِ
الْمَسْجِدِ فقال:
ـــــــ
1 تحرج فلان إذا فعل فعلا يخرج به من الحجر:الإثم
والضيق."النهاية،ج1،ص213".
(3/900)
جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السّلَامُ : مَنْ هَذَا يَا مُحَمّدُ ؟ فَقَالَ: رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "حَارِثَةُ بْنُ
النّعْمَانِ". فَقَالَ: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ: هَذَا أَحَدُ
الْمِائَةِ الصّابِرَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ لَوْ سَلّمَ لَرَدَدْت
عَلَيْهِ السّلَامَ. فَأَخْبَرَهُ1 النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا كُنْت أَظُنّهُ إلّا دِحْيَةَ الْكَلْبِيّ
وَاقِفٌ مَعَك.
وَكَانَ دُعَاءُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَئِذٍ حِينَ انْكَشَفَ النّاسُ عَنْهُ وَلَمْ يَبْقَ إلّا
الْمِائَةُ الصّابِرَةُ "اللّهُمّ لَك الْحَمْدُ وَإِلَيْك
الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ" قَالَ: لَهُ جِبْرِيلُ لَقَدْ
لُقّنْت2 الْكَلِمَاتِ الّتِي لَقّنَ اللّهُ مُوسَى يَوْمَ فَلَقَ
الْبَحْرَ أَمَامَهُ وَفِرْعَوْنُ خَلْفَهُ".
قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ. عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ
عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا، قَالَتْ إنّ حَارِثَةَ
بْنَ النّعْمَانِ مَرّ بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ يُنَاجِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَهُمَا قَائِمَانِ
فَسَلّمَ عَلَيْهِمَا حَارِثَةُ. فَلَمّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ:
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْت
الرّجُلَ؟ قَالَ: حَارِثَةُ نَعَمْ وَلَا أَدْرِي مَنْ هُوَ. قَالَ:
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السّلَامُ، وَقَدْ رَدّ عَلَيْك السّلَامَ. وَيُقَالُ: إنّ
الْمِائَةَ الصّابِرَةَ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ وَسَبْعَةٌ وَسِتّونَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَالْعَبّاسُ
وَأَبُو سُفْيَانَ الْعَبّاسُ آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ. وَأَبُو
سُفْيَانَ عَنْ يَمِينِهِ وَحَفّ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ.
وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يُحَدّثُ قَالَ: مَرّ جِبْرِيلُ وَحَارِثَةُ
بْنُ النّعْمَانِ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاقِفٌ فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمّدُ ؟ فَقَالَ: حَارِثَةُ بْنُ
النّعْمَانِ. فَقَالَ: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ: هَذَا أَحَدُ
الثّمَانِينَ الصّابِرَةِ وَقَدْ تَكَفّلَ اللّهُ لَهُمْ
بِأَرْزَاقِهِمْ وَأَرْزَاقِ عِيَالِهِمْ فِي الْجَنّةِ. وَكَانَ ابْنُ
عَبّاسٍ
ـــــــ
1 في الأصل "فأخبر".
2 لقن:فهم"لسان العرب، ج17،ص275
(3/901)
يَقُولُ
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ الّذِينَ تَكَفّلَ
اللّهُ بِأَرْزَاقِهِمْ وَأَرْزَاقِ عِيَالِهِمْ فِي الْجَنّةِ.
قَالُوا: وَكَانَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَقُول: وَاَللّهِ الّذِي
لَا إلَهَ إلّا هُوَ مَا وَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَكِنّهُ وَقَفَ وَاسْتَنْصَرَ ثُمّ نَزَلَ وَهُوَ يَقُولُ
"أَنَا النّبِي لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ"
فَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ نَصْرَهُ وَكُبِتَ عَدُوّهُ وَأَفْلَحَ
حُجّتُهُ.
قَالُوا: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ
بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ لَهُ طَوِيلٍ أَمَامَ
النّاسِ. إذَا أَدْرَكَ طَعَنَ. قَدْ أَكْثَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ
الْقَتْلَ فَيَصْمُدُ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَعَرْقَبَ جَمَلَهُ.
فَسَمِعَ خَرْخَرَةَ1 جَمَلِهِ وَاكْتَسَعَ الْجَمَلُ وَيَشُدّ عَلِيّ
وَأَبُو دُجَانَةَ عَلَيْهِ. فَيَقْطَعُ عَلِيّ يَدَهُ الْيُمْنَى،
وَيَقْطَعُ أَبُو دُجَانَةَ يَدَهُ الْأُخْرَى - وَأَقْبَلَا
يَضْرِبَانِهِ بِسَيْفَيْهِمَا جَمِيعًا حَتّى تَثَلّمَ سَيْفَاهُمَا،
فَكَفّ أَحَدُهُمَا وَأَجْهَزَ الْآخَرُ عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ:
أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ امْضِ لَا تُعَرّجْ عَلَى سَلَبِهِ فَمَضَيَا
يَضْرِبَانِ أَمَامَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَيَعْتَرِضُ لَهُمَا فَارِسٌ مِنْ هَوَازِنَ بِيَدِهِ رَايَةٌ
حَمْرَاءُ فَضَرَبَ أَحَدُهُمَا يَدَ الْفَرَسِ وَوَقَعَ لِوَجْهِهِ
ثُمّ ضَرَبَاهُ بِأَسْيَافِهِمَا فَمَضَيَا عَلَى سَلَبِهِ. وَيَمُرّ
أَبُو طَلْحَة فَسَلَبَ الْأَوّلَ وَمَرّ بِالْآخَرِ فَسَلَبَهُ.
وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ وَعَلِيّ، وَأَبُو دُجَانَةَ
وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ يُقَاتِلُونَ بَيْن يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: حَدّثَنِي سُلَيْمَان بْنُ بِلَالٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ
غَزِيّةَ قَالَ: قَالَتْ أُمّ عُمَارَةَ لَمّا كَانَ يَوْمَئِذٍ
وَالنّاسُ مُنْهَزِمُونَ فِي كُلّ وَجْهٍ وَأَنَا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ
فِي يَدِي سَيْفٌ لِي صَارِمٌ وَأُمّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خَنْجَرٌ قَدْ
حَزَمَتْهُ عَلَى وَسَطِهَا - وَهِيَ يَوْمَئِذٍ حَامِلٌ بِعَبْدِ
اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ - وَأُمّ سَلِيطٍ وأم الحارث. قالوا:
ـــــــ
1 الخرخرة: سرعة الخرير في القصب."لسان العرب، ج5،ص316"
(3/902)
فَجَعَلَتْ
تُسِلّهُ1 وَتَصِيحُ بِالْأَنْصَارِ أَيّةُ عَادَةٍ هَذِهِ2 مَا لَكُمْ
وَلِلْفِرَارِ قَالَتْ وَأَنْظُرُ إلَى رَجُلٍ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى
جَمَلٍ أَوْرَقَ مَعَهُ لِوَاءٌ يُوضِعُ جَمَلَهُ فِي أَثَرِ
الْمُسْلِمِينَ فَأَعْتَرِضُ لَهُ فَأَضْرِبُ عُرْقُوبَ الْجَمَلِ.
وَكَانَ جَمَلًا مُشْرِفًا3، فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ وَأَشُدّ
عَلَيْهِ. فَلَمْ أَزَلْ أَضْرِبُهُ حَتّى أَثْبَتّه. وَأَخَذْت
سَيْفًا لَهُ وَتَرَكْت الْجَمَلَ يُخَرْخِرُ يَتَصَفّقُ4 ظَهْرًا
لِبَطْنٍ وَرَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ
مُصْلِتٌ السّيْفَ بِيَدِهِ قَدْ طَرَحَ غِمْدَهُ يُنَادِي: "يَا
أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ" قَالَ: وَكَرّ الْمُسْلِمُونَ
فَجَعَلُوا يَقُولُونَ يَا بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ يَا بَنِي عُبَيْدِ
اللّهِ يَا خَيْلَ اللّهِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَمّى خَيْلَهُ خَيْلَ اللّهِ وَجَعَلَ
شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ وَجَعَلَ شِعَارَ
الْأَوْسِ بَنِي عُبَيْدِ اللّهِ. فَكَرّتْ الْأَنْصَارُ. وَوَقَفَتْ
هَوَازِنُ حَلْبَ نَاقَةٍ فَتُوحٍ5 ثُمّ كَانَتْ إيّاهَا، فَوَاَللّهِ
مَا رَأَيْت هَزِيمَةً كَانَتْ مِثْلَهَا، ذَهَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ
فَرَجَعَ ابْنَايَ إلَيّ - حَبِيبٌ وَعَبْدُ اللّهِ ابْنَا زَيْدٍ -
بِأُسَارَى مُكَتّفِينَ فَأَقُومُ إلَيْهِمْ مِنْ الْغَيْظِ.
فَأَضْرِبُ عُنُقَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَجَعَلَ النّاسُ يَأْتُونَ
بِالْأُسَارَى، فَرَأَيْت فِي بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ ثَلَاثِينَ
أَسِيرًا. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ بَلَغَ أَقْصَى هَزِيمَتِهِمْ
مَكّةَ ، ثُمّ كَرّوا بَعْدُ وَتَرَاجَعُوا، فَأَسْهَمَ لَهُمْ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعًا. فَكَانَ أَنَسُ
بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ إنّ أُمّ سُلَيْمٍ، أُمّي ابْنَةَ مِلْحَانَ
جَعَلَتْ تَقُولُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْت هَؤُلَاءِ الّذِينَ
أَسْلَمُوك وَفَرّوا عَنْك وَخَذَلُوك لَا تعف
ـــــــ
1 في الأصل:"تسبه"
2 في الأصل: "أنت عاده هذه".
3 جمل مشرف:أي عال."الصحاح،ص1385".
4 تصفق:أي انفلب. "لسان العرب،ج12،ص71".
5 الفتوح من النوق: الواسعة الإحليل."الصحاح،ص389".
(3/903)
عَنْهُمْ إذَا
أَمْكَنَك اللّهُ مِنْهُمْ - فَاقْتُلْهُمْ كَمَا تَقْتُلُ هَؤُلَاءِ
الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: يَا أُمّ سُلَيْمٍ. قَدْ كَفَى اللّهُ
عَافِيَةُ اللّهِ أَوْسَعُ وَمَعَهَا يَوْمَئِذٍ جَمَلُ أَبِي طَلْحَةَ
قَدْ خَشِيَتْ أَنْ يَغْلِبَهَا، فَأَدْنَتْ رَأْسَهُ مِنْهَا
فَأَدْخَلَتْ يَدَهَا فِي خِزَامَتِهِ مَعَ الْخِطَامِ وَهِيَ شَادّةٌ
وَسَطَهَا بِبُرْدٍ لَهَا، وَمَعَهَا خَنْجَرٌ فِي يَدِهَا، فَقَالَ:
لَهَا أَبُو طَلْحَةَ مَا هَذَا مَعَك يَا أُمّ سُلَيْمٍ ؟ قَالَتْ
خَنْجَرٌ أَخَذْته مَعِي، إنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
بَعَجْته1 بِهِ. قَالَ: أَبُو طَلْحَةَ مَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ
اللّهِ مَا تَقُولُ أُمّ سُلَيْمٍ ؟
وَكَانَتْ أُمّ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيّةُ أَخَذَتْ بِخِطَامِ جَمَلِ
أَبِي الْحَارِثِ زَوْجِهَا، وَكَانَ جَمَلُهُ يُسَمّى الْمِجْسَارَ
فَقَالَتْ يَا حَارِ تَتْرُكُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخَذَتْ بِخِطَامِ الْجَمَلِ. وَالْجَمَلُ
يُرِيدُ أَنْ يَلْحَقَ بِأُلّافِهِ2 وَالنّاسُ يُوَلّونَ
مُنْهَزِمِينَ. وَهِيَ لَا تُفَارِقُهُ . فَقَالَتْ أُمّ الْحَارِثِ
فَمَرّ بِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ. فَقَالَتْ
أُمّ الْحَارِثِ يَا عُمَرُ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ: عُمَرُ أَمْرُ
اللّهِ. وَجَعَلَتْ أُمّ الْحَارِثِ تَقُولُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ
جَاوَزَ بَعِيرِي فَأَقْتُلُهُ وَاَللّهِ إنْ رَأَيْت كَالْيَوْمِ مَا
صَنَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ بِنَا تَعْنِي بَنِي سُلَيْمٍ وَأَهْلَ
مَكّةَ الّذِينَ انْهَزَمُوا بِالنّاسِ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ أَنّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ يَصِيحُ
يَوْمَئِذٍ بِالْخَزْرَجِ يَا لَلْخَزْرَجِ يَا لَلْخَزْرَجِ وأُسَيْدُ
بْنُ حُضَيْرٍ يَا لَلْأَوْسِ ثَلَاثًا. فَثَابُوا وَاَللّهِ مِنْ كُلّ
نَاحِيَةٍ كَأَنّهُمْ النّحْلُ تَأْوِي إلَى يَعْسُوبِهَا3. قَالَ:
فَحَنِقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ حَتّى
ـــــــ
1 بعج بطنه بالسكين: أي شقه"الصحاح،ص 300".
2 في الأصل:"باللافه".
3 هو مقدمها وسيدها."النهاية،ج4،ص266".
(3/904)
أَسْرَعَ
الْمُسْلِمُونَ فِي قَتْلِ الذّرّيّةِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ
ذَهَبَ بِهِمْ الْقَتْلُ حَتّى بَلَغَ الذّرّيّةَ أَلَا لَا تُقْتَلُ
الذّرّيّةُ ثَلَاثًا". قَالَ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يَا رَسُولَ
اللّهِ أَلَيْسَ إنّمَا هُمْ أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَقَالَ:
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَوَلَيْسَ
خِيَارُكُمْ أَوْلَادَ الْمُشْرِكِينَ ؟ كُلّ نَسَمَةٍ تُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ حَتّى يُعْرِبَ عَنْهَا لِسَانُهَا. فَأَبَوَاهَا
يُهَوّدَانِهَا أَوْ يُنَصّرَانِهَا"
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَلِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ
قَالَ: لَمّا تَرَاءَيْنَا نَحْنُ وَالْقَوْمُ رَأَيْنَا سَوَادًا لَمْ
نَرَ مِثْلَهُ قَطّ كَثْرَةً وَإِنّمَا ذَلِكَ السّوَادُ نَعَمٌ
فَحَمَلُوا النّسَاءَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَقْبَلَ مِثْلَ الظّلّةِ
السّوْدَاءِ مِنْ السّمَاءِ حَتّى أَظَلّتْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ
وَسَدّتْ الْأُفُقَ فَنَظَرْت فَإِذَا وَادِي حُنَيْنٍ يَسِيلُ
بِالنّمْلِ نَمْلٍ أَسْوَدَ مَبْثُوثٍ لَمْ أَشُكّ أَنّهُ نَصْرٌ
أَيّدَنَا اللّهُ بِهِ فَهَزَمَهُمْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ.
قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ
بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ. عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ شُيُوخٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الْأَنْصَارِ،
قَالُوا: رَأَيْنَا يَوْمَئِذٍ كَالْبُجُدِ1 السّودِ هَوَتْ مِنْ
السّمَاءِ رُكَامًا2، فَنَظَرْنَا فَإِذَا نَمْلٌ مَبْثُوثٌ. فَإِنْ
كُنّا لَنَنْفُضُهُ عَنْ ثِيَابِنَا. فَكَانَ نَصْرٌ أَيّدَنَا اللّهُ
بِهِ.
وَكَانَ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمَ حُمْرًا قَدْ
أَرْخَوْهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ وَكَانَ الرّعْبُ الّذِي قَذَفَ
اللّهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِين يَوْمَ حُنَيْنٍ [ كَوَقْعِ الْحَصَى
ـــــــ
1 في الأصل: "كالنحل". وما أثبتناه عن الزرقاني يروى عن الواقدي."شرح
على المواهب اللدنية،ج3 ص18". والبجد: جمع البجاد، وهو كساء مخطط من
أكسية الأعراب. " الصحاح، ص440".
2 الركام:السحاب المتراكب بعضه فوق بعض. "النهاية،ج2،ص101".
(3/905)
فِي الطّسْتِ
]1. فَكَانَ سُوَيْدُ بْنُ عَامِرٍ السّوَائِيّ يُحَدّثُ وَكَانَ قَدْ
حَضَرَ يَوْمَئِذٍ فَسُئِلَ عَنْ الرّعْبِ فَكَانَ يَأْخُذُ الْحَصَاةَ
فَيَرْمِي بِهَا فِي الطّسْتِ فَيَطِنّ، فَقَالَ: إنْ كُنّا نَجِدُ فِي
أَجْوَافِنَا مِثْلَ هَذَا
. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ يَقُولُ حَدّثَنِي
عِدّةٌ مِنْ قَوْمِي شَهِدُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ يَقُولُونَ لَقَدْ
رَمَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ
الْكَفّ مِنْ الْحَصَيَاتِ فَمَا مِنّا أَحَدٌ إلّا يَشْكُو الْقَذَى
فِي عَيْنَيْهِ وَلَقَدْ كُنّا نَجِدُ فِي صُدُورِنَا خَفَقَانًا
كَوَقْعِ الْحَصَى فِي الطّسَاسِ مَا يَهْدَأُ ذَلِكَ الْخَفَقَانُ
عَنّا ; وَلَقَدْ رَأَيْنَا يَوْمَئِذٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ
بُلْقٍ عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ حُمْرٌ قَدْ أَرْخَوْهَا بَيْنَ
أَكْتَافِهِمْ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَتَائِبَ كَتَائِبَ2 مَا
يُلِيقُونَ3 شَيْئًا، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُقَاتِلَهُمْ4 مِنْ
الرّعْبِ مِنْهُمْ.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْعَبْسِيّ عَمّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ
رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدّثَنِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِنَا حَضَرُوا
يَوْمَئِذٍ قَالُوا: كَمَنّا لَهُمْ فِي الْمَضَايِقِ وَالشّعَابِ ثُمّ
حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ حَمَلَةً رَكِبْنَا أَكْتَافَهُمْ حَتّى
انْتَهَيْنَا إلَى صَاحِبِ بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ وَحَوْلَهُ رِجَالٌ
بِيضٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ فَقَالَ: "شَاهَتْ الْوُجُوهُ، ارْجِعُوا
"فَانْهَزَمْنَا، وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أَكْتَافَنَا وَكَانَتْ
إيّاهَا، وَجَعَلْنَا نَلْتَفِتُ وَرَاءَنَا نَنْظُرُ إلَيْهِمْ
يَكِدُونَنَا5، فَتَفَرّقَتْ
ـــــــ
1الزيادة عن الزرقاني."شرح على المواهب اللدنية،ج4،ص25".
2 في الأصل:" كثائب كثائب"، والمثبت عن الزرقاني، يروى عن الواقدي."شرح
على المواهب اللدنية،ج3،ص21".
3 في الأصل:"ما يلتفون"، وما أثبتناه عن الزرقاني،يروى عن الواقدي."شرح
على المواهب اللدنية،ج3،ص21".ويقال فلان ما يليق شيأ من سخائه، أي ما
يمسك."لسان العرب،ج12،ص210".
4 في الأصل:"ولا يستطيعأن تتأملهم"، وما أثبتناه عن الزرقاني، يروى عن
الواقدي." شرح على المواهب اللدنية،ج3،ص21".
5 في الأصل: "يكدونا". ووكد فلانأمرا إذا قصده وطلبه."النهايةج4،ص227".
(3/906)
جَمَاعَتُنَا
فِي كُلّ وَجْهٍ وَجَعَلَتْ الرّعْدَةُ تَسْحَقُنَا حَتّى لَحِقْنَا
بِعَلْيَاءِ بِلَادِنَا، فَإِنْ كَانَ لَيُحْكَى عَنّا الْكَلَامُ مَا
كُنّا نَدْرِي بِهِ مِمّا كَانَ بِنَا مِنْ الرّعْبِ فَقَذَفَ اللّهُ
الْإِسْلَامَ فِي قُلُوبِنَا .
وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَحْلَافِ مِنْ ثَقِيفٍ مَعَ قَارِبِ بْنِ
الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ أَسْنَدَ
رَايَتَهُ إلَى شَجَرَةٍ وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمّهِ مِنْ
الْأَحْلَافِ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ إلّا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي
غِيَرَةَ1 وَهْبٌ وَاللّجْلَاجُ2. وَقَالَ: النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ اللّجْلَاجِ "قُتِلَ
الْيَوْمَ سَيّدُ شُبّانِ ثَقِيفٍ"، إلّا مَا كَانَ مِنْ ابْنِ
هُنَيْدَةَ. وَكَانَتْ رَايَةُ بَنِي مَالِكٍ مَعَ ذِي الْخِمَارِ
فَلَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ تَبِعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ
وَيُسْتَحْصَى الْقَتْلَى3 مِنْ ثَقِيفٍ بِبَنِي مَالِكٍ فَقُتِلَ
مِنْهُمْ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ تَحْتَ رَايَتِهِمْ فِيهِمْ
عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، فَقَاتَلَ بِهَا مَلِيّا، وَجَعَلَ
يَحُثّ ثَقِيفًا وَهَوَازِنَ عَلَى الْقِتَالِ حَتّى قُتِلَ وَكَانَ
اللّجْلَاجُ رَجُلًا مِنْ بَنِي كُنّةَ. وَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَخِي بَنِي كُنّةَ هَذَا سَيّدُ
شُبّانِ كُنّةَ إلّا ابْنَ هُنَيْدَةَ - الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ يَعْمَرَ بْنِ إيَاسِ بْنِ أَوْسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
الْحَارِثِ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَضْحَكُ. وَكَانَتْ كُنّةُ امْرَأَةً مِنْ غَامِدٍ يَمَانِيّةً قَدْ
وُلِدَتْ فِي
قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَكَانَتْ أَمَةً فَأَعْتَقَ الْحَارِثُ كُلّ
مَمْلُوكٍ مِنْ بَنِي كُنّةَ فَقَالَ: لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ أَيَسُرّك أَنّ أَهْلَ بَيْتِ
عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ مَكَانَ كُنّةَ ؟
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوَدِدْت أَنّ ذلك
ـــــــ
1 في الأصل:"بنو عره"، وما أثبتناه‘ن ابن سعد."الطبقات،ج5،ص377". وعن
إسحاق أيضا."السيرة النبوية،ج4ص93".
2 هكذا في الأصل. وفي ابن إسحاق: "الجلاح"."السيرة النبوية،ج4،ص93".
3 في الأصل:"القتل".
(3/907)
كَذَلِكَ.
فَقَالَ: عُمَرُ لَيْتَ أُمّي كُنّةُ وَأَنّ اللّهَ يَرْزُقُنِي مِنْ
بِرّهَا مَا رَزَقَك. وَكَانَ أَبَرّ النّاسِ بِأُمّهِ مَا كَانَتْ
تَأْكُلُ طَعَامًا إلّا مِنْ يَدِهِ وَلَا يَغْسِلُ رَأْسَهَا إلّا
هُوَ وَلَا يُسَرّحُ1 رَأْسَهَا إلّا هُوَ.
قَالُوا: وَهَرَبَتْ ثَقِيفٌ، فَقَالَ: شُيُوخٌ مِنْهُمْ - أَسْلَمُوا
بَعْدُ كَانُوا قَدْ حَضَرُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ - قَالُوا: مَا زَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِنَا
فِيمَا نَرَى، وَنَحْنُ مُوَلّونَ حَتّى إنّ الرّجُلَ مِنّا لَيَدْخُلُ
حِصْنَ الطّائِفِ وَإِنّهُ لَيَظُنّ أَنّهُ عَلَى أَثَرِهِ مِنْ رُعْبِ
الْهَزِيمَةِ.
وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ يُحَدّثُ قَالَ: لَمّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ
لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ. فَرَأَيْت رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ
مُسْلِمًا وَمُشْرِكًا. قَدْ عَلَاهُ الْمُشْرِكُ. فَاسْتَدَرْت لَهُ
حَتّى أَتَيْته مِنْ وَرَائِهِ فَضَرَبْته عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ
وَأَقْبَلَ عَلَيّ فَضَمّنِي ضَمّةً وَجَدْت مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ.
وَكَادَ أَنْ يَقْتُلَنِي لَوْلَا أَنّ الدّمَ نَزَفَهُ فَسَقَطَ.
وَذَفّفْتُ عَلَيْهِ وَمَضَيْت وَتَرَكْت عَلَيْهِ سَلَبَهُ فَلَحِقْت
عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فَقُلْت: مَا بَالُ النّاسِ ؟ قَالَ: أَمْرُ
اللّهِ. ثُمّ إنّ النّاسَ رَجَعُوا، وَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ
بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ". قَالَ: فَقُمْت فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي
؟ ثُمّ جَلَسْت، ثُمّ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ
بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ". فَقُمْت فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي ؟ ثُمّ
جَلَسْت، فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ".
فَقَامَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَشَهِدَ لِي، ثُمّ لَقِيت
الْأَسْوَدَ بْنَ الْخُزَاعِيّ فَشَهِدَ لِي، وَإِذَا صَاحِبِي الّذِي
أَخَذَ السّلَبَ لَا يُنْكِرُ أَنّي قَتَلْته "- وَقَدْ قَصَصْت عَلَى
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِصّةَ - فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللّهِ سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنّي.
فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَاهَا اللّهِ إذًا2.
ـــــــ
1 تسريح الشعر: إرساله قبل المشط."لسان العرب،ج3،ص308".
2 قال ابن الأثير: هكذا جاء الحديث"لا ها الله إذا"، والصواب:"لا ها
الله ذا" بحذف الهمزة. ومعناه: لا والله لا يكون ذا، أو لا والله الأمر
ذا،فحذف تخفيفا."النهاية،ج4،ص236"
(3/908)
لَا تَعْمِدْ
إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللّهِ وَعَنْ
رَسُولِهِ يُعْطِيك سَلَبَهُ فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "صَدَقَ فَأَعْطِهِ إيّاهُ". قَالَ: أَبُو
قَتَادَةَ : فَأَعْطَانِيهِ فَقَالَ: لِي حَاطِبُ بْنُ أَبِي
بَلْتَعَةَ : يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَتَبِيعُ السّلَاحَ ؟ فَبِعْته
مِنْهُ بِسَبْعِ أَوَاقٍ فَأَتَيْت الْمَدِينَةَ فَاشْتَرَيْت بِهِ
مَخْرَفًا1 فِي بَنِي سَلِمَةَ يُقَالُ: لَهُ الرّدَيْنِيّ، فَإِنّهُ
لَأَوّلُ مَالٍ لِي نِلْته فِي الْإِسْلَامِ. فَلَمْ نَزَلْ نَعِيشُ
مِنْهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا.
وَكَانَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَدْ تَعَاهَدَ
هُوَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ حِينَ وُجّهَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ - وَكَانَ أُمَيّةُ بْنُ
خَلَفٍ قُتِلَ يَوْمَ بَدْر، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ
قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ - فَكَانَا تَعَاهَدَا إنْ رَأَيَا عَلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِرَةً أَنْ يَكُونَا
عَلَيْهِ وَهُمَا خَلْفَهُ. قَالَ: شَيْبَةُ فَأَدْخَلَ اللّهُ
الْإِيمَانَ قُلُوبَنَا. قَالَ: شَيْبَةُ لَقَدْ هَمَمْت بِقَتْلِهِ.
فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِي فَلَمْ أُطِقْ ذَلِكَ
وَعَلِمْت أَنّهُ قَدْ مُنِعَ مِنّي. وَيُقَالُ: قَالَ: غَشِيَتْنِي
ظُلْمَةٌ حَتّى لَا أُبْصِرُ فَعَرَفْت أَنّهُ مُمْتَنِعٌ مِنّي
وَأَيْقَنْت بِالْإِسْلَامِ. وَقَدْ سَمِعْت فِي قِصّةِ شَيْبَةَ
وَجْهًا آخَرَ كَانَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ يَقُولُ لَمّا رَأَيْت
رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا مَكّةَ
فَظَفِرَ بِهَا وَخَرَجَ إلَى هَوَازِنَ، قُلْت: أَخْرُجُ لَعَلّي
أُدْرِكُ ثَأْرِي وَذَكَرْت قَتْلَ أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ. قَتَلَهُ
حَمْزَةُ، وَعَمّي قَتَلَهُ عَلِيّ. قَالَ: فَلَمّا انْهَزَمَ
أَصْحَابُهُ جِئْته عَنْ يَمِينِهِ. فَإِذَا الْعَبّاسُ قَائِمٌ
عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ كَالْفِضّةِ يَنْكَشِفُ عَنْهَا الْعَجَاجُ2
فَقُلْت: عَمّهُ لَنْ يَخْذُلَهُ قَالَ: ثُمّ جِئْته عَنْ يَسَارِهِ
فَإِذَا بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ عمه فقلت:
ـــــــ
1 المخرف: الحائط من النخل."النهاية،ج1،ص289".
2 العجاج:الغبار."الصحاح،ص327".
(3/909)
ابْنُ عَمّهِ
لَنْ يَخْذُلَهُ فَجِئْته مِنْ خَلْفِهِ فَلَمْ يَبْقَ إلّا
أُسَوّرُهُ1 بِالسّيْفِ إذْ رُفِعَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ شُوَاظٌ2
مِنْ نَارٍ كَأَنّهُ بَرْقٌ وَخِفْت أَنْ يَمْحَشَنِي3 وَوَضَعْت
يَدَيّ عَلَى بَصَرِي وَمَشَيْت الْقَهْقَرَى، وَالْتَفَتَ إلَيّ
فَقَالَ:" يَا شَيْبَ اُدْنُ مِنّي فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي
وَقَالَ: "اللّهُمّ أَذْهِبْ عَنْهُ الشّيْطَانَ "قَالَ: فَرَفَعْت
إلَيْهِ رَأْسِي وَهُوَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي
وَقَلْبِي، ثُمّ قَالَ: يَا شَيْبَ، "قَاتِلْ الْكُفّارَ" فَقَالَ:
فَتَقَدّمْت بَيْنَ يَدَيْهِ أُحِبّ وَاَللّهِ أَقِيهِ بِنَفْسِي
وَبِكُلّ شَيْءٍ فَلَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ
وَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَرَادَ بِك
خَيْرًا مِمّا أَرَدْت". ثُمّ حَدّثَنِي بِمَا هَمَمْت بِهِ.
فَلَمّا كَانَتْ الْهَزِيمَةُ حَيْثُ كَانَتْ وَالدّائِرَةُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ فَتَكَلّمُوا بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ
وَالضّغْنِ وَالْغِشّ قَال: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لَا
تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ قَالَ: يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ
أَسْلَمَ يُقَالُ: لَهُ أَبُو مَقِيتٍ أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا أَنّي
سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى
عَنْ قَتْلِك لَقَتَلْتُك وَقَالَ: صَرَخَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ4
وَهُوَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ أَخُو صَفْوَانَ لِأُمّهِ أَسْوَدُ
مِنْ سُودَانِ مَكّةَ: أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ فَقَالَ:
صَفْوَانُ اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاك لَأَنْ يَرُبّنِي رَبّ مِنْ
قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَبّ مِنْ هَوَازِنَ.
قَالَ: وَقَالَ: سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: لَا يَجْتَبِرُهَا5 محمد
ـــــــ
1 سورة:أي علاه."لسان العرب،ج6،ص52"
2 الشواظ: اللهب الذي لادخان له."الصحاح،ص1173"
3 في الأصل:"أن ينحشني"، والتصحيح عن ابن سيد الناس،يروى عن
الواقدي."عيون الأثر،ج2،ص191".ويمحشني:أي يحرقني"الصحاح،ص1018".
4 في الأصل:"كلدة من حبل"،وما أثبتناه عن ابن هشام."السيرة
النبوية،ج4،ص86". وكذا في ابن عبد البر أيضا."الاستيعاب،ص1332".
5 في الأصل:"تحتبرها".واستجبر واجتبر:أصابته مصيبة لا يجتبرها،أي لا
مجبر منها."لسان العرب،ج5،ص185".
(3/910)
وَأَصْحَابُهُ
قَالَ: يَقُولُ لَهُ عِكْرِمَةُ: هَذَا لَيْسَ بِقَوْلٍ وَإِنّمَا
الْأَمْرُ بِيَدِ اللّهِ وَلَيْسَ إلَى مُحَمّدٍ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ
إنْ أُدِيلَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فَإِنّ لَهُ الْعَاقِبَةَ غَدًا.
قَالَ: يَقُول سُهَيْلٌ: إنّ عَهْدَك بِخِلَافِهِ لَحَدِيثٌ قَالَ: يَا
أَبَا يَزِيدَ إنّا كُنّا وَاَللّهِ نُوضِعُ فِي غَيْرِ شَيْءٍ
وَعُقُولُنَا عُقُولُنَا. نَعْبُدُ الْحَجَرَ لَا يَنْفَعُ وَلَا
يَضُرّ
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ
عُتْبَةَ، قَالَ: حَضَرَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بِأَفْرَاسٍ
وَعَبِيدٍ وَمَوَالٍ فَقُتِلُوا يَوْمَئِذٍ مَعَهُ وَقُتِلَ مَعَهُ
غُلَامٌ لَهُ نَصْرَانِيّ أَغْرَلُ فَبَيْنَا طَلْحَةُ يَسْلُبُ
الْقَتْلَى مِنْ ثَقِيفٍ إذْ مَرّ بِهِ فَوَجَدَهُ أَغْرَلَ1 فَصَاحَ
يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَحْلِفُ بِاَللّهِ أَنّ ثَقِيفًا غُرْلٌ
مَا تَخْتَتِنُ2
قَالَ: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: وَسَمِعْتهَا وَخَشِيت أَنْ
يَذْهَبَ عَلَيْنَا مِنْ الْعَرَبِ، فَقُلْت: لَا تَفْعَلْ فِدَاك
أَبِي وَأُمّي، إنّمَا هُوَ غُلَامٌ لَنَا نَصْرَانِيّ ثُمّ جَعَلْت
أَكْشِفُ لَهُ عَنْ قَتْلَى ثَقِيفٍ، فَأَقُولُ أَلَا تَرَاهُمْ
مُخْتَتَنِينَ ؟ وَيُقَالُ: إنّ الْعَبْدَ كَانَ لِذِي الْخِمَارِ
وَكَانَ نَصْرَانِيّا أَزْرَقَ فَقُتِلَ مَعَ سَيّدِهِ يَوْمَئِذٍ.
وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَسْلُبُ الْقَتْلَى، فَجَرّدَهُ فَإِذَا هُوَ
أَغْرَلُ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ لِلْأَنْصَارِ فَأَقْبَلُوا
إلَيْهِ فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاَللّهِ مَا تَخْتَتِنُ ثَقِيفٌ
وَسَمِعَهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ. قَالَ:
فَقَالَ: أُرِيك يَا أَبَا طَلْحَةَ فَجَرّدَ لَهُ عُثْمَانَ بْنَ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ: هَذَا سَيّدُ ثَقِيفٍ ثُمّ
أَتَى إلَى ذِي الْخِمَارِ سَيّدِ الْعَبْدِ فَإِذَا هُوَ مَخْتُونٌ.
قَالَ: الْمُغِيرَةُ وَجَاءَنِي أَمْرٌ قَطَعَنِي، وَخَشِيت أَنْ
تَسِيرَ عَلَيْنَا فِي الْعَرَبِ، حَتّى أَبْصَرَ الْقَوْمُ وَعَرَفُوا
أَنّهُ عَبْدٌ لَهُمْ نَصْرَانِيّ. وَكَانَ الّذِي قَتَلَ عُثْمَانَ
بْنَ عَبْدِ اللّهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ، فَبَلَغَ النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:
ـــــــ
1 الأغرل:الأقلف،أي غير مختتن."الصحاح،ص1780".
2 في الأصل:"ماكنني".
(3/911)
"يَرْحَمُ
اللّهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي أُمَيّةَ وَأَبْعَدَ اللّهُ عُثْمَانَ
بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَإِنّهُ كَانَ يُبْغِضُ
قُرَيْشًا"
قَالَ: وَكَانَ دُعَاءُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللّهِ بِرَحْمَةِ اللّهِ فَبَلَغَهُ فَقَالَ: إنّي
لَأَرْجُو أَنْ يَرْزُقَنِي اللّهُ الشّهَادَةَ فِي وَجْهِي هَذَا
فَقُتِلَ فِي حِصَارِ الطّائِفِ.
وَقَالَ: النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ:
لَوْلَا ابْنُ جَثّامَةَ الْأَصْغَرُ لَفُضِحَتْ الْخَيْلُ الْيَوْمَ.
وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ:
إنّ مَاءَ حُنَيْنٍ لَنَا فَخَلّوهْ ... إنْ تَشْرَبُوا مِنْهُ فَلَنْ
تَعْلُوهْ
هَذَا رَسُولُ اللّهِ لَنْ يَعْلُوهْ ...
أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ جَعْفَرٍ. [ وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ . .. ]1
غَلَبَتْ خَيْلُ اللّهِ خَيْلَ اللّاتِ
وَاَللّهُ أَحَقّ بِالثّبَاتِ
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَدّمَ
سُلَيْمًا فِي مُقَدّمَتِهِ عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَمَرّ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ
مَقْتُولَةٍ وَالنّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: "مَا هَذَا"
؟ قَالُوا: امْرَأَةٌ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. فَأَمَرَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُدْرِكُ
خَالِدًا فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَنْهَاك أَنْ تَقْتُلَ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا2. وَرَأَى
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً أُخْرَى
فَسَأَلَ عَنْهَا فَقَالَ: رَجُلٌ أَنَا قَتَلْتهَا يَا رَسُولَ اللّهِ
أَرْدَفْتهَا وَرَائِي فَأَرَادَتْ قَتْلِي فَقَتَلْتهَا. فَأَمَرَ
بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدُفِنَتْ.
قَالُوا: لَمّا هَزَمَ اللّهُ تَعَالَى هَوَازِن اتّبَعَهُمْ
الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ. فَنَادَتْ بَنُو سُلَيْمٍ بَيْنَهَا:
ارْفَعُوا عَنْ بَنِي أُمّكُمْ الْقَتْلَ فَرَفَعُوا الرّمَاحَ
وَكَفّوا عَنْ الْقَتْلِ - وَأُمّ سُلَيْمٍ ; بُكْمَةُ ابْنَةُ مُرّةَ
أُخْتُ تَمِيمِ بْنِ مُرّةَ - فَلَمّا رأى رسول الله
ـــــــ
1 زيادة من ابن إسحاق."السيرة النبوية،ج4،ص92".
2 العسيف:الشيخ الفاني وقيل العبد."النهاية،ج3،ص96
(3/912)
صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الّذِي صَنَعُوا قَالَ: "اللّهُمّ عَلَيْك بِبَنِي
بُكْمَةَ" - وَلَا يَشْعُرُونَ أَنّ لَهُمْ أُمّا اسْمُهَا بُكْمَةُ -
أَمّا فِي قَوْمِي فَوَضَعُوا السّلَاحَ وَضْعًا، وَأَمّا عَنْ
قَوْمِهِمْ فَرَفَعُوا رَفْعًا وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَبِ الْقَوْمِ ثُمّ قَالَ: لِخَيْلِهِ "إنْ
قَدَرْتُمْ عَلَى بِجَادٍ فَلَا يُفْلِتَنّ مِنْكُمْ "وَقَدْ كَانَ
أَحْدَثَ حَدَثًا عَظِيمًا، وَكَانَ مِنْ بَنِي سَعْدٍ وَكَانَ قَدْ
أَتَاهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فَأَخَذَهُ بِجَادٌ فَقَطّعَهُ عُضْوًا
عُضْوًا ثُمّ حَرّقَهُ بِالنّارِ فَكَانَ قَدْ عُرِفَ جُرْمُهُ
فَهَرَبَ. فَأَخَذَتْهُ الْخَيْلُ فَضَمّوهُ إلَى الشّيْمَاءِ1 بِنْتِ
الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى أُخْتِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ فَعَنّفُوا عَلَيْهَا فِي
السّيَاقِ فَجَعَلَتْ الشّيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَقُولُ إنّي
وَاَللّهِ أُخْتُ صَاحِبِكُمْ وَلَا يُصَدّقُوهَا، وَأَخَذَهَا
طَائِفَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَكَانُوا أَشَدّ النّاسِ عَلَى
هَوَازِنَ، حَتّى أَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا مُحَمّدُ إنّي أُخْتُك قَالَ:
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ"
؟ فَأَرَتْهُ عَضّةً [ وَقَالَتْ ]: عَضَضْتَنِيهَا وَأَنَا
مُتَوَرّكَتُك2 بِوَادِي السّرَرِ3 وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ بِرِعَائِهِمْ
أَبُوك أَبِي وَأُمّك أُمّي، قَدْ نَازَعْتُك الثّدْيَ وَتَذَكّرْ يَا
رَسُولَ اللّهِ 4فَعَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْعَلَامَةَ فَوَثَبَ قَائِمًا فَبَسَطَ رِدَاءَهُ ثُمّ
قَالَ: "اجْلِسِي عَلَيْهِ" وَرَحّبَ بِهَا، وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ
وَسَأَلَهَا عَنْ أُمّهِ وَأَبِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ فَأَخْبَرَتْهُ
بِمَوْتِهِمَا فِي الزّمَانِ. ثُمّ قَالَ: "إنْ أَحْبَبْت فَأَقِيمِي
عِنْدَنَا مُحَبّةً مُكَرّمَةً وَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ ترجعي
ـــــــ
1 في الأصل: "الشماء بنت الحرث"، وما أثبتناه عن البلاذري."أنساب
الأشراف،ج1،ص93" وهكذا في ابن إسحاق أيضا."السيرة النبوية،ج4،ص100"
2 متوركة: أي حاملته على وركها."النهاية،ج4،ص206"
3 في الأصل: "وادي سور" وما أثبتناه عن ابنسعيد."الطبقات،ج2،ص69"
والسرر على أربعة أميال من مكة."معجم البلدان،ج5،ص68".
4 جملة غامضة،شكلها في الأصل:"حلالي لك غير أبيكإطلال"ولم يظهر لها
معنى في نظرنا.
(3/913)
إلَى قَوْمِك
وَصِلَتِك رَجَعْت إلَى قَوْمِك". قَالَتْ أَرْجِعُ إلَى قَوْمِي.
وَأَسْلَمَتْ فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ وَجَارِيَةً أَحَدُهُمْ يُقَالُ: لَهُ
مَكْحُولٌ، فَزَوّجُوهُ الْجَارِيَةَ.
قَالَ: عَبْدُ الصّمَدِ أَخْبَرَنِي أَبِي أَنّهُ أَدْرَكَ نَسْلَهَا
فِي بَنِي سَعْدٍ وَرَجَعَتْ الشّيْمَاءُ إلَى مَنْزِلِهَا وَكَلّمَهَا
النّسْوَةُ فِي بِجَادٍ - فَرَجَعَتْ إلَيْهِ فَكَلّمَتْهُ أَنّهُ
يَهَبُهُ لَهَا وَيَعْفُو عَنْهُ. فَفَعَلَ ثُمّ أَمَرَ لَهَا
بِبَعِيرٍ أَوْ بَعِيرَيْنِ وَسَأَلَهَا: مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ ؟
فَأَخْبَرَتْهُ بِأُخْتِهَا وَأَخِيهَا وَبِعَمّهَا أَبِي بُرْقَانَ
وَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْمٍ سَأَلَهَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ قَالَ: لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ارْجِعِي إلَى الْجِعِرّانَةِ تَكُونِينَ
مَعَ قَوْمِك، فَإِنّي أَمْضِي إلَى الطّائِفِ". فَرَجَعَتْ إلَى
الْجِعِرّانَةِ ، وَأَتَاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْجِعِرّانَةِ فَأَعْطَاهَا نَعَمًا وَشَاءً لَهَا،
وَلِمَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهَا.
قَالُوا: وَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ أَتَوْا الطّائِفَ ، وَعَسْكَرَ
عَسْكَرٌ بِأَوْطَاسٍ ; وَتَوَجّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ وَلَمْ
يَكُنْ فِيمَنْ تَوَجّهَ [إلَى] نَخْلَةَ إلّا بَنُو عَنَزَةَ مِنْ
ثَقِيفٍ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَيْلًا تَتْبَعُ مَنْ سَلَكَ نَخْلَةَ ، وَلَمْ تَتْبَعْ مَنْ سَلَكَ
الثّنَايَا. وَيُدْرِكُ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ سَمّالِ1 بْنِ عَوْفِ
بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ،
فَأَخَذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ امْرَأَةٌ وَذَلِكَ
أَنّهُ كَانَ في شجار2 له
ـــــــ
1 في الأصل:"سهيل بن عوف"،وما أثبتناه عن ابن إسحاق."السيرة
النبوية،ج4ص95". وعن ابن حزم أيضا."جوامع السيرة،ص240"
2 الشجار: مركب مكشوف دون الهودج."النهاية،ج2،ص206"
(3/914)
فَإِذَا هُوَ
رَجُلٌ فَأَنَاخَ بِهِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ابْنُ سِتّينَ وَمِائَةِ
سَنَةٍ فَإِذَا هُوَ دُرَيْدٌ وَلَا يَعْرِفُهُ الْغُلَامُ. قَالَ:
الْفَتَى: مَا أُرِيدُ إلَى غَيْرِهِ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ
دِينِهِ. قَالَ: لَهُ دُرَيْدٌ مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا رَبِيعَةُ
بْنُ رُفَيْعٍ السّلَمِيّ. قَالَ: فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَلَمْ يُغْنِ
شَيْئًا. قَالَ: دُرَيْدٌ بِئْسَ مَا سَلّحَتْك أُمّك خُذْ سَيْفِي
مِنْ وَرَاءِ الرّحْلِ فِي الشّجَارِ فَاضْرِبْ بِهِ وَارْفَعْ عَنْ
الطّعَامِ وَاخْفِضْ عَنْ الدّمَاغِ فَإِنّي كُنْت كَذَلِكَ أَقْتُلُ
الرّجَالَ ثُمّ إذَا أَتَيْت أُمّك فَأَخْبِرْهَا أَنّك قَتَلْت
دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ، فَرَبّ يَوْمٍ قَدْ مَنَعْت1 فِيهِ نِسَاءَك
زَعَمَتْ بَنُو سُلَيْمٍ أَنّ رَبِيعَةَ لَمّا ضَرَبَهُ تَكَشّفَ
لِلْمَوْتِ عِجَانُهُ2 وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلَ الْقَرَاطِيسِ مِنْ
رُكُوبِ الْخَيْلِ. فَلَمّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إلَى أُمّهِ أَخْبَرَهَا
بِقَتْلِهِ إيّاهُ فَقَالَتْ وَاَللّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمّهَاتٍ لَك
ثَلَاثًا فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ وَجَزّ نَاصِيَةَ أَبِيك. قَالَ:
الْفَتَى: لَمْ أَشْعُرْ.
قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ فِي آثَارِ مَنْ تَوَجّهَ
إلَى أَوْطَاسٍ ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً فَكَانَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ
الْبَعْثِ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، فَكَانَ يُحَدّثُ يَقُولُ لَمّا
انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ عَسْكَرُوا بِأَوْطَاسٍ عَسْكَرًا عَظِيمًا،
تَفَرّقَ مِنْهُمْ مَنْ تَفَرّقَ وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ وَأُسِرَ مَنْ
أُسِرَ فَانْتَهَيْنَا إلَى عَسْكَرِهِمْ فَإِذَا هُمْ مُمْتَنِعُونَ3
فَبَرَزَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ يُبَارِزُ ؟ فَبَرَزَ لَهُ أَبُو
عَامِرٍ فَقَالَ: اللّهُمّ اشْهَدْ فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ حَتّى
قَتَلَ تِسْعَةً كَذَلِكَ فَلَمّا كَانَ التّاسِعُ بَرَزَ لَهُ رَجُلٌ
مُعْلِمٌ يَنْحُبُ4 لِلْقِتَالِ وَبَرَزَ لَهُ أَبُو عَامِرٍ
فَقَتَلَهُ فَلَمّا كَانَ الْعَاشِرُ بَرَزَ رَجُلٌ مُعْلِمٌ
بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ فَقَالَ: أبو عامر اللهم
ـــــــ
1 في الأصل "ضيعت"، وما أثبتناه عن ابن إسحاق."السيرة النبوية،ج4،ص95"
2 العجان:الدبر،وقيل ما بين القبل والدبر."النهاية،ج3،ص17"
3 في الأصل: "متمتعون" ، وما أثبتناه عن ابن سعد . "الطبقات،ج2،ص109".
4 نحب:أي أجهد السير."الصحاح،ص222".
(3/915)
اشْهَدْ قَالَ:
يَقُولُ الرّجُلُ اللّهُمّ لَا تَشْهَدْ فَضَرَبَ أَبَا عَامِرٍ
فَأَثْبَتَهُ فَاحْتَمَلْنَاهُ وَبِهِ رَمَقٌ وَاسْتَخْلَفَ أَبَا
مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَأَخْبَرَ أَبُو عَامِرٍ أَبَا مُوسَى أَنّ
قَاتِلَهُ صَاحِبُ الْعِمَامَةِ الصّفْرَاءِ. قَالُوا: وَأَوْصَى أَبُو
عَامِرٍ إلَى أَبِي مُوسَى، وَدَفَعَ إلَيْهِ الرّايَةَ وَقَالَ:
ادْفَعْ فَرَسِي وَسِلَاحِي لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فَقَاتَلَهُمْ أَبُو مُوسَى حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ
وَقَتَلَ قَاتِلَ أَبِي عَامِرٍ وَجَاءَ بِسِلَاحِهِ وَتَرِكَتِهِ
وَفَرَسِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ:
إنّ أَبَا عَامِرٍ أَمَرَنِي بِذَلِكَ وَقَالَ: قُلْ لِرَسُولِ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ لِي. فَقَامَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ
قَالَ: "اللّهُمّ اغْفِرْ لِأَبِي عَامِرٍ وَاجْعَلْهُ مِنْ أَعْلَى
أُمّتِي فِي الْجَنّةِ"وَأَمَرَ بِتَرِكَةِ أَبِي عَامِرٍ فَدُفِعَتْ
إلَى ابْنِهِ. قَالَ: فَقَالَ: أَبُو مُوسَى: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي
أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ قَدْ غَفَرَ لِأَبِي عَامِرٍ قُتِلَ شَهِيدًا،
فَادْعُ اللّهَ لِي. فَقَالَ: "اللّهُمّ اغْفِرْ لِأَبِي مُوسَى،
وَاجْعَلْهُ فِي أَعْلَى أُمّتِي" فَيَرَوْنَ أَنّ ذَلِكَ وَقَعَ
يَوْمَ الْحَكَمَيْنِ.
قَالُوا: وَاسْتَحَرّ الْقَتْلُ فِي بَنِي نَصْرٍ ثُمّ فِي بَنِي
رِبَابٍ1 "فَجَعَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ قَيْسٍ - وَكَانَ مُسْلِمًا -
يَقُولُ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكَتْ بَنُو رِبَابٍ. قَالَ: قَالَ:
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اللّهُمّ اُجْبُرْ
مُصِيبَتَهُم" وَوَقَفَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ عَلَى ثَنِيّةٍ مِنْ
الثّنَايَا مَعَهُ فُرْسَانٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: قِفُوا حَتّى
يَمْضِيَ ضُعَفَاؤُكُمْ تَلْتَمّ أُخْرَاكُمْ. وَقَالَ: اُنْظُرُوا
مَاذَا تَرَوْنَ. قَالُوا: نَرَى قَوْمًا عَلَى خُيُولِهِمْ وَاضِعِينَ
رِمَاحَهُمْ عَلَى آذَانِ خُيُولِهِمْ. قَالَ: أُولَئِكَ إخْوَانُكُمْ
بَنُو سُلَيْمٍ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ بَأْسٌ. اُنْظُرُوا
مَاذَا تَرَوْنَ قَالُوا:
ـــــــ
1 في الأصل: "في بني ركاب" وما أثبتناه عن ابن سعد." الطبقات،ج2ص110".
(3/916)
نَرَى رِجَالًا
أَكْفَالًا1، قَدْ وَضَعُوا رِمَاحَهُمْ عَلَى أَكْفَالِ2 خُيُولِهِمْ.
قَالَ: تِلْكَ الْخَزْرَجُ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ بَأْسٌ
وَهُمْ سَالِكُونَ طَرِيقَ إخْوَانِهِمْ. قَالَ: اُنْظُرُوا مَاذَا
تَرَوْنَ. قَالُوا: نَرَى أَقْوَامًا كَأَنّهُمْ الْأَصْنَامُ عَلَى
الْخَيْلِ. قَالَ: تِلْكَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيّ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكُمْ
فَلَمّا غَشِيَتْهُ الْخَيْلُ نَزَلَ عَنْ فَرَسٍ مَخَافَةَ أَنْ
يُؤْسَرَ ثُمّ طَفِقَ يَلُوذُ بِالشّجَرِ حَتّى سَلَكَ فِي يَسُومَ.
جَبَلٌ بِأَعْلَى نَخْلَةَ ، فَأَعْجَزَهُمْ هَارِبًا. وَيُقَالُ:
قَالَ: مَا تَرَوْنَ ؟ قَالُوا: نَرَى رَجُلًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ
مُعْلِمًا بِعِصَابَةٍ صَفْرَاءَ يَخْبِطُ بِرِجْلَيْهِ فِي الْأَرْضِ
وَاضِعًا رُمْحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ. قَالَ: ذَلِكَ ابْنُ صَفِيّةَ
الزّبَيْر، وَاَيْمُ اللّهِ لَيُزِيلَنّكُمْ عَنْ مَكَانِكُمْ فَلَمّا
بَصُرَ بِهِمْ الزّبَيْرُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتّى أَهْبَطَهُمْ مِنْ
الثّنِيّةِ ، وَهَرَبَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ فَتَحَصّنَ فِي قَصْرٍ
بِلِيّةَ3. وَيُقَالُ: دَخَلَ حِصْنَ ثَقِيفٍ.
وَذُكِرَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ رَجُلًا
كَانَ بِحُنَيْنٍ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا حَتّى اشْتَدّ بِهِ
الْجِرَاحُ . فَذُكِرَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ النّارِ فَارْتَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ
وَوَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا اللّهُ بِهِ عَلِيمٌ فَلَمّا اشْتَدّ
بِهِ الْجِرَاحُ أَخَذَ مِشْقَصًا4 مِنْ كِنَانَتِهِ فَانْتَحَرَ بِهِ
فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا
أَنْ يُنَادِيَ "أَلَا لَا دَخَلَ الْجَنّةَ إلّا مُؤْمِنٌ وَأَنّ
اللّهَ يُؤَيّدُ الدّينَ بِالرّجُلِ الْفَاجِر"
قَالُوا: وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْغَنَائِمِ تُجْمَعُ ونادى مناديه:
ـــــــ
1 الكفل من الرجال: الذي يكون في مؤخر الحرب، والجمع أكفال."لسان
العرب،ج14،ص108"
2 الأكفال: جمع الكفل بالتحريك، وهو العجز، وقيل ردف العجز."لسان
العرب،ج14،ص107"
3 في الأصل:"في قصر بنيه".ولية: من نواحي الطائف. "الصحاح،ص1042"
4 المشقص من النصال: ما طال وعرض."الصحاح, ص 1042"
(3/917)
"مَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَغُلّ" وَجَعَلَ
النّاسُ غَنَائِمَهُمْ فِي مَوْضِعٍ حَتّى اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا. وَكَانَ عَقِيلُ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ وَسَيْفُهُ مُتَلَطّخٌ دَمًا:
فَقَالَتْ إنّي قَدْ عَلِمْت أَنّك قَدْ قَاتَلْت الْمُشْرِكِينَ
فَمَاذَا أَصَبْت مِنْ غَنَائِمِهِمْ قَالَ: هَذِهِ الْإِبْرَةَ
تَخِيطِينَ بِهَا ثِيَابَك، فَدَفَعَهَا إلَيْهَا. وَهِيَ فَاطِمَةُ
بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. فَسَمِعَ مُنَادِيَ
رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ
أَصَابَ شَيْئًا مِنْ الْمَغْنَمِ فَلْيَرُدّهُ. فَرَجَعَ عَقِيلٌ
فَقَالَ: وَاَللّهِ مَا أَرَى إبْرَتَك إلّا قَدْ ذَهَبَتْ.
فَأَلْقَاهَا فِي الْغَنَائِمِ.
قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ
أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ زَيْدٍ الْمَازِنِيّ أَخَذَ يَوْمَئِذٍ
قَوْسًا فَرَمَى عَلَيْهَا الْمُشْرِكِينَ ثُمّ رَدّهَا فِي
الْمَغْنَمِ. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِكُبّةِ1 شَعْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اضْرِبْ
بِهَذِهِ أَيْ دَعْهَا2 لِي. فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ
فَهُوَ لَك. وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا
الْحَبْلُ وَجَدْته حَيْثُ انْهَزَمَ الْعَدُوّ فَأَشُدّ بِهِ عَلَى
رَحْلِي ؟ قَالَ: نَصِيبِي مِنْهُ لَك، وَكَيْفَ تَصْنَعُ
بِأَنْصِبَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؟
قَالَ: فَحَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ.
عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ. أَنّ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى النّاسَ عَامَ
حُنَيْنٍ فِي قَبَائِلِهِمْ يَدْعُو لَهُمْ وَأَنّهُ نَزَلَ قَبِيلَةً
مِنْ الْقَبَائِلِ وَجَدُوا فِي بَرْذَعَةِ3 رَجُلٍ مِنْهُمْ عِقْدًا
مِنْ جَزَعٍ غُلُولًا، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــ
1 كبة الغزل: ماجمع منه."لسان العرب،ج2،ص190".
2 في الأصل:"دعه لي".
3 البرذعة: الحلس الذي يلقى تحت الرحل."الصحاح،ص1184".
(3/918)
فَكَبّرَ
عَلَيْهِمْ كَمَا يُكَبّرُ عَلَى الْمَيّتِ.
قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ.
أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ فِي
رَحْلِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ غُلُولًا فَبَكّتَهُ وَلَامَهُ. وَلَمْ
يُعَاقِبْهُ وَلَمْ يَخْرِقْ رَحْلَهُ.
قَالُوا: وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ سَبَايَا يَوْمَئِذٍ فَكَانُوا
يَكْرَهُونَ يَقَعُوا عَلَيْهِنّ وَلَهُنّ أَزْوَاجٌ فَسَأَلُوا
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ
اللّهُ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ } 1 "وَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ "لَا تُوطَأُ حَامِلٌ مِنْ السّبْيِ حَتّى تَضَعَ
حَمْلَهَا، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتّى تَحِيضَ حَيْضَةً"
وَسَأَلُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ
عَنْ الْعَزْلِ. فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْ كُلّ الْمَاءِ يَكُونُ إلَى
الْوَلَدِ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لَمْ
يَمْنَعْهُ شَيْءٌ".
قَالُوا: وَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الظّهْرَ يَوْمًا بِحُنَيْنٍ. ثُمّ تَنَحّى إلَى شَجَرَةٍ فَجَلَسَ
إلَيْهَا، فَقَامَ إلَيْهِ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ
بْنِ بَدْرٍ يَطْلُبُ بِدَمِ عَامِرِ بْنِ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيّ -
وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ قُرَيْشٍ - وَمَعَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ
حَابِسٍ. يَدْفَعُ عَنْ مُحَلّمِ بْنِ جَثّامَةَ لِمَكَانِهِ مِنْ
خِنْدِفَ، فَاخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُيَيْنَةُ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللّهِ لَا
وَاَللّهِ لَا أَدَعُهُ حَتّى أُدْخِلَ عَلَى نِسَائِهِ مِنْ الْحَرْبِ
وَالْحَزَنِ مَا أَدْخَلَ عَلَى نِسَائِي. قَالَ: رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْخُذُ الدّيَةَ ؟ وَيَأْبَى
عُيَيْنَةُ. فَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَكَثُرَ اللّغَطُ إلَى أَنْ
قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ: لَهُ مُكَيْتَلٌ قَصِيرٌ
مُجْتَمِعٌ عَلَيْهِ شِكّةٌ2 كَامِلَةٌ. وَدَرَقَةٌ فِي يَدِهِ -
فَقَالَ: يَا رسول
ـــــــ
1 سورة 4النساء 24
2 الشكة: السلاح."الصحاح،ص1594".
(3/919)
اللّهِ إنّي
لَمْ أَجِدْ لِمَا فَعَلَ هَذَا شَبَهًا فِي غُرّةِ1 الْإِسْلَامِ إلّا
غَنَمًا وَرَدَتْ فَرُمِيَتْ أُولَاهَا فَنَفَرَتْ أُخْرَاهَا2،
فَاسْنُنْ الْيَوْمَ وَغَيّرْ غَدًا3. فَرَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَقَالَ: تَقْبَلُونَ الدّيَةَ
خَمْسِينَ فِي فَوْرِنَا هَذَا وَخَمْسِينَ إذَا رَجَعْنَا
الْمَدِينَةَ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْقَوْمِ حَتّى قَبِلُوهَا. وَمُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ
الْقَاتِلُ فِي طَرَفِ النّاسِ فَلَمْ يَزَالُوا يَرَوْنَهُ
وَيَقُولُونَ ايتِ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَسْتَغْفِرُ لَك. فَقَامَ مُحَلّمٌ فَقَامَ رَجُلٌ طَوِيلٌ آدَمُ4
مُحْمَرّ بِالْحِنّاءِ. عَلَيْهِ حُلّةٌ قَدْ كَانَ تَهَيّأَ فِيهَا
لِلْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ حَتّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللّهِ قَدْ كَانَ مِنْ الْأَمْرِ الّذِي بَلَغَكُمْ فَإِنّي
أَتُوبُ إلَى اللّهِ تَعَالَى فَاسْتَغْفِرْ لِي. فَقَالَ: رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اسْمُك ؟ قَالَ: أَنَا
مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ. قَالَ: قَتَلْته بِسِلَاحِك فِي غُرّةِ
الْإِسْلَامِ اللّهُمّ لَا تَغْفِرْ لِمُحَلّمٍ بِصَوْتٍ عَالٍ
يَتَفَقّدُ بِهِ النّاسَ. قَالَ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ
كَانَ الّذِي بَلَغَك وَإِنّي أَتُوبُ إلَى اللّهِ تَعَالَى
فَاسْتَغْفِرْ لِي. فَعَادَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِصَوْتٍ عَالٍ يَتَفَقّدُ بِهِ النّاسَ اللّهُمّ لَا
تَغْفِرْ لِمُحَلّمٍ حَتّى كَانَتْ الثّالِثَةُ. قَالَ: فَعَادَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَقَالَتِهِ. ثُمّ
قَالَ: لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُمْ
فَقَامَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَهُوَ يَتَلَقّى دَمْعَهُ بِفَضْلِ رِدَائِهِ. وَكَانَ
ضَمْرَةُ
ـــــــ
1 غرة الإسلام:أوله"النهاية، ج3، ص155".
2 في الأصل: "فرميت فنفر احدهما"، وما أثبتناه عن ابن إسحاق." السيرة
النبوية، ج4ص276".
3 أي اعمل بسنتك التي سننتها في القصص،ثم بعد ذلك إذا شئت أن تغير
فغير."النهاية ج2،ص186"
4 الآدم من الناس: الأسمر."الصحاح،ص1859"
(3/920)
السّلَمِيّ
يُحَدّثُ وَكَانَ قَدْ حَضَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَالَ: كُنّا
نَتَحَدّثُ فِيمَا بَيْنَنَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِاسْتِغْفَارٍ لَهُ وَلَكِنّهُ
أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَ قَدْرَ الدّمِ عِنْدَ اللّهِ.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزّنَادِ عَنْ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ، قَالَ: لَمّا
مَاتَ مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ دَفَنَهُ قَوْمُهُ فَلَفَظَتْهُ
الْأَرْضُ ثُمّ دَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ثُمّ دَفَنُوهُ
فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَطَرَحُوهُ بَيْنَ صَخْرَتَيْنِ فَأَكَلَتْهُ
السّبَاعُ.
قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْوَلِيدِ
عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ جَبَلَةَ، قَالَ:
لَمّا حَضَرَ مُحَلّمَ بْنَ جَثّامَةَ الْمَوْتُ أَتَاهُ عَوْفُ بْنُ
مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ، فَقَالَ: يَا مُحَلّمُ إنْ اسْتَطَعْت أَنْ
تَرْجِعَ إلَيْنَا فَتُخْبِرَنَا بِمَا رَأَيْتُمْ وَلَقِيتُمْ. قَالَ:
فَأَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَامٍ أَوْ مَا شَاءَ اللّهُ فَقَالَ: لَهُ
كَيْفَ أَنْتُمْ يَا مُحَلّمُ ؟ قَالَ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَجَدْنَا
رَبّا رَحِيمًا غَفَرَ لَنَا. قَالَ: عَوْفٌ أَكُلّكُمْ ؟ قَالَ:
كُلّنَا غَيْرَ الْأَحْرَاضِ. قَالَ: وَمَا الْأَحْرَاضُ ؟ قَالَ:
الّذِينَ يُشَارُ إلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ1. وَاَللّهِ مَا مِنْ
شَيْءٍ اسْتَنْفَقَهُ اللّهُ لِي إلّا وَقَدْ وُفّيت أَجْرَهُ حَتّى
إنّ قِطّةً لِأَهْلِي هَلَكَتْ فَلَقَدْ أُعْطِيت أَجْرَهَا. قَالَ:
عَوْفٌ فَقُلْت: وَاَللّهِ إنّ تَصْدِيقَ رُؤْيَايَ أَنْ أَنْطَلِقَ
إلَى أَهْلِ مُحَلّمٍ فَأَسْأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ الْقِطّةِ.
فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: عَوْفٌ يَسْتَأْذِنُ فَأَذِنُوا، فَلَمّا دَخَلَ
قَالُوا:2 وَاَللّهِ مَا كُنْت لَنَا بِزَوّارٍ قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ
؟ قَالُوا: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَهَذِهِ بِنْتُ أَخِيك أَمْسَتْ وَلَيْسَ
بِهَا بَأْسٌ وَهِيَ هَذِهِ لِمَا بِهَا، وَلَقَدْ فَارَقَنَا أَبُوهَا
اللّيْلَةَ قَالَ: قُلْت: هَلْ هَلَكَتْ لَكُمْ قِطّةٌ ؟ قَالُوا:
نَعَمْ. [قَالَ: ] فَهَلْ حَسَسْتُمُوهَا
ـــــــ
1 أي اشتهروا بالشر، وقيل: هم الذين أسرفوا في الذنوب فأهلكوا أنفسهم،
وقيل:أراد الذين فسدت مذاهبم." النهاية،ج1،ص218".
2 في الأصل: :فقال فأذنوا لعوف فلما دخل قالوا".
(3/921)
يَا عَوْفُ ؟
قَالَ: أُنْبِئْت نَبَأَهَا فَاحْتَسِبُوهَا.
قَالَ: حَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ قَالَ: رَأَيْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُنَيْنٍ يَتَخَلّلُ الرّجَالَ يَسْأَلُ عَنْ
مَنْزِلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأَنَا مَعَهُ فَأُتِيَ يَوْمَئِذٍ
بِشَابّ فَأَمَرَ مَنْ عِنْدَهُ فَضَرَبُوهُ بِمَا كَانَ فِي
أَيْدِيهِمْ وَحَثَا عَلَيْهِ التّرَابَ.
(3/922)
تَسْمِيَةُ
مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِحُنَيْنٍ
أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ وَهُوَ ابْنُ أُمّ أَيْمَنَ وَهُوَ مِنْ
الْأَنْصَارِ مِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. وَمَوَالِي النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْ الْأَنْصَارِ سُرَاقَةُ
بْنُ الْحَارِثِ وَرُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ
بْنِ لُوذَانَ1 وَأَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ أُصِيبَ بِأَوْطَاسٍ ;
فَجَمِيعُ مَنْ قُتِلَ أَرْبَعَةٌ.
ـــــــ
1 في الأصل: " ورقيم بن ثعلبة بن زيد بن كودان"وما أثبتناه عن ابن
حزم."جوامع السيرة،ص244".
(3/922)
شَأْنُ
غَزْوَةِ الطّائِفِ
قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ. وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ
وَابْنُ مَوْهَبٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، وَعَبْدُ الصّمَدِ
بْنُ مُحَمّدٍ السّعْدِيّ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الزّهْرِيّ،
وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو مَعْشَرٍ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ وَغَيْرُ
هَؤُلَاءِ مِمّنْ لَمْ يُسَمّ أَهْلُ ثِقَاتٍ فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي
بِهَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ. وَقَدْ كَتَبْت كُلّ مَا حَدّثُونِي
بِهِ.
قَالُوا: لَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حُنَيْنًا وَأَرَادَ الْمَسِيرَ إلَى
(3/922)
الطّائِفِ.
بَعَثَ الطّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو إلَى ذِي الْكَفّيْنِ - صَنَمِ عَمْرِو
بْنِ حُمَمَةَ1 - يَهْدِمُهُ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَمِدّ قَوْمَهُ
وَيُوَافِيَهُ بِالطّائِفِ. فَقَالَ: الطّفَيْلُ يَا رَسُولَ اللّهِ
أَوْصِنِي. قَالَ: أَفْشِ السّلَامَ. وَابْذُلْ الطّعَامَ وَاسْتَحْيِ
مِنْ اللّهِ كَمَا يَسْتَحْيِي الرّجُلُ ذُو الْهَيْئَةِ مِنْ
أَهْلِهِ. إذَا أَسَأْت فَأَحْسِنْ {إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السّيّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذّاكِرِينَ} 2 قَالَ: فَخَرَجَ
الطّفَيْلُ سَرِيعًا إلَى قَوْمِهِ فَهَدَمَ ذَا الْكَفّيْنِ وَجَعَلَ
يَحْشُو النّارَ فِي جَوْفِهِ وَيَقُولُ:
يَا ذَا الْكَفّيْنِ لَسْت مِنْ عُبّادِكَا ... مِيلَادُنَا أَقْدَمُ
مِنْ مِيلَادِكَا
أَنَا حَشَوْت3 النّارَ فِي فُؤَادِكَا ...
وَأَسْرَعَ مَعَهُ قَوْمُهُ انْحَدَرَ مَعَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْ
قَوْمِهِ فَوَافَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالطّائِفِ بَعْدَ مُقَامِهِ بِأَرْبَعَةِ أَيّامٍ فَقَدِمَ
بِدَبّابَةٍ وَمَنْجَنِيقٍ وَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَزْدِ، مَنْ
يَحْمِلُ رَايَتَكُمْ" ؟ قَالَ: الطّفَيْلُ مَنْ كَانَ يَحْمِلُهَا فِي
الْجَاهِلِيّةِ. قَالَ: أَصَبْتُمْ وَهُوَ النّعْمَانُ بْنُ
الزّرَافَةِ اللّهْبِيّ4 .
وَقَدّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ
بْنَ الْوَلِيدِ مِنْ حُنَيْنٍ عَلَى مُقَدّمَتِهِ وَأَخَذَ مَنْ
يَسْلُكُ بِهِ مِنْ الْأَدِلّاءِ إلَى الطّائِفِ ، فَانْتَهَى رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الطّائِفِ. وَكَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ5
بِالسّبْيِ أَنْ يُوَجّهُوا إلَى الْجِعِرّانَةِ ، وَاسْتَعْمَلَ
عَلَيْهِمْ بُدَيْلَ بْنَ ورقاء الخزاعي،
ـــــــ
1 في الأصل: "عمرو بن حثمة دوسي"،والتصحيح عن كل مراجع السيرة الأخرى.
2 سورة 11 هود 114
3 في الأصل: "حشيت"، والتصحيح عن الزرقاني."شرح على المواهب
اللدنية،ج3ص33".
4 هكذا في الأصل، ولعله النعمان بن الزراع عريف الأزد، ذكره ابن عبد
البر."الاستيعاب،ص1500" وفي ابن سعيد""النعمان بن بازية اللهبي"
"الطبقات، ج2،ص114".
5 في الأصل: "أمرنا"
(3/923)
وَأَمَرَ
بِالْغَنَائِمِ فَسِيقَتْ إلَى الْجِعِرّانَةِ وَالرّثّةِ.
وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
الطّائِفِ وَكَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ رَمّوا1 حِصْنَهُمْ وَدَخَلُوا فِيهِ
مُنْهَزِمِينَ مِنْ أَوْطَاسٍ وَأَغْلَقُوهُ عَلَيْهِمْ - وَهُوَ
حِصْنٌ عَلَى مَدِينَتِهِمْ لَهُ بَابَانِ - وَصَنَعُوا الصّنَائِعَ
لِلْقِتَالِ وَتَهَيّئُوا، وَأَدْخَلُوا حِصْنَهُمْ مَا يُصْلِحُهُمْ
لِسَنَةٍ لَوْ حُصِرُوا وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْلَانُ
بْنُ سَلَمَةَ بِجُرَشَ يَتَعَلّمَانِ عَمَلَ الدّبّابَاتِ
وَالْمَنْجَنِيقِ يُرِيدَانِ أَنْ يَنْصِبَاهُ عَلَى حِصْنِ الطّائِفِ
، وَكَانَا لَمْ يَحْضُرَا حُنَيْنًا وَلَا حِصَارَ الطّائِفِ. وَسَارَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوْطَاسٍ ،
فَسَلَكَ عَلَى نَخْلَةَ الْيَمَانِيّةِ2، ثُمّ عَلَى قَرْنٍ3 ، ثُمّ
عَلَى الْمُلَيْحِ4 ، ثُمّ عَلَى بَحْرَةِ الرّغَاءِ5 مِنْ لِيّةَ ،
فَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَصَلّى فِيهِ
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
عَمْرٍو، قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ رَأَى رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْنِي بِيَدِهِ مَسْجِدًا بِلِيّةَ وَأَصْحَابُهُ
يَنْقُلُونَ إلَيْهِ الْحِجَارَةَ. وَأُتِيَ يَوْمَئِذٍ إلَى النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي لَيْثٍ قَتَلَ
رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَاخْتَصَمُوا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللّيْثِيّ إلَى الْهُذَلِيّينَ فَقَدّمُوهُ
فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَكَانَ أَوّلَ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي
الْإِسْلَامِ. وَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الظّهْرَ بِلِيّةَ وَرَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ قَصْرًا فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا:
هَذَا قَصْرُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ. فَقَالَ: "أَيْنَ مَالِكٌ" ؟
قَالُوا: هُوَ يَرَاك الْآنَ في
ـــــــ
1 رموا: أي أصلحوا."الصحاح،ص1936"
2 نخلة اليمانية: واد يصب فيه يدعان وبه مسجد لرسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبه عسكرت هوازن يوم حنين."معجم
البلدان،ج8،ص275".
3 قرن: قرية بينها وبين مكة أحد وخمسون ميلا."معجم البلدان،ج7،ص64".
4 المليح:واد بالطائف."معجم البلدان،ج7،ص156".
5 بحرة الرغاء: موضع في لية من ديار بني نصر."معجم ما استعجم، ص140".
(3/924)
حِصْنِ
ثَقِيفٍ. فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"مَنْ فِي قَصْرِهِ" ؟ قَالُوا: مَا فِيهِ أَحَدٌ. قَالَ: رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "حَرّقُوهُ" فَحُرّقَ مِنْ
حِينِ الْعَصْرِ إلَى أَنْ غَابَتْ الشّمْسُ.
وَنَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
قَبْرِ أَبِي أُحَيْحَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ عِنْدَ مَالِهِ
وَهُوَ قَبْرٌ مُشْرِفٌ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ لَعَنَ اللّهُ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ فَإِنّهُ كَانَ مِمّنْ
يُحَادّ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ: ابْنَاهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ،
وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ وَهُمَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ اللّهُ أَبَا قُحَافَةَ فَإِنّهُ كَانَ لَا
يَقْرِي الضّيْفَ وَلَا يَمْنَعُ الضّيْمَ. قَالَ: رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّ سَبّ الْأَمْوَاتِ يُؤْذِي
الْأَحْيَاءَ فَإِنْ شِئْتُمْ الْمُشْرِكِينَ فَعُمّوا. ثُمّ مَضَى
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لِيّةَ
فَسَلَكَ طَرِيقًا يُقَالُ: لَهَا: الضّيْقَةُ، فَقَالَ: رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هِيَ الْيُسْرَى. ثُمّ
خَرَجَ عَلَى نَخِبٍ1 حَتّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةِ الصّادِرَةِ عِنْدَ
مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمّا أَنْ تَخْرُجَ وَإِمّا أَنْ نُحَرّقَ
عَلَيْك حَائِطَك فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِحْرَاقِ حَائِطِهِ وَمَا فِيهِ.
وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى
نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ حِصْنِ الطّائِفِ ، فَيَضْرِبُ عَسْكَرَهُ
هُنَاكَ فَسَاعَةَ حَلّ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ جَاءَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا قَدْ دَنَوْنَا مِنْ الْحِصْنِ فَإِنْ كَانَ
عَنْ أَمْرٍ سَلّمْنَا، وَإِنْ كَانَ عَنْ الرّأْيِ فَالتّأَخّرُ عَنْ
حِصْنِهِمْ. قَالَ: فَأَسْكَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
فَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ يُحَدّثُ يَقُولُ. لَقَدْ
طلع علينا من
ـــــــ
1 نخب:واد بالطائف."معجم البلدان،ج8،ص272".
(3/925)
نَبْلِهِمْ
سَاعَةَ نَزَلْنَا شَيْءٌ اللّهُ بِهِ عَلِيمٌ كَأَنّهُ رِجْلٌ1 مِنْ
جَرَادٍ - وَتَرّسْنَا لَهُمْ - حَتّى أُصِيبَ نَاسٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ بِجِرَاحَةٍ. وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُبَابَ فَقَالَ: "اُنْظُرْ مَكَانًا
مُرْتَفِعًا مُسْتَأْخِرًا عَنْ الْقَوْمِ". فَخَرَجَ الْحُبَابُ حَتّى
انْتَهَى إلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِ الطّائِفِ خَارِجٍ مِنْ الْقَرْيَةِ
فَجَاءَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ
فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَحَوّلُوا. قَالَ: عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ إنّي
لَأَنْظُرُ إلَى أَبِي مِحْجَنٍ يَرْمِي مِنْ فَوْقِ الْحِصْنِ
بِعِشْرَتِهِ2 بِمَعَابِلَ3 كَأَنّهَا الرّمَاحُ مَا يَسْقُطُ لَهُ
سَهْمٌ. قَالُوا: وَارْتَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْدَ مَسْجِدِ الطّائِفِ الْيَوْمَ. قَالُوا: وَأَخْرَجُوا
امْرَأَةً سَاحِرَةً فَاسْتَقْبَلَتْ الْجَيْشَ بِعَوْرَتِهَا -
وَذَلِكَ حِينَ نَزَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَدْفَعُونَ بِذَلِكَ عَنْ حِصْنِهِمْ. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَكَمَةَ وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ4
مِنْ نِسَائِهِ أُمّ سَلَمَةَ. وَزَيْنَبُ، وَثَارَ الْمُسْلِمُونَ
إلَى الْحِصْنِ فَخَرَجَ قُدّامَ النّاسِ يَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ5 بْنِ
الْأَسْوَدِ عَلَى فَرَسِهِ فَسَأَلَ ثَقِيفًا الْأَمَانَ يُرِيدُ
يُكَلّمُهُمْ فَأَعْطَوْهُ الْأَمَانَ فَلَمّا دَنَا مِنْهُمْ رَمَوْهُ
بِالنّبْلِ فَقَتَلُوهُ. وَخَرَجَ هُذَيْلُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ أَخُو
أُمَيّةَ بْنِ أَبِي الصّلْتِ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ. وَلَا يَرَى أَنّ
عِنْدَهُ أَحَدًا وَيُقَالُ: إنّ يَعْقُوبَ بْنَ زَمْعَةَ كَمَنَ لَهُ
فَأَسَرَهُ حَتّى أَتَى بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَاتِلُ أَخِي يَا رَسُولَ اللّهِ فَسُرّ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُتِيَ بِهِ إليه
فأمكنه
ـــــــ
1 في الأصل: "زجل من جراد" وما أثبتناه عن الزرقاني."شرح على المواهب
اللدنية،ج3،ص35". والرجل:الكثير."النهاية،ج2،ص70".
2 العشرة: الصحبة. "النهاية، ج3،ص98"
3 المعابل: نصال عراض طوال، الواحدة معبلة. "النهاية، ج3،ص63".
4 في الأصل: "امرأتين".
5 في الأصل:"يريدون ربيعة بن الأسود".
(3/926)
النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ضَرَبَ
لِزَوْجَتَيْهِ قُبّتَيْنِ. ثُمّ كَانَ يُصَلّي بَيْنَ الْقُبّتَيْنِ
حِصَارَ الطّائِفِ كُلّهُ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِي حِصَارِهِ
فَقَالَ: قَائِلٌ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا ; وَقَالَ: قَائِلٌ
تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ; وَقَالَ: قَائِلٌ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا :
وَكُلّ ذَلِكَ وَهُوَ يُصَلّي بَيْن الْقُبّتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ
فَلَمّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ، بَنَى أُمَيّةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ
بْنِ مُعَتّبِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى مُصَلّى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَسْجِدِ وَكَانَتْ فِيهِ سَارِيَةٌ لَا
تَطْلُعُ الشّمْسُ عَلَيْهَا مِنْ الدّهْرِ إلّا يُسْمَعُ لَهَا
نَقِيضٌ1 أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ مِرَارٍ فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنّ ذَلِكَ
تَسْبِيحٌ.
فَنَصَبَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْجَنِيقَ.
قَالَ: وَشَاوَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْحَابَهُ. فَقَالَ: لَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيّ: يَا رَسُولَ
اللّهِ أَرَى أَنْ تَنْصِبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى حِصْنِهِمْ. فَإِنّا
كُنّا بِأَرْضِ فَارِسَ نَنْصِبُ الْمَنْجَنِيقَاتِ عَلَى الْحُصُونِ
وَتُنْصَبُ عَلَيْنَا. فَنُصِيبُ مِنْ عَدُوّنَا وَيُصِيبُ مِنّا
بِالْمَنْجَنِيقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَنْجَنِيقُ طَالَ الثّوَاءُ2.
فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَمِلَ
مَنْجَنِيقًا بِيَدِهِ. فَنَصَبَهُ عَلَى حِصْنِ الطّائِفِ. وَيُقَالُ:
قَدِمَ بِالْمَنْجَنِيقِ يَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ وَدَبّابَتَيْنِ
وَيُقَالُ: الطّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ; وَيُقَالُ: خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ
قَدِمَ مِنْ جُرَشَ بِمَنْجَنِيقٍ وَدَبّابَتَيْنِ. وَنَثَرَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَكَ شِقّتَيْنِ -
حَسَكٌ3 مِنْ عَيْدَانَ - حَوْلَ حِصْنِهِمْ وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ
تَحْتَ الدّبّابَةِ وَهِيَ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ - وَذَلِكَ يَوْمٌ
يُقَالُ: لَهُ الشّدْخَةُ.
ـــــــ
1 النقيض: الصوت."الصحاح، ص1111".
2 الثواء: الإقامة."شرح على مواهب اللدنية ج3نص37".
3 الحسك: نبات تعلق ثمرته بصوف الغنمن يعمل على مثال شوكه اداة لحرب من
حديد أو قصب فيلقى حول العسكرويسمى باسمه."القاموس المحيط،ج3 ص298".
(3/927)
قِيلَ وَمَا
الشّدْخَةُ ؟ قَالَ: مَا قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ - دَخَلُوا
تَحْتَهَا، ثُمّ زَحَفُوا بِهَا إلَى جِدَارِ الْحِصْنِ لِيَحْفِرُوهُ
فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً
بِالنّارِ فَحَرَقَتْ الدّبّابَةَ فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
تَحْتِهَا وَقَدْ أُصِيبَ مِنْهُمْ مَنْ أُصِيبَ فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ
بِالنّبْلِ فَقُتِلَ مِنْهُمْ رِجَالٌ.
قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَطْعِ أَعْنَابِهِمْ وَتَحْرِيقِهَا، وَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ قَطَعَ حَبَلَةً1 فَلَهُ
حَبَلَةٌ فِي الْجَنّةِ". فَقَالَ: عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ لِيَعْلَى
بْنِ مُرّةَ الثّقَفِيّ أَقَطْعُ ذَلِكَ أَجْرِي ؟ فَفَعَلَ يَعْلَى
بْنُ مُرّةَ ثُمّ جَاءَهُ فَقَالَ: يَعْلَى: نَعَمْ. فَقَالَ:
عُيَيْنَةُ لَك النّارُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عُيَيْنَةُ أَوْلَى بِالنّارِ مِنْ
يَعْلَى. وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَقْطَعُونَ قَطْعًا ذَرِيعًا.
قَالَ: وَنَادَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الثّقَفِيّ وَاَللّهِ لَنُقَطّعَنّ أَبَا
عِيَالِك. فَقَالَ: سُفْيَانُ إذًا لَا تَذْهَبُونَ بِالْمَاءِ
وَالتّرَابِ فَلَمّا رَأَى الْقَطْعَ نَادَى سُفْيَانُ يَا مُحَمّدُ
لِمَ تَقْطَعُ أَمْوَالَنَا ؟ إمّا أَنْ تَأْخُذَهَا إنْ ظَهَرْت
عَلَيْنَا، وَإِمّا أَنْ تَدَعَهَا لِلّهِ وَلِلرّحِمِ كَمَا زَعَمْت
قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فَإِنّي
أَدَعُهَا لِلّهِ وَلِلرّحِمِ"2. فَتَرَكَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدّثَ أَبُو وَجْزَةَ السّعْدِيّ
قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَقْطَعُ كُلّ رَجُلٍ مِنْ أَعْنَابِهِمْ خَمْسَ حَبَلَاتٍ. فَأَتَى
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إلَى النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رسول
ـــــــ
1 الحبلة: من شجر العنب."النهاية، ج1،ص198"
2 أي للرحم التي بيني وبينهم، لأن أمه آمنة أمها برة بنت عبد العزى بن
قصي، وأم برة هذه أم حبيب بنت أسعد، وأمها برة بنت عوف، وأمها قلابة
بنت الحارث، وأم قلابة هند بنت يربوع من ثقيف. " شرح على المواهب
اللدنية،ج3 ص37"
(3/928)
اللّهِ إنّهُ
عُمّ1 لَمْ يُؤْكَلْ ثَمَرُهُ. فَأَمَرَ أَنْ يَقْطَعُوا مَا أَكَلُوا
ثَمَرَهُ. قَالَ: فَجَعَلُوا يَقْطَعُونَ الْأَوّلَ فَالْأَوّلَ.
قَالَ: وَتَقَدّمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ إلَى ثَقِيفٍ فَقَالَا: أَمّنُوا حَتّى نَتَكَلّمَ.
فَأَمّنُوهُمَا، فَدَعَوْا نِسَاءً مِنْ قُرَيْشٍ لِيَخْرُجْنَ
إلَيْهِمَا - وَهُمْ يَخَافُونَ السّبَاءَ 2- مِنْهُمْ ابْنَةُ أَبِي
سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، كَانَتْ تَحْتَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ لَهَا
مِنْهُ وَلَدٌ دَاوُدُ بْنُ عُرْوَةَ وَالْفِرَاسِيّةُ بِنْتُ سُوَيْدِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ - كَانَتْ عِنْدَ قَارِبِ بْنِ
الْأَسْوَدِ، لَهَا مِنْهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ قَارِبٍ -
وَامْرَأَةٌ أُخْرَى. فَلَمّا أَبَيْنَ عَلَيْهِمَا قَالَ: لَهُمَا
بَنُو الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ يَا أَبَا سُفْيَانَ وَيَا مُغِيرَةُ
أَلَا نَدُلّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمّا جِئْتُمَا لَهُ إنّ مَالَ بَنِي
الْأَسْوَدِ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمَا - وَكَانَ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطّائِفِ نَازِلًا
بِوَادٍ يُقَالُ: لَهُ الْعَمْقُ3 - لَيْسَ بِالطّائِفِ مَالٌ أَبْعَدُ
رِشَاءً وَلَا أَشَدّ مُؤْنَةً مِنْهُ وَلَا أَبْعَدُ عِمَارَةً -
وَإِنّ مُحَمّدًا إنْ قَطَعَهُ لَمْ يُعَمّرْ أَبَدًا، فَكَلّمَاهُ
لِيَأْخُذْهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِيَدَعْهُ لِلّهِ وَلِلرّحِمِ فَإِنّ
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ الْقَرَابَةِ مَا لَا يَجْهَلُ. فَكَلّمَاهُ
فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ رَجُلٌ يَقُومُ عَلَى الْحِصْنِ فَيَقُولُ رُوحُوا رِعَاءَ
الشّاءِ رُوحُوا جَلَابِيبَ مُحَمّدٍ رُوحُوا عَبِيدَ مُحَمّدٍ
أَتَرَوْنَا نَتَبَاءَسُ عَلَى أَحْبُلٍ4 أَصَبْتُمُوهَا مِنْ
كُرُومِنَا؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "اللّهُمّ رَوّحْ مُرَوّحًا إلَى النّارِ" قَالَ: سَعْدُ
بْنُ أَبِي وَقّاصٍ: فَأَهْوَى لَهُ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ فِي نَحْرِهِ
وهوى من الحصن
ـــــــ
1 نخل عم: أي تام في طوله."النهاية،ج3،ص129"
2 في الأصل: "النسان"، وما أثبتناه عن الطبري، يروى عن
الواقدي."التاريخ،ص1672".
3 العمق: واد من أودية الطائف." معجم البلدان،ج6،ص223".
4 أحبل:جمع حبلة،وهي الأصل أو القضيب من شجر
الأعناب."النهاية،ج1،ص198".
(3/929)
مَيّتًا.
قَالَ: فَرَأَيْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
سُرّ بِذَلِكَ. قَالَ: وَجَعَلُوا يَقُولُونَ عَلَى حِصْنِهِمْ هَذَا
قَبْرُ أَبِي رِغَالَ1. قَالَ: لِعَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ أَتَدْرِي
يَا عَلِيّ مَا هَذَا ؟ قَبْرُ أَبِي رِغَالَ وَهُمْ قَوْمُ ثَمُودَ
قَالُوا: وَكَانَ أَبُو مِحْجَنٍ عَلَى رَأْسِ الْحِصْنِ يَرْمِي
بِمَعَابِلَ وَالْمُسْلِمُونَ يُرَامُونَهُمْ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ
مُزَيْنَةَ لِصَاحِبِهِ إنْ افْتَتَحْنَا الطّائِفَ فَعَلَيْك
بِنِسَاءِ بَنِي قَارِبٍ فَإِنّهُنّ أَجْمَلُ إنْ أَمْسَكْت،
وَأَكْثَرُ فِدَاءً إنْ فَادَيْتَ. فَسَمِعَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ فَقَالَ: يَا أَخَا مُزَيْنَةَ قَالَ: لَبّيْكَ قَالَ: ارْمِ
ذَلِكَ الرّجُلَ. يَعْنِي أَبَا مِحْجَنٍ وَإِنّمَا غَارَ الْمُغِيرَةُ
حِينَ ذَكَرَ الْمُزَنِيّ النّسَاءَ. وَعَرَفَ أَنّ أَبَا مِحْجَنٍ
رَجُلٌ رَامٍ لَا يَسْقُطُ لَهُ سَهْمٌ . فَرَمَاهُ الْمُزَنِيّ فَلَمْ
يَصْنَعْ سَهْمُهُ شَيْئًا وَفَوّقَ لَهُ أَبُو مِحْجَنٍ بِمِعْتَلَةٍ
فَتَقَعُ فِي نَحْرِهِ فَقَتَلَتْهُ2. قَالَ: يَقُولُ الْمُغِيرَةُ
مَنّى الرّجَالَ بِنِسَاءِ بَنِي قَارِبٍ. قَالَ: لَهُ عَبْدُ اللّهِ
بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ الْمُزَنِيّ، وَهُوَ يَسْمَعُ كَلَامَهُ
أَوّلَهُ وَآخِرَهُ قَاتَلَك اللّهُ يَا مُغِيرَةُ أَنْتَ وَاَللّهِ
عَرّضْته لِهَذَا. وَإِنْ كَانَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ
سَاقَ لَهُ الشّهَادَةَ. أَنْتَ وَاَللّهِ مُنَافِقٌ. وَاَللّهِ
لَوْلَا الْإِسْلَامُ مَا تَرَكْتُك حَتّى أَغْتَالَك وَجَعَلَ
الْمُزَنِيّ يَقُولُ إنّ مَعَنَا الدّاهِيَةَ وَمَا نَشْعُرُ وَاَللّهِ
لَا أُكَلّمُك أَبَدًا قَالَ: طَلَبَ الْمُغِيرَةُ إلَى الْمُزَنِيّ
أَنْ يَكْتُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. قَالَ: لَا وَاَللّهِ أَبَدًا قَالَ:
فَبَلَغَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَهُوَ3 فِي
عَمَلِ عُمَرَ بِالْكُوفَةِ - فَقَالَ: وَاَللّهِ. مَا كَانَ
الْمُغِيرَةُ بِأَهْلٍ أَنْ يُوَلّى وَهَذَا فِعْلُهُ قَالَ: وَرَمَى
أَبُو مِحْجَنٍ يَوْمَ الطّائِفِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ
الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِسَهْمٍ فَدَمِلَ الْجُرْحُ حَتّى
بَغَى4،
ـــــــ
1 انظر ابن إسحاق."السيرة النبوية،ج1 ص94"
2 في الأصل:"فيقع في نحره فقتله"
3 أي المغيرة.
4 بغى الجرح: ورم وترامى إلى فساد."الصحاح،ص2281".
(3/930)
وَخَرَجَ
السّهْمُ مِنْ الْجُرْحِ فَأَمْسَكَهُ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ.
وَتُوُفّيَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي خِلَافَةِ أَبِي
بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ. وَقَدِمَ أَبُو مِحْجَنٍ فِي خِلَافَةِ
أَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْمِشْقَصَ1 فَأَخْرَجَهُ
فَقَالَ: يَا أَبَا مِحْجَنٍ هَلْ تَعْرِفُ هَذَا الْمِشْقَصَ؟ قَالَ:
وَكَيْفَ لَا أَعْرِفُهُ وَأَنَا بَرَيْت قَدَحَهُ وَرِيشَتَهُ
وَرَصَفَتَهُ وَرَمَيْت بِهِ ابْنَك؟ فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي
أَكْرَمَهُ عَلَى يَدَيّ وَلَمْ يُهِنّي عَلَى يَدَيْهِ.
وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَيّمَا عَبْدٍ نَزَلَ مِنْ الْحِصْنِ وَخَرَجَ إلَيْنَا فَهُوَ حُرّ
فَخَرَجَ مِنْ الْحِصْنِ رِجَالٌ . بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا : أَبُو
بَكَرَةَ، وَالْمُنْبَعِثُ . وَكَانَ اسْمُهُ الْمُضْطَجِعَ فَسَمّاهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْبَعِثَ حِينَ
أَسْلَمَ. وَكَانَ عَبْدًا لِعُثْمَانَ بْنِ عَمّارِ بْنِ مُعَتّبٍ
وَالْأَزْرَقُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ الْأَزْرَقِ وَكَانَ عَبْدًا
لِلْكَلَدَةِ الثّقَفِيّ مِنْ بَنِي مَالِكٍ ثُمّ صَارَ حَلِيفًا فِي
بَنِي أُمَيّةَ فَنَكَحُوا إلَيْهِ وَأَنْكَحُوهُ وَوَرْدَانُ عَبْدٌ
لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ الثّقَفِيّ جَدّ الْفُرَاتِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ وَرْدَانَ وَيُحَنّسُ النّبّالُ وَكَانَ عَبْدًا لِيَسَارِ
بْنِ مَالِكٍ فَأَسْلَمَ سَيّدُهُ بَعْدُ فَرَدّ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ وَلَاءَهُ - فَهُمْ [ أَعْبُدُ ]
الطّائِفِ - وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ - كَانَ عَبْدًا لِخَرَشَةَ
الثّقَفِيّ وَيَسَارٌ عَبْدٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ لَمْ
يُعْقِبْ وَأَبُو بَكَرَةَ2 نُفَيْعُ بْنُ مَسْرُوحٍ، وَكَانَ
لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ وَإِنّمَا كُنّيَ بِأَبِي بَكَرَةَ أَنّهُ
نَزَلَ فِي بَكَرَةٍ3 مِنْ الْحِصْنِ وَنَافِعٌ أَبُو السّائِبِ عَبْدٌ
لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ فَأَسْلَمَ غَيْلَانُ
ـــــــ
1المشقص من النصال: ما طال وعرض."الصحاح ص1043"
2 في الأصل:"أبوبكرة بن نفيع"، وما أثبتناه عن الزرقاني يروى عن
الواقدي."شرح على المواهب اللدنية،ج3 ص37" وعن ابن عبد البر
أيضا."الاستيعاب ص1614"
3 بكرة البئر:ما يستقي عليها، وهي خشبة مستديرة في وسطها محز للحبل وفي
جوفها محور تدور عليه."لسان العرب ،ج5،ص146".
(3/931)
بَعْدُ فَرَدّ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ وَلَاءَهُ
وَمَرْزُوقٌ غُلَامٌ لِعُثْمَانَ لَا عَقِبَ لَهُ. كُلّ هَؤُلَاءِ
أَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّ
رَجُلٍ مِنْهُمْ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَمُونُهُ1
وَيَحْمِلُهُ فَكَانَ أَبُو بَكَرَةَ إلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ. وَكَانَ الْأَزْرَقُ إلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَكَانَ
وَرْدَانُ إلَى أَبَانَ بْنِ سَعِيدٍ. وَكَانَ يُحَنّسُ النّبّالُ إلَى
عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَانَ يَسَارُ بْنُ
مَالِكٍ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ إلَى
أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ. وَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْرِئُوهُمْ الْقُرْآنَ
وَيُعَلّمُوهُمْ السّنَنَ. فَلَمّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ تَكَلّمَتْ
أَشْرَافُهُمْ فِي هَؤُلَاءِ الْمُعْتَقِينَ فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ
كَلَدَةَ. يَرُدّوهُمْ فِي الرّقّ فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللّهِ لَا سَبِيلَ
إلَيْهِمْ" وَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الطّائِفِ مَشَقّةً شَدِيدَةً
وَاغْتَاظُوا عَلَى غِلْمَانِهِمْ.
قَالُوا: وَقَالَ: عُيَيْنَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ اِيذَنْ لِي حَتّى
آتِيَ حِصْنَ الطّائِفِ فَأُكَلّمَهُمْ. فَأَذِنَ لَهُ فَجَاءَهُ
فَقَالَ: أَدْنُو مِنْكُمْ وَأَنَا آمِنٌ ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
وَعَرَفَهُ أَبُو مِحْجَنٍ فَقَالَ: اُدْنُ. فَدَنَا . فَقَالَ:
اُدْخُلْ. فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ الْحِصْنَ فَقَالَ: فِدَاؤُكُمْ أَبِي
وَأُمّي وَاَللّهِ لَقَدْ سَرّنِي مَا رَأَيْت مِنْكُمْ وَاَللّهِ لَوْ
أَنّ فِي الْعَرَبِ أَحَدًا غَيْرَكُمْ وَاَللّهِ مَا لَاقَى مُحَمّدٌ
مِثْلَكُمْ قَطّ، وَلَقَدْ مَلّ الْمُقَامَ فَاثْبُتُوا فِي حِصْنِكُمْ
فَإِنّ حِصْنَكُمْ حَصِينٌ وَسِلَاحَكُمْ كَثِيرٌ، وَمَاءَكُمْ وَاتِنٌ
لَا تَخَافُونَ قَطْعَهُ قَالَ: فَلَمّا خَرَجَ قَالَتْ ثَقِيفٌ
لِأَبِي مِحْجَنٍ فَإِنّا كَرِهْنَا دُخُولَهُ وَخَشِينَا أَنْ
يُخْبِرَ مُحَمّدًا بِخَلَلٍ إنْ رَآهُ فِينَا أَوْ فِي حِصْنِنَا.
قَالَ: أَبُو مِحْجَنٍ أَنَا كُنْت أَعْرَفَ لَهُ لَيْسَ مِنّا أَحَدٌ
أَشَدّ عَلَى مُحَمّدٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ. فَلَمّا رَجَعَ
إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَهُ "مَا
قُلْت لَهُمْ" ؟ قال: قلت ادخلوا
ـــــــ
1 يمونه: يحتمل مؤونته ويقوم بكفايته."الصحاح،ص2209"
(3/932)
فِي
الْإِسْلَامِ وَاَللّهِ لَا يَبْرَحُ مُحَمّدٌ عُقْرَ دَارِكُمْ حَتّى
تَنْزِلُوا. فَخُذُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَمَانًا. قَدْ نَزَلَ بِسَاحَةِ
أَهْلِ الْحُصُونِ قَبْلَكُمْ قَيْنُقَاعَ وَالنّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ
وَخَيْبَرَ أَهْلِ الْحَلْقَةِ وَالْعُدّةِ وَالْآطَامِ.
فَخَذّلْتُهُمْ مَا اسْتَطَعْت. وَرَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ عَنْهُ حَتّى إذَا فَرَغَ مِنْ حَدِيثِهِ .
قَالَ: لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"كَذَبْت قُلْت لَهُمْ كَذَا وَكَذَا لِلّذِي قَالَ" . قَالَ:
عُيَيْنَةُ أَسَتَغْفِرُ اللّهَ فَقَالَ: عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْنِي أُقَدّمُهُ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. قَالَ:
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا يَتَحَدّثُ
النّاسُ أَنّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي" وَيُقَالُ: إنّ أَبَا بَكْرٍ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَغْلَظَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَقَالَ: وَيْحَك يَا
عُيَيْنَةُ إنّمَا أَنْتَ أَبَدًا تُوضِعُ فِي الْبَاطِلِ كَمْ لَنَا
مِنْك مِنْ يَوْمٍ بَنِي النّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَخَيْبَرَ ، تَجْلِبُ
عَلَيْنَا وَتُقَاتِلُنَا بِسَيْفِك، ثُمّ أَسْلَمْت كَمَا زَعَمْت
فَتُحَرّضُ عَلَيْنَا عَدُوّنَا قَالَ: أَسَتَغْفِرُ اللّهَ يَا أَبَا
بَكْرٍ وَأَتُوبُ إلَيْهِ . لَا أَعُودُ أَبَدًا
قَالُوا: وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَوْلًى لِخَالَتِهِ فَاخِتَةَ بِنْتِ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ
بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، يُقَالُ: لَهُ مَاتِعٌ وَآخَرُ
يُقَالُ: لَهُ هِيتٌ . وَكَانَ مَاتِعٌ يَكُونُ فِي بُيُوتِهِ لَا
يَرَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ
يَفْطِنُ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ النّسَاءِ مِمّا يَفْطِنُ لَهُ
الرّجَالُ وَلَا يَرَى أَنّ لَهُ فِي ذَلِكَ إرْبَةً1 فَسَمِعَهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ
لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَيُقَالُ: لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي
أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ إنْ افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطّائِفَ غَدًا فَلَا تُفْلِتَنّ مِنْك
بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ فَإِنّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ2 وَتُدْبِرُ
بِثَمَانٍ وَإِذَا جَلَسَتْ تَثَنّتْ وَإِذَا تَكَلّمَتْ تَغَنّتْ
وَإِذَا اضْطَجَعَتْ تَمَنّتْ وَبَيْنَ رِجْلَيْهَا مِثْلُ الْإِنَاءِ
الْمَكْفُوءِ مَعَ ثَغْرٍ كَأَنّهُ الْأُقْحُوَانُ. كَمَا قَالَ:
الخطيم:
ـــــــ
1 الإربة: الحاجة."الصحاح،ص87"
2 قال ابن كثير: وقوله تقبل بأربع وتدبر بثمان، يعني بذلك عكن بطنها
فإنها تكون أربعا إذا أقبلت ثم تصير كل واحدة ثنتين إذا أدبرت."البداية
والنهاية،ج4،ص349".
(3/933)
بَيْنَ
شُكُولِ1 النّسَاءِ خِلْقَتُهَا ... نَصْبٌ فَلَا جَبْلَةٌ2 وَلَا
قَضَفُ
تَغْتَرِقُ3 الطّرْفَ وَهْيَ لَاهِيَةٌ4 ... كَأَنّمَا شَفّ وَجْهَهَا
نُزُفُ5
فَسَمِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَهُ
فَقَالَ: "أَلَا أَرَى هَذَا الْخَبِيثَ يَفْطِنُ لِلْجَمَالِ إذَا
خَرَجْت إلَى الْعَقِيقِ وَالْحَيْلُ لَا يُمْسَكُ6 لِمَا أَسْمَعُ
وَقَالَ: لَا يَدْخُلَنّ عَلَى نِسَاءِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ" وَيُقَالُ:
قَالَ: "لَا يَدْخُلَنّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِكُمْ" وَغَرّبَهُمَا
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْحِمَى،
فَشَكَيَا الْحَاجَةَ فَأَذِنَ لَهُمَا أَنْ يَنْزِلَا كُلّ جُمُعَةٍ
يَسْأَلَانِ ثُمّ يَرْجِعَانِ إلَى مَكَانِهِمَا، إلَى أَنْ تُوُفّيَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمّا تُوُفّيَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَا مَعَ
النّاسِ. فَلَمّا وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ:
أَخْرَجَكُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأُدْخِلُكُمَا ؟ فَأَخْرَجَهُمَا إلَى مَوْضِعِهِمَا. فَلَمّا مَاتَ
أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ دَخَلَا مَعَ النّاسِ فَلَمّا
وَلِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ: أَخْرَجَكُمَا رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ
وَأُدْخِلُكُمَا ؟ اُخْرُجَا إلَى مَوْضِعِكُمَا فَأَخْرَجَهُمَا إلَى
مَوْضِعِهِمَا، فَلَمّا قُتِلَ عُمَرُ دَخَلَا مَعَ النّاسِ.
ـــــــ
1في الأصل:"سكول"، والتصحيح عن ديوان قيس بن الخطيم ص54". وكتاب
الأغاني،"ج2 ص168" والشكول: الضروب."الصحاح، ص1736".
2 هكذا في الأصل.وفي ديوان قيس بن الخطيم والأغاني:"قصد فلا جثلةطز
وجبلةكاي غليظةز والقضف: الدقة. "الصحاح، ص1650،1417"
3 قال ابن السكيت:من نظر إليها استغرقت طرفه وبصره وشغلته عن النظر إلى
غيرها."ديوان قيس بن الخطيم،ص55".
4 وهي لاهية:غير محتفلة، وأراد أنها عتيقة الوجه ليست بكثيرة
اللحم."ديوان قيس بن الخطم، ص590"
5 قال ابن السكيت: النزف خروج الدم. وقال العدوى: أراد أن في لونها مع
البياض صفرة وذلك أحسن."ديوان قيس بن الخطيم، ص56"
6 في الأصل: "والحيل أن يمسك" ولعل الصواب ما أثبتناه. والحيل
القوة"النهاية،ج1، ص267"
(3/934)
قَالُوا:
قَالَ: أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ
الثّقَفِيّ، وَهُوَ عَلَى حِصْنِ الطّائِفِ: يَا عَبِيدَ مُحَمّدٍ
إنّكُمْ وَاَللّهِ مَا لَاقَيْتُمْ أَحَدًا يُحْسِنُ قِتَالَكُمْ
غَيْرَنَا ; تُقِيمُونَ مَا أَقَمْتُمْ بِشَرّ مَحْبِسٍ ثُمّ
تَنْصَرِفُونَ لَمْ تُدْرِكُوا شَيْئًا مِمّا تُرِيدُونَ نَحْنُ قَسِيّ
وَأَبُونَا قَسَا1، وَاَللّهِ لَا نُسَلّمُ مَا حَيِينَا، وَقَدْ
بَنَيْنَا طَائِفًا حَصِينًا فَنَادَاهُ عُمَرُ يَا ابْنَ حَبِيبٍ.
وَاَللّهِ لَنَقْطَعَنّ عَلَيْك مَعَاشَك حَتّى تَخْرُجَ مِنْ جُحْرِك
هَذَا. إنّمَا أَنْتَ ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ يُوشِكُ أَنْ يَخْرُجَ.
فَقَالَ: أَبُو مِحْجَنٍ إنْ قَطَعْتُمْ يَا ابْنَ الْخَطّابِ
حَبَلَاتِ عِنَبٍ فَإِنّ فِي الْمَاءِ وَالتّرَابِ مَا يُعِيدُ ذَلِكَ.
فَقَالَ: عُمَرُ لَا تَقْدِرُ أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَاءٍ وَلَا تُرَابٍ
لَنْ نَبْرَحَ عَنْ بَابِ جُحْرِك حَتّى تَمُوتَ قَالَ: يَقُولُ أَبُو
بَكْرٍ: يَا عُمَرُ لَا تَقُلْ هَذَا، فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي فَتْحِ الطّائِفِ.
فَقَالَ: عُمَرُ وَهَلْ قَالَ: لَك هَذَا رَسُولُ اللّهِ ؟ فَقَالَ:
نَعَمْ. فَجَاءَ عُمَرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَمْ يُؤْذَنْ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ فِي
فَتْحِهَا ؟ قَالَ: لَا.
وَجَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ الْأَوْقَصِ
السّلَمِيّةُ وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَقَالَتْ
يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْطِنِي إنْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْك حُلِيّ
الْفَارِعَةِ بِنْتِ الْخُزَاعِيّ أَوْ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ -
وَكَانَتَا مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ ثَقِيفٍ. فَقَالَ: لَهَا رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ
لَنَا فِي ثَقِيفٍ يَا خَوْلَةُ؟ قَالَ: فَخَرَجَتْ خَوْلَةُ
فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ
حَدّثَتْ خَوْلَةُ مَا حَدّثَتْنِي أَنّك قُلْته ؟ قَالَ: رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُلْته. قَالَ: يَا
رَسُولَ اللّهِ أَوَلَمْ يُؤْذَنْ لَك فِيهِمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ:
أَفَلَا أُؤَذّنُ فِي
ـــــــ
1 قسى: لقب ثقيف. قال أبو عبيد: لأنه مر على أبي رغال وكان مصدقا
فقتله، فقيل قسى قلبه، فسمي قيسا."لسان العرب،ج20، ص42"
(3/935)
النّاسِ
بِالرّحِيلِ قَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَلَى. فَأَذّنَ عُمَرُ بِالرّحِيلِ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ
يَتَكَلّمُونَ يَمْشِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ. فَقَالُوا: نَنْصَرِفُ
وَلَا نَفْتَحُ الطّائِفَ لَا نَبْرَحُ حَتّى يَفْتَحَ اللّهُ
عَلَيْنَا. وَاَللّهِ إنّهُمْ لَأَذَلّ وَأَقَلّ مَنْ لَاقَيْنَا; قَدْ
لَقِينَا جَمْعَ مَكّةَ وَجَمْعَ هَوَازِنَ. فَفَرّقَ اللّهُ تِلْكَ
الْجَمُوعَ وَإِنّمَا هَؤُلَاءِ ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ. لَوْ
حَصَرْنَاهُمْ لَمَاتُوا فِي حِصْنِهِمْ هَذَا وَكَثُرَ الْقَوْلُ
بَيْنَهُمْ وَالِاخْتِلَافُ. فَمَشَوْا إلَى أَبِي بَكْرٍ
فَتَكَلّمُوا، فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ اللّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ وَالْأَمْرُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ السّمَاءِ.
فَكَلّمُوا عُمَرَ فَأَبَى وَقَالَ: قَدْ رَأَيْنَا الْحُدَيْبِيَةَ.
وَدَخَلَنِي فِي الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الشّكّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلّا
اللّهُ. وَرَاجَعْت رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَئِذٍ بِكَلَامٍ لَيْتَ أَنّي لَمْ أَفْعَلْ وَأَنّ أَهْلِي
وَمَالِي ذَهَبَا ثُمّ كَانَتْ الْخِيَرَةُ لَنَا مِنْ اللّهِ فِيمَا
صَنَعَ فَلَمْ يَكُنْ فَتْحٌ كَانَ خَيْرًا لِلنّاسِ مِنْ صُلْحِ
الْحُدَيْبِيَةِ - بِلَا سَيْفٍ. دَخَلَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ
الْإِسْلَامِ مِثْلُ مَنْ كَانَ دَخَلَ - مِنْ يَوْمِ بُعِثَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِ كُتِبَ
الْكِتَابُ. فَاتّهِمُوا الرّأْيَ وَالْخِيَرَةُ فِيمَا صَنَعَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَنْ أُرَاجِعَهُ فِي
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَبَدًا وَالْأَمْرُ أَمْرُ اللّهِ
وَهُوَ يُوحِي إلَى نَبِيّهِ مَا يَشَاءُ
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ:
لِأَبِي بَكْرٍ: "إنّي رَأَيْت أَنّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ1
مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا، فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَأُهْرَاقَ مَا فِيهَا".
قَالَ: أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَا أَظُنّ أَنْ تُدْرِكَ
مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللّهِ يَوْمَك هَذَا مَا تُرِيدُ. قَالَ:
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا لَا أَرَى
ذَلِكَ .
قَالَ: حَدّثَنِي كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ رِيَاحٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمّا مَضَتْ
خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ حِصَارِهِمْ استشار
ـــــــ
1 القعبة:القدح."شرح أبي ذر،ص409"
(3/936)
رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ
الدّيلِيّ فَقَالَ: "يَا نَوْفَلُ مَا تَقُولُ ؟ أَوْ تَرَى1".
فَقَالَ: نَوْفَلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ إنْ أَقَمْت
عَلَيْهِ أَخَذْته، وَإِنْ تَرَكْته لَمْ يَضُرّك شَيْئًا. قَالَ:
أَبُو هُرَيْرَة : وَلَمْ يُؤْذَنْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَتْحِهَا قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ وَأَذّنَ فِي النّاسِ
بِالرّحِيلِ. قَالَ: فَجَعَلَ النّاسُ يَضِجّونَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ:
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فَاغْدُوا عَلَى
الْقِتَالِ". فَغَدَوْا فَأَصَابَتْ الْمُسْلِمِينَ جِرَاحَاتٌ.
فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنّا
قَافِلُونَ إنْ شَاءَ اللّهُ فَسُرّوا بِذَلِكَ وَأَذْعَنُوا2"،
وَجَعَلُوا يَرْحَلُونَ وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَضْحَكُ. فَلَمّا اسْتَقَلّ النّاسُ لِوَجْهِهِمْ نَادَى سَعْدُ بْنُ
عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِلَاجٍ الثّقَفِيّ قَالَ:
أَلَا إنّ الْحَيّ مُقِيمٌ. قَالَ: يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ
أَجَلْ وَاَللّهِ مَجَدَةٌ كِرَامٌ فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:
قَاتَلَك اللّهُ تَمْدَحُ قَوْمًا مُشْرِكِينَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ
رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جِئْت
تَنْصُرُهُ ؟ فَقَالَ: إنّي وَاَللّهِ مَا جِئْت مَعَكُمْ أُقَاتِلُ
ثَقِيفًا، وَلَكِنْ أَرَدْت أَنْ يَفْتَحَ مُحَمّدٌ الطّائِفَ
فَأُصِيبَ جَارِيَةً مِنْ ثَقِيفٍ فَأَطَأهَا لَعَلّهَا تَلِدُ لِي
رَجُلًا، فَإِنّ ثَقِيفًا قَوْمٌ مُبَارَكُونَ. فَأَخْبَرَ عُمَرُ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقَالَتِهِ فَتَبَسّمَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ قَالَ: "هَذَا الْحُمْقُ
الْمُطَاعُ" وَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا: "قُولُوا
لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ
وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ" فَلَمّا ارْتَحَلُوا وَاسْتَقَلّوا
قَالَ: "قُولُوا آيِبُونَ إنْ شَاءَ اللّهُ عَابِدُونَ لِرَبّنَا
حَامِدُونَ "وَلَمّا ظَعَنَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ الطّائِفِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ اُدْعُ اللّهَ
عَلَى ثَقِيفٍ. قَالَ: "اللّهُمّ اهْدِ ثَقِيفًا وائت بهم"
ـــــــ
1 في الطبري،يروى عن الواقدي:" ما ترى في المقام عليهم". "التاريخ،
ص1673".
2 أذعن:أسرع في الطاعة."القاموس المحيط،ج4،ص225".
(3/937)
تَسْمِيَةُ
مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِالطّائِفِ
مِنْ بَنِي أُمَيّةَ : سَعِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أُمَيّةَ
وَعُرْفُطَةُ بْنُ الْحُبَابِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مَازِنِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ
امْرِئِ الْقَيْسِ حَلِيفٌ لَهُمْ.
وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ : يَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ. جَمَحَ
بِهِ فَرَسُهُ - وَكَانَ يُقَالُ: لَهُ الْجَنَاحُ - إلَى حِصْنِ
الطّائِفِ فَقَتَلُوهُ. وَيُقَالُ: قَالَ: لَهُمْ أَمّنُونِي حَتّى
أُكَلّمَكُمْ. فَأَمّنُوهُ ثُمّ رَمَوْهُ بِالنّبْلِ حَتّى قَتَلُوهُ.
وَمِنْ بَنِي تَيْمٍ: عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
قُحَافَةَ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَلَمْ يَزَلْ مِنْهُ جَرِيحًا، فَمَاتَ
بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ، رُمِيَ مِنْ الْحِصْنِ.
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ: عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ
الْعَنَزِيّ، حَلِيفٌ لَهُمْ.
وَمِن بَنِي سَهْمٍ: السّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ، وَأَخُوهُ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ.
وَمِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ: جُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
مُحَارِبِ بْنِ الضّيْحَانِ بْنِ نَاشِبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ.
وَمِنْ الْأَنْصَارِ: ثَابِتُ بْنُ الْجَذَعِ - وَاسْمُ الْجَذَعِ
ثَعْلَبَةُ - وَالْحَارِثُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ
وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نَوْفَلٍ فَذَلِكَ اثْنَا
عَشَرَ رجلا.
(3/938)
|