كتاب المغازي للواقدي

قُدُومُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ
قَالُوا: كَانَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حِينَ حَاصَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطّائِفِ بِجُرَش يَتَعَلّمُ عَمَلَ الدّبّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقِ ثُمّ رَجَعَ إلَى الطّائِفِ بَعْدَ أَنْ وَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَمِلَ الدّبّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقَ وَالْعَرّادَاتِ1 وَأَعَدّ ذَلِكَ حَتّى قَذَفَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي قَلْبِهِ الْإِسْلَامَ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اِيذَنْ لِي فَآتِيَ قَوْمِي فَأَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذَا الدّينِ ذَهَبَ عَنْهُ ذَاهِبٌ. فَأَقْدَمُ عَلَى أَصْحَابِي وَقَوْمِي بِخَيْرِ قَادِمٍ وَمَا قَدِمَ وَافِدٌ قَطّ عَلَى قَوْمِهِ إلّا مَنْ قَدِمَ بِمِثْلِ مَا قَدِمْت بِهِ وَقَدْ سَبَقْت يَا رَسُولَ اللّهِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ.
فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنّهُمْ إذًا قَاتِلُوك "قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَأَنَا أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِ أَوْلَادِهِمْ. ثُمّ اسْتَأْذَنَهُ الثّانِيَةَ فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ الْأَوّلَ وَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنّهُمْ إذًا قَاتِلُوك" قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ وَجَدُونِي نَائِمًا مَا أَيْقَظُونِي . وَاسْتَأْذَنَهُ الثّالِثَةَ فَقَالَ: "إنْ شِئْت فَاخْرُجْ"فَخَرَجَ إلَى الطّائِفِ فَسَارَ إلَيْهَا خَمْسًا، فَقَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ عِشَاءً فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَأَنْكَرَ قَوْمُهُ دُخُولَهُ مَنْزِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الرّبّةَ2 ثُمّ قَالُوا: السّفَرُ قَدْ حَصَرَهُ3 فَجَاءُوا
ـــــــ
1 العرادة: أصغر من المنجنيق."الصحاح،ص505".
2 يعني:اللات.
3 حصره أي منعه عن مقصده. "النهاية،!، ص233".

(3/960)


مَنْزِلَهُ فَحَيّوْهُ تَحِيّةَ الشّرْكِ فَكَانَ أَوّلَ مَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَحِيّةُ الشّرْكِ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ تَحِيّةُ أَهْلِ الْجَنّةِ.
ثُمّ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَقَالَ: يَا قَوْمِ أَتَتّهِمُونَنِي ؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنّي أَوْسَطُكُمْ نَسَبًا، وَأَكْثَرُكُمْ مَالًا، وَأَعَزّكُمْ نَفَرًا ؟ فَمَا حَمَلَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ إلّا أَنّي رَأَيْت أَمْرًا لَا يَذْهَبُ عَنْهُ ذَاهِبٌ فَاقْبَلُوا نُصْحِي، وَلَا تَسْتَعْصُونِي. فَوَاَللّهِ مَا قَدِمَ وَافِدٌ عَلَى قَوْمٍ بِأَفْضَلَ مِمّا قَدِمْت بِهِ عَلَيْكُمْ فَاتّهَمُوهُ وَاسْتَغَشّوهُ وَقَالُوا: قَدْ وَاللّاتِ وَقَعَ فِي أَنْفُسِنَا حَيْثُ لَمْ تَقْرَبْ الرّبّةَ. وَلَمْ تَحْلِقْ رَأْسَك عِنْدَهَا أَنّك قَدْ صَبَوْت1 فَآذَوْهُ وَنَالُوا مِنْهُ وَحَلُمَ عَلَيْهِمْ فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ يَأْتَمِرُونَ كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِهِ حَتّى إذْ طَلَعَ الْفَجْرُ أَوْفَى عَلَى غُرْفَةٍ لَهُ فَأَذّنَ بِالصّلَاةِ فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ رَهْطِهِ مِنْ الْأَحْلَافِ يُقَالُ: لَهُ وَهْبُ بْنُ جَابِرٍ - وَيُقَالُ: رَمَاهُ أَوْسُ بْنُ عَوْفٍ مِنْ بَنِي مَالِكٍ، وَهَذَا أَثْبَتُ عِنْدَنَا - وَكَانَ عُرْوَةُ رَجُلًا مِنْ الْأَحْلَافِ، فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ2 فَلَمْ يَرْقَأْ دَمُهُ3 وَحُشِدَ قَوْمُهُ فِي السّلَاحِ. وَجُمِعَ الْآخَرُونَ وَتَجَايَشُوا، فَلَمّا رَأَى عُرْوَةُ مَا يَصْنَعُونَ قَالَ: لَا تَقْتَتِلُوا فِيّ فَإِنّي قَدْ تَصَدّقْت بِدَمِي عَلَى صَاحِبِهِ لِيُصْلِحَ بِذَلِكَ بَيْنَكُمْ فَهِيَ كَرَامَةُ اللّهِ أَكْرَمَنِي اللّهُ بِهَا الشّهَادَةُ سَاقَهَا اللّهُ إلَيّ أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ خَبّرَنِي عَنْكُمْ هَذّ أَنّكُمْ تَقْتُلُونَنِي ثُمّ قَالَ: لِرَهْطِهِ ادْفِنُونِي مَعَ الشّهَدَاءِ الّذِينَ قُتِلُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ عَنْكُمْ.
قَالَ: فَدَفَنُوهُ مَعَهُمْ. وَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلُهُ فَقَالَ: "مَثَلُ عُرْوَةَ مَثَلُ صَاحِبِ يَاسِينَ دَعَا قَوْمَهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَقَتَلُوه "وَيُقَالُ: إنّ عُرْوَةَ لَمْ يَقْدَمْ الْمَدِينَةَ ، وَإِنّمَا لَحِقَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى الله
ـــــــ
1انظر النهاية."ج2،ص248".
2 الأكحل: عرق في اليد."الصحاح،ص1809""
3 في الأصل:"لم ير قدمه". ورقأ الدم إذا سكن وانقطع."النهاية، ج2،ص94

(3/961)


عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ ثُمّ انْصَرَفَ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. فَلَمّا قُتِلَ عُرْوَةُ قَالَ: ابْنُهُ أَبُو مُلَيْحٍ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ أَخِيهِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ لِأَهْلِ الطّائِفِ: لَا نُجَامِعُكُمْ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، وَقَدْ قَتَلْتُمْ عُرْوَةَ. ثُمّ لَحِقَا بِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَا، فَقَالَ: لَهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "تَوَلّيَا مَنْ شِئْتُمَا. قَالَا: نَتَوَلّى اللّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَالُكُمَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب "حَالِفَاهُ. فَفَعَلَا، وَنَزَلَا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَأَقَامَا بِالْمَدِينَةِ حَتّى قَدِمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ.
قَالُوا: وَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ أَحَدَ بَنِي عِلَاجٍ وَكَانَ مِنْ أَدْهَى الْعَرَبِ، وَأَنْكَرِهِمْ1 وَكَانَ مُهَاجِرًا لِعَبْدِ يَالَيْل بْنِ عَمْرٍو، وَتَمَشّى إلَى عَبْدِ يَالَيْل ظُهْرًا حَتّى دَخَلَ دَارَهُ ثُمّ أَرْسَلَ إلَيْهِ إنّ عَمْرًا يَقُولُ اُخْرُجْ إلَيّ فَلَمّا جَاءَ الرّسُولُ إلَى عَبْدِ يَالَيْل قَالَ: وَيْحَك عَمْرٌو أَرْسَلَك ؟ قَالَ: نَعَمْ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الدّارِ . وَكَانَ عَبْدُ يَالَيْل يُحِبّ صُلْحَهُ وَيَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ إلَيْهِ فَقَالَ: عَبْدُ يَالَيْل: إنّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا كُنْت أَظُنّهُ بِعَمْرٍو، وَمَا هُوَ إلّا عَنْ أَمْرٍ قَدْ حَدَثَ وَكَانَ أَمْرًا سُوءًا، مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ نَاحِيَةِ مُحَمّدٍ. فَخَرَجَ إلَيْهِ عَبْدُ يَالَيْل، فَلَمّا رَآهُ رَحّبَ بِهِ فَقَالَ: عَمْرٌو: قَدْ نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ لَيْسَتْ مَعَهُ هِجْرَةٌ إنّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ مَا قَدْ رَأَيْت، وَقَدْ أَسْلَمَتْ الْعَرَبُ كُلّهَا وَلَيْسَتْ لَكُمْ بِهِمْ طَاقَةٌ وَإِنّمَا نَحْنُ فِي حِصْنِنَا هَذَا، مَا بَقَاؤُنَا فِيهِ هَذَا أَطْرَافُنَا تُصَابُ وَلَا نَأْمَنُ مِنْ أَحَدٍ مِنّا يَخْرُجُ شِبْرًا وَاحِدًا مِنْ حِصْنِنَا هَذَا، فَانْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ قَالَ: عَبْدُ يَالَيْل: قَدْ وَاَللّهِ رَأَيْت
ـــــــ
1 في الأصل: "وأنكره" وأنكرهم: أي أدهاهم،من النكر بالضم،وهو الدهاء."النهاية ج4، ص175"

(3/962)


مَا رَأَيْت، فَمَا اسْتَطَعْت أَنْ أَتَقَدّمَ بِاَلّذِي تَقَدّمْت بِهِ وَإِنّ الْحَزْمَ وَالرّأْيَ الّذِي فِي يَدَيْك. قَالَ: فَائْتَمَرَتْ ثَقِيفٌ بَيْنَهَا، وَقَالَ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَلَا تَرَوْنَ أَنّهُ لَا يَأْمَنُ لَكُمْ سِرْبٌ1 وَلَا يَخْرُجُ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلّا اُقْتُطِعَ؟ فَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ فَأَرَادُوا أَنْ يُرْسِلُوا رَسُولًا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا خَرَجَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَابْعَثُوا رَأْسَكُمْ عَبْدَ يَالَيْل. فَكَلّمُوا عَبْدَ يَالَيْل بْنَ عَمْرِو بْنِ حَبِيبٍ وَكَانَ سِنّ2 عُرْوَةَ فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَخَشِيَ إنْ رَجَعَ إلَى قَوْمِهِ مُسْلِمًا أَنْ يُصْنَعَ بِهِ إذَا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صُنِعَ بِعُرْوَةَ حَتّى يَبْعَثُوا مَعَهُ رِجَالًا، فَأَجْمَعُوا عَلَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَحْلَافِ وَثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِي مَالِكٍ فَبَعَثُوا مَعَ عَبْدِ يَالَيْل الْحَكَمَ بْنَ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبٍ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُعَتّبٍ وَهَؤُلَاءِ الْأَحْلَافُ رَهْطُ عُرْوَةَ. وَبَعَثُوا فِي بَنِي مَالِكٍ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَأَوْسَ بْنَ عَوْفٍ، وَنُمَيْرَ بْنَ خَرَشَةَ، سِتّةٌ. وَيُقَالُ: إنّ الْوَفْدَ كَانَ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فِيهِمْ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ. قَالُوا: فَخَرَجَ بِهِمْ عَبْدُ يَالَيْل وَهُوَ رَأْسُهُمْ وَصَاحِبُ أَمْرِهِمْ وَلَكِنّهُ أَحَبّ إنْ رَجَعُوا أَنْ يُسَهّلَ كُلّ رَجُلٍ رَهْطَهُ فَلَمّا كَانُوا بِوَادِي قَنَاةَ مِمّا يَلِي دَارَ حُرُضٍ3 نَزَلُوا، فَيَجِدُونَ نَشَرًا4 مِنْ الْإِبِلِ فَقَالَ: قَائِلُهُمْ لَوْ سَأَلْنَا صَاحِبَ الْإِبِلِ لِمَنْ الْإِبِلُ وَخَبّرَنَا مِنْ خَبَرِ مُحَمّدٍ. فَبَعَثُوا عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، فَإِذَا هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَرْعَى فِي نَوْبَتِهِ رِكَابَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ رِعْيَتُهَا نُوَبًا عَلَى أَصْحَابِ رسول الله
ـــــــ
1السرب: المسلك والطريق."النهاية، ج2 ،ص155".
2 في الأصل:"سر"، وما أثبتناه عن ابن إسحاق."السيرة النبوية،ج4،ص183".
3 في الأصل:"جرض"، والمثبت من السمهودي، قال: وهو واد من أودية قناة بالمدينة."وفاء الوفا، ج2،ص287".
4 أي كانوا منتشرين."الصحاح،ص828"

(3/963)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمّا رَآهُمْ سَلّمَ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَ الرّكَابَ عِنْدَهُمْ وَخَرَجَ يَشْتَدّ، يُبَشّرُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِهِمْ حَتّى انْتَهَى إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَيَلْقَى أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ قَوْمِهِ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ: أَقَسَمْت بِاَللّهِ عَلَيْك لَا تَسْبِقْنِي إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِهِمْ حَتّى أَكُونَ أَنَا أُخْبِرُهُ - وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهُمْ بِبَعْضِ الذّكْرِ - فَأُبَشّرُهُ بِمَقْدَمِهِمْ. فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ وَالْمُغِيرَةُ عَلَى الْبَابِ ثُمّ خَرَجَ إلَى الْمُغِيرَةِ فَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَسْرُورٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ قَدِمَ قَوْمِي يُرِيدُونَ الدّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ بِأَنْ تَشْرُطَ لَهُمْ شُرُوطًا، وَيَكْتُبُونَ كِتَابًا عَلَى مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَبِلَادِهِمْ. فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا يَسْأَلُونَ شَرْطًا وَلَا كِتَابًا أَعْطَيْته أَحَدًا مِنْ النّاسِ إلّا أَعْطَيْتهمْ" فَبَشّرْهُمْ فَخَرَجَ الْمُغِيرَةُ رَاجِعًا فَخَبّرَهُمْ مَا قَالَ: لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَشّرَهُمْ وَعَلّمَهُمْ كَيْفَ يُحَيّونَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلّ مَا أَمَرَهُمْ الْمُغِيرَةُ فَعَلُوا إلّا التّحِيّةَ فَإِنّهُمْ قَالُوا: أَنْعِمْ صَبَاحًا وَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ فَقَالَ: النّاسُ يَا رَسُولَ اللّهِ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنّ الْأَرْضَ لَا يُنَجّسُهَا شَيْءٌ" وَقَالَ: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ : يَا رَسُولَ اللّهِ أُنْزِلُ قَوْمِي عَلَيّ وَأُكْرِمُهُمْ فَإِنّي حَدِيثُ الْجُرْمِ فِيهِمْ. فَقَالَ: "لَا آمَنُك أَنْ تُكْرِمَ قَوْمَك" وَكَانَ جُرْمُ الْمُغِيرَةِ أَنّهُ خَرَجَ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَالِكٍ فَقَدِمُوا عَلَى الْمُقَوْقَسِ فَحَيّا بَنِي مَالِكٍ وَجَفَاهُ وَهُوَ مِنْ الْأَحْلَافِ، وَكَانَ مَعَهُ رَجُلَانِ الشّرِيدُ وَدَمّونُ فَلَمّا كَانُوا بِسَبَاقٍ1 وَضَعُوا شَرَابًا لَهُمْ فَسَقَاهُمْ المغيرة بيده
ـــــــ
1 سباق: واد بالدهناء، ويروى أيضا بكسر السين."معجم البلدان،ج5،ص26".

(3/964)


فَجَعَلَ يُخَفّفُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَنْزِعُ1 لِبَنِي مَالِكٍ حَتّى ثَمِلُوا وَنَامُوا، فَلَمّا نَامُوا وَثَبَ إلَيْهِمْ لِيَقْتُلَهُمْ فَشَرَدَ الشّرِيدُ مِنْهُمْ لَيْلَتَئِذٍ وَفَرِقَ دَمّونُ أَنْ يَكُونَ هَذَا سُكْرًا مِنْهُ فَتَغَيّبَ فَجَعَلَ يَصِيحُ يَا دَمّونُ يَا دَمّونُ فَلَا دَمّونُ فَجَعَلَ يَبْكِي، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ بَعْضُهُمْ فَطَلَعَ دَمّونُ فَقَالَ: أَيْنَ كُنْت ؟ قَالَ: تَغَيّبْت حِينَ رَأَيْتُك صَنَعْت بِبَنِي مَالِكٍ مَا صَنَعْت، فَخَشِيت أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذَهَابَ عَقْلٍ . قَالَ: إنّمَا صَنَعْت ذَلِكَ بِهِمْ لَمّا حَيّاهُمْ الْمُقَوْقَسُ وَجَفَانِي . ثُمّ أَقْبَلَ بِأَمْوَالِهِمْ حَتّى أَتَى بِهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُخْمُسْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ. فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَسْنَا نَغْدِرُ وَلَا يَنْبَغِي لَنَا الْغَدْرُ" فَأَبَى أَنْ يَخْمُسَ أَمْوَالَهُمْ.
وَأَنْزَلَ الْمُغِيرَةُ ثَقِيفًا فِي دَارِهِ بِالْبَقِيعِ وَهِيَ خُطّةٌ خَطّهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ فَأَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْمَاتٍ ثَلَاثٍ مِنْ جَرِيدٍ فَضُرِبَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَكَانُوا يَسْمَعُونَ الْقِرَاءَةَ بِاللّيْلِ وَتَهَجّدَ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْظُرُونَ إلَى الصّفُوفِ فِي الصّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَيَرْجِعُونَ إلَى مَنْزِلِ الْمُغِيرَةِ فَيُطْعَمُونَ وَيَتَوَضّئُونَ وَيَكُونُونَ فِيهِ مَا أَرَادُوا، وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ إلَى الْمَسْجِدِ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْرِي لَهُمْ الضّيَافَةَ فِي دَارِ الْمُغِيرَةِ وَكَانُوا2 يَسْمَعُونَ خُطْبَةَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَسْمَعُونَهُ يَذْكُرُ نَفْسَهُ. فَقَالُوا: أَمَرَنَا بِالتّشَهّدِ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَلَا يَشْهَدُ بِهِ فِي خُطْبَتِهِ فَلَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُمْ قَالَ: "أنا أول
ـــــــ
1 أي يسقيهم.وأصل النزع الجذب والقلع."النهاية،ج4،ص137".
2 في الأصل: "وكان".

(3/965)


مَنْ شَهِدَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ" ثُمّ قَامَ1 فَخَطَبَ وَشَهِدَ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ فِي خُطْبَتِهِ . فَمَكَثُوا عَلَى هَذَا أَيّامًا يَغْدُونَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّ يَوْمٍ يُخَلّفُونَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ عَلَى رِحَالِهِمْ وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ فَكَانَ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِ وَنَامُوا بِالْهَاجِرَةِ خَرَجَ فَعَمَدَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ الدّينِ وَاسْتَقْرَأَهُ الْقُرْآنَ وَأَسْلَمَ سِرّا مِنْ أَصْحَابِهِ فَاخْتَلَفَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا حَتّى فَقِهَ وَسَمِعَ الْقُرْآنَ وَقَرَأَ مِنْ الْقُرْآنِ سُوَرًا مِنْ فِي رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا وَجَدَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمًا عَمَدَ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَسَأَلَهُ وَاسْتَقْرَأَهُ - وَيُقَالُ: إذَا وَجَدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمًا جَاءَ إلَى أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ فَاسْتَقْرَأَهُ - فَبَايَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْوَفْدِ وَقَبْلَ الْقَضِيّةِ، وَكَتَمَ ذَلِكَ عُثْمَانُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأُعْجِبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ سَلّمَ بِهِ وَأَحَبّهُ. فَمَكَثَ الْوَفْدُ أَيّامًا يَخْتَلِفُونَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنّبِيّ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ: لَهُ عَبْدُ يَالَيْل: هَلْ أَنْتَ مُقَاضِينَا حَتّى نَرْجِعَ إلَى أَهْلِنَا وَقَوْمِنَا؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نَعَمْ إنْ أَنْتُمْ أَقْرَرْتُمْ بِالْإِسْلَامِ قَاضَيْتُكُمْ وَإِلّا فَلَا قَضِيّةَ وَلَا صُلْحَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ" قَالَ: عَبْدُ يَالَيْل: أَرَأَيْت الزّنَا ؟ فَإِنّا قَوْمٌ عُزّابٌ بِغَرْبٍ2 لَا بُدّ لَنَا مِنْهُ وَلَا يَصْبِرُ أَحَدُنَا عَلَى الْعُزْبَةِ . قَالَ: "هُوَ مِمّا حَرّمَ اللّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى : {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} 3 "قَالَ: أَرَأَيْت الرّبَا ؟ قَالَ: الرّبَا حَرَامٌ قَالَ: فَإِنّ أَمْوَالَنَا كُلّهَا رِبًا. قَالَ:
ـــــــ
1في الأصل:"قال"
2 في الأصل:"بعرب" بالعين المهملة، وما أثبتناه أوفق للمعنى. والغرب: البعد. "النهية ج3،ص153",
3 سورة 17الاسراء:32

(3/966)


لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 "قَالَ: أَفَرَأَيْت الْخَمْرَ؟ فَإِنّهَا عَصِيرُ أَعْنَابِنَا، لَا بُدّ لَنَا مِنْهَا . قَالَ: فَإِنّ اللّهَ قَدْ حَرّمَهَا ثُمّ تَلَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ {إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ } 2 "الْآيَةَ " قَالَ: فَارْتَفَعَ الْقَوْمُ وَخَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَقَالَ: عَبْدُ يَالَيْل : وَيْحَكُمْ نَرْجِعُ إلَى قَوْمِنَا بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الْخِصَالِ الثّلَاثِ وَاَللّهِ لَا تَصْبِرُ ثَقِيفٌ عَنْ الْخَمْرِ أَبَدًا، وَلَا عَنْ الزّنَا أَبَدًا. قَالَ: سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَيّهَا الرّجُلُ إنْ يُرِدْ اللّهُ بِهَا خَيْرًا تَصْبِرْ عَنْهَا قَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ الّذِينَ مَعَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا، فَصَبَرُوا وَتَرَكُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مَعَ أَنّا نَخَافُ هَذَا الرّجُلَ قَدْ أَوْطَأَ الْأَرْضَ غَلَبَةً وَنَحْنُ فِي حِصْنٍ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْأَرْضِ وَالْإِسْلَامُ حَوْلَنَا فَاشٍ وَاَللّهِ لَوْ قَامَ عَلَى حِصْنِنَا شَهْرًا لَمُتْنَا جُوعًا ; وَمَا أَرَى إلّا الْإِسْلَامَ وَأَنَا أَخَافُ يَوْمًا مِثْلَ يَوْمِ مَكّةَ !
وَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ هُوَ الّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى كَتَبُوا الْكِتَابَ كَانَ خَالِدٌ هُوَ الّذِي كَتَبَهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ إلَيْهِمْ بِالطّعَامِ فَلَا يَأْكُلُونَ مِنْهُ شَيْئًا حَتّى يَأْكُلَ مِنْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى أَسْلَمُوا. قَالُوا: أَرَأَيْت الرّبّةَ مَا تَرَى فِيهَا ؟ قَالَ: هَدْمَهَا. قَالُوا: هَيْهَاتَ لَوْ تَعْلَمُ الرّبّةُ أَنّا أَوْضَعْنَا فِي هَدْمِهَا قَتَلَتْ أَهْلَنَا. قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَيْحَك يَا عَبْدَ يَالَيْل إنّ الرّبّةَ حَجَرٌ لَا يَدْرِي مَنْ عَبَدَهُ مِمّنْ لَا يَعْبُدُهُ. قَالَ: عَبْدُ يَالَيْل: إنّا لَمْ نَأْتِك يَا عُمَرُ فَأَسْلَمُوا، وَكَمُلَ
ـــــــ
1 سورة 2 البقرة:278
2 سورة 5 المائدة:90

(3/967)


الصّلْحُ وَكَتَبَ ذَلِكَ الْكِتَابَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ. فَلَمّا كَمُلَ الصّلْحُ كَلّمُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ الرّبّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا يَهْدِمُهَا، فَأَبَى. قَالُوا: سَنَتَيْنِ فَأَبَى. قَالُوا: سَنَةً فَأَبَى. قَالُوا: شَهْرًا وَاحِدًا فَأَبَى أَنْ يُوَقّتَ لَهُمْ وَقْتًا. وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِتَرْكِ الرّبّةِ لِمَا يَخَافُونَ مِنْ سُفَهَائِهِمْ وَالنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ وَكَرِهُوا أَنْ يُرَوّعُوا قَوْمَهُمْ بِهَدْمِهَا، فَسَأَلُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ هَدْمِهَا. قَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ أَنَا أَبْعَثُ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَهْدِمَانِهَا. وَاسْتَعْفَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْسِرُوا أَصْنَامَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ. وَقَالَ: أَنَا آمُرُ أَصْحَابِي أَنْ يَكْسِرُوهَا. وَسَأَلُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ الصّلَاةِ فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيه" فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ أَمّا الصّلَاةُ فَسَنُصَلّي، وَأَمّا الصّيَامُ فَسَنَصُومُ وَتَعَلّمُوا فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ وَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصُومُوا مَا بَقِيَ مِنْ الشّهْرِ وَكَانَ بِلَالٌ يَأْتِيهِمْ بِفِطْرِهِمْ. وَيُخَيّلُ إلَيْهِمْ [ أَنّ ] الشّمْسَ لَمْ تَغِبْ فَيَقُولُونَ مَا هَذَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ إلّا اسْتِبَارٌ لَنَا، يَنْظُرُ كَيْفَ إسْلَامُنَا. فَيَقُولُونَ يَا بِلَالُ مَا غَابَتْ الشّمْسُ بَعْدُ. فَيَقُولُ بِلَالٌ مَا جِئْتُكُمْ حَتّى أَفْطَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَانَ الْوَفْدُ يَحْفَظُونَ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَعْجِيلِ فِطْرِهِ. وَكَانَ بِلَالٌ يَأْتِيهِمْ بِسَحُورِهِمْ قَالَ: فَأَسْتُرُهُمْ مِنْ الْفَجْرِ1 فَلَمّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَمّرْ عَلَيْنَا رَجُلًا مِنّا يَؤُمّنَا. فَأَمّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ. لِمَا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ: عُثْمَانُ وَكَانَ آخِرَ عَهْدٍ عَهِدَهُ
ـــــــ
1 رغبة في تأخير سحورهم، انظر ابن إسحاق."السيرة النبوية،ج4،ص185"

(3/968)


إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ اتّخِذْ مُؤَذّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا، وَإِذَا أَمَمْت قَوْمًا فَاقْدُرْهُمْ بِأَضْعَفِهِمْ وَإِذَا صَلّيْت لِنَفْسِك فَأَنْتَ وَذَاكَ. ثُمّ خَرَجَ الْوَفْدُ عَامِدِينَ إلَى الطّائِفِ ، فَلَمّا دَنَوْا مِنْ ثَقِيفٍ قَالَ: عَبْدُ يَالَيْل: أَنَا أَعْلَمُ النّاسِ بِثَقِيفٍ فَاكْتُمُوهَا الْقَضِيّةَ - وَخَوّفُوهُمْ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ وَأَخْبِرُوهُمْ أَنّ مُحَمّدًا سَأَلَنَا أُمُورًا عَظّمْنَاهَا فَأَبَيْنَاهَا عَلَيْهِ. يَسْأَلُنَا تَحْرِيمَ الزّنَا وَالْخَمْرِ. وَأَنْ نُبْطِلَ أَمْوَالَنَا فِي الرّبَا. وَأَنْ نَهْدِمَ الرّبّةَ. وَخَرَجَتْ ثَقِيفٌ حِينَ دَنَا الْوَفْدُ فَلَمّا رَآهُمْ الْوَفْدُ سَارُوا الْعَنَقَ1 وَقَطّرُوا الْإِبِلَ2. وَتَغَشّوْا بِثِيَابِهِمْ كَهَيْئَةِ الْقَوْمِ قَدْ حَزِنُوا وَكَرَبُوا، فَلَمْ يَرْجِعُوا بِخَيْرٍ. فَلَمّا رَأَتْ ثَقِيفٌ مَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ حَزِنُوا وَكَرَبُوا، فَقَالَ: بَعْضُهُمْ مَا جَاءَ وَفْدُكُمْ بِخَيْرٍ وَدَخَلَ الْوَفْدُ فَكَانَ أَوّلَ مَا بَدَءُوا بِهِ عَلَى اللّاتِ، فَقَالَ: الْقَوْمُ حِينَ نَزَلَ الْوَفْدُ إلَيْهَا3، وَكَانُوا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فَدَخَلَ الْقَوْمُ وَهُمْ مُسْلِمُونَ فَنَظَرُوا فِيمَا خَرَجُوا يَدْرَءُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَقَالَتْ ثَقِيفٌ: كَأَنّهُمْ4 لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهَا عَهْدٌ وَلَا بِرُؤْيَتِهَا ثُمّ رَجَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى أَهْلِهِ وَأَتَى رِجَالًا مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ ثَقِيفٍ فَسَأَلُوهُمْ5 مَاذَا رَجَعْتُمْ بِهِ ؟ وَقَدْ كَانَ الْوَفْدُ قَدْ اسْتَأْذَنُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنَالُوا مِنْهُ فَرَخّصَ لَهُمْ فَقَالُوا: جِئْنَاكُمْ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ فَظّ غَلِيظٍ يَأْخُذُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ قَدْ ظَهَرَ بِالسّيْفِ وَأَدَاخَ6 الْعَرَبَ، وَدَانَ لَهُ النّاسُ وَرُعِبَتْ مِنْهُ بَنُو الْأَصْفَرِ فِي حُصُونِهِمْ وَالنّاسُ فِيهِ إمّا رَاغِبٌ فِي دِينِهِ. وَإِمّا خائف من السيف
ـــــــ
1 العنق من السير:المنبسط."لسان العرب،ج12، ص149".
2 قطر الإبل،يقطرها قطرا: قرب بعضها إلى بعض على نسق."لسان العرب،ج6،ص417"
3 هكذا في الأصل، ولا يظهر لنا مقول القول.ولعل "قال" هنا من القيلولة.
4 في الأصل: "فإنهم"
5 في الأصل:"وأتى رجل منهم حامقة من ثقيف فسألهم"ولعل ما أثبتناه أقرب الاحتمال.
6 أي أذلهم."النهاية،ج2،ص34"

(3/969)


فَعَرَضَ عَلَيْنَا أُمُورًا شَدِيدَةً أَعْظَمْنَاهَا، فَتَرَكْنَاهَا عَلَيْهِ حَرّمَ عَلَيْنَا الزّنَا، وَالْخَمْرَ وَالرّبَا، وَأَنْ نَهْدِمَ الرّبّةَ. فَقَالَتْ ثَقِيفٌ : لَا نَفْعَلُ هَذَا أَبَدًا. فَقَالَ: الْوَفْدُ لَعَمْرِي قَدْ كَرِهْنَا ذَلِكَ وَأَعْظَمْنَاهُ وَرَأَيْنَا أَنْ لَمْ يُنْصِفْنَا، فَأَصْلِحُوا سِلَاحَكُمْ وَرُمّوا حِصْنَكُمْ وَانْصِبُوا الْعَرّادَاتِ عَلَيْهِ وَالْمَنْجَنِيقَ وَأَدْخِلُوا طَعَامَ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ فِي حِصْنِكُمْ لَا يُحَاصِرُكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَاحْفِرُوا خَنْدَقًا مِنْ وَرَاءِ حِصْنِكُمْ وَعَاجِلُوا ذَلِكَ فَإِنّ أَمْرَهُ قَدْ ظَلّ لَا نَأْمَنُهُ. فَمَكَثُوا بِذَلِكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ يُرِيدُونَ الْقِتَالَ ثُمّ أَدْخَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ فَقَالُوا: مَا لَنَا بِهِ طَاقَةٌ قَدْ أَدَاخَ الْعَرَبَ كُلّهَا، فَارْجِعُوا إلَيْهِ فَأَعْطُوهُ مَا سَأَلَ وَصَالِحُوهُ وَاكْتُبُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ إلَيْنَا وَيَبْعَثَ الْجُيُوشَ . فَلَمّا رَأَى الْوَفْدُ أَنْ قَدْ سَلّمُوا بِالْقَضِيّةِ وَرُعِبُوا مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ وَاخْتَارُوا الْأَمْنَ عَلَى الْخَوْفِ قَالَ: الْوَفْدُ فَإِنّنَا قَدْ قَاضَيْنَاهُ وَأَعْطَانَا مَا أَحْبَبْنَاهُ وَشَرَطَ لَنَا مَا أَرَدْنَا، وَوَجَدْنَاهُ أَتْقَى النّاسِ وَأَبَرّ النّاسِ وَأَوْصَلَ النّاسِ وَأَوْفَى النّاسِ وَأَصْدَقَ النّاسِ وَأَرْحَمَ النّاسِ وَقَدْ تَرَكَنَا مِنْ هَدْمِ الرّبّةِ وَأَبَيْنَا أَنْ نَهْدِمَهَا، وَقَالَ: "أَبْعَثُ مَنْ يَهْدِمُهَا" وَهُوَ يَبْعَثُ مَنْ يَهْدِمُهَا. قَالَ: يَقُولُ شَيْخٌ مِنْ ثَقِيفٍ قَدْ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الشّرْكِ بَعْدُ بَقِيّةٌ فَذَاكَ وَاَللّهِ مِصْدَاقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ إنْ قَدَرَ عَلَى هَدْمِهَا فَهُوَ مُحِقّ وَنَحْنُ مُبْطِلُونَ وَإِنْ امْتَنَعَتْ فَفِي النّفْسِ مِنْ هَذَا بَعْدُ شَيْءٌ فَقَالَ: عُثْمَانُ بْنُ الْعَاصِ مَنّتْك نَفْسُك الْبَاطِلَ وَغَرّتْك الْغُرُورَ وَمَا الرّبّةُ ؟ وَمَا تَدْرِي الرّبّةُ مَنْ عَبَدَهَا وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهَا ؟ كَمَا كَانَتْ الْعُزّى مَا تَدْرِي مَنْ عَبَدَهَا وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهَا، جَاءَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَحْدَهُ فَهَدَمَهَا ; وَكَذَلِك إِسَافُ وَنَائِلَةُ وَهُبَلُ وَمَنَاةُ خَرَجَ إلَيْهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَهَدَمَهَا ; وَسُوَاعٌ خرج إليه رجل

(3/970)


وَاحِدٌ فَهَدَمَهُ فَهَلْ امْتَنَعَ شَيْءٌ مِنْهُمْ ؟ قال: الثقفي: إن الربة لا تشبه شيئا مما ذكرت. قال: عثمان: سترى
وَأَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمّ خَرَجُوا وَقَدْ تَحَكّمَ أَبُو مُلَيْحٍ بْنُ عُرْوَةَ، وَقَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَهُمَا يُرِيدَانِ يَسِيرَانِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةِ إلَى هَدْمِ الرّبّةِ فَقَالَ: أَبُو مُلَيْحٍ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبِي قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِائَتَا مِثْقَالِ ذَهَبٍ فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تَقْضِيَهُ مِنْ حُلِيّ الرّبّةِ فَعَلْت. فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ. فَقَالَ: قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ : يَا رَسُولَ اللّهِ وَعَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ أَبِي، فَإِنّهُ قَدْ تَرَكَ دَيْنًا مِثْلَ دَيْنِ عُرْوَةَ. فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّ الْأَسْوَدَ مَاتَ وَهُوَ كَافِرٌ. فَقَالَ: قَارِبٌ تَصِلُ بِهِ قَرَابَةً إنّمَا الدّيْنُ عَلَيّ وَأَنَا مَطْلُوبٌ بِهِ. فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذًا أَفْعَلُ. فَقَضَى عَنْ عُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ دَيْنَهُمَا مِنْ مَالِ الطّاغِيَةِ .وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ وَأَصْحَابُهُمَا لِهَدْمِ الرّبّةِ فَلَمّا دَنَوْا مِنْ الطّائِفِ قَالَ: لِأَبِي سُفْيَانَ تَقَدّمْ فَادْخُلْ لِأَمْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ بَلْ تَقَدّمْ أَنْتَ عَلَى قَوْمِك فَتَقَدّمَ الْمُغِيرَةُ وَأَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَالِهِ ذِي الْهَرْمِ1 وَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا يَهْدِمُونَ الرّبّةَ. فَلَمّا نَزَلُوا بِالطّائِفِ نَزَلُوا عِشَاءً فَبَاتُوا، ثُمّ غَدَوْا عَلَى الرّبّةِ يَهْدِمُونَهَا. فَقَالَ: الْمُغِيرَةُ لِأَصْحَابِهِ الّذِينَ قَدِمُوا مَعَهُ لَأُضْحِكَنّكُمْ الْيَوْمَ مِنْ ثَقِيفٍ. فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَاسْتَوَى عَلَى رَأْسِ الرّبّةِ وَمَعَهُ الْمِعْوَلُ وَقَامَ وَقَامَ قَوْمُهُ بَنُو مُعَتّبٍ دُونَهُ مَعَهُمْ السّلَاحُ مَخَافَةَ أَنْ يُصَابَ كَمَا فُعِلَ بِعَمّهِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ. وَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: كَلّا زَعَمْت تُقَدّمُنِي أَنْتَ إلَى الطّاغِيَةِ، تُرَانِي لَوْ قُمْت أَهْدِمُهَا كَانَتْ بَنُو معتب تقوم
ـــــــ
1 هو موضع بقرب الطائف،كما ذكر البكري."معجم ما استعجم، ص830".

(3/971)


دُونِي؟ قَالَ: الْمُغِيرَةُ إنّ الْقَوْمَ قَدْ وَاضَعُوهُمْ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَقْدَمَ فَأَحَبّوا الْأَمْنَ عَلَى الْخَوْفِ. وَقَدْ خَرَجَ نِسَاءُ ثَقِيفٍ حُسّرًا1 يَبْكِينَ عَلَى الطّاغِيَةِ، وَالْعَبِيدُ وَالصّبْيَانُ وَالرّجَالُ مُنْكَشِفُونَ. وَالْأَبْكَارُ خَرَجْنَ. فَلَمّا ضَرَبَ الْمُغِيرَةُ ضَرْبَةً بِالْمِعْوَلِ سَقَطَ مَغْشِيّا عَلَيْهِ يَرْتَكِضُ فَصَاحَ أَهْلُ الطّائِفِ صَيْحَةً وَاحِدَةً كَلّا زَعَمْتُمْ أَنّ الرّبّةَ لَا تَمْتَنِعُ بَلَى وَاَللّهِ لَتَمْتَنِعَنّ وَأَقَامَ الْمُغِيرَةُ مَلِيّا وَهُوَ عَلَى حَالِهِ تِلْكَ ثُمّ اسْتَوَى جَالِسًا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ ثَقِيفٍ، كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ مَا مِنْ حَيّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَعْقَلُ مِنْ ثَقِيفٍ، وَمَا مِنْ حَيّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَحْمَقُ مِنْكُمْ وَيْحَكُمْ وَمَا اللّاتُ وَالْعُزّى، وَمَا الرّبّةُ ؟ حَجَرٌ مِثْلُ هَذَا الْحَجَرِ، لَا يَدْرِي مَنْ عَبَدَهُ وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ وَيْحَكُمْ أَتَسْمَعُ اللّاتُ أَوْ تُبْصِرُ أَوْ تَنْفَعُ أَوْ تَضُرّ ؟ ثُمّ هَدَمَهَا وَهَدَمَ النّاسُ مَعَهُ فَجَعَلَ السّادِنُ يَقُولُ - وَكَانَتْ سَدَنَةَ اللّاتِ مِنْ ثَقِيفٍ بَنُو الْعِجْلَانِ بْنِ عَتّابِ بْنِ مَالِكٍ. وَصَاحِبُهَا مِنْهُمْ عَتّابُ بْنُ مَالِكِ بْنِ كَعْبٍ ثُمّ بَنُوهُ بَعْدَهُ - يَقُولُ سَتَرَوْنَ إذَا انْتَهَى إلَى أَسَاسِهَا، يَغْضَبُ الْأَسَاسُ غَضَبًا يَخْسِفُ بِهِمْ. فَلَمّا سَمِعَ بِذَلِكَ الْمُغِيرَةُ وَلِيَ حَفْرَ الْأَسَاسِ حَتّى بَلَغَ نِصْفَ قَامَةٍ وَانْتَهَى إلَى الْغَبْغَبِ خِزَانَتِهَا. وَانْتَزَعُوا حِلْيَتَهَا وَكُسْوَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ طِيبٍ وَمِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضّةٍ. قَالَ: تَقُولُ عَجُوزٌ مِنْهُمْ أَسْلَمَهَا الرّضّاعُ2 وَتَرَكُوا الْمِصَاعَ3 وَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمّا وَجَدَ فِيهَا أَبَا مُلَيْحٍ وَقَارِبًا، وَنَاسًا، وَجَعَلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَفِي السّلَاحِ مِنْهَا، ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لثقيف
ـــــــ
1 حسر: أي مكشوفات الوجوه."شرح أبي ذر،ص426".
2 الرضاع: جمع راضع،وهو اللئيم."النهاية ج2، ص84".
3 في الأصل: "وترك المضاع"، وما أثبتناه عن ابن الأثير. والمصاع: المضاربة بالسيف."النهاية، ج2، ص84".

(3/972)


"بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُؤْمِنِينَ إنّ عِضَاهَ وَجّ1 وَصَيْدَهُ لَا يُعْضَدُ وَمَنْ وُجِدَ يَفْعَلُ ذَلِكَ يُجْلَدُ وَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ فَإِنْ تَعَدّى ذَلِكَ فَإِنّهُ يُؤْخَذُ فَيُبَلّغُ مُحَمّدًا. فَإِنّ هَذَا أَمْرُ النّبِيّ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِأَمْرِ النّبِيّ الرّسُولِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ. فَلَا يَتَعَدّاهُ أَحَدٌ، فَيَظْلِمَ نَفْسَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَهَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَطْعِ عِضَاهِ وَجّ وَعَنْ صَيْدِهِ وَكَانَ الرّجُلُ يُوجَدُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ . وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَى وَجّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ.
بَعْثَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَدّقِينَ
قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الزّهْرِيّ، وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَا : لَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَأَقَامَ بَقِيّةَ ذِي الْقَعْدَةِ وَذِي الْحِجّةِ فَلَمّا رَأَى هِلَالَ الْمُحَرّمِ بَعَثَ الْمُصَدّقِينَ فَبَعَثَ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ إلَى أَسْلَمَ وَغِفَارٍ بِصَدَقَتِهِمْ وَيُقَالُ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ; وَبَعَثَ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ الْأَشْهَلِيّ إلَى سُلَيْمٍ وَمُزَيْنَةَ ; وَبَعَثَ رَافِعَ بْنَ مَكِيثٍ فِي جُهَيْنَةَ ; وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إلَى فَزَارَةَ وَبَعَثَ الضّحّاكَ بْنَ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ إلَى بَنِي كِلَابٍ وَبَعَثَ بُسْرَ بْنَ سُفْيَانَ الْكَعْبِيّ إلَى بَنِي كَعْبٍ وَبَعَثَ ابْنَ اللّتْبِيّةِ الْأَزْدِيّ إلَى بَنِي ذُبْيَانَ وَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ هُذَيْمٍ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ. فَخَرَجَ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي كَعْبٍ. وَيُقَالُ: إنّمَا سَعَى عَلَيْهِمْ نُعَيْمُ بْنُ عبد الله
ـــــــ
1 وج: اسم الطائف."معجم البلدان،ج8،ص399".

(3/973)


النّحّامُ الْعَدَوِيّ، فَجَاءَ وَقَدْ حَلّ بِنَوَاحِيهِمْ بَنُو جُهَيْمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنُو عَمْرِو بْنِ جُنْدُبِ بْنِ الْعُتَيْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ فَهُمْ يَشْرَبُونَ مَعَهُمْ عَلَى غَدِيرٍ لَهُمْ بِذَاتِ الْأَشْطَاطِ1 وَيُقَالُ: وَجَدَهُمْ عَلَى عُسْفَانَ. ثُمّ أَمَرَ بِجَمْعِ مَوَاشِي خُزَاعَةَ لِيَأْخُذَ مِنْهَا الصّدَقَةَ. قَالَ: فَحَشَرَتْ خُزَاعَةُ الصّدَقَةَ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ. فَاسْتَنْكَرَتْ ذَلِكَ بَنُو تَمِيمٍ وَقَالُوا: مَا هَذَا؟ تُؤْخَذُ أَمْوَالُكُمْ مِنْكُمْ بِالْبَاطِلِ2 وَتَجَيّشُوا، وَتَقَلّدُوا الْقِسِيّ وَشَهَرُوا السّيُوفَ فَقَالَ: الْخُزَاعِيّونَ نَحْنُ قَوْمٌ نَدِينُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا مِنْ دِينِنَا. قَالَ: التّمِيمِيّونَ وَاَللّهِ لَا يَصِلُ إلَى بَعِيرٍ مِنْهَا أَبَدًا فَلَمّا رَآهُمْ الْمُصَدّقُ هَرَبَ مِنْهُمْ وَانْطَلَقَ مُوَلّيًا وَهُوَ يَخَافُهُمْ وَالْإِسْلَامُ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَعُمّ الْعَرَبَ، قَدْ بَقِيَتْ بَقَايَا مِنْ الْعَرَبِ وَهُمْ يَخَافُونَ السّيْفَ لِمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ وَحُنَيْنٍ
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ مُصَدّقِيهِ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَفْوَ مِنْهُمْ وَيَتَوَقّوْا كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ فَقَدِمَ الْمُصَدّقُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا كُنْت فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَوَثَبَتْ خُزَاعَةُ عَلَى التّمِيمِيّينَ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ مَحَالّهِمْ وَقَالُوا: لَوْلَا قَرَابَتُكُمْ مَا وَصَلْتُمْ إلَى بِلَادِكُمْ لَيَدْخُلَنّ عَلَيْنَا بَلَاءٌ مِنْ عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَنْفُسِكُمْ حَيْثُ تَعْرِضُونَ لِرُسُلِ3 رَسُولِ اللّهِ تَرُدّونَهُمْ عَنْ صَدَقَاتِ أَمْوَالِنَا. فَخَرَجُوا رَاجِعِينَ إلَى بِلَادِهِمْ فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الّذِينَ. فَعَلُوا مَا فَعَلُوا ؟ فَانْتَدَبَ أَوّلُ النّاسِ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ، فَقَالَ: أَنَا وَاَللّهِ لَهُمْ أَتْبَعُ آثَارَهُمْ وَلَوْ بَلَغُوا يبرين4 حتى
ـــــــ
1 ذات الأشطاط:موضع تلقاء الحديبية."معجم ما استعجم، ص128".
2 في الأصل: "باطل".
3 في الأصل:"حيث تعرضون لرسول الله".
4 يبرين: رمل معروف في ديار بني سعد من تميم."معجم ما استعجم، ص849".

(3/974)


آتِيَك بِهِمْ إنْ شَاءَ اللّهُ فَتَرَى فِيهِمْ رَأْيَك أَوْ يُسْلِمُوا. فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ الْعَرَبِ، لَيْسَ فِيهَا مُهَاجِرٌ وَاحِدٌ وَلَا أَنْصَارِيّ، فَكَانَ يَسِيرُ بِاللّيْلِ وَيَكْمُنُ لَهُمْ بِالنّهَارِ خَرَجَ عَلَى رَكُوبَةٍ1 حَتّى انْتَهَى إلَى الْعَرْجِ ، فَوَجَدَ خَبَرَهُمْ أَنّهُمْ قَدْ عَارَضُوا إلَى أَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ ، فَخَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ حَتّى وَجَدَهُمْ قَدْ عَدَلُوا مِنْ السّقْيَا يَؤُمّونَ أَرْضَ بَنِي سُلَيْمٍ فِي صَحْرَاءَ قَدْ حَلّوا وَسَرّحُوا مَوَاشِيَهُمْ وَالْبُيُوتُ خُلُوفٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ إلّا النّسَاءُ وَنُفَيْرٌ فَلَمّا رَأَوْا الْجَمْعَ وَلّوْا وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وَوَجَدُوا فِي الْمَحَلّةِ مِنْ النّسَاءِ إحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً وَثَلَاثِينَ صَبِيّا، فَحَمَلَهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَأَمَرَ بِهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحُبِسُوا فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ. فَقَدِمَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ الْعُطَارِدُ بْنُ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ وَالزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ، وَنُعَيْمُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَرِيَاحُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُجَاشِعٍ2 فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ قَبْلَ الظّهْرِ فَلَمّا دَخَلُوا سَأَلُوا عَنْ سَبْيِهِمْ فَأُخْبِرُوا بِهِمْ فَجَاءُوهُمْ فَبَكَى الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ فَرَجَعُوا حَتّى دَخَلُوا الْمَسْجِدَ ثَانِيَةً وَرَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ وَقَدْ أَذّنَ بِلَالٌ بِالظّهْرِ بِالْأَذَانِ الْأَوّلِ وَالنّاسُ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَجّلُوا خُرُوجَهُ فَنَادَوْا: يَا مُحَمّدُ اُخْرُجْ إلَيْنَا فَقَامَ إلَيْهِمْ بِلَالٌ فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج الآن . فاشتهر3
ـــــــ
1 ركوبة: ثنية بين مكة والمدينة عند العرج."معجم البلدان، ج4،ص280".
2 هكذا في الأصل ثمانية، لا عشرة،كما ذكر قبل.
3 في الأصل:"فاستشهد"، ولعل ما أثبتناه أقرب الاحتمال.والشهرة: وضوح الأمر."تاج العروس، ج3،ص320".

(3/975)


أَهْلُ الْمَسْجِدِ أَصْوَاتَهُمْ فَجَعَلُوا يَخْفِقُونَ1 بِأَيْدِيهِمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ بِلَالٌ الصّلَاةَ وَتَعَلّقُوا بِهِ يُكَلّمُونَهُ فَوَقَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ بَعْدَ إقَامَةِ بِلَالٍ الصّلَاةَ مَلِيّا، وَهُمْ يَقُولُونَ أَتَيْنَاك بِخَطِيبِنَا وَشَاعِرِنَا فَاسْمَعْ مِنّا . فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ مَضَى فَصَلّى بِالنّاسِ الظّهْرَ ثُمّ انْصَرَفَ إلَى بَيْتِهِ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ تَمّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ وَقَدِمُوا عَلَيْهِ وَقَدّمُوا عُطَارِدَ بْنَ حَاجِبِ التّمِيمِيّ فَخَطَبَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا، وَاَلّذِي جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَأَعْطَانَا الْأَمْوَالَ نَفْعَلُ فِيهَا الْمَعْرُوفَ وَجَعَلَنَا أَعَزّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَكْثَرَهُمْ مَالًا وَأَكْثَرَهُمْ عَدَدًا، فَمَنْ مِثْلُنَا فِي النّاسِ ؟ أَلَسْنَا بِرُءُوسِ النّاسِ وَذَوِي فَضْلِهِمْ ؟ فَمَنْ يُفَاخِرُ فَلْيَعْدُدْ مِثْلَ مَا عَدَدْنَا وَلَوْ شِئْنَا لَأَكْثَرْنَا مِنْ الْكَلَامِ وَلَكِنّا نَسْتَحْيِي مِنْ الْإِكْثَارِ فِيمَا أَعْطَانَا اللّهُ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا لِأَنْ يُؤْتَى بِقَوْلٍ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ قَوْلِنَا فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ : قُمْ فَأَجِبْ خَطِيبَهُمْ فَقَامَ ثَابِتٌ - وَمَا كَانَ دَرَى مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَمَا هَيّأَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يَقُولُ - فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي السّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ خَلْقُهُ قَضَى فِيهَا أَمْرَهُ وَوَسِعَ كُلّ شَيْءٍ عِلْمُهُ فَلَمْ يَكُ شَيْءٌ إلّا مِنْ فَضْلِهِ . ثُمّ كَانَ مِمّا قَدّرَ اللّهُ أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَاصْطَفَى لَنَا مِنْ خَلْقِهِ رَسُولًا . أَكْرَمَهُمْ نَسَبًا، وَأَحْسَنَهُمْ زِيّا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا. أَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ . وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ وَكَانَ خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ فَدَعَا إلَى الْإِيمَانِ فَآمَنَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ أَصْبَحُ النّاسِ وَجْهًا، وَأَفْضَلُ النّاسِ فِعَالًا . ثُمّ كُنّا أَوّلَ النّاسِ إجَابَةً حِينَ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ وَرَسُولِهِ نُقَاتِلُ النّاسَ حتى
ـــــــ
1 أي يضربون."لسان العرب، ج11،ص369".

(3/976)


يَقُولُوا لَا إلَهَ إلّا اللّهُ فَمَنْ آمَنَ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ مُنِعَ مِنّا مَالُهُ وَدَمُهُ وَمَنْ كَفَرَ بِاَللّهِ جَاهَدْنَاهُ فِي ذَلِكَ وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَيْنَا يَسِيرًا . أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللّه لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. ثُمّ جَلَسَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ ائْذَنْ لِشَاعِرِنَا . فَأَذِنَ لَهُ فَأَقَامُوا الزّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ فَقَالَ:
نَحْنُ الْمُلُوكُ فَلَا حَيّ يُقَارِبُنَا ... فِينَا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ الْبِيَعُ1
وَكَمْ قَسَرْنَا مِنْ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمُ ... عِنْدَ النّهَابِ وَفَضْلُ الْخَيْرِ يُتّبَعُ
وَنَحْنُ نُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مَا أَكَلُوا ... مِنْ السّدِيفِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ الْقَزَعُ2
وَنَنْحَرُ الْكُومَ عَبْطًا3 فِي أَرُومَتِنَا ... لِلنّازِلِينَ إذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا
فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجِبْهُمْ يَا حَسّانُ بْنَ ثَابِتٍ فَقَامَ فقال:
إنّ الذّوَائِبَ4 مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ... قَدْ شَرّعُوا سُنّةً لِلنّاسِ تُتّبَعُ
يَرْضَى بِهِمْ كُلّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ وَبِالْأَمْرِ الّذِي شَرَعُوا
قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا ضَرّوا عَدُوّهُمُ ... أَوْ حَاوَلُوا النّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إنّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرّهَا الْبِدَعُ
لَا يَرْقَعُ النّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفّهُمُ ... عِنْدَ الدّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا
وَلَا يَضِنّونَ عَنْ جَارٍ بِفَضْلِهِمُ ... وَلَا يَنَالُهُمُ فِي مَطْمَعٍ طَبَعُ5
إنْ كَانَ فِي النّاسِ سَبّاقُونَ بَعْدَهُمُ ... فَكُلّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
ـــــــ
1البيع:مواضع الصلوات والعبادات،واحدتها بيعة."شرح أبي ذر،ص432".
2 القزع: جمع القزعة، وهي سحاب رقيق يكون في الخريف."شرح أبي ذر، ص432".
3 الكوم: جمع كوماء، وهي الناقة العظيمة السنام. وعبطا:أي مات من غير علة والأرومة: الأصل."شرح أبي ذر،ص432،433".
4 الذوائب: الأعالي، وأراد ها هنا السادة."شرح أبي ذر،ص433
5 الطبع: الدنس." شرح أبي ذر، ص433".

(3/977)


أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللّهِ شِيعَتُهُمْ ... إذَا تَفَرّقَتْ الْأَهْوَاءُ وَالشّيَعُ
أَعِفّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفّتُهُمْ ... لَا يَطْمَعُونَ وَلَا يُرْدِيهِمُ طَمَعُ
كَأَنّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ1 ... أُسْدٌ بِبِيشَةَ2 فِي أَرْسَاغِهَا3 فَدَعُ
لَا يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوّهُمُ4 ... وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا خُورٌ5 وَلَا جُزُعُ
إذَا نَصَبْنَا6 لِحَيّ لَمْ نَدِبّ لَهُمْ ... كَمَا يَدِبّ إلَى الْوَحْشِيّةِ الذّرَعُ7
نَسْمُو إذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا ... إذَا الزّعَانِفُ8 مِنْ أَطْرَافِهَا خَشَعُوا9
خُذْ مِنْهُمُ مَا أَتَى عَفْوًا إذَا غَضِبُوا ... وَلَا يَكُنْ هَمّك الْأَمْرَ الّذِي مَنَعُوا
فَإِنّ فِي حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ ... سُمّا غَرِيضًا عَلَيْهِ الصّابُ وَالسّلَعُ10
أَهْدَى لَهُمْ مَدْحَهُ قَلْبٌ يُؤَازِرُهُ ... فِيمَا أَحَبّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ11
وَأَنّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمُ ... إنْ جَدّ بِالنّاسِ جِدّ الْقَوْلِ أَوْ شَمَعُوا12
ـــــــ
1والموت مكتنع: أي دان."شرح أبي ذر،ص433".
2 ببيشة: من عمل مكة مما يلي اليمن من مكة على خمسة مراحل."معجم البلدان،ج2،ص334"
3 الأرساغ:جمع رسغ، وهو موضع مربط القيد. وفدع: اعوجاج إلى ناحية."شرح أبي ذر،ص433".
4 في الأصل:"لا فرخ إن أصابوا عدوهم". وما أثبتنا من ابن إسحاق. " السيرة النبوية، ج4ص210".
5 الخور: الضعفاء."شرح أبي ذر،ص433".
6 في الأصل:"وإن أصبنا"، وما أثبتناه عن ابن إسحاق."السيرة النبوية،ج4،ص210". وعن ديوان حسان أيضا."ص24"
7 الذرع: ولد البقرة الوحشية."شرح أبي ذر، ص433".
8 الزعانف: أطراف الناس وأتباعهم."شرح أبي ذر،ص433".
9 خشعوا: أي تذللوا."شرح أبي ذر،ص433"".
10 السلع: نبات مسموم."شرح أبي ذر،ص434".
11 صنع: يحسن العمل."شرح أبي ذر،ص434".
12 شمعوا: أي هزلوا،وأصل الشمع الطرب واللهو، ومنه جارية شموع إذا كانت كثيرة الطرب. " شرح أبي ذر،ص434".

(3/978)


وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ فِي الْمَسْجِدِ يُنْشِدُ عَلَيْهِ حَسّانُ وَقَالَ: إنّ اللّهَ لَيُؤَيّدُ حَسّانَ بِرُوحِ الْقُدُسِ مَا دَافَعَ عَنْ نَبِيّهِ. وَسُرّ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَالْمُسْلِمُونَ بِمَقَامِ ثَابِتٍ وَشِعْرِ حَسّانَ. وَخَلَا الْوَفْدُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالَ: قَائِلٌ تَعْلَمُنّ وَاَللّهِ أَنّ هَذَا الرّجُلَ مُؤَيّدٌ مَصْنُوعٌ لَهُ وَاَللّهِ لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَلَشَاعِرُهُمْ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، وَلَهُمْ أَحْلَمُ مِنّا وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ أَجْهَرِ النّاسِ صَوْتًا. وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيّهِ فِي رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ - التّمِيمِيّينَ - وَيُذْكَرُ أَنّهُمْ نَادَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ فَقَالَ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ} إلَى قَوْلِهِ { أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} 1 "يَعْنِي تَمِيمًا حِينَ نَادَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ ثَابِتٌ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدّ رَسُولُ اللّهِ السّبْيَ وَالْأَسْرَى وَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ يَوْمَئِذٍ يَهْجُو قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ، كَانَا جَمِيعًا فِي الْوَفْدِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ لَهُمْ بِجَوَائِزَ . وَكَانَ يُجِيزُ الْوَفْدَ إذَا قَدِمَ عَلَيْهِ وَيُفَضّلُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيّةِ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى، فَلَمّا أَجَازَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هَلْ بَقِيَ مِنْكُمْ مَنْ لَمْ نُجِزْهُ" ؟ قَالُوا: غُلَامٌ فِي الرّحْلِ. فَقَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَرْسِلُوهُ نُجِزْهُ" فَقَالَ: قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ: إنّهُ غُلَامٌ لَا شَرَفَ لَهُ. قَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَإِنْ كَانَ فَإِنّهُ وَافِدٌ وَلَهُ حَقّ" فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ شِعْرًا يُرِيدُ قَيْسَ بْنَ عاصم:
ظَلِلْت مُفْتَرِشًا هَلْبَاك2 تَشْتُمُنِي ... عِنْدَ الرّسُولِ فَلَمْ تَصْدُقْ وَلَمْ تُصِبِ
ـــــــ
1 سورة 49الحجرات:2
2 الهلب والهلباء: شعر الذنب فاستعاره هنا للإنسان."شرح أبي ذر،ص435".

(3/979)


إنّا وَسُؤْدَدُنَا1 عَوْدٌ وَسُؤْدَدُكُمْ ... مُخَلّفٌ بِمَكَانِ الْعَجْبِ وَالذّنَبِ
إنْ تُبْغِضُونَا فَإِنّ الرّومَ أَصْلُكُمُ ... وَالرّومُ لَا تَمْلِكُ الْبَغْضَاءَ لِلْعَرَبِ
قَالَ: حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ شَيْخٍ أَخْبَرَهُ أَنّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي النّجّارِ قَالَتْ أَنَا أَنْظُرُ إلَى الْوَفْدِ يَوْمَئِذٍ يَأْخُذُونَ جَوَائِزَهُمْ عِنْدَ بِلَالٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنَشّ. قَالَتْ وَقَدْ رَأَيْت غُلَامًا أَعْطَاهُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ أَعْطَى خَمْسَ أَوَاقِيّ. قُلْت: وَمَا النّشّ ؟ قَالَتْ نِصْفُ أُوقِيّةٍ.
ـــــــ
1 سؤدد عود: لعود هنا معتاه القديم الذي يتكرر على الزمان."شرح أبي ذر،ص435".

(3/980)


بَعْثَةُ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ
قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إلَى صَدَقَاتِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَكَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَبَنَوْا الْمَسَاجِدَ بِسَاحَاتِهِمْ . فَلَمّا خَرَجَ إلَيْهِمْ الْوَلِيدُ وَسَمِعُوا بِهِ قَدْ دَنَا مِنْهُمْ خَرَجَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ رَجُلًا يَتَلَقّوْنَهُ بِالْجُزُرِ وَالنّعَمِ فَرَحًا بِهِ وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا يُصَدّقُ بَعِيرًا قَطّ وَلَا شَاةً فَلَمّا رَآهُمْ وَلّى رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَقْرَبْهُمْ فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ لَمّا دَنَا مِنْهُمْ لَقُوهُ. مَعَهُمْ السّلَاحُ يَحُولُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصّدَقَةِ فَهَمّ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ يَغْزُوهُمْ. وَبَلَغَ ذَلِكَ الْقَوْمَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ الرّكْبُ الّذِينَ لَقُوا الْوَلِيدَ فَأَخْبَرُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ سَلْهُ هَلْ نَاطَقَنَا أَوْ كَلّمَنَا؟ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُكَلّمُهُ وَنَعْتَذِرُ فَأَخَذَهُ الْبُرَحَاءُ فَسُرّيَ عَنْهُ ونزل عليه:

(3/980)


{يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} 1. فَقَرَأَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ وَأَخْبَرَنَا بِعُذْرِنَا وَمَا نَزَلَ فِي صَاحِبِنَا، ثُمّ قَالَ: "مَنْ تُحِبّونَ أَبْعَثُ إلَيْكُمْ" ؟ قَالُوا: تَبْعَثُ عَلَيْنَا عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ . فَقَالَ: "يَا عَبّادُ سِرْ مَعَهُمْ فَخُذْ صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ وَتَوَقّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ عَبّادٍ يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ وَيُعَلّمُنَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ حَتّى أَنَزَلْنَاهُ فِي وَسَطِ بُيُوتِنَا، فَلَمْ يُضَيّعْ حَقّا وَلَمْ يَعْدُ بِنَا الْحَقّ. وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامَ عِنْدَنَا عَشْرًا، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاضِيًا.
ـــــــ
1 سورة 49الحجرات6

(3/981)