أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، ت: علي عمر
ذكر وحشة آدم في الأرض حين نزلها, وفضل البيت
الحرام والحرم:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن
سالم, عن عثمان بن ساج عن وهب بن منبه أنه
قال: إن آدم -عليه السلام- لما هبط إلى الأرض
استوحش فيها؛ لما رأى من سعتها ولم ير فيها
أحدًا غيره فقال: يا رب, أما لأرضك هذه عامر,
يسبحك فيها ويقدس لك غيري؟
قال: "إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي
ويقدس لي، وسأجعل فيها بيوتًا ترفع لذكري
ويسبحني فيها خلقي، وسأبوئك فيها بيتًا أختاره
لنفسي وأختصه بكرامتي وأوثره على بيوت الأرض
كلها باسمي، فأسميه بيتي وأنطقه بعظمتي،
وأجوزه بحرماتي، وأجعله أحق بيوت الأرض كلها
وأولاها بذكري، وأضعه في البقعة التي اخترت
لنفسي، فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات
والأرض، وقبل ذلك قد كان بغيتي فهو صفوتي من
البيوت, ولست أسكنه وليس ينبغي لي أن أسكن
البيوت ولا ينبغي لها أن تسعني، ولكن على كرسي
الكبرياء والجبروت وهو الذي استقل بعزتي،
وعليه وضعت عظمتي وجلالي، وهنالك استقر قراري،
ثم هو بعد ضعيف عني لولا قوتي, ثم أنا بعد ذلك
ملء كل شيء، وفوق كل شيء، ومع كل شيء، ومحيط
بكل شيء، وأمام كل شيء، وخلف كل شيء، ليس
ينبغي لشيء أن
ج / 1 ص -23-
يعلم علمي، ولا يقدر قدرتي، ولا يبلغ كنه
شأني.
أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرمًا وأمنًا، أحرم بحرماته ما فوقه، وما
تحته، وما حوله, فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرماتي، ومن أحله فقد أباح
حرماتي، ومن أمن أهله فقد استوجب بذلك أماني، ومن أخافهم فقد أخفرني في
ذمتي، ومن عظم شأنه عظم في عيني، ومن تهاون به صغر في عيني ولكل ملك
حيازة ما حواليه، وبطن مكة خيرتي وحيازتي وجيران بيتي وعمارها وزوارها
وفدي وأضيافي في كنفي وأفنيتي ضامنون علي في ذمتي وجواري, فأجعله أول
بيت وضع للناس وأعمره بأهل السماء وأهل الأرض يأتونه أفواجًا شعثًا
غبرًا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق, يعجون بالتكبير عجيجًا ويرجون
بالتلبية رجيجًا وينتحبون بالبكاء نحيبًا, فمن اعتمره لا يريد غيري
فقد زارني ووفد إلي ونزل بي, ومن نزل بي فحقيق علي أن أتحفه بكرامتي
وحق الكريم أن يكرم وفده وأضيافه, وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته.
تعمره يا آدم ما كنت حيا, ثم تعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء,
أمة بعد أمة, وقرن بعد قرن, ونبي بعد نبي, حتى ينتهي ذلك إلى نبي من
ولدك وهو خاتم النبيين, فأجعله من عماره، وسكانه، وحماته، وولاته،
وسقاته يكون أميني عليه ما كان حيا, فإذا انقلب إلي وجدني قد ذخرت له
من أجره وفضيلته ما يتمكن به للقربة مني والوسيلة إلي, وأفضل المنازل
في دار المقام.
وأجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وثناءه ومكرمته لنبي من ولدك
يكون قبل هذا النبي وهو أبوه يقال له: إبراهيم أرفع له قواعده، وأقضي
على يديه عمارته، وأنيط له سقايته، وأريه حله وحرمه ومواقفه, وأعلمه
مشاعره ومناسكه، وأجعله أمة واحدة قانتًا لي قائمًا بأمري داعيًا إلى
سبيلي أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم، أبتليه فيصبر، وأعافيه فيشكر،
وينذر لي فيفي، ويعدني فينجز، وأستجيب له في ولده وذريته من بعده,
وأشفعه فيهم فأجعلهم
ج / 1 ص -24-
أهل ذلك البيت، وولاته، وحماته، وخدامه،
وسدانه, وخزانه، وحجابه حتى يبتدعوا ويغيروا.
فإذا فعلوا ذلك فأنا الله أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن
أشاء، أجعل إبراهيم إمام أهل ذلك البيت، وأهل تلك الشريعة يأتم به من
حضر تلك المواطن من جميع الإنس والجن, يطئون فيها آثاره، ويتبعون فيها
سنته، ويقتدون فيها بهديه، فمن فعل ذلك منهم أوفى نذره واستكمل نسكه،
ومن لم يفعل ذلك منهم ضيّع نسكه وأخطأ بغيته.
فمن سأل عني يومئذ في تلك المواطن: أين أنا؟ فأنا مع الشعث الغبر
الموفين بنذورهم المستكملين مناسكهم المبتهلين إلى ربهم الذي يعلم ما
يبدون وما يكتمون.
وليس هذا الخلق ولا هذا الأمر الذي قصصت عليك شأنه يا آدم بزائد في
ملكي، ولا عظمتي، ولا سلطاني، ولا شيء مما عندي إلا كما زادت قطرة من
رشاش وقعت في سبعة أبحر1 تمدها من بعدها سبعة أبحر1 لا تحصى، بل القطرة
أزيد في البحر من هذا الأمر في شيء مما عندي ولو لم أخلقه لم ينقص
شيئًا من ملكي ولا عظمتي ولا مما عندي من الغناء والسعة إلا كما نقصت
الأرض ذرة وقعت من جميع ترابها, وجبالها, وحصاها، ورمالها، وأشجارها,
بل الذرة أنقص في الأرض من هذا الأمر لو لم أخلقه لشيء مما عندي, وبعد
هذا من هذا مثلًا للعزيز الحكيم".
حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم الصنعاني
قال: حدثني عبد الصمد بن معقل, عن وهب بن منبه بنحوه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، ب. وفي أ: "سبغة البحر".
ج / 1 ص -25-
ما جاء في البيت المعمور:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثني سعيد بن سالم, عن عثمان بن
ساج, عن وهب بن منبه قال: أخبرني أبو سعيد عن مقاتل يرفع الحديث إلى
النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث حدث به قال: "سمي البيت المعمور؛
لأنه يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك, ثم ينزلون إذا أمسوا فيطوفون
بالكعبة, ثم يسلمون على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ينصرفون فلا
تنالهم النوبة حتى تقوم الساعة".
حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج عن وهب بن منبه أنه وجد
في التوراة بيتًا في السماء بحيال الكعبة فوق قبتها, اسمه الضراح وهو
البيت المعمور, يرده كل يوم سبعون ألف ملك, لا يعودون إليه أبدًا.
حدثني جدي, عن سعيد بن سالم قال: أخبرني ابن جريج, عن صفوان بن سليم,
عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم:
"البيت الذي في السماء يقال له: الضراح, وهو مثل بناء هذا البيت الحرام
ولو سقط لسقط عليه, يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبدًا".
وحدثني جدي عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن
السائب الكلبي قال: بلغني -والله أعلم- أن بيتًا في السماء يقال له:
الضراح بحيال الكعبة, يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الملائكة ما دخلوه
قط قبلها.
حدثني جدي قال: حدثني سفيان بن عيينة, عن ابن أبي حسين, عن أبي الطفيل
قال: سأل ابن الكواء عليًّا -رضي الله عنه: ما البيت المعمور؟ قال: هو
الضراح, وهو حذاء هذا البيت, وهو في السماء السادسة يدخله كل يوم
ج / 1 ص -26-
سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبدًا.
حدثني أبو محمد قال: حدثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي
قال: حدثنا سفيان بن عيينة بنحوه, إلا أنه قال: في السماء السابعة,
وقال: لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الله
بن معاذ الصنعاني قال: حدثنا معمر, عن وهب بن عبد الله, عن أبي الطفيل
قال: شهدت عليًّا -رضي الله عنه- وهو يخطب وهو يقول: سلوني, فوالله لا
تسألونني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به، وسلوني عن كتاب
الله, فوالله ما منه آية إلا وأنا أعلم أنها1 بليل نزلت أم بنهار, أم
بسهل نزلت أم بجبل.
فقام ابن الكواء وأنا بينه وبين علي -رضي الله عنه- وهو خلفي قال:
أفرأيت البيت المعمور ما هو؟ قال: ذاك الضراح فوق سبع سموات تحت العرش,
يدخله كل يوم سبعون ألف ملك, لا يعودون فيه إلى يوم القيامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ب, وفي الأصل: "أنه" وفي أ: "أم".
ما جاء في رفع البيت المعمور زمن الغرق, وما جاء
فيه:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا
سعيد بن سالم, عن ابن جريج عن مجاهد قال: بلغني انه لما خلق الله -عز
وجل- السموات والأرض كان أول شيء وضعه فيها البيت الحرام, وهو يومئذ
ياقوتة حمراء جوفاء, لها بابان: أحدهما شرقي والآخر غربي, فجعله مستقبل
البيت المعمور.
ج / 1 ص -27-
فلما كان زمن الغرق رفع في ديباجتين فهو
فيهما إلى يوم القيامة, واستودع الله -عز وجل- الركن أبا قبيس قال:
وقال ابن عباس: كان ذهبًا فرفع زمان الغرق, وهو في السماء.
وقال ابن جريج: قال جويبر: كان بمكة البيت المعمور, فرفع زمان الغرق
فهو في السماء.
حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني أبو سعيد عن
مقاتل يرفع الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث حدث به: "أن
آدم عليه السلام قال: أي رب, إني أعرف شقوتي, إني لا أرى شيئًا من نورك
يعبد, فأنزل الله عز وجل عليه البيت المعمور على عرض البيت في موضعه من
ياقوتة حمراء, ولكن طوله كما بين السماء والأرض, وأمره أن يطوف به,
فأذهب الله عنه الغم الذي كان يجده قبل ذلك, ثم رفع على عهد نوح عليه
السلام".
ذكر بناء ولد آدم البيت الحرام بعد موت آدم عليه
السلام:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج,
عن وهب بن منبه أنه قال: لما رفعت الخيمة التي عزّى الله بها آدم من
حلية الجنة حين وضعت له بمكة في موضع البيت, ومات آدم عليه السلام,
فبنى بنو آدم من بعده مكانها بيتًا بالطين والحجارة, فلم يزل معمورًا
يعمرونه هم ومن بعدهم حتى كان زمن نوح عليه السلام, فنسفه الغرق وغير
مكانه حتى بوئ لإبراهيم عليه السلام.
ج / 1 ص -28-
ما جاء في طواف سفينة نوح -عليه
السلام- زمن الغرق بالبيت الحرام:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا بشر بن
السرى البصري, عن داود بن أبي الفرات الكندي, عن علباء بن أحمر
اليشكري, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: كان مع نوح في السفينة ثمانون
رجلًا معهم أهلوهم, وإنهم كانوا أقاموا في السفينة مائة وخمسين يومًا,
وإن الله تعالى وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يومًا, ثم
وجهها الله تعالى إلى الجودي فاستقرت عليه.
فبعث نوح -عليه السلام- الغراب ليأتيه بخبر الأرض, فذهب فوقع على الجيف
وأبطأ عنه, فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين, فعرف
نوح أن الماء قد نضب فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها: ثمانين.
فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها العربية,
قال: فكان لا يفقه بعضهم عن بعض, وكان نوح عليه السلام يعبر1 عنهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، ب. وفي أ: "يغير".
ج / 1 ص -29-
لا تعلوها السيول, غير أن الناس يعلمون أن
موضع البيت فيما هنالك, ولا يثبت موضعه.
وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض، ويدعو عنده المكروب, فقل
من دعا هنالك إلا استجيب له.
وكان الناس يحجون إلى موضع البيت, حتى بوأ الله مكانه لابراهيم -عليه
السلام- لما أراد من عمارة بيته وإظهار دينه وشرائعه, فلم يزل منذ أهبط
الله آدم -عليه السلام- إلى الأرض معظمًا محرمًا بيته تتناسخه الأمم
والملل, أمة بعد أمة وملة بعد ملة, قال: وقد كانت الملائكة تحجه قبل
آدم عليه السلام.
ما ذكر من تخير إبراهيم -عليه السلام- موضع
البيت الحرام من الأرض:
حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج
قال: بلغني -والله أعلم- أن إبراهيم خليل الله تعالى عرج به إلى السماء
فنظر إلى الأرض مشارقها ومغاربها, فاختار موضع الكعبة فقالت له
الملائكة: يا خليل الله, اخترت حرم الله تعالى في الأرض, قال: فبناه من
حجارة سبعة أجبل قال: ويقولون: خمسة, وكانت الملائكة تأتي بالحجارة إلى
إبراهيم من تلك الجبال.
ج / 1 ص -30-
باب ما جاء في إسكان إبراهيم ابنه
إسماعيل وأمه هاجر في بدء أمره عند البيت الحرام كيف كان:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثني
سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثنا
ابن أبي نجيح, عن مجاهد أن الله تعالى لما بوأ لإبراهيم مكان البيت,
خرج إليه من الشام وخرج معه ابنه إسماعيل وأمه هاجر، وإسماعيل طفل
يرضع, وحُملوا فيما يحدثني على البراق.
قال عثمان بن ساج: وحدثنا عن الحسن البصري أنه كان يقول في صفة البراق
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"إنه أتاني جبريل بدابة بين
الحمار والبغل، لها جناحان في فخذيها تحفزانها, تضع حافرها في منتهى
طرفها".
قال عثمان: قال محمد بن إسحاق: ومعه جبريل عليه السلام يدله على موضع
البيت ومعالم الحرم قال: فخرج وخرج معه لا يمر إبراهيم بقرية من القرى
إلا قال: يا جبريل أبهذه أمرت؟ فيقول له جبريل -عليه السلام: امضه, حتى
قدم مكة وهي آنذاك عضاه من سلم وسمر وبها ناس يقال لهم: العماليق,
خارجًا من مكة فيما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة. فقال إبراهيم
لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم! قال: فعمد بهما إلى موضع
الحجر فأنزلهما فيه وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشًا ثم قال:
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ} [إبراهيم: 37]. ثم انصرف إلى الشام
وتركهما عند البيت الحرام.
وحدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج, عن كثير بن
كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي, عن سعيد بن جبير قال: حدثنا عبد
الله بن عباس أنه حين كان بين أم إسماعيل بن إبراهيم وبين
ج / 1 ص -31-
سارة امرأة إبراهيم ما كان, أقبل إبراهيم
-عليه السلام- بأم إسماعيل وإسماعيل وهو صغير ترضعه, حتى قدم بهما مكة,
ومع أم إسماعيل شنة فيها ماء تشرب منها وتدر على ابنها, وليس معها زاد.
يقول سعيد بن جبير: قال ابن عباس: فعمد بهما إلى دوحة فوق زمزم في أعلى
المسجد -يشير لنا بين البئر وبين الصفة- يقول: فوضعهما تحتها، ثم توجه
إبراهيم خارجًا على دابته واتبعت أم إسماعيل أثره حتى أوفى إبراهيم
بكدا.
يقول ابن عباس: فقالت له أم إسماعيل: إلى من تتركها وابنها؟ قال: إلى
الله عز وجل قالت: رضيت بالله.
فرجعت أم إسماعيل تحمل ابنها حتى قعدت تحت الدوحة فوضعت ابنها إلى
جنبها, وعلقت شنتها تشرب منها وتدر على ابنها حتى فني ماء شنتها فانقطع
درها, فجاع ابنها فاشتد جوعه حتى نظرت إليه أمه يتشحط قال: فحسبت أم
إسماعيل أنه يموت فأحزنها.
يقول ابن عباس: قالت أم إسماعيل: لو تغيبت عنه حتى لا أرى موته، يقول
ابن عباس: فعمدت أم إسماعيل إلى الصفا حين رأته مشرفًا تستوضح عليه
-أي: ترى أحدًا بالوادي- ثم نظرت إلى المروة ثم قالت: لو مشيت بين هذين
الجبلين تعللت, حتى يموت الصبي ولا أراه.
قال ابن عباس: فمشت بينهما أم إسماعيل ثلاث مرات أو أربعا, ولا تجيز
بطن الوادي في ذلك إلا رملًا.
يقول ابن عباس: ثم رجعت أم إسماعيل إلى ابنها فوجدته ينشغ1 كما تركته
فأحزنها, فعادت إلى الصفا تتعلل حتى يموت ولا تراه, فمشت بين الصفا
والمروة كما مشت أول مرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لدى ابن الأثير في النهاية: "النشغ: الشهيق حتى يكاد يبلغ به الغشي.
ومنه حديث أم إسماعيل: "فإذا الصبي ينشغ للموت" وقيل: معناه: يمتص
بفيه.
ج / 1 ص -32-
يقول ابن عباس: حتى كان مشيها بينهما سبع
مرات، قال ابن عباس: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم:
"فلذلك طاف الناس بين الصفا والمروة".
قال: فرجعت أم إسماعيل تطالع ابنها فوجدته كما تركته ينشغ, فسمعت صوتًا
فراث1 عليها ولم يكن معها أحد غيرها, فقالت: قد أسمع صوتك فأغثني إن
كان عندك خير.
قال: فخرج لها جبريل -عليه السلام- فاتبعته حتى ضرب برجله مكان البئر
-يعني: زمزم- فظهر ماء فوق الأرض حيث فحص جبريل.
يقول ابن عباس: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم:
"فحاضته أم إسماعيل بتراب ترده؛ خشية أن يفوتها قبل أن تأتي بشنتها,
فاستقت وشربت ودرت على ابنها".
حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد
بن إسحاق قال: بلغني أن ملكًا أتى هاجر أم إسماعيل حين أنزلها إبراهيم
بمكة قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت, فأشار لها إلى
البيت وهو ربوة حمراء مدرة فقال لها: هذا أول بيت وضع للناس في الأرض
وهو بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه للناس.
قال ابن جريج: وبلغني أن جبريل -عليه السلام- حين هزم2 بعقبه3 في موضع
زمزم، قال لأم إسماعيل, وأشار لها إلى موضع البيت: هذا أول بيت وضع
للناس، وهو بيت الله العتيق, واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه للناس
ويعمرانه فلا يزال معمورًا محرمًا مكرمًا إلى يوم القيامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، وهو الصواب. ولدى ابن الأثير في النهاية: "راث علينا
خبر فلان يريث: إذا أبطأ" ومعه الحديث: "وعد جبريل -عليه السلام- رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأتيه فراث عليه" ورواية أ: "قرأت" وفي
ب: "آب".
2 لدى ابن الأثير في النهاية "هزم" وفيه: "إن زمزم هزمة جبريل" أي:
ضربها برجله فنبع الماء.
3 تحرف في "أ، ب" إلى "بعقبة".
ج / 1 ص -33-
قال ابن جريج: فماتت أم إسماعيل قبل أن
يرفعه إبراهيم وإسماعيل, ودفنت في موضع الحجر.
حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني علي بن عبد
الله بن الوازع, عن أيوب السختياني, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس أن
الملك الذي أخرج زمزم لهاجر قال لها: وسيأتي أبو هذا الغلام فيبني
بيتًا هذا مكانه, وأشار لها إلى موضع البيت ثم انطلق الملك.
ما ذكر من نزول جرهم مع أم إسماعيل في الحرم:
حدثني جدي, عن مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن جريج, عن كثير بن كثير, عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أخرج الله ماء زمزم لأم إسماعيل
فبينا هي على ذلك إذ مر ركب من جرهم, قافلين من الشام في الطريق
السفلى, فرأى الركب الطير على الماء فقال بعضهم: ما كان بهذا الوادي من
ماء ولا أنيس!.
يقول ابن عباس: فأرسلوا جريين1 لهم حتى أتيا أم إسماعيل فكلماها ثم
رجعا إلى ركبهما, فأخبراهم بمكانها.
قال: فرجع الركب كلهم حتى حيوها فردت عليهم وقالوا: لمن هذا الماء؟
قالت أم إسماعيل: هو لي، قالوا لها: أتأذنين لنا أن ننزل معك عليه؟
قالت: نعم.
يقول ابن عباس: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم: "ألفى2 ذلك أم
إسماعيل وقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لدى ابن الأثير في النهاية: "جرا" وفي حديث أم إسماعيل: "فأرسلوا
جريا" أي: رسولًا.
2 في أ، ب: "ألقى" بالقاف، والمثبت رواية الأصل وهي الصواب، وألفاه:
وجده وصادفه.
ج / 1 ص -34-
أحبت الأنس فنزلوا وبعثوا إلى أهاليهم,
فقدموا إليهم وسكنوا تحت الدوح، واعترشوا عليها العروش1 فكانت معهم هي
وابنها، حتى ترعرع الغلام ونفسوا2 فيه وأعجبهم.
وتوفيت أم إسماعيل وطعامهم الصيد يخرجون من الحرم, ويخرج معهم إسماعيل
فيصيد، فلما بلغ أنكحوه جارية منهم، قال: وهي في كتاب المبتدأ عن عباد
بن سلمة، عن محمد بن إسحاق: اسم امرأة إسماعيل: عمارة بنت سعيد بن
أسامة.
يقول ابن عباس: فأقبل إبراهيم من الشام يقول: حتى أطالع تركتي, فأقبل
إبراهيم -عليه السلام- حتى قدم مكة فوجد امرأة إسماعيل فسألها عنه
فقالت: هو غائب، ولم تلن له في القول فقال لها إبراهيم: قولي لإسماعيل:
قد جاء بعدك شيخ كذا وكذا وهو يقرئ عليك السلام ويقول لك: غير عتبة
بيتك؛ فإني لم أرضها.
يقول ابن عباس: وكان إسماعيل عليه السلام كلما جاء سأل أهله: هل جاءكم
أحد بعدي؟ فلما رجع سأل أهله فقالت امرأته: قد جاء بعدك شيخ فنعتته له
فقال لها إسماعيل: قلت له شيئًا؟ قالت: لا قال: فهل قال لك من شيء؟
قالت: نعم, أقرئي عليه السلام وقولي له: غير عتبة بيتك فإني لم أرضها
لك, قال إسماعيل: أنت عتبة بيتي فارجعي إلى أهلك, فردها إسماعيل إلى
أهلها فأنكحوه امرأة أخرى.
يقول ابن عباس: ثم لبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث, ثم رجع إبراهيم
فوجد إسماعيل غائبًا ووجد امرأته الآخرة3 فوقف فسلم فردت عليه السلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أ، ب: "العرش" والمثبت رواية الأصل.
2 لدى ابن الأثير في النهاية: "نفس". وفي حديث إسماعيل -عليه السلام:
"أنه تعلم العربية وأنفسهم" أي: أعجبهم, وصار عندهم نفيسًا.
3 كذا في الأصل أ، وفي ب: "الأخرى".
ج / 1 ص -35-
واستنزلته وعرضت عليه الطعام والشراب فقال:
ما طعامكم وشرابكم؟ قالت: اللحم والماء قال: هل من حب أو غيره من
الطعام؟ قالت: لا قال: بارك الله لكم في اللحم والماء.
قال ابن عباس: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"لو وجد عندها يومئذ حبا لدعا لهم بالبركة فيه, فكانت أرضًا ذات زرع".
ثم ولى إبراهيم -عليه السلام- وقال: قولي له: قد جاء بعدك شيخ فقال:
إني وجدت عتبة بيتك صالحة فاقررها, فرجع إسماعيل عليه السلام إلى أهله
فقال: هل جاءكم بعدي أحد؟ قالت: نعم قد جاء بعدك شيخ كذا وكذا قال: فهل
عهد إليكم من شيء؟ قالت: نعم يقول: اني وجدت عتبة بيتك صالحة فاقررها.
ما ذكر من بناء إبراهيم -عليه السلام- الكعبة:
حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي, قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن
ابن جريج, عن كثير بن كثير, عن سعيد بن جبير قال: حدثنا عبد الله بن
عباس قال: لبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث, ثم جاء الثالثة فوجد
إسماعيل -عليه السلام- قاعدًا تحت الدوحة التي بناحية البئر يبري نبلًا
أو نبالًا له, فسلم عليه ونزل إليه فقعد معه, فقال إبراهيم: يا
إسماعيل, إن الله تعالى قد أمرني بأمر فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما
أمرك، فقال إبراهيم: يا إسماعيل, أمرني ربي أن أبني له بيتًا، قال له
إسماعيل: وأين؟
يقول ابن عباس: فأشار له إلى أكمة مرتفعة على ما حولها عليها رضراض من
حصباء, يأتيها السيل من نواحيها ولا يركبها.
يقول ابن عباس: فقاما يحفران عن القواعد, ويحفرانها ويقولان: ربنا تقبل
ج / 1 ص -36-
منا إنك سميع الدعاء
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
ويحمل له إسماعيل الحجارة على رقبته ويبني الشيخ إبراهيم, فلما ارتفع
البناء وشق على الشيخ إبراهيم تناوله قرب له إسماعيل هذا الحجر -يعني
المقام- فكان يقوم عليه ويبني ويحوله في نواحي البيت, حتى انتهى إلى
وجه البيت. يقول ابن عباس: فلذلك سمي مقام إبراهيم لقيامه عليه.
حدثني مهدي بن أبي المهدي، قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن
معمر, عن أيوب السختياني وكثير بن كثير -يزيد أحدهما على صاحبه- عن
سعيد بن جبير في حديث حدث به, طويل عن ابن عباس قال: فجاء إبراهيم
وإسماعيل يبري نبلًا له أو نباله تحت الدوحة قريبًا من زمزم, فلما رآه
قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بولده, والولد بوالده.
قال معمر: وسمعت رجلًا يقول: بكيا حتى أجابتهما الطير. قال سعيد: فقال:
يا إسماعيل إن الله عز وجل قد أمرني بأمر قال: فأطع ربك فيما أمرك قال:
وتعينني؟ قال: وأعينك قال: فإن الله تعالى قد أمرني أن أبني له بيتًا
ههنا, فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت.
حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، قال: أخبرني ابن جريج قال: قال
مجاهد: أقبل إبراهيم والسكينة والصرد والملك من الشام فقالت السكينة:
يا إبراهيم ربض علي البيت؛ فلذلك لا يطوف بالبيت ملك من هذه الملوك ولا
أعرابي نافر إلا رأيت عليه السكينة قال: وقال ابن جريج: أقبلت معه
السكينة لها رأس كرأس الهرة, وجناحان.
وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن ابن جريج قال: قال
علي بن أبي طالب: أقبل إبراهيم عليه السلام والملك والسكينة والصرد
دليلًا حتى تبوأ البيت الحرام كما تبوأت العنكبوت بيتها, فحفر فأبرز عن
ربض أمثال خلف الإبل لا يحرك الصخرة إلا ثلاثون رجلًا. قال: ثم قال
لإبراهيم: "قم فابن لي بيتًا" قال: يا رب وأين؟ قال: "سنريك"
ج / 1 ص -37-
قال: فبعث الله تعالى سحابة فيها رأس يكلم1
إبراهيم, فقال: يا إبراهيم, إن ربك يأمرك أن تخط قدر هذه السحابة, فجعل
ينظر إليها ويأخذ قدرها فقال له الرأس: أقد فعلت؟ قال: نعم, فارتفعت
السحابة فأبرز عن أس ثابت من الأرض, فبناه إبراهيم عليه السلام.
قال: وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد
بن أبان, عن ابن إسحاق السبيعي, عن حارثة بن مضرب, عن علي بن أبي طالب
في حديث حدث به عن زمزم قال: ثم نزلت السكينة كأنها غمامة أو ضبابة في
وسطها كهيئة الرأس يتكلم يقول: يا إبراهيم,, خذ قدري من الأرض، لا تزد
ولا تنقص، فخط فذلك بكة وما حواليه مكة.
حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه أنه
أخبر2 قال: لما ابتعث الله تعالى إبراهيم خليله ليبني له البيت, طلب
الأساس الأول الذي وضع بنو آدم في موضع الخيمة التي عزى الله بها آدم
-عليه السلام- من خيام الجنة حين وضعت له بمكة في موضع البيت الحرام,
فلم يزل إبراهيم يحفر حتى وصل إلى القواعد التي أسس بنو آدم في زمانهم
في موضع الخيمة، فلما وصل إليها أظل الله له مكان البيت بغمامة، فكانت
حفاف البيت الأول، ثم لم تزل راكدة على حفافه تظل إبراهيم وتهديه مكان
القواعد حتى رفع القواعد قامة, ثم انكشطت الغمامة فذلك قوله عز وجل:
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] أي: الغمامة التي ركدت على الحفاف ليهتدي بها مكان
القواعد, فلم يزل والحمد لله منذ يوم رفعه الله معمورًا.
حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني
هاشم قال: أخبرنا حماد, عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، وفي أ: "يتكلم" وفي ب: "تكلم".
2 كذا في الأصل أ, وفي ب: "أخبره".
ج / 1 ص -38-
عن علي بن أبي طالب في قوله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ
إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}
[آل عمران: 96, 97] قال: إنه ليس بأول بيت, كان نوح في البيوت قبل
إبراهيم, وكان إبراهيم في البيوت, ولكنه أول بيت وضع للناس
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ
آمِنًا} هذه الآيات قال: إن إبراهيم أمر ببناء البيت فضاق به ذرعًا فلم يدر
كيف يبني, فأرسل الله تعالى إليه السكينة وهي ريح خَجُوج1 لها رأس حتى
تطوقت مثل الحجفة فبنى عليها وكان يبني كل يوم سافا ومكة يومئذ شديدة
الحر، فلما بلغ موضع الحجر قال لإسماعيل: اذهب فالتمس حجرًا أضعه ههنا؛
ليهدى الناس به.
فذهب إسماعيل يطوف في الجبال وجاء جبريل بالحجر الأسود, وجاء إسماعيل
فقال: من أين لك هذا الحجر؟ قال: من عند من لم يتكل على بنائي وبنائك.
ثم انهدم فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته قبيلة من جرهم، ثم انهدم
فبنته قريش. فلما أرادوا أن يضعوا الحجر تنازعوا فيه فقالوا: أول رجل
يدخل علينا من هذا الباب فهو يضعه، فجاء رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فأمر بثوب فبسط ثم وضعه فيه, ثم قال: "ليأخذ من كل قبيلة رجل من ناحية الثوب" ثم رفعوه ثم أخذه رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فوضعه.
حدثني جدي قال: حدثني سفيان بن عيينة, عن بشر بن عاصم, عن سعيد بن
المسيب قال: أخبرني علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- قال: أقبل إبراهيم
من أرمينية معه السكينة تدله حتى تبوأ البيت كما تبوأت العنكبوت بيتها,
فرفعوا عن أحجار الحجر يطيقه أو لا يطيقه ثلاثون رجلًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لدى ابن الأثير في النهاية "خجج". في حديث علي -رضي الله عنه- وذكر
بناء الكعبة "فبعث الله السكينة، وهي ريح خجوج، فتطوقت بالبيت" يقال:
ريح خجوج أي: شديدة المرور في غير استواء.
ج / 1 ص -39-
حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد
الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر, عن قتادة في قوله عز وجل:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] قال: التي كانت
قواعد البيت قبل ذلك، قال الخزاعي: وحدثناه أبو عبيد الله بإسناد عن
سفيان مثله.
حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني
هاشم قال: حدثنا أبو عوانة, عن ابن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن
عباس قال: أما والله ما بنياه بقصة ولا مدر ولا كان معهما من الأعوان
والأموال ما يسقفانه, ولكنهما أعلماه فطافا به.
حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن مجاهد عن الشعبي قال: لما أمر
إبراهيم أن يبني البيت وانتهى إلى موضع الحجر قال لإسماعيل: ائتني بحجر
ليكون علمًا للناس يبتدئون منه الطواف, فأتاه بحجر فلم يرضه فأتى
إبراهيم بهذا الحجر ثم قال: أتاني به من لم يكلني على حجرك.
وحدثني جدي, قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن بشر بن
عاصم قال: أقبل إبراهيم من أرمينية معه السكينة والملك والصرد دليلًا
يتبوأ البيت كما تبوأت العنكبوت بيتها, فرفع صخرة فما رفعها عنه إلا
ثلاثون رجلًا فقالت السكينة: ابن علي فلذلك لا يدخله أعرابي نافر ولا
جبار إلا رأيت عليه السكينة.
وحدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا بشر بن السري البصري, عن حماد بن
زيد, عن أيوب, عن أبي قلابة قال: قال الله تعالى: "يا آدم, إني مهبط
معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي"
فلم يزل كذلك حتى كان زمن الطوفان فرفع، حتى بوأ لإبراهيم مكانه فبناه
من خمسة أجبل من حرا، وثبير، ولبنان، والطور، والجبل الأحمر.
وحدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عمر بن سهل, عن يزيد بن
ج / 1 ص -40-
نافع, عن سعيد, عن قتادة في قوله عز وجل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ} [البقرة: 127] قال: ذكر لنا أنه بناه من خمسة أجبل من طور سينا،
وطور زيتا، ولبنان، والجودي، وحرا، وذكر لنا أن قواعده من حراء.
حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال:
حدثنا العلاء, عن عمر بن مرة عن يوسف بن ماهك قال: قال عبد الله بن
عمرو: إن جبريل -عليه السلام- هو الذي نزل عليه بالحجر من الجنة، وإنه
وضعه حيث رأيتم، وإنكم لن تزالوا بخير ما دام بين ظهرانيكم، فتمسكوا به
ما استطعتم, فإنه يوشك أن يجيء فيرجع به من حيث جاء به.
حدثني جدي عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق
قال: لما أمر إبراهيم -خليل الله تعالى- أن يبني البيت الحرام أقبل من
أرمينية على البراق معه السكينة لها وجه يتكلم، وهي بعد ريح هفافة،
ومعه ملك يدله على موضع البيت حتى انتهى إلى مكة وبها إسماعيل, وهو
يومئذ ابن عشرين سنة وقد توفيت أمه قبل ذلك ودفنت في موضع الحجر، فقال:
يا إسماعيل, إن الله تعالى قد أمرني أن أبني له بيتًا، فقال له
إسماعيل: وأين موضعه؟ قال: فأشار له الملك إلى موضع البيت قال: فقاما
يحفران عن القواعد ليس معهما غيرهما, فبلغ إبراهيم الأساس أساس آدم
الأول فحفر عن ربض في البيت, فوجد حجارة عظامًا ما يطيق الحجر منها
ثلاثون رجلا، ثم بنى على أساس آدم الأول وتطوقت السكينة كأنها حية على
الأساس الأول، وقالت: يا إبراهيم, ابن علي, فبنى عليها فلذلك لا يطوف
بالبيت أعرابي نافر ولا جبار إلا رأيت عليه السكينة, فبنى البيت وجعل
طوله في السماء تسعة أذرع وعرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعًا من
الركن الأسود إلى الركن الشامي الذي عند الحجر من وجهه, وجعل عرض ما
بين الركن الشامي إلى الركن الغربي الذي فيه الحجر اثنين وعشرين
ذراعًا، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني واحدا
وثلاثين ذراعًا،
ج / 1 ص -41-
وجعل عرض شقها اليماني من الركن الأسود إلى
الركن اليماني عشرين ذراعًا؛ فلذلك سميت الكعبة لأنها على خلقة الكعب.
قال: وكذلك بنيان أساس آدم عليه السلام، وجعل بابها بالأرض غير مبوب
حتى كان تبع أسعد الحميري هو الذي جعل لها بابًا وغلقًا فارسيًّا،
وكساها كسوة تامة ونحر عندها.
قال: وجعل إبراهيم -عليه السلام- الحجر إلى جنب البيت عريشًا من أراك
تقتحمه العنز, فكان زربًا لغنم إسماعيل.
قال: وحفر إبراهيم -عليه السلام- جُبًّا في بطن البيت على يمين من دخله
يكون خزانة للبيت, يلقى فيه ما يهدى للكعبة, وهو الجب الذي نصب عليه
عمرو بن لحي هبل الصنم الذي كانت قريش تعبده وتستقسم عنده بالأزلام حين
جاء به من هيت من أرض الجزيرة.
قال: وكان إبراهيم يبني وينقل له إسماعيل الحجارة على رقبته, فلما
ارتفع البنيان قرب له المقام فكان يقوم عليه ويبني ويحوله إسماعيل في
نواحي البيت, حتى انتهى إلى موضع الركن الأسود.
قال إبراهيم لإسماعيل: يا إسماعيل, أبغني حجرًا أضعه ههنا يكون للناس
علمًا يبتدئون منه الطواف. فذهب إسماعيل يطلب له حجرًا ورجع وقد جاءه
جبريل بالحجر الأسود, وكان الله عز وجل استودع الركن أبا قبيس حين
أغرق الله الأرض زمن نوح، وقال: "إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له".
قال: فجاءه إسماعيل فقال له: يا أبت, من أين لك هذا؟ قال: جاءني به من
لم يكلني إلى حجرك, جاء به جبريل، فلما وضع جبريل الحجر في مكانه وبنى
عليه إبراهيم وهو حينئذ يتلألأ تلألؤًا من شدة بياضه، فأضاء نوره
شرقًا، وغربًا، ويمنًا، وشامًا، قال: فكان نوره يضيء إلى منتهى أنصاب
الحرم
ج / 1 ص -42-
من كل ناحية من نواحي الحرم.
قال: وإنما شدة سواده؛ لأنه أصابه الحريق مرة بعد مرة في الجاهلية،
والإسلام.
فأما حريقه في الجاهلية، فإنه ذهبت امرأة في زمن قريش تجمر الكعبة,
فطارت شرارة في أستار الكعبة فاحترقت الكعبة واحترق الركن الأسود واسود
وتوهنت الكعبة، فكان هو الذي هاج قريشًا على هدمها وبنائها. وأما حريقه
في الإسلام ففي عصر ابن الزبير أيام حاصره الحصين بن نمير الكندي،
احترقت الكعبة واحترق الركن فتفلق بثلاث فلق, حتى شعبه ابن الزبير
بالفضة فسواده لذلك.
قال: ولولا ما مس الركن من أنجاس الجاهلية وأرجاسها ما مسه ذو عاهة إلا
شفي.
قال سعيد بن سالم: قال ابن جريج: وكان ابن الزبير بنى الكعبة من الذرع
على ما بناها إبراهيم عليه السلام قال: وهي مكعبة على خلقة الكعب؛
فلذلك سميت الكعبة.
قال: ولم يكن إبراهيم سقف الكعبة ولا بناها بمدر, وإنما رضمها رضمًا1.
حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال:
السكينة لها رأس كرأس الهرة، وجناحان.
حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا بشر بن السري قال: حدثنا قيس بن
الربيع, عن سلمة بن كهيل, عن أبي الأحوص, عن علي بن أبي طالب قال:
السكينة لها رأس كرأس الإنسان, ثم هي بعد ريح هفَّافة.
حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا الفزاري, عن جويبر عن الضحاك قال:
السكينة: الرحمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لدى ابن الأثير في النهاية "رضم" الرضام: دون الهضاب، وقيل: صخور
بعضها على بعض.
ج / 1 ص -43-
ذكر حج إبراهيم -عليه السلام-
وأذانه بالحج وحج الأنبياء بعده، وطوافه وطواف الأنبياء بعده:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان
بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: لما فرغ إبراهيم -خليل الرحمن-
من بناء البيت الحرام جاءه جبريل فقال: طف به سبعًا, فطاف به سبعًا هو
وإسماعيل يستلمان الأركان كلها في كل طواف، فلما أكملا سبعًا هو
وإسماعيل صليا خلف المقام ركعتين قال: فقام معه جبريل فأراه المناسك
كلها: الصفا والمروة ومنى ومزدلفة وعرفة.
قال: فلما دخل منى وهبط من العقبة تمثل له إبليس عند جمرة العقبة، فقال
له جبريل: ارمه، فرماه إبراهيم بسبع حصيات فغاب عنه، ثم برز له عند
الجمرة الوسطى فقال له جبريل: ارمه، فرماه بسبع حصيات فغاب عنه، ثم برز
له عند الجمرة السفلى فقال له جبريل: ارمه، فرماه بسبع حصيات مثل حصى
الخذف فغاب عنه إبليس.
ثم مضى إبراهيم في حجه وجبريل يوقفه على المواقف ويعلمه المناسك حتى
انتهى إلى عرفة، فلما انتهى إليها قال له جبريل: أعرفت مناسكك؟ قال
إبراهيم: نعم قال: فسميت عرفات بذلك؛ لقوله: أعرفت مناسكك؟
قال: ثم أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج قال: فقال إبراهيم: يا رب
ما يبلغ صوتي قال الله سبحانه: "أذن وعلي البلاغ" قال: فعلا على المقام
فأشرف به حتى صار أرفع الجبال وأطولها, فجمعت له الأرض يومئذ سهلها
وجبلها وبرها وبحرها وإنسها وجنها, حتى أسمعهم جميعًا.
قال: فأدخل إصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه1 يمنًا وشامًا وشرقًا وغربًا
وبدأ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، ب. وفي أ: "يوجهه".
ج / 1 ص -44-
بشق اليمن فقال: أيها الناس, كتب عليكم
الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم، فأجابوه من تحت التخوم السبعة,
ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أقطار الأرض كلها: لبيك
اللهم لبيك قال: وكانت الحجارة على ما هي عليه اليوم, إلا أن الله عز
وجل أراد أن يجعل المقام آية فكان أثر قدميه في المقام إلى اليوم قال:
أفلا تراهم اليوم يقولون: لبيك اللهم لبيك؟ قال: فكل من حج إلى اليوم
فهو ممن أجاب إبراهيم, وإنما حجهم على قدر إجابتهم يومئذ.
فمن حج حجتين فقد كان أجاب مرتين، أو ثلاثًا فثلاثًا على هذا, قال:
وأثر قدمي إبراهيم في المقام آية وذلك قوله تعالى:
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ
آمِنًا} [آل عمران: 97].
وقال ابن إسحاق: وبلغني أن آدم -عليه السلام- كان استلم الأركان كلها
قبل إبراهيم, وحجه إسحاق وسارة من الشام، قال: وكان إبراهيم -عليه
السلام- يحجه كل سنة على البراق، قال: وحجت بعد ذلك الأنبياء والأمم.
وحدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: حج
إبراهيم وإسماعيل ماشيين.
قال أبو محمد عبيد الله المخزومي: حدثنا ابن عيينة بإسناده مثله.
حدثنا الأزرقي قال: وحدثني جدي قال: حدثنا يحيى بن سليم, عن ابن خيثم
قال: سمعت عبد الرحمن بن سابط يقول: سمعت عبد الله بن ضمرة السلولي
يقول: ما بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبر تسعة وتسعين نبيًّا, جاءوا
حجاجًا فقبروا هنالك.
حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني
هاشم, عن حماد بن سلمة, عن عطاء بن السائب, عن محمد بن سابط عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- قال:
"كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق بمكة
ج / 1 ص -45-
فيتعبد فيها النبي ومن معه حتى يموت، فمات بها
نوح، وهود، وصالح, وشعيب، وقبورهم بين زمزم والحجر".
وحدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن خصيف عن
مجاهد أنه قال: حج موسى النبي على جمل أحمر فمر بالروحاء عليه عباءتان
قطوانيتان, متزرا بإحداهما مرتديا بالأخرى, فطاف بالبيت، ثم طاف بين
الصفا والمروة فبينا هو بين الصفا والمروة إذ سمع صوتًا من السماء وهو
يقول: "لبيك عبدي أنا معك" فخر موسى ساجدًا.
حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن خصيف عن مجاهد
أنه قال: حج خمسة وسبعون نبيا كلهم قد طاف بالبيت, وصلى في مسجد منى,
فإن استطعت أن لا تفوتك الصلاة في مسجد منى فافعل.
حدثني جدي قال: حدثنا مروان بن معاوية, عن الأشعث بن سوار, عن عكرمة عن
ابن عباس قال: صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا كلهم مخطمون بالليف. قال
مروان بن معاوية: يعني: رواحلهم.
حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرنا خصيف
بن عبد الرحمن عن مجاهد أنه حدثه قال: لما قال إبراهيم: ربنا أرنا
مناسكنا، أمر أن يرفع القواعد من البيت، ثم أري الصفا والمروة وقيل:
هذا من شعائر الله.
قال: ثم خرج به جبريل, فلما مر بجمرة العقبة إذا بإبليس عليها فقال
جبريل: كبر وارمه, ثم ارتفع إبليس إلى الجمرة الوسطى فقال له جبريل:
كبر وارمه, ثم ارتفع إبليس إلى الجمرة القصوى فقال له جبريل: كبر
وارمه، ثم انطلق إلى المشعر الحرام ثم أتى به عرفة, فقال له جبريل: هل
عرفت ما أريتك, ثلاث مرات؟ قال: نعم قال: فأذن في الناس بالحج قال: كيف
أقول؟ قال: قل: يا أيها الناس أجيبوا ربكم ثلاث مرات, قال: فقالوا:
لبيك
ج / 1 ص -46-
اللهم لبيك قال: فمن أجاب إبراهيم يومئذ
فهو حاجّ.
قال خصيف: قال مجاهد حين حدثني بهذا الحديث: أهل القدر لا يصدقون بهذا
الحديث.
حدثني جدي قال عثمان: وأخبرني موسى بن عبيدة قال: لما أُمر إبراهيم
بالأذان في الناس بالحج استدار بالأرض فدعا في كل وجه: يا أيها الناس
أجيبوا ربكم وحجوا قال: فلبى الناس من كل مشرق ومغرب, وتطأطأت الجبال
حتى بعد صوته.
قال عثمان: وأخبرني ابن جريج، قال: قال ابن عباس -رضوان الله عليه:
{يَأْتُوكَ رِجَالًا}:
مشاة,
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ}: بعيد.
قال غيره:
{يَأْتُوكَ رِجَالًا}: مشاة على أرجلهم,
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}: لا يدخل الحرم بعير إلا وهو
ضامر,
{يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}: بعيد.
قال عطاء:
{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}: أبرزها لنا, وأعلمناها.
وقال مجاهد: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}: مذابحنا.
قال: وأخبرني عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثني بعض
أهل العلم أن عبد الله بن الزبير قال لعبيد بن عمير الليثي: كيف بلغك
أن إبراهيم -عليه السلام- دعا إلى الحج؟ قال: بلغني أنه لما رفع
إبراهيم القواعد وإسماعيل وانتهى إلى ما أراد الله سبحانه من ذلك وحضر
الحج, استقبل اليمن فدعا إلى الله عز وجل وإلى حج بيته, فأجيب أن: لبيك
لبيك.
ثم استقبل المشرق, فدعا إلى الله وإلى حج بيته فأجيب أن: لبيك لبيك،
وإلى المغرب بمثل ذلك، وإلى الشام بمثل ذلك.
ثم حج إسماعيل ومن معه من المسلمين من جرهم, وهم سكان الحرم يومئذ مع
إسماعيل وهم أصهاره، وصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء بمنى, ثم
بات بهم حتى أصبح وصلى بهم الغداة، ثم غدا بهم إلى
ج / 1 ص -47-
نمرة فقام بهم هنالك حتى إذا مالت الشمس
جمع بين الظهر والعصر بعرفة في مسجد إبراهيم, ثم راح بهم إلى الموقف من
عرفة فوقف بهم, وهو الموقف من عرفة الذي يقف عليه الإمام يريه ويعلمه.
فلما غربت الشمس دفع به وبمن معه حتى أتى المزدلفة، فجمع بين الصلاتين
المغرب والعشاء الآخرة, ثم بات حتى إذا طلع الفجر صلى بهم صلاة الغداة،
ثم وقف به على قزح من المزدلفة وبمن معه وهو الموقف الذي يقف به
الإمام، حتى إذا أسفر غير مشرق دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف ترمى
الجمار، حتى فرغ له من الحج كله، وأذن به في الناس.
ثم انصرف إبراهيم راجعًا إلى الشام, فتوفي بها عليه السلام.
قال عثمان: أخبرني ابن إسحاق قال: أمر الله -عز وجل- إبراهيم -عليه
السلام- بالحج وإقامته للناس، وأراه مناسك البيت, وشرع له فرائضه. وكان
إبراهيم يومئذ حين أمر بذلك ببيت المقدس من إيلياء.
قال عثمان: وأخبرني زهير بن محمد قال: لما فرغ إبراهيم من البيت الحرام
قال: أي رب, إني قد فعلت فأرنا مناسكنا, فبعث الله تعالى إليه جبريل
فحج به حتى إذا جاء يوم النحر عرض له إبليس، فقال: احصب, فحصب بسبع
حصبات, ثم الغد ثم اليوم الثالث فملأ ما بين الجبلين.
ثم علا على ثبير، فقال: يا عباد الله أجيبوا ربكم, فسمع دعوته من بين
الأبحر ممن في قلبه مثقال ذرة من ايمان, فقالوا: لبيك اللهم لبيك قال:
ولم يزل على وجه الأرض سبعة من المسلمين فصاعدًا, لولا ذاك لأهلكت
الأرض ومن عليها.
قال عثمان: وأخبرني زهير بن محمد أن أول من أجاب إبراهيم حين أذن
بالحج, أهل اليمن.
ج / 1 ص -48-
وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن
ساج قال: أخبرني عثمان بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح أن موسى بن عمران
طاف بين الصفا والمروة وعليه عباءة قطوانية وهو يقول: لبيك اللهم لبيك,
فأجابه ربه -عز وجل: "لبيك يا موسى وها أنا معك".
وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: حدثني غالب بن
عبيد الله قال: سمعت مجاهدًا يذكر عن ابن عباس -رضوان الله عليه- قال:
مر بصفاح الروحاء ستون نبيا، إبلهم مخطمة بالليف.
قال عثمان: وأخبرني غالب بن عبيد الله قال: سمعت مجاهدًا يذكر عن ابن
عباس قال: أقبل موسى -نبي الله تعالى- يلبي تجاوبه جبال الشام, على جمل
أحمر, عليه عباءتان قطوانيتان1.
قال عثمان: وأخبرني ابن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم, عن عروة بن
الزبير أنه قال: بلغني أن البيت وضع لآدم -عليه السلام- يطوف به ويعبد
الله عنده, وأن نوحًا قد حجه وجاءه وعظمه قبل الغرق, فلما أصاب الأرض
الغرق حين أهلك الله قوم نوح أصاب البيت ما أصاب الأرض من الغرق, فكانت
ربوة حمراء معروف مكانه, فبعث الله عز وجل هودًا إلى عاد فتشاغل بأمر
قومه حتى هلك ولم يحجه, ثم بعث الله تعالى صالحًا عليه السلام إلى ثمود
فتشاغل حتى هلك ولم يحجه، ثم بوأه الله -عز وجل- لإبراهيم فحجه, وعلم
مناسكه، ودعا إلى زيارته، ثم لم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا حجه.
قال عثمان: وأخبرني ابن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم, عن سعيد بن
المسيب, عن رجل كان من أهل العلم أنه كان يقول: كأني أنظر إلى موسى بن
عمران متهبطًا2 من هرشى [بين رابغ والأبواء]3 عليه عباءة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لدى ابن الأثير في النهاية "قطا" فيه: "كأني أنظر إلى موسى بن عمران
في هذا الوادي محرمًا بين قطوانيتين" القطوانية: عباءة بيضاء قصيرة
الخمل.
2 كذا في الأصل, وفي سائر الأصول: "منهبطا" وتهبّط: انحدر في بطء.
3 ما بين حاصرتين من الأصل، وساقط من سائر الأصول. ولدى ابن الأثير في
النهاية "هرش" ومنه ذكر "ثنية هرشى" وهي ثنية بين مكة والمدينة, وقيل:
هرشى: جبل قرب الجحفة, ولدى ياقوت: "هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من
الجحفة, ترى البحر".
ج / 1 ص -49-
قطوانية يلبي بحجه.
قال عثمان: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن
عباس -رضوان الله عليه- أنه كان يقول: لقد سلك فج الروحاء سبعون نبيًّا
حجاجًا عليهم لباس الصوف, مخطمي إبلهم بحبال الليف، ولقد صلى في مسجد
الخيف سبعون نبيًّا.
حدثني جدي قال: قال عثمان بن ساج: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثني
طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي أن موسى -عليه السلام- حين حج طاف
بالبيت فلما خرج إلى الصفا لقيه جبريل عليه السلام فقال: يا صفي الله,
إنه الشد, إذا هبطت بطن الوادي فاحتزم موسى نبي الله على وسطه بثوبه,
فلما انحدر عن الصفا وبلغ بطن الوادي سعى وهو يقول: لبيك اللهم لبيك
قال: يقول الله تعالى: "لبيك يا موسى, ها أنا ذا معك".
قال عثمان: وأخبرني صادق أنه بلغه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال:
"لقد مر بفج الروحاء"
-أو قال: "قد مر بهذا الفج- سبعون نبيا على نوق حمر خطمها
الليف، ولبوسهم العباء، وتلبيتهم شتى، منهم يونس بن متى فكان يونس
يقول: لبيك فراج الكرب لبيك، وكان موسى يقول: لبيك, أنا عبدك, لبيك،
قال: وتلبية عيسى: لبيك, أنا عبدك ابن أمتك بنت عبديك, لبيك".
قال عثمان: وأخبرني مقاتل قال: في المسجد الحرام بين زمزم والركن قبر
سبعين نبيا, منهم: هود، وصالح، وإسماعيل، وقبر آدم، وإبراهيم، وإسحاق،
ويعقوب، ويوسف في بيت المقدس.
حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه قال: خطب
صالح الذين آمنوا معه فقال لهم: إن هذه دار قد سخط الله عليها وعلى
أهلها فاظعنوا عنها؛ فإنها ليست لكم بدار قالوا: رأينا لرأيك
ج / 1 ص -50-
تبع فمرنا نفعل قال: تلحقون بحرم الله
وأمنه لا أرى لكم دونه، فأهلوا من ساعتهم بالحج ثم أحرموا في العباء
وارتحلوا قلصا حمرا مخطمة بحبال الليف, ثم انطلقوا آمين البيت الحرام
حتى وردوا مكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا, فتلك قبورهم في غربي الكعبة
بين دار الندوة ودار بني هاشم. وكذلك فعل هود ومن آمن معه, وشعيب ومن
آمن معه.
وحدثني جدي, عن رجل من أهل العلم قال: حدثني محمد بن مسلم الرازي, عن
جرير بن عبد الحميد الرازي, عن الفضل بن عطية, عن عطاء بن السائب أن
إبراهيم -عليه السلام- رأى رجلًا يطوف بالبيت فأنكره فسأله: ممن أنت؟
قال: من أصحاب ذي القرنين قال: وأين هو؟ قال: هو ذا بالأبطح, فتلقاه
إبراهيم "فاعتنقه"1 فقيل لذي القرنين: لم لا تركب؟ قال: ما كنت لأركب
وهذا يمشي, فحج ماشيًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط من: أ.
قوله عز وجل:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} وما جاء في ذلك:
حدثنا أبو محمد قال: حدثنا أبو الوليد قال:
حدثني جدي, عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن جريج قال:
بلغنا أن اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر
الأنبياء, ولأنه في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: الكعبة أعظم, فبلغ
ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فنزل:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكًا} حتى بلغ:
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 96, 97] وليس ذلك في بيت المقدس،
{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}
وليس ذلك في بيت المقدس.
ج / 1 ص -51-
قال عثمان: وأخبرني خصيف قال:
{أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}
قال: أول مسجد وُضع للناس.
وقال مجاهد:
{أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} مثل قوله: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
قال عثمان: وأخبرني محمد بن أبان, عن زيد بن أسلم أنه قرأ:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} حتى بلغ:
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ
مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}، قال: الآيات البينات هي:
{مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، وقال: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}
[الحج: 27].
وقال عثمان: وأخبرني محمد بن إسحاق أن قول الله عز وجل:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} أي: مسجد
{مُبَارَكًا وَهُدًى
لِلْعَالَمِين} وقال: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92].
قال عثمان: وأخبرني يحيى بن أبي أنيسة في قول الله عز وجل:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكًا} قال: كان موضع الكعبة قد سماه الله عز وجل بيتًا قبل أن تكون
الكعبة في الأرض, وقد بني قبله بيت ولكن الله سماه بيتًا، وجعله الله
{مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} قبلة لهم. |