أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، ت: علي عمر

ج / 2 ص -23-          ذكر المقام:
ما جاء في الحطيم وأين موضعه:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد عن ابن جريج قال: الحطيم ما بين الركن والمقام وزمزم، والحجر وكان إساف ونايلة رجل وامرأة دخلا الكعبة فقبلها فيها فمسخا حجرين، فأخرجا من الكعبة فنصب أحدهما في مكان زمزم والآخر في وجه الكعبة، ليعتبر بهما الناس ويزدجروا عن مثل ما ارتكبا. قال: فسمي هذا الموضع الحطيم؛ لأن الناس كانوا يحطمون هنالك بالأيمان ويستجاب فيه الدعاء على الظالم للمظلوم، فقل من دعا هنالك على ظالم إلا أهلك، وقل من حلف هنالك إثمًا إلا عجلت له العقوبة، فكان ذلك يحجز بين الناس عن الظلم، ويتهيب الناس الأيمان فلم يزل ذلك كذلك حتى جاء الله بالاسلام فأخر الله ذلك لما أراد إلى يوم القيامة.
حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن ناسًا كانوا في الجاهلية حلفوا عند البيت على قسامة، وكانوا حلفوا على باطل، ثم خرجوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق نزلوا تحت صخرة فبينا هم قائلون إذ أقبلت الصخرة عليهم، فخرجوا من تحتها يشتدون فانفلقت بخمسين فلقة فأدركت كل رجل منها فلقة فقتلته وكانوا من بني عامر بن لؤي، قال الزنجي: فكان ذلك الذي أقل عددهم، فورث حويطب بن عبد العزى عامة رباعهم.
حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن ابن أبي نجيح عن حويطب بن عبد العزى أنه قال: كان في الجاهلية في الكعبة حلق أمثال لجم البهم، يدخل الخائف فيها يده فلا يريبه أحد، فلما كان ذات يوم ذهب خائف ليدخل يده فيها، فاجتبذه رجل فشلت فيها يمينه فأدركه الإسلام وإنه لأشل.
حدثني جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي، عن مسلم بن خالد عن ابن أبي نجيح عن أبيه، عن حويطب بن عبد العزى قال: كنا جلوسًا بفناء الكعبة في الجاهلية، فجاءت امرأة إلى البيت تعوذ به من زوجها، فجاء زوجها فمد يده إليها فيبست يده، فلقد رأيته في الإسلام بعد وإنه لأشل.
حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة، عن محمد بن سوقة قال: كنا جلوسًا مع سعيد بن جبير في ظل الكعبة فقال: أنتم الآن في أكرم ظل على وجه الأرض.
حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي عن أشياخه قالوا: أقامت قريش بعد قصي على ما كان عليه قصي بن كلاب من تعظيم البيت والحرم، وكان الناس يكرهون الأيمان عند البيت مخافة العقوبة في أنفسهم، وأموالهم قال الواقدي: فحدثني عبد المجيد بن أبي أنس عن أبيه، عن أبي القاسم مولى

 

ج / 2 ص -24-          ربيعة بن الحارث، عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: عدا رجل من بني كنانة من هذيل في الجاهلية على ابن عم له فظلمه واضطهده، فناشده الله تعالى والحرم، وعظم عليه فأبى إلا ظلمه فقال: والله لألحقن لحرم الله تعالى في الشهر الحرام فلأدعون الله عليك. فقال له ابن عمه مستهزئًا به: هذه ناقتي فلانة فأنا أقعدك على ظهرها، فاذهب فاجتهد. قال: فأعطاه ناقته وخرج حتى جاء الحرم في الشهر الحرام فقال: اللهم إني أدعوك دعاء جاهد مضطر على فلان ابن عمي لترميه بداء لا دواء له. قال: ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه، فصار مثل الزق فما زال ينتفخ حتى انشق. قال عبد المطلب: فحدثت بهذا الحديث ابن عباس فقال: أنا رأيت رجلًا دعا على ابن عم له بالعمى فرأيته يقاد أعمى.
حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عكرمة عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يسأل رجلًا من بني سليم عن ذهاب بصره، فقال: يا أمير المؤمنين كنا بني ضبعاء عشرة، وكان لنا ابن عم فكنا نظلمه ونضطهده، وكان يذكرنا الله والرحم أن لا نظلمه، وكنا أهل جاهلية نرتكب كل الأمور، فلما رأى ابن عمنا أنا لا نكف عنه، ولا نرد إليه ظلامته أمهل حتى إذا دخلت الأشهر الحرم انتهى إلى الحرم، فجعل يرفع يديه إلى الله تعالى ويقول:

اللهم أدعوك دعاء جاهدا                       أقتل بني الضبعاء إلا واحدا

ثم اضرب الرجل فذره قاعدا                    أعمى إذا ما قيد عني القائدا

فمات إخوة لي تسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد، وبقيت أنا فعميت ورمى الله في رجلي وكمهت فليس يلائمني قائد. قال: فسمعت عمر بن الخطاب يقول: سبحان الله إن هذا لهو العجب.
أخبرني محمد بن يحيى عن الواقدي، عن ابن أبي سبرة عن شريك بن أبي نمر، عن كريب عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب

 

ج / 2 ص -25-          رضي الله عنه، يسأل ابن عمهم الذي دعا عليهم قال: دعوت عليهم ليالي رجب الشهر كله بهذا الدعاء، فأهلكوا في تسعة أشهر وأصاب الباقي ما أصابه. أخبرني محمد بن يحيى عن الواقدي، عن ابن أبي سبرة عن عبد المجيد بن سهيل، عن مكرمة عن ابن عباس قال: دعا رجل على ابن عم له استاق ذودًا له، فخرج يطلبه حتى أصابه في الحرم فقال: ذودي، فقال اللص: كذبت ليس الذود لك قال: فأحلف قال: إذ أحلف، فحلف عند المقام بالله الخالق رب هذا البيت ما الذود لك فقيل له: لا سبيل لك عليه، فقام رب الذود بين الركن والمقام باسطًا يديه، يدعو على صاحبه فما برح مقامه يدعو عليه حتى وله، فذهب عقله وجعل يصيح بمكة، فما لي وللذود ما لي ولفلان رب الذود، فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع ذوده فدفعها إلى المظلوم، فخرج بها وبقي الآخر متولهًا حتى وقع من جبل فتردى منه فأكلته السباع.
حدثنا أبو الوليد، حدثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي عن أيوب بن موسى أن امرأة كانت في الجاهلية معها ابن عم لها صغير، وكانت تخرج فتكتسب عليه ثم تأتي فتطعمه من كسبها فقالت له: يا بني إن أغيب عنك فإني أخاف عليك أن يظلمك ظالم، فإن جاءك ظالم بعدي فإن لله تعالى بمكة بيتًا لا يشبهه شيء من البيوت، ولا يقاربه مفسد وعليه ثياب، فإن ظلمك ظالم يومًا فعذبه فإن له ربًا يسمعك قال: فجاءه رجل فذهب به فاسترقه. قال: وكان أهل الجاهلية يعمرن أنعامهم فأعمر سيده ظهره، فلما رأى الغلام البيت عرف الصفة، فنزل يشتد حتى تعلق بالبيت، وجاء سيده فمد يده إليه ليأخذه فيبست يده فمد الأخرى فيبست يده الأخرى فاستفتى في الجاهلية فأفتي لينحر عن كل واحدة من يديه بدنة، ففعل فأطلقت له يداه وترك الغلام وخلي سبيله.

 

ج / 2 ص -26-          ما يستحلف فيه بين الركن والمقام:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي حدثنا سفيان، عن شيخ من بني البكاء قديم قد بلغ مائة سنة وصلى خلف معاوية بن أبي سفيان، يقال له وهب يحدث عن قومه: إن رجلًا منهم تزوج امرأة فسألته أمها بعيرًا من إبله فأبى فقالت: إني قد أرضعتكما فرفع ذلك إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فرأى أن تستحلف عند الكعبة أنها قد أرضعتهما، فلما أرادوا استحلافها أبت، وكأنها ورعت وتأثمت وقالت: إنما أردت معنى أن أفرق بينهما.
حدثني جدي، عن عبد المجيد عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يحلف بين المقام والبيت في الشيء اليسير، أخاف أن يتهاون الناس به".
حدثني جدي حدثنا عبد المجيد، عن ابن جريج عن عكرمة بن خالد قال: رأى عبد الرحمن بن عوف جماعة عند المقام فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يستحلف، قال: أفي دم؟ قالوا: لا. قال: أفي مال عظيم؟ قالوا: لا. قال: يوشك الناس أن يتهاونوا بهذا المقام.
حدثني جدي قال حدثنا عبد المجيد، عن ابن جريج عن عطاء قال: لا يستحلف بين المقام والبيت في الشيء اليسير.
ما جاء في المقام وفضله:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن قال: سمعت القاسم بن أبي بزة، يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص

 

ج / 2 ص -27-          قال: إن الركن والمقام من الجنة.
حدثني جدي، عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس قال:
ليس في الأرض من الجنة إلا الركن الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان من جوهر الجنة، ولولا ما مسهما من أهل الشرك ما مسهما ذو عاهة، إلا شفاه الله.
حدثني جدي قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن يحيى قال: حدثني ليث عن مجاهد أنه قال: لا يمس المقام فإنه آية من آيات الله عز وجل.
ما جاء في الأثر الذي في المقام، وقيام إبراهيم عليه السلام عليه:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى:
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران: 97]، قال: أثر قدميه في المقام. حدثني جدي عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قام إبراهيم عليه السلام على هذا المقام، فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم، قال: فقالوا: لبيك اللهم لبيك قال: فمن حج إلي اليوم، فهو ممن استجاب لابراهيم عليه السلام.
حدثني جدي قال: حدثنا مهدي بن أبي المهدي، حدثنا عمر بن سهل بن مروان، عن يزيد عن سعيد عن قتادة:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125]، قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثره، وأصابعه فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق وانماح.

 

ج / 2 ص -28-          حدثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن عمر، عن ابن أبي سبرة عن موسى بن سعيد، عن نوفل بن معاوية الديلي قال: رأيت المقام في عهد عبد المطلب، وهو مثل المهاة، قال أبو محمد الخزاعي: سئل أبو الوليد عن المهاة، فقال: خرزة بيضاء وأنشد أبو الوليد:

مهاة كمثل البدر بين السحائب

تعلقها قلبي وما طرّ شاربي

إلى أن أتى حلمي وشابت ذوائبي

حدثني محمد بن يحيى، عن محمد بن عمر الواقدي، عن ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمر بن الحكم عن أبي سعيد الخدري، قال: سألت عبد الله بن سلام عن الأثر الذي في المقام فقال: كانت الحجارة على ما هي عليه اليوم، إلا أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعل المقام آية من آياته، فلما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج قام على المقام، فارتفع المقام حتى صار أطول الجبال، وأشرف على ما تحته، فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم فأجابه الناس فقالوا: لبيك اللهم لبيك، فكان أثر قدميه فيه لما أراد الله سبحانه، فكان ينظر عن يمينه وعن شماله ويقول: أجيبوا ربكم فلما فرغ أمر بالمقام فوضعه قبلة، فكان يصلي إليه مستقبل الباب فهو قبلة إلى ما شاء الله. ثم كان إسماعيل بعد يصلي إليه إلى باب الكعبة. ثم كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر أن يصلي إلى بيت المقدس، فصلى إليه قبل أن يهاجر وبعد ما هاجر، ثم أحب الله تعالى أن يصرفه إلى قبلته التي رضي لنفسه ولأنبيائه عليهم السلام قال: فصلى إلى الميزاب وهو بالمدينة، ثم قدم مكة فكان يصلي إلى المقام ما كان بمكة.
قال: حدثنا أبو الوليد حدثني جدي، حدثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج عن كثير بن كثير قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير في أعلى المسجد ليلًا

 

ج / 2 ص -29-          فقال سعيد بن جبير: سلوني قبل أن لا تروني فسأله القوم فأكثروا، فكان مما سئل عنه أن قال رجل: أحق ما سمعنا يذكر في المقام مقام إبراهيم؟ فقال سعيد: وماذا سمعت؟ قال الرجل: سمعنا أن إبراهيم نبي الله سبحانه حين جاء من الشام حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة، حتى يرجع يقول الرجل: فقرب إليه المقام فرجل عليه فقال سعيد: ليس كذلك، حدثنا ابن عباس ولكنه حدثنا أنه حين كان بين أم إسماعيل بن إبراهيم، وبين سارة امرأة إبراهيم عليه السلام ما كان، أقبل إبراهيم نبي الله بأم إسماعيل وإسماعيل معها وهو صغير يرضعها حتى قدم بهما مكة، ومع أم إسماعيل شنة فيها ماء تشرب منها وتدر على ابنها، ليس معها زاد، يقول سعيد بن جبير: قال ابن عباس: فعمد بهما إلى دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد يشير لنا بين البئر وبين الصفة يقول: فوضعهما تحتها، ثم توجه إبراهيم خارجًا على دابته واتبعت أم إسماعيل أثره حتى أوفى إبراهيم بكذا يقول ابن عباس: فقالت له أم إسماعيل: إلى من تتركها وابنها؟ قال: إلى الله سبحانه قالت: رضيت بالله تعالى. فرجعت أم إسماعيل تحمل ابنها حتى قعدت تحت الدوحة، ووضعت ابنها إلى جنبها، ثم ساق حديثًا طويلًا يقول فيه: ثم جاء الثالثة فوجد إسماعيل قاعدًا تحت الدوحة إلى ناحية البئر يبري نبلًا له فسلم عليه ونزل إليه، فقعد معه فقال له إبراهيم عليه السلام: يا إسماعيل إن الله سبحانه قد أمرني بأمر، قال إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك قال إبراهيم: أمرني ربي أن أبني له بيتًا، قال له إسماعيل: وأين؟ يقول ابن عباس: فأشار إلى أكمة بين يديه مرتفعة على ما حولها، عليها رضراض من حصباء يأتيها السيل من نواحيها ولا يركبها، قال ابن عباس. فقاما يحفران عن القواعد ويقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ويحمل له إسماعيل الحجارة على رقبته ويبني الشيخ إبراهيم، فلما ارتفع البنيان وشق على الشيخ تناوله قرب له إسماعيل هذا الحجر، فكان يقوم عليه ويبني ويحوله في نواحي البيت حتى انتهى إلى وجه البيت يقول ابن عباس: فذلك مقام إبراهيم عليه السلام وقيامه عليه.

 

ج / 2 ص -30-          باب ما جاء في موضع المقام، وكيف رده عمر -رضي الله عنه- إلى موضعه هذا؟
حدثنا أبو الوليد، حدثني جدي حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي، عن أبيه عن جده قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة الكبير قبل أن يردم عمر بن الخطاب الردم الأعلى، وكان يقال لهذا الباب باب السيل، قال: فكانت السيول ربما دفعت المقام عن موضعه، وربما نحته إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقال له سيل أم نهشل، وإنما سمي بأم نهشل أنه ذهب بأم نهشل ابنة عبيدة بن أبي أحيحة سعيد بن العاصي فماتت فيه، فاحتمل المقام من موضعه هذا، فذهب به حتى وجد بأسفل مكة فأتى به فربط إلى أستار الكعبة في وجهها، وكتب في ذلك إلى عمر -رضي الله عنه- فأقبل عمر فزعًا فدخل بعمرة في شهر رمضان، وقد غبي موضعه وعفاه السيل، فدعا عمر بالناس فقال: أنشد الله عبدًا عنده علم في هذا المقام، فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك فقد كنت أخشى عليه هذا، فأخذت قدره من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى باب الحجر ومن موضعه إلى زمزم بمقاط، وهو عندي في البيت فقال له عمر: فاجلس عندي، وأرسل إليها فأتى بها فمدها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا، فسأل الناس وشاورهم فقالوا: نعم هذا موضعه، فلما استثبت ذلك عمر -رضي الله عنه- وحق عنده أمر به فاعلم ببناء ربضه تحت المقام، ثم حوله فهو في مكانه هذا إلى اليوم.
قال: وردم عمر الردوم الأعلى بالصخر وحصنه، قال ابن جريج: ولم يعله سيل بعد عمر -رضي الله عنه- حتى الآن. قال أبو الوليد: هو الردم الذي

 

ج / 2 ص -31-          دون زقاق النار قال جدي: وهو الردم الذي من دار أبان بن عثمان إلى دار ببة بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، ابن أخي أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. قال الخزاعي: ببة لقب له واسمه عبد الله بن ربيعة.
قال أبو الوليد: قال جدي: فلم يظهر عليه سيل منذ عمله عمر -رضي الله عنه- إلى اليوم غير أنه قد جاء سيل في سنة اثنتين ومائتين يقال له سيل ابن حنظلة، فكشف عن بعض ربضه ورأينا حجارته، ورأينا فيه صخرًا ما رأينا مثله ولم يظهر عليه.
قال أبو الوليد: قال لي جدي: طفت مع داود بن عبد الرحمن غير مرة، فأشار إلى الموضع الذي ربط عنده المقام في وجه الكعبة بأستارها إلى أن قدم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فرده قال: وقال داود: كنا إذا طفنا مع ابن جريج يشير لنا إليه.
قال أبو الوليد: قال لي جدي: بعدما جصص شاذروان الكعبة بالجص والمرمر، وإنما جصص حديثًا من الدهر فقال لي وأنا معه في الطواف: اعدد من باب الحجر الشامي من حجارة شاذروان الكعبة، فإذا بلغت الحجر السابع، فإن كان حجرًا طويلًا هو أطول السبعة فيه حفر شبه النقر فهو موضعه، وإلا فهو التاسع من حجارة الشاذروان. قال جدي: نسيت عددها وقد كنت عددتها هي إما سبعة، وإما تسعة إلا أنه عند حجر طويل هو أطول السبعة أو التسعة فيه الحفر فإن رأيته قد قرف عنه الجص فاعدد وانظر إليه.
حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: موضع المقام هذا الذي هو به اليوم هو موضعه في الجاهلية، وفي عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر فجعل في وجه الكعبة، حتى قدم عمر فرده بمحضر الناس.
حدثني ابن أبي عمر قال: حدثنا ابن عيينة عن حبيب بن أبي الأشرس قال: كان سيل أم نهشل قبل أن يعمل عمر الردم بأعلى مكة، فاحتمل المقام

 

ج / 2 ص -32-          من مكانه فلم يدر أين موضعه، فلما قدم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سأل من يعلم موضعه؟ فقال المطلب بن أبي وداعة: أنا يا أمير المؤمنين قد كنت قدرته، وذرعته بمقاط وتخوفت عليه هذا من الحجر إليه، ومن الركن إليه ومن وجه الكعبة إليه. فقال: ائت به فجاء به فوضعه في موضعه هذا، وعمل عمر الردم عند ذلك، قال سفيان: فذلك الذي حدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن المقام كان عند سفع البيت، فأما موضعه الذي هو موضعه فموضعه الآن، وأما ما يقول الناس: إنه كان هنالك موضعه فلا، قال سفيان: وقد ذكر عمرو بن دينار نحوًا من حديث ابن أبي الأشرس هذا لا أميز أحدهما عن صاحبه.
حدثني محمد بن يحيى قال: حدثنا سليم بن مسلم، عن ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن صفوان أنه قال: أمر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عبد الله بن السائب العابدي، وعمر نازل بمكة في دار ابن سباع بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، قال: فحوله ثم صلى المغرب وكان عمر قد اشتكى رأسه قال: فلما صليت ركعة جاء عمر فصلى ورائي قال: فلما قضى صلاته قال عمر: أحسنت فكنت أول من صلى خلف المقام حين حول إلى موضعه عبد الله بن السائب القائل.
حدثني جدي قال: حدثنا سليم بن مسلم، عن ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن السائب، وكان يصلي بأهل مكة فقال: أنا أول من صلى خلف المقام حين رد في موضعه هذا، ثم دخل عمر وأنا في الصلاة فصلى خلفي صلاة المغرب.

 

ج / 2 ص -33-          ما جاء في الذهب الذي على المقام ومن جعله عليه:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: سمعت عبد الله بن شعيب بن شيبة بن جبير بن شيبة يقول: ذهبنا نرفع المقام في خلافة المهدي فانثلم قال: وهو من حجر رخو يشبه السنان، فخشينا أن يتفتت أو قال يتداعى فكتبنا في ذلك إلى المهدي، فبعث إلينا بألف دينار فضببنا بها المقام أسفله وأعلاه، وهو الذهب الذي عليه اليوم1.
قال: سمعت يوسف بن محمد العطار، يحدث عن عبد الله بن شعيب نحوه، قال: ولم يزل ذلك الذهب عليه حتى ولي أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله، فجعل عليه ذهبًا فوق ذلك الذهب أحسن من ذلك العمل، فعمل في مصدر الحج سنة ست وثلاثين ومائتين، فهو الذهب الذي عليه اليوم وجعل فوق ذلك الذهب الذي كان عمله المهدي ولم يقلع عنه.
وأخبرني غير واحد من مشيخة أهل مكة قالوا: حج المهدي أمير المؤمنين سنة ستين ومائة فنزل دار الندوة فجاء عبيد الله بن عثمان بن إبراهيم الحجبي بالمقام، مقام إبراهيم في ساعة خالية نصف النهار مشتمل عليه فقال للحاجب: ائذن لي على أمير المؤمنين، فإن معي شيئًا لم يدخل به على أحد قبله، وهو يسر أمير المؤمنين فأدخله عليه فكشف عن المقام فسر بذلك، وتمسح به وسكب فيه ماء ثم شربه وقال له: اخرج. وأرسل إلى بعض أهله فشربوا منه وتمسحوا به، ثم ادخل فاحتمله ورده مكانه وأمر له بجوائز عظيمة وأقطعه خيفًا بنخلة، يقال له ذات القوبع، فباعه من منيرة مولاة المهدى بعد ذلك بسبعة آلاف دينار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شفاء الغرام 1/ 328.

 

ج / 2 ص -34-          ذكر ذرع المقام:
قال أبو الوليد: وذرع المقام ذراع، والمقام مربع سعة أعلاه أربع عشر إصبعا في أربع عشرة إصبعا، ومن أسفله مثل ذلك، وفي طرفيه من أعلاه وأسفله طوقا ذهب وما بين الطوقين من الحجر من المقام بارز بلا ذهب عليه، طوله من نواحيه كلها تسع أصابع، وعرضه عشر أصابع عرضًا في عشر أصابع طولا، وذلك قبل أن يجعل عليه هذا الذهب، الذي هو عليه اليوم من عمل أمير المؤمنين المتوكل على الله، وعرض حجر المقام من نواحيه إحدى وعشرون إصبعا، ووسطه مربع والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع ودخولهما منحرفتان، وبين القدمين من الحجر إصبعان، ووسطه قد استدق من التمسح به، والمقام في حوض من ساج مربع حوله رصاص ملبس به، وعلى الحوض صفائح رصاص ملبس بها ومن المقام في الحوض إصبعان، وعلى المقام صندوق ساج مسقف، ومن وراء المقام ملبن ساج في الأرض في طرفيه سلسلتان تدخلان في أسفل الصندوق، ويقفل فيهما بقفلان.
[حدثنا أبو سعيد، عبد الله بن شبيب الربعي مولى أبي قبيس بن ثعلبة قال: حدثني علي بن جهم بن بدر الشامى قال: حدثني ابن مسهر عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال: أوصى مسلمة بن عبد الملك بالثلث من ثلث ماله لطلاب الأدب وقال: إنها صناعة مجفو أهلها]1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين الحاصرتين هكذا في الأصول، وفي هامش ب: "لا ندري المناسبة لذكر هذه العبارة في هذا المكان، ونرجح أن المؤلف وضعها في حاشية من الأصل، فجاء النساخ وضموها إلى الكتاب. والدليل أن السند لا يتصل بالأزرقي ولا برواية الخزاعي".