شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام

ج / 1 ص -113-    الباب السادس:
ذكر المجاورة بمكة:
المجاورة بمكة مستحبة عند أكثر العلماء، منهم: الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة، وابن القاسم صاحب مالك، لأنه قال: إن جوار مكة مما يتقرب به إلى الله، كالرباط، والصلاة، نقل ذلك عنه ابن الحاج المالكي في "منسكه".
واستحبها أيضا أحمد بن حنبل، لأنه روي عنه أنه قال: ليت أني الآن مجاور بمكة.
وممن كره المجاورة بمكة: أبو حنيفة، وفهم ذلك ابن رشد المالكي من كلام وقع لمالك.
وسبب الكراهة عند من رآها من العلماء على ما قال المحب الطبري في "القرى": خوف الملل وقلة الاحترام لمداومة الأنس بالمكان، وخوف ارتكاب ذنب هنالك، فإن المعصية ليست كغيرها، وتهيج الشوق بسب الفراق1.
وقال أبو عمرو الزجاجي: من جاور بالحرم وقلبه متعلق بشيء سوى الله تعالى فقد ظهر خسرانه.
وقال المحب أيضا: ولم يكره المجاورة أحمد بن حنبل في خلق كثير، وقالوا إنها فضيلة، وما يُخاف من ذنب فيقابل بما يُرجى لمن أحسن من تضعيف الثواب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القرى "ص: 661".

 

ج / 1 ص -114-    وقد نزل بها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أربعة وخمسون رجلا سردهم المحب في "القرى"1.
وذكر النووى في "الإيضاح": أن المختار استحباب المجاورة بمكة، وعلل كراهة من كرهها من العلماء بنحو مما قال المحب، ثم قال: وأما من استحبها، فلما فيها من تضاعف الحسنات والطاعات، وقد جاور بها مما يقتدى به من سلف الأمة وخلفها خلائق لا يحصون... انتهى.
قلت: يدل لاستحباب المجاورة بمكة: رغبة النبي صلى الله عليه في سكناها، كما في حديث عبد الله بن الحمراء، وابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم.
وتمنى بلال رضي الله عنه العود إلى أماكن بعضها بمكة وبعضها حولها، حيث يقول:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة   بفخ وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنة    وهل تبدون2 لي شامة وطفيل

هكذا رويناه في تاريخ الأزرقي3.
وفي البخاري: بوادٍ، عوض قوله بفخ.
وقد سبق أن الإذخر نبت معروف طيب الرائحة، والجليل: النمام، وقيل: النمام إذا جل، وفخ: هو وادي الزاهر، لأن ياقوتا في "معجم البلدان"4 قال لما ذكر فخ: قال السيد على بن وهاس العلوي: فخ وادي الزاهر، فيه قبور جماعة من العلويين قتلوا فيه في وقعة كانت لهم مع أصحاب موسى الهادي بن المهدي بن المنصور في ذي الحجة سنة تسع وستين ومائة، وللشعراء فيها مراثٍ كثيرة... انتهى5.
وعلي بن وهاس هذا من فضلاء مكة ممن أخذ عن الزمخشري، ولأجله صنف "الكشاف" على ما قيل، ومدحه الزمخشري في "الكشاف".
وسيأتي في الباب الأربعين إن شاء الله تعالى ذكر مجنة، وشامة، وطفيل، ويدل لذلك قول عائشة رضي الله عنها لولا الهجرة لسكنت مكة، إني لم أر السماء بمكان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القرى "ص: 661"، وانظر مثير الغرام الساكن.
2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 191: "يتدون" وكذلك في معجم البلدان 3/ 315.
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 191.
4 معجم البلدان 4/ 237.
5 تاريخ الطبري 10/ 28، والكامل لابن الأثير 6/ 33، والعقد الثمين 4/ 196، وإتحاف الورى 2/ 22، 221.

 

ج / 1 ص -115-    أقرب إلى الأرض منها بمكة، ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمأن بمكة، ولم أر القمر بمكان قط أحسن منه بمكة.
وروينا ذلك في تاريخ الأزرقي1.
ويدل لذلك ما رويناه عن الجندي في "فضائل مكة" له، قال: حدثنا أبو صالح محمد بن زنبور قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن مطر، عن أبي الطفيل قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما أقم بمكة وأن أكلت بها العضاة، يعني الشجر.
ويدل لذلك أمور أخر ذكرناها في أصل هذا الكتاب مع أشياء أخر تتعلق بحكم المجاورة بمكة، وفيما ذكرناه هنا من ذلك كفاية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 153.

ذكر شيء مما جاء في الموت بمكة:
روينا عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث ثم قال: "ومن مات بمكة فإنما مات في سماء الدنيا"1 إسناده ضعيف.
وروينا عن الحسن البصري في رسالته المشهورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من مات بمكة فكأنما مات في سماء الدنيا"2.
وروينا في "فضائل مكة" للجندي، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من مات بمكة بعثه الله في الآمنين يوم القيامة"3.
وروينا فيه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا من جملة حديث يتعلق بالكعبة قال فيه:
"إن آدم عليه السلام سأل ربه عز وجل فقال: يا رب، أسألك من حج هذا البيت من ذريتي لا يشرك بك شيئا أن تلحقه بي في الجنة، فقال الله تعالى: يا آدم من مات في الحرم لا يشرك بي بعثته آمنا يوم القيامة".
وروينا فيه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة في الآمنيين"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه: البيهقي في الشعب "4151، 4152" وعزاه إلى البخاري في تاريخه. 
2 أخرجه: البيهقي في شعب الإيمان "4158". 
3 أخرجه: الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه عبد الله بن المؤمل، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه أحمد وغيره وإسناده حسن، مجمع الزوائد 2/ 319.
4 أخرجه: الدارقطني عن حاطب 2/ 278.

 

ج / 1 ص -116-    وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات بمكة أو في طريق مكة بعث من الآمنين"1 ذكره ابن جماعة في "منسكه". قال: ويروي أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى عن ما لأهل بقيع الغرقد؟ فقال: لهم الجنة. فقال: يا رب ما لأهل المعلاة؟ قال: يا محمد سألتني عن جوارك فلا تسألني عن جواري... انتهى.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر شيء من فضل مقبرة المعلاة في الباب الحادي والعشرين.
وروينا في مسند الطيالسي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من زارني كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة، ومن مات بأحد الحرمين بعثه الله تعالى من الآمنيين يوم القيامة"2.
وروى خاطب بن أبي بلتعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات في أحد الحرمين بعث في الآمنين يوم القيامة"3. أخرجه هكذا ابن الحاج المالكي في "منسكه".
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من مات في أحد الحرمين استوجب شفاعتي، وكان يوم القيامة من الآمنين" أخرجه ابن جماعة4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مجمع الزوائد 2/ 319، وعزاه للطبراني في الصغير.
2 أخرجه الترمذي في المناقب "فضل المدينة" 5/ 719 وقال: حسن غريب. وابن ماجه 2/ 1039، وموارد الظمآن "ص: 55".
3 أخرجه الدارقطني عن حاطب 2/ 278.
4 هداية السالك 1/ 116، ومجمع الزوائد 2/ 319، وعزاه للطبراني في الكبير وقال: وفيه عبد الغفور بن سعيد وهو متروك.

ذكر شيء مما جاء في فضل أهل مكة:
روينا في كتاب "النسب" للزبير بن بكار قاضي مكة، وفي غيره من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة فقال له: "هل تدري إلى من أبعثك؟ أبعثك إلى أهل الله"1.
وروينا في تاريخ الأزرقي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن أبي مليكة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعتاب:
"أتدري على ما استعملتك؟ استعملتك على أهل الله، فاستوص بهم خيرا" يقولها ثلاثا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه: الأزرقي في تاريخ مكة 2/ 151، 153 من طريقين مرسلين.

 

ج / 1 ص -117-    وروينا في تاريخ الأزرقي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزل عامله نافع بن عبد الحارث الخزاعي لاستعماله على أهل مكة مولاه عبد الرحمن بن أبزي واشتد عليه غضبه لذلك، ولم يسكن غضبه عنه إلا عندما أخبره أن ابن أبزي قارئ لكتاب الله تعالى1.
ووجدت بخط بعض أصحابنا فيما نقله من خط الشيخ أبي العباس الميورقي ورد أن: "سفهاء مكة حشو الجنة".
واتفق يبن عالمين في الحرم منازعة في تأويل الحديث وسنده، فأصبح الذي طعن في الحديث ومعناه، قد طعن أنفه واعوج، وقيل له: إي والله وسفهاء مكة من أهل الجنة، سفهاء مكة من أهل الجنة، سفهاء مكة من أهل الجنة فأدركه روع وخرج إلى الذي كان يكابره في الحديث من علماء عصره، وأقر على نفسه بالكلام فيما لا يعنيه، وفيما لا يحيط به خبرا... انتهى باختصار.
وبلغني أن الرجل المنكر للحديث هو: الإمام تقي الدين محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني الشافعي نزيل مكة ومفتيها، وبلغني أنه كان يقول: إنما الحديث: أَسْفَى -مكة أي المحزونون فيها على تقصيرهم- والله أعلم.
ومن الأخبار الواردة في فضل أشراف مكة.
ما ذكره الشيخ جمال الدين أبو محمد عبد الغفار ابن القاضي معين الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحميد الشهير بابن نوح الأنصاري الخزرجي الأقصري المولد، القوصي الدار، في كتابه "المنتقى من كتاب الوحيد في سلوك طريق أهل التوحيد والتصديق والإيمان بأولياء الله تعالى في كل زمان"، لأنه قال: وأخبرتني الحاجة أم نجم الدين بنت مطروح -وكانت من الصالحات، وكانت زوجة القاضي سراج الدين- قالت: حصل لنا غلاء بمكة شرفها الله تعالى وأكل الناس الجلود، وكنا ثمانية عشر نفرا، فكنا نعمل ما مقداره نصف قدح حسوة، فبينما نحن كذلك إذ جاءنا أربعة عشر قطعة دقيق، وجاء خلفها أهل مكة شرفها الله تعالى فاقتطعت منها أربع قطع وقلت له: أنت تريد تقتلنا بالجوع، وفرق العشر القطع على أهل مكة، فلما كان الليل قام من منامه مرعوبا وربما قالت: فبكى فقلت له ما بالك؟ قال: رأيت الساعة أو رأيت في منامي فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها وهي تقول: يا سراج تأكل البر وأولادي جياع! فقام وفرق الأربع قطع على الأشراف، وبقينا بلا شيء، وما كنا نقدر على القيام من الجوع... انتهى.
وروينا في أصل هذا الكتاب من تاريخ الأزرقي وغيره أخبارا أخر تدل على فضل أهل مكة، تركنا ذكرها هنا اختصارا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 151.

 

ج / 1 ص -118-    ذكر شيء من فضل جدة ساحل مكة وشيء من خبرها:
قال الفاكهي: حدثنا عبد الله بن منصور، عن سليم بن مسلم، عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مكة رباط، وجدة جهاد"1.
حدثنا إبراهيم بن أبي يوسف، حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: إنما جدة خزانة مكة، وإنما يؤتى به إلى مكة ولا يخرج به منها2.
حدثنا ابن أبي يوسف قال: حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن جريج قال: مكة رباط: وجدة جهاد3. قال ابن جريج: إني لأرجو أن يكون فضل مرابط جدة على سائر المرابط، كفضل مكة على سائر البلدان.
حدثنا محمد بن علي الصايغ، حدثنا خليل بن رجاء قال: حدثنا مسلم أبو يونس قال: حدثني محمد بن عمر، عن ضوء بن فجر قال: كنت جالسا مع عباد بن كثير في المسجد الحرام فقلت: الحمد لله الذي جعلنا في أفضل المجالس وأشرفها، قال: وأين أنت عن جدة؟ الصلاة فيها بسبعة عشر ألف ألف صلاة، والدرهم فيها بمائة ألف. وأعمالها بقدر ذلك، يغفر للناظر فيها مد بصره. قال: قلت: رحمك الله، مما يلي البحر؟ قال: مما يلي البحر.
ثم قال الفاكهي: حدثنا إبراهيم بن أبي يوسف: قال: حدثنا يحيى بن سليم قال: سمعت عبد الله بن سعيد بن قنديل قال: جاءنا فرقد السنجي بجدة فقال: إني رجل أقرأ هذه الكتب، وإني لأجد فيما أنزل لله عز وجل من كتبه: جدة أو جديد يكون بها قتلى وشهداء، لا شهيد يومئذ على ظهر الأرض أفضل منهم.
وقال بعض أهل مكة: إن الحبشة جاءت في سنة ثلاث وثمانين في مصدرها، فوقعوا بأهل مكة، فخرج الناس من مكة إلى جدة وأميرهم عبد الله بن محمد بن إبراهيم، فخرج الناس غزاة في البحر، واستعمل عليهم عبد الله بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 312، 313، والحديث إسناده ضعيف جدا، وفيه سليم بن مسلم المكي، هو المعروف بالخشاب، قال أحمد: ليس يسوي حديثه شيئا، وقال ابن معين: ليس بثقة، وفيه أيضا: المثنى بن الصباح ضعيف "ينظر: الجرح والتعديل 4/ 315" والتقريب "2/ 228".
2 أخبار مكة للفاكهي 3/ 53.
3 أخبار مكة للفاكهي 3/ 52.

 

ج / 1 ص -119-    محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن عبد الملك بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي. وجدت هذا في كتاب أعطانيه بعض المكيين عن أشياخه يذكر هذا1... انتهى.
وإبراهيم جد عبد الله بن محمد أمير مكة هذا هو إبراهيم المعروف بالإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أخو السفاح. والمنصور، حفيده عبد الله هذا، ولى مكة للرشيد بن المهدي بن المنصور العباسي، وعلى هذا فسنة ثلاث وثمانين المشار إليها في هذا الخبر سنة ثلاث وثمانين ومائة2.
وفي بعض الكتب أن اسم عبد الله هذا: عبيد الله، والله أعلم بالصواب.
وجدة هي الآن ساحل مكة الأعظم. وعثمان بن عفان رضي الله عنه أول من جعلها ساحلا، بعد أن شاور الناس في ذلك، لما سئل فيه في سنة ست وعشرين من الهجرة، وكانت الشعيبة ساحل مكة قبل ذلك3.
وذكر ابن جبير أنه رأى بجدة أثر سور محدق بها، وذكر أن بها مسجدين ينسبان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأن أحدهما يقال له: مسجد الأبنوس، لساريتين فيه من خشب الأبنوس، وهذا المسجد معروف إلى الآن، والمسجد الآخر غير معروف، ولعله والله أعلم المسجد الذي تقام الجمعة فيه بجدة، وهو من عمارة الملك المظفر صاحب اليمن على ما بلغني.
وذكر ابن جبير أيضا أنه كان بجدة موضع فيه قبة مشيدة عتيقة يذكر أنها منزل حواء أم البشر زوج آدم عليهما السلام4... انتهى.
ولعل هذا الموضع هو الموضع الذي يقال له: قبر حواء، وهو مكان مشهور بجدة، إذ لا مانع من أن تكون نزلت فيه ودفنت فيه، والله أعلم.
وأستبعد أن يكون قبر حواء بالموضع المشار إليه لكون ابن جبير لم يذكره، وما ذاك إلا لخفائه عليه، فهو فيما عليه، وهو من الزمن أخفى، والله أعلم.
وروى الفاكهي بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن قبر حواء بجدة... انتهى باختصار.
وبها دور كثيرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 3/ 52، 53.
2 إتحاف الورى 2/ 232.
3 إتحاف الورى 2/ 20.
4 رحلة ابن جبير "ص: 55".

 

ج / 1 ص -120-    ذكر شيء من فضل الطائف وخبره:
أخبرني أبو هريرة ابن الحافظ الذهبي بقراءتي عليه في الرحلة الأولى بغوطة دمشق، أن يحيى بن محمد بن سعد الأنصاري أخبره سماعا وتفرد بالسماع منه قال: أنبأنا أبو المنجا بن اللتي وغيره قال: أنبأنا أبو حفص عمر بن عبد الله الحربي، قال: أنبأنا أبو غالب محمد بن عبيد لله العطار قال: أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد البزار قال: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي قال: أنبأنا أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي1 قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى الحميدي القرشي، ثم الأسدي قال: حدثنا عبد الله بن الحارث بن عبد الملك المخزومي قال: حدثني محمد بن عبد الله بن إنسان، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من "لية" قال الحميدي: مكان بالطائف حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند طرف القرن الأسود حذوها، فاستقبل "نَخِبا" قال الحميدي: مكان بالطائف يقال له نخب- ببصره، ثم وقف حتى اتفق الناس، ثم قال: "إن صيد وَجّ وعضاهه حرم محرم الله عز وجل"، وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا. روينا هذا الحديث هكذا في الأول من مشيخة الفسو عن الحميدي، وهو في سنن أبي داود، ومسند ابن حنبل2، وإسناده ضعيف على ما قال النووي، وقال: قال البخاري: لا يصح.
وقال في "الإيضاح": ويحرم صيد وج3، وهو واد بالطائف، لكن لا ضمان فيه... انتهى.
وذكر المحب الطبري في تحريم صيد وَجّ احتمالين، لأنه قال: وتحريمه يحتمل أن يكون على وجه الحمى له وعليه العمل عندنا.
ويحتمل أن يكون حرمه في وقت ثم نسخ. قال: ونخب بفتح النون وكسر الخاء المعجمة، واد بالطائف، وقيل: هو واد بأرض هذيل .. قال: والقرن جبل صغير، ورأسه مشرف على وهدة. قال: ووَجّ بفتح الواو وتشديد الجيم، قيل: هو أرض الطائف نفسه، يسمى بوج بن عبد الحق من العمالقة 4.... انتهى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو صاحب كتاب المعرفة والتاريخ".
2 سنن أبي داود 2/ 290، مسند أحمد 1/ 165، وأخبار مكة للفاكهي 5/ 99، والحديث إسناده حسن.
3 وج: واد من أودية الطائف المشهورة، يسمى أعلاه: المخاصكة، ووسطه المثناة، وأسفله، العرج، ومن مشهور قراه القديمة: الوهط. "انظر تفاصيل هذا الوادي في معجم معالم الحجاز للبلادي 9/ 121".
4 القرى "ص: 666".

 

ج / 1 ص -121-    ووح بالحاء: ناحية نعمان. ذكره الحازمي من الأماكن فيما حكى عنه النووي1، وذكر أن وجا بالجيم ربما اشتبه بوح بالحاء. قال: وقال الحازمي: وج اسم لحصون الطائف، وقيل: لواحد منها، قال: وقال في "التهذيب": هو واد بالطائف ... انتهى.
وقال صاحب المطالع: هو وادي وج على يومين من مكة... انتهى.
قال المحب الطبري: وقد جاء في الحديث أن وجًّا مقدس2... انتهى.
وروى الفاكهي: حديثا من رواية خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن آخر وطأة وطئها الله تعالى بوج"3.
وقال الفاكهي: قال سفيان يعني ابن عيينة في تفسيره: آخر غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم: غزوة الطائف، لقتاله أهل الطائف وحصاره ثقيف... انتهى.
و ذكر الشيخ أبو العباس الميورقي ما يوافق هذا التفسير ويزيده، إيضاحا، لأنه قال: وروي في "الصحاح" للجوهري: آخر وطأة وطئها الله بوج.
وأحسن ما قيل في ذلك ما كان شيخنا أبو محمد محمد بن الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذر يقول: آخر غزوة وطأ الله بها أهل الشرك: غزوة الطائف بإثر فتح مكة شرفها الله تعالى. ذكر ذلك الميورقي في جزء ألفه سماه: "بهجة المهج في بعض فضائل الطائف ووج"، وفيه أسئلة غريبة.
ومما ذكره في فضل الطائف: وروي في قوله عز وجل:
{وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْك} أي بفتح مكة والطائف أهم البلاد عليه وأحبها إليه.
وقال المفسرون في قوله تعالى:
{لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم}4 [الزخرف: 31] قالوا: هما مكة والطائف، فقرن الله جل جلاله الطائف ببيته، وفي ذلك غاية الفخر الذي تعجز العبارة عن كنهه وقدره وماهيته... انتهى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 198.
2 القرى "ص: 666".
3 أخبار مكة للفاكهي 3/ 193، والحديث رواه أحمد 6/ 409، والبيهقي في سننه 10/ 202. والترمذي 8/ 101. والطبري في الكبير 24م 239، 240، والهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 54، وقال: رجاله ثقات، وذكره السيوطي في الكبير 1/ 862 وزاد نسبته للبخاري في الأدب، وكذلك في 2/ 721، وعزاه للعسكري في الأمثال.
4 وقال الخازن: اختلفوا في هذا الرجل العظيم، قيل: الوليد بن المغيرة بمكة، وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف، وقيل: عتبة بن ربيعة من مكة، وكنانة بن عبد ياليل من الطائف، وقال ابن عباس: الوليد بن المغيرة من مكة، ومن الطائف: حبيب بن عمير الثقفي، وفي عبارة الفاكهي ارتباك مرجعه إلى سقوط تتمة القولين.

 

ج / 1 ص -122-    وقال الفاكهي في الآية الآخيرة: إنها نزلت في مكة والطائف فيما يقال، وحكى في الرجل قولين1: أحدهما: أنه عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، والآخر: أنه مسعود بن معتب الثقفي.
قال: وأما الطائف فهي من مخاليف مكة، وهي بلد طيب الهواء بارد الماء، كان له خطر عند الخلفاء فيما مضى، وكان الخليفة يوليها رجلا من عنده، ولا يجعل ولايتها إلى صاحب مكة... انتهى.
وبالطائف آثار تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم، منها: السدرة التي انفرجت له نصفين حتى جاز بينهما، وبقيت على ساقين، وذلك لما اعترضته في طريقه، وهو سائر وسنان ليلا في غزوة الطائف، على ما ذكره ابن فورك2، فيما حكاه عنه القاضي عياض في "الشفا"، وبعض هذه السدرة باق إلى الآن، والناس يتبركون به.
ومنها: مسجد ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم في مؤخر المسجد الذي فيه قبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، لأن في جداره القبلي من خارجه حجرا مكتوبا فيه: أمرت السيدة أم جعفر بنت أبي الفضل3 أم ولاة عهد المسلمين أطال الله بقاءها بعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف، وفيه أن ذلك سنة اثنتين وتسعين ومائة4.
والمسجد الذي فيه قبر ابن عباس رضي الله عنهما أظن أن المستعين العباسي عمره مع ضريح ابن عباس رضي الله عنهما واسمه مكتوب في المنبر الذي في هذا المسجد، واسم الملك المظفر صاحب اليمن مكتوب في القبة التي فيها ضريح ابن عباس رضي الله عنهما بسبب عمارته لها.
وبالطائف مواضع أخر تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم معروفة عند أهل الطائف.
وذكر الحافظ أبو محمد القاسم ابن الحافظ أبي القاسم على ابن عساكر خبرا في فضل أهل الطائف، نقله عن المحب الطبري في "القرى"، ونص ذلك على ما في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 3/ 191، وإهداء اللطائف للعجيمي "ص: 54"، وتفسير الطبري 25/ 65، وتفسير ابن كثير 6/ 224.
2 هو أبو بكر محمد بن الحسن الأصبهاني المنوفي سنة 406هـ "ترجمته في الوافي بالوفيات 2/ 334، ووفيات الأعيان 4/ 272، إنباه الرواة 3/ 110، سير أعلام النبلاء 17/ 214- 216، ومرآة الجنان 3/ 17، 18، النجوم الزاهرة 4/ 240، شذرات الذهب 3/ 181.
3 يقصد بها السيدة زبيدة زوج هارون الرشيد وأم ولي عهده الأمين، ونسب المأمون والمعتصم إليها تجوزا، وكانت قد زارت الحجاز، وأدخلت فيه بعض الإصلاحات، وبنت العمائر وأجلها عين زبيدة التي بمكة.
4 إتحاف الورى 2/ 248، 249، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 231، 432، وفيهما أن ذلك كان سنة 194هـ وهو الصحيح.

 

ج / 1 ص -123-    "القرى" عن عبد الملك بن عباد بن جعفر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول من أشفع له يوم القيامة من أمتي: أهل المدينة وأهل الطائف"1... انتهى.
واختلف في سبب تسمية الطائف بالطائف، فقال السهيلي: ذكر بعض أهل النسب أن الدمون بن الصدف واسم الصدف: مالك بن مالك بن مربع بن كندة- من حضرموت، أصاب دما من قومه، فلحق ثقيفا فأقام بها وقال لهم: ألا أبني لكم حائطا يطيف ببلدكم، فبناه فسمي به الطائف2، ذكره البكري3، واعترض عليه السهيلي فيما ذكره في نسب الدمون. وأفاد شيئا من خبره وخبر ولده، وذكر ابن الكلبي ما يوافق هذا القول.
وقيل في تسمية الطائف: أن جبريل عليه السلام طاف به حول الكعبة على ما ذكر بعض المفسرين لأنه قال في تفسير قوله تعالى في سورة "ن":
{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19]: أن جبريل عليه السلام اقتلعها من موضعها. فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها الله تعالى حيث الطائف اليوم، فسميت باسم الطائف الذي طاف عليها وطاف بها... انتهى باختصار من كتاب السهيلي4.
ونقل الميورقي عن الأزرقي: أن الطائف سمي الطائف لطواف جبريل عليه السلام به سبعا حول البيت لما اقتلعه من الشام، لدعوة الخليل إبراهيم -عليه السلام- حيث يقول:
{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126] الآية، والله أعلم بالصواب.
وقد أتينا على جملة من فضل الطائف وخبره.
ومن غريب خبره: ذكر الميورقي، عن الفقيه أبي محمد عبد الله بن حموا النجاري، عن شيخ الخدام بالحرم النبوي بدر الشهابي: أنه بلغه أن ميضاه وقعت في عين الأزرق في الطائف، فخرجت بعين الأزرق بالمدينة على ساكنها السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه: البخاري في التاريخ الكبير 5/ 404، 415، من طريق عبد الملك بن أبي زهير، وابن الأثير في أسد الغابة 3/ 510، وعزاه لابن منده، وأبي نعيم وابن عبد البر في كتبهم عن الصحابة وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 318، وعزاه للبزار والطبراني، وذكره ابن حجر في الإصابة 2/ 23 وقال: رواه البزار في مسنده، وابن شاهين. والقرى "ص: 666".
2 الروض الأنف: 4/ 161.
3 معجم ما استعجم 2/ 557.
4 الروض الأنف 4/ 162.