شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام

ج / 1 ص -124-    الباب السابع:
في أخبار عمارة الكعبة المعظمة:
لا شك أن الكعبة المعظمة بنيت مرات، وقد اختلف في عدد بنائها، وتحصل من مجموع ما قيل في ذلك أنها بنيت عشر مرات منها: بناء الملائكة عليهم السلام.
ومنها: بناء آدم عليه السلام.
ومنها: بناء أولاده.
ومنها: بناء العمالقة.
ومنها: بناء جرهم.
ومنها: بناء قصي بن كلاب.
ومنها: بناء قريش.
ومنها: بناء الخليل إبراهيم عليه السلام.
ومنها: بناء عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي رضي الله عنه.
ومنها بناء الحجاج بن يوسف الثقفي وإطلاق العبارة بأنه بنى الكعبة تجوز؛ لأنه لم يبن إلا بعضها كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ولم أذكر ذلك إلا لكون السهيلي والنووي ذكرا ذلك في عدد بناء الكعبة1.
ووجدت بخط عبد الله بن عبد الملك المرجاني أن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم بنى الكعبة بعد قصي وقبل بناء قريش، ولم أر ذلك لغيره، وأخشى أن يكون وهما، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الروض الأنف 1/ 221، وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 2/ :124.

 

ج / 1 ص -125-    فأما بناء الملائكة للكعبة: فذكره الأزرقي في تاريخه1 وذكر أن ذلك قبل خلق آدم عليه السلام واستدل على ذلك بخبر رواه عن زين العابدين، وذكر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا ما يدل لبناء الملائكة للكعبة.
وذكر النووي في "تهذيب الأسماء واللغات"2 بناء الملائكة للكعبة، وعد ذلك أول بنائها، ولم يذكر بناء آدم للكعبة، وذلك عجيب منه، لأن بناء آدم في الشهرة كبناء الملائكة أو أشهر، وإن كانا غير ثابتين، وكلا البنائين على تقدير صحتهما تأسيس، والله أعلم.
فأما بناء آدم عليه السلام فروينا فيه خبرا مرفوعا في كتاب "دلائل النبوة" للبيهقي، ولفظه: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي قال: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح قال: حدثنا أبو صالح الجهني قال: حدثني ابن لهيعة، عن يزيد، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فخط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى أجابه الماء فنودي من تحته: حسبك يا آدم، فلما بنياه أوصى الله إليه أن طوف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت" ثم تناسخت القرون حتى حجة نوح عليه السلام، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه قال البيهقي: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا.
وذكر الأزرقي بناء آدم للكعبة واستدل له بخبرين رواهما عن ابن عباس رضي الله عنهما في أحدهما أنه بناه من خمسة أجبل: لبنان، وطور زيتا، وطور سيناء، والجودي، وحراء، حتى استوى على الأرض، وفي الآخر: كان آدم عليه السلام أول من أسس البيت وصلى فيه3.
وفي "مصنف" عبد الرزاق": أن آدم عليه السلام بنى البيت من هذه الخمسة الجبال، وأن ربضه كان من حراء.
قال المحب الطبري: والمربض هنا هو الأساس المستدير بالبيت.
وذكر الأزرقي بسنده إلى ابن إسحاق ما يدل لبناء آدم الكعبة في أثناء خبر بناء الخليل عليه السلام للكعبة4.
واختلف هل بناء الملائكة قبل بناء آدم أو بناء آدم قبل الملائكة؟ وذكر الأزرقي رحمه الله ما يشهد للقولين. وذكرنا ذلك في أصل هذا الكتاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 32، 33.
2 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 124.
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 37.
4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 64.

 

ج / 1 ص -126-    ذكر البيت المعمور الذي أنزله الله على آدم وشيء من خبره:
روينا في "تاريخ الأزرقي" عن مقاتل يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حدث به: آن آدم عليه السلام قال: أي رب إني أعرف شقوتي، إني لا أرى شيئا من نورك يتعبد فيه، فأنزل الله عز وجل عليه البيت المعمور على عرض البيت وموضعه، من ياقوتة حمراء، ولكن طولها كما بين السماء والأرض وأمره أن يطوف بها، فأذهب الله عنه الغم الذي كان يجد قبل ذلك، ثم رفع على عهد نوح1.
وأما بناء بني آدم للكعبة: فذكره الأزرقي، لأنه روى بسنده إلى وهب بن منبه قال: لما رفعت الخيمة التى عرى الله عز وجل بها آدم عليه السلام من حلية الجنة حين وضعت له بمكة في موضع البيت ومات آدم عليه السلام فبنى بنو آدم من بعده مكانها بيتا بالطين والحجارة، فلم يزل معمورا يعمرونه هم ومن بعدهم، حتى كان زمن نوح عليه السلام فنسفه الغرق وغير مكانه حتى بُوِّئَ لإبراهيم -عليه السلام ... انتهى.
وقال الحافظ أبو القاسم السهيلي في الفصل الذي عقده لبنيان الكعبة: وكان بناؤها في الدهر خمس مرات، الأولى حين بناها شيث بن آدم عليه السلام... انتهى.
قلت: هذا يخالف ما تقدم في من بنى الكعبة أولا هل هو الملائكة أو آدم؟ ولعل السبب عند من قال إن شِيثًا أول من بنى الكعبة: كون بنائه كان بيتا بالطين والحجارة، بخلاف بناء آدم عليه السلام فإنه كان بناء لأساس البيت كما في خبر بنيانه، وأنزل الله عز وجل عليه من الجنة البيت الذي كان يطوف به، وهو البيت المعمور كما سبق، ولعله الخيمة المشار إليها في خبر وهب بن منبه، والله أعلم.
ولعل سبب نسبة هذا البناء لشيث بن آدم كونه: كان وصي ابنه، كما يروى عن وهب بن منبه، والله أعلم.
وأما بناء الخليل عليه السلام فهو ثابت كما في القرآن العظيم والسنة الشريفة، وهو أول من بنى البيت على ما ذكر الفاكهي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجزم به الشيخ عماد الدين بن كثير في تفسيره، وقال: لم يجئ خبر عن معصوم، أن البيت كان مبنيا قبل الخليل2 ...... انتهى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 51.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 225، وتاريخ القطبي "ص: 35" ومناهج الكرم "ورقة 410أ".

 

ج / 1 ص -127-    وروينا في تاريخ الأزرقي عن ابن إسحاق: أن الخليل عليه السلام لما بنى البيت جعل طوله في السماء تسعة أذرع، وعرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعا من الركن الأسود إلى الركن الشامي الذي عنده الحجر من وجهه، وجعل عرض ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي اثنين وعشرين ذراعا، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني أحدا وثلاثين ذراعا، وجعل عرض شقها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعا، وجعل بابها بالأرض غير مبوب، وحفر جبا في بطن البيت على يمين من دخله يكون خزانة للبيت، وكان يبني وإسماعيل ينقل له الحجارة على رقبته1.
وذكر ابن الحاج المالكي في "منسكه" شيئا من خبر بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة فقال: وكان صفة بناء إبراهيم عليه السلام للبيت أنه كان مدورا من ورائه، وكان له ركنان وهما اليمانيان فجعلت قريش حين بنوه أربعة أركان ... انتهى.
وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أما والله ما بنياه يقصب ولا مدر2، ولا كان معهما من الأعوان والأموال ما يسقفانه، ولكنهما أعلياه وطافا به. وروينا عن عثمان بن ساج أنه بلغه: أن الخليل عليه السلام بنى الكعبة من سبعة أجبل.
وروينا عن أبي قلابة: أنه بناه من خمسة أجبل: حراء، وثبير، ولبنان، والطور، والجبل الأحمر.
وروينا عن قتادة قال: ذكر لنا أنه يعني الخليل عليه السلام بناه من خمسة أجبل: من طور سيناء وطور زيتا3، ولبنان، والجودي4، وحراء. قال: وذكر لنا أن قواعده من حراء... انتهى.
ويروى أنه أسس البيت من ستة أجبل: من أبي قبيس، ومن الطور، ومن القدس، ومن ورقان، ومن رضوى، ومن أحد... انتهى.
قلت: هذا يعكر على الحكمة التي ذكرها السهيلي في كون الخليل بنى الكعبة من خمسة أجبل، على ما قيل، لأنه قال بعد أن ذكر أن الخليل عليه السلام بنى الكعبة من خمسة أجبل هي: طور زيتا، وطور سيناء، والجودي، ولبنان، وحراء: وانتبه الحكمة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 150.
2 القصب: الغاب، والمدر: الحجارة.
3 طور زيتا" جبل في القدس مشرف على المسجد الأقصى
4 الجودي: جبل يطل على دجلة وعلى جزيرة ابن عمر، وهي قرية من أعمال الموصل، وعلى هذا الجبل استوت سفينة نوح عليه السلام- لما نضب ماء الطوفان.

 

ج / 1 ص -128-    الله تعالى كيف جعل بناءها من خمسة أجبل: فشاكل ذلك معناها، إذ هثي قبلة الصلوات الخمس وعمود الإسلام، وقد بني على خمس1... انتهى.
وأما بناء العمالقة وجزهم للكعبة: فذكره الأزرقي، لأنه روى بسنده عن علي بن أبي طالب رضي لله عنه قال في خبر بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة ثم انهدم فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته قبيلة من جرهم، ثم انهدم فبنته قريش2... انتهى.
وذكره الفاكهي، لأنه روى بسنده عن علي رضي الله عنه قال: أول من بنى البيت إبراهيم، ثم انهدم فبنته جرهم، ثم هدم البيت فبنته العمالقة، ثم هدم فبنته قريش3.
قلت: هذا يقتضي أن جرهما بنت البيت قبل العمالقة، والخبر الأول يقتضي أن العمالقة بنته قبل جرهم، وبه جزم المحب الطبري في "القرى"، والله أعلم.
وذكر المسعودي ما يقتضي أن الذي بنى الكعبة من جرهم هو الحارث بن مضاض الأصغر، لأنه لما ذكر خبرهم قال فيه: إن الحارث هذا زاد في بناء البيت ورفعه كما كان عليه من بناء إبراهيم4... انتهى. والله أعلم بحقيقة ذلك.
وأما بناء قصي بن كلاب: فذكره الزبير بن بكار قاضي مكة في كتاب "النسب"، لأنه قال: وقال غير أبي عبيدة من قريش ابن عبد العزى بن عمران العنبسي: أخذ قصي في بنيان البيت وجمع نفقته، ثم هدمها فبناها بنيانا لم يبن أحد ممن بناها مثله، وجعل، وهو يبنيها يقول:

ابني وبيتي الله يرفعها   وليبن أهل وراثها بعدي

بيتا بها وتمامها وحجابها    بيد الإله وليس بالعبد

فبناها وسقفها بخشب الدوم الجيد وبجريد النخل، وبناها على خمسة وعشرين ذراعا، فلذلك يقول أعشى بكر بن وائل:

فإني وثوبي راهب اللج والذي    بناها قصي وحده وابن جرهم

لئن شب نيران العداوة بيننا    لتركلن مني على ظهر شيهم

وذكر الزبير بن بكار في مواضع أخر ما يشهد له، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في خبر قصي. ونقل ذلك كله عن الزبير: الفاكهي في كتاب "أخبار مكة" وقال بعد ذكره لخبر عبد العزيز بن عمران: يعني بالشيهم: القنفذ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الروض الأنف 1/ 223.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 62.
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 138.
4 مروج الذهب 2/ 47.

 

ج / 1 ص -129-    وذكر الفاكهي بناء قصي عن غير الزبير، لأنه قال في خبر قصي: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة، حدثنا عبد الله بن يزيد، عن ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود قال: بلغني أن قصي بن كلاب بنى البيت بعد بناء إبراهيم، ثم بنته قريش1... انتهى.
وذكر أبو عبد الله محمد بن عائذ الدمشقي في "مغازيه": أن قصي بن كلاب بنى البيت. وجزم به الماوردي في "الأحكام السلطانية"، لأنه قال: فكان أول من جدد بناء الكعبة من قريش بعد إبراهيم عليه السلام قصي بن كلاب، وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل2... انتهى.
ولم يذكر ذلك الأزرقي رحمه الله والله أعلم بحقيقة ذلك.
وأما قول عبد العزيز بن عمران في الخبر الذي ذكره الزبير بن بكار: وبناها على خمسة وعشرين ذراعا، ففيه نظر، لأنه إن أراد به أن قصيا جعل ارتفاع الكعبة خمسة وعشرين ذراعا كان مخالفا لما اشتهر في الأخبار من أن الخليل عليه السلام جعل طولها تسعة أذرع، وأن قريشا زادت في طولها تسعة أذرع، وإن أراد أن قصيا جعل عرضها خمسة وعشرين ذراعا: فالمعروف أن عرضها من الجهة الشرقية والغربية لا ينقص عن ثلاثين ذراعا في بناء الخليل لها، بل يزيد على خلاف في مقدار الزيادة، وإذا أراد عرضها من الجهة الشامية واليمانية: فعرضها في هاتين الجهتين ينقص عن خمسة وعشرين ذراعا ثلاثة أذرع أو أزيد.
وكل من بنى الكعبة بعد إبراهيم عليه السلام لم يبنه إلا على قواعد، غير أن قريشا استقصرت من عرضها في الجهة الشرقية والغربية أذرعا عن أساس إبراهيم- عليه السلام لأمر اقتضاه الحال، وصنع ذلك الحجاج بعد ابن الزبير عنادا، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وأما بناء قريش الكعبة: فهو ثابت كما في السنة الشريفة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحضره صلى الله عليه وسلم، وهو ابن خمس وثلاثين سنة، كما جزم به ابن إسحق وغير واحد من العلماء، وقيل: ابن خمس وعشرين سنة كما جزم به موسى بن عقبة في "مغازيه" وابن جماعة في "منسكه"3، ونقله مغلطاي عن تاريخ يعقوب بن سفيان، وقيل: ابن ثلاثين سنة حكاه ابن خليل في "منسكه" وجزم به، وهذا القول غير معروف، وأظنه سقط من كتابه لفظة: "خمس" بين "ابن" وبين "ثلاثين"، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 256.
2 الأحكام السلطانية "ص: 160".
3 هداية السالك 3/ 1327، 1328.

 

ج / 1 ص -130-    وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان حين بناء قريش للكعبة غلاما، ذكر هذا القول الأزرقي، لأنه قال في ترجمة ترجم عليها بقول: "ذكر ما كان عليه ذرع الكعبة حين صار إلى ما هو عليه إلى اليوم من خارج وداخل": ثم بنتها قريش في الجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غلام1... انتهى.
وذكر الفاكهي ما يوافق ذلك، وفيما ذكره بيان لسن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان غلاما، لأن الغلام يقع على الصبي من حين يولد إلى حين يبلغ، وما ذكره الفاكهي في ذلك مذكور في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ذكر ما كانت عليه الكعبة في عهد إبراهيم عليه السلام من الطوال والعرض إلى يومنا هذا" لأنه قال: ثم بنتها قريش في الجاهلية، وقد كتبنا بناءها في موضع بناء قريش الكعبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ قد ناهز الحلم2 ...... انتهى.
وهذا القول، والقول الذي ذكره ابن خليل غريبان، لمخالفتهما المشهور في سنه صلى الله عليه وسلم حين بنت قريش الكعبة، وهو ما ذكره ابن إسحاق أو ما ذكره ابن عقبة، ولم أر من ذكر ذلك القول الذي ذكره ابن خليل، والله أعلم.
وهو صلى الله عليه وسلم الذي وضع الحجر الأسود موضعه من الكعبة حين اختلفت قريش في ذلك، وكان سبب بنائهم لها توهنها من الحريق الذي أصابها حين جمرت، والسيل العظيم الذي دخلها وصدع جدرانها بعد توهنها بالحريق، وجعلوا ارتفاعها من خارجها من أعلاها إلى الأرض ثمانية عشر ذراعا، منها: تسعة أذرع زائدة على طولها حين عمرها الخليل عليه السلام واقتصروا من عرضها أذرعا جعلوها في الحجر، لقصر النفقة الحلال التي أعدوها لعمارة الكعبة عن إدخال ذلك فيها، ورفعوا بابها ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، وكبسوها بالحجارة، وجعلوا في داخلها ست دعائم في صفين، ثلاث في كل صف من الشق الذي يلي الحجر إلى الشق اليماني، وجعلوا في ركنها الشامي من داخلها درجة يصعد منها إلى سطحها، وجعلوها سطحا، وجعلوا فيها ميزابا يصب في الحجر، هذا ملخص بالمعنى مختصر مما ذكره الأزرقي في خبر بناء قريش، وقد ذكرناه بكماله في أصل هذا الكتاب، مع ما ذكره الأزرقي في خبر بناء قريش، وقد ذكرناه بكماله في أصل هذا الكتاب، مع ما ذكره ابن إسحق في ذلك بفوائد3 أخر تتعلق بذلك.
وذكر الأزرقي والفاكهي في القدر الذي زادته قريش في طول الكعبة على بناء الخليل عليه السلام أمرا يستغرب أما الأزرقي فإنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ما جاء في ذكر بناء قريش الكعبة في الجاهلية": حدثني جدي عن داود بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 78- 80، والسير والمغازي لابن إسحاق 2/ 108.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 226.
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 157 وما بعدها.

 

ج / 1 ص -131-    عبد الرحمن العطار قال: حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم القاري، عن أبي الطفيل ..... فذكر خبرا في بنيان قريش للكعبة، وفيه: ثم هدموها وبنوها عشرين ذراعا طولها1... انتهى.
وأما الفاكهي فإنه قال: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة بن أزهر قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، عن عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه، عن ابن الزبير رضي الله عنهما قال: قال عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان عالما بأمر الجاهلية وبنيان البيت قال: إن قريشا لما هدمت الكعبة فجعلوا يبنونها بأحجار الوادي تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا، وكانوا ينقلون الحجارة من أجياد2... انتهى باختصار.
ووجه الغرابة في ذلك مخالفته لما ذكره الأزرقي والفاكهي وغيرهما، من أن قريشا جعلوا طول الكعبة لما بنوها ثمانية عشر ذراعا.
وذكر الفاكهي أيضا في من وضع الحجر الأسود في الكعبة حين بنتها قريش أمرا يستغرب أيضا لأنه قال في أثناء خبر ذكره: وزعم عباد بن عبد الرحمن الأعرج مولى ربيعة بن الحارث قال: حدثني من لا أتهم عن حسان بن ثابت وكان قد شهد بناءها قال: رأيت عبد المطلب بن هاشم جالسا على سور الكعبة، وهو شيخ كبير قد ربط لها حاجباه، وهم يختصمون في الركن ليرفعوه إليه، فلما قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قضى، ورفعته قريش في الثوب حتى وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فرفعه إلى عبد المطلب، وكان هو الذي وضعه بيده، فقال له محمد بن علي حين حدثه: والله ما سمعت بهذا من أحد من أهل بيتي، وما سمعت أحدا يذكر إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعه بيده3.
قال عثمان: قال محمد: وحدثت عن بعض أهل العلم أن عبد المطلب أخذه بيده، وجعلت قريش أيديها تحت يده، ثم رفعوا حتى انتهوا به إلى موضعه، فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، كل ذلك قد سمعناه في الركن3... انتهى.
ووجه الغرابة في كون عبد المطلب وضع الحجر الأسود في الكعبة حين بنتها قريش، فمخالفته لما اشتهر من أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع الحجر الأسود بيده في الكعبة حين بنتها قريش على ما هو مشهور في خبر بنائهم، ويتأيد ذلك بأن عبد المطلب مات وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، وقيل: ثماني سنين وشهر وعشرة أيام، وقيل: تسع سنين،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 288، 189.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 227.
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 228.

 

ج / 1 ص -132-    وقيل: عشر سنين، وقيل: ست سنين، وقيل: ثلاث سنين، والكعبة بنيت وللنبي صلى الله عليه وسلم خمس وثلاثون سنة وقيل: خمس وعشرون سنة على ما هو المشهور في سنه حين بنتها قريش1 وإذا كان كذلك فلا يكون عبد المطلب وضع الحجر الأسود بيده حين بنتها قريش، ولا حضر بناءهم لها، على أن الفاكهي ذكر في موضع آخر ما يقتضي أن عبد المطلب حضر بناء قريش، ذكر ذلك في خبر تبع.
وأما بناء ابن الزبير رضي لله عنهما للكعبة فإنه ثابت مشهور، وسبب ذلك توهن الكعبة من حجارة المنجنيق التي أصابتها حين حوصر ابن الزبير رضي الله عنهما بمكة في أوائل سنة أربع وستين من الهجرة، لمعاندته يزيد بن معاوية، وما أصابها مع ذلك من الحريق، بسبب النار التي أوقدها بعض أصحاب ابن الزبير رضي الله عنهما في خيمة له، فطارت الرياح بلهب تلك النار، فأحرقت كسوة الكعبة والساج الذي بني في الكعبة حين عمرتها قريش، فضعفت جدران الكعبة، حتى أنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها، ويقع الحمام عليها فتتناثر حجارتها.
ولما زال الحصار عن ابن الزبير رضي الله عنهما لإدبار الحصين بن نمير من مكة بعد أن بلغه موت يزيد بن معاوية، رأي ابن الزبير رضي الله عنهما أن يهدم الكعبة ويبنيها، فوافقه على ذلك نفر قليل، وكره ذلك نفر كثير، منهم ابن عباس رضي الله عنهما.
ولما أجمع على هدمها خرج كثير من أهل مكة إلى منى مخافة أن يصيبهم عذاب وأمر ابن الزبير رضي الله عنهما لها يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام وأدخل فيها ما أخرجته منها قريش في الحجر، وزاد في طولها على بناء قريش نظير ما زادته قريش في طول على بناء الخليل عليه السلام وذلك تسعة أذرع، فصار طولها سبعة وعشرين ذراعا بتقديم السين وهي سبعة وعشرون مدماكا2، وجعل لها بابين لاصقين بالأرض، أحدهما بابها الموجود اليوم، والآخر المقابل له المسدود، واعتمد في ذلك وفي إدخاله في الكعبة ما أخرجته قريش منها في الحجر حين أخبرته به خالته عائشة رضي الله عنها يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الروض الأنف 1/ 221، والمشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت سنه عندئذ خمسا وثلاثين سنة، كما روى ابن إسحاق وغيره.
2 المدماك: مقياس قديم لأهل مكة.

 

ج / 1 ص -133-    وجعل فيها ثلاث دعائم في صف واحد، وجعل لها درجة في ركنها الشامي يصعد منها إلى سطحها، وجعل فيها ميزابا يصب في الحجر، وجعل فيها روازن للضوء، هذا ملحق بالمعنى مختصر مما ذكره الأزرقي في خبر بناء ابن الزبير رضي الله عنهما للكعبة1 وما ذكره من أن زيادة ابن الزبير تسعة أذرع في طول الكعبة هو المشهور.
وروينا في صحيح مسلم من حديث عطاء بن أبي رباح قال: إن ابن الزبير رضي الله عنهما زاد في طول الكعبة عشرة أذرع، وفيه ما يقتضي أنه لم يهدم الكعبة في الوقت الذي ذكره الأزرقي.
وصرح ابن الأثير في "كامله" بأن عمارة ابن الزبير رضي الله عنهما للكعبة كانت سنة خمس وستين، ثم قال: وقيل: كانت عمارتها في سنة أربع وستين2.
وهذا يوافق ما ذكره الأزرقي، والقول الأول موافق لما في مسلم، لأن فيه من حديث عطاء بن أبي رباح قال: لما احترق البيت زمان يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، وكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس في الموسم، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة: أنقضها ثم أبنيها، أو أصلح ما وَهَى منها؟
فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إني أرى أن تصلح ما وَهَى منها، وتدع بيتا أسلم الناس عليه، وحجارة أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبير: لو أن أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف ببيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثا، ثم عزم على أمر، فلما مضت الثلاثة أجمع رأيه أن ينقضها، فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد عليه أمر من السماء، حتى صعد رجل فألقى منه حجارة، فلما لم ير الناس أصابه شيء تتابعوا، فنقضوه حتى بلغ به الأرض... انتهى باختصار.
ووجه مخالفة هذا لما ذكره الأزرقي: أنه يقتضي أن ابن الزبير رضي الله عنهما لم يهدم البيت حتى صدر الناس من الموسم، وصدورهم منه كان بعد حجهم، وزمن الحج غير الزمن الذي ذكر الأزرقي أن ابن الزبير رضي لله عنهما هدم فيه البيت، وقد سبق ذلك قريبا، والله أعلم بالصواب.
وتكون عمارة ابن الزبير رضي الله عنهما للبيت على مقتضى حديث عطاء في آخر ذي الحجة من سنة أربع وستين، وفي سنة خمس وستين، وذلك يوافق ما جزم به ابن الأثير في عمارة الكعبة، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 201 وما بعدها.
2 الكامل لابن الأثير 4/ 207.

 

ج / 1 ص -134-    ولم أر في تاريخ الأزرقي ذكر الوقت الذي فرغ فيه ابن الزبير من بناء الكعبة، وهو سنة خمس وستين، على ما ذكره المسبحي في "تاريخه" على ما وجدت بخط الحافظ رشيد الدين ابن الحافظ زكي الدين المنذري في اختصاره لتاريخ المسبحي، والله أعلم.
وذكر المحب الطبري ما يقتضي أن فراغ ابن الزبير رضي الله عنهما من عمارة الكعبة كان في ليلة سابع عشر من رجب من سنة أربع وستين لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ما جاء في عمرة التنعيم" في الباب الثامن والثلاثين من "القرى" بعد أن ذكر اعتمار ابن الزبير رضي الله عنهما من التنعيم لما فرغ من بناء الكعبة1: وذكر أبو الوليد أن هدم الكعبة كان يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين، والظاهر أن ابتداء البناء عقيبه، بعد الفراغ منه، وأهل مكة يعتمرون في ليلة سبع وعشرين من رجب في كل سنة، وينسبون هذه العمرة إلى ابن الزبير رضي الله عنهما ولا يبعد أن يكون بناء الكعبة امتد إلى هذا التاريخ، فإن تطابق الناس على ذلك يأثره الخلف عن السلف، وفعله كل سنة بأسبابه تدل على صحة النسبة إليه، وأنه اعتمر في ذلك الوقت، وأن الفراغ من بناء الكعبة كان في هذا التاريخ، والله أعلم.
وقد اختلفت الأخبار فيمن وضع الحجر الأسود في موضعه من الكعبة حين بناها ابن الزبير رضي الله عنهما فقيل: وضعه عبد الله بن الزبير بنفسه، ذكر ذلك الأزرقي في خبر رواه عن الواقدي بسنده؛ لأن فيه: فلما بلغ البناء موضع الركن جاء ابن الزبير رضي الله عنهما حتى وضعه بنفسه، وشده بالقصبة2... انتهى.
وقيل: وضعه عباد بن عبد الله بن الزبير، وهذا في خبر رواه الأزرقي2 ذكر فيه أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أمر ابنه عبادا وجبير بن شيبة أن يجعلا الركن في ثوب ويخرجاه، وهو يصلي بالناس في صلاة الظهر في يوم شديد الحر، لئلا يعلم الناس بذلك فيتنافسوا في وضعه، وفيه: ففعلا ذلك، وفيه: فكان الذي وضعه في موضعه هذا عباد بن عبد الله بن الزبير، وأعانه عليه جبير بن شيبة.
وقيل: وضعه حمزة بن عبد الله بن الزبير بأمر أبيه، نقل ذلك السهيلي3 عن الزبير بن بكار.
ورأيت في تاريخ الأزرقي وكتاب الفاكهي ما يقتضي أن الحَجَبة وضعوه في موضعه ومعهم حمزة بن عبد الله بن الزبير، والله أعلم بالصواب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القرى "ص: 622".
2 أخبار مكة للأزرقي "1/ 208.
3 الروض الأنف 1/ 228.

 

ج / 1 ص -135-    فيتلخص من ذلك أربعة أقوال فيمن وضع الحجر الأسود حين بنى ابن الزبير رضي الله عنهما.
وأما بناء الحجاج للكعبة فهو أيضا ثابت مشهور، ذكره الأزرقي وغيره، وملخص ذلك أن الحجاج بعد محاصرته ابن الزبير وقتله كتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير زاد في الكعبة ما ليس منها، وأحدث فيها بابا آخر، واستأذنه في رد ذلك على ما كان عليه في الجاهلية، فكتب إليه عبد الملك أن يسد بها الغرب، ويهدم ما زاد فيها ابن الزبير رضي الله عنهما في الحجر، ويكبسها به على ما كانت عليه ففعل ذلك الحجاج.
وبناؤه في الكعبة، الجدار الذي من جهة الحجر بسكون الجيم والباب الغربي المسدود في ظهر الكعبة عند الركن اليماني وما تحت عتبة الباب الشرقي، وهو أربعة أذرع وشبر، على ما ذكر الأزرقي، وترك بقية الكعبة على بناء ابن الزبير رضي الله عنهما وهذا ملخص مما ذكره الأزرقي في ذلك بالمعنى1.
وكان ذلك في سنة أربع وسبعين من الهجرة على ما ذكره ابن الأثير2، وقيل: سنة ثلاث وسبعين على ما ذكر الذهبي في العبر.
ثم إن عبد الملك بن مروان ندم على ما وقع منه في أمر الكعبة، وقال: وددت والله أنى كنت تركت ابن الزبير وما تحمل حين أخبره الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أنه سمع من عائشة رضي الله عنها حديثها عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي اعتمده ابن الزبير رضي الله عنهما فيما فعله في الكعبة.
أخبرني بحديث عائشة رضي الله عنها الزاهد عبد الرحمن بن أحمد المصري سماعا بالقاهرة في الرحلة الأولى: أن يونس بن إبراهيم العسقلاني أخبره سماعا، عن أبي الحسن علي بن الحسين البغدادي، عن أبي بكر بن الزاغوني ونصر بن نصر العكبري، قال الزاعوني: أنبأنا ابن نصر الزينبي. وقال العكبري: أنبأنا أبو القاسم بن البسري، قالا: أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا بكار بن قتيبة قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا سليمان بن حبان قال: حدثنا سعيد بن مينا، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال أخبرتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها:
"لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا، ولزدت ستة أذرع من الحجر في البيت فإن قريشا استقصرت ذلك لما بنت البيت"3.
وقد اختلفت الروايات فيما تركته قريش من الكعبة في الحجر، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبار الحجر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 210.
2 الكامل لابن الأثير 4/ 365.
3 أخرجه مسلم كما سبق.

 

ج / 1 ص -136-    ذكر شيء من حال الكعبة بعد بناء ابن الزبير والحجاج وما صنع فيها من العمارة:
اعلم أنه لم يغير أحد من الخلفاء والملوك فيما مضى من الزمان وإلى الآن1 ما بناه ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج فيما علمناه، ولو وقع ذلك لنُقِلَ، فإن ذلك مما لا يخفى لعظم أمره، والذي غُيِّرَ فيها بعدهما: ميزابها غير مرة، وبابها غير مرة، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وبعض أساطينها، وما دعت الضرورة إلى عمارته في جدرها وسقفها، ودرجتها التي يصعد منها إلى سطحها، وعتبتها، ورخامها، وهو مما حدث في الكعبة بعد ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج.
وذكر الأزرقي أن الوليد بن عبد الملك أول من فرش الكعبة بالرخام وأزر به جدرانها، ونقل ذلك عن ابن جريج، لأنه قال: قال ابن جريج: وعمل الوليد بن عبد الملك الرخام الأحمر والأخضر والأبيض الذي في بطنها، فوزر به، أيضا جدرانها، وفرشها بالرخام، وأرسل به من الشام، ثم قال الأزرقي: فجميع ما في الكعبة من الرخام، فهو من عمل الوليد بن عبد الملك2... انتهى.
وكان الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان يحب أن يردها على ما بناها ابن الزبير، حين أخبره بذلك خليفته الإمام العادل عمر بن عبد العزيز بن مروان لما سأله عن ذلك ولم يمنع سليمان من ذلك إلا كون الحجاج صنع ذلك بأمر أبيه عبد الملك بن مروان، ذكر هذا الخبر الأزرقي3.
ويروى أن الخليفة الرشيد وقيل: أبوه المهدي أراد أن يغير ما صنعه الحجاج في الكعبة، وأن يردها إلى ما صنع ابن الزبير، فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله وقال له: نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك، لا يشأ أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس... انتهى بالمعنى.
وكأن مالك لحظ في ذلك كون درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وهي قاعدة مشهورة معتمدة. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 213.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 220.
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 221.

 

ج / 1 ص -137-    ونشير إلى ما علمناه من العمارات التي وقعت في الكعبة بعد ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج:
فمن ذلك انفتاح الجدار الذي بناه الحجاج من وجه الكعبة ودبرها وترميمه ذكر ذلك إسحق بن أحمد الخزاعي أحد من روى عن الأزرقي في تاريخه، ونص كلامه: وأنا رأيتها، وقد عمر الجدار الذي بناه الحجاج مما يلي الحجر، فانفتح من البناء الأول الذي بناه ابن الزبير مقدار نصف أصبع من وجهها ومن دبرها، وقد رمم بالجص الأبيض... انتهى.
وذكر ذلك في موطن آخر بمعناه. وكلام الخزاعي هذا يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون ما ذكره من انفتاح الجدار وترميمه وقع في عصره، والآخر: أن يكون وقع ذلك قبله ورآه كما ذكره، والله أعلم. ووقع فيما ذكره الأزرقي: ما يقرب من هذا.
ومن ذلك: ما وقع في سطح الكعبة على ما ذكر الأزرقي، لأنه قال: وكانت أرض سطح الكعبة بالفسيفساء، ثم كانت تكفّ عليهم إذا جاء المطر، فقلعته الحَجَبة بعد سنة مائتين، وشدوه بالمرمر المطبوخ والجص شيد به تشييدا.
ومن ذلك: عتبة باب الكعبة السفلى، على ما ذكره الأزرقي، لأنه قال لما ذكر العمارة المتعلقة بالكعبة في زمن المتوكل العباسي، وهي في سنة إحدى وأربعين ومائتين: وكانت عتبة باب الكعبة السفلى قطعتين من خشب الساج فدثرتا ونخرتا من طول الزمان عليهما، فأخرجهما يعني المندوب للعمارة إسحق بن سلمة الصائغ وصير مكانهما قطعة من خشب الساج، وألبسهما صفائح فضة1... انتهى.
ومن ذلك: رخامتان أو ثلاث في جدران الكعبة، قلع ذلك إسحاق بن سلمة، وأعاد نصبه بجص صنع في التاريخ المشار إليه ذكر ذلك الأزرقي2 أيضا
ومن ذلك ما وقع بعد الأزرقي، وهو عمارة سقف الكعبة والدرجة التي بباطنها، وكلاهما في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة3.
ومن ذلك: عمارة رخامها في عشر الخمسين وخمسمائة في غالب ظني وهذه العمارة من جهة الوزير جمال الدين المعروف بالجواد، وزير صاحب الموصل.
ومن ذلك: مع وقع في سنة تسع وعشرين وستمائة، وما عرفت المعمور في تلك السنة من الكعبة: هل هو في سقفها؟ أو أرضها وجدرها؟ كإصلاح رخامه في ذلك وغيره، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 301، وإتحاف الورى 2/ 314.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 306، 307.
3 إتحاف الورى 2/ 322.

 

ج / 1 ص -138-    وهذه العمارة من جهة المستنصر العباسي، لأن في جدر الكعبة اليماني من داخلها رخامة مكتوبا فيها بعد البسملة: أمر بعمارة البيت المعظم الإمام الأعظم أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين، وفيها بعد الدعاء له: في شهور سنة تسع وعشرين وستمائة.
ومن ذلك رخام الكعبة بأمر الملك المظفر صاحب اليمن، واسمه مكتوب بسبب ذلك في الكعبة في رخامة في وسط الجدار الغربي، ونص المكتوب: أمر بتجديد رخام هذا البيت المعظم: العبد الفقير إلى رحمة ربه يوسف بن عمر بن علي ابن رسول، وفيها بعد الدعاء له: بتاريخ شوال سنة ثمانين وستمائة1.
ومن ذلك: إلصاق رخام خُشِيَ سقوطه في بعض جدرانها من داخلها في آخر سنة إحدى وثمانمائة أو في أول سنة اثنتين وثمانمائة2.
ومن ذلك: مواضع في سطحها كان يكثر وكف المطر منها إلى سفلها، منها: موضع عند الطابق الذي على الدرجة التي يصعد منها إلى سطحها، ومنها: موضع عند الميزاب، وكان الفتح الذي في هذا الموضع متسعا مضرا، يصل الماء منه إلى الجدار الشامي من الكعبة، لقربه منها، وينزل الماء منه في وسط الجدار، ومواضع بقرب بعض الروازن التي للضوء.
وكان إصلاح المواضع المذكورة بالجبس بعد قلع الرخام الذي هناك، وأعيد في موضعه، وأبدل بعضه بغيره، وأصلحت الروازن كلها بالجبس، وكانت الأخشاب المطبقة بأعلى الروازن التي عليها البناء المرتفع في سطح البيت قد تخربت، فعوضت بخشب سوى ذلك، وأعيد البناء الذي كان عليها كما كان، إلا أن الروزن الذي يلي باب الكعبة فإن خشبه لم يغير، وكان الروزن الذي يلي الركن الغربي قد تخرب بعض الخشب الذي في جوفه مما يلي السقف والكسوة التي في جوف الكعبة، وكانت الكسوة التي تليه قد زال تشبكها فشمرت، وكان الروزن الذي يلي الركن اليماني منكسرا فقلع وعوض بروزن جيد وجد في أسفل الكعبة، وأصلح في الدرجة أخشاب متكسرة، وشاهدت إصلاح كثير من هذه الأمور وأنا بسطح الكعبة مع من صعد لعمل ذلك، وذلك في أيام متفرقة في العُشْر الأوسط من شهر رمضان سنة أربع وعشر وثمانمائة عقب مطر عظيم حصل بمكة في أوائل هذا العُشْر، وصار يخرج بسببه من باب الكعبة إلى الطواف كأفواه القرب3.
ومن ذلك: أن في النصف الأخير من ذي الحجة سنة خمس وعشرين وثمانمائة، أصلحت الروازن التي بسطح الكعبة ورخامة تل ميزابها، لأن الماء كان ينتفع عليها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 3/ 113.
2 إتحاف الورى 3/ 416.
3 إتحاف الورى 3/ 488، والعقد الثمين 1/ 50.

 

ج / 1 ص -139-    لخراب ما تحتها، فقلعت وأزيل ما تحتها من الخراب، وأعيد إلصاقها بعد إحكام هذا الإصلاح1.
ومن ذلك في هذا التاريخ: أن الأخشاب التي بسطح الكعبة المعدة لربط كسوتها تخربت فقلعت وعوض عنها بأخشاب جديدة محكمة، وركبت فيها الحلق الحديد التي يشد بها كسوة الكعبة، ووضعت الأخشاب بسطح الكعبة في مواضعها قبل ذلك.
ومن ذلك: أن في صفر سنة ست وعشرين وثمانمائة قلع الرخام الذي بين جدار الكعبة الغربي والأساطين التي بالكعبة لتخربه، وأعيد نصبه محكما كما كان بالجص، وأصلح رخام آخر في بعض جدران الكعبة لتخربه، وأعيد نصبه محكما كما كان بالجص، وأصلح رخام آخر في بعض جدران الكعبة لتخربه، وكتب بسبب ذلك في لوح رخام يقابل باب الكعبة، ومعنى المكتوب فيه، تقرب إلى الله تعالى برخام هذا البيت الشريف المطهر العبد الفقير إلى الله تعالى الملك الأشرف برسباي في سنة ست وعشرين وثمانمائة2... انتهى.
والملك الأشرف المشار إليه هو صاحب الديار المصرية والشامية والحرمين في هذا التاريخ، زاده الله نصرا وتوفيقا.
ومن ذلك: أن الأسطوانة التي تلي باب الكعبة ظهر بها ميل فخيف من أمرها، فاجتمعنا بالكعبة الشريفة مع جماعة من قضاة مكة، والأمير المندوب من مصر في السنة الماضية لعمارة المسجد الحرام أحسن الله إليه وغيره من الأعيان بمكة والعارفين بالعمارة، وكشف من فوق السارية المذكورة فوجدت صحيحة، فحمدنا الله تعالى كثيرا على ذلك، وردت حتى استقامت وأحكم ذلك كما كانت أولا، فلله الحمد، والأمير المشار إليه هو الجناب السيفي مقبل القديدي الملكي الأشرفي صاحبنا، أحسن الله إليه.
وكان إصلاح هذه الاسطوانة في يوم السبت سادس عشر صفر سنة ست وعشرين وثمانمائة، وإصلاح الرخام في أيام الشهر المذكور3.
ومما غير في الكعبة بعد ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج: عتبة الباب السفلى، لأن الأزرقي ذكر أنها جعلت قطعة واحدة من خشب الساج، كما سبق ذكره وعتبة الكعبة الآن السفلى حجر منحوت، وما عرفت متى كان ذلك. وقد خفي علينا من المعنى الذي ذكرناه من أمر عمارة الكعبة كثير لعدم تدوين من قبلنا لذلك. ويدخل في المعنى الذي ذكرناه من عمارة الكعبة العمارة الواقعة في شاذورانها، وقد بينا ما علمناه من ذلك في الباب الذي بعد هذا في الترجمة المتعلقة بالشاذروان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 3/ 587، والإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 207"، وتاريخ الكعبة المعظمة "ص: 233".
2 إتحاف الورى 3/ 597، والعقد الثمين 1/ 50.
3 إتحاف الورى 3/ 597.

 

ج / 1 ص -140-    ذكر الأساطين:
وأما الأساطين: فواحدة فيما علمت، على ما ذكر الفاكهي، لأنه قال: حدثني أبو علي الحسن بن مكرم قال: حدثنا عبد الله بن بكر قال: حدثني أبي بكر بن حبيب قال: جاورت بمكة فعابت أسطوانة من أساطين البيت، فأُخْرِجَت، وجيء بأخرى ليُدْخِلوها مكانها، فطالت عن الموضع، وأدركهم الليل، والكعبة لا تفتح ليلا، فتركوها مائلة ليعودوا من غد فيصلحوها، فجاءوا من غد فأصابوها أقوم من القدح... انتهى.
ولم يذكر ذلك الأزرقي ولم أر من ذكر ذلك غير الفاكهي، وهو غريب جدا. والله أعلم. وفيه كرامة للبيت زاده الله شرفا.

ذكر الميازيب:
وأما الميازيب: فميزاب عمله الشيخ أبو القاسم رامشت صاحب الرباط المشهور بمكة، وصل به خادمه "مثقال" بعد موته مع تابوته في سنة سبع وثلاثين وخمسمائة1.
وميزاب أنقذه الخليفة المقتفي العباسي2 في سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، أو في التي بعدها، وجعل عوض ميزاب رامشت3.
ومنها: ميزاب عمله الناصر العباسي4 وهو الآن في الكعبة لأن اسمه مكتوب فيه، وهو خشب مبطن برصاص في الموضع الذي يجري فيه الماء، وظاهره مما يبدو للناس مطلي بفضة، وأصلح الموضع الذي يجري فيه الماء منه في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة أربع عشرة وثمانمائة5، بعد قلع اللوح الذي فوقه يستر مجرى الماء، وأعيد اللوح كما كان وطول هذا الميزاب بما منه في جدار الكعبة يزيد على أربعة أذرع. بالحديد، مقدار ثمن الذراع أو أكثر -الشك مني في مقدار الزيادة بعد تحريري لذلك في التاريخ الذي ذكرنا فيه إصلاحه- وأحدث عهد حلي فيه هذا الميزاب سنة إحدى وثمانين وسبعمائة6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 3/ 507، والعقد الثمين 3/ 385، 386.
2 هو: أبو عبد الله الحسين لأمر الله ابن المستظهر، بويع بالخلافة سنة 540هـ واستمر إلى أن توفي سنة 555هـ.
3 إتحاف الورى 2/ 510، وفيه أن ذلك كان في سنة 542هـ.
4 هو أبو العباس أحمد الناصر لدين الله ابن المستضيء، بويع بالخلافة سنة 575هـ، وظل بها إلى أن توفي سنة 622هـ.
5 إتحاف الورى 3/ 487.
6 إتحاف الورى 3/ 334، والسلوك للمقريزي 3/ 1: 357، 372، وتاريخ الكعبة المعظمة "ص: 174، 192، 999". وقد وقع تغيير وتبديل في ميزاب الكعبة على مر العصور، وكان آخره هو ما عمله السلطان العثماني عبد المجيد خان، والذي صنع في إسلامبول عام "1276هـ" وركب في نفس السنة، وهو مصفح بالذهب نحو "50" رطلا، وهو آخر ميزاب، وهو الموجود الآن بالكعبة المشرفة.

 

ج / 1 ص -141-    ذكر الأبواب:
وأما الأبواب: فباب عمله الوزير جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور المعروف بالجواد، سنة خمسين وخمسمائة، وركب عليها في سنة إحدى وخمسين، وكتب عليه اسم الخليفة المقتفي العباسي، وحلاه الجواد حلية حسنة بحيث إنه كان يستوقف الأبصار لحسن حليته على ما ذكر ابن جبير في أخبار رحلته1، وذكر فيها صفة حليته.
وكلام ابن الأثير يوهم أن الذي صنع للكعبة الباب في هذا التاريخ الخليفة المقتفي، لأنه قال في أخبار سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، فيها قلع الخليفة المقتفي لأمر الله باب الكعبة وعمل عوضه بابا مصفحا بالنقرة المذهبة، وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتا يدفن فيه إذا مات2... انتهى.
وليس ما ذكره ابن الأثير من نسبة الباب للمقتفي معارضا لما ذكره ابن جبير من نسبته للجواد، لأن الجواد إنما صنعه بأمر المقتفي، وأضاف إليه هذا الباب بكتابة اسمه عليه، وإنما نبهنا على ذلك لئلا يتوهم أن كلا منهما صنع للكعبة بابا، لأنه يبعد أن يعمل كل منهما للكعبة بابا في تاريخ واحد بسبب واحد، وهو اتخاذ الباب الأول تابوتا للدفن، فإن الجواد عمل تابوتا على ما قيل من الباب الذي كان قبل بابه، حمل فيه إلى المدينة الشريفة، ودفن بها، ولم يكن يتمكن من ذلك إلا بموافقة المقتفي عليه، وإظهاره أن للمقتفي رغبة في عمل الباب الذي قبل بابه تابوتا، ولأجل ذلك نسب هذا الأمر للمقتفي كما ذكر ابن الأثير، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رحلة ابن جبير "ص: 102"، وإتحاف الورى 51512ن والعقد الثمين 7/ 33، ودرر الفرائد "ص: 261.
2 الكامل لابن الأثير 11/ 228، والعقد الثمين 7/ 33، ودرر الفرائد "ص: 261"، وإتحاف الورى 2/ 515، 516".

 

ج / 1 ص -142-    ومنها: باب عمله المالك المظفر صاحب اليمن وكان عليه صفائح فضة زنتها ستون رطلا، وصارت لبني شيبة.
ومنها: باب عمله الملك الناصر محمد بن قلاوون1 صاحب مصر، وركب على الكعبة بعد قلع باب الملك المظفر في ثامن عشر من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وكان عليه من الفضة خمسة وثلاثون ألف درهم، وثلاثمائة درهم على ما ذكره البرزالي، وذكر أن هذا الباب من السنط الأحمر2.
ومنها: باب عمل في سلطنة ولده الملك الناصر حسن3، وذلك في سنة إحدى وستين وسبعمائة، وهو من خشب الساج، عمل بمكة، واستمر في الكعبة إلى تاريخه4، إلا أنه في سنة ست وسبعين وسبعمائة قلع مها لعمل الحلية التي هي فيه الآن، وعوض عنه بباب قديم كان للكعبة5، وهو الآن في حاصل زيت الحرم، ولعله باب الكعبة الذي عمله الملك الناصر محمد بن قلاوون، ثم أعيد إليها الباب الذي عمل بمكة في دولة الناصر حسن بعد تحليته في التاريخ الذي ذكرناه على ما أخبرني به والدي أعزه الله، وذكر أن مقدار هذه الحلية اثنان وثلاثون ألف درهم، أو ثلاثة وثلاثون لا يزيد عن ذلك، وأنه شاهد تحرير هذه الحلية لما كان مشارفا على عملها، وأظن أنه حلي في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة6، والله أعلم.
واسم الملك الناصر محمد بن قلاوون مكتوب في هذا الباب بأسفله، واسم حفيده الملك الأشرف شعبان بن حسين7 في بعض فيارين الباب، وفي بعض فيارين الباب، وهو الجانب الذي يكون على يمين الداخل إلى الكعبة، مكتوب اسم الملك المؤيد أبي النصر شيخ8، صاحب مصر، نصره الله، لأن بعض خواصه قدم إلى مكه في أول يوم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو سلطان المماليك في مصر والشام، تولى السلطنة عدة مرات أولها سنة 693هـ وعمره تسع سنين، فلبث فيها سنة إلا ثلاثة أيام، ثم تسلطن سنة 698هـ، ثم عاد إلى السلطنة سنة 708هـ، ثم عاد مرة أخرى سنة 709هـ، وبقي بها حتى مات سنة 741هـ "الدرر الكامنة 4/ 144-148".
2 البداية والنهاية 14/ 162، والسلوك 2/2: 362، وإتحاف الورى 3/ 203.
3 تولى السلطنة عام 748هـ حتى عام 752هـ ثم أعيد عام 755هـ حتى عام 762هـ "الدرر الكامنة 2/ 38-40".
4 النجوم الزاهرة 10/ 316، والعقد الثمين 4/ 181.
5 إتحاف الورى 3/ 321، والعقد الثمين 5/ 10، 1/ 52.
6 إتحاف الورى 4/ 334، والسلوك 3/ 1: 357، 372.
7 تولى السلطنة سنة 764هـ إلى أن قتل سنة 778هـ "بدائع الزهور 1 ق/ 111".
8 هو السلطان شيخ المحمودي، تسلطن من سنة 815هـ حتى مات أوائل سنة 827هـ "بدائع الزهور 2/ 60".

 

ج / 1 ص -143-    من ذي الحجة سنة ستة عشرة وثمانمائة، فرأى جانب الباب المشار إليه محتاجا إلى الحلية، فحلاه بفضة وطلاها بالذهب وكتب في ذلك اسم الملك المؤيد نصره الله، ومقدار الفضة التي حلي بها الموضع المشار إليه مائة درهم ونيف وتسعون درهما، على ما أخبرني به بعض من صاغ ذلك، وكان عمل ذلك والفراغ منه قبل الطلوع إلى عرفة في أيام من العشر الأول من ذي الحجة من سنة ست عشرة وثمانمائة1، واستحسن ذلك ممن صنعه، فالله يزيده رفعة، واسم الملك المظفر صاحب اليمن على مفتاح قفل باب الكعبة الآن، وفي القفل أيضا فيما أظن لأن فيه كتابة ممحوة، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 3/ 510، وتاريخ الكعبة المعظمة "ص: 199".

أوَّل من بوب الكعبة:
ولنختم هذا الفصل بفائدة في بيان أول من بوب الكعبة: أول من بوبها أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام على ما ذكره الزبير بن بكار؛ لأنه قال: وقال محمد بن حسن: حدثني عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: أنوش بن شيث بن آدم أول من غرس النخلة، وبوب الكعبة، وزرع الحبة... انتهى.
وذكر ذلك السهيلي رحمه الله، لأنه قال: أنوش، وتفسيره الصادق، وهو بالعربية أنش، وهو أول من غرس النخلة، وبوب الكعبة، وبذر الحبة1 ... انتهى.
وروينا في تاريخ الأزرقي ما يقتضي أن تبعا الحميري أول من بوب الكعبة، لأنه قال في أثناء خبر نقله عن ابن إسحاق في بناء إبراهيم الكعبة: وجعل بابها في الأرض غير مبوب حتى كان تبع ابن أسعد الحميري هو الذي جعل لها بابا وغلقا فارسيا، وذكر معنى ذلك في موضع آخر2.
وذكر الفاكهي ما يخالف ذلك، لأنه قال: وحدثنا أحمد بن صالح عن الواقدي قال: كان البيت قد دخله السيل من أعلى مكة، فانهدم، فأعادته جرهم على بناء إبراهيم عليه السلام وجعلوا له مصراعين وقفلا، فاستخفت جرهم بأمر البيت، وعملوا أمورا وأحدثوا أحداثا لم تكن3... انتهى.
ووجه مخالفة هذا لما ذكره الأزرقي أنه يقتضي أن جرهما جعلوا للكعبة بابا، وهو المصراعان المشار إليهما في هذا الخبر، والزمن الذي صنعوا فيه ذلك هو زمن ولايتهم للكعبة، وولايتهم لها قبل ولاية خزاعة، وولاية خزاعة لها قبل ولاية قريش، والباب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الروض الأنف 1/ 14. 
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 134، 250.
3أخبار مكة للفاكهي 5/ 225.

 

ج / 1 ص -144-    الذي عمله تبع هو في زمن ولاة قريش، على ما أشار إليه الفاكهي وغيره في خبر تبع الذي صنع باب الكعبة الذي ذكره الأزرقي، والله أعلم.
وذكر بعضهم ما يخالف ما ذكره الزبير والسهيلي في كون أنوش أول من بذر الحبة، لأن القطب الحلبي ذكر أنه بخط أبي علي الحسن بن الأشرف أحمد ابن القاضي عبد الرحيم بن علي البيسان: أول من زرع الحبة آدم عليه السلام فإنه كان يحرث ويزرع. روي أن الشعير من زرع حواء، والحنطة من زرع آدم عليه السلام وإنها تألمت في ذلك، وقال: ذكروه في كتب التاريخ1... انتهى2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تاريخ الطبري 1/ 128.
2 وقد تم تركيب بابين للكعبة الأول في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله وذلك عام 1363هـ 1944م وكان مصنوعا من الألمونيوم بسمك "2.5" وارتفاعه "3.10" أمتار. ومدعم بقضبان من الحديد. وتمت تغطية الوجه الخارجي للباب بألواح من الفضة المطلية بالذهب وزين الباب بأسماء الله الحسنى.
أما الباب الثاني: فقد أمر بصنعه الملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله عام 1397هـ = 1977م بعد ملاحظته قدم الباب وحدوث آثار خدوش في الباب فأصدر توجيهاته بصنع باب جديد، وباب التوبة من الذهب الخالص. وكان لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز "كان وليا للعهد آنذاك" أثر بالغ في أن يظهر العمل الجليل بالصورة التي تتمناها نفس كل مسلم. حيث قام جلالته حين ذاك بزيارة مقر العمل. وكان لهذه الزيارة الكريمة أثرها البالغ في دفع طاقة العمل والانتهاء من العمل قبل الموعد المحدد وقد تم الانتهاء منه في 22 من ذي القعدة سنة 1399هـ وقام بافتتاحه جلالة الملك خالد رحمه الله.
وقد تكلفت صناعة البابين باب الكعبة، وباب التوبة "13,42.000" من الريالات عدا كمية الذهب التي تم تأمينها بواسطة مؤسسة النقد العربي السعودي. وكمتها مائتين وثمانين كيلو جراما. وكان الذهب عيار 999.9%. واستغرق العمل منذ بدء العمل التنفيذي فيه في غرة ذي الحجة عام 1398هـ اثني عشر شهرا. وقد أقيمت ورشة خاصة لصناعته.
وقد وضعت أفكار مبدئية للباب تتلخص فيما يلي:
1- تحقيق الانسجام بين التصميم الجديد للباب وستارة الباب باستخدام خط الثلث كعنصر عام مميز مع الزخرفة.
2- اختيار نسبة وحجم بروز الزخرفة في التصميم الجديد ومطابقة ذلك على الموقع.
3- تحقيق طريقة تنفيذ الزخرفة بالحفر والنقش على الذهب مع استخدام قليل من الفضة بالإمكانات المحلية وبواسطة شيخ الصاغة في مكة المكرمة.
4- إمكانية الربط بين طريقة التنفيذ والزخرفة الإسلامية الأصيلة التي تمتد إلى التراث العريق في التزيين المعماري الهندسي.
5- استخدام أحدث الطرق التقنية في الهيكل الإنشائي للتوصل إلى درجة عالية من المتانة والجودة بحيث يقوم الباب بوظيفته بدون الاحتياج إلى الصيانة.
وفي ضوء هذه المبادئ تم بالنسبة للزخرفة اختيار طريقة التزيين التي تغطي المساحة وهي من صميم التراث الفني الإسلامي نظرا لإمكانية تنفيذه بالحفر على الذهب. أما المساحات الباقية التي =

 

ج / 1 ص -145-    ..................................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في الوسط فقد أخذت نفس روح فن الزخرف الإسلامي حيث وضعت في وسطها دوائر لكتابة الآيات الكريمة بالطريقة المعتادة مع إضافة زخرفات في الزوايا العلوية ليكون شكل الباب العام مقوسا دائريا يحيط بالآيات القرآنية المكتوبة حسب الترتيب الموضوع لها. وتمت التجارب المركزة في شكل إخراج الزخرفة، من أنواع متجانسة أهم عناصرها هي زخرفة الإطار البارز، وهي الزخرفة التي تستمر في مستوى مكان "القفل" حيث تعطي له الأهمية اللازمة، لأن قفل الكعبة المشرفة له شخصية خاصة في الشكل التراثي والوظيفي. وأضيفت في الزاويتين العلويتين زخارف متميزة لإبراز شكل قوس يحيط بلفظ الجلالة "الله جل جلاله" واسم رسول الله "محمد صلى الله عليه وسلم" والآيات القرآنية الكريمة:
{ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46]، {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 97]، {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} [الأنعام: 54]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر: 60].
ويلي ذلك حشوتان على شكل شمسين مشرقتين في وسطها: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" على شكل برواز دائري وقد ثبتت على أرضية الحشوتين العلويتين حلقتا الباب اللتان تشكلان مع القفل وحدة متجانسة شكلا والمتباينة نسبة، ليكون الشكل العام مريحا للنظر. وكتب تحت الحشوتين العلويتين الآية الكريمة:
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. والحشوتان اللتان تحت القفل في وسطيهما كتبت سورة الفاتحة على شكل قرصين بارزين، وتحت هاتين الحشوتين عبارات تاريخية صغيرة هي: صنع الباب السابق في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود سنة 1363هـ وتحتها: صنع هذا الباب في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود سنة 1399هـ.
وضمن زخرفة خفيفة كتب في الدرفة اليمنى عبارة:
"تشرف بافتتاحه بعون الله تعالى الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود في الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1399هـ. وفي الدرفة اليسرى. عبارة: صنعه أحمد إبراهيم بدر بمكة المكرمة صممه منير الجندي. واضع الخط: عبد الرحمن أمين، كما وضعت زخرفة دقيقة خاصة لأنف الباب المثبت على الدرفة اليسرى.
أما الجوانب: فقد صممت بطريقة فنية ومثبتة حسب التصميم الزخرفي بعد مراعاة اللوحات الدائرية البارزة التي تحمل أسماء الله الحسنى وعددها خمسة عشر:
فوق الباب:  يا واسع   يا مانع  يا نافع
الجانب الأيمن:   يا عالم    يا عليم   يا حليم
   يا عظيم  يا حكيم  يا رحيم
الجانب الأيسر:   يا غني    يا مغني   يا حميد
   يا مجيد   يا سبحان   يا مستعان
وعلى القاعدة الخشبية تثبت لوحات الذهب الخالص المزخرفة بطريقة النقش والحفر. وهذه القاعدة الخشبية مؤلفة من ثلاثة مستويات في البرواز، الزخرفة الإطارية المستمرة، والثانية تحمل الآيات الكريمة. =

 

ج / 1 ص -146-    .....................................................................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مقاسات الباب:
ويزيد ارتفاع باب الكعبة المشرفة عن ثلاثة أمتار. ويقارب عرضه المترين. بعمق قرب من النصف متر، وهو مكون من درفتين ويتألف الهيكل الإنشائي من قاعدة خشبية بسماكة عشرة سنتيمترات من خشب التيك واسمه الخاص "ما كامونغ" ووزنه النوعي 40.8 سم2.
وقد جرى تفصيل الهيكل الإنشائي وتجهيزه بواسطة فنيين إخصائيين في ضوء مطابقة التصميم الزخرفي من جهة. ومراعاة عوامل الطقس والموقع في تحمل الحرارة الشديدة والأمطار من جهة أخرى.
واتخذت أحدث الاحتياطات الفنية لمعالجة كافة النقاط التفصيلية. والارتباطات بين الباب والحلق من جهة. والجوانب من جهة أخرى. وزودت نهاية الباب بعارضة من الأسفل لمنع دخول المطر إلى داخل الكعبة المشرفة، وتحتوي على قضيب خاص يضغط حرف الباب على العتبة عند الإغلاق.
ولكي يتم تركيب الباب بسهولة أعد إطار من الصلب صنع خصيصا وثبتت عليه المفصلات بحيث تتحمل كل درفة ما يزيد على "500" كيلو جرام. وجهزت المفصلات على عجلات دائرة لسهولة الحركة.
وبالنسبة لتثبيت صفائح الذهب على القاعدة الخشبية. فقد تم تركيب مادة لاصقة خاصة تضمن استمرار التصاق الذهب بالخشب إلى فترة غير محدودة.
قفل الباب:
أما بالنسبة لقفل باب الكعبة المشرفة الجديد فقد صرف النظر عن استخدام القفل الخاص بالباب القديم، والذي يعود إلى عهد السلطان عبد الحميد، وتمت صناعة قفل جديد بنفس مواصفات القفل القديم بما يناسب التصميم الخاص بالباب الجديد، ومع زيادة ضمانة الاغلاق دون الحاجة إلى صيانة.
باب التوبة:
يقع هذا الباب في الناحية الشمالية حيث يصعد من خلاله إلى سطح الكعبة، وقد تم تصميمه على أساس أن يأتي مطابقا للباب الرئيسي من حيث الزخرفة وطريقة الكتابة بحيث يظهر التجانس بين البابين، ويبلغ عرضه 70سم وارتفاعه 230سم، وصنع من نفس نوع الخشب المصنوع منه باب الكعبة "ماكامونغ" ولكن بسماكة أقل. هامش رقم 6 لصفحة 201 حتى صفحة 204 عن عمارة وتجديد باب الكعبة مصدره: "قصة التوسعة الكبرى" للأستاذ حامد عباس.