شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام

ج / 1 ص -255-    الباب الرابع عشر:
في ذكر شيء من أخبار الحجر الأسود:
روينا في تاريخ الأزرقي" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن الله تعالى أنزل الركن يعني الحجر الأسود والمقام مع آدم عليه السلام ليلة نزل ليستأنس بهما، وأنه كان يأنس بالحجر1.
وروينا فيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"أكثروا استلام هذا الحجر فإنه يوشك أن يفقد" وفيه ما يقتضي أنه يرفع إلى الجنة.
وروينا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"أول ما يرفع الركن والمقام".
وروينا فيه عن ابن إسحاق وغيره: أن الله عز وجل استودع الركن أبا قبيس حين غرق الأرض زمن نوح عليه السلام وقال: إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له، فلما بنى الخليل عليه السلام البيت جاءه جبريل عليه السلام بالحجر الأسود، فوضعه الخليل موضعه من البيت... انتهى.
وقيل: إن إلياس بن مضر أول من وضع الحجر للناس بعد الغرق، ذكره الزبير بن بكار، وهذا يخالف ما سبق، والله أعلم.
وقال ابن إسحاق بعد أن ذكر إخراج بني بكر بن عبد مناة بن كنانة وغبشان بن خزاعة لجرهم من مكة: فخرج عمرو بن الحارث بن مُضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنهما في زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن.
وذكر الزبير بن بكار معنى ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 342.

 

ج / 1 ص -256-    وقال القطب: وقال أبو عبد الله محمد بن عائذ الدمشقي في "مغازيه": عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها حدثت: أن جُرهما كانت أهل البيت، وهم العرب الذين كانوا يتكلمون بالعربية، ونكح إليهم إسماعيل عليه السلام فأحلوا حرم البيت، واقتتلوا، حتى كادوا يتفانون، فسلط الله عليهم العرب، فخرجوا من مكة إلى اليمن.
وكان حول البيت غيضة، والسيل يدخله، ولم يُرفع البيت حينئذ، فإذا قدم الحاج وطئوه حتى يذهب الغيضة، فإذا خرجوا بنيت، فقدم قصي فقطع الغيضة، وابتنى حول البيت دارا، ونكح حبى بنت حُليل، فولدت له عبد الدار بن قصي، أول ما ولدت، فسماه عبد الدار، بداره تلك، وجعل الحجابة له، لأنه أكبرهم، وعبد مناف بمناف، وجعل السقاية له، والرفادة، ودار الندوة لعبد العزى، واللواء لعبد قصي، ويقال: عبد بن قصي.
فقال قصي لامرأته قولي لجدتك تدل بنيك على الحَجَر، فلم يزل بها حتى قالت: إني أعقل أنهم حين خرجوا إلى اليمن سرقوه، ونزلوا منزلا وهو معهم، فبرك الجمل الذي عليه، فضربوه فقام، ثم سار فبرك فضربوه فقام، فبرك الثالثة، فقالوا: ما برك إلا من أجل الحجر، فدفنوه وذلك في أسفل مكة، وإني أعرف حيث برك.
فخرجوا بالحديد، وخرجوا بها معهم، فأرتهم حيث برك أولا: وثانيا، وثالثا، فقالت: احفروا هاهنا، فحفروا حتى يئسوا منه، ثم ضربوا فأصابوه وأخرجوه، فأتي به قصي، فوضعه في الأرض، وكانوا يتمسحون به وهو في الأرض، حتى بنى قصي البيت، ومات قصي ودفن بالحجون... انتهى.
وذكر هذا الخبر الإمام الفاكهي، ويبعد أن يكون صحيحا، لأنه يقتضي أن جرهما دفنوا الحجر في غير زمزم، والمعروف في دفنهم له أنه في زمزم كما سبق قريبا عن ابن إسحاق وغيره.
والمعروف أن القصة التي في هذا الخبر في دفن الحجر اتفقت لبني إياد بن نزار حين خرجوا من مكة، وأن الحجر لم يستمر مدفونا إلى عهد قصي، لأن امرأة من خزاعة أبصرته حين دفن، وأخبرت بذلك قومها، فأعلم قومهم بذلك مضر، على أن تكون ولاية البيت لخزاعة، وهذا مذكور في خبر ذكره الفاكهي عن الكلبي، والزبير بن بكار، لأنه قال: فحدثنا الزبير بن بكار قال: لما هلك وكيع الإيادي واتضعت إياد، وهي إذ ذاك تلي أمر بيت الله الحرام، قاتلوهم وأخرجوهم وأجلوهم ثلاثا، يخرجون عنهم، فلما كانت الليلة الثالثة حسدوا مضرا أن تلي الركن الأسود، فحملوه على بعير فبرك، فلم يقم، فغيروه، فلم يحملوه على شيء إلا رزح وسقط، فلما رأوا ذلك بحثوا له تحت شجرة فدفنوه ثم ارتحلوا من ليلتهم، فلما كان بعد يومين افتقدت مضر الركن، فعظم في

 

ج / 1 ص -257-    أنفسها، وقد كانت شرطت على إياد كل امرأة متزوجة فيهم، فكانت امرأة من خزاعة فيما يقولون يقال لها: قدامه، متزوجة في إياد.
ثم قال: فأبصرت إياد حين دفنت الركن -أجمع الزبير، وابن الكلبي في حديثهما كل واحد فيهم بنحو من حديث صاحبه فقالت لقومها حين رأت مشقة ذهاب الركن على مضر: خذوا عليهم أن يولوكم حجابة البيت، وأدلكم على الركن، فأخذوا بذلك عليهم. ثم قال: فدلتهم عليه، فابتحثوه فأعادوه في مكانه وولوهن فلم يبرح في أيدي خزاعة حتى قدم قصي بن كلاب، فكان من أمره الذي كان1... انتهى.
وهذا الخبر أقرب إلى الصحة من الخبر الذي ذكره ابن عائذ، لما تقدم من أن المعروف في القصة التي ذكرها أنها اتفقت لإياد لا لجرهم، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 146، 147.

ذكر ما أصاب الحجر الأسود في زمن ابن الزبير، وما صنع فيه من الفضة في زمنه وزمن هارون الرشيد:
روينا في تاريخ الأزرقي خبر بناء ابن الزبير الكعبة، رواه الأزرقي عن جده، عن سليم بن سالم، عن ابن جريج، عن غير واحد من أهل العلم ممن حضر بناء ابن الزبير للكعبة، قال فيه: وكان الركن قد تصدع من الحريق بثلاث فرق، فانشظت منه شظية كانت عند بعض آل بني شيبة بعد ذلك بدهر طويل، فشده ابن الزبير بالفضة إلى تلك الشظية من أعلاه بين موضعها في أعلا الركن1.. انتهى.
وروينا في تاريخ الأزرقي عن جده قال: كان ابن الزبير ربط الركن الأسود بالفضة لما أصابه من الحريق، وكانت الفضة قد تزلزلت ونزعت وتعلقت حول الحجر حتى خافوا عليه أن ينقض، فلما اعتمر هارون الرشيد وجاور في سنة تسع وثمانين ومائة أمر بالحجارة التي بينها الحجر الأسود، فنقبت بالماس من فوقها ومن تحتها، ثم أفرغ فيها الفضة2

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخبر في أخبار مكة للأزرقي 1/ 208، 209. 
2أخبار مكة للأزرقي 1/ 210.

ذكر ما أصاب الحجر الأسود في فتنة القرمطي وأخذهم له:
ذكر أهل التاريخ: أن عدو الله أبا طاهر القرمطي وافى مكة في سابع ذي الحجة، وقيل: في ثامنه، سنة تسع عشر وثلاثمائة، وفعل فيها هو وأصحابه أمورا منكرة، منها: أن بعضهم ضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره، ثم قلعه، وقيل: قلعه جعفر بن فلاح البناء بأمر أبي طاهر يوم الاثنين بعد الصلاة لأربع عشر خلت من ذي الحجة، وذهب به معه إلى بلاده هجر1، وبقي موضعه من الكعبة المعظمة خاليا يضع الناس فيه أيديهم للتبرك إلى حين رد إلى موضعه من الكعبة المعظمة، وذلك في يوم الثلاثاء يوم النحر من سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، على ما ذكره المسبحي، وذكر أن الذي وافى به مكة "سنبر بن الحسن القرمطي"، وأن "سنبرا" لما صار بفناء الكعبة ومعه أمير مكة أظهر الحجر من سفط، وعليه ضباب فضة قد عملت من طوله وعرضه، تضبط شقوقا حدثت عليه بعد انقلاعه، وأحضر معه جصًّا يشد به، فوضع "سنبر" الحجر بيده، وشده الصانع بالجص، وقال "سنبر" لما رده: أخذناه بقدرة الله تعالى ورددناه بمشيئته.
ونظر الناس إلى الحجر فتبينوه وقبلوه واستلموه وحمدوا الله تعالى2.
وكان رد الحجر الأسود في موضعه قبل حضور الناس لزيارة الكعبة يوم النحر، وكان مدة كينونته عند القرمطي وأصحابه اثنين وعشرين سنة إلا أربعة أيام. هذا معنى كلام المسبحي.
وكان بجكم3 التركي مدبر الخلافة ببغداد بذل للقرامطة على رد الحجر الأسود خمسين ألف دينار فأبوا، وقالوا: أخذناه بأمر، ولا نرده إلا بأمر.
وقيل: إن المطيع العباسي اشتراه بثلاثين ألف دينار من القرامطة.
وكلام القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه" صريح في أن المطيع العباسي اشتراه بهذا القدر من أبي طاهر القرمطي4، وفيه نظر، لأن أبا طاهر مات قبل خلافة المطيع في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة على ما ذكره ابن الأثير وغيره5، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي الأحساء حاليا.
2 إتحاف الورى 2/ 394، 395، والنجوم الزاهرة 3/ 302، ودرر الفرائد "ص: 242، وتاريخ الخلفاء "ص: 399".
3 انظر ترجمته في: الوافي بالوفيات 1/ 77، 78.
4 هداية السالك 3/ 1358.
5 الكامل لابن الأثير 8/ 147 وما بعدها، والبداية والنهاية 11/ 207، ودرر الفرائد "ص: 242"، وإتحاف الورى 2/ 391.

 

ج / 1 ص -258-    ذكر ما صنعه الحجبة في الحجر الأسود بإثر رد القرامطة له:
ذكر المسبحي: أن في سنة أربعين وثلاثمائة قلع الحجبة الحجر الأسود الذي نصبه "سنبر" وجعلوه في الكعبة خوفا عليه، وأحبوا أن يجعلوا له طوقا من فضة يشد به1، كما كان قديما حين عمله ابن الزبير، فأخذ في إصلاحه صانعان حاذقان، فعملا له طوقا من فضة وأحكماه.
ونقل المسبحي عن محمد بن قانع الخزاعي: أن مبلغا ما على الحجر الأسود من الطوق وغيره: ثلاثة آلاف وسبعة وتسعون درهما ونصف على ما قيل... انتهى.
وهذه الحلية غير حلية الحجر الآن؛ لأن داود بن عيسى بن فليتة الحسني- أمير مكة- أخذ طوق الحجر الأسود قبيل عزله من مكة في سنة خمس وثمانين وخمسمائة على ما ذكر أبو شامة في ذيل الروضتين2، وذكر ذلك غيره.
ولم أتحقق أن الحجر الأسود قلع من موضعه بعد رد القرامطة له إلى يومنا هذا، غير أن بعض فقهاء المصريين أخبرني أن الحجر الأسود قلع من موضعه في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة لتحليته في هذه السنة من الحلي التي أبدلها أمير سودون باشا3.
ورأيت غير واحد من المكيين ينكر ما ذكره لي هذا الفقيه المصري، وهو يثبت ذلك ويقول: إنه شاهده مقلوعا.
وقد سمع ذلك منه قبلي غير واحد من فقهاء مكة، وأخبرني بعضهم بذلك عنه، فسألت المخبر له فأخبرني به وحققه، وكان إخباره لنا بذلك في موسم سنة أربع عشرة وثمانمائة، لما ورد إلى مكة قاضيا للركب المصري هو الفقيه نور الدين المنوفي، وله إلمام بالفقه ويستحضر فيه بعض المختصرات، والله أعلم بصحة ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النجوم الزاهرة 3/ 305، وتاريخ الخلفاء "ص: 399".
2 لم تصلنا حوادث هذه السنة من كتاب أبي شامة، فهي في القسم المفقود. 
3 تاريخ الكعبة المعظمة "ص: 158"، وإتحاف الورى 3/ 334.

 

ج / 1 ص -259-    ذكر ما أصاب الحجر الأسود بعد فتنة القرامطة من بعض الملحدة مثلهم:
ذكر أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن العلوي: أنه في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة يوم النفر الأول، قام رجل فقصد الحجر الأسود، فضربه ثلاث ضربات بدبوس، وتبخشن وجه الحجر من تلك الضربات، وتساقطت منه شظايا مثل الأظفار، وتشقق، وخرج مكسره أسمر يضرب إلى صفرة محببا مثل الخشخاش، فأقام الحجر على ذلك يومين، ثم إن بني شيبة جمعوا الفتات وعجنوه بالمسك واللمك، وحشوا الشقوق وطلوها بطلاء من ذلك... انتهى باختصار.
وذكر ابن الأثير هذه الحادثة في أخبار سنة أربع عشرة وأربعمائة1، والله أعلم بالصواب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الكامل لابن الأثير 9/ 124، وفيه أن هذه الحادثة كانت في سنة 413هـ، وهي كذلك في النجوم الزاهرة 4/ 251، والمنتظم 918، ودرر الفرائد "ص: 253"، وإتحاف الورى 2/ 450.

 

ج / 1 ص -260-    ذكر صفته وقدره وقدر ما بينه وبين الأرض:
ذكر المسبحي: أن أبا الحسن محمد بن نافع الخزاعي دخل الكعبة فيمن دخلها للنظر إلى الحجر الأسود لما كان في الكعبة بإثر رد القرامطة له، وأنه تأمل الحجر الأسود، فإذا السواد في رأسه دون سائره أبيض، قال: وكان مقدار طوله فيما حررت مقدار عظم ذراع، أو كالذراع المقبوضة الأصابع، والسواد في وجهه غير ماض في جميعه... انتهى.
وما ذكره العلوي في صفة الحجر يخالف هذا، والله أعلم.
وذكر ابن عبد ربه في "العقد" ما يوافق ما ذكره الخزاعي في صفة الحجر الأسود وما يخالفه في مقدار طوله، لأنه قال: وذكر أيضا عن بعض المكيين حديثا يرفعه إلى شيخه: أنه نظر إلى الحجر الأسود بعد هدم ابن الزبير البيت، وزاد فيه، فقدروا طوله ثلاثة أذرع، وهو ناصع البياض فيما ذكروا إلا وجهه الظاهر، واسوداده فيما ذكروا -والله أعلم- لاستلام أهل الجاهلية له، ولطخه بالدم1... انتهى بنصه.
وذكر الأزرقي: أن ذرع ما بين الحجر الأسود إلى الأرض ذراعان وثلثا ذراع2.
وذكر ابن جماعة فيما أخبرني به عنه خالي أن ارتفاع الحجر من أرض المطاف: ذراعان وربع وسدس ذراع، بذراع القماش المستعمل بمصر في زمنه3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العقد الفريد 6/ 258.
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 289.
3 هداية السالك 3/ 1334.

 

ج / 1 ص -261-    ذكر شيء من الآيات المتعلقة بالحجر الأسود:
للحجر الأسود آيات بينات:
منها: حفظ الله تعالى له من الضياع منذ أهبط إلى الأرض، مع ما وقع من الأمور المقتضية لذهابه، كالطوفان، ودفن بني إياد.
وذكر ابن جماعة: أن الحجر الأسود أزيل من موضعه غير مرة، ثم رده الله إليه، قال: وقع ذلك من جرهم، وإياد، والعماليق، والقرامطة1، ولم أر ما ذكره عن العماليق، والله أعلم.
ومنها: أنه على ما قيل هلك تحته لما حمله القرامطة أربعون جملا، فلما أعيد حمل على قعود هزيل فسمن. ذكر هذا القول الذهبي.
وقيل: هلك تحته لما حمل إلى هجر ثلاثمائة بعير، وقيل: خمسمائة بعير، والله أعلم.
ومنها: أنه يطفو على الماء.
ومنها: أنه لا يسخن من النار، ذكر هاتين الآيتين ابن أبي الدم في "الفرق الإسلامية"، فيما حكاه عنه ابن شاكر الكتبي المؤرخ، ونقل ذلك عن بعض المحدثين، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وقد بسطنا ذلك في أصل هذا الكتاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هداية السالك 3/ 1358.