شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام

 ج / 1 ص -270-   الباب السادس عشر:
في ذكر شيء من أخبار المقام "مقام الخليل عليه السلام":
هذا المقام، هو الحجر الذي وقف عليه الخليل عليه السلام، حين بنى الكعبة، وهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وغيرهما. وقيل: وقف عليه حين أذن للناس بالحج، وقيل: وقف عليه حين غسلت زوجة ابنه إسماعيل عليه السلام رأسه لما جاء يسأل عن ولده إسماعيل، وهو في خبر طويل، ضعفه سعيد بن جبير، ويمكن الجمع بين هذه الأقوال بأن يكون الخليل عليه السلام وقف على ذلك لهذه الأمور كلها، والله أعلم.
وقد ذكر صفته وقدره الأزرقي1 وابن جبير2 وابن جماعة، وذكرنا ذلك في أصل هذا الكتاب، واختصرنا هنا على ما ذكره ابن جماعة لأنه أبلغ في التحرير.
أخبرني خالي قاضي الحرمين محب الدين النويري قال: أخبرنا القاضي عز الدين بن جماعة قال: وقد ذكر الأزرقي أن ذرع المقام ذراع، وأن القدمين داخلان فيه سبعة أصابع. وحررت لما كنت مجاورا بمكة المشرفة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة مقدار ارتفاعه من الأرض، فكان نصف ذراع وربع ذراع وثمن ذراع، بالذراع المستعمل في زماننا بمصر في القماش، وأعلا المقام مربع من كل جهة: نصف ذراع وربع ذراع، وموضع غوص القدمين ملبس بفضة، وعمقه من فوق الفضة: سبعة قراريط ونصف قيراط من ذراع القماش3... انتهى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 228.
2 رحلة ابن جبير "ص: 62".
3 هداية السالك 3/ 135.

 

ج / 1 ص -271-    ذكر حلية المقام:
أول ما حُلِّيَ المقام في خلافة المهدي1 العباسي، لأنه رفع فانثلم لرخاوة حجره، فكتب الحجبة إلى المهدي يعرفونه بذلك، وأنهم يخشون عليه أن يتفتت، فبعث المهدي بألف دينار أو أكثر، فضببوا بذلك المقام من أعلاه وأسفله، فلما كان في خلافة المتوكل2 زيد في تحليته بالذهب وجعل ذلك فوق حليته الأولى، وذلك في مصدر الحاج سنة ستٍّ وثلاثين ومائتين3.
ثم إن جعفر بن الفضل العباسي عامل مكة، ومحمد بن حاتم قلعا حليته في خلافة المتوكل وضرباها دنانير ليستعينا بذلك على ما قيل في حرب إسماعيل بن يوسف العلوي الذي خرج من مكة وأفسد بها وبالحجاز في سنة إحدى وخمسين ومائتين4.
ولم تزل حلية المهدي على المقام إلى أن قلعت عنه في سنة ست وخمسين ومائتين في المحرم، لأجل إصلاحه، لأن الحجبة ذكروا لعامل مكة علي بن الحسن العباسي أن المقام وَهَى، وتسللت أحجاره، ويخشى عليه، وسألوه في تجديده عمله وتضبيبه حتى يشتد، فأجابهم لسؤالهم وزادهم ذهبا وفضة على حليته الأولى، فعمل له طوقان من ذهب فيهما ألف مثقال إلا ثمانية مثاقيل، وطوق من فضة. وأحضر المقام إلى دار الإمارة وأذيبت له العقاقير بالزئبق، وشد بها شدا جيدا حتى التصق، وكان قبل ذلك سبق قطع قد زال عنها الإلصاق لما قلعت الحلية عنه في سنة ست وخمسين ومائتين لأجل إصلاحه5، وكان الذي شده بيده في هذه السنة: بشير الخادم مولى أمير المؤمنين المعتمد6 العباسي، وحمل المقام بعد اشتداده بالإلصاق وتركيب الحلية التي عملت له لشده أيضا عليه إلى موضعه، وذلك يوم الاثنين لثماني ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين ومائتين، وكان عمل حليته في المحرم وصفر من هذه السنة7.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد المهدي بن المنصور، وولي الخلافة بعد وفاة أبيه أبي جعفر المنصور صنة 158هـ، وظل في الخلافة حتى توفي سنة 169هـ.
2 هو جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن الرشيد، تولى الخلافة بعد وفاة الواثق سنة 232هـ ظل في الخلافة حتى قتل سنة 247هـ.
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 36، وإتحاف الورى 2/ 302.
4 البداية والنهاية 11/ 29، وإتحاف الورى 2/ 330.
5 العقد الثمين 6/ 152، وإتحاف الورى 2/ 333.
6 من المعروف أن المعتمد تولى الخلافة سنة 256هـ حتى توفي سنة 179هـ، فيكون الخليفة المقصود في التاريخ المذكور هو "المهتدي" وليس "المعتمد".
7 إتحاف الورى 2/ 333، والعقد الثمين 6/ 152.

 

ج / 1 ص -272-    وفي أوائل شهر ربيع الأول وسع الطوقان الذهب -المشار إليهما- لضيقهما ثم عملا عليه، ووضع في موضعه في التاريخ المتقدم ذكره.
هذا ملخص بالمعنى مما ذكره الفاكهي في خبر "حلية المقام" وكلامه أبسط من هذا، ونذكره كما ذكره في أصل هذا الكتاب.
وذكر الأزرقي 1 حليته في زمن المهدي والمتوكل، ولم يذكر تاريخ حليته في زمن المهدي وهي سنة إحدى وستين ومائة، على ما ذكره الفاكهي2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 256 وما بعدها.
2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 165، وإتحاف الورى 2/ 201- 211.

ذكر صفة الموضع الذي فيه المقام والمصلى خلفه:
أما صفة الموضع المشار إليه: فإنه الآن قبة عالية من خشب ثابتة قائمة على أربعة أعمدة دقاق حجارة منحوتة بينها أربعة شبابيك من حديد من الجهات الأربعة، ومن الجهة الشرقية يدخل إلى المقام، والقبة مما يلي المقام منقوشة مزخرفة بالذهب، ومما يلي السماء مبيضة بالنورة.
وأما موضع المصلى الآن: فإنه ساباط مزخرف على أربعة أعمدة، منها: عمودان عليهما القبة وهو متصل بها، وهو مما يلي الأرض منقوش مزخرف بالذهب، ومما يلي السماء مبيضة بالنورة.
وأما موضع المصلى الآن: فإنه ساباط مزخرف على أربعة أعمدة، منها: عمودان عليهما القبة وهو متصل بها، وهو مما يلي الأرض منقوش مزخرف بالذهب، ومما يلي السماء مبيض بنورة.
وأحدث وقت صنع فيه ذلك في شهر رجب سنة عشر وثمانمائة1. واسم الملك الناصر فرج صاحب الديار المصرية والشامية مكتوب فيه بسبب هذه العمارة، واسم الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي صاحب مصر مكتوب في الشباك الشرقي في هذا الموضع بسبب عمارته له في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة2.
والمقام بين الشبابيك الأربعة الحديد في قبة من حديد ثابت في الأرض، والقبة التي عليها ثابتة أيضا في الأرض برصاص مصبوب، بحيث لا يستطاع قلع القبة الحديد التي فوقه إلا بالمعاول وشبهها، ولعل القبة الحديد التي في جوفها المقام الآن القبة الحديد التي كانت توضع عليها عند قدوم الحاج إلى مكة صونا لها، لكونا أحمل للازدحام والاستلام على ما ذكر ابن جبير3 وذكر ما يقتضي أن المقام كان عند رحلته إلى مكة غير ثابت وأنه يوضع ويرفع، ويجعل حينا في الكعبة في البيت الذي فيه الدرجة التي يصعد منها إلى السطح أي سطح الكعبة ويجعل أيضا في موضعه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 3/ 457. 
2 إتحاف الورى 3/ 187. 
3 رحلة ابن جبير "ص 63".

 

ج / 1 ص -273-    الذي هو به الآن في قبة من خشب، فإذا كان الموسم قلعت قبة الخشب، وجعلت عليه القبة الحديد، ذكر ذلك في موضعين من رحلته، ونص كلامه الدال على أن المقام غير مؤبد موضعه الآن قوله بعد أن ذكر اعتمار مُكْثِر بن عيسى بن فليته أمير مكة في شهر رجب من سنة تسع وسبعين وخمسمائة وهي السنة التي وصل فيها ابن جبير إلى مكة للحج فلما فرغ يعني مكثرا من الطواف صلى عند الملتزم، ثم جاء إلى المقام وصلى خلفه، وقد أخرج له من الكعبة، ووضع في قبته الخشبية التي يصلى خلفها، فلما فرغ من صلاته رفعت له القبة عن المقام فاستلمه وتمسح به، ثم أعيدت القبة عليه1... انتهى.
وما عرفت متى جعل المقام ثابتا في القبة على صفته التي هو عليها الآن.
وأما القبة التي فوق القبة الحديد التي المقام في جوفها: فأظن أن الملك المسعود صاحب اليمن ومكة أول من بناها، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رحلة ابن جبير "ص:109".

ذكر ذرع ما بين المقام والحجر الأسود:
وما بين المقام والركن الشامي الذي يقال له العراقي، وما بين المقام وبين جدار الكعبة وشاذروانها المقابل للمقام، وما بين المقام وحجرة زمزم وحرف بئر زمزم الطيبة المباركة:
روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم في تاريخه أنه قال: وذرع ما بين الركن الأسود إلى مقام إبراهيم عليه السلام تسعة وعشرون ذراعا وتسعة أصابع، وذرع ما بين جدار1 الكعبة من وسطها إلى المقام: سبع2 وعشرون ذراعا، وذرع ما بين شاذروان الكعبة إلى المقام: ستة3 وعشرون ذراعا ونصف، ومن الركن الشامي إلى المقام: ثمانية وعشرون ذراعا وسبع4 عشرة أصبعا ثم قال: ومن المقام إلى جدار حجرة زمزم: اثنان وعشرون ذراعا. ومن المقام إلى حرف5 بئر زمزم أربع6 وعشرون ذراعا وعشرون إصبعا7...انتهى.
ثم قال القاضي عز الدين بن جماعة فيما أخبرني عنه خالي: ومن جدار الشباك الذي داخله المقام إلى شاذروان الكعبة: عشرون وثلثا ذراع وثمن ذراع، يعني بذراع الحديد المتقدم ذكره8.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في أخبار مكة 2/ 85: "جدر". 
2 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة "سبعة".
3 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة "ستة".
4 في أخبار مكة: "تسع".
5 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة: "صرف". 
6 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة: "أربعة". 
7 أخبار مكة 2/ 85 و68. 
8 هداية السالك 3/ 1351.

 

ج / 1 ص -274-    وقد حررنا بعض ما حرره الأزرقي في هذا المعنى، فكان ما بين ركن الكعبة الذي فيه الحجر الأسود وبين الركن اليماني من أركان الصندوق الذي فيه المقام من داخل الشباك الذي فيه الصندوق، أربعة وعشرون ذراعا إلا سدس ذراع، وكان ذرع ما بين وسط جدار الكعبة الشرقي إلى وسط الصندوق المقابل له: اثنين وعشرين ذراعا إلا ربع ذراع، وكان ما بين ركن الكعبة الشامي الذي يلي الحجر بسكون الجيم وركن الصندوق الشامي: ثلاثة وعشرون ذراعا، وكان مما بين ركن الصندوق الشرقي إلى ركن البيت الذي فيه بئر زمزم المقابل له: خمسة عشر ذراعا إلا ثلث ذراع، وكل ذلك بذراع الحديد المتقدم ذكره.

ذكر موضع المقام في الجاهلية والإسلام وما قيل في ذلك:
ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه له إلى موضعه وهذا حين غيره السيل عنه:
روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: موضع المقام: هو هذا الذي هو به اليوم، وهو موضعه في الجاهلية وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر، فجُعل في وجه الكعبة، حتى قدم عمر رضي الله عنه فرده بمحضر من الناس، وذكر الأزرقي ما يوافق قول ابن أبي مليكة في موضع المقام عن عمرو بن دينار، وسفيان بن عيينة1.
وروى الفاكهي، عن عمرو بن دينار، وسفيان بن عيينة، مثل ما حكاه عنهما الأزرقي بالمعنى2.
ونقل المحب الطبري في "القرى" عن مالك ما يخالف ذلك، لأنه قال: وقال: مالك في المدونة: كان المقام في عهد إبراهيم عليه السلام في مكانه اليوم، وكان أهل الجاهلية ألصقوه بالبيت خيفة السيل، فكان كذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر، فلما ولي عمر رضي الله عنه رده بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة قيس بها حين أخروه... انتهى.
ثم قال المحب: وفي هذا مناقضة ظاهرة لما ذكره الأزرقي عن ابن أبي مليكة، وسياق لفظ حديث جابر رضي الله عنه الصحيح الطويل، وما روي نحوه يشهد لترجيح قول ابن أبي مليكة، وذلك قوله: ثم تقدم إلى مقام إبراهيم وقرأ:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة 2/ 33.
2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 454، 455.

 

ج / 1 ص -275-    مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فجعل المقام بينه وبين الكعبة، والمتبادر إلى الفهم عند سماع هذا اللفظ أنه لم يكن حينئذ ملصقا بالبيت، لأنه لا يقال في العرف تقدم إلى كذا فجعله بينه وبين كذا إلا فيما يمكن أن يقدمه أمامه وأن يخلفه خلفه، وإن كان ملصقا تعين التقديم لا غير1... انتهى باختصار.
وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب بقية كلام المحب وكلاما لمالك رحمه الله في المعنى وبينا ما في الصواب، والله أعلم.
وذكر موسى بن عقبة في "مغازيه"، وأبو عروبة في "الأوائل" له، والفاكهي في كتابه ما يوافق ما ذكره مالك في أن المقام كان في وجه الكعبة لاصقا، في الجاهلية.
فأما موسى بن عقبة فإنه قال فيما رويناه عنه: وكان زعموا أن المقام لاصق في الكعبة فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه هذا... انتهى. ذكر ذلك في خبر فتح مكة.
وأما أبو عروبة: فإنه قال فيما رويناه عنه: وكان زعموا أن المقام لاصق في الكعبة فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه هذا... انتهى. ذكر ذلك في خبر فتح مكة.
وأما أبو عروبة: فإنه قال فيما رويناه عنه: حدثنا سلمة قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: كان المقام إلى جنب البيت، وكانوا يخافون عليه من السيول، وكان الناس يصلون خلفه... انتهى باختصار لقصة رد عمر رضي الله عنه للمقام إلى موضعه الآن، وما كان بينه وبين المطلب بن أبي وداعة السهمي في موضعه الذي حرره المطلب.
وقال أبو عروبة أيضا: حدثنا سلمة قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا ابن جريج قال: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر رضي الله عنه أول من رفع المقام فوضعه في موضعه الآن، وإنما كان في قُبُل الكعبة... انتهى.
وأما الفاكهي فقال: حدثنا عبد الله بن أبي سلمة قال: حدثنا عبد الجبار بن سعيد، عن ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن نوفل بن معاوية الدئلي قال: رأيت المقام في عهد عبد المطلب ملصقا بالبيت مثل المهاة.
وروى الفاكهي بسنده إلى عبد الله بن سلام خبرا فيه أذان إبراهيم على المقام للناس بالحج، وفيه: فلما فرغ أمر بالمقام فوضعه قبلته فكان يصلي إليه مستقبل الباب.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة من المدينة فكان يصلي إلى المقام وهو ملصق بالكعبة حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
وقال الفاكهي: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثنا يحيى بن محمد بن ثوبان، عن سليم، عن ابن جريج، عن عثمان بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير أنه قال: كان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القرى "ص: 345، 346".
2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 442.

 

ج / 1 ص -276-    المقام في وجه الكعبة، وإنما قام إبراهيم عليه حين ارتفع البنيان فأراد أن يشرف على البناء قال: فلما كثر الناس خشي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يطئوه بأقدامهم فأخرجه إلى موضعه الذي هو به اليوم حذاء موضعه الذي كان قدام الكعبة.
وقال الفاكهي: حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال عبد العزيز: أراه عن عائشة رضي الله عنها أن المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى سقع البيت.
قال الفاكهي: وقال بعض المكيين: كان بين المقام وبين الكعبة ممر العنز1... انتهى.
وليس فيما ذكره مالك، وابن عقبة وأبو عروبة، والفاكهي من كون المقام كان عند الكعبة بيان موضعه عند الكعبة إلا أن في الخبر الذي رواه الفاكهي عن سعيد بن جبير ما يفهم منه تقريب بيان موضع المقام عند الكعبة، لأن فيه ما يقتضي أن موضعه الآن حذاء موضعه الذي كان به قدام الكعبة2.
والمقام الآن في جوف الصندوق الذي في جوف الشبابيك الأربعة المتقدم ذكرها، ويحاذي الصندوق الذي فيه المقام من وجه الكعبة ذراعان بالحديد ونحو خمسة قراريط بذراع الحديد أيضا المتقدم ذكره، والذراعان هما نصف الحفرة المرخمة الملاصقة لشاذروان الكعبة، ونصف الحفرة المشار إليه هنا هو النصف الذي يلي الحجر بسكون الجيم وما زاد على الذراعين من القراريط التي هي كمال ما يحاذي الصندوق الذي فيه المقام وهي إلى طرف الحفرة مما يلي الحجر بسكون الجيم وإذا كان كذلك فيكون موضع المقام عند الكعبة تخمينا، والله أعلم.
وفيما بين نصف الحفرة مما يلي الحجر بسكون الجيم والقراريط الزائدة على الذراعين، لأن ذلك يحاذي الصندوق الذي فيه المقام الآن، وإذا كان كذلك فهو يوافق قول من قال إن موضع المقام الآن حذاء موضعه عند الكعبة، والله أعلم.
وذكر الفقيه محمد بن سراقة العامري في كتابه "دلائل القبلة" في موضع المقام عند الكعبة ما يخالف قول من قال إن موضعه اليوم بحذاء موضعه عند الكعبة، ونص ما ذكره ابن سراقة: ومن الباب يعني باب البيت إلى مصلى آدم عليه السلام حين فرغ من طوافه وأنزل الله عليه التوبة، وهو موضع الخلوق من إزار الكعبة: أرجح من تسعة أذرع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 455، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 35 من طريق: ابن أبي عمر، عن سفيان، عن هشام، عن أبيه، ولم يقل عن عائشة. وسقع البيت ناحيته.
2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 454.

 

ج / 1 ص -277-    وهناك كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم عنده حين فرغ من طوافه ركعتين وأنزل الله عليه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، ثم نقله صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو فيه الآن، وذلك على عشرين ذراعا من الكعبة لئلا ينقطع الطواف بالمصلين خلفه، أو يترك الناس الصلاة خلفه لأجل الطواف، حين كثر الناس وليدور الصف حول الكعبة ويرى الإمام من كل وجه، ثم حمله السيل في أيام عمر رضي الله عنه وأخرجه من المسجد، فأمر عمر رضي الله عنه برده إلى موضعه الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وبين موضع الخلوق وهو مصلى آدم وبين الركن الشامي: ثمانية أذرع ... انتهى.
وقد سبق ما ذكرناه عن ابن سراقة في الباب الثامن من هذا الكتاب عند بيان مصلي آدم عليه السلام وهذا يقتضي اتخاذ موضع مصل آدم عليه السلام، وموضع الخلوق، وموضع المقام عند الكعبة، وهو على مقتضى ما ذكر ابن سراقة في ذرع ما بينه وبين ركن الكعبة الذي يلي الحجر بسكون الجيم ويكون على ذراعين وثلثي ذراع بالحديد طرف الحفرة إلى جهة الحجر بسكون الجيم وعلى هذا فيكون موضع المقام عند الكعبة خارجا عن الحفرة: في مقدار ذراعين وثلثي ذراع، وعلى مقتضى ما قيل من أن موضعه اليوم حذاء موضعه عند الكعبة، يكون موضعه عند الكعبة في مقدار نصف الحفرة التي تلي الحجر بسكون الجيم والله أعلم بالصواب.
وأما الموضع الذي ربط فيه المقام في وجه الكعبة: بأستارها إلى أن حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرده، وذلك أن يصد الطائف من الحجر الشامي في حجارة شاذروان الكعبة إلى أن يبلغ الحجر السابع، فإذا بلغ الحجر السابع فهو موضعه، وإلا فهو التاسع من حجارة الشاذروان أيضا1... انتهى.
وذكر الفاكهي في موضع آخر من كتابه ما يقتضي أن هذا علامة للموضع الذي ذكر عبد الله بن السائب المخزومي أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عنده يوم فتح مكة، وذكر الأزرقي مثل ذلك، والله أعلم.
وما ذكره ابن سراقة من أن النبي صلى الله عليه وسلم رد المقام إلى موضعه الآن، يشهد له ما ذكره ابن عقبة، وما ذكره يخالف ما ذكره سعيد بن جبير، وعطاء، وغيرهم من أن عمر رضي الله عنهم أول من رده إلى موضعه الآن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 35.

 

ج / 1 ص -278-    وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن الولاة حولته إلى مكانه هذا، وهذا يفهم أن الذي رده غير عمر رضي الله عنه فيتحصل فيمن رده إلى موضعه الآن ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه عمر.
والثالث: غبر عمر رضي الله عنه، والله أعلم.
والمشهور أنه عمر، وردّ الخبر الذي ذكره الفاكهي عن سعيد بن جبير ما يفهم أن رد عمر رضي الله عنه للمقام إلى موضعه الآن لئلا تطؤه الناس، والمعروف أن رد عمر رضي الله عنه له إلى موضعه الآن لكون السيل المعروف بسيل أم نهشل أزاله عن موضعه الأول، والله أعلم.
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن رجلا من آل عائذ بن عبد الله بن مخزوم قال لعمر رضي لله عنه إنه يعلم موضع المقام الأول، والمعروف أن الذي قال ذلك لعمر هو المطلب بن أبي وداعة السهمي، كما ذكر الأزرقي1، والفاكهي، وغيرهما والله أعلم.
وما ذكره ابن سراقة في ذرع ما بين موضع المقام الآن ووجه الكعبة لا يستقيم، لنقص ما ذكره ابن سراقة في ذلك عما ذكره الأزرقي، لأن فيه نقصا كثيرا، والذراع الذي حرر به ابن سراقة ذراع اليد، وكذلك الأزرقي، وفيما ذكره ابن سراقة نظر من غير هذا الوجه.
وذكر ابن جبير في أخبار "رحلته" ما يقتضي أن الحفرة المرخمة التي في وجه الكعبة علامة موضع المقام في عهد الخليل عليه السلام إلى أن رده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو الآن مصلى2. وفي هذا نظر، لأن موضع المقام الآن هو موضعه في عهد الخليل عليه السلام من غير خلاف عُلِمَ في ذلك، وأما الخلاف ففي موضعه اليوم، هل هو موضعه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن أبي مليكة، أو لا كما قال مالك، والله أعلم.
وفي كلام ابن جبير نظر من وجه آخر بيناه في أصل هذا الكتاب، والله أعلم.
ولم أر في تاريخ الأزرقي ذكر السَّنة التي رد فيها عمر رضي الله عنه المقام إلى موضعه هذا لما غيره عنه السيل3، وهو سنة سبع عشرة من الهجرة على ما ذكره ابن جرير، وكذا ابن الأثير في "كامله"4، وقيل: ثماني عشرة، ذكره ابن حمدون في "تذكرته"، والله أعلم بالصواب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 33.
2 رحلة ابن جبير "ص: 62".
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 35.
4 تاريخ الطبري 4/ 68، وإتحاف الورى 2/ 7، والكامل لابن الأثير 2/ 227، والذهب المسبوك "ص: 14"، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 68، 69.

 

ج / 1 ص -279-    ذكر شيء من فضل المقام:
لا شك أن فضل المقام مشهور ثابت بنص القرآن العزيز والسنة الشريفة الصحيحة، فأما القرآن فقوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] الآية. والمراد بالمقام في هذه الآية هذا المقام على الصحيح المشهور، وقيل: المراد مناسك الحج كلها. وقيل: عرفة، وقيل: المزدلفة، وقيل الحرم كله.
وأما السنة: فتقدم لنا في فضل الحجر الأسود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا أن طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب"1 وروينا في تاريخ الأزرقي عن مجاهد قال: يأتي الركن والمقام يوم القيامة كل واحد منهما مثل أبي قبيس يشهدان لمن وافاهما بالموافاة2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه: ابن حبان "3710"، والحاكم "1679"، والبيهقي "5/ 75، وابن خزيمة "2732"، والأصبهاني في الترغيب "1157"، وتحرفت فيه "نافع بن شيبة" إلى "مسافح بن شيبة".
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 35.

 

ج / 1 ص -280-    ما جاء في هلاك من تعرض له بسوء:
قال الفاكهي: وقال بعض الناس: إن رجلا كان بمكة يقال له جريج يهودي أو نصراني، فأسلم بمكة، فقصد المقام ذات ليلة فطلب فوجد عنده، وأراد أن يخرجه إلى ملك الروم، قال: فأخذ منه وضربت عنق جريج1... انتهى.
وكان أبو طاهر القرمطي يريد أخذه فلم يظفر به، لأن سدنة المسجد غيبوه في بعض شعاب مكة.
ولا يزال هذا المقام محروسا بحراسة الله تعالى إلى حين رفعه إلى الجنة، كما هو مقتضى حديث عائشة الذي رويناه في تاريخ الأزرقي، وقد سبق في فضل الحجر الأسود.
وحكم المقام مخالف حكم الحجر الأسود في التمسح به، واستلامه، وتقبيله، فإن ذلك غير مطلوب في المقام على ما ذكره العلماء، وفي تاريخ الأزرقي، ومنسك القاضي عز الدين بن جماعة2 ما يدل لذلك، والخير في اتباع قول العلماء رضي الله عنهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 452. 
2 هداية السالك 1/ 58-61.