شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام

الباب السابع عشر:
ذكر شيء من أخبار الحِجْر المُكَرَّم حِجْر إسماعيل عليه السلام:
روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن ابن إسحاق قال: في أثناء خبر بناء الخليل عليه السلام للكعبة: وجعل إبراهيم عليه السلام الحجر إلى جنب البيت عريشا من أراك تقتحمه العنز، وكان زربا لغنم إسماعيل عليه السلام1... انتهى.
وقد تقدم في خبر عمارة الكعبة أن قريشا أدخلت في الحجر أذرعا من الكعبة حين بنتها لما قصرت عليهم النفقة الحلال التي أعدوها لعمارة الكعبة عن إدخال ذلك فيها، وأن عبد الله بن الزبير أدخل ذلك في الكعبة حين عمرها، وأن الحجاج أخرج ذلك منها، ورده كما كان عليه في عهد قريش والنبي صلى الله عليه وسلم واستمر الحال على ذلك إلى الآن، وصار بعض الحجر من الكعبة وبعضه ليس منها.
ويدل لذلك ما رويناه في الصحيحين، وغيرها من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا استقصرتها حين بنت الكعبة".
وفي رواية:
"فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه، فهلمي لأريك ما تركوا منه" فأراها قريبا من سبعة أذرع". أخرجاه2.
وفي مسلم عن الوليد بن عطاء، فذكر شيئا من حريق الكعبة، وعمارة بن الزبير لها، ثم قال: قال ابن الزبير: إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: إن رسول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 64، 65.
2 أخرجه البخاري: "1583- 1568"، ومسلم "3/ 371- 372".

 

ج / 1 ص -281-    الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن الناس حديثو عهد بكفر، وليس عندي من النفقة ما يقوي على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع" قال عطاء: وزاد فيه: "خمسة أذرع من الحجر"، حتى أبدى أساسها ونظر إليه الناس، فبنى عليها البناء1... انتهى.
وذكر الفاكهي حديثا فيه ما يقتضي أن الذي تركته قريش من الكعبة في الحجر أربعة أذرع، لأنه روى حديثا قال فيه: ولقد دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى بنيانه قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة:
"لولا حداثة قومك بالكفر لهدمته وبنيته على بناء إبراهيم، ولجعلت له بابين، ولأدخلت أربعة أذرع من الحجر فيه، وذلك أن أربعة أذرع من الحجر من البيت"2... انتهى.
وفي إسناد هذا الحديث من لا أعرفه وإنما ذكرناه لغرابته، وسيأتي إن شاء الله في مقدار ما تركته قريش من الكعبة في الحجر وغير ذلك.
والأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها تقتضي أن بعض الحجر من البيت لا كله، كما قال بعضهم فيما حكاه المحب الطبري، وتمسك قائل ذلك بما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجر، أمن البيت؟ قال:
"نعم". قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: "إن قومك قصرت بهم النفقة"3 الحديث... انتهى.
وحديثها هذا لا يعارض أحاديثها التي ذكرناها، لأن حديثها هذا مطلق، وأحاديثها الأخرى مقيدة، والمطلق يحمل على المقيد، وقد أشار إلى ذلك هنا الشيخ محب الدين الطبري، لأنه قال: والأصح أن القدر الذي فيه من البيت سبعة أذرع، وقد جاء مصرحا به في الحديث عن عائشة رضي الله عنها فذكر عنها ما سبق بالمعنى مختصرا. ثم قال: فيحمل المطلق فيما تقدم على هذا، وإطلاق اسم الكل على البعض جائز على سبيل المجاز المطلق فيما تقدم على هذا، وإطلاق اسم الكل على البعض جائز على سبيل المجاز المستحسن، ذكر ذلك في "شرحه للتنبيه"، وقال في "القرى" بعد أن ذكر ما استدل به من يرى أن الحِجر من البيت، ومن يرى أن بعضه من البيت: وفي هذه الأحاديث دلالة على أن بعض الحجر من البيت، ومن يرى حمل المطلق على المقيد يقول: مطلق هذه الأحاديث المتقدمة في الفصل قبله منزلة على هذا، ومن لا يراه عمل بها4... انتهى.
قلت: يدل لمجمل حديث عائشة رضي الله عنها المطلق على أحاديثها المقيدة: أن العلة في حديثها المطلق، هي العلة في أحاديثها المقيدة، وهي ترك قريش بعض

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه: مسلم "الحج: 1333".
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 228، والحديث رواه البخاري 3/ 439، وفتح الباري 3/ 443.
3 أخرجه: البخاري "1584"، ومسلم "3/ 273،
4 القرى "ص: 510".

 

ج / 1 ص -282-    الكعبة في الحجر حين قصرت بهم النفقة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها المطلق: "ولولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أُدخِل الحِجرَ في البيت" ... الحديث، فإن حال من قال بأن الحجر كله من البيت لا يخلو من أمرين: إما أن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بقوله هذا إلى إدخال بعض الحجر في البيت، أو جميعه.
فإن قال بالأول: فقد ناقض قوله: إن الحجر كله من البيت.
وإن قال الثاني: ففي صحة ذلك نظر، لأن في رواية البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، وأدخلت فيه ما أخرج منه، وجعلت له بابا شرقيا، وبابا غربيا، وبلغت به أساس إبراهيم"1.
وهذه الرواية تقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم يختار رد البيت إلى أساس إبراهيم عليه السلام وأساس إبراهيم عليه السلام الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: هو الذي أدخلته قريش في الحجر لقصور النفقة عليهم كما سبق بيانه، لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالتاريخ أن البيت كان مبنيا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم على أساس إبراهيم عليه السلام من جميع جوانبه، إلا من جهة الحجر كما سبق بيانه فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أشار بقوله هذا إلى أساس إبراهيم عليه السلام الذي أدخلته قريش في الحجر، وهو الأساس الذي بنى عليه ابن الزبير رضي الله عنهما كما تقدم في حديث عطاء في صحيح مسلم، وذكره الأزرقي في خبر بناء ابن الزبير للكعبة، لأن فيه فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسواها بالأرض كشف عن أساس إبراهيم عليه السلام فوجده داخلا في الحجر نحو ستة أذرع وشبر، كأنها أعناق الإبل، آخذ بعضها بعضا كتشبيك الأصابع بعضها ببعض، فحرك الحجر من القواعد فتحرك الأركان كلها، فدعا ابن الزبير خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم فأشهدهم على ذلك الأساس... ثم قال: ثم وضع البناء على ذلك الأساس2... انتهى.
قلت: ويدل لذلك أيضا ما في بعض طرق الأحاديث أي أحاديث عائشة رضي الله عنها المطلقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أرى عائشة مقدار ما تركته قريش من الكعبة في الحجر ولو كان من البيت لم يكن لإيرائه صلى الله عليه وسلم ذلك لعائشة ... رضي الله عنها فائدة، والله أعلم.
واختلاف الروايات عنها في قدر ما في الحجر من الكعبة لا يقتضي ترك العمل بما روي عنها من أن بعض الحجر من البيت، وإنم يقتضي أن يعمل في مقدار ما في الحجر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري "1584".
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 206، 207.

 

ج / 1 ص -283-    من الكعبة، فأكثر الروايات في ذلك، وهي نحو سبعة أذرع كما في الصحيحين، والله أعلم.
وإنما نبهنا على ذلك، لأن كلام الشيخ تقي الدين بن الصلاح يوهم خلاف ذلك على ما نقله عنه النووي في "الإيضاح" ونص كلامه: وأما حديث عائشة: فقد قال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمة الله عليه فقد اضطربت فيه الروايات ففي رواية في الصحيحين:
"الحجر من البيت" وروي: "ستة أذرع من الحجر من البيت"، وروي: "ستة أذرع أو نحوها"، وروي: "خمسة أذرع"، وروي: "قريبا من سبع". قال: وإذا اضطربت الروايات تعين الأخذ بأكثرها؛ ليسقط الفرض بيقين... انتهى.
وهذا من ابن الصلاح والنووي على أن الطواف لا يصح إلا من وراء الحجر جميعه.
وذكر النووي أن هذا المذهب هو الصحيح، وعليه نص الشافعي قال: وبه قطع جماهير العلماء من أصحابنا وهذا هو الصواب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف خارج الحجر، وهكذا الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم من بعدهم... انتهى.
قلت: يمكن الانفصال عن استدلال النووي بطواف النبي صلى الله عليه وسلم خارج الحجر على وجوب الطواف من خارج الحجر، وذلك أن الأفعال الصادرة من النبي صلى الله عليه وسلم في حَجِّهِ لا تخلو من أمرين:
أحدهما: أن يكون فعلُها مطلوبا على سبيل الوجوب، والإخلالُ بشيء منها مبطلٌ للحج.
والآخر: أن يكون فعلها مطلوبا، ولكن بعضها يطلب وجوبا، وبعضها يطلب ندبا، وتمييز الواجب من المندوب دليل خارج والأول لا سبيل إليه، والثاني حق. وإذا تقرر ذلك فطواف النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر لا يكون دليلا على وجوب الطواف هكذا لما وقع من التزام أن بعض أفعاله صلى الله عليه وسلم في الحج واجب، وبعضها ليس بواجب، ولا يمكن أن يقوم دليل على وجوب الطواف خارج الحجر إذا قطع النظر عن الاستدلال بطواف النبي صلى الله عليه وسلم هكذا إلا أن يكون حديث عائشة رضي الله عنه
"الحجر من البيت" وفي الاستدلال به نظر، لما تقدم بيانه من أنه مطلق حمل على أحاديثها المقيدة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم فيها مقدار ما في الحجر من البيت كما سبق بيانه، فبان بهذا الانفصال عن استدلال النووي على وجوب الطواف من خارج الحجر بطواف النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا لعدم نهوض الدلالة من فعله صلى الله عليه وسلم.

 

ج / 1 ص -284-    هذا ويحتمل والله أعلم أن يكون طواف النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر لأمرين:
أحدهما: أن في ذلك حسما لمادة فساد يقع في طواف كثير من الطائفين، وذلك أن البيت من جهة الحجر لم يكن على قواعد إبراهيم عليه السلام، لترك قريش جانبا من البيت في الحجر، والواجب على الطائف الخروج عنه، فلو طاف النبي صلى الله عليه وسلم في الحجر خارجا عما فيه من البيت لاقتدى به في ذلك من لا يعرف مقدار ما في البيت من الحجر، فيفسد عليه طوافه لكونه طاف من البيت ولم يطف به.
والأمر الثاني: أن لو جوزنا السلامة من هذا المحذور لمعرفة جميع الخلق بمقدار ما في الحجر من البيت، لكان في طوافه صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر حكمة حسنة من وجهين:
أحدهما: الراحة من تسور الحجر، فإن قريشا أحاطت عليه جدارا كما في خبر بنائهم للكعبة.
والآخر: أن في ذلك حسما لمادة فساد، وهو أن النساء يتسورن الحجر في الطواف كالرجال، وفي تسورهن كشف لهن، وهن مأمورات بالصيانة، فرأى صلى الله عليه وسلم أن يطوف من وراء الحجر لما في ذلك من الراحة لأمته دينا ودنيا، ومثل هذا يقال في طواف الخلفاء وغيرهم من وراء الحجر، وإذا تقرر أن طوافه صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر لهذا المعنى فيكون الطواف هكذا مطلوبا ندبا متأكدا لا وجوبا، لعدم نهوض الدلالة على وجوبه هكذا في طوافه صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه، فإن خالف الإنسان وتسور جدار الحجر، وطاف في الحجر فيما ليس فيه من الكعبة خصوصا على رواية سبعة أذرع أو نحوها، أو ستة أذرع ففي الجزم بفساد طوافه نظر كثير لا ينهض عليه دليل.
وقد قال بصحة طواف من طاف في الحجر وجعل بينه وبين الكعبة ستة أذرع جماعة من كبار العلماء منهم: أبو محمد الجويني، وابنه إمام الحرمين، والبغوي، وذكر الرافعي أن هذا المذهب هو الصحيح، وقال به اللخمي من أصحابنا المالكية وجزم به الشيخ خليل الجندي في مختصره الذي صنفه لبيان ما به الفتوى، وتلميذه شيخنا القاضي تاج الدين بهرام المالكي في "شامله" ويدل لذلك رواية عائشة رضي الله عنها التي فيها: أن ستة أذرع من الحجر من البيت، وهي في الصحيحين كما سبق بيانه، والله أعلم.

 

ج / 1 ص -285-    ذكر موضع الحجر وصفته:
وأما موضع الحجر: فهو ما بين الركن الشامي الذي يقال له العراقي والركن الغربي.
وأما صفته: فهو عرضة مرخمة لها جدار مقوس على صورة نصف دائرة.
وأما خبر عمارته: فذكر الأزرقي: أن المنصور العباسي لما حج دعا زياد بن عبيد الله الحارثي أمير مكة فقال: إني رأيت الحِجر حجارته بادية، فلا أصبحن حتى يصير جدار الحجر بالرخام. فدعا "زياد" بالعمال، فعملوه على السرج قبل أن يصبح، وكان قبل ذلك مبنيا بحجارة بادية ليس عليه رخام1.
قال: ثم كان المهدي بعد ذلك قد جدد رخامه.
وذكر الأزرقي أن رخام الحجر الذي عمل في زمن المهدي لم يزل فيه حتى رث في خلافة المتوكل، فقلع وألبس رخاما حسنا، وذكر أن ذلك في سنة إحدى وأربعين ومائتين2 وأن ترخيمه في زمن المهدي في سنة إحدى وستين ومائة3 ولم يذكر السنة التي أمر المنصور بعمل رخامه فيها. وأرخ ذلك بالسنة التي حج فيها المنصور، وهذا لا يفيد معرفة السنة التي فعل فيها ذلك، لأن المنصور حج وهو خليفة أربع حجات على ما ذكر العتيقي في تسمية "أمراء الموسم" في سنة أربعين ومائة4، ثم في سنة أربع وأربعين ومائة5، ثم في سنة سبع وأربعين ومائة6، وتوجه إلى الحج في سنة ثمان وخمسين، فمات قبل أن يدخل مكة بعد أن أشرف عليها7.
وإن كان حج بالناس في الثلاث السنين المتقدمة، لم يكن تعريف عمارته بالسنة التي حج فيها تعريفا تاما، والظاهر والله أعلم أن ذلك وقع في سنة أربعين ومائة، لأن في هذه السنة كان الفراغ من عمارة المسجد التي أمر بعملها المنصور على يدي زياد المذكور كما ذكره الأزرقي في ذلك8.
وعمر المعتضد العباسي الحجر أيضا في خلافته في سنة ثلاث وثمانين ومائتين، على ما ذكره إسحق بن أحمد الخزاعي راوي تاريخ الأزرقي وألحقه فيه9.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 177.
2 إتحاف الورى 2 315.
3 إتحاف الورى 2/ 208، وأخبار مكة للأزرقي 1/ 313، 314.
4 إتحاف الورى 2/ 177، والمحبر "ص: 35"، وتاريخ الطبري 9/ 173، والكامل لابن الأثير 5/ 202، والنجوم الزاهرة 1/ 340.
5 إتحاف الورى 2/ 180- 186، وسمط النجوم العوالي 3/ 253، والإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 91- 95".
6 إتحاف الورى 2/ 188، وتاريخ الطبري 9/ 275، ومروج الذهب 4/ 401، والكامل 5/ 235.
7 يذكر أن المنصور حج أيضا سنة 152هـ. "مروج الذهب 4/ 402، والكامل لابن الأثير 5/ 245، وإتحاف الورى 2/ 191، والمحبر ص: 35".
8 إتحاف الورى 2/ 177، 178.
9 إتحاف الورى 2/ 353، وأخبار مكة للأزرقي 1/ 321.

 

ج / 1 ص -286-    وعُمِّرَ أيضا في أول خلافة الناصر العباسي، وذلك في سنة ست وسبعين وخمسمائة1.
وعمرَّه أيضا المستنصر العباسي.
وكذلك الملك المظفر صاحب اليمن.
 وكذلك الملك الناصر محمد بن قلاوون، واسم هذين الملكين، واسم المستنصر العباسي مكتوب في رخام في أعلى الحجر. وفي الرخامة التي فيها خبر عمارة الملك الناصر أن ذلك سنة عشرين وسبعمائة2.
وعمر أيضا في دولة الملك المنصور علي بن الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر محمد بن قلاوون بأمر الأميرين: بركة، وبرقوق، مدبري دولته، في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة3.
ثم عمر في سنة إحدى وثمانمائة في العمارة التي أمر بعملها الملك الظاهر برقوق، واسمه مكتوب بسبب ذلك، وذلك في رخامة في أعلى الحجر، وفي فتحة الحجر الشرقية، وفي الفتحة الأخرى ذكر بعض ألقابه في تاريخ العمارة وهو مستهل شهر رمضان سنة إحدى وثمانمائة4.
وعمر في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة كثير من رخامه عمارة جيدة بالجبس، لتداعي ذلك إلى السقوط، وذلك في رجب وشعبان من هذه السنة، وغالب ذلك في جُدُرِ الحِجر5، ثم عمر كثير من رخامه في جداره في ظاهره، وباطنه، وأعلاه وفي أرض الحجر، وذلك في المحرم سنة ستة وعشرين وثمانمائة عمارة حسنة بالجص، بأمر متولي العمارة صاحبنا الأمير زين الدين مقبل القُدَيْدِي أثابه الله تعالى6.
وقد خفي علينا شيء كثير من خبر عمارة الحجر من دولة المعتضد العباسي إلى خلافة الناصر، فإنه لا يبعد أن يخلو في هذا الزمن الطويل من عمارة، والله أعلم.
وممن عمره الوزير جمال الدين المعروف بالجواد، وذلك في عشر الخمسين وخمسمائة7 ظنا والله أعلم.
وأما ذرعه: فقد ذكره الأزرقي وابن جماعة، فقال الأزرقي فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: عرضه من جدار الكعبة من تحت الميزاب إلى جدار الحجر: سبعة عشر ذراعا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 544.
2 إتحاف الورى 3/ 172.
3 إتحاف الورى 3/ 334.
4 إتحاف الورى 3/ 412.
5 إتحاف الورى 3/ 566.
6 إتحاف الورى 3/ 598ز
7 إتحاف الورى 2/ 516.

 

ج / 1 ص -287-    وثمانية أصابع، وذرع ما بين بابي الحجر: عشرون ذراعا، وعرضه: اثنان وعشرون ذراعا، وذرع الجدار من داخله في السماء: ذراع وأربعة عشر إصبعا، وذرعه مما يلي، الباب الذي يلي المقام: ذراع وعشرة أصابع، وذرع جدار الحجر الغربي في السماء: ذراع وعشرون إصبعا، وذرع طول الحجر من خارج مما يلي الركن الشامي، ذراع وستة عشر إصبعا، وطوله من وسطه في السماء: ذراعان وثلاثة أصابع1، وعرض الجدار: ذراعان إلا إصبعين2، وذرع باب الحجر الذي يلي المشرق مما يلي المقام: خمس أذرع وثلاثة أصابع، وذراع باب الحجر الذي يلي المغرب: سبعة أذرع، وذرع تدوير الحجر من داخله، ثمانية وثلاثون ذراعا، وذرع تدوير الحجر من خارج: أربعون ذراعا وستة أصابع3... انتهى كلام الأزرقي.
وأخبرني خالى عن ابن جماعة قال: ذرع دائر الحجر من داخله من الفتحة إلى الفتحة: واحد وثلاثون وثلث. ومن خارجه من الفتحة إلى الفتحة: سبعة وثلاثون ونصف وربع وثمن، ومن الفتحة إلى الفتحة على الاستواء: سبعة عشر ذراعا .. ومن صدر دائر الحجر من داخله إلى جدار حجر البيت تحت الميزاب: خمسة عشر ذراعا. وعرض جدار الحجر: ذراعان وثلث ذراع وثمن ذراع. وارتفاعه عن أرض المطاف مما يلي الفتحة التي من جهة المقام: ذراع وثلثا ذراع وثمن ذراع. وارتفاعه مما يلي الفتحة الأخرى، ذراع ونصف وثلث وثمن. وارتفاعه من وسطه: ذراع وثلثا ذراع. وسعة ما بين جدار الحجر والشاذروان عند الفتحة التي من جهة المقام: أربعة أذرع وثلث. والخارج من جدار الحجر في هذه الجهة عن مسامته الشاذروان: نصف ذراع وثمن. وسعة الفتحة الأخرى: أربعة أذرع ونصف. والخارج من جدار الحجر في هذه الجهة عن مسامته الشاذروان: نصف ذراع وثلث ذراع. كل ذلك حرر بذراع القماش المستعمل في زماننا بمصر4... انتهى.
وقد حررنا أمورا تتعلق بالحجر، فكان ما بين وسط جدار الكعبة الذي فيه الميزاب إلى مقابله من جدار الحجر: خمسة عشر ذراعا، وكان عرض جدار الحجر من وسطه: ذراعين وربع. وسعة فتحة الحجر الشرقية: خمسة أذرع. وكذلك سعة الغربية بزيادة قيراط. وسعة ما بين الفتحتين من داخل الحجر، سبعة عشر ذراعا وقيراطان، وارتفاع جدار الحجر من داخله عند الفتحة الشرقية: ذراعان إلا قيراطا. ومن خارجه عندها: ذراعان وقيراطان. وارتفاع جدار الحجر داخله ومن وسطه: ذراعان إلا ثلث. ومن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يضيف الأزرقي هنا قوله: "الرخام من ذلك: ذراع وأربعة عشر إصبعا".
2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 320، 321، إضافات اختصرها "الفاسي" هنا.
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 320ن 321.
4 هداية السالك 3/ 1334، 1335.

 

ج / 1 ص -288-    خارجه: ذراعان وقيراطان، وارتفاع جدار الحجر من داخله عند الفتحة الغربية: ذرعان إلا قيراطا. ومن خارجه عندها: ذراعان وثمن ذراع، كل ذلك بذراع الحديد.
وذكر ابن خرداذبه في ذرع دور الحجر ما يستغرب، لأنه قال: وذرع دور الحجر: خمسون ذراعا1... انتهى.
وإنما كان هذا مستغربا لمخالفته ما ذكره الأزرقي في ذلك2، فإن ما ذكره ابن خرداذبه يزيد على ما ذكره الأزرقي عشرة أذرع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المسالك والممالك "ص: 133".
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 321.

ذكر ما جاء في الحجر والصلاة فيه:
قال الفاكهي: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثني محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة: "يا أبا هريرة إن على باب الحجر ملكا يقول لمن دخل فصلى ركعتين: مغفورا لك ما مضى، فاستأنف العمل. وعلى باب الحجر الآخر ملك منذ خلق الله الدنيا إلى يوم يرفع البيت، يقول لمن صلى وخرج: مرحوما لك إن كنت من أمة محمد صلى الله عليه وسلم تقيا"1 ... انتهى.
وروينا في "تاريخ الأزرقي" عن ابن عباس رضي الله عنهما: صلوا في مصلى الأخيار ... وسئل عن ذلك ابن عباس فقال: تحت الميزاب2... انتهى.
وحكم الصلاة فيما في الحجر من الكعبة حكم الصلاة في الكعبة، في كونه من الكعبة، فلا تصح فيه على المشهور من مذهب مالك الفرض ولا النفل المؤكد، كالسنن، والوتر، وركعتي الطواف، وركعتي الفجر والطواف الواجب، ويصح فيه النفل غير المؤكد، ويستحب ذلك فيه كبقية الحجر، ويصح في بقية الحجر الفرض من غير كراهة. ومذهب الشافعي، وأبي حنيفة: جواز جميع الصلوات في جميع الحجر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 137. 
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 318.

 

ج / 1 ص -289-    ذكر ما جاء في الدعاء في الحجر تحت الميزاب:
روينا في "تاريخ الأزرقي" عن عطاء قال: من قام تحت ميزاب الكعبة فدعا استجيب له، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وقد تقدم مثل ذلك عن الحسن البصري في الباب الخامس عشر، وفي رواية عنه: من قام تحت مثغب الكعبة، يعني ميزابها1.
وروينا عن الحسن البصري في "رسالته" المشهورة قال: وسمعت أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أقبل ذات يوم، فقال لأصحابه: ألا تسألوني من أين جئت؟
قالوا: من أين جئت يا أمير المؤمنين؟ قال: ما زلت قائما على باب الجنة، وكان قائما تحت الميزاب يدعو الله عنده... انتهى.
ومن فضائل الحجر: أن فيه قبر إسماعيل عليه السلام روينا عن ابن إسحاق في سيرته تهذيب ابن هشام، وروايته عن زياد البكائي عن ابن إسحاق قال: وكان عمر إسماعيل عليه السلام فيما يذكرون مائة سنة وثلاثين سنة، ثم مات رحمة الله وبركاته عليه فدفن في الحجر مع أمه هاجر، رحمهما الله2... انتهى.
وقال الأزرقي: حدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، قال: أخبرني ابن إسحاق: فذكر شيئا من خبر إسماعيل عليه السلام وذكر أولاده، ثم قال: وكان من حديث جرهم وبني إسماعيل، أن إسماعيل لما توفي دفن في الحجر مع أمه، وزعموا أنها دفنت فيه حين ماتت2.
وذكر صاحب "الاكتفاء" أن قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر، وأن قبره مما يلي باب الكعبة.
وقد اختلف في قبر إسماعيل عليه السلام فقيل: إنه في الحجر، وهو قول ابن إسحاق، وقيل: إنه في الحطيم، وقد سبق نقل الأزرقي له عن مقاتل في أخبار الحطيم، ونقله الفاكهي عن كعب الأحبار، وعن ابن سابط.
وقال الفاكهي في "فضائل مكة": حدثنا موسى بن محمد قال: حدثنا يزيد بن أبي حكيم، عن سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط أنه قال: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا، وإن قبر هود، وشعيب، وصالح، وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة.
وقيل: إنه حيال الموضع الذي كان فيه الحجر الأسود. وهذا القول ذكره المسعودي، لأنه قال: وقبض إسماعيل وله من العمر مائة وسبع وثلاثون سنة، فدفن في المسجد الحرام حيال الموضع الذي كان فيه الحجر الأسود3... انتهى.
كذا وجدت في النسخة التي رأيتها من "تاريخ المسعودي" في الموضع الذي كان فيه الحجر، وأظن أن لفظة "كان" زيادة من الناسخ، لأن إثباتها لا يستقيم به معنى والله أعلم.
وما ذكره المسعودي في قدر عمر إسماعيل عليه السلام يخالف ما ذكره فيه ابن إسحاق، والله أعلم بالصواب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 318. 
2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 313. 
3 مروج الذهب 2/ 48.

 

ج / 1 ص -290-    وينبغي توقي النوم فيه، والاحتراز فيه من بدعتين، أحدثهما الناس لا أصل لهما على ما ذكره ابن جماعة فيما أخبرني به عنه خالي:
إحداهما: وقوفهم في فتحتي الحجر للصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم.
والأخرى: استقبالهم جهة النبي صلى الله عليه وسلم في فتحتي الحجر للدعاء، واستدبارهم للكعبة، والمعروف في آداب الدعاء استقبالها، هذا معنى كلامه. قال: والله تعالى يوفقنا لاجتناب البدعة، واتباع السنة بمنه وكرمه... انتهى.

ذكر المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة:
قد ذكر المحب الطبري هذه الأماكن بدلائلها في كتاب "القرى"1، وذكرنا ذلك بنصه في أصل هذا الكتاب، ونشير هنا لشيء من تلك المواضع:
الموضع الأول: خلف مقام إبراهيم عليه السلام.
الثاني: تلقاء الحجر الأسود، على حاشية المطاف كما في النسائي، وابن حبان، من حديث المطلب بن أبي وداعة السهمي.
الثالث: قريبا من الركن الشامي مما يلي الحجر بسكون الجيم كما في مسند أحمد بن حنبل وسنن أبي داود من حديث عبد الله بن السائب2.
الرابع: عند باب الكعبة كما في تاريخ الأزرقي، وفوائد تمام الرازي3 من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"أمَّنِي جبريل عليه السلام عند باب الكعبة مرتين"4.
الخامس: تلقاء الركن الذي يلي الحجر من جهة المغرب جانحا إلى جهة المغرب قليلا، بحيث يكون باب المسجد، الذي يقال له اليوم: باب العمرة خلف ظهره، كما في مسند أحمد بن حنبل، وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث المطلب بن أبي وداعة: أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه5. وفي إسناده مجهول. وباب بني سهم هو باب العمرة المشار إليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القرى "ص: 496".
2 مسند أحمد 6/ 399، سنن أبي داود "باب في مكة 2/ 211".
3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 268.
4 أخرجه: الترمذي "أول الصلاة" 1/ 278، وأبو داود 1/ 107، والدارقطني 1/ 258، والحاكم 1/ 193.
5 أخرجه: أحمد في مسنده 1/ 237، 311، 5/ 208، سنن أبي داود 2/ 211، ابن ماجه "باب الركعتين بعد الطواف" 2/ 986.

 

ج / 1 ص -291-    السادس: في وجه الكعبة، كما في الصحيحين، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع قِبل البيت ركعتين، وقال: "هذه القبلة"1 أخرجاه.
وقال النسائي: سبح في نواحيه كلها وكبر ولم يصل، ثم خرج وصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: "هذه القبلة"2.
قال المحب الطبري: وجه الكعبة يطلق على بابها، ولهذا قيل للمحاذي له خلفها: دبر الكعبة، ثم قال: ويطلق على جميع الجانب الذي فيه الباب، وهو المتعارف، ثم قال: والظاهر أن هذا الموضع تلقاء المقام في فناء الكعبة، بحيث يكون المقام خلف المصلي فيه، وقال: ويحتمل على بُعد أن يكون هذا الموضع هو الموضع الرابع محل إمامة جبريل، وجوز فيه "المحب" وجها آخر، وهو أن يكون الموضع الأول هو خلف المقام، لأنه يقال فيه: وجه الكعبة، ثم قال: وقد ورد تفضيل وجه الكعبة على غيرها من الجهات.
الموضع السابع: بين الركنين اليمانيين، وذكره ابن إسحاق في "سيرته" في قصة طويلة.
الموضع الثامن: الحجر واستدل له بحديث خنق عقبة بن أبي معيط النبي صلى الله عليه وسلم في الحجر، كما في الصحيحين3 وذكر في هذا الفصل: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ثم قال: وورد أن آدم عليه السلام ركع إلى جانب الركن اليماني ركعتين وعزاه "لليقين" لابن أبي الدنيا، وتاريخ الأزرقي4، ثم قال: فصارت المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم يقينا وتخمينا تسعة مواضع.
العاشر: مصلى آدم عليه السلام... انتهى كلام المحب الطبري5 وفيه أمور:
منها: أن ذكره في هذا الفصل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة لا يلائم الترجمة التي ذكرها، لأنه ترجم على هذا الفصل بقوله: ذكر مواضع حول البيت روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها، وهذه الترجمة تقتضي أن يذكر فيها المواضع التي صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها حول البيت، لا صلاته في البيت، والله أعلم.
ومنها: أن ذكره في هذه الترجمة مصلى آدم عليه السلام غير ملائم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه: البخاري 3/ 375 "باب: الحج، من كبر في نواحي الكعبة"، مسلم "الحج: 1330".
2 أخرجه النسائي 5/ 219، 220.
3 البخاري "فضائل الصحابة 5/ 4".
4 أخبار مكة 1/ 44.
5 القرى "ص: 348- 352".

 

ج / 1 ص -292-    ومنها: أن ذكره في هذه الترجمة مصلى آدم عليه السلام فيه احتمال، لأن آدم عليه السلام يحتمل أن يكون صلى عند الركن اليماني مما يلي الحجر الأسود، ويحتمل أن يكون صلى عند الركن اليماني مما يلي الباب المسدود في المستجار، وهذا أقرب، والله أعلم، لما سبق من قول الفاكهي.
وقال بعض الناس: إن الموضع الذي تاب الله تعالى فيه على آدم عليه السلام عند الباب الذي فتحه ابن الزبير من دبرها عند الركن اليماني... انتهى.
ومنها: أن ما ذكره من مصلى آدم عليه السلام عند الركن اليماني يخالف ما ذكره ابن سراقة، وابن جماعة من أنه في جهة الكعبة الشرقية، وقد سبق في "الباب الثامن" من هذا الكتاب أن مصلى آدم عليه السلام في الجهة الشرقية، وأن بينه وبين الحجرة المرخمة في هذه الجهة: ثلاثة أذرع إلا ثلث بالحديد، والله أعلم بالصواب.
ومنها: أن "المحب" لم يعين الموضع الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بين الركنين اليمانيين، لأنه يحتمل أن يكون صلى إلى وسط الجدار، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى وسط الجدار، ويحتمل أن يكون مائلا عن الوسط إلى جهة الحجر الأسود، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى وسط هذا الجدار، وتحريره بالوسط من هذا الجدار بأنه الرخامة التي في شاذروان الكعبة المكتوب فيها: "أن الملك المنصور لاجين أمر بعمارة المطاف".
ومنها: أن المحب الطبري لم يبين أيضا الموضع الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عند باب الكعبة، وهو يحتمل ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون صلى وجاه الباب.
والثاني: أن يكون صلى في الحفرة المرخمة التي عند باب الكعبة على يمينه.
والثالث: أن يكون صلى في الملتزم. وفي هذا الوجه بُعد.
والوجه الأول أقرب، لأنه عند الباب حقيقة بخلاف الوجهين الآخرين، فإنه إنما يصدق عليهم عند باب الكعبة لقربهما منه، والله أعلم.
وإنما نبهنا على ذلك، لأنه وقع لشيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام الشافعي، وشيخ اليمن أحمد بن موسى بن العجيل ما يقتضي أن مصلى جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم هو الحفرة المرخمة، ولم أقف على كلام ابن العجيل، وإنما بلغني أن الرضي الطبري إمام المقام وشيخ شيوخنا سأل الشيخ أحمد بن موسى بن العجيل عن تحقيق ذلك بطريق الكشف، فأخبره أن الحفرة المشار إليها هي مصلى جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم.

 

ج / 1 ص -293-    وأما كلام ابن عبد السلام فذكره عنه ابن جماعة في "منسكه"، لأنه قال: وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: إن الحفرة الملاصقة للكعبة بين الباب والحجر هي المكان الذي صلى فيه جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس حين فرضها الله تعالى على أمته، ولم أر ذلك لغيره، وفيه بعد، لأنه لو كان صحيحا لنبهوا عليه بالكتابة في الحفرة، ولما اقتصروا على من أمر بعمل المطاف، والله أعلم... انتهى كلام ابن جماعة1، وقد أخبرني بذلك عنه خالي رحمه الله.
وفي خبر المقام عن سعيد بن جبير2 رحمه الله أن موضعه اليوم حذاء موضعه في هذا الباب: الصندوق الذي فيه المقام، إلا أن يجاوز الحفرة مما يلي الحِجر بسكون الجيم، فعلى هذا يكون المقام عند الكعبة في نصف الحفرة الملاصق للكعبة المشار إليها، وإذا كان هذا موضع المقام عند الكعبة، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه بعد خروجه من الكعبة، لأن النسائي روى عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من البيت ركع قبل البيت ركعتين، وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين خلف المقام3، وهو وقبل البيت واحد، لأن المقام كان عند الكعبة على ما قيل، والله أعلم.
ومنها: أن كلام المحب الطبري يقتضي أن المصلى الذي ذكره ابن السائب غير المصلى الذي ذكره أسامة لعَدِّه ذلك مصليين، وفي ذلك نظر، لأن حديث ابن السائب في المصلى الذي ذكره موافق لحديث أسامة رضي الله عنه في المصلى الذي ذكره ويظهر ذلك بذكر حديثهما، فلفظ حديث ابن السائب عند الأزرقي: حدثني جدي، حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن محمد بن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن ابن السائب: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح في وجه الكعبة حذو الطرفة البيضاء، ثم رفع يديه فقال:
"هذه القبلة"4... انتهى.
ولفظ حديث أسامة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع قبل البيت ركعتين وقال:
"هذه القبلة" أخرجاه5.
وقال النسائي: سبح في نواحيه وكبر ولم يصل، ثم خرج وصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال:
"هذه القبلة"6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هداية السالك 1/ 74.
2 رحلة ابن جبير "ص: 62".
3 أخرجه: النسائي 5/ 291.
4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 351.
5 البخاري 3/ 375، 8/ 14، ومسلم الحج: 1330، 1331".
6 أخرجه: النسائي 5/ 219.

 

ج / 1 ص -294-    ولا منافاة بين قول أسامة رضي الله عنه في الحديث الأول: "ركع قبل البيت"، وبين قوله في الحديث الثاني: "وصلى خلف المقام ركعتين"، لأن المقام كان في وجه الكعبة، على ما ذكر ابن عقبة في "مغازيه" وغيره، ويكون قوله: صلى خلف المقام: مفسرا لقوله: ركع قبل البيت لينتفي التعارض بين حديثيه، وهذا أولى من حمل قوله على أنه صلى خلف المقام في موضعه، لأنه إذا حمل على ذلك يفهم منه التناقض بين الحديثين، والله أعلم.
وإذا كان حديث ابن السائب يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عند الكعبة في يوم فتح مكة وقال: "هذه القبلة"، واقتضى ذلك أيضا حديث أسامة رضي الله عنه، ففي ذلك دليل على اتحاد المصلى الذي ذكره أسامة وابن السائب، ويتجه به النظر الذي أشرنا إليه في ما ذكره المحب الطبري، من أن المصلى الذي ذكره أسامة رضي الله عنه غير المصلى الذي ذكره ابن السائب، ولا يقال الحديث الذي استدل به المحب الطبري على المصلى الذي ذكره ابن السائب، غير الحديث الذي ذكره الأزرقي، لأن المحب الطبري قال في "القرى" لما ذكره في المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة: "الثالث: قريبا من الركن الشامي مما يلي الحِجر، عن عبد الله بن السائب أنه كان يقود ابن عباس عند الشقة الثالثة مما يلي الركن الذي يلي الحِجر مما يلي الباب، فيقول له ابن عباس: عند الشقة الثالث: أثبتَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ههنا؟ فيقول: نعم، فيقوم فيصلي، أخرجه أحمد، وأبو داود... انتهى.
وقوله في هذا الحديث "أثبتَ" هو بنصب التاء لا برفعها، لأنه يلزم على رفعها أن يكون الحدث من رواية ابن السائب عن ابن عباس، ولا يعرف لابن عباس في هذا المعنى حديث، والله أعلم.
وقوله: أثبت بألف، يعني "همزة الاستفهام"، ثم ثاء مثلثة، ثم باء موحدة، ثم تاء مثناة، من الثبات الذي بمعنى التحقيق للشيء، كأنه يقول له: تحققتَ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الموضع المشار إليه؟ فيقول: نعم. والله أعلم.
وإنما لا يقال الحديث الذي استدل به المحب غير الحديث الذي ذكره الأزرقي، لأن الحديث الذي ذكره المحب يقتضي أن ابن عباس رضي الله عنهما سأل ابن السائب عن موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في وجه الكعبة، والحديث الذي ذكره الأزرقي يقتضى إخبار ابن السائب بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة في وجه الكعبة، وأنه رفع يديه، وقال: "هذه القبلة" وبيَّن المصلى بقوله: "عند الطواف"، وذلك لا ينافي إثباته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عند الشقة الثالثة مقابلة الركن الشامي، لإمكان أن يكون موضع النظر فيه موضع الشقة الثالثة، فعرفه بالوجهين، واختصر في إخباره ابن عباس رضي الله عنه بعض القصة، والله أعلم.

 

ج / 1 ص -295-    ووجدت بخط مفتي الحرم رضي الدين محمد بن أبي خليل العسقلاني ما يقتضي أن للنبي صلى الله عليه وسلم مصلى بين هذه الحفرة وبين الحِجر بسكون الجيم، لأني وجدت بخط الرضي المذكور ما نصه: أخبرني الشيخ عثمان بن عبد الواحد العسقلاني المكي، عن بعض مشيخة مكة المتقدمين، أن المقام المحمدي: الحَجَر المشَوْبَر الذي عند الحفرة التي عند الكعبة على جانبها مما يلي حجر إسماعيل، وهو الحَجَر الذي إلى جانب هذه الحفرة المذكورة، والدعاء عنده مستجاب.
وأخبرني المفتي عماد الدين بن عبد الرحمن بن محمد المذكور أن من يدعو خلفه بهذا الدعاء: يا واجد، يا واحد، يا ماجد، يا بر، يا رحيم، يا غني، يا كريم، أتمم عليّ نعمتك، وألبسني عافيتك، أُستجيب له... انتهى.
والحفرة المشار إليها هي السابقة، والحَجَر المشَوْبَر: الذي هو علامة هذا المصلى لا يعرف الآن، وهو الموضع الثالث الذي ذكره المحبّ، لأنه ليس بين الحفرة المشار إليها والركن الشامي مصلى للنبي صلى الله عليه وسلم غير المصلى الثالث، والله أعلم.
والحفرة المشار إليها جدد رخامها الذي هو بها الآن في سنة إحدى وثمانمائة، وقد حررنا أمورا تتعلق بذرعها، فكان طولها من الجهة الشامية إلى الجهة اليمانية، أربعة أذرع، وعرضها من الجهة الشرقية إلى جدار الكعبة: ذراعان وسدس، وعمقها: نصف ذراع كل ذلك بذراع الحديد والحفرة المشار إليها لم ترخم إلا بعد قدوم ابن جبير إلى مكة، وكان قدومه في سنة تسع وسبعين وخمسمائة، لأنه ذكر هذا الموضع في أخبار رحلته، وذكر أنه علامة موضع المقام في عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن صرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو الآن مصلى، وأنه مفروش برملة بيضاء1... انتهى بالمعنى.
فدل ذلك على أنه لم يكن ترخيما حين رآه ابن جبير، وقد نبهنا فيما سبق على عدم استقامة قوله: إن هذا الموضع موضع المقام في عهد إبراهيم عليه السلام والله أعلم بالصواب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رحلة ابن جبير "ص: 62".