البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
فصل في البحار والانهار
قال الله تعالى (وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا
وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله
ولعلكم تشكرون.
وألقى في الارض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهدون.
وعلامات وبالنجم هم يهتدون.
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن
الله لغفور رحيم) [ النحل: 14 - 15 ] وقال تعالى (وما يستوي البحران
هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا
وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم
تشكرون) [ فاطر: 12 ] وقال تعالى (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات
وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) [ الفرقان: 53 ] وقال
تعالى: (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان) [ الرحمن: 19 - 20
] فالمراد بالبحرين البحر الملح المر وهو الاجاج والبحر العذب هو هذه
الانهار السارحة بين أقطار والامصار لمصالح العباد قاله ابن جريج وغير
واحد من الائمة.
وقال تعالى: (ومن آياته الجوار في البحر كالاعلام إن يشأ يسكن الريح
فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما
كسبوا ويعفو عن كثير) [ الشورى: 33 ] وقال تعالى (ألم تر أن الفلك تجري
في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور
وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر
فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختال كفور) [ لقمان: 31 ] وقال
تعالى: (إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي
تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به
الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف
الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون) [ الحج:
65 ] فامتن تعالى
__________
(1) سورة فاطر الآية 27.
الجدد جمع جدة.
قال الزهري: الطرائق أو الخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض..[ * ]
(1/23)
على عباده بما
خلق لهم من البحار والانهار فالبحر المحيط بسائر أرجاء الارض وما ينبت
منه في جوانبها الجميع مالح الطعم مر وفي هذا حكمة عظيمة لصحة الهواء
إذ لو كان حلوا لانتن الجو وفسد الهواء بسبب ما يموت فيه من الحيوانات
فكان يؤدي إلى تفاني بني آدم ولكن اقتضت الحكمة البالغة أن يكون على
هذه الصفة لهذه المصلحة.
ولهذا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحر قال: " هو الطهور
ماؤه الحل ميتته " (1).
وأما الانهار فماؤها حلو عذب فرات سائغ شرابها لمن أراد ذلك.
وجعلها جارية سارحة ينبعها تعالى في أرض ويسوقها إلى أخرى رزقا للعباد.
ومنها كبار ومنها صغار بحسب الحاجة والمصلحة.
وقد تكلم أصحاب علم الهيئة والتفسير على تعداد البحار والانهار الكبار
وأصول منابعها وإلى أين ينتهي سيرها بكلام فيه حكم ودلالات على قدرة
الخالق تعالى، وأنه فاعل بالاختيار والحكمة - قوله تعالى (والبحر
المسجور) [ الطور: 6 ] فيه قولان أحدهما أن المراد به البحر الذي تحت
العرش المذكور في حديث الاوعال.
وأنه فوق السموات السبع بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء، وهو
الذي ينزل منه المطر قبل البعث فتحيا منه الاجساد من قبورها.
وهذا القول هو اختيار الربيع بن أنس.
والثاني آن البحر اسم جنس يعم سائر البحار التي في الارض وهو قول
الجمهور * واختلفوا في معنى البحر المسجور فقيل المملوء وقيل يصير يوم
القيامة نارا تؤجج فيحيط بأهل الموقف كما ذكرناه في التفسير عن علي
وابن عباس وسعيد بن جبير وابن مجاهد وغيرهم.
وقيل المراد به الممنوع المكفوف المحروس عن أن يطغى فيغمر الارض ومن
عليها فيغرقوا.
رواه الوالبي عن ابن عباس وهو قول السدي وغيره ويؤيده الحديث الذي رواه
الامام أحمد (1) حدثنا يزيد حدثنا
العوام حدثني شيخ كان مرابطا بالساحل قال " لقيت أبا صالح مولى عمر بن
الخطاب فقال حدثنا عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات [ على الارض ] يستأذن
الله عزوجل أن يتفصح عليهم فيكفه الله عزوجل " ورواه اسحاق بن راهوية
__________
(1) اخرجه أحمد في مسنده 2 / 227، 261، 278، 292 ; 3 / 273 ; 5 / 265.
وأبو داود في الطهارة والترمذي في الطهارة والنسائي في الطهارة والمياه
والصيد.
وأخرجه ابن ماجة في الطهارة.
وفي موطأ مالك والدارمي في الوضوء والصيد.
(2) سورة الطور الآية 6.
في معنى المسجور قال مجاهد: الموقد ; وافقه الضحاك وشمر بن عطية ومحمد
بن كعب والاخفش: انه بمنزلة التنور المسجور - الموقد المحمى -.
وعن ابن عباس قال: المسجور الذي ذهب ماؤه.
وقيل المسجور أي المفجور.
وعند المهايمي: أورده بعد السقف المرفوع للاشارة إلى أنه إذا ارتفع
العمل إلى السماء فاض منها على العبد من العلوم ما يجعله بحرا من
المحبة ما يسجر بنار الشوق إلى ربه.
[ * ]
(1/24)
عن يزيد بن
هرون عن العوام بن حوشب حدثني شيخ مرابط قال " خرجت ليلة المحرس لم
يخرج أحد من المحرس غيري فأتيت الميناء فصعدت فجعل يخيل إلي أن البحر
يشرف يحاذي برؤوس الجبال فعل ذلك مرارا وأنا مستيقظ فلقيت أبا صالح
فقال حدثنا عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من
ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات يستأذن الله أن يتفصح عليهم فيكفه الله
عزوجل في إسناده رجل مبهم والله أعلم.
وهذا من نعمه تعالى على عباده أن كف شر البحر عن أن يطغى عليهم وسخره
لهم يحمل مراكبهم ليبلغوا عليها إلى الاقاليم النائية بالتجارات وغيرها
وهداهم فيه بما خلقه في السماء والارض من النجوم والجبال التي جعلها
لهم علامات يهتدون بها في سيرهم وبما خلق لهم فيه من الآلئ والجواهر
النفيسة العزيزة الحسنة الثمينة التي لا توجد إلا فيه وبما خلق فيه من
الدواب الغريبة
وأحلها لهم حتى ميتتها كما قال تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه) وقال
النبي صلى الله عليه وسلم " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وفي الحديث
الآخر " أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال " رواه
أحمد وابن ماجة وفي إسناده نظر * وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في
مسنده " وجدت في كتاب عن محمد بن معاوية البغدادي حدثنا عبد الرحمن بن
عبد الله بن عمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه قال "
كلم الله هذا البحر الغربي وكلم البحر الشرقي فقال للغربي إني حامل فيك
عبادا من عبادي فكيف أنت صانع بهم قال أغرقهم.
قال بأسك في نواحيك وحرمه الحلية والصيد، وكلم هذا البحر الشرقي فقال
إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم قال أحملهم على يدي،
وأكون لهم كالوالدة لولدها فأثابه الحلية والصيد * ثم قال لا تعلم
أحدا.
ما رواه عن سهيل إلا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر وهو منكر الحديث.
قال وقد رواه سهيل عن عبد الرحمن بن أبي عياش عن عبد الله بن عمرو
موقوفا.
قلت الموقوف على عبد الله بن عمرو بن العاص أشبه فإنه قد كان وجد يوم
اليرموك ذاملتين مملوءتين كتبا من علوم أهل الكتاب فكان يحدث منهما
بأشياء كثيرة من الاسرائيليات منها المعروف والمشهور والمنكور
والمردود.
فأما المعروف فترد به عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم
بن عمر بن الخطاب أبو القاسم المدني قاضيها.
قال فيه الامام أحمد ليس بشئ وقد سمعته منه * ثم مزقت حديثه كان كذابا
وأحاديثه مناكير * وكذا ضعفه بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والجوزجاني
والبخاري وأبو داود والنسائي وقال ابن عدي عامة أحاديثه مناكير وأفظعها
حديث البحر * قال علماء التفسير المتكلمون على العروض والاطوال والبحار
والانهار والجبال والمساحات وما في الارض من المدن والخراب والعمارات
والاقاليم السبعة الحقيقة في إصطلاحهم والاقاليم المتعددة العرفية وما
في البلدان والاقاليم من الخواص والنباتات وما يوجد في كل قطر من صنوف
(1/25)
المعادن
والتجارات قالوا الارض مغمورة بالماء العظيم إلا مقدار الربع منها وهو
تسعون درجة
والعناية الالهية اقتضت إنحسار الماء عن هذا القدر منها لتعيش
الحيوانات عليها وتنبت الزرع والثمار منها كما قال تعالى (والارض وضعها
للانام فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي
آلاء ربكما تكذبان) [ الرحمن: 10 - 13 ] قالوا المعمور من هذا البادي
منها قريب الثلثين منه أو أكثر قليلا.
هو خمس وتسعون درجة.
قالوا فالبحر المحيط الغربي ويقال له أوقيانوس وهو الذي يتاخم بلاد
المغرب وفيه الجزائر الخالدات وبينها وبين ساحله عشر درج مسافة شهر
تقريبا وهو بحر لا يمكن سلوكه ولا ركوبه لكثرة موجه وإختلاف ما فيه من
الرياح والامواج وليس فيه صيد ولا يستخرج منه شئ ولا يسافر فيه لمتجر
ولا لغيره وهو آخذ في ناحية الجنوب حتى يسامت الجبال القمر ويقال جبال
القمر التي منها أصل منبع نيل مصر ويتجاوز خط الاستواء * ثم يمتد شرقا
ويصير جنوبي الارض.
وفيه هناك جزائر الزابج وعلى سواحله خراب كثير * ثم يمتد شرقا وشمالا
حتى يتصل ببحر الصين والهند * ثم يمتد شرقا حتى يسامت (1) نهاية الارض
الشرقية المكشوفة.
وهناك بلاد الصين.
ثم ينعطف في شرق الصين إلى جهة الشمال حتى يجاوز بلاد الصين ويسامت سد
يأجوج ومأجوج.
ثم ينعطف ويستدير على أراضي غير معلومة الاحوال * ثم يمتد مغربا في
شمال الارض ويسامت بلاد الروس ويتجاوزها ويعطف مغربا وجنوبا ويستدير
على الارض ويعود إلى جهة الغرب وينبثق من الغربي إلى متن الارض الزقاق
الذي ينتهي أقصاه إلى أطراف الشام من الغرب * ثم يأخذ في بلاد الروم
حتى يتصل بالقسطنطينية وغيرها من بلادهم.
وينبعث من المحيط الشرقي بحار أخر فيها جزائر كثيرة، حتى إنه يقال: إن
في بحر الهند ألف جزيرة وسبعمائة جزيرة فيها مدن وعمارات سوى الجزائر
العاطلة ويقال لها البحر الاخضر فشرقيه بحر الصين وغربيه بحر اليمن
وشماله بحر الهند وجنوبيه غير معلوم * وذكروا أن بين بحر الهند وبحر
اليمن جبالا فاصلة بينهما وفيها فجاج يسلك المراكب بينها يسيرها لهم
الذي خلقها كما جعل مثلها في البر أيضا قال الله تعالى (وجعلنا في
الارض رواسي أن تميد بكم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلكم تهتدون) * وقد
ذكر بطليموس أحد ملوك الهند في كتابه
المسمى بالمجسطي الذي عرب في زمان المأمون، وهو أصل هذه العلوم أن
البحار المتفجرة من المحيط الغربي والشرقي والجنوبي والشمالي كثيرة
جدا.
فمنها ما هو واحد، ولكن يسمى بحسب البلاد المتاخمة له.
فمن ذلك بحر القلزم.
والقلزم قرية على ساحله قريب من أيلة.
وبحر فارس وبحر الخزر وبحر ورنك وبحر الروم وبحر بنطش وبحر الازرق،
مدينة على ساحله وهو بحر القرم أيضا ويتضايق حتى يصب في بحر الروم عند
جنوبي القسطنطينية وهو خليج القسطنطينية،
__________
(1) يسامت: يسير.
[ * ]
(1/26)
ولهذا تسرع
المراكب في سيرها من القرم إلى بحر الروم وتبطئ إذا جاءت من الاسكندرية
إلى القرم لاستقبالها جريان الماء.
وهذا من العجائب في الدنيا فإن كل ماء جار فهو حلو إلا هذا وكل بحر
راكد فهو ملح أجاج إلا ما يذكر عن بحر الخزر وهو بحر جرجان وبحر
طبرستان أن فيه قطعة كبيرة ماء حلوا فراتا على ما أخبر به المسافرون
عنه.
قال أهل الهيئة وهو بحر مستدير الشكل إلى الطول ما هو * وقيل إنه مثلث
كالقلع وليس هو متصلا بشئ من البحر المحيط بل منفرد وحده، وطوله
ثمانمائة ميل وعرضه ستمائة وقيل أكثر من ذلك والله أعلم.
ومن ذلك البحر الذي يخرج منه المد والجزر عند البصرة وفي بلاد المغرب
نظيره أيضا يتزايد الماء من أول الشهر ولا يزال في زيادة إلى تمام
الليلة الرابعة عشر منه وهو المد * ثم يشرع في النقص وهو الجزر إلى آخر
الشهر * وقد ذكروا تحديد هذه البحار ومبتداها ومنتهاها وذكروا ما في
الارض من البحيرات المجتمعة من الانهار وغيرها من السيول وهي البطائح *
وذكروا ما في الارض من الانهار المشهورة الكبار، وذكروا ابتداءها
وإنتهاءها ولسنا بصدد بسط ذلك والتطويل فيه وإنما نتكلم على ما يتعلق
بالانهار الوارد ذكرها في الحديث.
وقد قال الله تعالى: (الله الذي خلق السموات والارض وأنزل من السماء
ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره
وسخر لكم الانهار وسخر لكم الشمس والقمر
دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة
الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار) ففي الصحيحين من طريق قتادة عن
أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر
سدرة المنتهى قال فإذا يخرج من أصلها نهران باطنان ونهران ظاهران.
فأما الباطنان ففي الجنة وأما الظهران فالنيل والفرات * وفي لفط في
البخاري وعنصرهما أي مادتهما أو شكلهما وعلى صفتهما ونعتهما وليس في
الدنيا مما في الجنة الاسماوية وفي صحيح مسلم من حديث عبيد الله بن عمر
عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال " سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة
".
وقال الامام أحمد حدثنا ابن نمير ويزيد أنبأنا محمد بن عمرو عن أبي
سلمة عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فجرت أربعة
أنهار من الجنة الفرات والنيل وسيحان وجيحان " وهذا إسناد صحيح على شرط
مسلم.
وكأن المراد والله أعلم من هذا أن هذه الانهار تشبه أنهار الجنة في
صفائها وعذوبتها وجريانها ومن جنس تلك في هذه الصفات ونحوها كما قال في
الحديث الآخر الذي رواه الترمذي وصححه من طريق سعيد بن عامر عن محمد بن
عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "
العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم " أي تشبه ثمر الجنة لا أنها
مجتناة من الجنة، فان الحس يشهد بخلاف ذلك فتعين أن المراد غيره وكذا
قوله صلى الله عليه وسلم " الحمى من فيح جهنم
(1/27)
فابردوها
بالماء " وكذا قوله " إذا اشتد الحمى فأبردوها بالماء فإن شدة الحر من
فيح جهنم " * وهكذا هذه الانهار أصل منبعها مشاهد من الارض * أما
النيل.
وهو النهر الذي ليس في أنهار الدنيا له نظير في خفته ولطافته وبعد
مسراه فيما بين مبتداه إلى منتهاه فمبتداه من الجبال القمر أي البيض
ومنهم من يقول جبال القمر بالاضافة إلى الكوكب وهي في غربي الارض وراء
خط الاستواء إلى الجانب الجنوبي.
ويقال إنها حمر ينبع من بينها عيون * ثم يجتمع من عشر مسيلات متباعدة.
ثم يجتمع كل خمسة منها في بحر.
ثم يخرج منها أنهار ستة.
ثم يجتمع كلها في بحيرة أخرى.
ثم يخرج منها نهر واحد هو النيل فيمر على بلاد
السودان الحبشة ثم على النوبة ومدينتها العظمى دمقلة ثم على أسوان ثم
يفد على ديار مصر (1).
وقد تحمل إليها من بلاد الحبشة زيادات أمطارها واجترف من ترابها وهى
محتاجة إليهما معا لان مطرها قليل لا يكفي زروعها وأشجارها.
وتربتها رمال لا تنبت شيئا حتى يجئ النيل بزيادته وطينه فينبت فيه ما
يحتاجون إليه وهي من أحق الاراضي بدخولها في قوله تعالى (أو لم يروا
أنا نسوق الماء إلى الارض الجرز فنخرج به رزعا تأكل منه أنعامهم
وأنفسهم أفلا يبصرون) ثم يجاوز النيل مصر قليلا فيفترق شطرين عند قرية
على شاطئه يقال لها شطنوف فيمر الغربي على رشيد ويصب في البحر المالح *
وأما الشرق فتفترق أيضا عند جوجر فرقتين تمر الغربية منهما على دمياط
من غربيها ويصب في البحر والشرقية منهما تمر على أشمون طناح فيصب هناك
في بحيرة شرقي دمياط.
يقال لها بحيرة تنيس وبحيرة دمياط * وهذا بعد عظيم فيما بين مبتداه إلى
منتهاه.
ولهذا كان ألطف المياه * قال ابن سينا له خصوصيات دون مياه سائر الارض
* فمنها انه أبعدها مسافة من مجراه إلى أقصاه.
ومنها أنه يجري على صخور ورمال (1) ليس فيه خز ولا طحلب ولا أوحال
ومنها أنه لا يخضر فيه حجر ولا حصاة وما ذاك إلا لصحة مزاجه وحلاوته
ولطافته.
ومنها إن زيادته في أيام نقصان سائر الانهار.
ونقصانه في أيام زيادتها وكثرتها وأما ما يذكره بعضهم من أن أصل منبع
النيل من مكان مرتفع أطلع عليه بعض الناس فرأى هناك هولا عظيما وجواري
حسانا وأشياء غريبة وأن الذي أطلع على ذلك لا يمكنه الكلام بعد هذا فهو
من خرافات المؤرخين وهذيانات الافاكين * وقد قال عبد الله بن لهيعة عن
قيس بن الحجاج عمن حدثه قال " لما فتح عمرو بن عاص مصر أتى أهلها إليه
حين دخل شهر بؤنة من أشهر العجم (القبطية) فقالوا: (أيها الامير إن
لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها فقال لهم وما ذاك قالوا إذا كان لثنتي
عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا
أبويها وجعلنا عليها من الجلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا
النيل، فقال لهم عمرو إن هذا لا يكون في الاسلام وأن الاسلام يهدم ما
قبله فأقاموا بؤنة والنيل لا يجرى لا قليلا ولا كثيرا * وفي رواية
فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى وهو لا يجري حتى هموا بالجلاء.
فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر إنك قد أصبت بالذي
فعلت وإني قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي هذا فألقها في النيل فلما قدم
كتابه أخذ عمرو
(1/28)
البطاقة ففتحها
فإذا فيها " من عند الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر (أما بعد) فان
كنت تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك
فنسأل الله أن يجريك فألقى عمرو البطاقة في النيل فأصبح يوم السبت وقد
أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة وقطع الله تلك السنة عن
أهل مصر إلى اليوم * وأما الفرات فأصلها من شمالي أررن الروم فتمر إلى
قرب ملطيه ثم تمر على شميشاط.
ثم على البيرة قبليها ثم تشرق إلى بالس وقلعة جعبر ثم الرقة ثم إلى
الرحبة شماليها ثم إلى عانة، ثم إلى هيت ثم إلى الكوفة ثم تخرج إلى
فضاء العراق ويصب في بطائح كبار أي بحيرات وترد إليها ويخرج منها أنهار
كبار معروفة.
وأما سيحان ويقال له سيحون أيضا فأوله من بلاد الروم ويجري من الشمال
والغرب إلى الجنوب والشرق وهو غربي مجرى جيحان ودونه في القدر وهو
ببلاد الارض التي تعرف اليوم ببلاد سيس وقد كانت في أول الدولة
الاسلامية في أيدي المسلمين * فلما تغلب الفاطميون على الديار المصرية
وملكوا الشام وأعمالها عجزوا عن صونها عن الاعداء فتغلب تقفور الارمني
على هذه البلاد أعني بلاد سيس في حدود الثلاثمائة وإلى يومنا هذا.
والله المسؤل عودها إلينا بحوله وقوته.
ثم يجتمع سيحان وجيحان عند اذنه فيصيران نهرا واحدا.
ثم يصبان في بحر الروم بين أياس وطرسوس * وأما جيحان ويقال له جيحون
أيضا وتسميه العامة جاهان.
وأصله في بلاد الروم ويسير في بلاد سيس من الشمال إلى الجنوب وهو يقارب
الفرات في القدر * ثم يجتمع هو وسيحان عند اذنة فيصيران نهرا واحدا.
ثم يصبان في البحر عن إياس وطرسوس والله أعلم *
فصل قال الله تعالى (الله الذي رفع
السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر
الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى يدبر الامر يفصل الآيات لعلكم بلقاء
ربكم توقنون * وهو الذي مد الارض فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات
جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون
* وفي الارض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان
يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل إن في ذلك لايات لقوم
يعقلون) وقال تعالى (أمن خلق السموات والارض وأنزل لكم من السماء ماء
فانبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل
هم قوم يعدلون أمن جعل الارض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي
وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون) وقال تعالى
(هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه
(1/29)
تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات إن
في ذلك لآية لقوم يتفكرون وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر
والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) [ النحل 10 ] فذكر
تعالى ما خلق في الارض من الجبال والاشجار والثمار والسهول والاوعار
وما خلق من صنوف المخلوقات من الجمادات والحيوانات في البراري والقفار
والبر والبحار ما يدل على عظمته وقدرته وحكمته ورحمته بخلقه وما سهل
لكل دابة من الرزق الذي هي محتاجة إليه في ليلها ونهارها وصيفها
وشتائها وصباحها ومائلها كما قال تعالى (وما من دابة في الارض إلا على
الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) [ هود: 6 ] وقد
روى الحافظ أبو يعلى عن محمد بن المثنى عن عبيد بن واقد عن محمد بن
عيسى بن كيسان عن محمد بن المنكدر عن جابر عن عمر بن الخطاب قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول خلق الله ألف أمة منها ستمائة في
البحر وأربعمائة في البر.
وأول شئ يهلك من هذه الامم الجراد فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع
سلكه.
(عبيد بن واقد) أبو عباد البصري ضعفه أبو حاتم وقال بن عدي عامة ما
يرويه لا يتابع
عليه وشيخه أضعف منه.
قال الفلاس والبخاري منكر الحديث، وقال أبو زرعة لا ينبغي أن يحدث عنه.
وضعفه ابن حبان والدارقطني وأنكر عليه ابن عدي هذا الحديث بعينه وغيره
والله أعلم * وقال تعالى (وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه
إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون) [
الانعام: 38 ]. |