البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

فصل في فضل من شهد بدرا من المسلمين قال البخاري في هذا الباب: حدثنا عبد الله بن محمد ثنا معاوية بن عمرو ثنا أبو إسحاق عن حميد سمعت أنسا يقول: أصيب حارثة يوم بدر فجاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الاخرى فترى ما أصنع فقال: " ويحك أو هبلت أو جنة واحدة هي ؟ إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس " تفرد به البخاري من هذا الوجه وقد روى من غير هذا الوجه من حديث ثابت وقتادة عن أنس وأن حارثة كان في النظارة وفيه: " أن ابنك أصاب الفردوس الاعلى " وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر فإن هذا الذي لم يكن في بحيحة القتال ولا في حومة الوغى بل كان من النظارة من بعيد وإنما أصابه سهم غرب وهو يشرب من الحوض ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس التي هي أعلى الجنان وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة التي أمر الشارع أمته إذا سألوا الله الجنة أن يسألوه إياها فإذا كان هذا حال هذا فما ظنك بمن كان واقفا في نحر العدو وعدوهم على ثلاثة أضعافهم عددا وعددا ثم روى البخاري ومسلم جميعا: عن إسحاق بن راهويه، عن عبد الله بن إدريس، عن حصين بن عبد الرحمن، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب قصة حاطب بن أبي بلتعة وبعثه الكتاب إلى أهل مكة عام الفتح، وأن عمر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ولفظ البخاري " أليس من أهل بدر ولعل الله
اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو قد غفرت لكم - " فدمعت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم.
وروى مسلم عن قتيبة، عن الليث، عن أبي الزبير عن جابر أن عبدا لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوا حاطبا قال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كذبت لا يدخلها إنه شهد بدرا والحديبية " وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثني الاعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل النار رجل شهد بدرا أو الحديبية " تفرد به أحمد وهو على شرط مسلم.
وقال الامام أحمد حدثنا يزيد أنبأنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال: إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".
ورواه أبو داود عن أحمد بن سنان وموسى بن إسماعيل كلاهما عن يزيد بن هارون به.
وروى البزار في

(3/398)


مسنده ثنا محمد بن مرزوق ثنا أبو حذيفة ثنا عكرمة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لارجو أن لا يدخل النار من شهد بدرا إن شاء الله " ثم قال لا نعلمه يروي عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه.
قلت: وقد تفرد البزار بهذا الحديث ولم يخرجوه وهو على شرط الصحيح والله أعلم.
وقال البخاري في (1) باب شهود الملائكة بدرا: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا جرير، عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها - قال وكذلك من شهد بدرا من الملائكة انفرد به البخاري.
قدوم زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة قال ابن إسحاق: ولما رجع أبو العاص إلى مكة وقد خلى سبيله - يعني كما تقدم - بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الانصار مكانه فقال كونا ببطن يأجج (2) حتى تمر بكما زينب فتصحباها فتأتياني بها، فخرجا مكانهما وذلك بعد بدر بشهر - أو شيعه (3) - فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت تجهز: قال ابن إسحاق فحدثني عبد الله بن أبي بكر قال: حدثت
عن زينب أنها قالت بينا أنا أتجهز لقيتني هند بنت عتبة فقالت يا ابنة محمد ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك قالت: فقلت ما أردت ذلك، فقالت: أي ابنة عم لا تفعلي، إن كان لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بمال تتبلغين به إلى أبيك فإن عندي حاجتك فلا تضطبني (4) مني فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال، قالت والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، قالت: ولكني خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك.
قال ابن إسحاق: فتجهزت فلما فرغت من جهازها قدم إليها أخو زوجها كنانة بن الربيع بعيرا فركبته وأخذ قوسه وكنانته ثم خرج بها نهارا يقود بها وهي في هودج لها، وتحدث بذلك رجال من قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى وكان أول من سبق إليها هبار بن الاسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى والفهري (5) فروعها هبار بالرمح
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي فتح الباري 7 / 311.
(2) يأجج: اسم لمكانين: أحدهما: على ثمانية أميال من مكة.
والثاني: أبعد منه، وفيه بني مسجد الشجرة وبينه وبين مسجد التنعيم ميلان.
(3) شيعه: قريب منه.
قال في النهاية: نحوا من شهر.
(4) في ابن هشام: لا تضطني، وفي رواية لا تظطني: أي لا تستحي، وبالظاء: من ظنت أي لا تتهميني ولا تستريبي بي.
(5) من السهيلي، وفي الاصل وابن هشام لم يذكر اسم الفهري مع الواو بل هبار بن الاسود بن المطلب بن عبد العزى الفهري.
واسمه نافع بن عبد القيس كما ذكره ابن هشام وفي رواية البيهقي عن ابن إسحاق.
(*)

(3/399)


وهي في الهودج وكانت حاملا فيما يزعمون فطرحت (1) وبرك حموها كنانة ونثر كنانته، ثم قال والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما فتكركر الناس عنه.
وأتى أبو سفيان في جلة من قريش فقال: يا أيها الرجل كف عنا نبلك حتى نكلمك، فكف فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال إنك لم تصب خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذ خرجت بابنته إليه علانية على رؤوس الناس من بين أظهرنا إن ذلك عن ذل
أصابنا وإن ذلك ضعف منا ووهن ولعمري مالنا بحبسها من أبيها من حاجة وما لنا من نؤرة.
ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الاصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسلها سرا وألحقها بأبيها، قال ففعل.
وقد ذكر ابن إسحاق أن أولئك النفر الذين ردوا زينب لما رجعوا إلى مكة قالت هند تذمهم على ذلك: أفي السلم أعيارا جفاء وغلظة * وفي الحرب أشباه النساء العوارك وقد قيل إنها قالت ذلك للذين رجعوا من بدر بعدما قتل منهم الذين قتلوا.
قال ابن إسحاق: فأقامت ليال حتى إذا هدأت الاصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه فقدما بها ليلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى البيهقي في الدلائل: من طريق عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير عن عروة عن عائشة فذكر قصة خروجها وردهم لها ووضعها ما في بطنها وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة وأعطاه خاتمه لتجئ معه فتلطف زيد فأعطاه راعيا من مكة فأعطى الخاتم لزينب فلما رأته عرفته فقالت من دفع إليك هذا ؟ قال رجل في ظاهر مكة فخرجت زينب ليلا فركبت وراءه حتى قدم بها المدينة.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هي أفضل بناتي أصيبت في " قال: فبلغ ذلك علي بن الحسين بن زين العابدين فأتى عروة فقال: ما حديث بلغني أنك تحدثته ؟ فقال عروة والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب واني انتقص فاطمة حقا هولها وأما بعد ذلك [ فلك ] (2) أن لا أحدث به أبدا (3).
قال ابن إسحاق فقال في ذلك عبد الله بن رواحة أو أبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف.
قال ابن هشام هي لابي خيثمة: أتاني الذي لا يقدر الناس قدره * لزينب فيهم من عقوق ومأثم وإخراجها لم يخز فيها محمد * على مأقط وبيننا عطر منشم (4)
__________
(1) قيل أن هبار نخس الراحلة فسقطت على صخرة فهلك جنينها، ولم تزل تنزف دما حتى ماتت بالمدينة (أنظر الاستيعاب).
(2) من دلائل البيهقي.
(3) دلائل البيهقي باب ما جاء في زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم..ج 3 / 156.
(4) عطر منشم: مثل، يكنى به عن شدة الحرب، قيل في أصله أن منشم كانت امرأة من خزاعة تبيع العطر والطيب فيشرى منها للموتى، حتى تشاءموا بها لذلك.
(*)

(3/400)


وأمسى أبو سفيان من حلف ضمضم * ومن حربنا في رغم أنف ومندم قرنا ابنه عمرا ومولى يمينه * بذي حلق جلد الصلاصل محكم فأقسمت لا تنفك منا كتائب * سراة خميس من لهام مسوم نزوع قريش الكفر حتى نعلها * بخاطمة فوق الانوف بميسم ننزلهم أكناف نجد ونخلة * وإن يتهموا بالخيل والرجل نتهم يدى الدهر حتى لا يعوج سربنا * ونلحقهم آثار عاد وجرهم ويندم قوم لم يطيعوا محمدا * على أمرهم وأي حين تندم فأبلغ أبا سفيان إما لقيته * لئن أنت لم تخلص سجودا وتسلم فأبشر بخزي في الحياة معجل * وسربال قار خالدا في جهنم قال ابن إسحاق: ومولى يمين أبي سفيان الذي عناه الشاعر هو عامر بن الحضرمي.
وقال ابن هشام إنما هو عقبة بن عبد الحارث بن الحضرمي فأما عامر بن الحضرمي فإنه قتل يوم بدر.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله بن الاشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي إسحاق الدوسي، عن أبي هريرة.
قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية أنا فيها فقال: " إن ظفرتم بهبار بن الاسود والرجل (1) الذي سبق معه إلى زينب فحرقوهما بالنار " فلما كان الغد بعث إلينا فقال: " إني قد كنت أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموها، ثم رأيت أنه لا ينبغي لاحد أن يحرق بالنار إلا الله عزوجل، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما " تفرد به ابن إسحاق وهو على شرط السنن ولم يخرجوه وقال البخاري: حدثنا قتيبة، ثنا الليث عن بكير عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة أنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: " إن وجدتم فلانا وفلانا فاحرقوهما بالنار " ثم قال حين أردنا الخروج: " إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وأن النار لا
يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموها فاقتلوهما " وقد ذكر ابن إسحاق أن أبا العاص أقام بمكة على كفره واستمرت زينب عند أبيها بالمدينة حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص في تجارة لقريش، فلما قفل من الشام لقيته سرية فأخذوا ما معه وأعجزهم هربا وجاء تحت الليل إلى زوجته زينب فاستجار بها فأجارته، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الصبح وكبر وكبر الناس صرخت من صفة النساء أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال: " أيها الناس هل سمعتم الذي سمعت " قالوا نعم ! قال: " أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشئ حتى سمعت ما سمعتم وإنه بجير على المسلمين أدناهم " ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته زينب فقال: " أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له " قال:
__________
(1) في ابن هشام: أو الرجل الآخر، ويعني نافع بن عبد القيس.
(*)

(3/401)


وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثهم على رد ما كان معه فردوه بأسره لا يفقد منه شيئا فأخذه أبو العاص فرجع به إلى مكة فأعطى كل إنسان ما كان له ثم قال: يا معشر قريش هل بقي لاحد منكم عندي مال لم يأخذه ؟ قالوا: لا فجزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني عن الاسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت.
ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على النكاح الاول ولم يحدث شيئا [ بعد ست سنين ] (1)، وهذا الحديث قد رواه الامام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن إسحاق، وقال الترمذي ليس بإسناده بأس ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث ولعله قد جاء من قبل حفظ داود بن الحصين.
وقال السهيلي لم يقل به أحد من الفقهاء فيما علمت وفي لفظ ردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ست سنين، وفي رواية بعد سنتين بالنكاح الاول رواه ابن جرير وفي رواية لم يحدث نكاحا.
وهذا الحديث قد أشكل على كثير من العلماء فإن القاعدة عندهم أن المرأة إذا أسلمت وزوجها كافر فإن
كان قبل الدخول تعجلت الفرقة وإن كان بعده انتظر إلى انقضاء العدة فإن أسلم فيها استمر على نكاحها وإن انقضت ولم يسلم انفسخ نكاحها وزينب رضي الله عنها أسلمت حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجرت بعد بدر بشهر وحرم المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست، وأسلم أبو العاص قبل الفتح سنة ثمان فمن قال ردها عليه بعد ست سنين أي من حين هجرتها فهو صحيح ومن قال بعد سنتين أي من حين حرمت المسلمات على المشركين فهو صحيح أيضا، وعلى كل تقدير فالظاهر انقضاء عدتها في هذه المدة التي أقلها سنتان من حين التحريم أو قريب منها فكيف ردها عليه بالنكاح الاول ؟ فقال قائلون يحتمل أن عدتها لم تنقض وهذه قصة يمين يتطرق إليها الاحتمال، وعارض آخرون هذا الحديث بالحديث الاول الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد بنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد.
قال الامام أحمد هذا حديث ضعيف واه ولم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب إنما سمعه من محمد بن عبيدالله العرزمي.
والعرزمي لا يساوي حديثه شيئا والحديث الصحيح الذي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على النكاح الاول.
وهكذا قال الدارقطني لا يثبت هذا الحديث والصواب حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الاول.
وقال الترمذي هذا حديث في إسناده مقال والعمل عليه عند أهل العلم أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها ثم أسلم زوجها أنه أحق بها ما كانت في العدة وهو قول مالك والاوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال آخرون بل الظاهر انقضاء عدتها، ومن روى أنه جدد لها نكاحا فضعيف ففي قضية زينب والحالة هذه دليل على أن المرأة إذا أسلمت وتأخر إسلام زوجها حتى
__________
(1) من ابن إسحاق.
(*)

(3/402)


انقضت عدتها فنكاحها لا ينفسخ بمجرد ذلك بل يبقى بالخيار إن شاءت تزوجت غيره وإن شاءت تربصت وانتظرت إسلام زوجها أي وقت كان وهي امرأته ما لم تتزوج وهذا القول فيه قوة وله حظ من جهة الفقه والله أعلم.
ويستشهد لذلك بما ذكره البخاري حيث قال (نكاح من أسلم من
المشركات وعدتهن) حدثنا إبراهيم بن موسى ثنا هشام عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس كان المشركون على منزلتين من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كانوا مشركي أهل الحرب يقاتلونهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه.
فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران ولهما ما للمهاجرين ثم ذكر من أهل العهد مثل حديث مجاهد هذا لفظه بحروفه، فقوله فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر يقتضي أنها كانت تستبرئ بحيضة لا تعتد بثلاثة قروء، وقد ذهب قوم إلى هذا وقوله فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه يقتضي أنه وإن هاجر بعد انقضاء مدة الاستبراء والعدة أنها ترد إلى زوجها الاول ما لم تنكح زوجا غيره كما هو الظاهر من قصة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم وكما ذهب إليه من ذهب من العلماء.
والله أعلم.
ما قيل من الاشعار في بدر العظمى فمن ذلك ما ذكره ابن إسحاق عن حمزة بن عبد المطلب وأنكرها ابن هشام: ألم تر أمرا كان من عجب الدهر * وللحين أسباب مبينة الامر وما ذاك إلا أن قوما أفادهم * فخافوا تواص بالعقوق وبالكفر عشية راحوا نحو بدر بجمعهم * وكانوا رهونا للركية من بدر (1) وكنا طلبنا العير لم نبغ غيرها * فساروا إلينا فالتقينا على قدر فلما التقينا لم تكن مثنوية * لنا غير طعن بالمثقفة السمر وضرب ببيض يختلي الهام حدها * مشهرة الالوان بينة الاثر ونحن تركنا عتبة الغي ثاويا * وشيبة في قتلى تجرجم في الجفر (2) وعمرو ثوى فيمن ثوى من حماتهم * فشقت جيوب النائحات على عمرو جيوب نساء من لؤي بن غالب * كرام تفر عن الذوائب من فهر أولئك قوم قتلوا في ضلالهم * وخلوا لواء غير محتضر النصر
لواء ضلال قاد إبليس أهله * فخاس بهم، إن الخبيث إلى غدر
__________
(1) الركية: البئر غير المطوية.
(2) تجرجم: تسقط، الجفر: البئر المتسعة.
(*)

(3/403)


وقال لهم، إذ عاين الامر واضحا * برئت إليكم ما بي اليوم من صبر فاني أرى مالا ترون وإنني * أخاف عقاب الله والله ذو قسر فقدمهم للحين حتى تورطوا * وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر فكانوا غداة البئر ألفا وجمعنا * ثلاث مئين كالمسدمة الزهر وفينا جنود الله حين يمدنا * بهم في مقام ثم مستوضح الذكر فشد بهم جبريل تحت لوائنا * لدى مأزق فيه مناياهم تجري وقد ذكر ابن إسحاق جوابها من الحارث بن هشام تركناها عمدا.
وقال علي بن أبي طالب وأنكرها ابن هشام: ألم تر أن الله أبلى رسوله * بلاء عزيز ذي اقتدار وذي فضل بما أنزل الكفار دار مذلة * فلاقوا هوانا من أسار ومن قتل فأمسى رسول الله قد عز نصره * وكان رسول الله أرسل بالعدل فجاء بفرقان من الله منزل * مبينة آياته لذوي العقل فآمن أقوام بذاك وأيقنوا * فأمسوا بحمد الله مجتمعي الشمل وأنكر أقوام فزاغت قلوبهم * فزادهم ذو العرش خبلا على خبل (1) وامكن منهم يوم بدر رسوله * وقوما غضابا فعلهم أحسن الفعل بأيديهم بيض خفاف عصوا بها * وقد حادثوها بالجلاء وبالصقل فكم تركوا من ناشئ ذي حمية * صريعا ومن ذي نجدة منهم كهل تبيت عيون النائحات عليهم * تجود بإسبال الرشاش وبالوبل
نوائح تنعي عتبة الغي وابنه * وشيبة تنعاه وتنعي أبا جهل وذا الرجل تنعى وابن جدعان فيهم * مسلبة حرى مبينة الثكل ثوى منهم في بئر بدر عصابة * ذوو نجدات في الحروب وفي المحل دعا الغي منهم من دعا فأجابه * وللغي أسباب مرمقة الوصل فأضحوا لدى دار الجحيم بمعزل * عن الشغب والعدوان في أسفل السفل (2) وقد ذكر ابن إسحاق نقيضها من الحارث أيضا تركناها قصدا وقال كعب بن مالك: عجبت لامر الله والله قادر * على ما أراد ليس لله قاهر قضى يوم بدر أن نلاقي معشرا * بغوا وسبيل البغي بالناس جائر
__________
(1) الخبل: الفساد.
(2) في ابن هشام: في أشغل الشغل.
(*)

(3/404)


وقد حشدوا واستنفروا من يليهم * من الناس حتى جمعهم متكاثر وسارت إلينا لا تحاول غيرنا * بأجمعها كعب جميعا وعامر وفينا رسول الله والاوس حوله * له معقل منهم عزير وناصر وجمع بني النجار تحت لوائه * يمشون في الماذي والنقع ثائر (1) فلما لقيناهم وكل مجاهد * لاصحابه مستبسل النفس صابر شهدنا بأن الله لا رب غيره * وأن رسول الله بالحق ظاهر وقد عريت ريض خفاف كأنها * مقاييس يزهيها لعينيك شاهر بهن أبدنا جمعهم فتبددوا * وان يلاقي الحين من هو فاجر فكب أبو جهل صريعا لوجهه * وعتبة قد غادرته وهو عائر وشيبة والتيمي غادرت في الوغى * وما منهم إلا بذي العرش كافر فأمسوا وقود النار في مستقرها * وكل كفور في جهنم صائر
تلظى عليهم وهي قد شب حميها * بزبر الحديد والحجارة ساجر وكان رسول الله قد قال أقبلوا * فولوا وقالوا: إنما أنت ساحر لامر أراد الله أن يهلكوا به * وليس لامر حمه الله زاجر وقال كعب في يوم بدر: ألا هل أتى غسان في نأي دارها * وأخبر شئ بالامور عليمها بأن قد رمتنا عن قسي عداوة * معد معا جهالها وحليمها لانا عبدنا الله لم نرج غيره * رجاء الجنان إذ أتانا زعيمها نبي له في قومه إرث عزة * وأعراق صدق هذبتها أرومها فساروا وسرنا فالتقينا كأننا * أسود لقاء لا يرجى كليمها ضربناهم حتى هوى في مكرنا * لمنخر سوء من لؤي عظيمها فولوا ودسناهم ببيض صوارم * سواء علينا حلفها وصميمها وقال كعب أيضا: لعمر أبيكما يا ابني لؤي * على زهو لديكم وانتخاء لما حامت فوارسكم ببدر * ولا صبروا به عند اللقاء وردناه ونور الله يجلو * دجى الظلماء عنا والغطاء رسول الله يقدمنا بأمر * من أمر الله أحكم بالقضاء
__________
(1) الماذي: الدروع البيض اللينة السهلة، وقد تطلق على السلاح كله.
(*)

(3/405)


فما ظفرت فوارسكم ببدر * وما رجعوا إليكم بالسواء فلا تعجل أبا سفيان وارقب * جياد الخيل تطلع من كداء بنصر الله روح القدس فيها * وميكال فيا طيب الملاء وقال حسان بن ثابت: قال ابن هشام: ويقال هي لعبد الله بن الحارث السهمي (1):
مستشعري حلق الماذي يقدمهم * جلد النحيزة ماض غير رعديد (2) أعني رسول إله الخلي فضله * على البرية بالتقوى وبالجود وقد زعمتم بأن تحموا ذماركم * وماء بدر زعمتم غير مورود (3) مستعصمين بحبل غير منجذم * مستحكم من حبال الله ممدود فينا الرسول وفينا الحق نتبعه * حتى الممات ونصر غير محدود واف وماض شهاب يستضاء به * بدر أنار على كل الاماجيد وقال حسان بن ثابت أيضا: ألا ليت شعري هل أتى أهل مكة * إبادتنا الكفار في ساعة العسر قتلنا سراة القوم عند مجالنا * فلم يرجعوا إلا بقاصمة الظهر (4) قتلنا أبا جهل وعتبة قبله * وشيية (وشيبة) يكبو لليدين وللنحر قتلنا سويدا ثم عتبة بعده * وطعمة أيضا عند ثائرة القتر فكم قد قتلنا من كريم مسود * له حسب في قومه نابه الذكر (5) تركناهموا للعاويات يتيتهم (يتينهم) * ويصلون نارا بعد حامية القعر (6) لعمرك ما حامت فوارس مالك * وأشياعهم يوم التقينا على بدر (7) وقال عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب في يوم بدر، في قطع رجله في مبارزته هو وحمزة وعلي
__________
(1) وردت القصيدة في ديوان حسان منسوبة إليه من غير اختلاف في ذلك.
(2) مستشعري: من استشعر، يقال استشعر الثوب: إذا لبسه على جسمه من غير حاجز، ومنه الشعار ما يلي الجسم من الثياب.
(3) في ابن هشام: غير مردود.
وبعده في سيرة ابن هشام: ثم وردنا ولم نسمع لقولكم * حتى شربنا رواء غير تصريد التصريد: تقليل الشرب.
والرواء: التملؤ من الشرب.
(4) قاصمة الظهر: الداهية التي تقصم الظهور، أي تكسرها فتبيتها (فتبينها).
(5) في ابن هشام مرز بدل مسود.
(6) يتينهم أي يأتونهم مرة بعد مرة.
(7) حامت: من الحماية، اي الامتناع، وفي رواية خامت: أي جبنت.
(*)

(3/406)


مع عتبة وشيبة والوليد بن عتبة وأنكرها ابن هشام: ستبلغ عنا أهل مكة وقعة * يهب لها من كان عن ذاك نائيا بعتبة إذ ولى وشيبة بعده * وما كان فيها بكر عتبة راضيا فإن تقطعوا رجلي فإني مسلم * أرتجي بها عيشا من الله دانيا مع الحور أمثال التماثيل أخلصت * من الجنة العليا لمن كان عاليا وبعت بها عيشا تعرفت صفوه * وعاجلته حتى فقدت الا دانيا فأكرمني الرحمن من فضل منه * بثوب من الاسلام غطى المساويا وما كان مكروها إلي قتالهم * غداة دعا الاكفاء من كان داعيا ولم يبغ إذ سألوا النبي سواءنا * ثلاثتنا حتى حضرنا المناديا لقيناهم كالاسد تخطر بالقنا * نقاتل في الرحمن من كان عاصيا فما برحت أقدامنا من مقامنا * ثلاثتنا حتى أزيروا المنائبا (1) وقال ابن إسحاق وقال حسان بن ثابت أيضا يذم الحارث بن هشام على فراره يوم بدر ؟ وتركه قومه لا يقاتل دونهم: تبلت فؤادك في المنام خريدة * تشفي الضجيع ببارد بسام (2) كالمسك تخلطه بماء سحابة * أو عاتق كدم الذبيح مدام (3) نفج الحقيبة بوصها متنضد * بلهاء غير وشيكة الاقسام (4) بنيت على قطن أجم كأنه * فضلا إذا قعدت مداك رخام (5) وتكاد تكسل أن تجئ فراشها * في جسم خرعبة وحسن قوام (6)
أما النهار فلا أفتر أذكرها * والليل توزعني بها أحلامي أقسمت أنساها وأترك ذكرها * حتى تغيب في الضريح عظامي بل من لعاذلة تلوم سفاهة * ولقد عصيت على الهوى لوامي بكرت إلي بسحرة بعد الكرى * وتقارب من حادث الايام
__________
(1) قال أبو ذر في غريب السيرة: المنائيا: يريد المنايا، وقد تكون الهمزة متقلبة عن الياء الزائدة في منية.
(2) رواية الديوان وابن هشام: تسقي بدل: تشفي.
(3) العاتق: الخمر القديمة، قال الخشني في غريب السيرة: وتروى عاتك: وهي الخمرة القديمة التي احمرت (4) نفج: مرتفعة وعالية.
والحقيبة: هنا ردف المرأة.
(5) القطن: ما بين الوركين إلى بعض الظهر.
(6) خرعبة: الحسنة القوام.
(*)

(3/407)


زعمت بأن المرء يكرب عمره * عدم لمعتكر من الاصرام (1) إن كنت كاذبة الذي حدثتني * فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الاحبة أن يقاتل دونهم * ونجا برأس طمرة ولجام (2) يذر العناجيج الجياد بقفرة * مر الذمول بمحصد ورجام (3) ملات به الفرجين فارمدت به * وثوى أحبته بشر مقام وبنو أبيه ورهطه في معرك * نصر الاله به ذوي الاسلام طحنتهم والله ينفذ أمره * حرب يشب سعيرها بضرام لولا الاله وجريها لتركنه * جزر السباع ودسنه بحوامي (4) من بين مأسور يشد وثاقة * صقر إذا لاقى الاسنة حامي (5) ومجدل لا يستجيب لدعوة * حتى تزول شوامخ الاعلام بالعار والذل المبين إذا رأى * بيض السيوف تسوق كل همام
بيدي أغر إذا انتمى لم يخزه * نسب القصار سميدع مقدام (6) بيض إذا لاقت حديدا صممت * كالبرق تحت ظلال كل غمام قال ابن هشام تركنا في آخرها ثلاث أبيات أقذع فيها (7).
قال ابن هشام فأجابه الحارث بن هشام أخو أبي جهل عمرو بن هشام فقال: القوم أعلم ما تركت قتالهم * حتى رموا فرسي بأشقر مزبد (8) وعرفت أني إن أقاتل واحدا * أقتل ولا ينكي عدوي مشهدي فصددت عنهم والاحبة فيهم * طمعا لهم بعقاب يوم مفسد
__________
(1) الاصرام: جمع صرم وصرم جمع صرمة بالكسر وهي القطعة من الابل ما بين العشرين إلى الاربعين.
والمعتكر: الابل التي يرجع بعضها على بعض، فلا يمكن عدها لكثرتها.
(2) بعده في الديوان: جرداء تمزع في الغبار كأنها * سرحان غاب في ظلال غمام (3) في ابن هشام والديوان: الدموك بدل الذمول، الدموك: البكرة بآلتها، والمحصد: الحبل الشديد الفتل الرجام: حجر يربط في الدلو، ليكون أسرع لها عند إرسالها في البئر.
(4) حوامي: جمع جامية، وهي ما عن يمين سنبك الفرس وشماله.
(5) البيت في الديوان: من كل مأسور يشد صفاده * صقر إذا لاقى الكتيبة حامي (6) القصار: أراد بهم الذين قصر سعيهم عن طلب المكارم.
(7) في ديوان حسان خمسة أبيات بعد هذا البيت لا ثلاثة.
(8) في ابن هشام: الله أعلم مكان القوم أعلم.
وشطره الثاني في ابن هشام: حتى حبوا مهري...وفي السهيلي:: حتى علوا مهري (*)

(3/408)


وقال حسان أيضا:
يا حار قد عولت غير معول * عند الهياج وساعة الاحساب إذ تمتطي سرح اليدين نجيبة * مرطى الجراء طويلة الاقراب (1) والقوم خلفك قد تركت قتالهم * ترجو النجاء وليس حين ذهاب ألا عطفت على ابن أمك إذ ثوى * قعص الاسنة ضائع الاسلاب (2) عجل المليك له فأهلك جمعه * بشنار مخزية وسوء عذاب وقال حسان أيضا: لقد علمت قريش يوم بدر * غداة الاسر والقتل الشديد بأنا حين تشتجر العوالي * حماة الحرب يوم أبي الوليد قتلنا ابني ربيعة يوم سارا * إلينا في مضاعفة الحديد وفر بها حكيم يوم جالت * بنو النجار تخطر كالاسود وولت عند ذاك جموع فهر * وأسلمها الحويرث من بعيد لقد لاقيتموا ذلا وقتلا * جهيزا نافذا تحت الوريد وكل القوم قد ولوا جميعا * ولم يلووا على الحسب التليد وقالت هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب ترثي عبيدة بن الحارث بن المطلب: لقد ضمن الصفراء مجدا وسؤددا * وحلما أصيلا وافر اللب والعقل (3) عبيدة فابكيه لاضياف غربة * وأرملة تهوي لاشعث كالجذل وبكيه للاقوام في كل شتوة * إذا احمر آفاق السماء من المحل وبكيه للايتام والريح زفزف * وتشبيب قدر طالما أزبدت تغلي فإن تصبح النيران قد مات ضوؤها * فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل لطارق ليل أو لملتمس القرى * ومستنبح أضحى لديه على رسل (4) وقال الاموي في مغازيه حدثني سعيد بن قطن قال قالت عاتكة بنت عبد المطلب في رؤياها التي رأت وتذكر بدرا:
__________
(1) سرح اليدين: يريد بها الفرس.
(2) القعص: القتل بسرعة.
(3) الصفراء: موضع بين مكة والمدينة.
(4) مستنبح: الرجل الذي يضل بالليل، فيتكلف نباح الكلب فيهتدي بصياحه.
(*)

(3/409)


ألما تكن رؤياي حقا ويأتكم * بتأويلها فل من القوم هارب (1) رأى فأتاكم باليقين الذي رأى * بعينيه ما تفري السيوف القواضب فقلتم ولم أكذب عليكم وإنما * يكذبني بالصدق من هو كاذب (2) وما جاء إلا رهبة الموت هاربا * حكيم وقد أعيت عليه المذاهب أقامت سيوف الهند دون رءوسكم * وخطية فيها الشبا والتغالب كأن حريق النار لمع ظباتها * إذا ما تعاطتها الليوث المشاغب ألا بأبي يوم اللقاء محمدا * إذا عض من عون الحروب الغوارب مرى بالسيوف المرهفات نفوسكم * كفاحا كما تمري السحاب الجنائب (3) فكم بردت أسيافه من مليكة * وزعزع ورد بعد ذلك صالب فما بال قتلى في القليب ومثلهم * لدى ابن أخي أسرى له ما يضارب فكانوا نساء أم أتى لنفوسهم * من الله حين ساق والحين حالب فكيف رأى عند اللقاء محمدا * بنو عمه والحرب فيها التجارب ألم يغشكم ضربا يحار لوقعه * الجبان وتبدو بالنهار الكواكب حلفت لئن عادوا لنصطلينهم * بخارا تردى تجر فيها المقانب (4) كأن ضياء الشمس لمع ظباتها * لها من شعاع النور قرن وحاجب وقالت عاتكة أيضا فيما نقله الاموي: هلا صبرتم للنبي محمد * ببدر ومن يغشى الوغى حق صابر
ولم ترجعوا عن مرهفات كأنها * حريق بأيدي المؤمنين بواتر ولم تصبروا للبيض حتى أخذتموا * قليلا بأيدي المؤمنين المشاعر ووليتموا نفرا وما البطل الذي * يقاتل من وقع السلاح بنافر أتاكم بما جاء النبيون قبله * وما ابن أخي البر الصدوق بشاعر سيكفي الذي ضيعتموا من نبيكم * وينصره الحيان: عمرو وعامر وقال طالب بن أبي طالب يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرثي أصحاب القليب من قريش الذين قتلوا
__________
(1) البيت في دلائل البيهقي: ألم تكن الرؤيا بحق وجاءكم * بتصديقها فل من القوم هارب (2) البيت في دلائل البيهقي: فقلتم - ولم أكذب - كذبت وإنما * يكذبنا بالصدق من هو كاذب (3) الجنائب: الرياح التي تهب جنوبا، وهي تمري السحاب تستنزل مطره.
(4) في نسخ البداية المطبوعة تجربتها (تجريتها) والصواب: تجر فيها.
(*)

(3/410)


يومئذ من قومه وهو بعد على دين قومه إذ ذاك: ألا إن عيني أنفذت دمعها سكبا * تبكي على كعب وما إن ترى كعبا ألا إن كعبا في الحروب تخاذلوا * وأرداهموا إذ الدهر واجترحوا ذنبا وعامر تبكي للملمات غدوة * فيا ليت شعري هل أرى لهم قربا (1) فيا أخوينا عبد شمس ونوفل * فدا لكما لا تبعثوا بيننا حربا (2) ولا تصبحوا من بعد ود وإلفة * أحاديث فيها كلكم يشتكي النكبا ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * وحرب أبي يكسوم إذ ملئوا الشعبا (3) فلولا دفاع الله لا شئ غيره * لاصبحتموا لا تمنعون لكم سربا فما إن جنينا في قريش عظيمة * سوى أن حمينا خير من وطئ التربا
أخا ثقة في النائبات مرزءا * كريما ثناه لا بخيلا ولا ذربا يطيف به العافون يغشون بابه * يؤمون نهرا لا نزورا ولا صربا فوالله لا تنفك نفسي حزينة * تململ حتى تصدقوا الخزرج الضربا فصل وقد ذكر ابن إسحاق أشعارا من جهة المشركين قوية الصنعة يرثون بها قتلاهم يوم بدر فمن ذلك قول ضرار بن الخطاب بن مرداس أخي بني محارب بن فهر وقد أسلم بعد ذلك، والسهيلي في روضه يتكلم على أشعار من أسلم منهم بعد ذلك: عجبت لفخر الاوس والحين دائر * عليهم غدا والدهر فيه بصائر (4) وفخر بني النجار إن كان معشر * أصيبوا ببدر كلهم ثم صائر (5) فان تك قتلى غودرت من رجالنا * فإنا رجال بعدهم سنغادر (6) وتردى بنا الجرد العناجيج وسطكم * بني الاوس حتى يشفي النفس ثائر (7)
__________
(1) في ابن هشام: لهما بدل لهم.
وفي ابن هشام بعده: هما أخواي لن يعدا لغية * تعد ولن يستام جارهما غصبا (2) في الاصل: ونوفل تحريف والصواب: ونوفلا من ابن هشام.
(3) في ابن هشام: وجيش أبي يكسوم.
(4) بصائر: جمع بصيرة، وهي الحجة والدليل قال تعالى: (بل الانسان على نفسه بصيرة) أي حجة.
(5) في ابن هشام: صابر.
(6) في الاصل: رجالا تحريف.
(7) العناجيج: جمع عنجوج، وهو الطويل السريع.
والثائر: الطالب بثأره.
(*)

(3/411)


ووسط بني النجار نكرها * لها بالقنا والدارعين زوافر (1) فنترك صرعى تعصب الطير حولهم * وليس لهم إلا الاماني ناصر
وتبكيهم من أرض يثرب نسوة * لهن بها ليل عن النوم ساهر وذلك أنا لا تزال سيوفنا * بهن دم ممن يحاربن ماثر فان تظفروا في يوم بدر فإنما * بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر (2) وبالنفر الاخيار هم أولياؤه * يحامون في اللاواء والموت حاضر يعد أبو بكر وحمزة فيهم * ويدعى علي وسط من أنت ذاكر (3) أولئك لا من نتجت من ديارها * بنو الاوس والنجار حين تفاخر ولكن أبوهم من لؤي بن غالب * إذا عدت الانساب كعب وعامر هم الطاعنون الخيل في كل معرك * غداة الهياج الاطيبون الاكابر فأجابه كعب بن مالك بقصيدته التي أسلفناها وهي قوله: عجبت لامر الله والله قادر * على ما أراد ليس لله قاهر قال ابن إسحاق: وقال أبو بكر واسمه شداد بن الاسود بن شعوب.
قلت: وقد ذكر البخاري أنه خلف على امرأة أبي بكر الصديق حين طلقها الصديق وذلك حرم الله المشركات على المسلمين واسمها أم بكر: تحيي بالسلامة أم بكر * وهل لي بعد قومي من سلام فماذا بالقليب قليب بدر * من القينات والشرب الكرام وماذا بالقليب قليب بدر * من الشيزى تكلل بالسنام (4) وكم لك بالطوي طوي بدر * من الحومات والنعم المسام وكم لك بالطوى طوى بدر * من الغايات والدسع العظام
__________
(1) زوافر: جمع زافرة: وهي الحاملات للثقل.
(2) قصيدة ضرار بن الخطاب قسمان: القسم الاول منها إلى هنا يسلك فيه ضرار سبيل التهديد والوعيد بما ستحققه قريش من إدراك ثأرها - وهو لا ينظر إلى الامر من زاوية الحرب بين مسلمين ومشركين - بل هي حرب بين قريش والانصار فهي في نظره حرب قبلية لا حرب دفاع عن دين.
والقسم الثاني في قصيدته من هنا يتخذ وجهة أخرى، تتجه فيها معانيه إلى عصبية قرشية واضحة، وهي الفخر بالمهاجرين من قريش على اخوانهم من الانصار.
(3) بعده في ابن هشام: ويدعى أبو حفص وعثمان منهم * وسعد إذا ما كان في الحرب حاضر (4) الشيزى: جفان من خشب.
والسنام: لحم ظهر البعير وإنما أراد أصحابها الذين يطعمون فيها.
(*)

(3/412)


وأصحاب الكريم أبي علي * أخي الكأس الكريمة والندام وانك لو رأيت أبا عقيل * وأصحاب الثنية من نعام إذا لظللت من وجد عليهم * كأم السقب جائلة المرام يخبرنا الرسول لسوف نحيا * وكيف حياة أصداء وهام قلت وقد أورد البخاري بعضها في صحيحه ليعرف به حال قائلها.
قال ابن إسحاق وقال أمية بن أبي الصلت يرثي من قتل من قريش يوم بدر: ألا بكيت على الكرا * م بني الكرام أولي الممادح كبكاء الحمام على فرو * ع الايك في الغصن الجوانح (1) يبكين حرا مستكي * نات يرحن مع الروائح أمثالهن الباكيا * ت المعولات من النوائح من يبكيهم يبكي على * حزن ويصدق كل مادح ماذا ببدر والعقن * قل من مرازبة جحاجح (2) فمدافع البرقين فال * حنان من طرف الاواشح (3) شمط وشبان بها * ليل مغاوير وحاوح (4) ألا ترون لما أرى * ولقد أبان لكل لامح أن قد تغير بطن مك * ة فهي موحشة الاباطح
من كل بطريق لبط * ريق نقي الود واضح (5) دعموص أبواب الملو * ك وجائب للخرق فاتح (6) ومن السراطمة الخلا * جمة الملاوثة المناجح (7) القائلين الفاعل * ين الآمرين بكل صالح المطعمين الشحم فو * ق الخبز شحما كالانافح (8)
__________
(1) الجوانح: الموائل.
(2) العقنقل: الكثيب من الرمل المنعقد.
والمرازبة واحدها مرزبان: الرئيس الجحاجح: جمع جحجاح.
السيد.
(3) البرقين والحنان والاواشح: مواضع.
(4) وحاوح: جمع وحواح وهو القوي النفس (5) في ابن هشام: نقي اللون.
(6) دعموص: دويبة تغوص في الماء.
(7) السراطمة: جمع سرطم وهو الواسع الحلق.
والخلاجمة: جمع خلجم: وهو الضخم الطويل.
(8) الانافح: جمع إنفحة وهي شئ يخرج من بطن ذي الكرش داخله أصفر فيعصر في صوفه فيغلظ كالجبن.
(*)

(3/413)


نقل الجفان مع الجفا * ن إلى جفان كالمناضح (1) ليست بأصفار لمن * يعفو ولا رح رحارح (2) للضيف ثم الضيف بعد الضيف والبسط السلاطح (3) وهب المئين من المئ * ين إلى المئين من اللواقح سوق المؤبل للمؤبل صادرات عن بلادح لكرامهم فوق الكرا * م مزية وزن الرواجح كمثاقل الارطال بال * قسطاس بالايدي الموائح (4)
خذلتهموا فئة وهم * يحمون عورات الفضائح الضاربين التقدمية * بالمهندة الصفائح ولقد عناني صوتهم * من بين مستسق وصائح لله در بني ع * لي أيم منهم وناكح إن لم يغيروا غارة * شعواء تحجر كل نابح (5) بالمقربات المبعدا * ت الطامحات مع الطوامح مردا على جرد إلى * أسد مكالبة كوالح ويلاق قرن قرنه * مشي المصافح للمصافح بزهاء ألف ثم أل * ف بين ذي بدن ورامح قال ابن هشام: تركنا منها بيتين نال فيهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: هذا شعر المخذول المعكوس المنكوس الذي حمله كثرة جهله وقلة عقله على أن مدح المشركين ودم المؤمنين واستوحش بمكة من أبي جهل بن هشام وأضرابه من الكفرة اللئام والجهلة الطغام ولم يستوحش بها من عبد الله ورسوله وحبيبه وخليله فخر البشر ومن وجهه أنور من القمر ذي العلم الاكمل والعقل الاشمل ومن صاحبه الصديق المبادر إلى التصديق والسابق إلى الخيرات وفعل المكرمات وبذل الالوف والمئات في طاعة رب الارض والسموات، وكذلك بقية أصحابه الغر الكرام الذين هاجروا من دار الكفر والجهل إلى دار العلم والاسلام رضي الله عن جميعهم ما اختلط الضياء والظلام.
وما تعاقبت الليالي والايام.
وقد تركنا أشعارا كثيرة أوردها ابن إسحاق رحمه الله خوف الاطالة وخشية الملالة وفيما أوردنا كفاية ولله الحمد والمنة.
وقد قال الاموي في
__________
(1) الممناضح: الحياض.
(2) رحارح: أي واسعة من غير عمق.
(3) السلاطح: الطوال العراض.
(4) الموائح: التي تتمايل لثقل ما ترفعه.
(5) تحجر، وتروى تجحر: أي تلجئه إلى جحره.
(*)

(3/414)


مغازيه سمعت أبي حدثنا سليمان بن أرقم عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن شعر الجاهلية (1).
قال سليمان فذكر ذلك الزهري فقال: عفا عنه إلا قصيدتين، كلمة أمية التي ذكر فيها أهل بدر، وكلمة الاعشى التي يذكر فيها الاخوص.
وهذا حديث غريب وسليمان بن أرقم هذا متروك والله أعلم.
[ غزوة بني سليم في سنة ثنتين من الهجرة ] (2) قال ابن إسحاق: وكان فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر في عقب شهر رمضان - أو في شوال (3) - ولما قدم المدينة لم يقم بها إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بني سليم، قال ابن هشام: واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري - أو ابن أم مكتوم الاعمى - قال ابن إسحاق: فبلغ ماء من مياههم يقال له الكدر فأقام عليه ثلاث ليال ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا فأقام بها بقية شوال وذا القعدة وأفدى في إقامته تلك جل الاسارى من قريش.
قال السهيلي: والقرقرة الارض الملساء، والكدر طير في ألوانها كدرة.