البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
غزوة الحديبية
(1) وقد كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف.
وممن نص على ذلك الزهري ونافع مولى ابن عمر، وقتادة وموسى بن عقبة،
ومحمد بن إسحاق بن يسار وغيرهم.
وهو الذي رواه ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة أنها كانت في ذي القعدة
سنة ست.
وقال يعقوب بن سفيان حدثنا إسماعيل بن الخليل، عن علي بن مسهر أخبرني
هشام بن عروة عن أبيه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
الحديبية في رمضان وكانت الحديبية في شوال.
وهذا غريب جدا عن عروة.
وقد روى البخاري ومسلم جميعا: عن هدبة عن همام عن قتادة أن أنس بن مالك
أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر [ كلهن ] في ذي
القعدة إلا العمرة التي مع حجته.
عمرة من الحديبية في ذي القعدة وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة ومن
الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته.
وهذا لفظ البخاري (2).
وقال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة رمضان
وشوال وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي (3).
قال ابن إسحاق: واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الاعراب
ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت،
فأبطأ عليه كثير من الاعراب، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن
معه من المهاجرين والانصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي وأحرم
بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا
البيت ومعظما له.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن
الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا: خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد
قتالا، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة.
رجل، وكان كل بدنة عن عشرة نفر.
وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني، يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة
مائة.
قال الزهري: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان
لقيه بشر (4) بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت
بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل (5) قد لبسوا جنود النمور وقد نزلوا
بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا،
__________
(1) قال البراء: الحديبية بئر.
قال الحافظ: بينها وبين مكة نحو مرحلة واحدة، وبين المدينة تسع مراحل.
- الحديبية: حاء مهملة مضمومة، دال مهملة مفتوحة فموحدة مكسورة فتحتية
مفتوحة.
قال أكثر أهل الحديث مشددة.
وقال النووي: من قال مخففة ومن قال مشددة فهما وجهان مشهوران.
(2) أخرجه البخاري في 64 المغازي 35 باب ح 4148.
ومسلم في كتاب الحج 35 باب ح 217 وأبو داود في الحج عن أبي الوليد، وعن
هدبة.
والترمذي في الحج عن حبان وقال: حسن صحيح.
(3) في الواقدي: ابن أم مكتوم.
(4) قال ابن هشام: بسر.
(5) العوذ: جمع عائذ وهي الابل الحديثة النتاج.
المطافيل: التي معها أولادها.
يريد: النساء ومعهن أطفالهن.
(*)
(4/188)
وهذا خالد بن
الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم (1) قال: فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم يا ويح قريش ! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا
بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني
الله عليهم دخلوا في الاسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة،
فما تظن قريش، فوالله لا أزال أجاهد على هذا الذي بعثني الله به حتى
يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة، ثم قال: من رجل يخرج بنا على طريق
غير طريقهم التي هم بها ؟.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رجلا من أسلم قال: أنا
يا رسول الله فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد
شق ذلك على المسلمين فأفضوا إلى أرض
سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ للناس ]
(2): قولوا نستغفر الله ونتوب إليه، فقالوا ذلك ! فقال: والله إنها
للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها.
قال ابن شهاب.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: اسلكوا ذات اليمين بين
ظهري الحمض، في طريق يخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة.
قال: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا
عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت
ناقته، فقال الناس: خلات فقال: ما خلات وما هو لها بخلق، ولكن حبسها
حابس الفيل عن مكة.
لا تدعوني قريش اليوم إلى خطه يسألوني فيها صلة الرحم ألا أعطيتهم
إياها.
ثم قال للناس: انزلوا.
قيل له يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه.
فأخرج سهما من كنانته، فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل به في قليب من تلك
القلب فغرزه في جوفه.
فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم: أن الذي نزل في
القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب سائق بدن رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وقد زعم بعض أهل العلم: أن البراء بن عازب كان يقول:
أنا الذي نزلت بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم أي ذلك
كان.
ثم استدل ابن إسحاق للاول أن جارية من الانصار جاءت البئر وناجية أسفله
يميح فقالت: يا أيها المائح دلوي دونكا * إني رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيرا ويمجدونكا فأجابها فقال: قد علمت جارية يمانية * أني أنا
المائح واسمي ناجية وطعنة ذات رشاش واهية * طعنتها عند صدور العادية
قال الزهري في حديثه: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه
بديل بن ورقاء، في رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه ما الذي جاء به ؟
فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائرا
__________
(1) كراع الغميم: موضع بين مكة والمدينة، وهو واد أمام عسفان بثمانية
أميال.
(2) من ابن هشام (*)
(4/189)
للبيت، ومعظما
لحرمته.
ثم قال لهم نحو ما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر
قريش، إنكم تعجلون على محمد، وإن محمدا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرا
لهذا البيت.
فاتهموهم وجبهوهم، وقالوا: وإن جاء ولا يريد قتالا فوالله لا يدخلها
علينا عنوة ولا تحدث بذلك عنا العرب.
قال الزهري: وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها
ومشركها لا يخفون عنه شيئا كان بمكة.
قال: ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الاخيف، أخا بني عامر بن لؤي، فلما
رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: هذا رجل غادر، فلما انتهى
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه، قال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه، فرجع إليه قريش فأخبرهم بما قال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعثوا بحليس بن علقمة أو ابن زبان،
وكان يومئذ سيد الاحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة،
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون
فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه.
فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، قد أكل أوباره من
طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم إعظاما لما رأى، فقال لهم ذلك.
قال: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن الحليس غضب عند ذلك
وقال يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاهدناكم،
أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له ؟ والذي نفس الحليس بيده، لتخلن بين
محمد وبين ما جاء له، أو لانفرن بالاحابيش نفرة رجل واحد.
قالوا: مه كف عنا نأخذ لانفسنا ما نرضى به.
قال الزهري في حديثه: ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة
بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت ما يلقى منكم من
بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد
وأني ولد وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من
أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي.
قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم.
فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ثم قال: يا
محمد أجمعت أوشاب
الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم، إنها قريش قد خرجت معها العوذ
المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة
أبدا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.
قال: وأبو بكر الصديق رضي الله عنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم
امصص بظر اللات، أنحن ننكشف عنه ؟ قال من هذا يا محمد ؟ قال: هذا ابن
أبي قحافة.
قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ولكن هذه بهذه قال:
ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه والمغيرة
بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد، قال:
فجعل يقرع يده إذ يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:
اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك،
قال: فيقول عروة ويحك، ما أفظك وأغلظك.
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة: من هذا يا محمد
؟ قال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة قال: أي غدر، وهل غسلت سوأتك إلا
بالامس.
قال الزهري: فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو مما كلم به
أصحابه، وأخبره انه لم يأت يريد
(4/190)
حربا، فقام من
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه.
لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من
شعره شئ إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى
في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه وإني والله ما رأيت ملكا في
قومه قط مثل محمد في إصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشئ أبدا فروا
رأيكم.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يقال
له الثعلب، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأرادوا قتله (1)، فمنعه الاحابيش، فخلوا سبيله، حتى
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا اتهم عن عكرمة عن ابن عباس: أن قريشا
كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين أمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا فأخذوا فأتي بهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا
في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل.
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه
أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي،
وليس بمكة من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي
عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان، فدعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش،
يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته، فخرج
عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن
يدخلها، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله
عليه وسلم فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين بلغ رسالة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شئت أن تطوف بالبيت فطف.
قال: ما كنت لافعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن
عثمان قد قتل.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، وكانت بيعة الرضوان تحت
الشجرة، وكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الموت، وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر فبايع رسول الله صلى
الله عليه وسلم الناس ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن
قيس أخو بني سلمة.
وكان جابر بن عبد الله يقول والله لكأني أنظر إليه لاصقا بأبط ناقته قد
ضبأ إليها، يستر من الناس.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.
قال ابن هشام: وذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي: أن أول من
بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الاسدي (2).
قال ابن هشام: وحدثني من
__________
(1) قال الواقدي: الذي ولي عقره عكرمة بن أبي جهل وأراد قتله.
(2) اختلفوا في اسم أبي سنان، قيل وهب بن عبد الله وقيل عامر، وقيل عبد
الله بن وهب وقيل اسمه وهب بن (*)
(4/191)
أثق بن عمن
حدثه بإسناد له عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بايع لعثمان فضرب بإحدى يديه على الاخرى.
وهذا الحديث الذي ذكره ابن هشام بهذا الاسناد ضعيف لكنه
ثابت في الصحيحين.
قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن
لؤي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: آت محمدا وصالحه، ولا
يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه
دخلها عنوة أبدا.
فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا، قال:
قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.
فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام،
وتراجعا ثم جرى بينهما الصلح.
فلما التأم الامر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر فأتى أبا بكر، فقال: يا
أبا بكر أليس برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: بلى.
قال أو لسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى قال أو ليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى.
قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه فإني
أشهد أنه رسول الله قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله: ثم أتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألست برسول الله ؟ قال:
بلى قال أو لسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى.
قال أو ليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى.
قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف
أمره ولن يضيعني.
وكان عمر رضي الله عنه يقول ما زلت أصوم واتصدق وأصلي وأعتق من الذي
صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا.
قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله
عنه فقال أكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال: فقال سهيل لا أعرف هذا ولكن
اكتب باسمك اللهم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك
اللهم فكتبها، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن
عمرو.
قال فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك.
ولكن أكتب أسمك واسم أبيك.
قال فقال رسول الله: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن
عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف
بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم،
ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه
لا إسلال ولا إغلال، وإنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه،
ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده وتواثبت بنو بكر فقالوا:
نحن في عقد
قريش وعهدهم، وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام
قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب
السيوف في
__________
= محصن بن حرثان أخو عكاشة بن محصن، ولعل القول الاخير أصحها.
مات سنة خمس من الهجرة (الاستيعاب) وقال الواقدي: أول من بايعه سنان بن
أبي سنان بن محصن.
وقال ابن سعد عن الواقدي: أبو سنان قتل في حصار بني قريظة قبل
الحديبية، وعنه: الذي بايع الحديبية سنان بن سنان الاسدي.
(*)
(4/192)
القرب لا
تدخلها بغيرها.
قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب (1) الكتاب هو وسهيل بن
عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، قد انفلت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل عليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم حتى
كادوا يهلكون، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه
وقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا.
قال: صدقت فجعل ينتره بتلبيبه ويجره يعني يرده إلى قريش، وجعل أبو جندل
يصرخ بأ على صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني
! فزاد ذلك الناس إلى ما بهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن
الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا.
إنا قد عقدنا بيننا وبين.
القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم "
قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا
جندل، فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب.
قال: ويدني قائم السيف منه.
قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه.
قال فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب أشهد على الصلح رجالا
من المسلمين ورجالا من المشركين أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد
الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود
بن مسلمة، ومكرز بن حفص وهو يومئذ مشرك وعلي بن أبي طالب، وكتب، وكان
هو كاتب الصحيفة (2).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربا في الحل (3) وكان يصلي في
الحرم، فلما فرغ من الصلح قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان
الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فلما رأى الناس
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال:
حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" يرحم الله المحلقين " قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ قال: " يرحم
الله المحلقين " قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ قال: " يرحم الله
المحلقين " قالوا والمقصرين يا رسول الله ! قال " والمقصرين " قالوا:
يا رسول الله فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ؟ قال: لم
يشكوا.
وقال عبد الله بن أبي نجيح: حدثني مجاهد عن ابن عباس أن
__________
(1) قال في مغازي الواقدي: أن أبا جندل جاء قبل أن يكتب الكتاب.
ولما أراد سهيل رده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض
الكتاب بعد.
فقال سهيل: والله لا أكاتبك على شئ حتى ترده إلي.
فرده.
(2) زاد الواقدي: أبو عبيدة بن الجراح، وحويطب بن عبد العزى ولم يذكر
عبد الله بن سهيل بن عمرو.
(3) مضطربا في الحل: أي أن أبنيته مضروبة في الحل، وكانت صلاته في
الحرم، وهذا القرب الحديبية من حرم.
(*)
(4/193)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لابي جهل في رأسه برة
من فضة ليغيظ بذلك المشركين.
هذا سياق محمد بن إسحاق رحمه الله لهذه القصة، وفي سياق البخاري كما
سيأتي مخالفة في بعض الاماكن لهذا السياق كما ستراها إن شاء الله وبه
الثقة.
ولنوردها بتمامها ونذكر في الاحاديث الصحاح والحسان ما فيه...إن شاء
الله تعالى وعليه التكلان وهو المستعان.
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا صالح بن
كيسان عن عبيدالله بن عبد الله عن زيد بن خالد قال: خرجنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأصابنا مطر ذات ليلة فصلى بنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: أتدرون ماذا
قال ربكم ؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم.
فقال: قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي،
فأما من قال: مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر
بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنجم كذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي (1).
وهكذا رواه في غير موضع من صحيحه، ومسلم من طرق عن الزهري، وقد روي عن
الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة.
وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن
البراء قال: تعدون الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح
بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة
مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلى
الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بأناء من ماء فتوضأ ثم
مضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم أنها أصدرتنا ما شئنا نحن
وركابنا.
انفرد به البخاري.
وقال ابن إسحاق في قوله تعالى (فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) [ الفتح:
27 ]: صلح الحديبية.
قال الزهري: فما فتح في الاسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان
القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وأمن
الناس كلم بعضهم بعضا والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم
أحد في الاسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ولقد دخل في تينك السنتين مثل من
كان دخل في الاسلام قبل ذلك أو أكثر.
قال ابن هشام: والدليل على ما قاله الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة رجل في قول جابر، ثم خرج عام
فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.
وقال البخاري: حدثنا يوسف بن عيسى، حدثنا ابن فضيل، حدثنا حصين، عن
سالم، عن جابر قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه
وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 35 باب ح 4147.
وأخرجه في الصلاة عن القعنبي وفي التوحيد مختصرا عن مسدد.
ومسلم في (1) كتاب الايمان 32 عن يحيى بن يحيى (ح 125).
(*)
(4/194)
الناس نحوه
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم ؟ قالوا: يا رسول الله ليس
عندنا ما نتوضأ به ولا ما نشرب إلا ما في ركوتك.
فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين
أصابعه كأمثال
العيون.
قال: فشربنا وتوضأنا.
فقلنا لجابر كم كنتم يومئذ ؟ قال لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة
مائة (1).
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من طرق عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن
جابر به.
وقال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن
قتادة قلت لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول: كانوا
أربع عشرة مائة.
فقال لي سعيد: حدثني جابر: كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا النبي صلى
الله عليه وسلم يوم الحديبية (2).
تابعه أبو داود حدثنا قرة عن قتادة.
تفرد به البخاري.
ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال عمرو سمعت
جابرا قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية " أنتم
خير أهل الارض " وكنا ألفا وأربعمائة ولو كنت أبصر اليوم لاريتكم مكان
الشجرة (3).
وقد روى البخاري أيضا ومسلم من طرق عن سفيان بن عيينة به.
وهكذا رواه الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال: إن عبد الحاطب جاء
يشكوه فقال يا رسول الله ليدخلن حاطب النار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كذبت لا يدخلها، شهد بدرا
والحديبية " رواه مسلم (4).
وعند مسلم أيضا من طرق ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا
يقول: أخبرتني أم مبشر (5) أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول عند حفصة " لا يدخل أحد النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين
بايعوا تحتها " فقالت حفصة: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقال حفصة
(وان منكم إلا واردها) [ مريم: 71 ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد قال تعالى (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) (6) قال
البخاري: وقال عبيدالله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عمرو بن
مرة، حدثني عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلثمائة
وكانت أسلم ثمن المهاجرين (7).
تابعه محمد بن بشار حدثنا أبو داود حدثنا
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 35 باب فتح الباري 7 / 441 ح
4152.
وفتح الباري 6 / 581 عن موسى بن إسماعيل في كتاب المناقب.
باب علامات النبوة في الاسلام.
(2) فتح الباري 7 / 443 (ح 4153).
(3) المصدر السابق (ح 4154).
وأخرجه مسلم عن قتيبة عن الليث في 33 كتاب الامارة ح 67 ص 1483.
(4) أخرجه مسلم في 44 كتاب الصحابة 36 باب (ح: 162) (ص 1942).
(5) من مسلم، وفي الاصل ميسر وهو تحريف.
(6) سورة مريم: 72.
أخرجه مسلم في 44 كتاب فضائل الصحابة (37) باب (ح: 163) (1942).
(7) رواه البخاري في المغازي (ح: 4155) فتح الباري 7: 443.
ومسلم في 33 كتاب الامارة 18 باب (ح 75) ص 1485.
ونقل البيهقي في الدلائل 4 / 95 الحديث من طرق عن ابن أبي أوفى.
(*)
(4/195)
شعبة.
هكذا رواه البخاري معلقا عن عبد الله.
وقد رواه مسلم عن عبيدالله بن معاذ عن أبيه عن شعبة به.
وعن محمد بن المثنى عن أبي داود عن إسحق بن إبراهيم عن النضر بن شميل
كلاهما عن شعبة به.
ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن
عروة عن مروان والمسور بن مخرمة قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم
عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد
الهدي وأشعر وأحرم منها (1).
تفرد به البخاري وسيأتي هذا السياق بتمامه والمقصود أن هذه الروايات
كلها مخالفة لما ذهب إليه ابن إسحاق من أن أصحاب الحديبية كانوا سبع
مائة، وهو والله أعلم إنما قال ذلك تفقها من تلقاء نفسه من حيث أن
البدن كن سبعين بدنة وكل منها عن عشرة على اختياره، فيكون المهلون سبع
مائة، ولا يلزم أن يهدي كلهم، ولا أن يحرم كلهم أيضا، فقد ثبت أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعث طائفة منهم فيهم: أبو قتادة ولم يحرم أبو
قتادة حتى قتل ذلك الحمار الوحشي فأكل منه هو وأصحابه وحملوا منه إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الطريق فقال: هل منكم أحد أمره
أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا: لا.
قال: فكلوا ما بقي من الحمار.
وقد قال البخاري: حدثنا شعبة بن الريع، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى،
عن عبد الله بن أبي قتادة أن أباه حدثه قال: انطلقنا مع النبي صلى الله
عليه وسلم عام الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا شبابة بن سوار الفزاري، حدثنا
شعبة، عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لقد رأيت الشجرة ثم
أتيتها بعد فلم أعرفها.
حدثنا موسى حدثنا أبو عوانة حدثنا طارق، عن سعيد بن المسيب عن أبيه:
أنه كان فيمن بايع تحت الشجرة فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا.
وقال البخاري أيضا حدثنا محمود، حدثنا عبيدالله عن إسرائيل عن طارق بن
عبد الرحمن قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون، فقلت ما هذا المسجد ؟
قالوا: هذه الشجرة حيث بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان،
فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع
رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فلما كان من العام
المقبل نسيناها فلم نقدر عليها.
ثم قال سعيد: إن أصحاب محمد لم يعلموها، وعلمتموها أنتم ! فأنتم أعلم ؟
ورواه البخاري ومسلم من حديث الثوري وأبي عوانة وشبابة عن طارق (2).
وقال البخاري: حدثنا سعيد، حدثني أخي عن سليمان عن عمرو بن يحيى عن
عباد بن تميم قال: لما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبد الله بن
حنظلة، فقال ابن زيد:: على ما يبايع ابن حنظلة الناس قيل له على الموت،
فقال: لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) أخرجه في المغازي في باب الحديبية فتح الباري 7 / 444.
(2) رواه البخاري في 64 كتاب المغازي (35) باب غزوة الحديبية.
ومسلم في 33 كتاب الامارة (ح: 77).
(*)
(4/196)
وكان شهد معه
الحديبية.
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من طرق عن عمرو بن يحيى به.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حاتم عن يزيد بن أبي عبيد قلت
لسلمة بن الاگوع: على أي شئ بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الحديبية ؟ قال: على الموت (1).
ورواه مسلم من حديث يزيد بن أبي عبيد.
وفي صحيح مسلم: عن سلمة أنه بايع ثلاث مرات في أوائل الناس ووسطهم
وأواخرهم.
وفي الصحيح (2) عن معقل بن يسار أنه كان آخذا بأغصان الشجرة عن وجه
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس، وكان أول من بايع رسول
الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أبو سنان وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن
محصن وقيل سنان بن أبي سنان.
وقال البخاري: حدثني شجاع بن الوليد، سمع النضر بن محمد، حدثنا صخر بن
الربيع، عن نافع قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر وليس
كذلك، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من
الانصار أن يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع
عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله، فانطلق فذهب معه، حتى
بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي تحدث الناس أن ابن عمر
أسلم قبل عمر.
وقال هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عمر بن محمد العمري:
أخبرني نافع عن ابن عمر أن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم
يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجرة، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى
الله عليه وسلم فقال يا عبد الله انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول
الله صلى الله عليه وسلم فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج
فبايع.
تفرد به البخاري من هذين الوجهين.
سياق البخاري لعمرة الحديبية قال في كتاب المغازي: حدثنا عبد الله بن
محمد، حدثنا سفيان، سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه وثبتني
معمر عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يزيد
أحدهما على صاحبه، قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في
بضع عشرة مائة من أصحابه فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره (3)
وأحرم منها بعمرة وبعث عينا له من خزاعة (4)، وسار النبي صلى الله عليه
وسلم حتى إذا كان بغدير الاشطاط أتاه عينه قال: إن قريشا قد جمعوا لك
جموعا وقد جمعوا الاحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك، فقال:
أشيروا أيها الناس علي أترون
__________
(1) رواه البخاري في 64 كتاب المغازي 35 باب ح 4169 وفي 93 كتاب
الاحكام 44 باب.
وأخرجه مسلم في 33 كتاب الامارة 18 باب (ح: 80) ص 1486.
(2) أخرجه مسلم في 33 كتاب الامارة 18 باب (ح: 76).
(3) أشعره: أي وخز سنامها حتى يعرف أنها هدي، قال الزرقاني: ضرب صفحة
السنام اليمنى بحديدة فلطخها بدمها إشعارا بأنه هدي (شرح المواهب
اللدنية 2 / 218).
(4) ذكره في مغازي الواقدي: بسر بن سفيان.
(*)
(4/197)
أن أميل إلى
عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت فإن يأتونا كان
الله قد قطع عينا من المشركين وإلا تركنا لهم محروبين.
قال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا نريد قتل أحد ولا
حرب فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه.
قال امضوا على اسم الله.
هكذا رواه هاهنا ووقف ولم يزد شيئا على هذا.
وقال في كتاب الشهادات (1): حدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق
أنبأنا معمر أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة
ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي
صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة
فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش،
فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان
بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل (2)،
فألحت.
فقالوا: خلات القصواء (3) خلات القصواء، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ما خلات القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم
قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا
أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على
ثمد قليل الماء يتبرضه [ الناس ] (4) تبرضا فلم يلبثه الناس حتى نزحوه،
وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العش، فانتزع سهما من كنانته ثم
أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال بجيش لهم بالري حتى صدروا عنه،
فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة
- وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة - فقال،
إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم
العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا
معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم
مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل
فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا، وان هم أبو افوالذي نفسي بيده
لاقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد
سالفتي (5) ولينفذن أمر الله.
قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم
من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا.
فقال
__________
(1) كذا في الاصل، وهو تحريف، وقد أخرجه البخاري في كتاب الشروط باب
الشروط في الجهاد.
(2) حل حل: كلمة تقال للناقة إذا تركت السير.
(3) القصواء: الزرقاني: القصو: قطع طرف الاذن.
قال الداودي: انها كانت لا تسبق.
(4) تبرض الماء: قال الخليل في العين: جمعه بالكفين.
وقال في الصحاح: برض الماء من العين إذا خرج وهو قليل.
وفي البخاري: تبرضه الناس.
(5) السالفة: صفحة العنق، وهما سالفتان من جانبيه، وكنى بانفراد هما عن
الموت لانها لا تنفرد عما يليها إلا بالموت (النهاية).
(*)
(4/198)
سفهاؤهم لا
حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشئ.
وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول.
قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألست بالوالد ؟ قالوا: بلى.
قال: أو لستم بالولد ؟ قالوا بلى قال: فهل تتهموني ؟ قالوا: لا قال:
ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاط فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي
ومن أطاعني ؟ قالوا: بلى.
قال: فان هذا قد عرض لكم خطة رشد أقبلوها ودعوني آتيه، فقالوا: ائته،
فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه
وسلم نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك.
أي محمد أرأيت إن أستأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله
قبلك ؟ وإن تكن الاخرى فإني والله لا أرى وجوها وإني لارى أشوابا (1)
من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك.
فقال له أبو بكر: أمصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه ؟ قال من ذا ؟
قالوا أبو بكر.
قال أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لاجبتك.
قال وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم أخذ بلحيته
والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع السيف
وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه
وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال له: أخر يدك عن لحية
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فرفع عروة رأسه فقال: من هذا ؟ قالوا المغيرة بن شعبة.
فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في
الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: أما الاسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شئ ثم إن عروة جعل
يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه قال: فوالله ما تنخم
رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم.
فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا
يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم، عنده وما يحدون إليه
النظر تعظيما له.
فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، وفدت
على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم
أصحاب محمد محمدا.
والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده،
وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا
تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض
عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من بني كنانة دعوني آتية.
فقالوا ائته.
فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له.
فبعثت له واستقبله الناس يلبون.
فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.
فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا
عن البيت.
فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال دعوني آتيه.
قالوا ائته.
فلما أشرف عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل
فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل
ابن عمرو.
قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) في الصحيح: الاوشاب: الاخلاط.
وفي الواقدي: أوباشا.
(*)
(4/199)
لقد سهل لكم من
أمركم.
قال معمر قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل فقال هات فاكتب بيننا وبينكم
كتابا.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن أكتب باسمك اللهم كما
كنت تكتب.
فقال
المسلمون: والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما قاضى
عليه محمد رسول الله.
فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا
قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله وان كذ
بتموني.
اكتب محمد بن عبد الله.
قال الزهري: وذلك لقوله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا
أعطيتهم إياها ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا
وبين البيت فنطوف به.
قال سهيل: والله لا تتحدث العرب إنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام
المقبل فكتب.
فقال سهيل وعلي أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته
إلينا.
قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما.
فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد
خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل هذا يا
محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم
إنا لم نقض الكتاب بعد.
قال فوالله إذا لم أصالحك على شئ أبدا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي.
قال ما أنا بمجيزة لك.
قال: بلى فافعل قال: ما أنا بفاعل.
قال مكرز: بلى قد أجزناه لك.
قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا
ترون ما قد لقيت - وكان قد عذب عذابا شديدا في الله - فقال عمر رضي
الله عنه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا
؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى.
قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن.
قال: إني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولست أعصيه وهو ناصري.
قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال: بلى، فأخبرتك
أنا نأتيه العام ؟ قال: قلت: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا.
قال: بلى.
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل.
قال: بلى.
قال: قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن.
قال: إيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصى ربه وهو ناصره، فاستمسك
بغرزه فوالله إنه على الحق.
قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال: بلى أفأخبرك أنك
تأتيه العام.
فقلت: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال الزهري قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.
قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لاصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا.
قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم
أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس.
فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك ؟ أخرج لا تكلم أحدا منهم كلمة
حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك.
فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما
رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد
(4/200)
بعضهم يقتل
بعضا غما.
ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم
المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن - حتى بلغ - بعصم الكوافر) [ الممتحنة: 10
] فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك.
فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والاخرى صفوان بن أمية.
ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من
قريش، وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا.
فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة ونزلوا يأكلون من تمر
لهم.
فقال أبو بصير لاحد الرجلين: والله اني لارى سيفك هذا يا فلان جيدا.
فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت.
فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه.
فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه " لقد رأى هذا ذعرا " فلما
انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول.
فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني
إليهم ثم أنجاني الله منهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ويل امه مسعر حرب لو كان له أحد "
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.
قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير، فجعل لا
يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة،
فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم
وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده
بالله والرحم، لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله
عليه وسلم إليهم فأنزل الله تعالى (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم
عنهم ببطن مكة من بعد
أن أظفركم عليهم - حتى بلغ - الحمية حمية الجاهلية) [ الفتح: 26 ]
وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن
الرحيم وحالوا بينهم وبين البيت.
فهذا سياق فيه زيادات وفوائد حسنة ليست في رواية ابن إسحاق عن الزهري،
فقد رواه عن الزهري عن جماعة منهم سفيان بن عيينة ومعمر ومحمد بن إسحاق
كلهم عن الزهري عن عروة عن مروان ومسور فذكر القصة.
وقد رواه البخاري في أول كتاب الشروط عن يحيى بن بكير عن الليث بن سعد
عن عقيل عن الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة عن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر القصة.
وهذا هو الاشبه فإن مروان ومسورا كانا صغيرين يوم الحديبية، والظاهر
أنهما أخذاه عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وقال البخاري: حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا مالك
بن مغول، سمعت أبا حصين قال: قال أبو وائل: لما قدم سهيل بن حنيف من
صفين أتيناه نستخبره فقال: اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو
أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت، والله
ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا لامر يقطعنا إلا أسهلن بنا
إلى أمر نعرفه، قبل هذا الامر ما نسد منها خصما إلا انفجر علينا خصم ما
ندري كيف نأتي له.
(*)
(4/201)
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم،
عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وكان
عمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر بن الخطاب عن شئ، فلم يجبه
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه،
فقال عمر بن الخطاب ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك.
قال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين، وخشيت أن ينزل في قرآن،
فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، قال: فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في
قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال " لقد أنزلت
علي الليلة سورة لهي أحب ألي مما طلعت عليه الشمس " ثم قرأ
(انا فتحنا لك فتحا مبينا) (1).
قلت: وقد تكلمنا على سورة الفتح بكمالها في كتابنا التفسير بما فيه
كفاية ولله الحمد والمنة، ومن أحب أن يكتب ذلك هنا فليفعل. |