البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
فصل في السرايا
(2) التي كانت في سنة ست من الهجرة
وتلخيص ذلك ما أورده الحافظ البيهقي (3) عن الواقدي: في ربيع الاول
منها أو الآخر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن في
أربعين رجلا إلى [ الغمر، وفيهم ثابت بن أقرم وسباع بن وهب، فأغذا
السير ونذر القوم بهم ] (4) فهربوا منه ونزل على مياههم، وبعث في
آثارهم وأخذ منهم مائتي بعير فاستقاها إلى المدينة.
__________
(1) أول سورة الفتح.
والحديث أخرجه البخاري في 65 كتاب التفسير، تفسير سورة الفتح (ح: 4833)
فتح الباري 8 / 582.
قال القرطبي في التفسير: اختلف في هذا الفتح ما هو ؟ وقال الرازي في
تفسيره الكبير: في الفتح وجوه: أحدها فتح مكة وهو ظاهر.
وهو مناسب لآخر ما قبلها (آخر سورة محمد: ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا
في سبيل الله).
فإن: إن كان المراد فتح مكة، فمكة لم تكن قد فتحت، فكيف قال تعالى
(فتحنا لك فتحا مبينا) بلفظ الماضي ؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما:
فتحنا في حكمنا وتقديرنا.
وثانيهما: ما قدره الله تعالى فهو كائن، فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى
أنه أمر لا دافع له، واقع لا رافع له.
وقال العوفي ومجاهد: هو فتح خيبر.
قال القرطبي: فتح الحديبية، هو الارجح.
(2) السرايا: جمع سرية وهي الكتيبة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة نفر
تبعث إلى العدو، وسميت بالسرية من الشئ السري: النفيس حيث كان يتم
اختيارهم من شجعان العسكر ومقدميهم.
قال صاحب النهاية: سموا بذلك لانهم ينفذون سرا، وخفية وليس بالوجه لان
لام السر راء وهذا ياء.
(3) دلائل النبوة: في باب السرايا التي كانت في سنة ست من الهجرة فيما
زعم الواقدي: ج 4 / 82 وما بعدها.
(4) ما بين معكوفين بياض بالاصل واستدرك من الدلائل.
وفي المواهب: إلى مرزوق.
والغمر: ماء لبني أسد على
ليلتين من فيد كما في طبقات ابن سعد.
مغازي الواقدي 2 / 550 والبيهقي 4 / 83 واختصرها عنه.
(*)
(4/202)
وفيها كان بعث
أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة بأربعين رجلا أيضا فساروا إليهم
مشاة، حتى أتوها في عماية الصبح، فهربوا منه في رؤوس الجبال فأسر منهم
رجلا فقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه محمد بن مسلمة في
عشرة نفر وكمن القوم لهم حتى باتوا [ فما شعروا إلا بالقوم، فقتل ] (1)
أصحاب محمد بن مسلمة كلهم وأفلت هو جريحا (2).
وفيها كان بعث زيد بن حارثة بالحموم فأصاب امرأة من مزينة يقال لها
حليمة فدلتهم على محلة من محال بني سليم، فأصابوا منها نعما وشاء
وأسروا [ جماعة من المشركين ] (3) وكان فيهم زوج حليمة هذه فوهبه رسول
الله صلى الله عليه وسلم لزوجها وأطلقهما.
وفيها كان بعث زيد بن حارثة أيضا في جمادى الاولى (4) إلى بني ثعلبة في
خمسة عشر رجلا فهربت منه الاعراب فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا ثم رجع
بعد أربع ليال.
وفيها خرج زيد بن حارثة في جمادى الاولى إلى العيص (5).
قال وفيها أخذت الاموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع، فاستجار
بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجارته.
وقد ذكر ابن إسحاق قصته حين أخذت العير التي كانت معه وقتل أصحابه
بينهم حتى قدم المدينة، وكانت امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد هاجرت بعد بدر فلما جاء المدينة استجار بها فأجارته بعد صلاة
الصبح فأجاره لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس برد ما
أخذوا من غيره فردوا كل شئ كانوا أخذوه منه حتى لم يفقد منه شيئا.
فلما رجع إلى مكة وأدى إلى أهلها ما كان لهم معه من الودائع أسلم وخرج
من مكة راجعا إلى المدينة فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته
بالنكاح الاول ولم يحدث نكاحا ولا عقدا كما تقدم بيان ذلك.
وكان بين إسلامه وهجرتها ست سنين ويروى سنتين.
وقد بينا أنه لا منافاة بين الروايتين وأن إسلامه تأخر عن وقت تحريم
المؤمنات على الكفار بسنتين وكان إسلامه في سنة ثمان في سنة الفتح لا
كما تقدم في
كلام الواقدي من أنه سنة ست.
فالله أعلم.
وذكر الواقدي في هذه السنة أن دحية بن خليفة الكلبي أقبل من عند قيصر
قد أجازه بأموال وخلع، فلما كان بحسمى لقيه ناس من جذام فقطعوا عليه
الطريق فلم يتركوا معه شيئا، فبعث
__________
(1) سقطت من الاصل واستدركت من الدلائل.
(2) السريتان في الواقدي 2 / 551، إنما ذكر بعثة محمد بن مسلمة، إلى
بني ثعلبة وعوال في ربيع الآخر وجاء بعث أبي عبيدة إلى ذي القصة (إلى
تغلمين: وهو موضع من بلاد بني فزارة قبل ريم) بعد بعث محمد بن مسلمة.
(3) من المواهب، وفي الاصل بياض.
(4) في مغازي الواقدي: في جمادى الآخرة.
بعثه إلى الطرف والطرف: ماء قريب من المراض دون النخيل على ستة وثلاثين
ميلا من المدينة (طبقات ابن سعد 2 / 63).
(5) العيص: بينها وبين المدينة أربع ليال، وبينها وبين ذي المروة ليلة
(ابن سعد 2 / 63).
(*)
(4/203)
إليهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة أيضا رضي الله عنه (1).
قال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة قال: خرج علي
رضي الله عنه في مائة رجل إلى أن نزل إلى حي من بني أسد (2) بن بكر،
وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعا يريدون أن
يمدوا يهود خيبر، فسار إليهم بالليل وكمن بالنهار وأصاب عينا لهم فأقر
له أنه بعث إلى خيبر يعرض عليهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر.
قال الواقدي رحمه الله تعالى وفي سنة ست في شعبان كانت سرية عبد الرحمن
بن عوف إلى دومة الجندل، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هم
أطاعوا فتزوج بنت ملكهم، فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن بنت ملكهم تماضر
بنت الاصبع (3) الكلبية وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
قال الواقدي في شوال سنة ست: كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى
العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا
النعم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم كرز بن جابر في
عشرين فارسا فردوهم (4).
وكان من أمرهم ما أخرجه البخاري ومسلم: من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن
قتادة عن أنس بن مالك أن رهطا من عكل وعرينة - وفي رواية من عكل أو
عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا
أناس أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف فاستوخمنا (5) المدينة.
فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه
فيشربوا من ألبانها وأبو الها فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة
قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود وكفروا بعد
إسلامهم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأمر بهم فقطع أيديهم
وأرجلهم وسمر (6) أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا وهم كذلك.
قال قتادة فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب بعد ذلك
حض على الصدقة ونهى عن المثلة (7).
وهذا الحديث قد رواه جماعة عن قتادة ورواه جماعة عن أنس بن مالك.
وفي رواية مسلم: عن معاوية بن قرة عن أنس أن نفرا من عرينة أتوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وبايعوه، وقد
__________
في مغازي الواقدي: كان ذلك في جمادي الآخرة.
(2) في البيهقي والواقدي: بني سعد بن بكر، بفدك.
وكانت سريته في شعبان سنة ست.
وانتهى علي رضي الله عنه إلى معسكرهم - فلم ير أحدا - فساق النعم
والشاء: خمسمائة بعير، وألفا شاة.
(3) في الواقدي: الاصبغ بن عمرو الكلبي وكان نصرانيا.
(4) مغازي الواقدي 2 / 570 والخبر فيه مطول.
ونقله عنه البيهقي في الدلائل مختصرا 4 / 85.
(5) في الواقدي: فاستوبأوا المدينة: أي وجدوها وبئة.
(6) في مغازي الواقدي: وسمل أعينهم.
(7) كان ذلك بعد نزول قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم
وأرجلهم من خلاف).
قال أبو هريرة: فلم تسمل بعد ذلك عين.
والحديث رواه البخاري في 86 كتاب الحدود (17) باب فتح الباري 12 / 111
وأخرجه مجتزءا في عدة مواضع.
(*)
(4/204)
وقع في المدينة
الموم - وهو البرسام فقالوا هذا الموم، قد وقع يا رسول الله، لو أذنت
لنا فرجعنا إلى الابل.
قال نعم فاخرجوا فكونوا فيها.
فخرجوا فقتلوا الراعيين وذهبوا بالابل.
وعنده سار
من الانصار قريب عشرين فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفا يقتص أثرهم فأتى
بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم (1).
وفي صحيح البخاري من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس أنه قال قدم رهط من
عكل فأسلموا واجتووا المدينة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذكروا ذلك له فقال الحقوا بالابل واشربوا من أبو الها وألبانها.
فذهبوا وكانوا فيها ما شاء الله، فقتلوا الراعي واستاقوا الابل، فجاء
الصريخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ترتفع الشمس حتى أتى بهم
فأمر بمسامير فأحميت فكواهم بها وقطع أيديهم وأرجلهم وألقاهم في الحرة
يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ولم يحمهم.
وفي رواية عن أنس قال فلقد رأيت أحدهم يكدم الارض بفيه من العطش.
قال أبو قلابة فهؤلاء قتلوا وسرقوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى البيهقي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن عبد الرحمن (2) بن
سليمان عن محمد بن عبيدالله عن أبي الزبير عن جابر: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لما بعث في آثارهم قال " اللهم عم عليهم الطريق،
واجعلها عليهم أضيق من مسك جمل، قال: فعمى الله عليهم السبيل فأدركوا
فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم.
وفي صحيح مسلم إنما سملهم لانهم سملوا أعين الرعاء (3).
فصل فيما وقع من الحوادث في هذه السنة
أعني سنة ست من الهجرة فيها نزل فرض الحج كما قرره الشافعي رحمه الله
زمن الحديبية في قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) [ البقرة: 196 ]
ولهذا ذهب إلى أن الحج على التراخي لا على الفور، لانه صلى الله عليه
وسلم لم يحج إلا في سنة عشر.
وخالفه الثلاثة مالك وأبو حنيفة وأحمد، فعندهم: أن الحج يجب على كل من
استطاعه على الفور، ومنعوا أن يكون الوجوب مستفادا من قوله تعالى
(وأتموا الحج والعمرة لله) وإنما في هذه الآية الامر بالاتمام بعد
الشروع فقط، واستدلوا بأدلة قد أوردنا كثيرا منها عند تفسير هذه الآية
من كتابنا التفسير ولله الحمد والمنة بما فيه كفاية.
وفي هذه السنة حرمت المسلمات على المشركين تخصيصا لعموم ما وقع به
الصلح عام الحديبية على أنه لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك إلا
رددته علينا، فنزل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات
مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهم، فان علمتموهن مؤمنات فلا
__________
(1) مسلم في 28 كتاب القسامة (2) باب (ح: 9) ص 1296.
(2) في الدلائل: عبد الرحيم.
(3) الحديث أخرجه جماعة من عدة طرق عن أنس: وأخرجه أبو داود في كتاب
الحدود (ح: 4364) والترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في بول ما يؤكل
لحمه (ح: 72) والنسائي في كتاب التحريم، وجمع طرقه كلها.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الحدود (ح: 20) والامام أحمد في مسنده (3 /
163، 177).
(*)
(4/205)
ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) الآية [ الممتحنة
10 ].
وفي هذه السنة كانت غزوة المريسيع
التي كان فيها قصة الافك ونزول براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
كما تقدم.
وفيها كانت عمرة الحديبية وما كان من صد المشركين رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكيف وقع الصلح بينهم على وضع الحرب بينهم عشر سنين، فأمن
الناس فيهن بعضهم بعضا، وعلى أنه لا إغلال ولا إسلال.
وقد تقدم كل ذلك مبسوطا في أماكنه ولله الحمد والمنة.
وولي الحج في هذه السنة المشركون.
قال الواقدي وفيها في ذي الحجة منها: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
ستة نفر مصطحبين حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الاسكندرية وشجاع
بن وهب بن أسد بن جذيمة شهد بدرا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يعني
ملك عرب النصارى، ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر وهو هرقل ملك الروم،
وعبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس، وسليط بن عمرو العامري
إلى هوذة بن علي الحنفي، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك النصارى
بالحبشة وهو أصحمة ابن الحر. |