البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
بسم الله
الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
غزوة الفتح الاعظم
وكانت في رمضان سنة ثمان وقد ذكرها الله تعالى في القرآن في غير موضع
فقال تعالى (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة
من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) الآية.
[ الحديد: 10 ] وقال تعالى (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس
يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) [
سورة النصر ].
وكان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية ما ذكره محمد بن اسحاق: حدثني
الزهري، عن عروة ابن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم،
أنهما حدثاه جميعا قالا: كان في صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل في
عقد محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فتواثبت خزاعة
وقالوا نحن ندخل في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر وقالوا نحن ندخل
في عقد قريش وعهدهم فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة أو الثمانية عشر
شهرا.
ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلا بماء يقال له الوتير وهو قريب من
مكة، وقالت قريش ما يعلم بنا محمد وهذا الليل وما يرانا من أحد،
فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح وقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأن عمرو بن سالم ركب عندما كان من أمر خزاعة وبني بكر
بالوتير حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر الخبر وقد قال
أبيات شعر، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدها إياه: يا
رب إني ناشد محمدا * حلف أبيه وأبينا الا تلدا قد كنتموا ولدا وكنا
والدا * ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا (2)
__________
(1) الحديث في الدلائل ج 4 / 412.
وقال البيهقي: قوله ولا أراه إلا قد مات يريد والله أعلم قبل بلوغ
الهدية إليه وهذا القول صدر منه قبل موته ثم لما مات نعاه في اليوم
الذي مات فيه وصلى عليه.
(2) يريد أن بني عبد مناف أمهم من خزاعة، وكذلك قصي أمه فاطمة بنت سعد
الخزاعية (*)
(4/317)
فانصر رسول
الله نصرا أبدا * وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفا وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري
مزبدا * إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا * وجعلوا لي في
كداء رصدا وزعموا أن لست أدعو أحدا * فهم أذل وأقل عددا هم بيتونا
بالوتير هجدا * وقتلونا ركعا وسجدا (1) فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " نصرت يا عمرو بن سالم " فما برح حتى مرت بنا عنانة في السماء،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني
كعب " وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وكتمهم مخرجه
وسأل الله أن يعمى على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم.
قال ابن اسحاق: وكان السبب الذي هاجهم أن رجلا من بني الحضرمي اسمه
مالك بن عباد، من حلفاء الاسود بن رزن خرج تاجرا، فلما توسط أرض خزاعة
عدوا عليه فقتلوه، وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة
فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الاسلام على بني الاسود بن رزن الدئلي، وهم
مفخر (2) بني كنانة وأشرافهم، سلمى وكلثوم وذؤيب فقتلوهم بعرفة عند
أنصاب الحرم.
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من الدئل قال: كان بنو الاسود بن رزن يودون
في الجاهلية ديتين ديتين [ ونودي دية دية، لفضلهم فينا ] (3) قال ابن
اسحاق: فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك إذ حجز بينهم الاسلام، فلما كان
يوم الحديبية ودخل بنو بكر في عقد قريش ودخلت خزاعة في عقد رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وكانت الهدنة، اغتنمها بنو الدئل من بني بكر وأرادوا أن يصيبوا من
خزاعة ثأرا من أولئك النفر، فخرج نوفل بن معاوية الدئلي في قومه وهو
يومئذ سيدهم وقائدهم، وليس كل بني بكر تابعه، فبيت خزاعة وهم على
الوتير - ماء لهم - فأصابوا رجلا منهم وتحاوزوا واقتتلوا، ورفدت قريش
بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا حتى
حاوزوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: إنا قد دخلنا
الحرم، إلهك إلهك، فقال: كلمة عظيمة لا إله اليوم يا بني بكر أصيبوا
ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم ؟ ولجأت خزاعة
إلى دار بديل بن ورقاء بمكة وإلى دار
مولى لهم يقال له رافع، وقد قال الاخرز بن لعط الدئلي في ذلك: ألا هل
أتى قصوى الاحابيش أننا * رددنا بني كعب بأفوق ناصل (4)
__________
(1) الوتير: اسم ماء بأسفل مكة لخزاعة.
(2) في ابن هشام: منخر: ويريد المتقدمين فيهم.
(3) من ابن هشام.
(4) الاحابيش: كل من حالف قريشا ودخل في عهدها من القبائل.
(*)
(4/318)
حبسناهم في
دارة العبد رافع * وعند بديل محبسا غير طائل بدار الذليل الآخذ الضيم
بعدما * شفينا النفوس منهم بالمناصل حبسناهم حتى إذا طال يومهم * نفخنا
لهم من كل شعب بوابل نذبحهم ذبح التيوس كأننا * أسود تبارى فيهم
بالقواصل هم ظلمونا واعتدوا في مسيرهم * وكانوا لدى الانصاب أول قاتل
كأنهم بالجزع إذ يطردونهم * قفا ثور حفان النعام الجوافل (1) قال
فأجابه بديل بن عبد مناة بن سلمة بن عمرو بن الاجب (2) وكان يقال له
بديل بن أم أصرم فقال: تعاقد قوم يفخرون ولم ندع * لهم سيدا يندوهم غير
نافل أمن خيفة القوم الاولى تزدريهم * تجيز الوتير خائفا غير آيل وفي
كل يوم نحن نحبو حباءنا * لعقل ولا يحبى لنا في المعاقل ونحن صبحنا
بالتلاعة (3) داركم * بأسيافنا يسبقن لوم العواذل ونحن منعنا بين بيض
وعتود * إلى خيف رضوى من مجر القبائل ويوم الغميم قد تكفت ساعيا * عبيس
فجعناه بجلد حلاحل (4) أإن أجمرت في بيتها أم بعضكم * بجعموسها تنزون
إن لم نقاتل (5)
كذبتم وبيت الله ما إن قتلتموا * ولكن تركنا أمركم في بلابل قال ابن
اسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشد في العقد ويزيد في المدة " قال
ابن إسحاق: ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أصيب منهم ومظاهرة قريش بني بكر
عليهم، ثم انصرفوا راجعين حتى لقوا أبا سفيان بعسفان، قد بعثته قريش
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشد العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا
للذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بديلا قال من أين أقبلت يا بديل ؟ وظن
أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سرت في خزاعة في هذا
الساحل، في بطن هذا الوادي.
قال: فعمد أبو سفيان إلى مبرك ناقته، فأخذ من بعرها ففته فراى فيه
النوى فقال:
__________
(1) قفاثور: ثور: جبل بمكة وقفاه وراءه.
وتروى فاثور: موضع بنجد.
(2) في الاستيعاب: الاخنس.
وقال في نسبه: هو أحد المنسوبين إلى أمهاتهم، وهو بديل بن سلمة بن خلف
بن عمرو بن الاخنس بن مقياس بن حبتر بن عدي بن سلول بن كعب الخزاعي.
(3) من ابن هشام، وفي الاصل بالبلاغة دارهم.
والتلاعة: ماء لبني كنانة بالحجاز.
(4) تكفت: حاد عن طريقه.
والجلد: القوي.
الحلاحل: السيد.
(5) الجعموس: العذرة.
أجمرت: رمت به بسرعة.
(*)
(4/319)
أحلف بالله لقد
جاء بديل محمدا، ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول
الله صلى الله عليه وسلم طوته، فقال: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا
الفراش أو رغبت به عني ؟ فقلت: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه، فقال: يا بنية والله لقد
أصابك بعدي شر، [ ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه،
فلم يرد عليه شيئا ] ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه،
فقال عمر: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فوالله لو
لم أجد لكم إلا الذر
لجاهدتكم به، ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعندها حسن غلام يدب بين يديهما، فقال: يا علي
إنك أمس القوم بي رحما وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن
كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال:
ويحك أبا سفيان ! والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر
ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد، هل لك أن
تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟
فقالت: والله ما بلغ ببني ذلك أن يجير بين الناس وما يجير أحد على
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا الحسن، إني أرى الامور قد
اشتدت علي فانصحني ؟ قال: والله ما أعلم شيئا يغني عنك، ولكنك سيد بني
كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك، فقال: أو ترى ذلك مغنيا عني
شيئا ؟ قال: لا والله ما أظن ولكن لا أجد لك غير ذلك.
فقام أبو سفيان في المسجد.
فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق، فلما أن
قدم على قريش قالوا ما وراءك ؟ قال: جئت محمدا فكلمته، فوالله ما رد
علي شيئا ثم جئت ابن أبي قحافة فوالله ما وجدت فيه خيرا، ثم جئت عمر
فوجدته أعدى عدو، ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بأمر
صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عنا شيئا أم لا ؟ قالوا: بماذا أمرك ؟
قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت، قالوا هل أجاز ذلك محمد ؟ قالا:
لا، قالوا: ويحك ما زادك الرجل على أن لعب بك فما يغني عنا ما قلت،
فقال: لا والله ما وجدت غير ذلك (1).
(فائدة) ذكرها السهيلي.
فتكلم على قول فاطمة في هذا الحديث، وما يجير أحد على رسول الله صلى
الله عليه وسلم على ما جاء في الحديث " ويجير على المسلمين أدناهم "
قال: وجه الجمع بينهما بأن المراد بالحديث من يجير واحدا ونفرا يسيرا،
وقول فاطمة فمن يجير عددا من غزو الامام إياهم فليس له ذلك.
قال كان سحنون وابن الماجشون يقولان: إن أمان المرأة موقوف على إجازة
الامام لقوله لام هانئ " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " قال ويروى هذا
عن عمرو بن العاص وخالد بن الوليد.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد وفي قوله عليه السلام " ويجير
عليهم أدناهم " ما يقتضي دخول
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام 4 / 38، ونقله عنه البيهقي في الدلائل 5 /
11 - 12 (*)
(4/320)
العبد والمرأة
والله أعلم وقد روى البيهقي من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو (1)
عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قالت: قالت خزاعة (2) اللهم إني ناشد
محمدا * حلف أبينا وأبيه الا تلدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا * وادع
عباد الله يأتوا مددا وقال موسى بن عقبة في فتح مكة: ثم إن بني نفاثة
من بني الدئل أغاروا على بني كعب، وهم في المدة التي بين رسول الله صلى
الله عليه وسلم وبين قريش، وكانت بنو كعب في صلح رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وكانت بنو نفاثة في صلح قريش، فأعانت بنو بكر بني نفاثة
وأعانتهم قريش بالسلاح والرقيق، واعتزلتهم بنو مدلج: ووفوا بالعهد الذي
كانوا عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بني الدئل رجلان
هما سيداهم، سلمى (3) بن الاسود وكلثوم بن الاسود، ويذكرون أن ممن
أعانهم صفوان بن أمية، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو، فأغارت بنو
الدئل على بني عمرو وعامتهم - زعموا نساء وصبيان وضعفاء الرجال -
فألجؤهم وقتلوهم حتى أدخلوهم إلى دار بديل بن ورقاء بمكة، فخرج ركب من
بني كعب حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له الذي أصابهم،
وما كان من أمر قريش عليهم في ذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم " ارجعوا فتفرقوا في البلدان " وخرج أبو سفيان من مكة إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وتخوف الذي كان، فقال: يا محمد اشدد العقد
وزدنا في المدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولذلك قدمت، هل
كان من حدث قبلكم ؟ " فقال: معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم
الحديبية لا نغير ولا نبدل، فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأتى أبا بكر فقال: جدد العقد وزدنا في المدة ؟ فقال أبو بكر: جواري في
جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وجدت الذر تقاتلكم
لاعنتها عليكم، ثم خرج فأتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال عمر بن الخطاب:
ما كان من حلفنا جديد فأخلقه الله، وما كان منه مثبتا فقطعه الله، وما
كان منه مقطوعا فلا وصله الله.
فقال له أبو سفيان: جزيت من ذي رحم شرا (4)، ثم دخل على عثمان فكلمه
فقال عثمان: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اتبع أشراف
قريش يكلمهم،
فكلهم يقول: عقدنا في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما يئس مما
عندهم دخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمها فقالت:
إنما أنا امرأة وإنما ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها:
فأمري أحد ابنيك، فقالت: إنهما صبيان ليس مثلهما يجير، قال: فكلمي
عليا، فقالت: أنت فكلمه، فكلم عليا، فقال له: يأبا سفيان إنه ليس أحد
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتات
__________
(1) وهو محمد بن عمرو بن وقاص الليثي.
(2) من البيهقي، وفي الاصل بنو كعب.
انظر الدلائل ج 5 / 13.
(3) في البيهقي عن موسى بن عقبة: سلم.
(4) في البيهقي عنه: سوءا (*)
(4/321)
على رسول الله
صلى الله عليه وسلم بجوار، وأنت سيد قريش وأكبرها وأمنعها فأجر بين
عشيرتك، قال: صدقت وأنا كذلك، فخرج فصاح ألا إني قد أجرت بين الناس ولا
والله ما اظن أن يخفرني أحد، ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا محمد إني قد أجرت بين الناس ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد
ولا يرد جواري ؟ فقال " أنت تقول [ ذلك ] (1) يا أبا حنظلة " فخرج أبو
سفيان على ذلك فزعموا - والله أعلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال حين أدبر أبو سفيان " اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا
بغتة ولا يسمعوا بنا إلا فجأة " وقدم أبو سفيان مكة فقالت له قريش: ما
وراءك هل جئت بكتاب من محمد أو عهد ؟ قال لا والله لقد أبى علي وقد
تتبعت أصحابه فما رأيت قوما لملك عليهم أطوع منهم له، غير أن علي بن
أبي طالب قد قال لي: التمس جوار الناس عليك ولا تجير أنت عليه وعلى
قومك وأنت سيد قريش وأكبرها وأحقها أن لا تخفر جواره فقمت بالجوار ثم
دخلت على محمد فذكرت له أني قد أجرت بين الناس، وقلت: ما أظن أن تخفرني
؟ فقال: أنت تقول ذلك يأبا حنظلة، فقالوا - مجيبين له - رضيت بغير رضى،
وجئتنا بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا وإنما لعب بك علي لعمر الله ما
جوارك بجائز وإن إخفارك عليهم لهين، ثم دخل على امرأته فحدثها الحديث
فقالت: قبحك الله من وافد قوم فما جئت بخير، قال ورأى رسول الله (صلى
الله عليه وسلم)
سحابا فقال " إن هذه السحاب لتبض (2) بنصر بني كعب " فمكث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يمكث بعد ما خرج [ من عنده ] أبو
سفيان، ثم أخذ في الجهاز وأمر عائشة أن تجهزه وتخفي ذلك، ثم خرج رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد أو إلى بعض حاجاته، فدخل أبو بكر
على عائشة فوجد عندها حنطة تنسف وتنقى، فقال لها: يا بنية لم تصنعين
هذا الطعام ؟ فسكتت فقال: أيريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزو
؟ فصمتت.
فقال: يريد بني الاصفر - وهم الروم - ؟ [ فذكر من ذلك أمرا فيه منهم
بعض المكروه في ذلك الزمان ] فصمتت قال: فلعله يريد أهل نجد [ فذكر
منهم نحوا من ذلك ] ؟ فصمتت.
قال: فلعله يريد قريشا ؟ فصمتت قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال له: يا رسول الله أتريد أن تخرج مخرجا ؟ قال: نعم، قال: فلعلك
تريد بني الاصفر ؟ قال: لا، قال: أتريد أهل نجد ؟ قال: لا، قال فلعلك
تريد قريشا ؟ قال: نعم، قال أبو بكر يا رسول الله أليس بينك وبينهم مدة
؟ قال " ألم يبلغك ما صنعوا ببني كعب " ! قال: وأذن رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) في الناس بالغزو، وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش
وأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على الكتاب وذكر القصة كما سيأتي
(3).
وقال محمد بن اسحاق: حدثني محمد بن جعفر
__________
(1) من البيهقي.
(2) في رواية البيهقي: لينصب.
(3) رواية موسى بن عقبة رواها ابن عبد البر مختصرة في الدرر (211 -
212) ونقلها البيهقي بتمامها في الدلائل (ج 5 / 9 - 12) وصححت الرواية
من الدلائل وما بين معكوفين فيها زيادات استدركت من الدلائل عن موسى بن
عقبة (*)
(4/322)
عن عروة عن
عائشة: أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تغربل حنطة فقال ما هذا ؟ أمركم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز ؟ قالت: نعم فتجهز قال: وإلى أين
؟ قالت: ما سمى لنا شيئا غير أنه قد أمرنا بالجهاز.
قال ابن اسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه
سائر إلى مكة وأمر بالجد والتهيؤ وقال " اللهم خذ العيون والاخبار عن
قريش حتى نبغتها في بلادها " فتجهز الناس
فقال حسان يحرض الناس ويذكر مصاب خزاعة: عناني ولم أشهد ببطحاء مكة *
رجال بني كعب تحز رقابها (1) بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم * وقتلى كثير
لم تجن ثيابها ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي * سهيل بن عمرو حرها
وعقابها وصفوان عودا حز من شفر استه (2) * فهذا أوان الحرب شد عصابها
فلا تأمننا يا بن أم مجالد * إذا احتلبت صرفا وأعصل نابها (3) ولا
تجزعوا منها فإن سيوفنا * لها وقعة بالموت يفتح بابها قصة حاطب بن أبي
بلتعة (4) قال محمد بن اسحاق: حدثني محمد بن جعفر، عن عروة بن الزبير،
وغيره من علمائنا قالوا: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير
إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الامر في السير إليهم، ثم أعطاه
امرأة، زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره أنها سارة، مولاة
لبعض بني عبد المطلب، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته في
رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله
__________
(1) صدره في الديوان: غبنا فلم نشهد ببطحاء مكة..رعاة الخ.
(2) في ابن هشام: وصفوان عودحن.
(3) عجزه في الديوان: إذا لقحت حرب وأعصل نابها.
وابن أم مجالد هو عكرمة بن أبي جهل.
(4) الحليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، ومنها ميقات
أهل المدينة.
وفي ابن هشام: خليقة ورواه أبو ذر " الخليقة " وتروى خليفة بالفاء.
قال أبو ذر: اسم موضع.
قال ياقوت: خليقة: منزل على اثني عشر ميلا من المدينة بينها وبين ديار
بني سليم.
(5) حاطب بن أبي بلتعة من ولد لخم بن عدي يكنى أبا عبد الله وقيل يكنى
أبا محمد واسم أبي بلتعة عمرو بن راشد بن معاذ اللخمي حليف قريش قاله
ابن عبد البر في الاستيعاب وقيل انه من مذحج وقيل هو حليف للزبير بن
العوام ويقال كان عبدا لعبيدالله بن حميد بن زهير بن الحرث بن أسد بن
عبد العزى بن قصي فكاتبه وأدى كتابته يوم
الفتح.
بعثه رسول الله صلى الله سنة ست بكتاب إلى المقوقس صاحب الاسكندرية.
شهد بدرا والحديبية ومات سنة ثلاثين بالمدينة وهو ابن خمس وستين سنة
وصلى عليه عثمان بن عفان.
(انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 3 / 114 - المستدرك - 3 / 300 الاصابة 1
/ 300 شذرات الذهب 1 / 37 مجمع الزوائد 9 / 303) (*)
(4/323)
صلى الله عليه
وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن
العوام فقال " أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى
قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم " فخرجا حتى أدركاها بالحليفة
(6) حليفة بني أبي أحمد، فاستنزلاها فالتمساه في رحلها، فلم يجدا فيه
شيئا، فقال لها علي: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولا كذبنا ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه،
قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته
إليه، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله
عليه وسلم حاطبا فقال " يا حاطب ما حملك على هذا ؟ " فقال: يا رسول
الله أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكنني كنت
امرءا ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل،
فصانعتهم عليهم.
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلاضرب عنقه فإن الرجل قد نافق
؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما يدريك يا عمر لعل الله قد
اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم "
وأنزل الله في حاطب (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء
تلقون إليهم بالمودة) (أول سورة الممتحنة) إلى آخر القصة.
هكذا أورد ابن اسحاق هذه القصة مرسلة.
وقد ذكر السهيلي أنه كان في كتاب حاطب: أن رسول الله قد توجه إليكم
بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله
عليكم فإنه منجز له ما وعده.
قال وفي تفسير ابن سلام أن حاطبا كتب، إن محمدا قد نفر فإما إليكم وإما
إلى غيركم فعليكم الحذر (1).
وقد قال البخاري: ثنا قتيبة، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار أخبرني الحسن
بن محمد أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع سمعت عليا يقول: بعثني
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد (2) فقال " انطلقوا
حتى تأتوا روضة خاخ (3) فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها " فانطلقنا
تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، فقلنا أخرجي
الكتاب، فقالت ما معي، فقلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب.
قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا
فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا حاطب ما هذا ؟ " فقال: يا رسول
الله لا تعجل علي إني كنت امرءا ملصقا (4) في قريش - يقول كنت حليفا -
ولم أكن من أنفسها وكان من
__________
(1) جاء في مغازي الواقدي: كتب حاطب إلى ثلاثة نفر: صفوان بن أمية،
وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل: " إن رسول الله قد أذن في الناس
بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد بكتابي
إليكم ".
ودفع الكتاب إلى امرأة من مزينة من أهل العرج يقال لها كنود.
(2) اختلفت الروايات فيمن أرسل النبي صلى الله عليه وسلم ليلحق بالمرأة
ليأتي بكتاب ابن أبي بلتعة: ففي رواية: علي والزبير والمقداد، وفي
رواية أبي عبد الرحمن السلمي، علي وأبا مرثد الغنوي والزبير.
وفي رواية الواقدي: علي والزبير ووافقه الطبري في تاريخه.
وفي ابن سعد: علي والمقداد.
(3) روضة خاخ: على بريد من المدينة.
(4) الملصق: الرجل المقيم في الحي والحليف لهم، وقال السهيلي: كنت
عريرا، والعرير: الغريب.
(*)
(4/324)
معك من
المهاجرين من لهم قرابات [ بمكة ] يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت
إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون [ بها ] قرابتي،
ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الاسلام، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " أما إنه قد صدقكم " فقال عمر: يا رسول الله دعني
أضرب عنق هذا المنافق ؟ فقال " إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله قد
اطلع على من شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " (1) فأنزل
الله سورة (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) إلى قوله
(فقد ضل سواء السبيل) وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من حديث سفيان
بن عيينة.
وقال الترمذي حسن صحيح.
وقال الامام أحمد ثنا حجين ويونس
قالا: حدثنا ليث بن سعد، عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله: أن حاطب
بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أراد غزوهم، فدل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المرأة التي معها
الكتاب فأرسل إليها، فأخذ كتابها من رأسها وقال " يا حاطب أفعلت ؟ "
قال نعم، قال أما إني لم أفعله غشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
نفاقا.
قد علمت أن الله مظهر رسوله ومتم له أمره غير أني كنت غريبا بين
ظهرانيهم وكانت والدتي معهم فأردت أن أتخذ يدا عندهم، فقال له عمر: ألا
أضرب رأس هذا ؟ فقال " أتقتل رجلا من أهل بدر وما يدريك لعل الله قد
اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم " (2).
تفرد بهذا الحديث من هذا الوجه الامام أحمد وإسناده على شرط مسلم ولله
الحمد.
فصل
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيدالله بن
عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم لسفره، واستخلف على المدينة أبا رهم، كلثوم بن حصين بن عتبة بن
خلف الغفاري (3)، وخرج لعشر مضين من شهر رمضان فصام وصام الناس معه،
حتى إذا كان بالكديد (4) بين عسفان وأمج أفطر، ثم مضى حتى نزل من
الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، وقال عروة بن الزبير: كان معه اثنا
عشر ألفا.
وكذا قال الزهري وموسى بن عقبة، فسبعت سليم، وبعضهم يقول ألفت سليم،
وألفت مزينة.
وفي كل القبائل عدد وإسلام، وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
المهاجرون والانصار، فلم يتخلف عنه منهم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد - باب الجاسوس (ح: 3007) وفي تفسير
سورة الممتحنة (ح: 4890) وفي كتاب المغازي (46) باب.
وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة 36 باب (ح: 161).
وأبو داود في الجهاد، والترمذي في تفسير سورة الممتحنة، وأبو يعلى
والحاكم وعبد بن حميد والواقدي وابن مردويه.
(2) مسند الامام أحمد ج 1 / 79.
(3) في ابن سعد: عبد الله بن أم مكتوم.
(4) الكديد: موضع بين مكة والمدينة بين منزلتي أمج وعسفان، وهو اسم
ماء، وهو أقرب إلى مكة من عسفان.
(4/325)
أحد (1).
وروى البخاري: عن محمود، عن عبد الرزاق، عن معمر عن الزهري نحوه.
وقد روى البيهقي: من حديث عاصم بن علي، عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن
الزهري: أخبرني عبيدالله بن عبد الله، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان.
قال: وسمعت سعيد بن المسيب يقول مثل ذلك، لا أدري أخرج في ليال من
شعبان، فاستقبل رمضان، أو خرج في رمضان بعدما دخل ؟ غير أن عبيد الله
بن عبد الله أخبرني أن ابن عباس قال: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى بلغ الكديد - الماء الذي بين قديد وعسفان - أفطر، فلم يزل يفطر حتى
انصرم الشهر (2).
ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن الليث غير أنه لم يذكر الترديد
بين شعبان ورمضان.
وقال البخاري: ثنا علي بن عبد الله، ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن
طاووس عن ابن عباس قال: سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان،
فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بإناء فشرب نهارا ليراه الناس، فأفطر حتى
قدم مكة.
قال وكان ابن عباس يقول: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر
وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر.
وقال يونس عن ابن إسحاق عن الزهري عن عبيدالله بن عبد الله عن ابن عباس
قال: مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفرة الفتح واستعمل على
المدينة أبا رهم كلثوم بن الحصين الغفاري وخرج لعشر مضين من رمضان،
فصام، وصام الناس معه حتى أتى الكديد بين عسفان وأمج فأفطر، ودخل مكة
مفطرا فكان الناس يرون آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم
الفطر، وأنه نسخ ما كان قبله.
قال البيهقي: فقوله خرج لعشر من رمضان مدرج في الحديث، وكذلك ذكره عبد
الله بن ادريس عن ابن اسحاق، ثم روى: من طريق يعقوب بن سفيان، عن جابر
(3) عن يحيى عن صدقة عن ابن إسحاق أنه قال: خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم لعشر مضين من رمضان سنة ثمان.
ثم روى البيهقي: من حديث أبي إسحاق الفزاري، عن محمد بن أبي حفصة، عن
الزهري، عن عبيدالله بن عبد الله عن ابن عباس قال: كان الفتح لثلاث عشر
خلت من شهر رمضان.
قال البيهقي: وهذا الادراج وهم إنما هو من كلام الزهري، ثم روى: من
طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري قال: غزا
رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح - فتح مكة - فخرج من المدينة
في رمضان، ومعه من المسلمين عشرة آلاف، وذلك على رأس ثماني سنين ونصف
سنة من مقدمه المدينة.
وافتتح مكة لثلاث عشرة بقين من رمضان.
وروى البيهقي من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن
عبد الله، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان
ومعه عشرة ألاف من
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 4 / 42، وأخرجه البخاري في كتاب المغازي (47) باب
الحديث 4276 ونقله البيهقي في الدلائل ج 5 / 21.
(2) دلائل النبوة ج 5 / 21 والبخاري في كتاب المغازي (47) باب (الحديث
4275).
(3) في البيهقي: عن حامد بن يحيى.
(*)
(4/326)
المسلمين، فصام
حتى بلغ الكديد ثم أفطر.
فقال (1) الزهري: وإنما يؤخذ بالاحدث فالاحدث.
قال الزهري: فصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة ليلة
خلت من رمضان، ثم عزاه إلى الصحيحين (2) من طريق عبد الرزاق والله
أعلم.
وروى البيهقي: من طريق سعيد بن عبد العزيز التنوخي، عن عطية بن قيس [
عن قزعة بن يحيى ] (3) عن أبي سعيد الخدري قال: آذننا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالرحيل عام الفتح لليلتين خلتا من رمضان، فخرجنا صواما
حتى بلغنا الكديد، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطر، فأصبح
الناس مرحى (4) منهم الصائم ومنهم المفطر، حتى إذا بلغنا المنزل الذي
نلقى العدو [ فيه ] (5) أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعين (6).
وقد رواه الامام أحمد: عن أبي المغيرة عن سعيد بن عبد العزيز، حدثني
عطية بن قيس، عمن حدثه عن أبي سعيد الخدري قال: آذننا رسول الله
بالرحيل عام الفتح لليلتين خلتا من رمضان فخرجنا صواما حتى بلغنا
الكديد فأمرنا رسول الله بالفطر فأصبح الناس منهم الصائم ومنهم المفطر
حتى إذا بلغ أدنى منزل يلقى العدو أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعون.
قلت: فعلى ما ذكره الزهري من أن الفتح كان يوم الثالث عشر من رمضان،
وما ذكره أبو سعيد من أنهم خرجوا من المدينة في ثاني شهر رمضان يقتضي
أن مسيرهم كان بين مكة والمدينة في
إحدى عشرة ليلة.
ولكن روى البيهقي: عن أبي الحسين بن الفضل، عن عبد الله بن جعفر، عن
يعقوب بن سفيان، عن الحسن بن الربيع، عن ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق،
عن الزهري ومحمد بن علي بن الحسين، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعمرو بن
شعيب، وعبد الله بن أبي بكر وغيرهم قالوا: كان فتح مكة في عشر بقيت من
شهر رمضان سنة ثمان (7).
قال أبو داود الطيالسي (8): ثنا وهيب، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن
جابر عن عبد الله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح
صائما حتى أتى كراع الغميم والناس معه مشاة وركبانا وذلك في شهر رمضان
(1) في البيهقي: قال الازهري: وكان الفطر آخر الامرين، وإنما يؤخذ من
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآخر فالآخر.
وهو أيضا كذلك في البخاري.
(2) في البخاري في كتاب المغازي (47) باب الحديث (4276) ومسلم في (13)
كتاب الصيام، (15) باب (ح: 88) وجاء في نسخ البداية المطبوعة: في
الصحيحين وهو تحريف.
(3) سقطت من الاصل، واستدركت من دلائل البيهقي: (4) وفي البيهقي:
شرجين، وفي سيرة ابن كثير: مرضى.
(5) من دلائل البيهقي.
(6) الخبر في دلائل النبوة للبيهقي ج 5 / 24 وأخرجه الترمذي في صحيحه
24 كتاب الجهاد (13) باب وقال: حديث حسن صحيح.
(7) دلائل البيهقي 5 / 24.
(8) في رواية البيهقي عن أبي داود: قال: حدثنا وهيب، عن جعفر بن محرز
عن أبيه عن جابر بن عبد الله.
(*)
(4/327)
فقيل يا رسول الله إن الناس قد اشتد عليهم الصوم وإنما ينظرون كيف فعلت
؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء فرفعه فشرب والناس
ينظرون، فصام بعض الناس، وأفطر البعض حتى أخبر النبي صلى الله عليه
وسلم أن بعضهم صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أولئك العصاة
" (1) وقد رواه مسلم من حديث الثقفي والدراوردي عن جعفر بن محمد.
وروى الامام أحمد: من حديث محمد بن
اسحاق حدثني بشير بن يسار عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم عام الفتح في رمضان.
فصام وصام المسلمون معه، حتى إذا كان بالكديد دعا بماء في قعب وهو على
راحلته فشرب والناس ينظرون يعلمهم أنه قد أفطر، فأفطر المسلمون، تفرد
به أحمد. |