البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

بسم الله الرحمن الرحيم
غزوة الطائف
قال عروة وموسى بن عقبة عن الزهري: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وحاصر الطائف في شوال سنة ثمان: وقال محمد بن إسحاق: ولما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبو اب مدينتها وصنعوا الصنائع للقتال ولم يشهد حنينا ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة كانا بجرش (1) يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور (2): قال ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حين فرغ من حنين فقال كعب بن مالك في ذلك: قضينا من تهامة كل ريب * وخيبر ثم أجمعنا السيوفا نخبرها ولو نطقت لقالت * قواطعهن: دوسا أو ثقيفا فلست لحاضن إن لم تروها * بساحة داركم منا ألوفا وننتزع العروش ببطن وج * وتصبح دوركم منكم خلوفا ويأتيكم لنا سرعان خيل * يغادر خلفه جمعا كثيفا إذا نزلوا بساحتكم سمعتم * لها مما أناخ بها رجيفا بأيديهم قواضب مرهفات * يزرن المصطلين بها الحتوقا كأمثال العقائق أخلصتها * قيون الهند لم تضرب كتيفا (3) تخال جدية الابطال فيها * غداة الزحف جاديا مدوفا (4) أجدهم أليس لهم نصيح * من الاقوام كان بنا عريفا يخبرهم بأنا قد جمعنا * عتاق الخيل والنجب الطروفا (5) وأنا قد أتيناهم بزحف * يحيط بسور حصنهم صفوفا رئيسهم النبي وكان صلبا * نقي القلب مصطبرا عزوفا
__________
(1) جرش: من مخاليف اليمن من جهة مكة.
(2) الضبور: جلود يغشى بها خشب يتقى بها في الحرب عند الانسحاب (قاله الخليل) وفي اللسان: الضبر: جلد يغشى خشبا فيها رجال تقرب إلى الحصون لقتال أهلها.
وقال: هي الدبابات التي تقرب للحصون، لتنقب من تحتها.
(3) كتيف: جمع كتيفة وهي الصفيحة الصغيرة.
(4) المدوف: المبلول، المخلوط بغيره.
والجادي: الزعفران.
(5) الطروف: الكرام من الخيل.
(*)

(4/395)


رشيد الامر ذا حكم وعلم * وحلم لم يكن نزقا خفيفا نطيع نبينا ونطيع ربا * هو الرحمن كان بنا رؤفا فإن تلقوا إلينا السلم نقبل * ونجعلكم لنا عضدا وريفا وإن تابوا نجاهدكم ونصبر * ولا يك أمرنا رعشا ضعيفا نجالد ما بقينا أو تنيبوا * إلى الاسلام إذعانا مضيفا نجاهد لا نبالي ما لقينا * أأهلكنا التلاد أم الطريفا (1) وكم من معشر ألبوا علينا * صميم الجذم منهم والحليفا أتونا لا يرون لهم كفاء * فجدعنا المسامع والانوفا بكل مهند لين صقيل * نسوقهم بها سوقا عنيفا لامر الله والاسلام حتى * يقوم الدين معتدلا حنيفا وتنسى اللات والعزى وود * ونسليها القلائد والشنوفا فأمسوا قد أقروا واطمأنوا * ومن لا يمتنع يقبل خسوفا وقال ابن اسحاق: فأجابه كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي: قلت: وقد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في وفد ثقيف فأسلم معهم.
قاله موسى بن عقبة وأبو إسحاق وأبو عمر بن عبد البر وابن الاثير وغير واحد، وزعم المدايني أنه لم يسلم بل صار إلى بلاد الروم فتنصر ومات بها: من كان يبغينا يريد قتالنا * فإنا بدار معلم لا نريمها وجدنا بها الآباء من قبل ما ترى * وكانت لنا أطواؤها وكرومها
وقد جربتنا قبل عمرو بن عامر * فأخبرها ذو رأيها وحليمها وقد علمت - إن قالت الحق - أننا * إذا ما أتت صعر الخدود نقيمها نقومها حتى يلين شريسها (2) * ويعرف للحق المبين ظلومها علينا دلاص من تراث محرق * كلون السماء زينتها نجومها (3) نرفعها عنا ببيض صوارم * إذا جردت في غمرة لا نشيمها (4) قال ابن إسحاق: وقال شداد بن عارض الجشمي في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:
__________
(1) التلاد: القديم، والطريف: الجديد.
(2) الشريس: الشديد.
(3) دلاص: الدروع اللينة.
محرق: يريد عمرو بن عامر وهو أول من حرق العرب بالنار (قاله السهيلي).
(4) لا نشيمها: لا نقيمها (*)

(4/396)


لا تنصروا اللات إن الله مهلكها * وكيف ينصر من هو ليس ينتصر إن التي حرقت بالسد فاشتعلت * ولم تقاتل لدى أحجارها هدر إن الرسول متى ينزل بلادكم * يظعن وليس بها من أهلها بشر قال ابن إسحاق: فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني من حنين إلى الطائف - على نخلة اليمانية (1) ثم على قرن (2) ثم على المليح (3) ثم على بحرة الرغاء (4) من ليلة فابتنى بها مسجدا فصلى فيه.
قال ابن إسحاق: فحدثني عمرو بن شعيب أنه عليه السلام أقاد يومئذ ببحرة الرغاء، حين نزلها، بدم، وهو أول دم أقيد به في الاسلام، رجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل فقتله به وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بلية بحصن مالك بن عوف فهدم.
قال ابن إسحاق: ثم سلك في طريق يقال لها الضيقة فلما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن اسمها فقال: ما اسم هذه الطريق ؟ فقيل الضيقة فقال بل هي اليسرى، ثم خرج منها على نخب (5) حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة قريبا من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تخرج إلينا وإما أن
نخرب عليك حائطك، فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باخرابه.
وقال إبن إسحاق: عن اسماعيل بن أمية عن بجير بن أبي بجير سمعت عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله " هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه " قال فابتدره الناس فاستخرجوا معه الغصن.
ورواه أبو داود عن يحيى بن معين عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عن محمد بن إسحاق به.
ورواه البيهقي: من حديث يزيد بن زريع عن روح بن القاسم عن إسماعيل بن أمية به.
قال ابن اسحاق: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قريبا من الطائف، فضرب به عسكره فقتل ناس من أصحابه بالنبل، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف فتأخروا إلى موضع مسجده عليه السلام اليوم بالطائف الذي بنته ثقيف بعد إسلامها، بناه عمرو بن أمية بن وهب وكانت فيه سارية لا تطلع عليها الشمس صبيحة كل يوم إلا سمع لها نقيض فيما يذكرون، قال فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، قال ابن هشام ويقال سبع عشرة ليلة،
__________
(1) نخلة اليمانية: واد يصب فيه يدعان وبه مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبه عسكرت هوازن يوم حنين (معجم البلدان).
(2) قرن: قرية بينها وبين مكة أحد وخمسون ميلا.
(معجم البلدان).
(3) المليح: واد بالطائف (معجم البلدان).
(4) بحرة الرغاء: موضع في لية من ديار بني نصر (معجم ما استعجم).
(5) نخب: واد بالطائف.
(*)

(4/397)


وقال عروة وموسى بن عقبة عن الزهري: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وترك السبى بالجعرانة وملئت عرش مكة منهم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاكمة عند حصن الطائف بضع عشرة ليلة يقاتلهم ويقاتلونه من وراء حصنهم ولم يخرج إليه أحد منهم غير أبي بكرة بن مسروح
أخي زياد لامه، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثرت الجراح، وقطعوا طائفة من أعنابهم ليغيظوهم بها، فقالت لهم ثقيف: لا تفسدوا الاموال فإنها لنا أو لكم.
وقال عروة: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل رجل من المسلمين أن يقطع خمس نخلات وخمس حبلات (1) وبعث مناديا ينادي من خرج إلينا فهو حر، فاقتحم إليه نفر فيهم أبو بكرة بن مسروح أخو زياد بن أبي سفيان لامه، فأعتقهم ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يعوله ويحمله (2).
وقال الامام أحمد: ثنا يزيد، ثنا حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتق من جاءه من العبيد قبل مواليهم إذا أسلموا، وقد أعتق يوم الطائف رجلين.
وقال أحمد: ثنا عبد القدوس ابن بكر بن خنيس، ثنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم عن ابن عباس قال: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فخرج إليه عبد ان فأعتقهما أحدهما أبو بكرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا خرجوا إليه.
وقال أحمد أيضا: ثنا نصر بن رئاب، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف " من خرج إلينا من العبيد فهو حر " فخرج عبيد من العبيد فيهم أبو بكرة فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث تفرد به أحمد ومداره على الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، لكن ذهب الامام أحمد إلى هذا فعنده أن كل عبد جاء من دار الحرب إلى دار الاسلام عتق حكما شرعيا مطلقا عاما، وقال آخرون إنما كان هذا شرطا لا حكما عاما ولو صح الحديث لكان التشريع العام أظهر كما في قوله عليه السلام " من قتل قتيلا فله سلبه " وقد قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن المكرم (3) الثقفي قال: لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف خرج إليه رقيق من رقيقهم أبو بكرة عبد اللحارث ابن كلدة والمنبعث وكان اسمه المضطجع فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبعث، ويحنس ووردان في رهط من رقيقهم فأسلموا.
فلما قدم وفد أهل الطائف فأسلموا قالوا يا رسول الله رد علينا رقيقنا الذين أتوك ؟ قال: " لا أولئك عتقاء الله " ورد على ذلك الرجل ولاء عبده فجعله له (4).
وقال البخاري: ثنا محمد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن عاصم: سمعت أبا عثمان قال سمعت سعدا - وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله وأبا بكرة وكان تسور حصن الطائف في أناس فجاء
__________
(1) في رواية البيهقي عنه: خمس نخلات أو حبلات من كرومهم.
(2) رواية موسى بن عقبة ذكرها ابن عبد البر في الدرر مختصرة ص (228)، ورواها البيهقي في الدلائل ج 5 / 157 - 158.
(3) من ابن هشام.
وفي الاصل المكرم وهو تحريف.
(4) رواه البيهقي عن ابن اسحاق في الدلائل ج 5 / 159 (*).

(4/398)


إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه فالجنة عليه حرام " ورواه مسلم من حديث عاصم به.
قال البخاري: وقال هشام أنبأ معمر، عن عاصم، عن أبي العالية أو أبي عثمان النهدي قال: سمعت سعدا وأبا بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عاصم: قلت لقد شهد عندك رجلان حسبك بهما، قال أجل أما أحدهما فأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأما الآخر فنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف.
قال محمد ابن اسحاق: وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتان من نسائه إحداهما أم سلمة (1) فضرب لهما قبتين فكان يصلي بينهما، فحاصرهم وقاتلهم قتالا شديدا وتراموا بالنبل.
قال ابن هشام: ورماهم بالمنجنيق.
فحدثني من أثق به أن النبي صلى الله عليه وسلم أول من رمى في الاسلام بالمنجنيق رمى به أهل الطائف.
وذكر ابن إسحق أن نفرا من الصحابة دخلوا تحت دبابة ثم زحفوا ليحرقوا جدار أهل الطائف فأرسلت عليهم سكك الحديد محماة، فخرجوا من تحتها فرمتهم ثقيف بالنبل، فقتلوا منهم رجالا، فحينئذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف فوقع الناس فيها يقطعون، قال: وتقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة مناديا ثقيفا بالامان حتى يكلموهم فأمنوهم فدعوا نساء من قريش وبني كنانة ليخرجن إليهم وهما يخافان عليهن السباء إذا فتح الحصن، فأبين، فقال لهما أبو الأسود بن مسعود: ألا أدلكما على خير مما جئتما له ؟ إن مال أبي الاسود حيث قد علمتما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلا بواد يقال له العقيق وهو بين مال بني الاسود وبين الطائف وليس بالطائف مال أبعد رشاء، ولا أشد مؤونة ولا أبعد عمارة منه، وأن
محمدا إن قطعه لم يعمر أبدا فكلماه فليأخذه لنفسه أو ليدعه لله وللرحم.
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركه لهم.
وقد روى الواقدي عن شيوخه نحو هذا وعنده أن سلمان الفارسي هو الذي أشار بالمنجنيق وعمله بيده وقيل قدم به وبدبابتين فالله أعلم.
وقد أورد البيهقي: من طريق ابن لهيعة، عن أبي الاسود عن عروة: أن عيينة بن حصن استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يأتي أهل الطائف فيدعوهم إلى الاسلام فأذن له، فجاءهم فأمرهم بالثبات في حصنهم وقال لا يهولنكم قطع ما قطع من الاشجار في كلام طويل، فلما رجع قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما قلت لهم " قال دعوتهم إلى الاسلام وأنذرتهم النار وذكرتهم بالجنة، فقال " كذبت بل قلت لهم كذا وكذا " فقال: صدقت يا رسول الله أتوب إلى الله وإليك من ذلك (2).
وقد روى البيهقي: عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن
__________
(1) ذكرهما الواقدي: أم سلمة وزينب.
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 163 في باب استئذان عيينة بن حصن بن بدر في مجيئه ثقيفا، ورواه أبو نعيم في الدلائل ص (465) ونقله عنهما الصالحي في السيرة الشامية (5 / 562) (*)

(4/399)


سالم بن أبي الجعد، عن سعدان (1) بن أبي طلحة، عن ابن أبي نجيح السلمي وهو عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: حاصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الطائف فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من بلغ بسهم فله درجة في الجنة " فبلغت يومئذ ستة عشر سهما، وسمعته يقول " من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة وأيما رجل أعتق رجلا مسلما فإن الله جعل كل عظم من عظامه وقاء كل عظم بعظم، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل كل عظم من عظامها وقاء كل عظم من عظامها من النار " (2).
ورواه أبو داود والترمذي وصححه النسائي من حديث قتادة به.
وقال البخاري ثنا الحميدي، سمع سفيان، ثنا هشام عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث فسمعه يقول لعبد الله بن أبي أمية: أرأيت إن فتح الله
عليكم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يدخلن هؤلاء عليكن " (3) قال ابن عيينة وقال ابن جريج: المخنث هيت.
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه به وفي لفظ وكانوا يرونه من غير أولى الاربة من الرجال، وفي لفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أرى هذا يعلم ما ها هنا لا يدخلن عليكن هؤلاء " يعني إذا كان ممن يفهم ذلك فهو داخل في قوله تعالى [ أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) والمراد بالمخنث في عرف السلف الذي لا همة له إلى النساء وليس المراد به الذي يؤتى إذ لو كان كذلك لوجب قتله حتما كما دل عليه الحديث وكما قتله أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومعنى قوله تقبل بأربع وتدبر بثمان يعني بذلك عكن بطنها فإنها تكون أربعا إذا أقبلت ثم تصير كل واحدة ثنتين إذا أدبرت، وهذه المرأة هي بادية بنت غيلان بن سلمة من سادات ثقيف، وهذا المخنث قد ذكر البخاري عن ابن جريج أن اسمه هيت وهذا هو المشهور.
لكن قال يونس عن ابن اسحاق قال: وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مولى لخالته بنت عمرو بن عايد مخنث يقال له مانع يدخل على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، ولا نرى أنه يفطن لشئ من أمور النساء مما يغطن إليه رجال، ولا يرى أن له في ذلك إربا فسمعه وهو يقول لخالد بن الوليد: يا خالد إن افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فلا تنفلتن منكم بادية بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع هذا منه " ألا أرى هذا يفطن لهذا " الحديث ثم قال لنسائه " لا يدخلن
__________
(1) من دلائل البيهقي، وفي الاصول معدان.
(2) دلائل البيهقي ج 5 / 159.
(3) أخرجه البخاري في المغازي (56) باب الحديث (4324) فتح الباري 8 / 43، وأخرجه في كتاب النكاح، وفي اللباس.
وأخرجه مسلم في كتاب السلام (13) باب الحديث (32).
وأخرجه ابن ماجة في النكاح وفي الحدود، وأبو داود في الادب كلاهما عن أبي بكر بن أبي شيبة (*)

(4/400)


عليكم " فحجب عن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) وقال البخاري ثنا علي بن عبد الله ثنا سفيان، عن
عمرو، عن أبي العباس الشاعر الاعمى عن عبد الله بن عمرو قال: لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وآله الطائف فلم ينل منهم شيئا قال " إنا قافلون غدا إن شاء الله " فنقل عليهم وقالوا نذهب ولا نفتح ؟ فقال " اغدوا على القتال " فغدوا فأصابهم جراح فقال " إنا قافلون غدا إن شاء الله " فأعجبهم فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال سفيان مرة فتبسم (2).
ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به وعنده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب واختلف في نسخ البخاري ففي نسخة كذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
والله أعلم.
وقال الواقدي: حدثني كثير بن زيد عن (3) الوليد بن رباح، عن أبي هريرة قال: لما مضت خمس عشرة من حصار الطائف استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الدئلي فقال " يا نوفل ما ترى في المقام عليهم ؟ " (4) قال: يا رسول الله ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.
قال ابن إسحاق: وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابي بكر وهو محاصر ثقيفا " يا أبا بكر إني رأيت أني أهديت لي قعبة مملوءة زبدا فنقرها ديك فهراق ما فيها " فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنا لا أرى ذلك " قال: ثم إن خولة (5) بنت حكيم السلمية وهي امرأة عثمان بن مظعون قالت: يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك حلى بادية بنت غيلان بن سلمة أو حلى الفارعة بنت عقيل - وكانت من أحلى نساء ثقيف - فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها " وإن كان لم يؤذن في ثقيف يا خويلة " فخرجت خولة فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خولة زعمت أنك قلته ؟ قال: " قد قلته " قال أو ما أذن
__________
(1) روى الخبر البيهقي عنه في الدلائل ج 5 / 160.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي 56 باب الحديث 4325 فتح الباري 7 / 44.
وفي كتاب الادب (68) باب.
وفي 97 كتاب التوحيد (31) باب.
وفي جميع الروايات عن عبد الله بن عمر.
وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد (29) باب الحديث (82) عن عبد الله بن عمرو.
قال ابن حجر: وقع في رواية الكشميهني والنسفي والاصيلي (عبد الله بن عمرو) والصواب عبد الله بن عمر بن الخطاب.
ورواه الامام أحمد عن سفيان بن عيينة وجاء في بداية روايته: قيل لسفيان - وهو يحدث - ابن عمرو ؟ قال: لا، ابن عمر..وتابع حديثه.
وقول سفيان صراحة انه عبد الله بن عمر يقطع كل شك في انه ابن عمر بن الخطاب وليس ابن عمرو بن العاص.
وقال البيهقي عن علي بن المديني: حدثنا بهذا الحديث سفيان ولم يقل مرة عبد الله بن عمرو بن العاص.
(3) من مغازي الواقدي، وفي الاصل بن تحريف.
(4) هكذا في الاصل، وفي الطبري عن الواقدي، والعبارة في المغازي ج 3 / 937 ما تقول ؟ أو ترى.
(5) في ابن هشام: خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الاوقص السلمية.
وفي ابن سعد: خولة.
وذكر تمام نسبها (*).

(4/401)


فيهم ؟ قال: لا، قال: أفلا اؤذن بالرحيل ؟ قال: بلى، فأذن عمر بالرحيل.
فلما استقبل الناس نادى سعيد بن عبيد بن أسيد بن أبي عمرو بن علاج: ألا إن الحي مقيم، قال: يقول عيينة بن حصن أجل والله مجده كراما، فقال له رجل من المسلمين قاتلك الله يا عيينة، أتمدح المشركين بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جئت تنصره ؟ فقال: إني والله ماجئت لاقاتل ثقيفا معكم، ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف، فأصيب من ثقيف جارية أطؤها لعلها تلد لي رجلا فإن ثقيفا [ قوم ] (1) مناكير.
وقد روى ابن لهيعة: عن أبي الاسود، عن عروة قصة خولة بنت حكيم وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال.
وتأذين عمر بالرحيل، قال وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن لا يسرحوا ظهرهم فلما أصبحوا ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودعا حين ركب قافلا فقال " اللهم أهدهم واكفنا مؤنتهم " (2) وروى الترمذي من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير عن جابر قالوا: يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم فقال " اللهم اهد ثقيفا " ثم قال هذا حديث حسن غريب.
وروى يونس عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، وعبد الله بن المكدم (3) عمن أدركوا من أهل العلم قالوا: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ثلاثين ليلة أو قريبا من ذلك، ثم انصرفوا عنهم ولم يؤذن فيهم، فقدم المدينة فجاءه وفدهم في
رمضان فأسلموا.
وسيأتي ذلك مفصلا في رمضان من سنة تسع إن شاء الله.
وهذه تسمية من استشهد من المسلمين بالطائف فيما قاله ابن إسحاق فمن قريش، سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية.
وعرفطة بن حباب حليف لبني أمية بن الاسد بن الغوث، وعبد الله ابن أبي بكر الصديق رمي بسهم فتوفي منه بالمدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي من رمية رميها يومئذ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة حليف لبني عدي، والسائب بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي وأخوه عبد الله، وجليحة بن عبد الله من بني سعد بن ليث، ومن الانصار ثم من الخزرج: ثابت بن الجذع الاسلمي، والحارث بن سهل بن أبي صعصعة المازني، والمنذر بن عبد الله من بني ساعدة، ومن الاوس رقيم بن ثابت بن ثعلبة بن زيد بن لوذان بن معاوية فقط (4)، فجميع من استشهد يومئذ اثنا عشر رجلا سبعة من قريش وأربعة من الانصار، ورجل من بني ليث رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن إسحاق: ولما نصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا عن الطائف قال بجير بن زهير بن أبي سلمى يذكر حنينا والطائف:
__________
(1) من ابن هشام.
ومناكير: ذوي دهاء وفطنة.
(2) نقل الخبر بتمامه البيهقي في الدلائل ج 5 / 168 - 169.
(3) من دلائل البيهقي.
ج 5 / 169.
(4) لم يذكره الواقدي، وذكر من بني أسد يزيد بن زمعة بن الاسود، جمح به فرسه إلى حصن الطائف فقتلوه (*).

(4/402)


كانت علالة يوم بطن حنين * وغداة أوطاس ويوم الابرق جمعت باغواء هوازن جمعها * فتبددوا كالطائر المتمزق لم يمنعوا منا مقاما واحدا * إلا جدارهم وبطن الخندق ولقد تعرضنا لكيما يخرجوا * فاستحصنوا منا بباب مغلق ترتد حسرانا إلى رجراجة * شهباء تلمع بالمنايا فيلق ملمومة خضراء لو قذفوا بها * حصنا لظل كأنه لم يخلق (1)
مشي الضراء على الهراس كأننا * قدر تفرق في القياد ويلتقي في كل سابغة إذا ما استحصنت * كالنهي هبت ريحه المترقرق جدل تمس فضولهن نعالنا * من نسج داود وآل محرق (2) وقال أبو داود: ثنا عمر بن الخطاب، أبو حفص، ثنا الفريابي، ثنا أبان ثنا عمرو - هو ابن عبد الله بن أبي حازم - ثنا عثمان بن أبي حازم عن أبيه عن جده صخر - هو أبي العيلة الاحمسي - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا ثقيفا فلما أن سمع ذلك صخر ركب في خيل يمد النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد انصرف ولم يفتح، فجعل صخر حينئذ عهد وذمة لا أفارق هذا القصر حتى ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارقهم حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب إليه صخر، أما بعد فإن ثقيفا قد نزلت على حكمك يا رسول الله وأنا مقبل بهم وهم في خيلي فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة جامعة فدعا لاحمس عشر دعوات " اللهم بارك لاحمس في خيلها ورجالها ".
وأتى القوم فتكلم المغيرة بن شعبة فقال: يا رسول الله إن صخرا أخذ عمتي ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، فدعاه فقال " يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم فادفع إلى المغيرة عمته " فدفعها إليه وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء لبني سليم قد هربوا عن الاسلام وتركوا ذلك الماء فقال: يا رسول الله أنزلنيه أنا وقومي ؟ قال " نعم " فأنزله وأسلم - يعني الاسلميين، فأتوا صخرا فسألوه أن يدفع إليهم الماء فأبى فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أسلمنا وأتينا صخرا ليدفع إلينا ماءنا فأبى علينا، فقال " يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم فادفع إليهم ماءهم " قال: نعم يا نبي الله فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير عند ذلك حمرة حياء من أخذه الجارية وأخذه الماء.
تفرد به أبو داود وفي إسناده اختلاف.
قلت: وكانت الحكمة الالهية تقتضي أن يؤخر الفتح عامئذ ليلا يستأصلوا قتلا لانه قد تقدم أنه عليه السلام لما كان خرج إلى الطائف فدعاهم إلى الله تعالى وإلى أن يؤووه حتى يبلغ رسالة ربه عزوجل وذلك بعد موت عمه أبي طالب فردوا عليه قوله وكذبوه فرجع مهموما فلم يستفق إلا عند
__________
(1) في ابن هشام: حضنا بدل حصنا.
وحضن: اسم جبل بأعلى نجد.
(2) آل محرق هم آل عمرو بن هند ملك الحيرة (*)

(4/403)


قرن الثعالب، فإذا هو بغمامة وإذا فيها جبريل فناداه ملك الجبال فقال: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام وقد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك فإن شئت أن أطبق عليهم الاخشبين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بل أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده وحده لا يشرك به شيئا " فناسب قوله بل أستأني بهم أن لا يفتح حصنهم لئلا يقتلوا عن آخرهم وأن يؤخر الفتح ليقدموا بعد ذلك مسلمين في رمضان من العام المقبل كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.