البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

وفد بني عبد القيس ثم قال البخاري بعد وفد بني تميم: باب وفد عبد القيس حدثنا أبو إسحاق (1) حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا قرة، عن أبي جمرة (2) قال: قلت لابن عباس: إن لي جرة ينتبذ لي فيها فاشربه حلوا في جر إن أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح ؟ فقال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " مرحبا بالقوم غير خزايا ولا الندامى " فقال: يا رسول الله إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في الشهر الحرام فحدثنا بجميل (3) من الامر إن عملنا به دخلنا الجنة وندعوا به من وراءنا.
قال: " آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، الايمان بالله هل تدرون مع الايمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغانم الخمس.
وأنهلكم عن أربع، ما ينتبذ في
الدباء والنقير والحنتم والمزفت " (4).
وهكذا رواه مسلم من حديث قرة بن خالد عن أبي جمرة وله طرق في الصحيحين عن أبي جمرة.
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة عن أبي جمرة سمعت ابن عباس يقول: إن وفد عبد القيس لما قدم على رسول الله صلى الله عليه قال " ممن القوم ؟ " قالوا من ربيعة.
قال: " مرحبا بالوفد غير الخزايا ولا الندامى " فقالوا يا رسول الله: إنا حي من ربيعة وإنا نأتيك شقة بعيدة، وإنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك في شهر حرام فمرنا بأمر فصل ندعوا إليه من وراءنا وندخل به الجنة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالايمان بالله وحده أتدرون ما الايمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغانم الخمس، وأنهاكم عن أربع، عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت - وربما قال والمقير - فاحفظوهن وادعوا اليهن من وراءكم " (5) وقد أخرجاه صاحبا الصحيحين من حديث شعبة بنحوه، وقد رواه مسلم من
__________
(1) في البخاري: اسحاق.
(2) من البخاري، وفي الاصل: أبي حمزة.
(3) في البخاري: بجمل من الامر، وفي مسلم: بأمر فصل.
(4) أخرجه البخاري في الموضع السابق حديث (4368).
- في قوله آمركم بأربع، وإنما ذكر خمسا قال القاضي عياض: كان الاربع ما عدا أداء الخمس، قال: وكأنه أراد إعلامهم بقواعد الايمان وفروض الاعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم اخراجه إذا وقع لهم جهاد لانهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد إلى ذكرها بعينها لانها مسببة عن الجهاد.
أما النووي فقال: أما قوله أن يؤدوا خمسا من المغنم فليس عطفا على قوله " آمركم بأربع..." وإنما هو عطف على قوله بأربع فيكون مضافا إلى الاربع لا واحدا منها...- الدباء: القرع وهو جمع والواحدة دباءة.
الحنتم: الجرار يجلب فيها الخمر.
النقير: جذع ينقرون وسطه وينبذون فيه.
المقير: المزفت المطلي بالغار...(5) أخرجه أبو داود في الاشربة عن سليمان بن حرب، وفي كتاب السنة عن أحمد بن حنبل.
وأخرجه الترمذي في = (*)

(5/56)


حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد بحديث فصتهم بمثل هذا السياق، وعنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاشج عبد القيس " إن فيك لخلتين يحبهما الله عز وجل، الحلم والاناة " (1) وفي رواية " يحبهما الله ورسوله " فقال يا رسول الله تخلقتهما أم جبلني الله عليهما ؟ فقال: " جبلك الله عليهما " فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا مطر بن عبد الرحمن، سمعت هند بنت الوازع أنها سمعت الوازع يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والاشج المنذر بن عامر - أو عامر بن المنذر - ومعهم رجل مصاب فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبوا من رواحلهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلوا يده، ثم نزل الاشج فعقل راحلته وأخرج عيبته ففتحها، فأخرج ثوبين أبيضين من ثيابه فلبسهما، ثم أتى رواحلهم فعقلها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أشج إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل ورسوله، الحلم والاناة " فقال يا رسول الله أنا تخلقتهما أو جبلني الله عليهما ؟ فقال: " بل الله جبلك عليهما ".
قال الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله عز وجل ورسوله.
فقال الوازع يا رسول الله إن معي خالا لي مصابا فادع الله له فقال: " أين هو آتيني به " قال: فصنعت مثل ما صنع الاشج البسته ثوبيه وأتيته فأخذ من ورائه يرفعها حتى رأينا بياض إبطه، ثم ضرب بظهره فقال " أخرج عدو الله " فولى وجهه وهو ينظر بنظر رجل صحيح (2).
وروى الحافظ البيهقي: من طريق هود بن عبد الله بن سعد، أنه سمع جده مزيدة العبدي (3).
قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ قال لهم " سيطلع من هاهنا ركب هم خير أهل المشرق " فقام عمر فتوجه نحوهم فتلقى ثلاثة عشر راكبا، فقال من القوم ؟ فقالوا: من بني عبد القيس، قال: فما أقدمكم هذه البلاد التجارة ؟ قالوا: لا قال: أما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكركم آنفا فقال خيرا، ثم مشوا معه حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر للقوم: وهذا صاحبكم الذي تريدون، فرمى القوم بأنفسهم عن ركائبهم فمنهم من مشى ومنهم من هرول، ومنهم من سعى حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا بيده فقبلوها، وتخلف الاشج في الركاب حتى أناخها وجمع متاع
القوم، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن فيك خلتين يحبهما
__________
= الاشربة وقال حسن صحيح.
والنسائي في العلم، والايمان.
وما لك في الموطأ في الاشربة.
وأخرجه البخاري في أكثر من موضع: في الايمان، وفي كتاب الخمس، وفي كتاب العلم، والصلاة، والزكاة، وفي الادب.
والتوحيد.
(1) أخرجه مسلم في (1) كتاب الايمان (6) باب الحديث (26).
وأبو يعلى والطبراني بسند جيد.
(2) مسند الامام أحمد ج 4 / 206.
(3) في البيهقي: هود بن عبد الله بن سعد، انه سمع مزبدة العصري.
(انظر ترجمة مزبدة في أسد الغابة ج 1 / 96 و 4 / 417).
(*)

(5/57)


الله ورسول ".
قال: جبل جبلت [ عليه ] أن تخلقا مني ؟ قال: بل جبل فقال: الحمد الله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله (1).
وقال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو بن حنش، أخو عبد القيس.
قال ابن هشام: وهو الجارود بن بشر بن المعلى في وفد عبد القيس وكان نصرانيا، قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن الحسن قال: لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه، فعرض عليه الاسلام، ودعاه إليه، ورغبه فيه، فقال: يا محمد إني كنت على دين وإني تارك ديني لدينك أفتضمن لي ديني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم، أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه " قال: فأسلم وأسلم أصحابه، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان فقال: " والله ما عندي ما أحملكم عليه ".
قال: يا رسول الله إن بيننا وبين بلادنا ضوالا من ضوال الناس: أفنتبلغ عليها إلى بلادنا، قال: لا إياك وإياها، فإنما تملك حرق النار.
قال فخرج الجارود راجعا إلى قومه، وكان حسن الاسلام صلبا على دينه حتى هلك، وقد أدرك الردة، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الاول مع الغرور (2) بن المنذر بن النعمان بن المنذر، قام الجارود فتشهد شهادة الحق ودعا إلى الاسلام فقال: أيها الناس إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأكفر
من لم يشهد.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم فحسن إسلامه، ثم هلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ردة أهل البحرين، والعلاء عنده أميرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين (3).
ولهذا روى البخاري: من حديث ابراهيم بن طهمان، عن أبي جمرة (4) عن ابن عباس.
قال: أول جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجوانا (5) من البحرين، وروى البخاري عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الركعتين بعد الظهر بسبب وفد عبد القيس حتى صلاهما بعد العصر في بيتها (6).
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 327، ورواه أبو يعلى والطبراني بسند جيد.
(2) الغرور: واسمه المنذر، قال السهيلي: سمي الغرور لانه غر قومه يوم حرب الردة.
(3) الخبر في سيرة ابن هشام ج 4 / 221 - 222.
(4) في نسخ البداية المطبوعة: أبي حمزة تحريف.
(5) من البخاري، وفي الاصل حواثي بالجاء، تحريف.
انظر الخبر في المغازي الحديث (4371).
(6) أخرجه البخاري في المغازي (69) باب الحديث (4370).
قال الحافظ ابن حجر: والذي يتبين لنا انه كان لعبد القيس وفادتان: إحداهما قبل الفتح، ولهذا قالوا للنبي صلى الله عليه وآله: " بينا وبينك كفار مضر " وكان ذلك قديما إما في سنة خمس أو قبلها.
وكان عدد الوفد الاول ثلاثة عشر رجلا، وفيها سألوا عن الايمان وعن الاشربة، وكان فيهم الاشج،،، ثانيتهما كانت في سنة الوفود - سنة تسع - وكان عددهم حينئذ أربعين رجلا، وكان فيهم الجارود العبدي.
قال: ويؤيد التعدد ما أخرجه ابن حبان...أن النبي صلى الله عليه وآله قال لهم: ما لي أرى ألوانكم قد تغيرت.
(*)

(5/58)


قلت: لكن في سياق ابن عباس ما يدل على أن قدوم وفد عبد القيس كان قبل فتح مكة لقولهم وبيننا وبينك هذا الحي من مضر لا نصل إليك إلا في شهر حرام.
والله أعلم.
قصه ثمامة ووفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب قال البخاري: باب وفد بني حنيفة وقصة ثمامة بن أثال: حدثنا عبد الله بن يوسف،
حدثنا الليث بن سعد، حدثني سعيد بن أبي سعيد سمع أبا هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما عندك يا ثمامة " ؟ قال عندي خير، يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم.
وان تنعم تنعم على شاكر، وان كنت تريد المال فسل منه ما شئت.
فتركه حتى كان الغد، ثم قال له: " ما عندك يا ثمامة) ؟ فقال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى بعد الغد فقال: " ما عندك يا ثمامة " ؟ فقال عندي ما قلت لك.
فقال: " أطلقوا ثمامة " فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يا محمد والله ما كان على وجه الارض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك بأحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل أصبوت ؟ قال: لا ! ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وقد رواه البخاري في في موضع آخر ومسلم وأبو داود والنسائي كلهم عن قتيبة عن الليث به.
وفي ذكر البخاري هذه القصة في الوفود نظر وذلك أن ثمامة لم يفد بنفسه، وإنما أسر وقدم به في الوثاق فربط بسارية من سواري المسجد ثم في ذكره مع الوفود سنه تسع نظر آخر.
وذلك أن الظاهر من سياق قصته أنها قبيل الفتح لان أهل مكة عيروه بالاسلام وقالوا أصبوت فتوعدهم بأنه لا يفد إليهم من اليمامة حبة حنطة ميرة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أن مكة كانت إذ ذاك دار حرب، لم يسلم أهلها بعد والله أعلم، ولهذا ذكر الحافظ البيهقي قصة ثمامة بن أثال قبل فتح مكة وهو أشبه ولكن ذكرناه هاهنا إتباعا للبخاري رحمه الله.
وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، ثنا شعيب، عن عبد الله بن أبي حسين، ثنا نافع بن جبير عن ابن عباس: قال: قدم مسيلمة الكذاب (2) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل القول: إن جعل لي محمد
__________
(1) اخرجه البخاري في كتاب المغازي (70) باب الحديث (4372).
(2) مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحرث من بني حنيفة، قال ابن اسحاق: ادعى النبوة ستة عشر، كنيته أبو ثمامة.
وقيل إن مسيلمة لقب واسمه ثمامة.
قال ابن حجر: إن كان هذا محفوظا فيكون ممن توافقت كنيته واسمه.
(*)

(5/59)


الامر من بعده اتبعته، وقدم في بشر كثير من قومه فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه.
فقال له: " لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليقرنك الله، وإني لاراك الذي رأيت فيه ما أريت، وهذا ثابت يجيبك عني " ثم انصرف عنه.
قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك الذي رأيت فيه ما أريت، فأخبرني أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما، فأوحى إلي في المنام إن أنفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي: أحدهما الاسود العنسي (1) والآخر مسيلمة " (2).
ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر (3) ثنا عبد الرزاق، أخبرني معمر، عن همام بن منبه (4) أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينا أنا نائم أتيت بخزائن الارض، فوضع في كفي سواران من ذهب فكبرا علي فأوحي إلي أن أنفخهما، فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما، صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة " (5).
ثم قال البخاري: ثنا سعيد بن محمد الجرمي، ثنا يعقوب بن ابراهيم، حدثنا أبي، عن صالح عن ابن عبيدة بن (6) نشيط - وكان في موضع آخر اسمع عبد الله - أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة.
قال: بلغنا أن مسيلمة الكذاب قدم المدينة فنزل في دار بنت الحارث وكان تحته بنت الحارث بن كريز وهي أم عبد الله بن الحارث (7) بن كريز فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وهو الذي يقال له خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب فوقف عليه فكلمه فقال له مسيلمة إن شئت خليت بينك وبين الامر، ثم جعلته لنا بعدك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه وإني لاراك الذي رأيت فيه ما رأيت (8)، وهذا ثابت بن قيس وسيجيبك
__________
(1) الاسود العنسي واسمه عبهلة بن كعب كان يقال له: ذو الخمار.
وهو من بني عنس.
خرج بصنعاء وادعى النبوة وغلب على عامل صنعاء المهاجر بن أبي أمية.
(2) أخرجه البخاري في المغازي (70) باب، الحديث (4373)، وفي كتاب المناقب (25) باب.
وأخرجه مسلم في كتاب الرؤيا (4) باب الحديث (21).
(3) من البخاري، وفي الاصل منصور تحريف.
(4) من البخاري، وفي الاصل هشام بن أمية تحريف.
(5) فتح الباري 8 / 73 الحديث رقم 4375.
(6) في نسخ البداية المطبوعة: عن نشيط، وهو تحريف.
(7) في البخاري: أم عبد الله بن عامر بن كريز.
قال ابن حجر: الصواب أم أولاد عبد الله بن عامر لانها زوجته لا أمه، واسم أمه ليلى بنت أبي حثمة العدوية.
قال ابن سعد: نزلوا في دار رملة بنت الحارث، وكان منزلها معدا للوفود، وهو أكثر احتمالا لان بنت الحارث زوجة مسيلمة لم تكن إذ ذاك بالمدينة وإنما كانت باليمامة ولما قتل مسيلمة تزوجها ابن عمها عبد الله بن عامر.
(8) في البخاري: واني لاراك الذي أريت فيه ما أريت.
(*)

(5/60)


عني " فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [ عبيد الله بن ] (1) عبد الله سألت ابن عباس عن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فقال ابن عباس: ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينا أنا نائم رأيت أنه وضع في يدي سواران من ذهب فقطعتهما (2) وكرهتهما فأذن لي فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان " فقال عبيد الله: [ أحمدهما العنسي الذي قتله ] (3) فيروز باليمن والآخر مسيلمة الكذاب (4).
وقال محمد بن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة فيهم مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هماز بن ذهل بن الزوال بن حنيفة ويكنى أبا ثمامة وقيل أبا هارون وكان قد تسمى بالرحمان فكان يقال له رحمان اليمامة وكان عمره يوم قتل مائة وخمسين سنة، وكان يعرف أبوابا من النيرجات فكان يدخل البيضة إلى القارورة وهو أول من فعل ذلك، وكان
يقص جناح الطير ثم يصله ويدعي أن ظبية تأتيه من الجبل فيحلب منها.
قلت: وسنذكر أشياء من خبره عند ذكر مقتله لعنه الله.
قال ابن إسحاق: وكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الانصار ثم من بني النجار، فحدثني بعض علمائنا من أهل المدينة أن بني حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه معه عسيب من سعف النخل في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب كلمه وسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه " قال ابن إسحاق: وحدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا.
وزعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه، فقالوا يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا وفي ركائبنا يحفظها لنا، قال: فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم، وقال " أما أنه ؟ يس بشركم مكانا " أي لحفظه ضيعة أصحابه، ذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاؤوا مسيلمة بما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم.
وقال: إني أشركت في الامر معه، وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له: أما إنه ليس بشركم مكانا، ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الامر معه، ثم جعل يسجع لهم السجعات، ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا.
وأحل لهم الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة، وهو مع هذا يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي.
فأصفقت (5) معه بنو حنيفة على ذلك.
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في الاصل ففظعتهما، والصواب من البخاري.
(3) ما بين معكوفين من البخاري.
(4) أخرجه البخاري في المغازي (71) باب الحديث (4378).
(5) أصفقت معه: أجمعوا عليه وتابعوه.
(*)

(5/61)


قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان (1).
وذكر السهيلي وغيره أن الرحال بن عنفوة - وأسمه نهار بن عنفوة - وكان قد أسلم وتعلم شيئا من القرآن وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة، وقد مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أبي هريرة وفرات بن حيان فقال لهم: " أحدكم ضرسه في النار مثل أحد " فلم يزالا خائفين حتى ارتد الرحال مع مسيلمة وشهد له زورا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه في الامر معه، وألقى إليه شيئا مما كان يحفظه من القرآن فادعاه مسيلمة لنفسه فحصل بذلك فتنة عظيمة لبني حنيفة وقد قتله زيد بن الخطاب يوم اليمامة كما سيأتي.
قال السهيلي: وكان مؤذن مسيلمة يقال له حجير، وكان مدبر الحرب بين يديه محكم بن الطفيل، وأضيف إليهم سجاح وكانت تكنى أم صادر تزوجها مسيلمة وله معها أخبار فاحشة، واسم مؤذنها زهير بن عمرو وقيل جنبة بن طارق، ويقال إن شبث بن ربعي أذن لها أيضا ثم أسلم وقد أسلمت هي أيضا أيام عمر بن الخطاب فحسن إسلامها، وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الامر معك، فإن لنا نصف الامر، ولقريش نصف الامر، ولكن قريشا قوم يعتدون (2).
فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب.
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الارض يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
قال وكان ذلك في آخر سنة عشر - يعني ورود هذا الكتاب - قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق فحدثني سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم بن مسعود عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا مسيلمة الكذاب بكتابه يقول لهما: " وأنتما تقولان مثل ما يقول ؟ " قالا: نعم ! فقال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما (3).
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود.
قال: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولين لمسيلمة الكذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال لهما: " أتشهدان أني رسول الله " فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آمنت بالله ورسله، ولو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما " قال عبد الله بن مسعود
فمضت السنة بأن الرسل لا تقتل.
قال عبد الله: فأما ابن أثال فقد كفاه الله، وأما ابن النواحة فلم يزل في نفسي منه حتى أمكن الله منه.
قال الحافظ البيهقي أما أسامة (4) بن أثال فأنه أسلم وقد مضى الحديث في اسلامه.
وأما ابن النواحة [ فإن ابن مسعود قتله بالكوفة حين أمكن الله منه ] (5)
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 4 / 222 - 223.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: لا يعتدون وهو تحريف.
(3) نص الكتابين في سيرة ابن هشام ج 4 / 247.
(4) في الدلائل، ثمامة.
(5) ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من دلائل البيهقي ج 5 / 332.
والخبر أخرجه النسائي عن = (*)

(5/62)


فأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي (1) أنبانا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الوهاب، ثنا جعفر بن عون، أنبأنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني مررت ببعض مساجد بني حنيفة وهم يقرأون قراءة ما أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم: والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما.
قال: فأرسل إليهم عبد الله فأتى بهم وهم سبعون رجلا ورأسهم عبد الله بن النواحة، قال: فأمر به عبد الله فقتل، ثم قال: ما كنا بمحرزين الشيطان من هؤلاء ولكن نحوزهم إلى الشام لعل الله أن يكفيناهم (2).
وقال الواقدي كان وفد بني حنيفة بضعة عشر رجلا عليهم سلمى بن حنظلة وفيهم الرحال بن عنفوة وطلق بن علي، وعلي بن سنان، ومسيلمة بن حبيب الكذاب، فأنزلوا في دار مسلمة بنت الحارث وأجريت على الضيافة فكانوا يؤتون بغداء وعشاء مرة خبزا ولحما، ومرة خبزا ولبنا، ومرة خبزا، ومره خبزا وسمنا، ومره تمرا ينزلهم.
فلما قدموا المسجد أسلموا وقد خلفوا مسيلمة في رحالهم، لما أرادوا الانصراف أعطاهم جوائزهم خمس أواق من فضة، وأمر لمسيلمة بمثل ما أعطاهم، لما ذكروا أنه في رحالهم فقال " أما أنه ليس بشركم مكانا " فلما رجعوا إليه أخبروه بما قال عنه فقال: إنما قال ذلك لانه عرف الامر
لي من بعده، وبهذه الكلمة تشبث قبحه الله حتى ادعى النبوة.
قال الواقدي: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معهم بأداوة فيها فضل طهوره، وأمرهم أن يهدموا بيعتهم وينضحوا هذا الماء مكانه ويتخذوه مسجدا ففعلوا (3).
وسيأتي ذكر مقتل الاسود العنسي في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقتل مسيلمة الكذاب في أيام الصديق، وما كان من أمر بني حنيفة إن شاء الله تعالى.
وفد أهل نجران (4) قال البخاري: حدثنا عباس بن الحسين، ثنا يحيى بن آدم، عن اسرائيل، عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة.
قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وأبعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا رجلا أمينا، فقال: " لابعثن معكم رجلا أمينا حق أمين " فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قم يا أبا عبيدة الجراح، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا أمين هذه
__________
= عبد الرحمن، عن سفيان، وأشار إليه المزي في تحفة الاشراف (7 / 48).
(1) من البيهقي، وفي الاصل المزني.
(2) دلائل البيهقي ج 5 / 333.
(3) الخبر نقله ابن سعد عن الواقدي في الطبقات ج 1 / 316 - 317.
(4) نجران: بفتح النون وسكون الجيم: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن يشتمل على ثلاث وسبعين قرية.
(*)

(5/63)


الامة " (1) وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من حديث شعبة عن أبي إسحاق به.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن سلمة بن عبد يشوع (2) عن أبيه عن جده - قال يونس وكان نصرانيا فأسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى [ أهل ] نجران قبل أن
ينزل عليه طس سليمان (3)، باسم إله ابراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران [ وأهل نجران ] (4) أسلم أنتم فإني أحمد إليكم إله ابراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد، فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام.
فلما أتى الاسقف الكتاب فقرأه فظع به وذعر به ذعرا شديدا، وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة - وكان من [ أهل ] همدان ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله، لا الاتهم (5)، ولا السيد ولا العاقب - فدفع الاسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل فقرأه، فقال الاسقف: يا أبا مريم ما رأيك ؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله ابراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما تؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل، ليس لي في النبوة رأي، ولو كان أمر من أمور الدنيا لاشرت عليك فيه برأي، وجهدت لك، فقال له الاسقف تنح فاجلس، فتنحى شرحبيل فجلس ناحيته.
فبعث الاسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: عبد الله بن شرحبيل، وهو من ذي أصبح من حمير، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي، فقال له مثل قول شرحبيل، فقال له الاسقف: تنح فاجلس فتنحى فجلس ناحيته، وبعث الاسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: جبار بن بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله، فأمره الاسقف فتنحى فجلس ناحيته.
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا، أمر الاسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت النيران والمسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار، وإذا كان فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمع حين ضرب بالناقوس، ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (72) باب (4380) و (4381).
(2) في المطبوعة: بن يسوع تحريف.
(3) الآية الاولى من سورة النمل، وقد عقب ابن القيم في زاد المعاد فقال: " وقد وقع في هذه الرواية هذا، وقال:
قبل أن ينزل عليه (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين) وذلك غلط على غلط، فإن هذه السوره مكية باتفاق، وكتابه إلى نجران بعد مرجعه من تبوك.
".
(4) ما بين معكوفين من الدلائل.
والعبارة في الدلائل: إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله...(وهو المناسب).
(5) الاتهم كذا في الاصل، وفي ابن هشام الابهم، وفي الدلائل: الايهم.
(*)

(5/64)


مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني، وعبد الله بن شرحبيل الاصبحي وجبار بن فيض الحارثي فيأتوهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة، وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه، فلم يرد عليهم السلام، وتصدوا لكلامه نهار طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب، فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وكانوا يعرفونهما (1) فوجدوهما في ناس من المهاجرين والانصار في مجلس.
فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن ! إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فاقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهار طويلا فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما، أترون أن نرجع ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب، وهو في القوم ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال علي لعثمان ولعبد الرحمن أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودوا إليه، ففعلوا فسلموا فرد سلامهم.
ثم قال: " والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الاولى وأن ابليس لمعهم، ثم ساءلهم وسائلوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى ؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى ليسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما عندي فيه شئ يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركم بما يقول الله في عيسى " فأصبح الغد وقد أنزل الله عز وجل هذه الآية * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) * [ آل عمران: 59 - 61 ] فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يؤمئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي، وإني والله أرى أمرا ثقيلا، والله لئن كان هذا الرجل ملكا متقويا فكنا أول العرب طعن في عيبته ورد عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة وإنا أدنى العرب منهم جوارا، ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الارض منا شعر ولا ظفر إلا هلك، فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم ؟ فقال رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا، فقالا له أنت وذاك، قال: فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك، فقال " وما هو " ؟ فقال حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح، فما حكمك فينا فهو جائز، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعل وراءك أحد يثرب عليك ؟ " فقال
__________
(1) العبارة في الدلائل: وكانا معرفة لهم، كانا يجدعان العتائر إلى نجران في الجاهلية فيشتروا لهما من بزها وثمرها وذرتها..(*)

(5/65)


شرحبيل: سل صاحبي، فقالا: ما ترد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل، [ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كافر أو قال: جاحد موفق ] (1) فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد النبي الامي رسول الله لنجران أن كان عليهم حكمه في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء [ وسوداء ] ورقيق، فافضل عليهم، وترك ذلك كله على ألفي حلة [ من حلل الاواقي ]، في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة، وذكر تمام الشروط (2).
إلى أن شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف من بني نصر والاقرع بن حابس الحنظلي، والمغيرة (3)، وكتب حتى إذا قبضوا كتابهم انصرفوا إلى نجران ومع الاسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له بشر بن معاوية
وكنيته أبو علقمة، فدفع الوفد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاسقف، فبينما هو يقرأه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعس بشر غير أنه لا يكني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الاسقف عند ذلك: قد والله تعست نبيا مرسلا، فقال له بشر: لا جرم والله لا أحل عنها عقدا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب وجه ناقته نحو المدينة وثنى الاسقف ناقته عليه، فقال له: افهم عني إنما قلت هذا ليبلغ عني العرب مخافة أن يروا أنا أخذنا حقه أو رضينا بصوته أو نجعنا (4) لهذا الرجل بما لم تنجع به العرب نحن أعزهم وأجمعهم دارا، فقال له بشر: لا والله لا أقبل ما خرج من رأسك أبدا، فضرب بشر ناقته وهو مولي الاسقف ظهره وارتجز يقول:
__________
(1) من دلائل البيهقي.
(2) تمام الكتاب في الدلائل:...ومع كل حلة أوقية من الفضة فما زادت على الخراج أو نقصت عن الاواقي فبالحساب، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عروض أخذ منهم بالحساب، وعلى نجران مؤنة رسلي، ومتعتهم ما بين عشرين يوما فدونه، ولا تحبس رسلي فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد ومعرة، وما هلك مما أعاروا رسلي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمان على رسلي حتى يؤدوه إليهم، ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي على أنفسهم وملتهم ؟ ؟ ضيهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وان لا يغيروا مما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملتهم، ولا يغيروا أسقف عن اسقفيته ولا راهب من رهبانيته، ولا واقها من وقيهاه، وكلما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم دنية ولا دم جاهلية ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل فيهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين بنجران، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منة بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله عز وجل وذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله أبدا حتى يأتي الله بأمره، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم.
راجع نصه في طبقات ابن سعد 1 / 358 فتوح البلدان (76) أبو عبيد في الاموال ص 187 جمهرة رسائل العرب ج 1 / 76 الخراج لابي يوسف 72 وتاريخ اليعقوبي ج 2 / 67.
(3) قال أبو يوسف في الخراج: كتب لهم هذا الكتاب عبد الله بن أبي بكر، وفي اليعقوبي: كتبه علي ابن أبي طالب
وفي الاموال لابي عبيد: شهد عليه عثمان بن عفان وثقيقيب.
(4) في الدلائل: فبخعنا في الموضعين.
(*)

(5/66)


إليك تغدوا وضينها * معترضا في بطنها جنينها مخالفا دين النصارى دينها حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم ولم يزل معه حتى قتل بعد ذلك.
قال ودخل الوفد نجران فأتي الراهب بن أبي شمر الزبيدي، وهو في رأس صومعته فقال له: إن نبيا بعث بتهامة فذكر ما كان من وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه عرض عليهم الملاعنة فأبوا وإن بشر بن معاوية دفع إليه فأسلم فقال الراهب أنزلوني وإلا ألقيت نفسي من هذه الصومعة قال: فأنزلوه فأخذ معه هدية وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها هذا البرد الذي يلبسه الخلفاء وقعب وعصا.
فأقام مدة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع الوحي ثم رجع إلى قومه ولم يقدر له الاسلام ووعد أنه سيعود فلم يقدر له حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الاسقف أبا الحارث أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيد والعاقب ووجوه قومه فأقاموا عنده يسمعون ما ينزل الله عليه وكتب للاسقف هذا الكتاب ولاساقفة نجران بعده: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي للاسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير جوار الله ورسوله لا يغير أسقف من أسقفته ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم ولا ما كانوا عليه من ذلك، جوار الله ورسوله أبدا ما أصلحوا ونصحوا عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين وكتب المغيرة بن شعبة (1).
وذكر محمد بن إسحاق: أن وفد نصارى نجران كانوا ستين راكبا يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم: وهم العاقب واسمه عبد المسيح والسيد وهو الاتهم وأبو حارثة بن علقمة وأوس بن الحارث وزيد وقيس ويزيد ونبيه وخويلد وعمرو وخالد وعبد الله ويحنس وأمر هؤلاء الاربعة عشر يؤل إلى ثلاثة منهم وهم العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون
إلا عن رأيه والسيد وكان ثمالهم وصاحب رحلهم وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وخيرهم وكان رجل من العرب من بكر بن وائل ولكن دخل في دين النصرانية فعظمته الروم وشرفوه وبنوا له الكنائس ومولوه وخدموه لما يعرفون من صلابته في دينهم وكان مع ذلك يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن صده الشرف والجاه من اتباع الحق.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني بريدة بن سفيان عن ابن البيلماني عن كرز بن علقمة.
قال: قدم وفد نصارى نجران ستون راكبا منهم أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم والاربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم العاقب والسيد وأبو حارثة أحد بني بكر بن وائل أسقفهم وصاحب مدارستهم وكانوا قد شرفوه فيهم ومولوه وأكرموه، وبسطوا عليه الكرامات وبنوا له الكنائس لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما توجهوا من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له وإلى جنبه أخ له يقال له كرز بن
__________
(1) الخبر مطولا في دلائل النبوة للبيهقي - باب وفد نجران وشهادة الاساقفة لنبينا صلى الله عليه وآله ج 5 / 382 وما بعدها.
(*)

(5/67)


علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة فقال كرز: تعس الابعد - يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم -.
فقال أبو حارثة: بل أنت تعست فقال له كرز ولم يا أخي فقال والله أنه للنبي الذي كنا ننتظره فقال له كرز وما يمنعك وأنت تعلم هذا.
فقال له: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا واخدمونا وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى قال فاضمر عليها منه أخوه كرز حتى أسلم بعد ذلك.
وذكر ابن إسحاق أنهم لما دخلوا المسجد النبوي دخلوا في تجمل وثياب حسان وقد حانت صلاة العصر فقاموا يصلون إلى المشرق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم فكان المتكلم لهم أبا حارثة بن علقمة والسيد والعاقب حتى نزل فيهم صدر من سورة آل عمران والمباهلة فأبوا ذلك وسألوا أن يرسل معهم أمينا فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح كما تقدم في رواية البخاري وقد ذكرنا ذلك مستقصى في تفسير سورة آل عمران ولله الحمد والمنة.
وفد بني عامر وقصة عامر بن الطفيل واربد بن مقيس قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن
مقيس بن جزء بن جعفر (1) بن خالد وجبار (2) بن سلمى بن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم.
وقدم عامر بن الطفيل عدو الله، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا أبا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم.
قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فانا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ؟ ثم قال لاربد: إن قدمنا على الرجل فإني سأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فأعله بالسيف، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالني قال: " لا والله حتى تؤمن بالله وحده " قال: يا محمد خالني، قال: وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به، فجعل أربد لا يحير شئيا، فلما رأى عامر ما يصنع أربد قال: يا محمد خالني، قال " لا حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له " فلما أبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: أما والله لاملانها عليك خيلا ورجالا، فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم اكفني عامر بن الطفيل " فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر بن الطفيل لاربد: أين ما كنت أمرتك به ؟ والله ما كان على ظهر الارض رجل أخوف على نفسي منك، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا.
قال: لا أبالك لا تعجل علي والله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف ؟ وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله عز وجل على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول ؟
__________
(1) في ابن هشام: ابن خالد بن جعفر.
(2) في رواية البيهقي عن ابن اسحاق: حيان بن مسلم بن مالك.
(*)

(5/68)


قال ابن هشام: ويقال أغدة كغدة الابل وموت في بيت سلولية (1).
وروى الحافظ البيهقي: من طريق الزبير بن بكار، حدثتني فاطمة بنت عبد العزيز بن مؤمل عن أبيها عن جدها مؤمل بن جميل (2) قال: أتى عامر بن الطفيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له " يا عامر أسلم " فقال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر: قال: " لا " ثم قال: أسلم، فقال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر،
قال: لا فولى وهو يقول: والله يا محمد لاملانها عليك خيلا جردا، ورجالا مردا، ولاربطن بكل نخلة فرسا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني عامرا واهد قومه.
فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة من قومه يقال لها: سلولية فنزل عن فرسه، ونام في بيتها، فأخذته عدة في حلقه، فوثب على فرسه وأخذ رمحه، وأقبل يجول، وهو يقول غدة كغدة البكر، وموت في بيت سلولية، فلم تزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه ميتا (3).
وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب في أسماء الصحابة موءلة هذا فقال هو موءلة بن كثيف الضبابي الكلابي العامري من بني عامر بن صعصعة، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشرين سنة فأسلم وعاش في الاسلام مائة سنة وكان يدعى ذا اللسانين من فصاحته، روى عنه ابنه عبد العزيز وهو الذي روى قصة عامر بن الطفيل غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية.
قال الزبير بن بكار: حدثتني ظميا بنت عبد العزيز بن موءلة بن كثيف بن جميل بن خالد بن عمرو بن معاوية، وهو الضباب بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قالت: حدثني أبي عن أبيه عن موءلة أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وهو ابن عشرين سنة، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح يمينه وساق إبله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقها بنت لبون ثم صحب أبا هريرة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاش في الاسلام مائة سنة وكان يسمى ذا اللسانين من فصاحته.
قلت والظاهر أن قصة عامر بن لطفيل متقدمة على الفتح، وإن كان ابن إسحاق والبيهقي قد ذكراها بعد الفتح، وذلك لما رواه الحافظ البيهقي: عن الحاكم عن الاصم، أنبأنا محمد بن إسحاق، أنبأنا معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق الفزاري، عن الاوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس في قصة بئر معونة وقتل عامر بن الطفيل حرام بن ملحان خال أنس بن مالك وغدره بأصحاب بئر معونة حتى قتلوا عن آخرهم سوى عمرو بن أمية كما تقدم.
قال الاوزاعي قال يحيى: فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا: اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت، وابعث عليه ما يقتله فبعث الله عليه الطاعون.
وروي عن همام عن إسحاق بن عبد الله عن أنس في قصة ابن
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 4 / 213، ونقله البيهقي في الدلائل ج 5 / 318.
(2) من الدلائل، وفي الاصل: عبد العزيز بن موءلة عن أبيها عن جدها موءلة، وفي القاموس: موءلة بن كثيف بن حمل، وفي الاصابة: ابن حميل.
(3) الخبر في دلائل النبوة للبيهقي ج 5 / 320.
(*)

(5/69)


ملحان قال: وكان عامر بن الطفيل قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخيرك بين ثلاث خصال: يكون لك أهل السهل، ويكون لي أهل الوبر، وأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، قال: فطعن في بيت امرأة، فقال: غدة كغدة البعير وموت في بيت امرأة من بني فلان، ائتوني بفرسي فركب فمات على ظهر فرسه (1).
قال ابن إسحاق ثم خرج أصحابه حين واروه حتى قدموا أرض بني عامر شاتين، فلما قدموا أتاهم قومهم: فقالوا وما وراءك يا أربد ؟ قال لا شئ: والله لقد دعانا إلى عبادة شئ لوددت لو أنه عندي الآن، فأرميه بالنبل حتى أقتله الآن، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه (2) فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما.
قال ابن إسحاق: وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لامه فقال لبيد يبكي أربد: ما أن تعدي (3) المنون من أحد * لا والد مشفق ولا ولد أخشى على أربد الحتوف ولا * أرهب نوء السماك والاسد فعين هلا بكيت أربد إذ * قمنا وقام النساء في كبد إن يشغبوا لا يبال شغبهم * أو يقصدوا في الحكوم يقتصد حلو أريب وفي حلاوته * مر لصيق الاحشاء والكبد وعين هلا بكيت أربد إذ * ألوت رياح الشتاء بالعضد (4) وأصبحت لاقحا مصرمة * حتى تجلت غوابر المدد أشجع من ليث غابة لحم * ذو نهمة في العلا ومنتقد لا تبلغ العين كل نهمتها * ليلة تمسى الجياد كالقدد (5)
الباعث النوح في مآتمه * مثل الظباء الابكار بالجرد فجعني البرق والصواعق بالفا * رس يوم الكريهة النجد والحارب الجابر الحريب إذا * جاء نكيبا وإن يعد يعد (6) يعفو على الجهد والسؤال كما * ينبت غيث الربيع ذو الرصد كل بني حرة مصيرهم * قل وإن كثروا من العدد
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 320 وأخرج الجزء الثاني منه البخاري عن همام في كتاب المغازي (28) باب غزوة الرجيع، الحديث (4091) فتح الباري (7 / 385).
(2) في ابن هشام: يتبعه.
(3) من ابن هشام: تعدى أي تترك.
وفي الاصل تعزي، وفي المطبوعة تعري (4) العضد: الشجر ذهبت الريح بأوراقه.
(5) القدد: جمع قدة وهي السير يقطع من الجلد يشبه به الخيل بالسير في النحول والضعف.
(6) الحارب: السالب، والحريب: المسلوب.
والنكيب: المنكوب المصاب.
(*)

(5/70)


إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا * يوما فهم للهلاك والنفد وقد روى ابن إسحاق: عن لبيد أشعارا كثيرة في رثاء أخيه لامه أربد بن قيس تركناها اختصارا واكتفاء بما أوردناه والله الموفق للصواب.
قال ابن هشام وذكر زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال فأنزل الله عز وجل في عامر وأربد * (الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يده ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) * [ الرعد: 8 ] يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ثم ذكر أربد وقتله فقال الله تعالى * (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دونه من وال هو الذى يريكم البرق خوفا وطعما وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها
من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) * [ سورة الرعد: 11 ].
قلت وقد تكلمنا على هذه الآيات الكريمات في سورة الرعد ولله الحمد والمنة، وقد وقع لنا إسناد ما علقه ابن هشام رحمه الله فروينا من طريق الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير حيث قال: حدثنا مسعدة بن سعد العطار، حدثنا ابراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني عبد العزيز بن عمران، حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم، عن أبيهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس: أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب وعامر بن الطفيل بن مالك قا ؟ ؟ المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهيا إليه وهو جالس فجلسا بين يديه: فقال عامر بن الطفيل: يا محمد ما تجعل لي إن أسلمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم ".
قال عامر: أتجعل لي الامر إن أسلمت من بعدك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل ".
قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، أجعل لي الوبر ولك المدر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا " فلما قفل (1) من عنده، قال عامر أما والله لاملانها عليك خيلا ورجالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يمنعك الله " فلما خرج أربد وعامر قال عامر: يا أربد أنا أشغل عنك محمدا بالحديث فاضربه بالسيف فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية، ويكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية، قال أربد افعل.
فأقبلا راجعين إليه، فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخليا إلى الجدار، ووقف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه، وسل أربد السيف فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف، فلم يستطيع سل السيف، فأبطأ أربد على عامر بالضرب، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما، فلما خرج أربد وعامر من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بالحرة، حرة واقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير فقالا: أشخصا يا عدوا الله لعنكما الله، فقال عامر من هذا
__________
(1) من سيرة ابن كثير، وفي الاصل: قفا (*)

(5/71)


يا سعد ؟ قال أسيد بن حضير الكتائب فخرجا حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة
فقتلته، وخرج عامر حتى إذا كان بالحرة أرسل الله قرحة فأخذته فأدركه بالليل في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول: غدة كغدة الجمل في بيت سلولية يرغب (1) أن يموت في بيتها ثم ركب فرسه فأحضرها حتى مات عليه راجعا فأنزل الله فيهما * (الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الارحام وما تزداد) * إلى قوله * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ثم ذكر أربد وما قتله به فقال * (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) * الآية، وفي هذا السياق دلالة على ما تقدم من قصة عامر وأربد، وذلك لذكر سعد بن معاذ فيه والله أعلم.
وقد تقدم وفود الطفيل بن عامر الدوسي رضي عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وإسلامه وكيف جعل الله له نورا بين عينيه ثم سأل الله فحوله له إلى طرف سوطه وبسطنا ذلك هنالك فلا حاجة إلى إعادته هاهنا كما صنع البيهقي وغيره.
قدوم ضمام بن ثعلبة وافدا [ عن قومه بني سعد بن بكر ] (2) قال ابن إسحاق حدثني محمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب عن ابن عباس.
قال: بعث بنو سعيد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم إليه وأناخ بعيره على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخله المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه.
فقال: أيكم ابن عبد المطلب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا ابن عبد المطلب " فقال: يا محمد قال: نعم.
قال: يا بن عبد المطلب، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك.
قال " لا أجد في نفسي فسل عما بدالك " فقال: أنشدك إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله بعثك إلينا رسولا ؟ قال: " اللهم نهم ! " قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا وان نخلع هذه الانداد التي كان آباؤنا يعبدون ؟ قال: اللهم نعم ! قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس.
قال " نعم ! " قال: ثم جعل يذكر فرائض الاسلام فريضة فريضة: الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الاسلام كلها، ينشده عند كل فريضة منها كما
ينشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض واجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص ثم انصرف إلى بعيره راجعا.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة " قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم أن قال: بئست اللات
__________
(1) يرغب: يكره.
(2) من ابن هشام، وفي الاصل: وافدا على قومه.
(*)

(5/72)


والعزى.
فقالوا: مه يا ضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون.
فقال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه.
واني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.
وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه.
قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.
قال: يقول ابن عباس فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة (1).
وهكذا رواه الامام أحمد: عن يعقوب بن ابراهيم الزهري، عن أبيه، عن ابن إسحاق فذكره، وقد روى هذا الحديث أبو داود: من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن سلمة بن كهيل ومحمد بن الوليد بن نويفع عن كريب عن ابن عباس بنحوه وفي هذا السياق ما يدل على أنه رجع إلى قومه قبل الفتح لان العزى خربها خالد بن الوليد أيام الفتح.
وقد قال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس.
قال: بعثت بنو سعد بن بكر في رجب سنة خمس ضمام بن ثعلبة وكان جلدا أشعر ذا غديرتين وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فأغلظ في المسألة سأله عمن أرسله وبما أرسله ؟ عن شرائع الاسلام فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كله فرجع إلى قومه مسلما قد خلع الانداد فأخبرهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما وبنو المساجد وأذنوا بالصلاة (2).
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، ثنا سليمان - يعني ابن المغيرة - عن ثابت، عن أنس بن مالك.
قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل يسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال: صدق ! قال: فمن خلق السموات ؟ قال: الله، قال: فمن خلق الارض ؟ قال: الله قال فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال: الله.
قال: فبالذي خلق السماء وخلق الارض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك ؟ قال: نعم ! قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم ! قال وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا قال: صدق.
قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم ! قال وزعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم ! قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا.
قال: صدق، قال: ثم ولى فقال والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئا ولا أنقص عليهن شيئا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن صدق ليدخلن الجنة ".
وهذا
__________
(1) الخبر رواه ابن هشام في السيرة ج 4 / 219 - 220 ورواه الامام أحمد، والترمذي والنسائي عن ثابت عن أنس، والبخاري ومسلم.
ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن شريك عن أنس.
(2) انظر الخبر في طبقات ابن سعد عن الواقدي ج 1 / 299.
(*)

(5/73)


الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما بأسانيد وألفاظ كثيرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وقد رواه مسلم من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بن المغيرة وعلقه البخاري من طريقه وأخرجه من وجه آخر بنحوه.
فقال الامام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، أنه سمع أنس بن مالك يقول: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال.
أيكم محمد ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، قال: فقلنا: هذا الرجل الابيض
المتكئ.
فقال الرجل: يا بن عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجبتك فقال الرجل: يا محمد إني سائلك فمشتد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك، فقال: سل ما بدا لك.
فقال الرجل: أسألك بربك ورب من كان قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم نعم ! " قال فأنشدك الله.
آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم نعم " [ قال: أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:: " اللهم نعم ! ] (1) قال الرجل آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.
وقد رواه البخاري: عن عبد الله بن يوسف، عن الليث بن سعد، عن سعيد المقبري به وهكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن الليث به.
والعجب أن النسائي رواه من طريق آخر عن الليث قال: حدثني ابن عجلان وغيره من أصحابنا عن سعيد المقبري عن شريك عن أنس بن مالك فذكره وقد رواه النسائي أيضا من حديث عبيد الله العمري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فلعله عن سعيد المقبري من الوجهين جميعا.
فصل وقد قدمنا ما رواه الامام أحمد: عن يحيى بن آدم عن حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قدوم ضماد الازدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة وإسلامه وإسلام قومه كما ذكرنا مبسوطا بما أغنى عن إعادته ها هنا ولله الحمد والمنة.
وفد طئ مع زيد الخيل رضي الله عنه [ وهو زيد بن مهلهل بن زيد بن منهب، أبو مكنف الطائي، وكان من أحسن العرب وأطوله
__________
(1) ما بين معكوفتين سقط من نسخ البداية المطبوعة.
(*)

(5/74)


رجلا.
سمي زيد الخيل لخمس أفراس كن له (1).
قال السهيلي: ولهن أسماء لا يحضرني الآن حفظها ] (2).
قال ابن اسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد طئ وفيهم زيد الخيل، وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلموه وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسلام، فأسملوا فحسن إسلامهم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما " حدثني من لا أتهم من رجال طئ، ما ذكر رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ الذي فيه ثم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وقطع له فيدا وأرضين معه، وكتب له بذلك فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى قومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه قال " وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم غير الحمى، وغير أم ملدم - لم يثبته - قال فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه يقال له فردة أصابته الحمى فمات بها ولما أحس بالموت قال: أمر تحل قومي المشارق غدوة * واترك في بيت بفردة منجد الارب يوم لو مرضت لعادني * عوائد من لم يبر منهن يجهد (3) قال: ولما مات عمدت امرأته بجلهلها وقلة عقلها ودينها إلى ما كان معه من الكتب فحرقتها بالنار.
قلت: وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد: أن علي بن أبي طالب بعث.
رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبية في تربتها فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة زيد الخيل، وعلقمة بن علاثة، والاقرع بن حابس، وعتبة بن بدر الحديث.
وسيأتي ذكره في بعث علي إلى اليمن إن شاء الله تعالى.
قصة عدي بن حاتم الطائي قال البخاري: في الصحيح وفد طئ وحديث عدي بن حاتم: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، ثنا عبد الملك بن عمير، عن عمرو بن حريث، عن عدي بن حاتم.
قال: أتينا عمر ابن الخطاب في وفد فجعل يدعو رجلا رجلا يسميهم فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين ؟ قال: بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ نكروا.
فقال
__________
(1) قال صاحب الاغاني منها: الهطال، والكميت، والورد، وكامل، ودؤول، ولاحق (16 / 49 ساسي).
(2) ما بين معكوفتين سقط من نسخ البداية المطبوعة.
(3) كذا في الاصول وابن هشام، وفي كتاب شعراء اسلاميون ذكر: أمر تحل صحبي المشارق غدوة * وأترك في بيت بفردة منجد سقى الله ما بين القفيل فطابة * فما دون أرمام فما فوق منشد هنالك لو أني مرضت لعادني * عوائد من لم يشف منهن مجهد فليت اللواتي عدنني لم يعدنني * وليت اللواتي غبن عني عودي (*)

(5/75)


عدي: لا أبالي إذا (1)، وقال ابن إسحاق: وأما عدي بن حاتم فكان يقول، فيما بلغني: ما رجل من العرب كان أشد كراهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني، أما أنا فكنت أمرءا شريفا وكنت نصرانيا وكنت أسير في قومي بالمرباع (2) وكنت في نفسي على دين، وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي وكان راعيا لابلي: لا أبالك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا فاحتبسها قريبا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني ففعل، ثم إنه أتاني ذات غداة فقال: يا عدي ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن.
فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد.
قال: قلت.
فقرب إلي أجمالي فقربها، فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الحوشية (3) وخلفت بنتا (4) لحاتم في الحاضر، فلما قدمت الشام أقمت بها، وتخالفني خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصيبت ابنة حاتم فيمن أصابت فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طئ وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام.
قال فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس بها فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه وكانت امرأة جزلة.
فقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد: فامنن علي من الله عليك.
قال: ومن وافدك ؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله: قالت: ثم مضى وتركني حتى إذا كان الغد مر بي فقلت له مثل ذلك وقال لي مثل ما قال بالامس، قالت حتى إذا كان بعد الغد مر بي وقد يئست فأشار إلي رجل خلفه أن قومي فكلميه.
قالت: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله هلك الوالد
وغاب الوافد فامنن علي من الله عليك.
فقال صلى الله عليه وسلم قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك كم يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني، فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن كلميه فقيل لي: علي بن أبي طالب قالت: فقمت حتى قدم من بلي أو قضاعة قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت فقلت يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ.
قالت: فكساني وحملني وأعطاني نفقة فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي، فنظرت إلى ظعينة تصوب إلى قومنا قال: فقلت: ابنة حاتم قال فإذا هي هي فلما وقفت علي انتحلت (5) تقول: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك عورتك ؟ قال قلت: أي أخية لا تقولي إلا خيرأ فوالله ما لي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت قال: ثم نزلت فأقامت عندي فقلت لها: وكانت امرأة حازمة ماذا ترين في أمر هذا الرجل، قالت
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي (76) باب، الحديث 4394 فتح الباري (8 / 102).
(2) بالمرباع: أي آخذ ربع الغنائم، لاني سيدهم.
(3) الحوشية: جبل للضباب قرب صرية، من أرض نجد، بينها وبين الشام.
(4) بنت حاتم هي سفانة كما رجحه السهيلي.
إذ لم يعرف له غيرها.
(5) في الاصل: استحلت، وأثبتنا: انسحلت - من ابن هشام - أي جرت بالكلام.
(*)

(5/76)


أرى والله أن تلحق به سريعا فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله وإن يكن ملكا فلن تزل في عز اليمن وأنت أنت.
قال: قلت والله إن هذا الرأي قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلت عليه وهو في مسجده فسلمت عليه.
فقال: من الرجل ؟ فقلت عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلق بي إلى بيته فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها قال: قلت في نفسي والله ما هذا بملك.
قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إلي فقال " اجلس على هذه " قال قلت: بل أنت فاجلس عليها.
قال " بل أنت " فجلست وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالارض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال " إيه يا عدي بن حاتم ألم تك ركوسيا (1) " قال قلت: بلى ! قال: " أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع " قال: قلت: بلى ! قال " فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك " قال قلت: أجل ! والله.
قال: وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل ثم قال " لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه إنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ".
قال: فأسلمت، قال: فكان عدي يقول: مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن وقد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى هذا البيت، وأيم الله لتكونن الثالثة ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه (2).
هكذا أورد ابن إسحاق رحمه الله هذا السياق بلا اسناد وله شواهد من وجوه أخر.
فقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت سماك بن حرب، سمعت عباد بن حبيش، يحدث عن عدي بن حاتم.
قال: جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بعقرب (3) فأخذوا عمتي وناسا فلما أتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فصفوا له.
قالت: يا رسول الله بان الوافد وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة فمن علي من الله عليك.
فقال: ومن وافدك ؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الذي فر من الله ورسوله ؟ قالت: فمن علي فلما رجع ورجل إلى جنبه - ترى أنه علي - قال سليه حملانا، قال فسألته فأمر لها عدي: فأتتني فقالت لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها وقالت إيته راغبا أو راهبا فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه.
قال: فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي، فذكر قربهم منه، فعرفت أنه ليس ملك كسرى ولا قيصر.
فقال
__________
(1) الركوسي: من الركوسية وهم قوم دينهم بين دين النصارى والصابئين.
(2) سيرة ابن هشام ج 4 / 225 - 227.
(3) عقرب هكذا بالاصل، ولعل الصواب عقرباء، وهي اسم مدينة الجولان وهي كورة بدمشق.
(*)

(5/77)


له: يا عدي بن حاتم ما أفرك ؟ أفرك أن يقال لا إله إلا الله فهل من إله إلا الله، ما أفرك ؟ أفرك أن يقال الله أكبر فهل شئ هو أكبر من الله عز وجل، فأسلمت فرأيت وجهه استبشر، وقال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى.
قال: ثم سألوه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فلكم أيها الناس أن ترضخوا من الفضل ارتضخ أمرؤ بصاع، ببعض صاع، بقبضة، ببعض قبضة.
قال شعبة - وأكثر علمي أنه قال: بتمرة، بشق تمرة - وإن أحدكم لاقى الله فقائل، ما أقول ألم أجعلك سميعا بصيرا ألم أجعل لك مالا وولدا فماذا قدمت: فينظر من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يجد شيئا، فما يتقي النار إلا بوجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فان لم تجدوه فبكلمة لينة، إني لا أخشى عليكم الفاقة لينصرنكم الله وليعطينكم - أو ليفتحن عليكم - حتى تسير الظعينة بين الحيرة ويثرب، إن أكثر ما يخاف السرق على ظعينتها (1).
وقد رواه الترمذي من حديث شعبة وعمرو بن أبي قيس كلاهما عن سماك ثم قال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك.
وقال الامام أحمد.
أيضا حدثنا يزيد، أنبأنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين عن أبي عبيدة - هو ابن حذيفة - عن رجل.
قال قلت لعدي بن حاتم: حديث بلغني عنك أحب أن أسمعه منك قال: نعم ! لما بلغني خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهت خروجه كراهية شديدة فخرجت حتى وقعت ناحية الروم - وفي رواية حتى قدمت على قيصر - قال: فكرهت مكاني ذلك أشد من كراهتي لخروجه قال قلت: والله لو أتيت هذا الرجل، فإن كان كاذبا لم يضرني وإن كان صادقا علمت، قال: فقدمت فأتيته فلما قدمت قال الناس عدي بن حاتم ؟ فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا عدي بن حاتم أسلم تسلم ثلاثا قال قلت: إني على دين.
قال أنا أعلم بدينك منك فقلت أنت تعلم بديني مني ؟ قال: نعم ! ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك ؟ قلت: بلى ! قال هذا لا يحل لك في دينك قال: نعم ! فلم يعد أن قالها فتواضعت لها قال: أما أني أعلم الذي يمنعك من الاسلام تقول إنما اتبعه
ضعفة الناس ومن لا قوة لهم وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة ؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها قال فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الامر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قال قلت: كنوز ابن هرمز ؟ قال: نعم ! كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد.
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة [ تخرج ] (2) ! من الحيرة تطوف بالبيت في غير جوار ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها.
ثم قال أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة
__________
(1) أخرجه الامام أحمد مطولا في مسنده (4 / 378 - 379)، والترمذي في تفسير سورة الفاتحة الحديث (2953).
(2) من المسند.
(*)

(5/78)


عن رجل.
وقال حماد وهشام عن محمد بن أبي عبيدة ولم يذكر عن رجل.
قال: كنت أسأل الناس عن حديث عدي بن حاتم وهو إلى جنبي ولا أسأله، قال: فأتيته فسألته فقال: نعم ! فذكر الحديث.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو عمرو الاديب، أنبأنا أبو بكر الاسماعيلي، أخبرني الحسن بن سفيان، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا النضر بن شميل أنبأنا اسرائيل، أنبأنا سعد الطائي أنبأنا محل بن خليفة عن عدي بن حاتم.
قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، وأتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل.
قال: يا عدي بن حاتم هل رأيت الحيرة ؟ قلت لم أرها وقد أنبئت عنها قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله عز وجل.
قال قلت في نفسي: فإن ذعار طيئ - الذين سعروا البلاد - ولئن طالت بك حياة ليفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز ؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج بملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه ليس بينه وبين ترجمان، فينظر عن
يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن شماله قلا يرى إلا جهنم.
قال عدي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا شق تمرة فبكلمة طيبة " قال عدي: فقد رأيت الظعينة ترتحل من الكوفة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله عز وجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم (1).
وقد رواه البخاري عن محمد بن الحكم عن النضر بن شميل به بطوله.
وقد رواه من وجه آخر عن سعدان بن بشر، عن سعد أبي مجاهد الطائي، عن محل بن خليفة عن عدي به.
ورواه الامام أحمد والنسائي من حديث شعبة عن سعد أبي مجاهد الطائي به.
وممن روى هذه القصة عن عدي: عامر بن شرحبيل الشعبي فذكر نحوه.
وقال: لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها (2).
وثبت في صحيح البخاري من حديث شعبة.
وعند مسلم من حديث زهير بن معاوية كلاهما عن أبي اسحاق عن عبد الله بن معقل بن مقرن المزني عن عدي بن حاتم.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا النار ولو بشق تمرة " ولفظ مسلم " من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل " طريق أخرى فيها شاهد لما تقدم.
وقد قال الحافظ البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر (3) محمد بن عبد الله بن يوسف، ثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد الكوفي، ثنا ضرار بن صرد، ثنا عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي عن عبد الرحمن بن جندب، عن كميل بن زياد النخعي.
قال: قال علي بن أبي طالب: يا سبحان الله ! ما أزهد كثيرا من الناس خير، عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم في الحاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا، فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لكان ينبغي له
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 343 - 344.
والبخاري في كتاب المناقب (25) باب، الحديث (3595) (2) نقله البيهقي في الدلائل ج 5 / 345.
(3) في الاصل: أبو بكر بن محمد تحريف، وأثبتنا ما ورد في الدلائل.
(*)

(5/79)


أن يسارع في مكارم الاخلاق فإنها تدل على سبيل النجاح، فقام إليه رجل فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم ! وما هو خير منه: لما أتي بسبايا طيئ وقفت
جارية حمراء لعساء ذلفاء عيطاء شماء الانف، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين، خدلة الساقين لفاء الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين مصقولة المتنين.
قال: فلما رأيتها أعجبت بها وقلت لاطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعلها في فيئي فلما تكلمت أنسيت جمالها [ لما رأيت ] (1) من فصاحتها.
فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلي عنا، ولا تشمت بنا أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيئ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الاخلاق والله يحب مكارم الاخلاق.
فقام أبو بردة بن نيار.
فقال: يا رسول الله تحب مكارم الاخلاق (2) فقال رسول الله " والذي نفسي بيده لا يدخل أحد الجنة إلا بحسن الخلق ".
هذا حديث حسن المتن غريب الاسناد جدا عزيز المخرج.
وقد ذكرنا ترجمة حاتم طيئ أيام الجاهلية عند ذكرنا من مات من أعيان المشهورين فيها وما كان يسديه حاتم إلى الناس من المكارم والاحسان إلا أن نفع ذلك في الآخرة معذوق بالايمان (3) وهو ممن لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
وقد زعم الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب في ربيع الآخر من سنة تسع إلى بلاد طيئ فجاء معه بسبايا فيهم أخت عدي بن حاتم وجاء معه بسيفين كانا في بيت الصنم يقال لاحدهما الرسوب والآخر المخذم كان الحارث بن أبي سمر (4) قد نذرهما لذلك الصنم.
قال البخاري رحمه الله: قصة دوس والطفيل بن عمرو حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان عن ابن ذكوان - هو عبد الله بن زياد (5) - عن عبد الرحمن الاعرج، عن أبي هريرة قال: جاء الطفيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن دوسا قد هلكت، وعصت وأبت فادع الله عليهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم اهد دوسا وأت
__________
(1) من الدلائل.
(2) كذا في الاصل، وفي الدلائل: يا رسول الله ! الله يحب مكارم الاخلاق ؟.
(3) معذوق: أي معلق.
(4) كذا في الاصل، وفي تاريخ الطبري 3 / 148: نقلا عن الواقدي: ابن أبي شمر.
(5) قال ابن حجر في الفتح: هو عبد الله أبو الزناد.
(*)

(5/80)


بهم ".
انفرد به البخاري من هذا الوجه.
ثم قال: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة، حدثنا إسماعيل، عن قيس عن أبي هريرة قال: لما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم قلت في الطريق: يا ليلة من طولها وعنائها * على أنها من دارة الكفر نجت وأبق لي غلام في الطريق، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبايعته فبينا أنا عنده إذ طلع الغلام، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، هذا غلامك.
هو حر لوجه الله عز وجل فأعتقته (1).
انفرد به البخاري من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن حازم وهذا الذي ذكره البخاري من قدوم الطفيل بن عمرو فقد كان قبل الهجرة ثم إن قدر قدومه بعد الهجرة فقد كان قبل الفتح لان دوسا قدموا ومعهم أبو هريرة وكان قدوم أبي هريرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر خيبر ثم ارتحل أبو هريرة حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بعد الفتح فرضخ لهم شيئا من الغنيمة وقد قدمنا ذلك كله مطولا في مواضعه.
قال البخاري رحمه الله: قدوم الاشعريين وأهل اليمن ثم روى من حديث شعبة، عن سليمان بن مهران الاعمش، عن ذكوان أبي صالح السمان، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الايمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الابل، والسكينة والوقار في أهل الغنم " ورواه مسلم من حديث شعبة.
ثم رواه البخاري عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الاعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال " أتاكم أهل اليمن أضعف قلوبا وأرق
أفئدة.
الفقه يمان، والحكمة يمانية ".
ثم روى عن إسماعيل، عن سليمان، عن ثور عن أبي الغيث (2) عن أبي هريرة.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الايمان يمان، والفتنة ها هنا، ها هنا يطلع قرن الشيطان " ورواه مسلم عن شعيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
ثم روى البخاري من حديث شعبة، عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الايمان ها هنا وأشار بيده إلى اليمن، والجفاء وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الابل، من حديث يطلع قرنا الشيطان ربيعة ومضر " وهكذا رواه البخاري أيضا ومسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو.
ثم روى من حديث سفيان الثوري، عن أبي صخرة جامع بن شداد، ثنا صفوان بن محرز عن عمران بن حصين.
قال: جاءت بنو تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ابشروا يا بني تميم " فقالوا: أما إذ
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (75) باب، الحديث (4392) و (4393).
(2) في نسخ البداية المطبوعة: أبو المغيث، وفي البخاري أبو الغيث واسمه سالم.
(*)

(5/81)


بشرتنا فأعطنا فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ناس من أهل اليمن فقال: " اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم " فقالوا: قبلنا يا رسول الله (1) وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري به وهذا كله مما يدل على فضل وفود أهل اليمن وليس فيه تعرض لوقت وفودهم، ووفد بني تميم وإن كان متأخرا قدومهم لا يلزم من هذا أن يكون مقارنا لقدوم الاشعريين بل الاشعريين متقدم وفدهم على هذا فإنهم قدموا صحبة أبي موسى الاشعري في صحبة جعفر بن أبي طالب، وأصحابه من المهاجرين الذين كانوا بالحبشة، وذلك كله حين فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر كما قدمناه مبسوطا في موضعه، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: " والله ما أدري بأيهما أسر أبقدوم جعفر أو بفتح خيبر " والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال البخاري (2): قصة عمان والبحرين حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا سفيان سمع محمد بن المنكدر سمع جابر بن عبد الله يقول: قال
لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا " ثلاثا فلم يقدم مال البحرين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم على أبي بكر أمر مناديا فنادى: من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم دين أو عدة فليأتني.
قال جابر: فجئت أبا بكر فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا ثلاثا " قال: فأعرض عني قال جابر فلقيت أبا بكر بعد ذلك فسألته فلم يعطني ثم أتيته فلم يعطني ثم أتيته الثالثة فلم يعطني فقلت له: قد أتيتك فلم تعطني، ثم أتيتك فلم تعطني، فأما أن تعطني وإما أن تبخل عني.
قال: قلت تبخل عني ؟ قال: وأي داء أدوأ من البخل ؟ قالها ثلاثا ما منعتك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك وهكذا رواه البخاري ها هنا وقد رواه مسلم عن عمرو الناقد عن سفيان بن عيينة به ثم قال البخاري بعده: وعن عمرو عن محمد بن علي: سمعت جابر بن عبد الله يقول: جئته فقال لي أبو بكر: عدها فعددتها فوجدتها خمسمائة، فقال: خذ مثلها مرتين.
وقد رواه البخاري أيضا عن علي بن المديني، عن سفيان هو ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي أبي جعفر الباقر، عن جابر كروايته له عن قتيبة ورواه أيضا هو ومسلم من طرق أخر عن سفيان بن عيينة عن عمرو، عن محمد بن علي، عن جابر بنحوه.
وفي رواية أخرى له: أنه أمره فحثى بيديه من دراهم فعدها فإذا هي خمسمائة فأضعفها له مرتين يعني فكان جملة ما أعطاه ألفا وخمسمائة درهم.
__________
(1) الاحاديث رواها البخاري في كتاب المغازي (74) باب قدوم الاشعريين وأهل اليمن الاحاديث من (4386 - 4390) ومسلم في كتاب الايمان (21) باب الحديث (89) عن أبي اليمان، عن شعيب عن الزهري.
(2) في كتاب المغازي (73) باب قصة عمان والبحرين.
(*)

(5/82)


وفود فروة بن مسيك المرادي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق: وقدم فروة بن مسيك المرادي (1) مفارقا لملوك كندة ومباعدا لهم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بين قومه مراد وبين همدان وقعة قبيل الاسلام أصابت همدان من قومه حتى
أثخنوهم وكان ذلك في يوم يقال له الردم وكان الذي قاد همدان إليهم الاجدع بن مالك قال ابن هشام ويقال مالك بن خريم الهمداني.
قال ابن إسحاق فقال فروة بن مسيك في ذلك اليوم: مررن على لفات وهن خوص * ينازعن الاعنة ينتحينا (2) فإن نغلب فغلابون قدما * وان نغلب فغير مغلبينا وما إن طبنا جبن ولكن * منايانا وطعمة آخرينا كذاك الدهر دولته سجال * تكز صروفه حينا فحينا فبينا ما نسر به ونرضى * ولو لبست غضارته سنينا إذا انقلبت به كرات دهر * فألفى في الاولى غبطوا طحينا فمن يغبط بريب الدهر منهم * يجد ريب الزمان له خؤنا فلو خلد الملوك إذا خلدنا * ولو بقى الكرام إذا بقينا فأفنى ذلكم سروات قومي * كما أفنى القرون الاولينا قال ابن إسحاق ولما توجه فروة بن مسيك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقا ملوك كندة قال: لما رأيت ملوك كندة أعرضت * كالرجل خان الرجل عرق نسائها قربت راحلتي أؤم محمدا * أرجو فواضلها وحسن ثرائها (3) قال: فلما انتهى فروة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: - فيما بلغني - يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم.
فقال: يا رسول الله من ذا الذي يصيب قومه ما أصاب قومي يوم الردم لا يسوءه ذلك ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إن ذلك لم يزد قومك في الاسلام إلا خيرا " واستعمله على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
__________
(1) انظر ترجمته في الاصابة وأسد الغابة 4 / 180.
وراجع خبر قدومه إلى النبي صلى الله عليه وآله في طبقات ابن سعد (1 / 328) وسيرة ابن هشام 4 / 228 وعيون الاثر 2 / 305 ونهاية الارب 2 / 239 ودلائل البيهقي 5 / 368.
(2) لفات: من ديار مراد، ولفات: بالكسر: موضع بين مكة والمدينة (معجم ما استعجم).
(3) قال أبو عبيدة: أرجو فواضله وحسن ثنائها.
وفي الاغاني: وحسن ثراها.
(4) الخبر في سيرة ابن هشام ج 4 / 228، ونقله عنه البيهقي في الدلائل ج 5 / 368.
(*)

(5/83)