البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
البداية
والنهاية - ابن كثير ج 8
البداية والنهاية
ابن كثير ج 8
(8/)
البداية
والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى
سنة 774 ه حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الثامن دار
احياء التراث العربي
(8/1)
بسم الله
الرحمن الرحيم
فصل في ذكر شئ من سيرته الفاضلة ومواعظه
وقضاياه الفاصلة وخطبه وحكمه التي هي إلى القلوب واصلة
قال عبد الوارث: عن أبي عمرو بن العلاء عن أبيه قال: خطب علي الناس
فقال: أيها الناس ! والله الذي لا إله إلا هو ما زريت من مالكم قليلا
ولا كثيرا إلا هذه - وأخرج قارورة من كم قميصه فيها طيب -.
فقال: أهداها إلي الدهقان، - وفي رواية بضم الدال -، وقال: ثم أتى بيت
المال فقال: خذوا وأنشأ يقول: أفلح من كانت له قوصرة
* يأكل منها كل يوم تمرة وفي رواية:
مرة.
وفي رواية طوبى لمن كانت له قوصرة (1).
وقال حرملة: عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة عن عبد الله بن
أبي رزين الغافقي قال: دخلنا مع علي يوم الاضحى فقرب إلينا خزيرة
فقلنا: أصلحك الله لو قدمت إلينا هذا البط والاوز، فإن الله قد أكثر
الخير فقال: يا بن رزين إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "
لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة
يطعمها بين الناس ".
وقال الامام أحمد: حدثنا حسن وأبو
سعيد مولى بني هاشم قالا: ثنا ابن لهيعة، ثنا عبد الله بن هبيرة، عن
عبد الله بن رزين أنه قال: دخلت على علي بن أبي طالب، قال حسن يوم
الاضحى: فقرب إلينا خزيرة، فقلنا: أصلحك الله لو أطعمتنا هذا البط ؟ -
يعني الاوز - فإن الله قد أكثر الخير، قال: يا بن رزين إني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل للخليفة من مال الله إلا
قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله،
__________
(1) قوصرة: وعاء للتمر، وقد تخفف (قاموس) وتقوصر: دخل بعضه في بعض.
(*)
(8/3)
وقصعة يضعها
بين يدي الناس " (1) وقال أبو عبيد: ثنا عباد بن العوام، عن مروان بن
عنترة، عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب بالخورنق وعليه قطيفة
وهو يرعد من البرد فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولاهل
بيتك نصيبا في هذا المال وأنت ترعد من البرد ؟ فقال: إني والله لا أرزأ
من مالكم شيئا، وهذه القطيفة هي التي خرجت بها من بيتي - أو قال من
المدينة - وقال أبو نعيم: سمعت سفيان الثوري يقول: ما بنى علي لبنة ولا
قصبة على لبنة، وإن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو بكر الحميدي ثنا سفيان أبو حسان عن مجمع
بن سمعان التيمي قال: خرج علي بن أبي طالب بسيفه إلى السوق فقال: من
يشتري مني سيفي هذا ؟ فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزارا ما
بعته.
وقال الزبير بن بكار: حدثني سفيان عن جعفر قال - أظنه عن أبيه - إن
عليا كان إذا لبس قميصا مد يده في كمه فما فضل من الكم عن أصابعه قطعه
وقال: ليس للكم فضل عن الاصابع.
وقال أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم عن ابن عباس قال:
اشترى علي قميصا بثلاثة دراهم وهو خليفة وقطع كمه من موضع الرسغين،
وقال: الحمد لله الذي هذا من رياشه.
وروى الامام أحمد في الزهد: عن عباد بن العوام، عن هلال بن حبان، عن
مولى لابي غصين قال: رأيت عليا خرج فأتى رجلا من أصحاب الكرابيس فقال
له: عندك قميص سنبلاني ؟ قال: فأخرج إليه قميصا فلبسه فإذا هو إلى نصف
ساقيه، فنظر عن يمينه وعن شماله فقال: ما أرى إلا قدرا حسنا، بكم هذا ؟
قال: بأربعة دراهم يا أمير المؤمنين، قال: فحلها من إزاره فدفعها إليه
ثم انطلق.
وقال
محمد بن سعد: أنا الفضل بن دكين أنا الحسن (2) بن جرموز عن أبيه قال:
رأيت عليا وهو يخرج من القصر وعليه قبطيتان (3) إزار إلى نصف الساق
ورداء مشمر قريب منه، ومعه درة له يمشي بها في الاسواق ويأمر الناس
بتقوى الله وحسن البيع ويقول: أوفوا الكيل والميزان، ويقول: لا تنفخوا
اللحم.
وقال عبد الله بن المبارك في الزهد: أنا رجل حدثني صالح بن ميثم، ثنا
يزيد بن وهب الجهني قال: خرج علينا علي بن أبي طالب ذات يوم وعليه
بردان متزر بأحدهما مرتد بالآخر قد أرخى جانب إزاره ورفع جانبا، قد رفع
إزاره بخرقة فمر به أعرابي فقال: أيها الانسان البس من هذه الثياب فإنك
ميت أو مقتول.
فقال: أيها الاعرابي إنما ألبس هذين الثوبين ليكونا أبعد لي من الزهو،
وخيرا لي في صلاتي، وسنة للمؤمن.
قال عبد بن حميد: ثنا محمد بن عبيد، ثنا المختار بن نافع، عن أبي مطر
قال: خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي: إرفع إزارك فإنه أبقى
لثوبك وأتقى لك، وخذ من رأسك إن كنت مسلما، فمشيت خلفه وهو مؤتزر بإزار
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 78.
(2) في ابن سعد 3 / 28: الحر.
(3) في ابن سعد: قطريتان، وثياب قطرية بالكسر: على غير قياس (قاموس).
(*)
(8/4)
ومرتد برداء
ومعه الدرة كأنه أعرابي بدوي فقلت: من هذا ؟ فقال لي رجل: أراك غريبا
بهذا البلد.
فقلت: أجل أنا رجل من أهل البصرة، فقال: هذا علي بن أبي طالب أمير
المؤمنين حتى انتهى إلى دار بني أبي معيط وهو يسوق الابل، فقال: بيعوا
ولا تحلفوا فإن اليمين تنفق السلعة وتمحق البركة، ثم أتى أصحاب التمر
فإذا خادم تبكي فقال: ما يبكيك ؟ فقالت: باعني هذا الرجل تمرا بدرهم
فرده موالي فأبى أن يقبله، فقال له علي: خذ تمرك واعطها درهما فإنها
ليس لها أمر، فدفعه، فقلت: أتدري من هذا ؟ فقال: لا فقلت: هذا علي بن
أبي طالب أمير المؤمنين، فصبت تمره وأعطاها درهما.
ثم قال الرجل: أحب أن ترضى عني يا أمير المؤمنين، قال: ما أرضاني عنك
إذا أوفيت الناس حقوقهم، ثم مر مجتازا بأصحاب التمر فقال: يا أصحاب
التمر
اطعموا المساكين يرب كسبكم.
ثم مر مجتازا ومعه المسلمون حتى انتهى إلى أصحاب السمك فقال: لا يباع
في سوقنا طافي.
ثم أتى دار فرات - وهي سوق الكرابيس - فأتى شيخا فقال: يا شيخ أحسن
بيعي في قميص بثلاثة دراهم، فلما عرفه لم يشتر منه شيئا، ثم آخر فلما
عرفه لم يشتر منه شيئا، فأتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم
وكمه ما بين الرسغين إلى الكعبين يقول في لبسه: الحمد لله الذي رزقني
من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي.
فقيل له: يا أمير المؤمنين هذا شئ ترويه عن نفسك أو شئ سمعته من رسول
الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: لا ! بل شئ سمعته من رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول عند الكسوة.
فجاء أبو الغلام صاحب الثوب فقيل له: يا فلان قد باع ابنك اليوم من
أمير المؤمنين قميصا بثلاثة دراهم، قال: أفلا أخذت منه درهمين ؟ فأخذ
منه أبوه درهما ثم جاء به إلى أمير المؤمنين وهو جالس مع المسلمين على
باب الرحبة فقال: امسك هذا الدرهم.
فقال: ما شأن هذا الدرهم ؟ فقال إنما ثمن القميص درهمين، فقال: باعني
رضاي وأخذ رضاه.
وقال عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي عن الشعبي قال: وجد علي بن أبي طالب
درعه عند رجل نصراني فأقبل به إلى شريح يخاصمه، قال: فجاء علي حتى جلس
جنب شريح وقال: يا شريح لو كان خصمي مسلما ما جلست إلا معه، ولكنه
نصراني وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كنتم وإياهم في
طريق فاضطروهم إلى مضايقه، وصغروا بهم كما صغر الله بهم من غير أن
تطغوا " ثم قال: هذا الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، فقال شريح للنصراني:
ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي
وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى علي فقال: يا أمير
المؤمنين هل من بينة ؟ فضحك علي وقال أصاب شريح، مالي بينة، فقضى بها
شريح للنصراني، قال فأخذه النصراني ومشى خطأ ثم رجع فقال: أما أنا
فأشهد أن هذه أحكام الانبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه يقضي
عليه، أشهد إن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الدرع
والله درعك يا أمير المؤمنين اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من
بعيرك الاورق.
فقال: أما إذ أسلمت فهي لك، وحمله على فرس.
قال الشعبي: فأخبرني من رآه يقاتل الخوارج يوم النهروان.
وقال سعيد بن عبيد عن
علي بن ربيعة: جاء جعدة بن هبيرة إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين يأتيك
الرجلان أنت أحب إلى
(8/5)
أحدهما من أهله
وماله، والآخر لو يستطيع أن يذبحك لذبحك، فتقضي لهذا على هذا ؟ قال:
فلهزه علي وقال: إن هذا شئ لو كان لي فعلت، ولكن إنما ذا شئ لله.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثني جدي ثنا علي بن هاشم عن صالح بياع
الاكسية عن جدته قالت: رأيت عليا اشترى تمرا بدرهم فحمله في محلفته
فقال رجل: يا أمير المؤمنين ألا تحمله عنك ؟ فقال: أبو العيال أحق
بحمله.
وعن أبي هاشم عن زاذان قال: كان علي يمشي في الاسواق وحده وهو خليفة
يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ
* (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا)
* [ القصص: 83 ]، ثم يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من
الولاة وأهل القدرة من سائر الناس.
وعن عبادة بن زياد، عن صالح بن أبي الاسود، عمن حدثه أنه رأى عليا قد
ركب حمارا ودلى رجليه إلى موضع واحد ثم قال: أنا الذي أهنت الدنيا.
وقال يحيى بن معين: عن علي بن الجعد عن الحسن بن صالح قال: تذاكروا
الزهاد عند عمر بن عبد العزيز فقال قائلون: فلان، وقال قائلون: فلان،
فقال عمر بن عبد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.
وقال هشام بن حسان: بينا نحن عند الحسن البصري إذ أقبل رجل من الازارقة
فقال: يا أبا سعيد ما تقول في علي بن أبي طالب ؟ قال: فاحمرت وجنتا
الحسن وقال: رحم الله عليا، إن عليا كان سهما لله صائبا في أعدائه،
وكان في محلة العلم أشرفها وأقربها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكان رهباني هذه الامة، لم يكن لمال الله بالسروقة، ولا في أمر الله
بالنومة، أعطى القرآن عزائمه وعمله وعلمه، فكان منه في رياض مونقة،
وأعلام بينة، ذاك علي بن أبي طالب يالكع.
وقال هشيم عن يسار عن عمار.
قال: حدث رجل علي بن أبي طالب بحديث فكذبه فما قام حتى عمي: وقال أبو
بكر بن أبي الدنيا: حدثني شريح بن يونس، ثنا هشيم، عن إسماعيل بن سالم،
عن عمار الحضرمي، عن زاذان، أبي عمر: أن رجلا حدث عليا بحديث فقال: ما
أراك إلا قد كذبتني، قال: لم أفعل قال: أدعو
عليك إن كنت كذبت، قال: ادع ! فدعا فما برح حتى عمي.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا خلف بن سالم، ثنا محمد بن بشر، عن أبي مكين
قال: مررت أنا وخالي أبو أمية على دار في محل حي من مراد، قال: ترى هذه
الدار ؟ قلت: نعم ! قال: فإن عليا مر عليها وهم يبنونها فسقطت عليه
قطعة فشجته فدعا الله أن لا يكمل بناؤها، قال: فما وضعت عليها لبنة،
قال: فكنت فيمن يمر عليها لا تشبه الدور.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني عبد الله بن يونس بن بكر الشيباني، عن
أبيه، عن عبد الغفار بن القاسم الانصاري، عن أبي بشير الشيباني.
قال شهدت الجمل مع مولاي فما رأيت يوما قط أكثر ساعدا نادرا وقدما
نادرة من يومئذ، ولا مرر ؟ بدار الوليد قط إلا ذكرت يوم الجمل قال:
فحدثني الحكم بن عيينة أن عليا دعا يوم الجمل فقال اللهم خذ أيديهم
وأقدامهم.
ومن كلامه الحسن رضي الله عنه.
قال ابن أبي الدنيا: حدثنا علي بن الجعد، أنا عمرو
(8/6)
شمر، حدثني
إسماعيل السدي، سمعت أبا أراكة يقول: صليت مع علي صلاة الفجر فلما
انفتل عن يمينه مكث كأن عليه كآبة حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد
قيد رمح صلى ركعتين ثم قلب يده فقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئا يشبههم، لقد كانوا يصبحون صفرا شعثا
غبرا بين أعينهم كأمثال ركب المعزى، قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون
كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله
مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تنبل ثيابهم،
والله لكأن القوم باتوا غافلين، ثم نهض فما رئي بعد ذلك مفترا يضحك حتى
قتله ابن ملجم عدو الله الفاسق.
وقال وكيع: عن عمرو بن منبه، عن أوفى بن دلهم، عن علي بن أبي طالب أنه
قال: تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا تكونوا من أهله، فإنه يأتي من
بعدكم زمان ينكر فيه من الحق تسعة أعشاره، وإنه لا ينجو منه إلا كل
أواب منيب، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم ليسوا بالعجل المذابيع
البذر، ثم قال: ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد أتت
مقبلة، ولكل واحدة بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا
من أبناء الدنيا، ألا وإن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الارض بساطا،
والتراب فراشا، والماء طيبا، ألا من اشتاق إلى الآخرة سلا عن الشهوات،
ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن طلب الجنة سارع إلى الطاعات،
ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، ألا إن لله عبادا كمن رأى أهل
الجنة في الجنة مخلدين، وأهل النار في النار معذبين، شرورهم مأمونة،
وقلوبهم محزونة، وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلة
لعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافون أقدمهم، تجري دموعهم على خدودهم،
يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم.
وأما النهار فظماء حلماء بررة أتقياء، كأنهم القداح ينظر إليهم الناظر
فيقول مرضى وما بالقوم من مرض، وخولطوا ولقد خالط القوم أمر عظيم.
وعن الاصبغ بن نباتة قال: صعد علي ذات يوم المنبر فحمد الله وأثنى عليه
وذكر الموت فقال: عباد الله الموت ليس منه فوت، إن أقمتم له أخذكم، وإن
فررتم منه أدرككم، فالنجا النجا، والوحا الوحا، إن وراءكم طالب حثيث
القبر فاحذورا ضغطته وظلمته ووحشته، ألا وإن القبر حفرة من حفر النار،
أو روضة من رياض الجنة، ألا وإنه يتكلم في كل يوم ثلاث مرات فيقول: أنا
بيت الظلمة، أنا بيت الدود، أنا بيت الوحشة، ألا وإن وراء ذلك يوم يشيب
فيه الصغير ويسكر فيه الكبير، * (وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس
سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) * [ الحج: 2 ] ألا وإن وراء
ذلك ما هو أشد منه، نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وحليها ومقامعها حديد،
وماؤها صديد، وخازنها مالك ليس لله فيه رحمة.
قال: ثم بكى وبكى المسلمون حوله، ثم قال: ألا وإن وراء ذلك جنة عرضها
السموات والارض أعدت للمتقين، جعلنا الله وإياكم من المتقين، وأجارنا
وإياكم من العذاب الاليم.
ورواه ليث بن أبي سليم عن مجاهد: حدثني من سمع عليا فذكر نحوه.
وقال وكيع عن عمرو بن منبه عن أوفى بن دلهم قال: خطب علي فقال: أما بعد
فإن الدنيا
(8/7)
قد أدبرت وآذنت
بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وإن المضمار اليوم وغدا
السباق، ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل (1)، فمن قصر في أيام أمله
قبل حضور أجله فقد
خاب عمله، ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون له في الرهبة، ألا
وإنه لم أر كالجنة نام طالبها، ولم أر كالنار نام هاربها (2)، وإنه من
لم ينفعه الحق ضره بالباطل، ومن لم يستقم به الهدى حاد به الضلال، ألا
وإنكم قد أمرتم بالظعن، وذللتم على الزاد، ألا أيها الناس إنما الدنيا
عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك
قادر، ألا إن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة
منه وفضلا والله واسع عليم.
أيها الناس: أحسنوا في أعماركم تحفظوا في أعقابكم، فإن الله وعد جنته
من أطاعه، وأوعد ناره من عصاه.
إنها نار لا يهدأ زفيرها، ولا يفك أسيرها، ولا يجبر كسيرها، حرها شديد،
وقعرها بعيد، وماؤها صديد، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول
الامل.
وفي رواية فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وإن طول الامل ينسي الآخرة.
وعن عاصم بن ضمرة قال: ذم رجل الدنيا عند علي فقال علي: الدنيا دار صدق
لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنا وزاد لمن تزود منها،
ومهبط وحي الله، ومصلى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا
فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها وقد آذنت بغيلها،
ونادت بفراقها، وشابت بشرورها السرور، وببلائها الرغبة فيها والحرص
عليها ترغيبا وترهيبا، فيا أيها الذام للدنيا المعلل نفسه بالامالي متى
خدعتك الدنيا أو متى اشتدمت إليك ؟ أبمصارع آبائك في البلا ؟ أم بمضاجع
أمهاتك تحت الثرى ؟ كم مرضت بيديك، وعللت بكفيك، ممن تطلب له الشفاء،
وتستوصف له الاطباء، لا يغني عنه دواؤك، ولا ينفعه بكاؤك.
وقال سفيان الثوري والاعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري.
قال: جاء رجل إلى علي فأطراه - وكان يبغض عليا - فقال له: لست كما
تقول، وأنا فوق ما في نفسك.
وروى ابن عساكر أن رجلا قال لعلي: ثبتك الله قال: على صدرك.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا إسحاق بن إسماعيل ثنا سفيان بن عيينة عن
أبي حمزة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، قال قال علي: إن الامر
ينزل إلى السماء كقطر المطر لكل نفس ما كتب الله لها من زيادة أو نقصان
في نفس أو أهل أو مال، فمن رأى نقصا في نفسه أو أهله أو ماله، ورأى
لغيره عثرة فلا يكونن ذلك له فتنة، فإن المسلم ما لم يعش دناه يظهر
تخشعا لها
إذا ذكرت، ويغرى به لئام الناس، كالبائس العالم ينتظر أول فورة من
قداحه توجب له المغنم، وتدفع عنه المغرم فكذلك المسلم البرئ من الخيانة
بين إحدى الحسنيين، إذا ما دعا الله، فما عند
__________
(1) بعدها في النهج شرح محمد عبده ص 125: فمن عمل في أيام أمله قبل
حضور أجله نفعه عمله.
ولم يضرره أجله.
(2) قال شارح النهج محمد عبده: من العجائب الذي لم ير له مثيل أن ينام
طالب الجنة في عظمها واستكمال أسباب السعادة فيها، وأن ينام الهارب من
النار في هولها واستجماعها أسباب الشقاء.
(*)
(8/8)
الله خير له،
وإما أن يرزقه الله مالا فإذا هو ذو أهل ومال ومعه حسبه ودينه، وإما أن
يعطيه الله في الآخرة فالآخرة خير وأبقى، الحرث حرثان فحرث الدنيا
المال والتقوى، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات، وقد يجمعهما الله تعالى
لاقوام.
قال سفيان الثوري: ومن يحسن أن يتكلم بهذا الكلام إلا علي ؟ وقال عن
زبيد اليامي عن مهاجر العامري قال: كتب علي بن أبي طالب عهدا لبعض
أصحابه (1) على بلد فيه: أما بعد فلا تطولن حجابك (2) على رعيتك، فإن
احتجاب الولاة عن الرعية شعبة الضيق، وقلة علم بالامور، والاحتجاب يقطع
عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيضعف عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح
الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما
يواري عنه الناس به من الامور، وليس على القوم (3) سمات يعرف بها ضروب
الصدق من الكذب، فتحصن من الادخال في الحقوق بلين الحجاب، فإنما أنت
أحد الرجلين، إما امرؤ شحت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من حق
واجب عليك أن تعطيه ؟ وخلق كريم تسديه ؟ وإما مبتلى بالمنع والشح فما
أسرع زوال نعمتك، وما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا يئسوا من ذلك (4)،
مع أن أكثر حاجات الناس إليك مالا مؤنة فيه عليك من شكاية مظلمة أو طلب
انصاف، فانتفع بما وصفت لك واقتصر على حظك ورشدك إن شاء الله.
وقال المدائني: كتب علي إلى بعض عماله: رويدا فكأن قد بلغت المدى،
وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي المغتر بالحسرة، ويتمنى المضيع
التوبة، والظالم الرجعة.
وقال
هشيم: أنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي قال: كان أبو بكر يقول الشعر،
وكان عمر يقول الشعر، وكان علي يقول الشعر، وكان علي أشعر الثلاثة.
ورواه هشام بن عمار عن إبراهيم بن أعين عن عمر بن أبي زائدة عن عبد
الله بن أبي السفر عن الشعبي فذكره.
وقال أبو بكر بن دريد قال: وأخبرنا عن دماد عن أبي عبيدة قال: كتب
معاوية إلى علي: يا أبا الحسن إن لي فضائل كثيرة، وكان أبي سيدا في
الجاهلية، وصرت ملكا في الاسلام، وأنا صهر رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وخال المؤمنين، وكاتب الوحي.
فقال علي: ابا الفضائل يفخر علي ابن آكلة الاكباد ؟ ثم قال: اكتب يا
غلام: محمد النبي أخي وصهري * وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يمسي
ويضحي * يطير مع الملائكة ابن أمي
__________
(1) العهد الذي كتبه للاشتر النخعي لما ولاه - رضي الله عنه - على مصر
وأعمالها وهو أطول عهد وأجمع كتبه.
انظر نصه في نهج البلاغة شرح محمد عبده ص 599 وما بعدها.
(2) في النهج: احتجابك.
(3) في النهج: الحق.
وسمات جمع سمة.
أي ليس للحق علامات ظاهرة يتميز بها الصدق من الكذب وإنما يعرف ذلك
بالامتحان ولا يكون إلا بالمحافظة.
(4) في النهج: بذلك، والبذل: العطاء.
(*)
(8/9)
وبنت محمد سكني
وعرسي * مسوط لحمها بدمي ولحمي (1) وسبطا أحمد ولداي منها * فأيكم له
سهم كسهمي سبقتكم إلى الاسلام طرا * صغيرا ما بلغت أوان حلمي (2) قال
فقال معاوية: اخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلون إلى ابن أبي
طالب.
وهذا منقطع بين أبي عبيدة وزمان علي ومعاوية.
وقال الزبير بن بكار وغيره: حدثني بكر بن حارثة عن الزهري عن عبد
الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله قال: سمعت عليا ينشد
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع: أنا أخو المصطفى لا شك في نسبي *
معه ربيت وسبطاه هما ولدي جدي وجد رسول الله منفرد * وفاطم زوجتي لا
قول ذي فند صدقته وجميع الناس في بهم * من الضلالة والاشراك والنكد
فالحمد لله شكرا لا شريك له * البر بالعبد والباقى بلا أمد قال: فتبسم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " صدقت يا علي " وهذا بهذا الاسناد
منكر والشعر فيه ركاكة، وبكر هذا لا يقبل منه تفرده بهذا السند والمتن
والله أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر من طريق أبي زكريا الرملي: ثنا يزيد بن هارون،
عن نوح بن قيس، عن سلامة الكندي عن الاصبغ ابن نباتة عن علي أنه جاءه
رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة فرفعتها إلى الله قبل أن
أرفعها إليك، فإن أنت قضيتها حمدت الله وشكرتك، وإن أنت لم تقضها حمدت
الله وعذرتك.
فقال علي: اكتب حاجتك على الارض فإني أكره أن أرى ذل السؤال في وجهك،
فكتب: إني محتاج، فقال علي: علي بحلة، فأتي بها فأخذها الرجل فلبسها،
ثم أنشأ يقول: كسوتني حلة تبلى محاسنها * فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا
إن نلت حسن ثنائي نلت مكرمة * ولست أبغي بما قد قلته بدلا إن الثناء
ليحيى ذكر صاحبه * كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا لا تزهد الدهر في
خير تواقعه * فكل عبد سيجزي بالذي عملا فقال علي: علي بالدنانير فأتي
بمائة دينار فدفعها إليه، قال الاصبغ: فقلت يا أمير المؤمنين حلة ومائة
دينار ؟ قال: نعم ! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنزلوا
الناس منازلهم " وهذه منزلة هذا الرجل عندي.
وروى الخطيب البغدادي من طريق أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن
__________
(1) مسوط: مختلط.
(2) طرا: طلوع الشارب.
(*)
(8/10)
نبيط بن شريط
عن أبيه عن جده قال: قال علي بن أبي طالب: إذا اشتملت على الناس القلوب
* وضاق بما به الصدر الرحيب وأوطنت المكاره واطمأنت * وأرست في أماكنها
الخطوب ولم تر لانكشاف الضر وجها * ولا أغنى بحيلته الاريب أتاك على
قنوط منك غوث * يمن به القريب المستجيب وكل الحادثات إذا تناهت *
فموصول بها الفرج القريب ومما أنشده أبو بكر محمد بن يحيى الصولي لامير
المؤمنين علي بن أبي طالب: ألا فاصبر على الحدث الجليل * وداو جواك
بالصبر الجميل ولا تجزع فإن أعسرت يوما * فقد أيسرت في الدهر الطويل
ولا تظنن بربك ظن سوء * فإن الله أولى بالجميل فإن العسر يتبعه يسار *
وقول الله أصدق كل قبل فلو أن العقول تجر رزقا * لكان الرزق عند ذوي
العقول فكم من مؤمن قد جاع يوما * سيروى من رحيق السلسبيل فمن هوان
الدنيا على الله أنه سبحانه يجيع المؤمن مع نفاسته، ويشبع الكلب مع
خساسته، والكافر يأكل ويشرب، ويلبس ويتمتع، والمؤمن يجوع ويعرى، وذلك
لحكمة اقتضتها حكمة أحكم الحاكمين.
ومما أنشده علي بن جعفر الوراق لامير المؤمنين علي بن أبي طالب: أجد
الثياب إذا اكتسيت فإنها * زين الرجال بها تعز وتكرم ودع التواضع في
الثياب تخشعا * فالله يعلم ما تجن وتكتم فرثاث ثوبك لا يزيدك زلفة *
عند الاله وأنت عبد مجرم وبهاء ثوبك لا يضرك بعد أن * تخشى الاله وتتقي
ما يحرم وهذا كما جاء في الحديث: " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى
ثيابكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " وقال الثوري: ليس الزهد في
الدنيا بلبس العبا ولا بأكل الخشن، إنما الزهد
في الدنيا قصر الامل.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الاكبر المبرد: كان مكتوبا على
سيف علي: للناس حرص على الدنيا وتدبير * وفي مراد الهوى عقل وتشمير وإن
أتوا طاعة لله ربهم * فالعقل منهم عن الطاعات مأسور لاجل هذا وذاك
الحرص قد مزجت * صفاء عيشاتها هم وتكدير لم يرزقوها بعقل عند ما قسمت *
لكنهم رزقوها بالمقادير
(8/11)
كمن من أديب
لبيب لا تساعده * ومائق نال دنياه بتقصير لو كان عن قوة أو عن مغالبة *
طار البزاة بأرزاق العصافير وقال الاصمعي: ثنا سلمة بن بلال، عن مجالد،
عن الشعبي قال: قال علي بن أبي طالب لرجل كره له صحبة رجل: فلا تصحب
أخا الجه * - ل وإياك وإياه فكم من جاهل جاهل * أودى حليما حين آخاه
يقاس المرء بالمر * ء وإذا ما المرء ماشه وللشئ على الشي * مقاييس
وأشباه وللقلب على القل * - ب دليل حين يلقاه وعن عمرو بن العلاء عن
أبيه قال: وقف علي على قبر فاطمة وأنشأ يقول: ذكرت أبا أروى فبت كأنني
* برد الهموم الماضيات وكيل لكل اجتماع من خليلين فرقة * وكل الذي قبل
الممات قليل وإن افتقادي واحدا بعد واحد * دليل على أن لا يدوم خليل
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي * ويحدث بعدي للخليل خليل إذا انقطعت يوما
من العيش مدتي * فإن غناء الباكيات قليل
وأنشد بعضهم لعلي رضي الله عنه: حقيق بالتواضع من يموت * ويكفي المرء
من دنياه قوت فما للمرء يصبح ذا هموم * وحرص ليس تدركه النعوت صنيع
مليكنا حسن جميل * وما أرزاقه عنا تفوت فيا هذا سترحل عن قليل * إلى
قوم كلامهم السكوت وهذا الفصل يطول استقصاؤه وقد ذكرنا منه ما فيه مقنع
لمن أراده ولله الحمد والمنة.
وقال حماد بن سلمة عن أيوب السختياني أنه قال: من أحب أبا بكر فقد أقام
الدين ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور
الله، ومن أحب عليا فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق.
غريبة من الغرائب وآبدة من الاوابد قال ابن أبي خيثمة: ثنا أحمد بن
منصور ثنا سيار ثنا عبد الرزاق قال: قال معمر مرة وأنا مستقبله وتبسم
وليس معنا أحد فقلت له: ما شأنك ؟ قال: عجبت من أهل الكوفة كأن الكوفة
(8/12)
إنما بنيت على
حب علي، ما كلمت أحدا منهم إلا وجدت المقتصد منهم الذي يفضل عليا على
أبي بكر وعمر، منهم سفيان الثوري، قال: فقلت لمعمر ورأيته ؟ - كأني
أعظمت ذاك - فقال معمر: وما ذاك ؟ لو أن رجلا قال: علي أفضل عندي منهما
ما عبته إذا ذكر فضلهما ولو أن رجلا قال: عمر عندي أفضل من علي وأبي
بكر ما عنفته.
قال عبد الرزاق: فذكرت ذلك لوكيع بن الجراح ونحن خاليين فاستهالها من
سفيان وضحك وقال: لم يكن سفيان يبلغ بنا هذا الحد، ولكنه أفضى إلى معمر
بما لم يفض إلينا، وكنت أقول لسفيان: يا أبا عبد الله أرأيت إن فضلنا
عليا على أبي بكر وعمر ما تقول في ذلك ؟ فيسكت ساعة ثم يقول: أخشى أن
يكون ذلك طعنا على أبي بكر وعمر ولكنا نقف.
قال عبد الرزاق: وأما ابن التيمي - يعني معتمرا - فقال: سمعت أبي يقول:
فضل علي بن أبي طالب بمائة منقبة وشاركهم في مناقبهم، وعثمان أحب إلي
منه.
هكذا رواه ابن عساكر
في تاريخه بسنده عن ابن أبي خيثمة به.
وهذا الكلام فيه تخبيط كثير ولعله اشتبه على معمر فإن المشهور عن بعض
الكوفيين تقديم علي على عثمان، فأما على الشيخين فلا، ولا يخفى فضل
الشيخين على سائر الصحابة إلا على غبي، فكيف يخفى على هؤلاء الائمة ؟
بل قد قال غير واحد من العلماء - كأيوب والدار قطني - من قدم عليا على
عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والانصار.
وهذا الكلام حق وصدق وصحيح ومليح.
وقال يعقوب بن أبي سفيان: ثنا عبد العزيز بن عبد الله الاريسي ثنا
إبراهيم بن سعيد، عن شعبة عن أبي عون - محمد بن عبد الله الثقفي - عن
أبي صالح الحنفي قال: رأيت علي بن أبي طالب أخذ المصحف فوضعه على رأسه
حتى أني لارى ورقه يتقعقع قال ثم قال: اللهم إنهم منعوني أن أقوم في
الامة بما فيه فأعطني ثواب ما فيه، ثم قال: اللهم إني قد مللتهم وملوني
وأبغضتهم وأبغضوني، وحملوني على غير طبيعتي وخلقي وأخلاق لم تكن تعرف
لي، اللهم فأبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا مني، اللهم أمت
قلوبهم موت الملح في الماء.
قال إبراهيم: - يعني أهل الكوفة - وقال ابن أبي الدنيا: حدثني عبد
الرحمن بن صالح، ثنا عمرو بن هشام الخبي، عن أبي خباب عن أبي عوف
الثقفي، عن أبي عبد الرحمن السلمي.
قال: قال لي الحسن بن علي، قال لي علي: " إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم سنح لي الليلة في منامي فقلت: يا رسول الله ما لقيت من أمتك من
الاود واللد ؟ قال: ادع عليهم فقلت: اللهم أبدلني بهم من هو خير لي
منهم، وأبدلهم بي من هو شر مني، فخرج فضربه الرجل - الاود العوج واللد
الخصومة - وقد قدمنا الحديث الوارد بالاخبار بقتله وأنه يخضب لحيته من
قرن رأسه، فوقع كما أخبر صلوات الله وسلامه على رسوله، وروى أبو داود
في كتاب القدر: أنه لما كان أيام الخوارج كان أصحاب علي يحرسونه كل
ليلة عشرة - يبيتون في المسجد بالسلاح - فرآهم علي فقال: ما يجلسكم ؟
فقالوا: نحرسك، فقال: من أهل السماء ؟ ثم قال: إنه لا يكون في الارض شئ
حتى يقضى في السماء، وإن علي من الله جنة حصينة.
وفي رواية: وإن الرجل جنة محصونة، وإنه ليس من الناس أحد إلا وقد وكل
به ملك فلا تريده دابة ولا شئ إلا قال: اتقه اتقه، فإذا جاء
(8/13)
لقدر خلا عنه،
وفي رواية: ملكان يدفعان عنه فإذا جاء القدر خليا عنه، وإنه لا يجد عبد
حلاوة الايمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن
ليصيبه.
وكان علي يدخل المسجد كل ليلة فيصلي فيه، فلما كانت الليلة التي قتل في
صبيحتها قلق تلك الليلة وجمع أهله فلما خرج إلى المسجد صرخ الاوز في
وجهه فسكتوهن عنه فقال: ذروهن فإنهن نوائح، فلما خرج إلى المسجد ضربه
ابن ملجم فكان ما ذكرنا قبل.
فقال الناس: يا أمير المؤمنين ألا نقتل مرادا كلها ؟ فقال: لا ولكن
احبسوه وأحسنوا إساره، فإن مت فاقتلوه وإن عشت فالجروح قصاص.
وجعلت أم كلثوم بنت علي تقول: مالي ولصلاة الغداة، قتل زوجي عمر أمير
المؤمنين صلاة الغداة، وقتل أبي أمير المؤمنين صلاة الغداة، رضي الله
عنها.
وقيل لعلي: ألا تستخلف ؟ فقال: لا ولكن أترككم كما ترككم رسول الله،
فإن يرد الله بكم خيرا يجمعكم على خيركم كما جمعكم على خيركم بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فهذا اعتراف منه في آخر وقت الدنيا بفضل
الصديق.
وقد ثبت عنه بالتواتر أن خطب بالكوفة في أيام خلافته ودار إمارته،
فقال: أيها الناس إن خير هذه الامة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر ولو شئت
أن أسمي الثالث لسميت.
وعنه أنه قال وهو نازل من المنبر: ثم عثمان ثم عثمان.
ولما مات علي ولي غسله ودفنه أهله، وصلى عليه ابنه الحسن وكبر أربعا،
وقيل أكثر من ذلك.
ودفن علي بدار الخلافة بالكوفة وقيل تجاه الجامع من القبلة في حجرة من
دور آل جعدة بن هبيرة، بحذاء باب الوراقين وقيل بظاهر الكوفة، وقيل
بالكناسة، وقيل دفن بالبرية.
وقال شريك القاضي وأبو نعيم الفضل بن دكين: نقله الحسن بن علي بعد صلحه
مع معاوية من الكوفة فدفنه بالمدينة بالبقيع إلى جانب فاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عيسى بن دآب: بل لما تحملوا به حملوه في صندق على بعير، فلما مروا
به ببلاد طئ أضلوا ذلك البعير فأخذته طئ تحسب فيه مالا، فلما وجدوا
بالصندوق ميتا دفنوه في بلادهم فلا يعرف قبره إلى الآن، والمشهور أن
قبره إلى الآن بالكوفة كما ذكر عبد الملك بن عمران أن خالد بن عبد الله
القسري - نائب بني أمية في زمان هشام - لما هدم دورا ليبنيها وجد قبرا
فيه شيخ أبيض الرأس واللحية فإذا هو علي، فأراد أن يحرقه بالنار فقيل
له: أيها الامير إن بني أمية لا يريدون منك هذا كله، فلفه في قباطي
ودفنه
هناك.
قالوا: فلا يقدر أحد أن يسكن تلك الدار التي هو فيها إلا ارتحل منها.
رواه ابن عساكر.
ثم إن الحسن بن علي استحضر عبد الرحمن بن ملجم من السجن، فأحضر الناس
النفط والبواري ليحرقوه، فقالوا لهم أولاد علي: دعونا نشتفي منه، فقطعت
يداه ورجلاه فلم يجزع ولا فتر عن الذكر، ثم كحلت عيناه وهو في ذلك يذكر
الله وقرأ سورة اقرأ باسم ربك إلى آخرها، وإن عينيه لتسيلان على خديه،
ثم حاولوا لسانه ليقطعوه فجزع من ذلك جزعا شديدا، فقيل له في ذلك فقال:
إني أخاف أن أمكث في الدنيا فواقا لا أذكر الله فيه.
فقتل عند ذلك وحرق بالنار، قبحه الله.
قال محمد بن سعد: كان ابن ملجم رجلا أسمر حسن الوجه أبلج، شعره مع شحمة
أذنه، في جبهته أثر السجود.
قال العلماء: ولم ينتظر بقتله بلوغ العباس بن علي فإنه كان صغيرا
(8/14)
يوم قتل أبوه، قالوا: لانه كان قتل محاربة لا قصاصا والله أعلم.
وكان طعن علي يوم الجمعة السابع عشر من رمضان سنة أربعين بلا خلاف فقيل
مات من يومه وقيل يوم الاحد التاسع عشر منه، قال الفلاس: وقيل ضرب ليلة
إحدى وعشرين ومات ليلة أربع وعشرين عن بضع أو ثمان وخمسين سنة، وقيل عن
ثلاث وستين سنة وهو المشهور، قاله محمد بن الحنفية، وأبو جعفر الباقر،
وأبو إسحاق السبيعي، وأبو بكر بن عياش.
وقال بعضهم: عن ثلاث أو أربع وستين سنة، وعن أبي جعفر الباقر خمس وستين
سنة.
وكانت خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر، وقيل أربع سنين وثمانية أشهر
وثلاثة وعشرين يوما، رضي الله عنه.
وقال جرير عن مغيرة قال: لما جاء نعي علي بن أبي طالب إلى معاوية وهو
نائم مع امرأته فاختة بنت قرطة في يوم صائف، جلس وهو يقول: إنا لله
وإنا إليه راجعون، وجعل يبكي فقالت له فاختة: أنت بالامس تطعن عليه
واليوم تبكي عليه، فقال: ويحك إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه
وفضله وسوابقه وخيره.
وذكر ابن أبي الدنيا - في كتاب مكائد الشيطان - أن رجلا من أهل الشام
من أمراء معاوية غضب ذات ليلة على ابنه فأخرجه من منزله، فخرج الغلام
لا يدري أين يذهب، فجلس وراء الباب من خارج فنام ساعة ثم استيقظ وبابه
يخمشه هر أسود بري، فخرج إليه الهر الذي في
منزلهم فقال له البري: ويحك ! افتح فقال: لا أستطيع، فقال: ويحكم ائتني
بشئ أتبلغ به فإني جائع وأنا تعبان، هذا أوان مجيئي من الكوفة، وقد حدث
الليلة حدث عظيم، قتل علي بن أبي طالب، قال: فقال له الهر الاهلي:
والله إنه ليس ها هنا شئ إلا وقد ذكروا اسم الله عليه، غير سفود كانوا
يشوون عليه اللحم، فقال: ائتني به، فجاء به فجعل يلحسه حتى أخذ حاجته
وانصرف، وذلك بمرأى من الغلام ومسمع، فقام إلى الباب فطرقه فخرج إليه
أبوه فقال: من ؟ فقال له: افتح، فقال: ويحك مالك ؟ فقال: افتح، ففتح
فقص عليه خبر ما رأى، فقال له: ويحك أمنام هذا ؟ قال: لا والله، قال:
ويحك ! أفأصابك جنون بعدي ؟ قال لا والله، ولكن الامر كما وصفت لك،
فاذهب إلى معاوية الآن فاتخذ عنده بما قلت لك، فذهب الرجل فاستأذن على
معاوية فأخبره خبر ما ذكر له ولده.
فأرخوا ذلك عندهم قبل مجئ البرد، ولما جاءت البرد وجدوا ما أخبروهم به
مطابقا لما كان أخبر به أبو الغلام، هذا ملخص ما ذكره.
وقال أبو القاسم: ثنا علي بن الجعد ثنا زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن
عمرو بن الاصم قال: قلت للحسين بن علي: إن هذه الشيعة يزعمون أن عليا
مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: كذبوا والله ما هؤلاء بالشيعة، لو علمنا
أنه مبعوث ما زوجنا نساءه ولا قسمنا ماله.
ورواه أسباط بن محمد عن مطرف عن إسحاق عن عمرو بن الاصم عن الحسن بن
علي بنحوه. |