البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة ثمانين من الهجرة النبوية ففيها كان السيل الجحاف (3) بمكة
لانه جحف على كل شئ فذهب به، وحمل الحجاج من بطن مكه الجمال بما عليها،
والرجال والنساء لا يستطيع أحد أن ينقذهم منه، وبلغ الماء إلى الحجون،
وغرق خلق كثير، وقيل إنه ارتفع حتى كاد أن يغطي البيت والله أعلم.
وحكى ابن جرير عن الواقدي أنه قال: كان بالبصرة في هذه السنة الطاعون،
والمشهور أنه كان في سنة تسع وستين كما تقدم.
وفيها قطع المهلب بن أبي صفرة نهر بلخ، وأقام بكش سنتين صابرا مصابرا
للاعداء من الاتراك، وجرت له معهم هناك فصول يطول ذكرها، وفد عليه في
غضون هذه المدة كتاب ابن الاشعث بخلعه الحجاج، فبعثه المهلب برمته إلى
الحجاج حتى قرأه ثم كان ما سيأتي بيانه وتفصيله فيما بعد من حروب ابن
الاشعث، وفي هذه السنة جهز الحجاج الجيوش من البصرة والكوفة وغيرهما
لقتال رتبيل ملك الترك ليقضوا منه ما كان من قتل جيش عبيد الله بن أبي
بكرة في السنة الماضية، فجهز أربعين ألفا من كل من المصرين عشرين ألفا،
وأمر على الجميع عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث مع أنه كان الحجاج يبغضه
جدا، حتى قال ما رأيته قط إلا هممت
__________
(1) انظر الابيات في ابن خلكان 4 / 95 وشعر الخوارج مع تخريجها ص 122 -
123.
(2) بست: بالضم: مدينة بين سجستان وغزنين وهراة، وأظنها من أعمال كابل
(معجم البلدان).
(3) قال البلاذري: سيل الجحاف والجراف أيضا.
والجحاف والجراف بمعنى واحد وهو الذي يجرف كل شئ ويذهب به، وأشار
البلاذري إلى أن السيل كان يوم الاثنين وذلك يوم التروية والحجاج آمنون
غارون وقد نزلوا في وادي مكة (انظر الازرقي أخبار مكة 2 / 168 شفاء
الغرام 2 / 261).
(*)
(9/39)
بقتله، ودخل
ابن الاشعث يوما على الحجاج وعنده عامر الشعبي (1) فقال انظر إلى مشيته
والله لقد هممت أن أضرب عنقه، فأسرها الشعبي إلى ابن الاشعث فقال ابن
الاشعث: وأنا والله لاجهدت أن أزيله عن سلطانه إن طال بي وبه البقاء.
والمقصود أن الحجاج أخذ في استعراض هذه الجنود وبذل فيهم العطاء ثم
اختلف رأيه فيمن يؤمر عليهم، ثم وقع اختياره على عبد الرحمن بن محمد بن
الاشعث، فقدمه عليهم، فأتى عمه إسماعيل بن الاشعث فقال للحجاج: إني
أخاف أن تؤمره فلا ترى لك طاعة إذا جاوز جسر الصراه (2)، فقال: ليس هو
هنالك هو لي حبيب، ومتى أرهب أن يخالف أمري أو يخرج عن طاعتي، فأمضاه
عليهم، فسار ابن الاشعث بالجيوش نحو أرض رتبيل، فلما بلغ رتبيل مجئ ابن
الاشعث بالجنود إليه كتب إليه رتبيل يتعذر مما أصاب المسلمين في بلاده
في السنة الماضية، وأنه كان لذلك كارها، وأن المسلمين هم الذين ألجؤه
إلى قتالهم، وسأل من ابن الاشعث أن يصالحه وأن يبذل للمسلمين الخراج،
فلم يجبه ابن الاشعث إلى ذلك، وصمم على دخول بلاده، وجمع رتبيل جنوده
وتهيأ له ولحربه، وجعل ابن الاشعث كلما دخل بلدا أو مدينة أو أخذ قلعة
من بلاد رتبيل استعمل عليها نائبا من جهته يحفظها له، وجعل المشايخ (3)
على كل أرض ومكان مخوف، فاستحوذ على بلاد ومدن كثيرة من بلاد رتبيل،
وغنم أموالا كثيرة جزيلة، وسبى خلقا كثيرة، ثم حبس الناس عن التوغل في
بلاد رتبيل حتى يصلحوا ما بأيديهم من البلاد، ويتقووا بما فيها من
المغلات والحواصل، ثم يتقدمون في العام المقبل إلى أعدائهم فلا يزالون
يجوزون الاراضي والاقاليم حتى يحاصروا رتبيل وجنوده في مدينتهم مدينة
العظماء على الكنوز والاموال والذراري حتى يغنموها ثم يقتلون مقاتلتهم،
وعزموا على ذلك، وكان هذا هو الرأي، وكتب ابن الاشعث إلى
الحجاج يخبره بما وقع من الفتح وما صنع الله لهم، وبهذا الرأي رآه لهم،
وقال بعضهم كان الحجاج قد وجه هميان بن عدي السدوسي إلى كرمان مسلحة
لاهلها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى ذلك، فعصي هميان ومن معه
على الحجاج، فوجه الحجاج إليه ابن الاشعث فهزمه وأقام ابن الاشعث بمن
معه، ومات عبيد الله بن أبي بكرة فكتب الحجاج إلى ابن الاشعث بإمرة
سجستان مكان ابن أبي بكرة وجهز إلى ابن الاشعث جيشا أنفق عليه ألفي ألف
سوى أعطياتهم، وكان يدعى هذا الجيش جيش الطواويس، وأمره بالاقدام على
رتبيل فكان من أمره معه ما تقدم.
__________
(1) هو عامر بن شراحيل الشعبي، من التابعين، اتصل بعبد الملك بن مروان
فكان نديمه وسميره ورسوله إلى ملك الروم مات سنة 103 ه بالكوفة.
انظر تهذيب التهذيب 5 / 65 وتهذيب ابن عساكر 7 / 138.
(2) في الطبري 8 / 4 وابن الاثير 4 / 455: جسر الفرات، وفي ابن الاعثم
7 / 115 قال: جاءت اخوة عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث منهم قيس واسحاق
والمنذر والصباح حتى دخلوا على الحجاج فقالوا: لا توجه عبد الرحمن في
هذا الجيش، فإنا نتخوف أن يخرج عليك ! قال: ليس هذا أول حسد الاخوة،
وانما أنتم حسدتموه لانه ليس من أمكم...(وانظر الامامة والسياسة 2 /
37).
(3) في الطبري وابن الاثير: المسالح.
(*)
(9/40)
قال الواقدي
وأبو معشر: وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، وقال غيرهما: بل حج
بهم سليمان بن عبد الملك، وكان على الصائفة في هذه السنة الوليد بن عبد
الملك، وعلى المدينة أبان ابن عثمان، وعلى المشرق بكماله الحجاج، وعلى
قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس بن
مالك.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان
أسلم مولى عمر بن الخطاب وهو أبو زيد بن أسلم أصله من سبي عين التمر
اشتراه عمر بمكة لما حج سنة إحدى عشرة، وتوفي وعمره مائة وأربع عشرة
سنة، وروى عن عمر عدة أحاديث، وروى عن غيره من أصحابه
أيضا وله مناقب كثيرة رحمه الله.
جبير بن نفير ابن مالك الحضرمي له صحبة ورواية، وكان من علماء أهل
الشام وكان مشهورا بالعبادة والعلم توفي بالشام وعمره مائة وعشرون سنة،
وقيل أكثر وقيل أقل.
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ولد بأرض الحبشة وأمه أسماء بنت عميس،
وهو آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وفاة، سكن
المدينة، ولما استشهد أبوه جعفر بمؤتة " أتى النبي صلى الله عليه وسلم
إلى أمهم فقال: ائتوني ببني أخي، فأتي بهم كأنهم أفرخ، فدعا بالحلاق
فحلق رؤوسهم ثم قال: اللهم اخلف جعفرا في أهله وبارك لعبد الله في
صفقته، فجاءت أمهم فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس لهم شئ،
فقال أنا لهم عوضا من أبيهم " وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم عبد
الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير وعمرهما سبع سنين، وهذا لم يتفق
لغيرهما، وكان عبد الله بن جعفر من أسخى الناس، يعطي الجزيل الكثير
ويستقله، وقد تصدق مرة بألفي ألف، وأعطى مرة رجلا ستين ألفا، ومرة أعطى
رجلا أربعة آلاف دينار، وقيل إن رجلا جلب مرة سكرا إلى المدينة فكسد
عليه فلم يشتره أحد فأمر ابن جعفر قيمه أن يشتريه وأن يهديه للناس.
وقيل: إن معاوية لما حج ونزل في دار مروان قال يوما لحاجبه: أنظر هل
ترى بالباب الحسن أو الحسين أو ابن جعفر أو فلانا - وعد جماعة - فخرج
فلم ير أحدا، فقيل له: هم مجتمعون عند عبد الله بن جعفر يتغدون، فأتى
معاوية فأخبره فقال: ما أنا إلا كأحدهم، ثم أخذ عصا فتوكأ عليها ثم أتى
باب ابن جعفر فاستأذن عليه ودخل فأجلسه في صدر فراشه، فقال له معاوية:
أين غداؤك يا بن جعفر ؟ فقال: وما تشتهي من شئ فأدعو به ؟ فقال معاوية:
أطعمنا مخا، فقال يا غلام هات مخا، فأتى بصحيفة فأكل معاوية، ثم قال
ابن جعفر لغلامه، هات مخا، فجاء بصحيفة أخرى ملآنة مخا إلى أن
(9/41)
فعل ذلك ثلاث
مرات، فتعجب معاوية وقال: يا بن جعفر ما يشبعك إلا الكثير من العطاء،
فلما خرج معاوية أمر له بخمسين ألف دينار، وكان ابن جعفر صديقا لمعاوية
وكان يفد عليه كل سنة
فيعطيه ألف ألف درهم، ويقضي له مائة حاجة.
ولما حضرت معاوية الوفاة أوصى ابنه يزيد، فلما قدم ابن جعفر على يزيد
قال له: كم كان أمير المؤمنين يعطيك كل سنة ؟ قال ألف ألف.
فقال له: قد أضعفناها لك، وكان يعطيه ألفي ألف كل سنة، فقال له عبد
الملك بن جعفر: بأبي أنت وأمي ما قلتها لاحد قبلك، ولا أقولها لاحد
بعدك، فقال يزيد: ولا أعطاكها أحد قبلي ولا يعطيكها أحد بعدي، وقيل إنه
كان عند ابن جعفر جارية تغنيه تسمى عمارة، وكان يحبها محبة عظيمة، فحضر
عنده يزيد بن معاوية يوما فغنت الجارية، فلما سمعها يزيد افتتن بها ولم
يجسر على ابن جعفر أن يطلبها منه، فلم يزل في نفس يزيد منها حتى مات
أبوه معاوية، فبعث يزيد رجلا من أهل العراق وأمره أن يتطلع في أمر هذه
الجارية، فقدم الرجل المدينة ونزل جوار ابن جعفر وأهدى إليه هدايا
وتحفا كثيرة، وأنس به، ولا زال حتى أخذ الجارية وأتى يزيد.
وكان الحسن البصري يذم ابن جعفر على سماعه الغنى واللهو وشرائه
المولدات، ويقول أما يكفيه هذا الامر القبيح المتلبس به من هذه الاشياء
وغيرها، حتى زوج الحجاج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحجاج
يقول: إنما تزوجتها لاذل بها آل أبي طالب، وقيل إنه لم يصل إليها، وقد
كتب عبد الملك إليه أن يطلقها فطلقها.
أسند عبد الله ابن جعفر ثلاثة عشر حديثا.
أبو إدريس الخولاني اسمه عائذ الله بن عبد الله، له أحوال ومناقب، كان
يقول: قلب نقي في ثياب دنسة خير من قلب دنس في ثياب نقية، وقد تولى
القضاء بدمشق، وقد ذكرنا ترجمته في كتابنا التكميل.
معبد الجهني القدري يقال إنه معبد بن عبد الله بن عليم، راوي حديث: "
لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ".
وقيل غير ذلك في نسبه، سمع الحديث من ابن عباس وابن عمر ومعاوية وعمران
بن حصين وغيرهم.
وشهد يوم التحكيم، وسأل أبا موسى في ذلك ووصاه ثم اجتمع بعمرو بن العاص
فوصاه في ذلك فقال له: أيها يا تيس جهنة ما أنت من أهل السر والعلانية،
وإنه لا ينفعك الحق ولا يضرك الباطل.
وهذا توسم فيه من عمرو بن العاص، ولهذا كان هو أول من تكلم في القدر،
ويقال إنه أخذ ذلك عن رجل من النصارى من أهل العراق يقال له سوس، وأخذ
غيلان (1) القدر
__________
(1) وهو غيلان الدمشقي قال بنفي القدر وبالغ فيه، وقد هم عمر بن عبد
العزيز بقتله فتراجع غيلان عن آرائه وأعلن توبته منها ولكنه عاد إلى
الكلام عن نفي القدر وأسرف في ذلك إسرافا عظيما في أيام هشام بن عبد
الملك الذي كان شديدا على القدرية.
وقد أظهر غيلان تمسكا شديدا بآرائه.
فأمر به هشام فصلب على باب دمشق.
(*)
(9/42)
من معبد، وقد
كانت لمعبد عبادة وفيه زهادة، ووثقه ابن معين وغيره في حديثه، وقال
الحسن البصري: إياكم ومعبدا فإنه ضال مضل، وكان ممن خرج مع ابن الاشعث
فعاقبه الحجاج عقوبة عظيمة بأنواع العذاب ثم قتله.
وقال سعيد بن عفير: بل صلبه عبد الملك بن مروان في سنة ثمانين بدمشق ثم
قتله، وقال خليفة بن خياط: مات قبل التسعين فالله أعلم، وقيل إن الاقرب
قتل عبد الملك له والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين
ففيها فتح عبيد الله بن عبد الملك بن مروان
مدينة قاليقلا (1) وغنم المسلمون منها غنائم كثيرة، وفيها قتل
بكير بن وشاح، قتله بجير (2) بن ورقاء الصريمي، وكان بكير من الامراء
الشجعان، ثم ثار لبكير بن وشاح رجل من قومه يقال له صعصعة بن حرب
العوفي الصريمي، فقتل بجير بن ورقاء الذي قتل بكيرا، طعنه بخنجر وهو
جالس عند المهلب بن أبي صفرة فحمل إلى منزله وهو بآخر رمق، فبعث المهلب
بصعصعة إليه، فلما تمكن منه بحير بن ورقاء قال ضعوا رأسه عند رجلي،
فوضعوه فطعنه بجير بحربته حتى قتله ومات على إثره.
وقد قال له أنس بن طارق (3): اعف عنه فقد قتلت بكير بن وشاح، فقال: لا
والله لا أموت وهذا حي ثم قتله وقد قيل إنه إنما قتل بعد موته فالله
أعلم.
فتنة ابن الاشعث قال أبو مخنف: كان ابتداؤها في هذه السنة، وقال
الواقدي: في سنة ثنتين وثمانين، وقد ساقها ابن جرير في هذه السنة
فوافقناه في ذلك، وكان سبب هذه الفتنة أن ابن الاشعث كان الحجاج
يبغضه وكان هو يفهم ذلك ويضمر له السوء وزوال الملك عنه، فلما أمره
الحجاج على ذلك الجيش المتقدم ذكره، وأمره بدخول بلاد رتبيل ملك الترك،
فمضى وصنع ما قدمناه من أخذه بعض بلاد الترك، ثم رأى لاصحابه أن يقيموا
حتى يتقووا إلى العام المقبل، فكتب إلى الحجاج بذلك فكتب إليه الحجاج
يستهجن رأيه في ذلك ويستضعف عقله ويقرعه بالجبن والنكول عن الحرب،
ويأمره حتما بدخول بلاد رتبيل، ثم أردف ذلك بكتاب ثان ثم ثالث مع
البريد، وكتب في جملة ذلك يابن الحائك الغادر المرتد، امض إلى ما أمرتك
به من الايغال في أرض العدو وإلا حل بك ما لا يطاق.
وكان الحجاج يبغض ابن الاشعث: ويقول هو أهوج أحمق حسود، وأبوه الذي سلب
أمير المؤمنين عثمان ثيابه وقاتله، ودل عبيد الله بن زياد على مسلم بن
عقيل حتى قتله، وجده الاشعث ارتد عن
__________
(1) قاليقلا: بارمينية العظمى من نواحي خلاط ثم من نواحي منازجرد.
(معجم البلدان).
(2) في الطبري وابن الاثير: بحير.
(3) في الطبري 8 / 7: طلق.
(*)
(9/43)
الاسلام وما
رأيته قط إلا هممت بقتله، ولما كتب الحجاج إلى ابن الاشعث بذلك وترادفت
إليه البرد بذلك، غضب ابن الاشعث وقال: يكتب إلي بمثل هذا وهو لا يصلح
أن يكون من بعض جندي ولا من بعض خدمي لخوره وضعف قوته ؟ أما يذكر أباه
من ثقيف هذا الجبان صاحب غزالة - يعني أن غزالة زوجة شبيب حملت على
الحجاج وجيشه فانهزموا منها وهي امرأة لما دخلت الكوفة - ثم إن ابن
الاشعث جمع رؤوس أهل العراق وقال لهم: إن الحجاج قد ألح عليكم في
الايغال في بلاد العدو، وهي البلاد التي قد هلك فيها إخوانكم بالامس،
وقد أقبل عليكم فصل الشتاء والبرد، فانظروا في أمركم أما أنا فلست
مطيعه ولا أنقض رأيا رأيته بالامس، ثم قام فيهم خطيبا فأعلمهم بما كان
رأى من الرأي له ولهم، وطلب في ذلك من إصلاح البلاد التي فتحوها، وأن
يقيموا بها حتى يتقووا بغلاتها وأموالها ويخرج عنهم فصل البرد ثم
يسيرون في بلاد العدو فيفتحونها بلدا بلدا إلى أن يحصروا رتبيل ملك
الترك في مدينة العظماء، ثم أعلمهم بما كتب إليه الحجاج من الامر
بمعاجلة رتبيل (1).
فثار إليه الناس وقالوا: لا بل نأبي على عدو الله الحجاج ولا نسمع له
ولا نطيع.
قال أبو مخنف: فدحثني مطرف بن عامر بن وائلة (2) الكناني أن أباه كان
أول من تكلم في ذلك، وكان شاعرا خطيبا، وكان مما قال: إن مثل الحجاج في
هذا الرأي ومثلنا كما قال الاول لاخيه احمل عبدك على الفرس فإن هلك
هلك، وإن نجا فلك، أنتم إذا ظفرتم كان ذلك زيادة في سلطانه، وإن هلكتم
كنتم الاعداء البغضاء، ثم قال: اخلعوا عدو الله الحجاج - ولم يذكر خلع
عبد الملك - وبايعوا لاميركم عبد الرحمن بن الاشعث فإني أشهدكم أني أول
خالع للحجاج.
فقال الناس من كل جانب: خلعنا عدو الله، ووثبوا إلى عبد الرحمن بن
الاشعث فبايعوه عوضا عن الحجاج، ولم يذكروا خلع عبد الملك بن مروان،
وبعث ابن الاشعث إلى رتبيل فصالحه على أنه إن ظفروا بالحجاج فلا خراج
على رتبيل أبدا.
ثم سار ابن الاشعث بالجنود الذين معه مقبلا من سجستان إلى الحجاج
ليقاتله ويأخذ منه العراق، فلما توسطوا الطريق (3) قالوا: إن خلعنا
للحجاج خلع لابن مروان فخلعوها وجددوا البيعة لابن الاشعث فبايعهم على
كتاب الله وسنة رسوله وخلع أئمة الضلالة وجهاد الملحدين، فإذا قالوا
نعم بايعهم.
فلما بلغ الحجاج ما صنعوا من خلعه وخلع ابن مروان، كتب إلى عبد الملك
يعلمه بذلك ويستعجله في بعثه الجنود إليه، وجاء الحجاج حتى نزل البصرة،
وبلغ المهلب خبر ابن الاشعث، وكتب إليه يدعوه إلى ذلك فأبى عليه، وبعث
بكتابه إلى الحجاج، وكتب المهلب إلى ابن الاشعث يقول له: إنك يابن
الاشعث قد وضعت رجلك في ركاب طويل، ابق على
__________
(1) في ابن الاعثم 7 / 117: كتب ابن الاشعث كتابا على لسان الحجاج إليه
يأمره فيه بقتل فلان وفلان من أصحابه وأن يبعث برؤوسهم إليه، وقرأه
أمام أصحابه...ثم أعلن امامهم خلعه وصاحبه عبد الملك بن مروان (وانظر
الامامة والسياسة 2 / 33).
(2) في الطبري وابن الاثير: واثلة.
(3) في مروج الذهب 3 / 159: صار إلى بلاد كرمان.
(*)
(9/44)
أمة محمد صلى
الله عليه وسلم، انظر إلى نفسك فلا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها،
والجماعة فلا تفرقها،
والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه
من الناس، فلا تعرضها لله في سفك الدماء، أو استحلال محرم والسلام عليك
(1).
وكتب المهلب إلى الحجاج: أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك مثل
السيل المنحدر من علو ليس شئ يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لاهل
العراق شدة (2) في أول مخرجهم، وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شئ
يردهم حتى يصلوا إلى أهليهم وينبسطوا إلى نسائهم ويشموا أولادهم.
ثم واقعهم عندها فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله.
فلما قرأ الحجاج كتابه قال: فعل الله به وفعل، لا والله مالي نظر ولكن
لابن عمه نصح.
ولما وصل البريد بكتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ذلك ثم نزل عن سريره
وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية فأقرأه كتاب الحجاج فقال: يا أمير
المؤمنين إن كان هذا الحدث من قبل خراسان فخفه، وإن كان من قبل سجستان
فلا تخفه، ثم أخذ عبد الملك في تجهيز الجنود من الشام إلى العراق في
نصرة الحجاج وتجهيزه في الخروج إلى ابن الاشعث، وعصى رأي المهلب فيما
أشار به عليه، وكان في شوره النصح والصدق، وجعلت كتب الحجاج لا تنقطع
عن عبد الملك بخبر ابن الاشعث صباحا ومساء، أين نزل ومن أين ارتحل، وأي
الناس إليه أسرع.
وجعل الناس يلتفون على ابن الاشعث من كل جانب، حتى قيل إنه سار معه
ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل، وخرج الحجاج في جنود
الشام من البصرة نحو ابن الاشعث، فنزل تستر وقدم بين يديه مطهر بن حيي
الكعبي (3) أميرا على المقدمة، ومعه عبد الله بن زميت (4) أميرا آخر،
فانتهو إلى دجيل فإذا مقدمة ابن الاشعث في ثلاثمائة فارس عليها عبد
الله بن أبان الحارثي، فالتقوا في يوم الاضحى عند نهر دجيل، فهزمت
مقدمة الحجاج وقتل أصحاب ابن الاشعث منهم خلقا كثيرا نحو ألف وخمسمائة
(5)، واحتازوا ما في معسكرهم من خيول وقماش وأموال.
وجاء الخبر إلى الحجاج بهزيمة أصحابه وأخذه مادب ودرج.
وقد كان قائما يخطب فقال: أيها الناس ارجعوا إلى البصرة فإنه أرفق
بالجند، فرجع بالناس وتبعهم خيول ابن الاشعث لا يدركون منهم شاذا إلا
قتلوه، ولا فإذا إلا أهلكوه، ومضى الحجاج هاربا لا يلوي على شئ حتى أتى
الزاوية فعسكر عندها وجعل يقول: لله در المهلب أي صاحب حرب هذا، قد
أشار علينا بالرأي ولكنا لم نقبل، وأنفق الحجاج على جيشه وهو بهذا
المكان مائة وخمسين ألف ألف
درهم، وخندق حول جيشه خندقا، وجاء أهل العراق فدخلوا البصرة واجتمعوا
بأهاليهم وشموا أولادهم، ودخل ابن الاشعث البصرة فخطب الناس بهم
وبايعهم وبايعوه على خلع عبد الملك ونائبه
__________
(1) نسخة الكتاب في الطبري 8 / 10 وانظر نسخة له باختلاف في ابن الاعثم
7 / 118 - 119.
(2) في الطبري وابن الاثير: شرة.
(3) في الطبري: مطهر بن حر العكي.
وفي ابن الاعثم 7 / 130: حيي العتكي.
(4) في الطبري: ابن رميثة الطائي.
(5) في ابن الاعثم: ثمانية الآف.
(*)
(9/45)
الحجاج بن
يوسف، وقال لهم ابن الاشعث: ليس الحجاج بشئ، ولكن اذهبوا بنا إلى عبد
الملك لنقاتله، ووافقه على خلعهما جميع من في البصرة من الفقهاء
والقراء والشيوخ والشباب، ثم أمر ابن الاشعث بخندق حول البصرة فعمل
ذلك، وكان ذلك في أواخر ذي الحجة من هذه السنة.
وحج بالناس فيها إسحاق بن عيسى فيما ذكره الواقدي وأبو معشر والله
سبحانه وتعالى أعلم.
وفيها غزا موسى بن نصير أمير بلاد المغرب من جهة عبد الملك بلاد
الاندلس فافتتح مدنا كثيرة، وأراضي عامرة، وأوغل في بلاد المغرب إلى أن
وصل إلى الرقاق المنبثق من البحر الاخضر المحيط والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان بجير بن
ورقاء الصريمي أحد الاشراف بخراسان، والقواد والامراء الذي حارب ابن
خازم وقتله، وقتل بكير بن وشاح ثم قتل في هذه السنة.
سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر أبو أمية الجعفي الكوفي، شهد اليرموك
وحدث عن جماعة من الصحابة، وكان من كبار المخضرمين ويقال إنه رأى النبي
صلى الله عليه وسلم، وكان مولده عام ولد النبي صلى الله عليه وسلم وصلى
معه، والصحيح أنه لم يره، وقيل أنه ولد بعده بسنتين، وعاش مائة وعشرين
سنة (1) لم ير يوما محتنيا ولا متساندا، وافتض بكرا عام وفاته في سنة
إحدى وثمانين، قاله أبو عبيد وغير واحد.
وقيل إنه توفي في سنة ثنتين وثمانين
فالله أعلم.
عبد الله بن شداد بن الهاد كان من العباد الزهاد، والعلماء، وله وصايا
وكلمات حسان، وقد روى عدة أحاديث عن الصحابة وعن خلق من التابعين.
محمد بن علي بن أبي طالب أبو القاسم وأبو عبد الله أيضا، وهو المعروف
بابن الحنفية، وكانت سوداء سندية من بني حنيفة اسمها خولة.
ولد محمد في خلافة عمر بن الخطاب، ووفد على معاوية وعلى عبد الملك بن
مروان وقد صرع مروان يوم الجمل وقعد على صدره وأراد قتله فناشده مروان
بالله وتذلل له فأطلقه، فلما وفد على عبد الملك ذكره بذلك فقال عفوا يا
أمير المؤمنين فعفا عنه وأجزل له الجائزة، وكان محمد بن علي من سادات
قريش، ومن الشجعان المشهورين، ومن الاقوياء المذكورين، ولما بويع لابن
الزبير لم يبايعه، فجرى بينهما شر عظيم حتى هم ابن الزبير به وبأهله
كما تقدم ذلك، فلما قتل ابن الزبير
__________
(1) في الاستيعاب: مائة وخمس وعشرون سنة، وفي صفة الصفوة عن ابن سعد 2
/ 23: مائة وثمان وعشرون سنة وفي الاصابة: مائة وثلاثين سنة.
(*)
(9/46)
واستقر أمر عبد
الملك وبايعه ابن عمر تابعه ابن الحنفية، وقدم المدينة فمات بها في هذه
السنة وقيل في التي قبلها أو في التي بعدها، ودفن بالبقيع.
والرافضة يزعمون أنه بجبل رضوى، وأنه حي يرزق، وهم ينتظرونه، وقد قال
كثير (1) عزة في ذلك.
ألا إن الائمة من قريش * ولاة الحق أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه *
هم الاسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر (2) * وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا تراه العين حتى * تعود الخيل يقدمها لواء ولما هم ابن الزبير
بابن الحنفية كتب ابن الحنفية إلى شيعتهم بالكوفة مع ابي الطفيل واثلة
بن
الاسقع وعلى الكوفة المختار بن أبي عبيد، وقد كان ابن الزبير جمع لهم
حطبا كثيرا على أبوابهم ليحرقهم بالنار، فلما وصل كتاب ابن الحنفية إلى
المختار، وقد كان المختار يدعو إليه ويسميه المهدي، فبعث المختار أبا
عبد الله الجدلي في أربعة آلاف فاستنقذوا بني هاشم من يدي ابن الزبير،
وخرج معهم ابن عباس فمات بالطائف وبقي ابن الحنفية في شيعته، فأمره ابن
الزبير أن يخرج عنه فخرج إلى أرض الشام بأصحابه وكانوا نحو سبعة آلاف،
فلما وصل إلى أيلة كتب إليه عبد الملك: إما أن تبايعني وإما أن تخرج من
أرضي، فكتب إليه ابن الحنفية: أبايعك على أن تؤمن أصحابي، قال: نعم
فقام ابن الحنفية في أصحابه: فحمد الله وأثنى عليه فقال: الحمد لله
الذي حقن دماءكم وأحرز دينكم فمن أحب منكم أن يأتي مأمنه إلى بلده
محفوظا فليفعل، فرحل عنه الناس إلى بلادهم حتى بقي في سبعمائة رجل،
فأحرم بعمرة وقلد هديا وسار نحو مكة، فلما أراد دخول الحرم بعث إليه
ابن الزبير خيلا فمنعه أن يدخل، فأرسل إليه: إنا لم نأت لحرب ولا
لقتال، دعنا ندخل حتى نقضي نسكنا ثم نخرج عنك، فأبي عليه وكان معه بدن
قد قلدها فرجع إلى المدينة فأقام بها محرما حتى قدم الحجاج وقتل ابن
الزبير، فكان ابن الحنفية في تلك المدة محرما، فلما سار الحجاج إلى
العراق مضى
__________
(1) زعمت الكيسانية، وهم القائلون بإمامة محمد بن الحنفية، واختلفوا
فمنهم من قطع بموته ومنهم من زعم انه لم يمت وانه حي في جبل رضوى (جبل
قرب ينبع) قيل سموا بالكيسانية إلى كيسان - زعم بعضهم انه اسم المختار
بن أبي عبيد الثقفي وقال الجوهري في الصحاح انه لقبه وقال غيره كيسان
مولى علي رضي الله عنه.
وكان كثير عزة كيساني الاعتقاد.
وفي الاغاني 7 / 245 هذه الابيات للسيد الحميري وأضاف: وهذه الابيات
بعينها تروى لكثير، وقد نسبها له في 9 / 14.
(2) في الاغاني 7 / 245: وحلم و 9 / 14 كالاصل: وبر.
ويقصد بسبط الايمان الحسن بن علي والسبط الذي غيبته كربلاء الحسين بن
علي وقد قتل شهيدا والسبط الذي لا يذوق الموت هو محمد بن الحنفية.
وبعده في الاغاني ومروج الذهب 3 / 95 ووفيات الاعيان 4 / 172: (من
الوافر).
تغيب لا يرى فيهم زمانا * برضوى عنده عسل وماء (*)
(9/47)
ابن الحنفية
إلى مكة وقضى نسكه وذلك بعد عدة سنين، وكان القمل يتناثر منه في تلك
المدة كلها، فلما قضى نسكه رجع إلى المدينة أقام بها حتى مات، وقيل إن
الحجاج لما قتل ابن الزبير بعث إلى ابن الحنفية: قد قتل عدو الله
فبايع، فكتب إليه إذا بايع الناس كلهم بايعت، فقال الحجاج: والله
لاقتلنك، فقال ابن الحنفية إن لله في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة في
اللوح المحفوظ، في كل نظرة ثلاثمائة وستون قضية، فلعل الله تعالى أن
يجعلني في قضية منها فيكفينيك فكتب الحجاج إلى عبد الملك بذلك فأعجبه
قوله وكتب إليه قد عرفنا أن محمدا ليس عنده خلاف فارفق به فهو يأتيك
ويبايعك، وكتب عبد الملك بكلامه ذلك - إن الله ثلاثمائة وستين نظرة -
إلى ملك الروم، وذلك أن ملك الروم كتب إلى عبد الملك يتهدده بجموع من
الجنود لا يطيقها أحد، فكتب بكلام ابن الحنفية فقال ملك الروم: إن هذا
الكلام ليس من كلام عبد الملك، وإنما خرج من بيت نبوة، ولما اجتمع
الناس على بيعة عبد الملك قال ابن عمر لابن الحنفية: ما بقي شئ فبايع،
فكتب (1) بيعته إلى عبد الملك ووفد عليه بعد ذلك.
توفي ابن الحنفية في المحرم بالمدينة وعمره خمس وستون سنة، وكان له من
الولد عبد الله وحمزة وعلي وجعفر الاكبر والحسن وإبراهيم والقاسم (2)
وعبد الرحمن وجعفر الاصغر وعون ورقية، وكلهم لامهات شتى.
وقال الزبير بن بكار: كانت شيعته تزعم أنه لم يمت وفيه يقول السيد: (3)
ألا قل للوصي فدتك نفسي * أطلت بذلك الجبل المقاما أضر بمعشر والوك منا
* وسموك الخليفة والاماما وعادوا فيك أهل الارض طرا * مقامك فيهم ستين
عاما (4) وما ذاق ابن خولة طعم موت * ولا وارث له أرض عظاما لقد أمسى
(5) بمورق شعب رضوى * تراجعه الملائكة الكلاما وإن له به لمقيل صدق *
وأندية تحدثه كراما هدانا الله ادخرتم (6) لامر * به عليه يلتمس
التماما
__________
(1) انظر نسخة الكتاب في طبقات ابن سعد 5 / 111.
(2) في وفيات الاعيان عن أبي اليقظان 4 / 173: اسمه الهيثم.
وزاد ابن سعد في الطبقات: 5 / 92: وعبد الله الاصغر وعبد الله بن محمد
غير عبد الله ابي هاشم وأمه أم ولد هو ورقية.
(3) وهو السيد الحميري واسمه اسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ
الحميري شاعر مشهور وكان كيساني الاعتقاد.
يكني أبا هاشم حبسه عبيد الله بن زياد ثم أطلقه معاوية.
(4) في مروج الذهب 3 / 95: مغيبك عنهم سبعين عاما.
(5) في الاغاني 9 / 14: أوفى.
(6) في الاغاني: إذا جرتم...به ولديه نلتمس التماما.
(*)
(9/48)
تمام ثورة (1) المهدي حتى * تروا راياته نترى نظاما وقد ذهب طائفة من
الرافضة إلى إمامته وأنه ينتظر خروجه في آخر الزمان، كما ينتظر طائفة
اخرى منهم الحسن بن محمد العسكري، الذي يخرج في زعمهم من سرداب سامرا،
وهذا من خرافاتهم وهذيانهم وجهلهم وضلالهم وترهاتهم، وسنزيد ذلك وضوحا
في موضعه وإن شاء الله. |