البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين
ففي المحرم منها كانت وقعة الزاوية
(2) بين ابن الاشعث والحجاج في آخره، وكان أول يوم لاهل العراق على أهل
الشام، ثم تواقفوا يوما آخر فحمل سفيان بن الابرد أحد أمراء أهل الشام
على ميمنة ابن الاشعث فهزمها وقتل خلقا كثيرا من القراء من أصحاب ابن
الاشعث في هذا اليوم، وخر الحجاج لله ساجدا بعد ما كان جثى على ركبتيه
وسل شيئا من سيفه وجعل يترحم على مصعب بن الزبير ويقول: ما كان أكرمه
حتى صبر نفسه للقتل، وكان من جملة من قتل من أصحاب ابن الاشعث أبو
الطفيل بن عامر بن وائلة (3) الليثي، ولما فر أصحاب ابن الاشعث رجع ابن
الاشعث بمن بقي معه ومن تبعه من أهل البصرة، فسار حتى دخل الكوفة فعمد
أهل البصرة إلى
عبد الرحمن بن عياش (4) بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه،
فقاتل الحجاج خمس ليال أشد القتال، ثم انصرف فلحق بابن الاشعث، وتبعه
طائفة من أهل البصرة، فاستناب الحجاج على البصرة أيوب بن الحكم بن أبي
عقيل (5)، ودخل ابن الاشعث الكوفة فبايعه أهلها على خلع الحجاج وعبد
الملك بن مروان.
وتفاقم الامر وكثر متابعو ابن الاشعث على ذلك، واشتد الحال، وتفرقت
الكلمة جدا وعظم الخطب، واتسع الخرق على الراقع.
قال الواقدي: ولما التقى جيش الحجاج وجيش ابن الاشعث بالزاوية جعل جيش
الحجاج يحمل عليهم مرة بعد مرة، فقال القراء - وكان عليهم جبلة بن زحر
-: أيها الناس ليس الفرار من أحد بأقبح منكم فقاتلوا عن دينكم ودنياكم.
وقال سعيد بن جبير نحو ذلك، وقال الشعبي: قاتلوهم على جورهم واستذلالهم
الضعفاء وإماتتهم الصلاة، ثم حملت القراء - وهم العلماء - على
__________
(1) في الاغاني: مودة...راياتنا.
(2) الزاوية: موضع قرب البصرة كانت به الوقعة المشهورة بين الحجاج وعبد
الرحمن بن محمد بن الاشعث قتل فيها خلق كثير من الفريقين (معجم
البلدان).
(3) في ابن الاثير 4 / 467 والطبري 8 / 13، الطفيل بن عامر بن واثلة.
(4) في ابن الاثير والطبري والفتوح 7 / 134: عباس.
(5) في تاريخ ابن عساكر 4 / 389: الحكم بن أيوب بن الحكم الثقفي...كان
قد تزوج أخت الحجاج وفي ابن الاعثم: أخته زينب.
(*)
(9/49)
جيش الحجاج
حملة صادقة فبرعوا فيهم ثم رجعوا فإذا هم بمقدمهم جبلة بن زحر صريعا،
فهدهم ذلك فناداهم جيش الحجاج يا أعداء الله قد قتلنا طاغيتكم، ثم حمل
سفيان بن الابرد وهو على خيل الحجاج على ميسرة ابن الاشعث وعليها
الابرد بن مرة (1) التميمي، فانهزموا ولم يقاتلوا كثير قتال، فأنكر
الناس منهم ذلك.
وكان أمير ميسرة ابن الاشعث الابرد شجاعا لا يفر، وظنوا أنه قد خامر،
فنقضت الصفوف وركب الناس بعضهم بعضا، وكان ابن الاشعث يحرض الناس على
القتال، فلما
رأى ما الناس فيه أخذ من اتبعه وذهب إلى الكوفة فبايعه أهلها، ثم كانت
وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة.
وقعة دير الجماجم قال الواقدي: وذلك
أن ابن الاشعث لما قصد الكوفة خرج إليه أهلها فتلقوه وحفوا به ودخلوا
بين يديه، غير أن شر ذمة قليلة أرادت أن تقاتله دون مطر بن ناجية نائب
الحجاج فلم يمكنهم من ذلك، فعدلوا إلى القصر، فلما وصل ابن الاشعث إلى
الكوفة أمر بالسلالم فنصبت على قصر الامارة فأخذه واستنزل مطر بن ناجية
وأراد قتله فقال له: استبقني فإني خير من فرسانك، فحبسه ثم استدعاه
فأطلقه وبايعه واستوثق لابن الاشعث أمر الكوفة وانضم إليه من جاء من
أهل البصرة، وكان ممن قدم عليه عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن عبد
المطلب، وأمر بالمسالح من كل جانب، وحفظت الثغور والطرق والمسالك.
ثم إن الحجاج ركب فيمن معه من الجيوش الشامية من البصرة في البر حتى مر
بين القادسية والعذيب وبعث إليه ابن الاشعث عبد الرحمن بن العباس في
خيل عظيمة من المصرين فمنعوا الحجاج من دخول القادسية، فسار الحجاج حتى
نزل دير قرة، وجاء ابن الاشعث بمن معه من الجيوش البصرية والكوفية حتى
نزل دير الجماجم، ومعه جنود كثيرة، وفيهم القراء وخلق من الصالحين،
وكان الحجاج بعد ذلك يقول: قاتل الله ابن الاشعث، أما كان يزجر الطير
حيث رآني قد نزلت دير قرة، ونزل هو بدير الجماجم.
وكان جملة من اجتمع مع ابن الاشعث مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء،
ومعهم مثلهم من مواليهم، وقدم على الحجاج في غبون ذلك أمداد كثيرة من
الشام، وخندق كل من الطائفتين على نفسه وحول جيشه خندقا يمتنع به من
الوصول إليهم، غير أن الناس كان يبرز بعضهم لبعض في كل يوم فيقتتلون
قتالا شديدا في كل حين، حتى أصيب من رؤوس الناس خلق من قريش وغيرهم،
واستمر هذا الحال مدة طويلة، واجتمع الامراء من أهل المشورة عند عبد
الملك بن مروان فقالوا له: إن كان أهل العراق يرضيهم منك أن تعزل عنهم
الحجاج فهو أيسر من قتالهم وسفك دمائهم، فاستحضر عبد الملك عند ذلك
أخاه محمد بن مروان وابنه عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ومعهما جنود
كثيرة جدا، وكتب معهما كتابا إلى أهل
__________
(1) في الطبري 8 / 24 قرة.
(*)
(9/50)
العراق يقول
لهم: إن كان يرضيكم مني عزل الحجاج عنكم عزلته عنكم، وبعثت عليكم
أعطياتكم مثل أهل الشام، وليختر ابن الاشعث أي بلد شاء يكون عليه أميرا
ما عاش وعشت، وتكون إمرة العراق لمحمد بن مروان، وقال في عهده هذا: فإن
لم تجب أهل العراق إلى ذلك فالحجاج على ما هو عليه وإليه إمرة الحرب،
ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعة الحجاج وتحت أمره لا
يخرجون عن رأيه في الحرب وغيره.
ولما بلغ الحجاج ما كتب به عبد الملك إلى أهل العراق من عزله إن رضوا
به شق عليه ذلك مشقة عظيمة جدا وعظم شأن هذا الرأي عنده، وكتب إلى عبد
الملك: يا أمير المؤمنين والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي عنهم لا
يلبثون إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة
عليك.
ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الاشتر النخعي على ابن عفان ؟ فلما
سألهم ما تريدون ؟ قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم
السنة حتى ساروا إليه فقتلوه ؟ وإن الحديد بالحديد يفلح، كان الله لك
فيما ارتأيت والسلام عليك.
قال: فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق كما أمر، فتقدم
عبد الله ومحمد فنادى عبد الله: يا معشر أهل العراق، أنا عبد الله ابن
أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وإنه يعرض عليكم كيت وكيت، فذكر ما
كتب به أبوه معه إليهم من هذه الخصال، وقال محمد بن مروان: وأنا رسول
أخي أمير المؤمنين إليكم بذلك، فقالوا: ننظر في أمرنا غدا ونرد عليكم
الخبر عشية، ثم انصرفوا فاجتمع جميع الامراء إلى ابن الاشعث فقام فيهم
خطيبا وندبهم إلى قبول ما عرض عليهم من عزل الحجاج عنهم وبيعة عبد
الملك وإبقاء الاعطيات وإمرة محمد بن مروان على العراق بدل الحجاج،
فنفر الناس من كل جانب وقالوا: لا والله لا نقبل ذلك، نحن أكثر عددا
وعددا، وهم في ضيق من الحال وقد حكمنا عليهم وذلوا لنا، والله لا نجيب
إلى ذلك أبدا.
ثم جددوا خلع عبد الملك ونائبه ثانية، واتفقوا على ذلك كلهم (1).
فلما بلغ عبد الله بن عبد الملك وعمه محمدا الخبر قالا للحجاج: شأنك
بهم إذا، فنحن في طاعتك كما أمرنا أمير المؤمنين، فكانا إذا لقياه سلما
عليه بالامرة ويسلم هو أيضا عليهم بالامرة، وتولى الحجاج أمر الحرب
وتدبيرها كما كان قبل ذلك، فعند ذلك برز كل من الفريقين للقتال والحرب،
فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليمان (2)، وعلى ميسرته عمارة
بن تميم
__________
(1) في ابن الاعثم 7 / 137: فعزم أهل العراق على أن يقبلوا ما في
الكتاب وأن يخذلوا ابن الاشعث ثم بلغهم أن عبد الله بن عبد الملك ومحمد
بن مروان في طاعة الحجاج وانهم يصلون خلفه.
فغضبوا لذلك وشتموا عبد الملك والحجاج وعزموا على الحرب والمناجزة.
(2) في الطبري 8 / 16 وابن الاثير 4 / 471: سليم الكلبي.
(*)
(9/51)
اللخمي، وعلى
الخيل سفيان بن الابرد وعلى الرجالة عبد الرحمن بن حبيب (1) الحكمي.
وجعل ابن الاشعث على ميمنته الحجاج بن حارثة الجشمي (2)، وعلى الميسرة
الابرد بن قرة التميمي، وعلى الخيالة عبد الرحمن بن عباس (3) بن أبي
ربيعة، وعلى الرجالة محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري، وعلى القراء جبلة
بن زحر بن قيس الجعفي، وكان فيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد
الرحمن بن أبي ليلى وكميل بن زياد - وكان شجاعا فاتكا على كبر سنه وأبو
البختري الطائي وغيرهم، وجعلوا يقتتلون في كل يوم، وأهل العراق تأتيهم
الميرة من الرساتيق والاقاليم، من العلف والطعام، وأما أهل الشام الذين
مع الحجاج فهم في أضيق حال من العيش، وقلة من الطعام، وقد فقدوا اللحم
بالكلية فلا يجدونه، وما زالت الحرب في هذه المدة كلها حتى انسلخت هذه
السنة وهم على حالهم وقتالهم في كل يوم أو يوم بعد يوم، والدائرة لاهل
العراق على أهل الشام في أكثر الايام.
وقد قتل من أصحاب الحجاج زياد بن غنم، وكسر بسطام بن مصقلة في أربعة
آلاف جفون سيوفهم واستقتلوا وكانوا من أصحاب ابن الاشعث.
وفي هذه السنة كانت وفاة المهلب بن أبي صفرة، وهو المهلب بن أبي صفرة
ظالم أبو سعيد الازدي أحد أشراف أهل البصرة ووجوههم ودهاتهم وأجوادهم
وكرمائهم، ولد عام الفتح، وكانوا
ينزلون فيما بين عمان والبحرين، وقد ارتد قومه فقاتلهم عكرمة بن ابي
جهل فظفر بهم، وبعث بهم إلى الصديق وفيهم أبو صفرة وابنه المهلب غلام
لم يبلغ الحنث، ثم نزل المهلب البصرة وقد غزا في أيام معاوية أرض الهند
سنة أربع وأربعين، وولى الجزيرة لابن الزبير سنة ثمان وستين، ثم ولي
حرب الخوارج أول دولة الحجاج، وقتل منهم في وقعة واحدة أربعة آلاف
وثمانمائة، فعظمت منزلته عند الحجاج.
وكان فاضلا شجاعا كريما يحب المدح، وله كلام حسن، فمنه: نعم الخصلة
السخاء تستر عورة الشريف وتلحق خسيسة الوضيع، وتحبب المزهود فيه، وقال:
يعجبني في الرجل خصلتان أن أرى عقله زائدا على لسانه، ولا أرى لسانه
زائدا على عقله.
توفي المهلب غازيا بمرو الروذ وعمر وست وسبعون سنة رحمه الله.
وكان له عشرة من الولد وهم: يزيد، وزياد، والمفضل، ومدرك، وحبيب،
والمغيرة، وقبيصة، ومحمد، وهند، وفاطمة.
توفي المهلب في ذي الحجة منها، وكان من الشجعان وله مواقف حميدة،
وغزوات مشهورة في الترك والازارقة وغيرهم من أنواع الخوارج، وجعل الامر
من بعده ليزيد بن المهلب على إمرة خراسان فأمضى له ذلك الحجاج و عبد
الملك بن مروان.
__________
(1) ابن الاثير: خبيب.
(2) في الطبري: جارية الخثعمي، وفي ابن الاثير: حارثة الخثعمي.
(3) تقدم: عباس، وفي الاصل عياش تحريف.
(*)
(9/52)
أسماء بن خارجة
الفزاري الكوفي وكان جوادا ممدحا، حكى أنه رأى يوما شابا على باب داره
جالسا فسأله عن قعوده على بابه فقال: حاجة لا أستطيع ذكرها، فألح عليه
فقال: جارية رأيتها دخلت هذه الدار لم أر أحسن منها وقد خطفت قلبي
معها، فأخذ بيده وأدخله داره وعرض عليه كل جارية عنده حتى مرت تلك
الجارية فقال: هذه، فقال له: اخرج فاجلس على الباب مكانك، فخرج الشاب
فجلس مكانه، ثم خرج إليه بعد ساعة والجارية معه قد ألبسها أنواع الحلى،
وقال له: ما منعني أن أدفعها إليك وأنت
داخل الدار إلا أن الجارية كانت لاختي، وكانت ضنينة بها، فاشتريتها لك
منها بثلاثة آلاف، وألبستها هذا الحلى، فهي لك بما عليها، فأخذها الشاب
وانصرف.
المغيرة بن المهلب ابن أبي صفرة، كان جوادا ممدحا شجاعا، له مواقف
مشهورة.
الحارث بن عبد الله ابن ربيعة المخزومي المعروف بقباع، ولي إمرة البصرة
لابن الزبير.
محمد بن أسامة بن زيد بن حارثة كان من فضلاء أبناء الصحابة وأعقلهم،
توفي بالمدينة ودفن بالبقيع.
عبد الله بن أبي طلحة بن أبي الاسود والد الفقيه إسحاق حملت به أمه أم
سليم ليلة مات ابنها فأصبح أبو طلحة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال صلى الله عليه وسلم: " عرستم بارك الله لكما في ليلتكما ".
ولما ولد حنكه بتمرات عبد الله بن كعب بن مالك كان قائد كعب حين عمي،
له روايات، توفي بالمدينة هذه السنة.
عفان بن وهب أبو أيمن الخولاني المصري له صحبة ورواية، وغزا المغرب،
وسكن مصر وبها مات.
جمل بن عبد الله ابن معمر بن صباح (1) بن ظبيان بن الحسن (2) بن ربيعة
بن حرام بن ضبة (3) بن عبيد بن
__________
(1) في الاغاني 8 / 90: الحارث بدل صباح.
وفي الشعر والشعراء: ويقال فيه جميل بن معمر بن عبد الله.
(2) في الاغاني وابن خلكان 1 / 366: حن.
وفي شرح القاموس (مادة خبر): جميل بن معمر بن خيبري العذري الشاعر
المشهور.
(3) كذا بالاصول ضبة وهو تحريف والصواب: ضنة.
(*)
(9/53)
كثير بن عذرة
بن سعد بن هذيم بن زيد بن ليث بن سرهد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.
أبو عمرو الشاعر صاحب بثينة (1)، كان قد خطبها فمنعت منه، فتغزل فيها
واشتهر بها، وكان أحد عشاق العرب، كانت إقامته بوادي القرى، وكان عفيفا
حييا دينا شاعرا إسلاميا، من أفصح الشعراء في زمانه، وكان كثير عزة
راويته، وهو يروي عن هدبة بن خثرم (2) عن الحطيئة عن زهير بن أبي سلمى،
وابنه كعب، قال كثير عزة كان جميل أشعر العرب حيث يقول: وأخبر تماني
(3) أن تيماء منزل * لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا فهذي شهور الصيف
عنا قد انقضت * فما للنوى ترمي بليلى المراميا ومنها قوله: وما زلت بي
(4) يابثن حتى لو أنني * من الشوق أستبكي الحمام بكى ليا وما زادني
الواشون إلا صبابة * ولا كثرة الناهين إلا تماديا وما أحدث النأي
المفرق بيننا * سلوا ولا طول اجتماع (5) تقاليا ألم تعلمي يا عذبة
الريق أنني * أظل إذا لم ألق وجهك صاديا لقد خفت أن ألقى المنية بغتة *
وفي النفس حاجات إليك كما هيا وله أيضا: إني لاحفظ غيبكم ويسرني * لو
تعلمين (6) بصالح أن تذكري إلى أن قال: ما أنت والوعد الذي تعدينني *
إلا كبرق سحابة لم تمطر وقوله وروي لعمر بن أبي ربيعة فيما نقله ابن
عساكر (7): ما زلت ابغي الحي أتبع فلهم (8) * حتى دفعت إلى ربيبة هودج
__________
(1) بثينة: وهي ابنة حبا بن ثعلبة بن الهوذ بن عمرو بن الاحب بن حن بن
ربيعة تلتقي في النسب هي وجميل في حن من ربيعة.
(2) في الاغاني 8 / 91 وابن خلكان 1 / 367 خشرم.
(3) في الاغاني 8 / 125 وابن خلكان 1 / 367: وخبرتماني.
وفيه والبيت الذي يليه قال الاصفهاني: " وانما يرويه عن المجنون من لا
يعلمه ".
وقال ابن خلكان: ومن الناس من يدخل هذه الابيات في قصيدة مجنون ليلى،
وليست له، وتيماء خاصة منزل لبني عذرة "، وفي الاغاني: وليست من منازل
عامر.
(4) في الاغاني وابن خلكان: وما زلتم...(5) في الاغاني: التلاقي، وفي
ابن خلكان: الليالي (6) في الاغاني: إذ تذكرين.
(7) الابيات في ابن خلكان 1 / 369 عن ابي عساكر وقال وتروى لغيره، وهي
في ديوان عمر بن أبي ربيعة ص 87.
(8) في الديوان: ما زلت أتبعهم لاسمع حدوهم.
(*)
(9/54)
فدنوت (1)
مختفيا ألم ببيتها * حتى ولجت إلى خفي المولج قالت: وعيش أخي ونعمة
والدي (2) لانبهن الحي إن لم تخرج فتناولت رأسي لتعرف مسه * بمخضب
الاطراف غير مشنج فخرجت خيفة أهلها (3) فتبسمت * فعلمت أن يمينها لم
تحرج فلثمت فاها آخذا بقرونها * فرشفت ريقا باردا متثلج (4) قال كثير
عزة: لقيني جميل بثينة فقال: من أين أقبلت ؟ فقلت: من عند هذه الحبيبة،
فقال وإلى أين ؟ فقلت: وإلى هذه الحبيبة - يعني عزة - أقسمت عليك لما
رجعت إلى بثينة فواعدتها لي فإن لي من أول الصيف ما رأيتها، وكان آخر
عهدي بها بوادي القرى، وهي تغسل هي وأمها ثوبا فتحادثنا إلى الغروب،
قال كثير: فرجعت حتى أنخت بهم.
فقال أبو بثينة: ما ردك يابن أخي ؟ فقلت: أبيات قلتها فرجعت لاعرضها
عليك.
فقال: وما هي ؟ فأنشدته وبثينة تسمع من وراء لحجاب: فقلت لها يا عز
أرسل صاحبي * إليك رسولا والرسول موكل (5)
بأن تجعلي بيني وبينك موعدا * وأن تأمريني ما الذي فيه أفعل وآخر عهدي
منك يوم لقيتني * بأسفل وادى الدوم والثوب يغسل (6) فلما كان الليل
أقبلت بثينة إلى المكان الذي واعدته إليه، وجاء جميل وكنت معهم فما
رأيت ليلة عجب منها ولا أحسن منادمات، وانفض ذلك المجلس وما أدري أيهما
أفهم لما في ضمير صاحبه منه.
وذكر الزبير بن بكار عن عباس بن سهل الساعدي أنه دخل على جميل وهو يموت
فقال له: ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط، ولم يزن قط، ولم يسرق ولم
يقتل النفس وهو يشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال: أظنه قد نجا وأرجو له
الجنة، فمن هذا ؟ قال: أنا، فقلت الله: ما أظنك سلمت وأنت تشبب بالنساء
منذ عشرين سنة، ببثينة.
فقال: لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لفي أول يوم من
أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا إن كنت وضعت يديد عليها بريبة،
قال: فما برحنا حتى
__________
(1) في الديوان: فقعدت مرتقبا.
(2) في الديوان: وعيش أبي وحرمة أخوتي.
(3) في ابن خلكان: خيفة قولها، وفي الديوان: خوف يمينها.
(4) في الديوان وابن خلكان: شرب النزيف ببرد ماء الحشرج.
(5) في الاغاني 8 / 107: والموكل مرسل، وفي الامالي لابي علي القالي 3
/ 231 دار الكتب المصرية: على نأي دار والرسول موكل.
(6) وادي الدوم: واد معترض من شمالي خيبر إلى قبلها، وهو يفصل بين خيبر
والعوارض.
(*)
(9/55)
مات.
قلت: كانت وفاته بمصر لانه كان قد قدم على عبد العزيز بن مروان فأكرمه
وسأله عن حبه بثينة فقال: شديدا، واستنشده من أشعاره ومدائحه فأنشده
فوعده أن يجمع بينه وبينها فعاجلته المنية في سنة ثنتين وثمانين رحمه
الله آمين.
وقد ذكر الاصمعي عن رجل أن جميلا قال له: هل أنت مبلغ عني رسالة إلى حي
بثينة ولك ما
عندي ؟ قال: نعم ! قال: إذا أنا مت فاركب ناقتي والبس حلتي هذه وأمره
أن يقول أبياتا منها قوله: قومي بثينة فاندبي بعويل * وابكي خليلا دون
كل خليل فلما انتهى إلى حيهم أنشد الابيات فخرجت بثينة كأنها بدر سرى
في جنة وهي تتثنى في مرطها فقالت له: ويحك إن كنت صادقا فقد قتلتني،
وإن كنت كاذبا فقد فضحتني.
فقلت: بلى والله صادق وهذه حلته وناقته، فلما تحققت ذلك أنشدت أبياتا
ترثيه بها وتتأسف عليه فيها (1)، وأنه لا يطيب لها العيش بعده، ولا خير
لها في الحياة بعد فقده، ثم ماتت من ساعتها: قال الرجل: فما رأيت أكثر
باكيا ولا باكية من يومئذ.
وروى ابن عساكر عنه أنه قيل له بدمشق: لو تركت الشعر وحفظت القرآن ؟
فقال: هذا أنس بن مالك بخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " إن من الشعر لحكمة " (2).
عمر بن عبيد الله ابن معمر بن عثمان أبو حفص القرشي التميمي أحد
الاجواد والامراء الامجاد، فتحت على يديه بلدان كثيرة، وكان نائبا لابن
الزبير على البصرة، وقد فتح كابل مع عبد الله بن خازم، وهو الذي قتل
قطري بن الفجاءة، روى عن ابن عمر وجابر وغيرهما، وعن عطاء بن أبي رباح،
وابن عون، ووفد على عبد الملك فتوفي بدمشق سنة ثنتين وثمانين.
قاله المدائني.
وحكى أن رجلا اشترى جارية كانت تحسن القرآن والشعر وغيره فأحبها حبا
شديدا وأنفق عليها ماله كله حتى أفلس ولم يبق له شئ سوى هذه الجارية،
فقالت له الجارية: قد أرى ما بك من قلة الشئ.
فلو بعتني وانتفعت بثمني صلح حالك، فباعها لعمر بن عبيد الله هذا (3) -
وهو يومئذ أمير البصرة بمائة ألف
__________
(1) ذكرها ابن خلكان في الوفيات 4 / 371 والاغاني 8 / 154: وإن سلوي عن
جميل لساعة * من الدهر ما حانت ولا حان حينها سواء علينا يا جميل بن
معمر * إذا مت بأساء الحياة ولينها (2) أخرجه البخاري في الادب (90)
والترمذي في الادب باب (90) وابن ماجه في الادب (41) والدارمي في
الاستئذان (68) وأحمد في المسند 1 / 269، 271، 303، 309، 313، 327، 3 /
456، 5 / 125.
(3) في العقد الفريد 1 / 92 باعها من عبيد الله بن معمر.
(*)
(9/56)
درهم، فلما قبض
المال ندم وندمت الجارية، فأشارت تخاطب سيدها بأبيات شعر وهي: هنيئا لك
المال الذي قد أخذته * ولم يبق في كفي إلا تفكري أقول لنفسي وهي في كرب
عيشة * أقلي فقد بان الخليط أو اكثري إذا لم يكن في الامر عندك حيلة *
ولم تجدي بدا من الصبر فاصبري فأجابها سيدها فقال: ولولا قعود الدهر
عنك لم يكن * لفرقتنا شئ سوى الموت فاصبري (1) أأوب بحزن من فراقك موجع
* أناجي به قلبا طويل التذكر (2) عليك سلام لا زيارة بيننا * ولا وصل
إلا أن يشاء ابن معمر فلما سمعهما ابن معمر قد شببت قال: والله لا فرقت
بين محبين أبدا، ثم أعطاه المال - وهو مائة ألف - والجارية لما رأى من
توجعهما على فراق كل منهما صاحبه، فأخذ الرجل الجارية وثمنها وانطلق.
توفي عمر بن عبيد الله بن معمر هذا بدمشق بالطاعون، وصلى عليه عبد
الملك بن مروان، ومشى في جنازته وحضر دفنه وأثنى عليه بعد موته، وكان
له من الولد طلحة وهو من سادات قريش تزوج فاطمة بنت القاسم بن محمد بن
جعفر على صداق أربعين ألف دينار، فأولدها إبراهيم ورملة، فتزوج رملة
إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس على صداق مائة ألف دينار رحمهم
الله.
كميل بن زياد ابن نهيك بن خيثم النخعي الكوفي.
روى عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي هريرة، وشهد مع علي صفين، وكان
شجاعا فاتكا، وزاهدا عابدا، قتله الحجاج في هذه السنة، وقد عاش مائة
سنة قتله صبرا بين يديه: وإنما نقم عليه لانه طلب من عثمان بن عفان
القصاص من لطمة لطمها إياه.
فلما أمكنه عثمان من نفسه عفا عنه، فقال له الحجاج: أو مثلك يسأل من
أمير المؤمنين
القصاص ؟ ثم أمر فضربت عنقه، قالوا: وذكر الحجاج عليا في غبون ذلك فنال
منه وصلى عليه كميل، فقال له الحجاج: والله لابعثن إليك من يبغض عليا
أكثر مما تحبه أنت، فأرسل إليه ابن أدهم، وكان من أهل حمص، ويقال أبا
الجهم بن كنانة فضرب عنقه، وقد روى عن كميل جماعة كثيرة من التابعين
وله الاثر المشهور عن علي بن أبي طالب الذي أوله " القلوب أوعية فخيرها
أوعاها " وهو طويل قد رواه جماعة من الحفاظ الثقات وفيه مواعظ وكلام
حسن رضي الله عن قائله.
__________
(1) في العقد: يفرقنا شئ سوى الموت فاعذري.
(2) في العقد: أبوح بحزن...* أقاسي به ليلا يطيل تفكري.
(*)
(9/57)
زاذان أبو عمر
(1) الكندي أحد التابعين كان أولا يشرب المسكر ويضرب بالطنبور، فرزقه
الله التوبة على يد عبد الله بن مسعود وحصلت له إنابة ورجوع إلى الحق،
وخشية شديدة، حتى كان في الصلاة كأنه خشبة.
قال خليفة: وفيها توفي زر بن حبيش
أحد أصحاب ابن مسعود وعائشة، وقد أتت عليه مائة وعشرون سنة.
وقال أبو عبيد: مات سنة إحد وثمانين، وقد تقدمت له ترجمة (شقيق بن
سلمة) أبو وائل، أدرك من زمن الجاهلية سبع سنين، وأسلم في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم.
أم الدرداء الصغرى اسمها هجيمة ويقال جهيمة تابعية عابدة عالمة فقيهة
كان الرجال يقرأون عليها ويتفقهون في الحائط الشمالي بجامع دمشق، وكان
عبد الملك بن مروان يجلس في حلقتها مع المتفقهة يشتغل عليها وهو خليفة،
رضي الله عنها.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين استهلت هذه السنة
والناس متوافقون لقتال الحجاج وأصحابه بدير قرة، وابن الاشعث وأصحابه
بدير الجماجم، والمبارزة في كل يوم بينهم واقعة، وفي غالب الايام تكون
النصرة لاهل
العراق على أهل الشام، حتى قيل إن أصحاب ابن الاشعث وهم أهل العراق
كسروا أهل الشام وهم أصحاب الحجاج بضعا وثمانين مرة ينتصرون عليهم، ومع
هذا فالحجاج ثابت في مكانه صابر ومصابر لا يتزحزح عن موضعه الذي هو
فيه، بل إذا حصل له ظفر في يوم من الايام يتقدم بجيشه إلى نحو عدوه،
وكان له خبرة بالحرب، وما زال ذلك دأبه ودأبهم حتى أمر بالحملة على
كتيبة القراء، لان الناس كانوا تبعا لهم، وهم الذين يحرضونهم على
القتال والناس يقتدون بهم، فصبر القراء لحملة جيشه، ثم جمع الرماة من
جيشه وحمل بهم، وما انفك حتى قتل منهم خلقا كثيرا، ثم حمل على ابن
الاشعث وعلى من معه من الجيش فانهزم أصحاب ابن الاشعث وذهبوا في كل وجه
(2)، وهرب ابن الاشعث بين أيديهم ومعه فل قليل من الناس، فأتبعه الحجاج
جيشا كثيفا مع عمارة بن غنم (3) اللخمي ومعه محمد بن الحجاج والامرة
لعمارة، فساقوا وراءهم يطردونهم لعلهم يظفرون به قتلا أو أسرا، فما زال
يسوق ويخترق الاقاليم والكور والرساتيق، وهم في أثره حتى وصل إلى
كرمان، واتبعه
__________
(1) من طبقات ابن سعد 6 / 178 وفي الاصل أبو عمرو.
(2) في ابن الاثير 4 / 481: فنزل هو ومن معه لا يلوون على شئ، وفي
الطبري 8 / 27: مضى ابن الاشعث والفل من المنهزمين معه نحو سجستان.
وفي مروج الذهب 3 / 160: فمضى حتى انتهى إلى ملوك الهند.
(3) في الطبري: تميم.
(9/58)
الشاميون
فنزلوا في قصر كان فيه أهل العراق قبلهم، فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض
أهل الكوفة من أصحاب ابن الاشعث الذين فروا معه من شعر أبي جلدة (1)
اليشكري يقول: أيا لهفا ويا حزنا جميعا * ويا حر (2) الفؤاد لما لقينا
تركنا الدين والدنيا جميعا * وأسلمنا (3) الحلائل والبنينا فما كنا
أناسا أهل دنيا (4) * فنمنعها ولو لم نرج دينا تركنا دورنا لطغام عك *
وأنباط القرى والاشعرينا ثم إن ابن الاشعث دخل هو ومن معه من الفل إلى
بلاد رتبيل ملك الترك، فأكرمه رتبيل وأنزله
عنده وأمنه وعظمه.
قال الواقدي: ومر ابن الاشعث وهو ذاهب إلى بلاد رتبيل على عامل (5) له
في بعض المدن كان ابن الاشعث قد استعمله على ذلك عند رجوعه إلى العراق،
فأكرمه ذلك العامل وأهدى إليه هدايا وأنزله، فعل ذلك خديعة به ومكرا،
وقال له: ادخل إلي عندي إلى البلد لتتحصن بها من عدوك ولكن لا تدع أحدا
ممن معك يدخل المدينة، فأجابه إلى ذلك، وإنما أراد المكر به، فمنعه
أصحابه فلم يقبل منهم، فتفرق عنه أصحابه، فلما دخل المدينة وثب عليه
العامل فمسكه وأوثقه بالحديد وأراد أن يتخذ به يدا عند الحجاج، وقد كان
الملك رتبيل سر بقدوم ابن الاشعث، فلما بلغه ما حدث له من جهة ذلك
العامل بمدينة بست، سار حتى أحاط ببست، وأرسل إلى عاملها يقول له:
والله لئن آذيت ابن الاشعث لا أبرح حتى أستنزلك وأقتل جميع من في بلدك،
فخافه ذلك العامل وسير إليه ابن الاشعث فأكرمه رتبيل، فقال ابن الاشعث
لرتبيل: إن هذا العامل كان عاملي ومن جهتي، فغدر بي وفعل ما رأيت، فأذن
لي في قتله، فقال: قد أمنته (6).
وكان مع ابن الاشعث عبد
__________
(1) من الاغاني 11 / 310 والطبري 8 / 27 وفي الاصل: أبي خلدة، وفي ابن
الاثير 4 / 484 حلزة وكلاهما تحريف.
وهو ابن عبيد بن منقذ بن حجر بن عبيد الله بن مسلمة بن حبيب بن عدي بن
جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل، شاعر اسلامي أموي
من ساكني الكوفة كان من أخص الناس بالحجاج ثم خرج عليه مع ابن الاشعث
فقتله الحجاج.
(2) في الاغاني: أيا لهفي ويا حزني جميعا ويا غم...(3) في الاغاني:
وخلينا.
(4) في الطبري والاغاني: دين.
وفي الاغاني: فنصبر للبلاء إذا بلينا، وفي الطبري: فنصبر في البلاء.
(5) ذكره الطبري 8 / 28 وهو: عياض بن هميان أبو هشام بن عياض السدوسي،
وفي ابن الاثير 4 / 485 ابن هشام السدوسي.
(6) في ابن الاعثم 7 / 152: عمد ابن الاشعث إلى عياض بن هميان هذا فضرب
عنقه وصلبه وأخذ أمواله وخرب منزله.
(*)
(9/59)
الرحمن بن عباس
(1) بن أبي ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان هو الذي يصلي بالناس
هنالك في بلاد رتبيل، ثم إن جماعة من الفل الذين هربوا من الحجاج
اجتمعوا وساروا وراء ابن الاشعث ليدركوه فيكونوا معه - وهم قريب من
ستين ألفا - فلما وصلوا إلى سجستان وجدوا ابن الاشعث قد دخل إلى عند
رتبيل فتغلبوا على سجستان وعذبوا عاملها عبد الله بن عامر النعار (2)
وإخوته وقرابته، واستحوذوا على ما فيها من الاموال، وانتشروا في تلك
البلاد وأخذوها، ثم كتبوا إلى ابن الاشعث: أن اخرج إلينا حتى نكون معك
ننصرك على من يخالفك، ونأخذ بلاد خراسان، فإن بها جندا ومنعة كثيرة
منا، فنكون بها حتى يهلك الله الحجاج أو عبد الملك، فنرى بعد ذلك
رأينا.
فخرج إليهم ابن الاشعث وسار بهم قليلا إلى نحو خراسان فاعتزله شرذمة من
أهل العراق مع عبيد الله بن سمرة (3)، فقام فيهم ابن الاشعث خطيبا فذكر
غدرهم ونكولهم عن الحرب، وقال: لا حاجة لي بكم، وأنا ذاهب إلى صاحبي
رتبيل فأكون عنده.
ثم انصرف عنهم وتبعه طائفة منهم وبقي معظم الجيش.
فلما انفصل عنهم ابن الاشعث بايعوا عبد الرحمن بن عباس (1) بن أبي
ربيعة الهاشمي، وساروا معه إلى خراسان فخرج إليهم أميرها يزيد بن
المهلب بن أبي صفرة، فمنعهم من دخول بلاده، وكتب إلى عبد الرحمن بن
عباس (4) يقول له: إن في البلاد متسعا فاذهب إلى أرض ليس بها سلطان
فإني أكره قتالك، وإن كنت تريد مالا بعثت إليك.
فقال له: إنا لم نجئ لقتال أحد، وإنما جئنا نستريح ونريح خيلنا ثم نذهب
وليست بنا حاجة إلى شئ مما عرضت.
ثم أقبل عبد الرحمن على أخذ الخراج مما حوله من البلاد من كور خراسان،
فخرج إليه يزيد بن المهلب ومعه أخوه المفضل في جيوش كثيفة، فلما
صادفوهم (5) اقتتلوا غير كثير ثم انهزم أصحاب عبد الرحمن بن عباس، وقتل
يزيد منهم مقتلة كبيرة، واحتاز ما في معسكره، وبعث بالاسارى (6) وفيهم
محمد بن سعد بن أبي وقاص إلى الحجاج، ويقال إن محمد بن سعد قال ليزيد
بن المهلب: أسألك بدعوة أبي لابيك لما أطلقتني، فأطلقه.
قال ابن جرير: ولهذا الكلام خبر فيه طول، ولما قدمت الاسارى على الحجاج
قتل أكثرهم
وعفا عن بعضهم، وقد كان الحجاج يوم ظهر على ابن الاشعث نادى مناديه في
الناس: من رجع فهو
__________
(1) في الاصل عياش تحريف.
وقد تقدم.
(2) في الطبري: البعار.
(3) في الطبري 8 / 29: عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة القرشي، وخرج
في ألفين وفارقوا ابن الاشعث (انظر ابن الاثير 4 / 486).
(4) في الاصل عياش تحريف.
وفي ابن الاعثم 7 / 153 أن الاشعث عقد له وضم إليه أصحابه وامره
بمحاربة يزيد بن المهلب، فخرج في ستين الفا لمقاتلته.
(5) في ابن الاعثم 7 / 153: وافاهم بمكان يقال له المنعرج.
(6) في الفتوح: أما اليمانية فأطلقهم يزيد بن المهلب، وأما المضرية
فشدهم في الحديد ووجههم إلى الحجاج.
(*)
(9/60)
آمن ومن لحق
بمسلم بن قتيبة بالري فهو آمن، فلحق بمسلم خلق كثير ممن كان مع ابن
الاشعث فأمنهم الحجاج، ومن لم يلحق به شرع الحجاج في تتبعهم، فقتل منهم
خلقا كثيرا حتى كان آخر من قتل منهم سعيد بن جبير على ما سيأتي بيانه.
وكان الشعبي من جملة من صار إلى مسلم بن قتيبة فذكره الحجاج يوما فقيل
له: انه سار إلى مسلم بن قتيبة، فكتب إلى مسلم: أن ابعث لي بالشعبي قال
الشعبي: فلما دخلت عليه سلمت عليه بالامرة ثم قلت: أيها الامير إن
الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق، وأيم الله
لا أقول في هذا المقام إلا الحق كائنا في ذلك ما كان، قد والله تمردنا
عليك، وخرجنا وجهدنا كل الجهد فما ألونا، فما كنا بالاقوياء الفجرة،
ولا بالاتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا فإن سطوت
فبذنوبنا وما جرت إليك أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد، فلك الحجة
علينا.
فقال الحجاج: أنت والله يا شعبي أحب إلي ممن يدخل علينا يقطر سيفه من
دمائنا ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي.
قال: فانصرفت فلما مشيت قليلا قال: هلم يا شعبي، قال: فوجل لذلك قلبي،
ثم ذكرت قوله قد أمنت يا شعبي فاطمأنت نفسي،
فقال: كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبي ؟ - قال: وكان لي مكرما قبل الخروج
عليه - فقلت: أصلح الله الامير، قد اكتحلت بعدك السهر، واستوعرت السهل،
واستوخمت الجناب، واستجلست الخوف، واستحليت الهم، وفقدت صالح الاخوان،
ولم أجد من الامير خلفا.
قال انصرف يا شعبي، فانصرفت.
ذكر ذلك ابن جرير وغيره.
ورواه أبو مخنف عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي عن الشعبي.
وروى البيهقي: أنه سأله عن مسألة في الفرائض وهي أم زوج وأخت وما كان
يقوله فيها الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود، وكان لكل منهم قول
فيها، فنقل ذلك كله الشعبي في ساعة فاستحسن قول علي وحكم بقول عثمان،
وأطلق الشعبي بسبب ذلك (1).
وقيل إن الحجاج قتل خمسة آلاف أسير ممن سيرهم إليه يزيد بن المهلب كما
تقدم ذلك، ثم سار إلى الكوفة فدخلها فجعل لا يبايع أحدا من أهلها إلا
قال: اشهد على نفسك أنك قد كفرت، فإذا قال نعم بايعه، وإن أبى قتله،
فقتل منهم خلقا كثيرا ممن أبى أن يشهد على نفسه بالكفر، قال فاتي برجل
فقال الحجاج: ما أظن هذا يشهد على نفسه بالكفر لصلاحه ودينه - وأراد
الحجاج مخادعته - فقال: أخادعي أنت عن نفسي ؟ أنا أكفر أهل الارض وأكفر
من فرعون وهامان ونمروذ.
قال: فضحك الحجاج وخلى سبيله.
وذكر ابن جرير من طريق أبي مخنف: أن أعشى همدان أتي به إلى الحجاج -
وكان قد عمل
__________
(1) انظر تفاصيل اللقاء بينهما وسؤال الحجاج له وجواب الشعبي عليه في
مروج الذهب 3 / 176 - 177.
والامامة والسياسة 2 / 48 وفيه أن اللقاء تم بعد شهرين من أسر الشعبي.
(*)
(9/61)
قصيدة هجا فيها
الحجاج وعبد الملك بن مروان ويمدح فيها ابن الاشعث وأصحابه - فاستنشده
إياها فأنشده قصيدة طويلة دالية (1)، فيها مدح كثير لعبد الملك وأهل
بيته، فجعل أهل الشام يقولون: قد أحسن أيها الامير، فقال الحجاج: إنه
لم يحسن، إنما يقول هذا مصانعة، ثم ألح عليه حتى أنشده قصيدته الاخرى
(2)، فلما أنشدها غضب عند ذلك الحجاج وأمر به فضربت عنقه صبرا بين
يديه.
واسم الاعشى هذا عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث أبو المصبح الهمداني
الكوفي الشاعر، أحد الفصحاء البلغاء المشهورين، وقد كان له فضل وعبادة
في مبتداه، ثم ترك ذلك وأقبل على الشعر فعرف به، وقد وفد على النعمان
بن بشير وهو أمير بحمص فامتدحه، وكان محصوله في رحلته إليه منه ومن جند
حمص أربعين ألف دينار، وكان زوج أخت الشعبي، كما أن الشعبي كان زوج
أخته أيضا، وكان ممن خرج مع ابن الاشعث، فقتله الحجاج كما ذكرنا رحمه
الله.
وقد كان الحجاج وهو مواقف لابن الاشعث بعث كمينا يأتون جيش ابن الاشعث
من ورائه، ثم تواقف الحجاج وابن الاشعث وهرب الحجاج بمن معه وترك
معسكره، فجاء ابن الاشعث فاحتاز ما في المعسكر وبات فيه، فجاءت السرية
إليهم ليلا وقد وضعوا أسلحتهم فمالوا عليهم ميلة واحدة، ورجع الحجاج
بأصحابه فأحاطوا بهم فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتل من أصحاب ابن الاشعث
خلق كثير وغرق خلق كثير منهم في دجلة ودجيل، وجاء الحجاج إلى معسكرهم
فقتل من وجده فيه، فقتل منهم نحوا من أربعة آلاف، منهم جماعة من
الرؤساء والاعيان، واحتازوه بكماله، وانطلق ابن الاشعث هاربا في
ثلاثمائة فركبوا دجيلا في السفن وعقروا دوابهم وجازوا إلى البصرة، ثم
ساروا من هنالك إلى بلاد الترك، وكان في دخوله بلاد رتبيل ما تقدم، ثم
شرع الحجاج في تتبع أصحاب ابن الاشعث فجعل يقتلهم مثنى وفرادى، حتى قيل
إنه قتل منهم بين يديه صبرا مائة ألف وثلاثين ألفا، قاله النضر بن شميل
عن هشام بن حسان، منهم محمد بن سعد بن أبي وقاص، وجماعات من السادات
الاخيار، والعلماء الابرار، حتى كان آخرهم سعيد بن جبير رحمهم الله
ورضي عنهم كما سيأتي ذلك في موضعه.
__________
(1) ومنها في الطبري 8 / 32، وابن الاثير 4 / 489.
أبى الله إلا أن يتمم نوره * ويطفئ نور الفاسقين فيخمدا إلى قوله:
وجدنا بني مروان خير أئمة * وافضل هذي الناس حلما وسؤددا (2) وهي دالية
أيضا وفيها يمدح ابن الاشعث ويحرض أهل الكوفة على القتال ومنها:
وإذا سألت المجد أين محله * فالمجد بين محمد وسعيد بين الاشج وبين قيس
باذخ * بخ بخ لوالده وللمولود فلما قال أعشى هذا البيت قال الحجاج: لا
والله لا تبخبخ بعدها لاحد أبدا فقدمه فضرب عنقه.
(*)
(9/62)
بناء واسط قال
ابن جرير: وفي هذه السنة بنى الحجاج واسط، وكان سبب بنائه لها أنه رأى
راهبا على أتان قد أجاز دجلة، فلما مر بموضع واسط وقفت أتانه فبالت،
فنزل عنها وعمد إلى موضع بولها فاحتفره ورمى به في دجلة، فقال الحجاج:
علي به، فأتي به فقال له: لم صنعت هذا ؟ قال: إنا نجد في كتبنا أنه
يبني في هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام في الارض أحد يوحده.
فعند ذلك اختط الحجاج مدينة واسط في ذلك المكان وبني المسجد في ذلك
الموضع.
وفيها كانت غزوة عطاء بن رافع صقلية.
وممن توفي فيها من الاعيان: عبد
الرحمن بن جحيرة الخولاني المصري، روى عن جماعة من الصحابة وكان عبد
العزيز بن مروان أمير مصر قد جمع له بين القضاء والقصص وبيت المال:
وكان رزقه في العام ألف دينار، وكان لا يدخر منها شيئا.
طارق بن شهاب ابن عبد شمس الاحمسي ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم
وغزا في خلافة الصديق وعمر رضي الله عنهما بضعا وأربعين غزاة، توفي
بالمدينة هذه السنة.
عبيد الله بن عدي ابن الخيار أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وحدث عن
جماعة من الصحابة عبد الله بن قيس بن مخرمة، كان قاضي المدينة.
وكان من فقهاء قريش وعلمائهم وأبوه عدي ممن قتل يوم بدر كافرا.
وتوفي بها في هذه السنة مرثد بن عبد الله أبو الخير اليزني.
وفيها فقد جماعة من القراء والعلماء الذين كانوا مع الاشعث، منهم من
هرب ومنهم من قتل في المعركة، ومنهم من أسر فضرب
الحجاج عنقه، ومنهم من تتبعه الحجاج حتى قتله، وقد سمى منهم خليفة بن
خياط طائفة من الاعيان، فمنهم مسلم بن يسار المزني، وأبو مرانة العجلي
قتل، وعقبة بن عبد الغفار قتل، وعقبة بن وشاح قتل، وعبد الله بن خالد
الجهضمي قتل، وأبو الجوزاء الربعي قتل، والنضر بن أنس، وعمران والد أبي
حمزة الضبعي، وأبو المنهال سيار بن سلامة الرياحي، ومالك بن دينار،
ومرة بن ذباب الهدادي وأبو نجيد الجهضمي، وأبو سبيج الهنائي، وسعيد بن
أبي الحسن، وأخوه الحسن البصري قال أيوب: قيل لابن الاشعث: إن أحببت أن
يقتل الناس حولك كما قتلوا حول هودج عائشة يوم الجمل فأخرج الحسن معك،
فأخرجه.
ومن أهل الكوفة سعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن
شداد، والشعبي، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، والمعرور بن سويد،
ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، وأبو البختري، وطلحة بن مصرف، وزبيد بن
الحارث الياميان، وعطاء بن السائب.
قال أيوب: فما منهم صرع مع ابن الاشعث إلا
(9/63)
رغب عن مصرعه، ولا نجا أحد منهم إلا حمد الله الذي سلمه.
ومن أعيان من قتل الحجاج عمران بن عصام الضبعي، والد أبي حجزة، كان من
علماء أهل البصرة، وكان صالحا عابدا، أتي به أسيرا إلى الحجاج فقال له:
اشهد على نفسك بالكفر حتى أطلقك، فقال: والله إنى ما كفرت بالله منذ
آمنت به، فأمر به فضربت عنقه.
عبد الرحمن بن أبي ليلى، روى عن جماعة من الصحابة، ولابيه أبي ليلى
صحبة، أخذ عبد الرحمن القرآن عن علي بن أبي طالب: خرج مع ابن الاشعث
فأتي به الحجاج فضرب عنقه بين يديه صبرا. |