البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة أربع وثمانين قال الواقدي: فيها افتتح عبد الله بن عبد
الملك المصيصة، وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فقتل منهم خلقا وصرف
كنائسهم وضياعهم وتسمى سنة الحريق، وفيها استعمل الحجاج على فارس محمد
بن القاسم الثقفي، وأمره بقتل الاكراد.
وفيها ولى عبد الملك الاسكندرية عياض بن غنم البجيني وعزل عنها عبد
الملك بن أبي الكنود الذي كان قد وليها في العام الماضي.
وفيها افتتح
موسى بن نصير طائفة من بلاد المغرب من ذلك بلد أرومة، وقتل من أهلها
بشرا كثيرا جدا، وأسر نحوا من خمسين ألفا.
وفيها قتل الحجاج أيضا جماعة من أصحاب ابن الاشعث، منهم: أيوب بن
القرية وكان فصيحا بليغا واعظا، قتله صبرا بين يديه، ويقال إنه ندم على
قتله.
وهو أيوب بن زيد ابن قيس أبو سليمان الهلالي المعروف بابن القرية.
وعبد الله بن الحارث بن نوفل.
وسعد بن إياس الشيباني، وأبو غنينما الخولاني.
له صحبة ورواية، سكن حمص وبها توفي وقد قارب المائة سنة.
عبد الله بن قتادة، وغير هؤلاء جماعة منهم من قتلهم الحجاج، ومنهم من
توفي.
أبو زرعة الجذامي الفلسطيني، كان ذا منزلة عند أهل الشام، فخاف منه
معاوية ففهم منه ذلك أبو زرعة فقال يا أمير المؤمنين لا تهدم ركنا
بنيته، ولا تحزن صاحبا سررته، ولا تشمت عدوا كبته، فكف عنه معاوية.
وفيها توفي عتبة بن منذر السلمي
صحابي جليل، كان يعد في أهل الصفة.
عمران بن حطان الخارجي، كان أولا من أهل السنة والجماعة فتزوج امرأة من
الخوارج حسنة جميلة جدا فأحبها.
وكان هو دميم الشكل، فأراد أن يردها إلى السنة فأبت فارتد معها إلى
مذهبها.
وقد كان من الشعراء المفلقين، وهو القائل في قتل علي وقاتله: يا ضربة
من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لاذكره يوما
فأحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا أكرم بقوم بطون الطبر قبرهم * لم
يخلطوا دينهم بغيا وعدوانا
(9/64)
وقد كان الثوري
يتمثل بأبياته هذه في الزهد في الدنيا وهي قوله: - أرى أشقياء الناس لا
يسأمونها * على أنهم فيها عراة وجوع أراها وإن كانت تحب فأنها * سحابة
صيف عن قليل تقشع كركب قضوا حاجاتهم وترحلوا * طريقهم بادي العلامة
مهيع مات عمران بن حطان سنة أربع وثمانين.
وقد رد عليه بعض العلماء في أبياته المتقدمة في قتل
علي رضي الله عنه بأبيات على قافيتها ووزنها: بل ضربة من شقى ما أراد
بها * إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا إني لاذكره يوما فأحسبه * أشقى
البرية عند الله ميزانا روح بن زنباع الجذامي كان من أمراء الشام وكان
عبد الملك يستشيره في أموره.
وفيها كان مهلك عبد الرحمن بن الاشعث الكندي وقيل في التي بعدها فالله
أعلم.
وذلك أن الحجاج كتب إلى رتبيل ملك الترك الذي لجأ إليه ابن الاشعث يقول
له: والله الذي لا إله إلا هو لئن لم تبعث إلي بابن الاشعث لابعثن إلى
بلادك ألف ألف مقاتل، ولاخربنها.
فلما تحقق الوعيد من الحجاج استشار في ذلك بعض الامراء فأشار عليه
بتسليم ابن الاشعث إليه قبل أن يخرب الحجاج دياره ويأخذ عامة أمصاره،
فأرسل إلى الحجاج يشترط عليه أن لا يقاتل عشر سنين، وأن لا يؤذي في كل
سنة منها إلا مائة ألف من الخراج، فأجابه الحجاج إلى ذلك، وقيل إن
الحجاج وعده أن يطلق له خراج أرضه سبع سنين (1)، فعند ذلك غدر رتبيل
بابن الاشعث فقيل إنه أمر بضرب عنقه صبرا بين يديه، وبعث برأسه إلى
الحجاج، وقيل: بل كان ابن الاشعث قد مرض مرضا شديدا فقتله وهو بآخر رمق
(2)، والمشهور أنه قبض عليه وعلى ثلاثين (3) من أقربائه فقيدهم في
الاصفاد وبعث بهم مع
__________
(1) في رواية عند الطبري 8 / 40 انه كان عند رتبيل رجل من بني تميم
يقال له عبيد بن أبي سبيع (وكان من خواص ابن الاشعث ورسوله إلى رتبيل
فخص به رتبيل وخف عليه، فحاول عبد الرحمن قتله، فعمل عبيد على تخويف
رتبيل من الحجاج ودعاه إلى الغدر به فقال لرتبيل أنا آخذ لك من الحجاج
عهدا ليكفن الخراج عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه ابن الاشعث.
فأجابه إلى ذلك، فخرج عبيد إلى عمارة بن تميم الذي كتب بذلك للحجاج
فأجابه الحجاج إلى ذلك).
انظر ابن الاثير 4 / 501.
أما في ابن الاعثم 7 / 156: فكتب الحجاج إلى رتبيل فقد وجهت إليك
بعمارة بن تميم في ثلاثين ألفا...فإذا قدموا بلدك فسلم إليهم ابن
الاشعث وأنت آمن في بلدك أبدا ما بقيت، لا يؤخذ منك الجزية، ولا يغزوك
أحد من العرب، وتعطي في كل سنة خمسمائة ألف درهم.
(2) في ابن الاثير 4 / 502 والطبري 8 / 40: أصابه السل ومات، فقطع رأسه
رتبيل قبل أن يدفن وأرسله إلى الحجاج.
= (*)
(9/65)
رسل الحجاج
إليه، فلما كانوا ببعض الطريق بمكان يقال له الرجح، صعد ابن الاشعث وهو
مقيد بالحديد إلى سطح قصر ومعه رجل موكل به لئلا يفر، وألقى نفسه من
ذلك القصر وسقط معه الموكل به فماتا جميعا (1)، فعمد الرسول إلى رأس
ابن الاشعث فاحتزه، وقتل من معه من أصحاب ابن الاشعث وبعث برؤوسهم إلى
الحجاج فأمر فطيف برأسه في العراق، ثم بعثه إلى عبد الملك فطيف برأسه
في الشام، ثم بعث به إلى أخيه عبد العزيز بمصر فطيف برأسه هنالك، ثم
دفنوا رأسه بمصر (2) وجثته بالرجح، وقد قال بعض الشعراء في ذلك: -
هيهات موضع جثة من رأسها * رأس بمصر وجثة بالرجح (3) وإنما ذكر ابن
جرير مقتل ابن الاشعث في سنة خمس وثمانين فالله أعلم.
وعبد الرحمن هذا هو أبو محمد بن الاشعث بن قيس، ومنهم من يقول عبد
الرحمن بن قيس بن محمد بن الاشعث بن قيس الكندي الكوفي، قد روى له أبو
داود والنسائي عن أبيه عن جده عن ابن مسعود: حديث " إذا اختلف
المتبايعان والسلعة قائمة فالقول ما قال البائع أو تشاركا ".
وعنه أبو العميس ويقال إن الحجاج قتله بعد التسعين سنة فالله أعلم.
والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالامارة وليس من قريش، وإنما
هو كندي من اليمن، وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الامارة لا
تكون إلا في قريش، واحتج عليهم الصديق بالحديث في ذلك، حتى إن الانصار
سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين فأبى الصديق عليهم ذلك، ثم
مع هذا كله ضرب سعد بن عبادة الذي دعا إلى ذلك أولا ثم رجع عنه، كما
قررنا ذلك فيما تقدم.
فكيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالامارة على المسلمين من سنين
فيعزلونه وهو من صلبية قريش ويبايعون لرجل كندي بيعة لم يتفق عليها أهل
الحل والعقد ؟ ولهذا لما كانت هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كبير هلك
فيه خلق كثير فإنا لله وإنا إليه راجعون.
__________
= (3) في ابن الاعثم: ستة وعشرين رجلا.
(1) في الطبري 8 / 40: فألقى نفسه من فوق إجار فمات.
وفي ابن الاثير 4 / 502: فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح قصره فمات.
وفي ابن الاعثم 7 / 157: وابن الاشعث يومئذ عليل...فلم يصل إلى عمارة
بن تميم حتى مات في بعض الطريق.
(2) في ابن الاعثم 7 / 158: ثم أمر برؤوسهم فطيف بها في أجناد أهل
الشام وأهل مصر ثم بعث بها بعد ذلك إلى بئر برهوت - برهرت حضر موت
فألقيت هناك.
وفي معجم البلدان: برهوت بئر بحضر موت...وقال محمد بن أحمد: وبقرب حضر
موت وادي برهوت وهو الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) ان فيه
أرواح الكفار والمنافقين.
(3) في ابن الاثير 4 / 502 الرخج، وفي الطبري 8 / 41: الرحج.
وفي معجم البلدان: رخج بتشديد ثانيه: كورة ومدينة من نواحي كابل.
(*)
(9/66)
أيوب بن القرية
وهي أمه واسم أبيه يزيد (1) بن قيس بن زرارة بن مسلم النمري الهلالي،
كان أعرابيا أميا، وكان يضرب به المثل في فصاحته وبيانه وبلاغته، صحب
الحجاج ووفد على عبد الملك، ثم بعثه رسولا إلى ابن الاشعث فقال له ابن
الاشعث: لئن لم تقم خطيبا فتخلع الحجاج لاضربن عنقك، ففعل وأقام عنده،
فلما ظهر الحجاج استحضره وجرت له معه مقامات ومقالات في الكلام، ثم آخر
الامر ضرب عنقه وندم بعد ذلك على ما فعل من ضرب عنقه، ولكن ندم حيث لا
ينفعه الندم.
كما قيل: وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل.
وقد ذكره ابن عساكر في تاريخه وابن خلكان في الوفيات وأطال ترجمته وذكر
فيها أشياء حسنة، قال: والقرية بكسر القاف وتشديد الياء وهي جدته (4)
واسمها جماعة بنت جشم قال ابن خلكان: ومن الناس (3) من أنكر وجوده
ووجود مجنون ليلى، وابن أبي العقب صاحب الملحمة، وهو يحيى بن عبد الله
بن أبي العقب والله أعلم.
روح بن زنباع
ابن سلامة الجذامي أبو زرعة ويقال أبوزنباع الدمشقي داره بدمشق في طرف
البزوريين عند دار ابن عقب صاحب الملحمة.
وهي تابعي جليل، روى عن أبيه - وكانت له صحبة - وتميم الداري، وعبادة
بن الصامت ومعاوية وكعب الاحبار وغيرهم، وعنه جماعة منهم عبادة بن نسي.
كان روح عند عبد الملك كالوزير لا يكاد يفارقه، وكان مع أبيه مروان يوم
مرج راهط، وقد أمره يزيد بن معاوية على جند فلسطين، وزعم مسلم بن
الحجاج أن روح بن زنباع كانت له صحبة، ولم يتابع مسلم على هذا القول،
والصحيح أنه تابعي وليس بصحابي، ومن مآثره التي تفرد بها أنه كان كلما
خرج من الحمام يعتق نسمة، قال ابن زيد: مات سنة أربع وثمانين بالاردن،
وزعم بعضهم أنه بقي إلى أيام هشام بن عبد الملك، وقد حج مرة فنزل على
ماء بين مكة والمدينة فأمر فأصلحت له أطعمة مختلفة الالوان، ثم وضعت
بين يديه، فبينما هو يأكل إذ جاء راع من الرعاة يرد الماء، فدعاه روح
بن زنباع إلى الاكل من ذلك الطعام، فجاء الراعي فنظر إلى طعامه وقال:
إني صائم، فقال له روح: في مثل هذا اليوم الطويل الشديد الحر تصوم يا
راعي ؟ فقال الراعي: أفأغبن أيامي من أجل طعامك ؟ ثم إن الراعي ارتاد
لنفسه مكانا فنزله وترك روح بن زنباع، فقال روح بن زنباع: - لقد ضننت
بأيامك يا راعي * إذ جاد بها روح بن زنباع
__________
(1) في ابن خلكان 1 / 250: زيد.
وانظر المعارف لابن قتيبة ص 178.
(2) في المعارف: القرية أمه.
(3) انظر الاغاني 2 / 11 قال: وقد قيل ان ثلاثة اشخاص شاعت أخبارهم
واشتهرت اسماؤهم ولا حقيقة لهم ولا وجود في الدنيا.
(*)
(9/67)
ثم إن روحا بكى
طويلا وأمر بتلك الاطعمة فرفعت، وقال: انظروا هل تجدون لها آكلا من هذه
الاعراب أو الرعاة ؟ ثم سار من ذلك المكان وقد أخذ الراعي بمجامع قلبه
وصغرت إليه نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين
فيها كما ذكر ابن جرير: كان مقتل عبد الرحمن بن الاشعث فالله أعلم،
وفيها عزل الحجاج عن إمرة خراسان يزيد بن المهلب وولى عليها أخاه
المفضل بن المهلب، وكان سبب ذلك أن الحجاج وفد مرة على عبد الملك فلما
انصرف مر بدير فقيل له: إن فيه شيخا كبيرا من أهل الكتاب عالما، فدعي
فقال: يا شيخ هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه وما نحن فيه ؟ قال: نعم.
قال له فما تجدون صفة أمير المؤمنين ؟ قال: نجده ملكا أقرع، من يقم في
سبيله يصرع، قال: ثم من ؟ قال: ثم رجل يقال له الوليد، قال: ثم ماذا ؟
قال ثم رجل اسمه اسم نبي يفتح به على الناس، قال: فتعرفني له قال: قد
أخبرت بك.
قال: أفتعرف مالي ؟ قال: نعم ! قال: فمن يلي العراق بعدي ؟ قال رجل
يقال له يزيد، قال أفي حياتي أو بعد موتي ؟ قال لا أدري، قال: أفتعرف
صفته ؟ قال يغدر غدرة لا أعرف غيرها قال: فوقع في نفس الحجاج أنه يزيد
بن المهلب، وسار سبعا وهو وجل من كلام الشيخ، ثم بعث إلى عبد الملك
يستعفيه من ولاية العراق ليعلم مكانته عنده ؟ فجاء الكتاب بالتقريع
والتأنيب والتوبيخ والامر بالثبات والاستمرار على ما هو عليه.
ثم إن الحجاج جلس يوما مفكرا واستدعى بعبيد بن موهب فدخل عليه وهو ينكت
في الارض فرفع رأسه إليه فقال: ويحك يا عبيد، إن أهل الكتاب يذكرون أن
ما تحت يدي سيليه رجل يقال له يزيد، وقد تذكرت يزيد بن أبي كبشة ويزيد
بن حصين بن نمير ويزيد بن دينار وليسوا هناك، وما هو إلا يزيد بن
المهلب.
فقال عبيد: لقد شرفهم وعظمت ولايتهم وإن لهم لقدرا وجلدا وحظا فأخلق
به.
فأجمع رأي الحجاج على عزل يزيد بن المهلب، فكتب إلى عبد الملك يذمه
ويخوفه غدره ويخبره بما أخبره به ذلك الشيخ الكتابي، فجاء البريد بكتاب
فيه قد أكثرت في شأن يزيد فسم رجلا يصلح لخراسان، فوقع اختيار الحجاج
على المفضل بن المهلب فولاه قليلا تسعة أشهر (1)، فغزا بلاد عبس وغيرها
وغنم
__________
(1) في ابن الاعثم 7 / 199 أحب الحجاج أن يعزل يزيد عن خراسان (ويذل آل
المهلب) فتزوج لاخت يزيد، وأمر يزيد أن ينصرف إلى ما قبله وهو يعتل
بحروب خراسان، فولى اخاه المفضل الري ليكون خليفة ليزيد إلى أن ينصرف
إليها (يزيد) وفي كتابه إليه امره أن يسلم العمل إلى المفضل وأن يقدم
إليه.
فشاور يزيد حضين بن المنذر الربعي (وفي ابن الاثير: الرقاشي) فأشار
عليه بعدم المصير إلى الحجاج وخوفه منه.
فقال يزيد: نحن أهل بيت
قد بورك لنا في الطاعة وأنا أكره الخلاف...فتجهز وخرج من خراسان، فقدم
المفضل إلى خراسان.
وبلغ الحجاج ذلك فدعا قتيبة بن مسلم فعقد له عقدا وضم إليه جيشا وولاه
خراسان (وانظر ابن الاثير 4 / 503 - 504).
والطبري 8 / 43.
(*)
(9/68)
مغانم كثيرة،
وامتدحه الشعراء ثم عزله بقتيبة بن مسلم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ، ثم
ذكر سبب ذلك وملخصه أنه بعد مقتل أبيه لم يبق بلد يلجأ إليه بمن معه من
أصحابه، فجعل كلما اقترب من بلدة خرج إليه ملكها فقاتله، فلم يزل ذلك
دأبه حتى نزل قريبا من ترمذ وكان ملكها فيه ضعف، فجعل يهادنه ويبعث
إليه بالالطاف والتحف، حتى جعل يتصيد هو وهو، ثم عن للملك فعمل له
طعاما وبعث إلى موسى بن عبد الله بن خازم أن ائتني في مائة من اصحابك،
فاختار موسى من جيشه مائة من شجعانهم، ثم دخل البلد فلما فرغت الضيافة
اضطجع موسى في دار الملك وقال: والله لا أقوم من هنا حتى يكون هذا
المنزل منزلي أو يكون قبري: فثار أهل القصر إليه فحاجف عنه أصحابه، ثم
وقعت الحرب بينهم وبين أهل ترمذ، فاقتتلوا فقتل من أهل ترمذ خلق كثير
وهرب بقيتهم، واستدعى موسى ببقية جيشه إليه واستحوذ موسى على البلد
فحصنها ومنعها من الاعداء، وخرج منها ملكها هاربا فلجأ إلى إخوانه من
الاتراك فاستنصرهم فقالوا له: هؤلاء قوم نحو من مائة رجل أخرجوك من
بلدك، لا طاقة لنا بقتال هؤلاء،.
ثم ذهب ملك ترمذ إلى طائفة أخرى من الترك فاستصرخهم فبعثوا معه قصادا
نحو موسى ليسمعوا كلامه، فلما أحس بقدومهم - وكان ذلك في شدة الحر -
أمر أصحابه أن يؤججوا نارا ويلبسوا ثياب الشتاء ويدنوا أيديهم من النار
كأنهم يصطلون بها، فلما وصلت إليهم الرسل رأوا أصحابه وما يصنعون في
شدة الحر فقالوا لهم: ما هذا الذي نراكم تفعلون ؟ فقالوا لهم: إنا نجد
البرد في الصيف والكرب في الشتاء، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا: ما هؤلاء
بشر، ما هؤلاء إلا جن ثم غدوا إلى ملكهم فأخبروه بما رأوا فقالوا: لا
طاقة لنا بقتال هؤلاء.
ثم ذهب صاحب ترمذ فاستجاش بطائفة أخرى فجاؤوا فحاصرهم بترمذ وجاء
الخزاعي فحاصرهم
أيضا، فجعل يقاتل الخزاعي أول النهار ويقاتل آخره العجم، ثم إن موسى
بيتهم فقتل منهم مقتلة عظيمة وأفزع ذلك عمر الخزاعي فصالحه وكان معه،
فدخل يوما عليه وليس عنده أحد (1)، وليس يرى معه سلاحا فقال له على وجه
النصح أصلح الله الامير، إن مثلك لا ينبغي أن يكون بلا سلاح، فقال: إن
عندي سلاحا، ثم رفع صدر فراشه فإذا سيفه منتضى فأخذه عمرو (2) فضربه به
حتى برد
__________
(1) يظهر في سياق رواية ابن كثير قلق وتشويش، فرواية الطبري 8 / 47: ان
عمرو بن خالد قال لموسى انك لا تظفر به (أي بعمر الخزاعي) إلا بمكيدة،
فخرج عمرو وأتى معسكر الخزاعي مستأمنا (بحجة هربه من ابن خازم) فأمنه
الخزاعي...وذكر تمام الرواية وانظر ابن الاثير 4 / 508 - 510.
(2) من الطبري وابن الاثير، وهو عمرو بن خالد بن حصين الكلابي المتقدم
في الحاشية السابقة، وقد ضرب الخزاعي فقتله وتفرق جيش الخزاعي وأتى
بعضهم موسى مستأمنا فأمنه.
ثم اجتمع إلى موسى فل عبد الرحمن بن العباس من هراة وفل ابن الاشعث من
العراق وكابل.
ثم خرج عليهم الترك والتبت والهياطلة فقاتلهم...ثم ارتحل إلى الترمذ،
وهناك اختلف مع ثابت بن قطبة الخزاعي فحصر موسى في ثمانين ألفا...ثم
قتل ثابت ثم جهز المفضل بن المهلب - بعد عزل يزيد - جيشا لقتال موسى
فحصره (*)
(9/69)
وخرج هاربا، ثم
تفرق أصحاب موسى بن عبد الله بن خازم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة عزم عبد الملك على عزل أخيه عبد العزيز بن
مروان عن إمرة الديار المصرية، وحسن له ذلك روح بن زنباع الجذامي،
فبينما هما في ذلك إذ دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب في الليل، وكان لا يحجب
عنه في أي ساعة جاء من ليل أو نهار، فعزاه في أخيه عبد العزيز فندم على
ما كان منه من العزم على عزله، وإنما حمله على إرادة عزله أنه أراد أن
يعهد بالامر من بعده لاولاده الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وذلك
عن رأي الحجاج وترتيبه ذلك لعبد الملك، وكان أبوه مروان عهد بالامر إلى
عبد الملك ثم من بعده إلى عبد العزيز، فأراد عبد الملك أن ينحيه عن
الامرة من بعده بالكلية (1)، ويجعل الامر في أولاده وعقبه، وأن تكون
الخلافة باقية فيهم والله أعلم.
عبد العزيز بن مروان
هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أبو
الأصبغ القرشي الاموي ولد بالمدينة ثم دخل الشام مع أبيه مروان، وكان
ولي عهده من بعد أخيه عبد الملك، وولاه أبوه إمرة الديار المصرية في
سنة خمس وستين فكان واليا عليها إلى هذه السنة، وشهد قتل سعيد بن عمرو
بن العاص كما قدمنا، وكانت له دار بدمشق وهي دار الصوفية اليوم،
المعروفة بالخانقاه السميساطية ثم كانت من بعده لولده عمر بن عبد
العزيز، ثم تنقلت إلى أن صارت خانقاها للصوفية.
وقد روى عبد العزيز بن مروان الحديث عن أبيه وعبد الله بن الزبير وعقبة
بن عامر وأبي هريرة، وحديثه عنه في مسند أحمد وسنن ابي داود أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: " شر ما في الرجل جبن خالع وشح هالع ".
وعنه ابنه عمر والزهري وعلي بن رباح وجماعة.
قال محمد بن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وقال غيره: كأن يلحن في الحديث
وفي كلامه، ثم تعلم العربية فأتقنها وأحسنها فكان من أفصح الناس، وكان
سبب ذلك أنه دخل عليه رجل أيشكو ختنه - وهو زوج ابنته - فقال له عبد
العزيز: من ختنك ؟ فقال الرجل: ختني الخاتن الذي يختن الناس، فقال
لكاتبه ويحك بماذا أجابني ؟ فقال الكاتب: يا أمير المؤمنين كان ينبغي
أن تقول من ختنك، فآلى على نفسه أن لا يخرج من منزله حتى يتعلم
العربية، فمكث جمعة واحدة فتعلمها فخرج وهو من أفصح الناس، وكان بعد
__________
= وضيق عليه وعلى أصحابه، وقد خندق عليه فمكث موسى في ضيق شديد، وزحفت
الترك والصغد فحالوا بين موسى والحصن فقاتلهم فعقروا فرسه فسقط فارتدف
مع مولى له فعقرت دابته فسقط هو ومولاه فقتلوه (انظر الطبري بتفاصيل
واسعة 8 / 49 - 50 وابن الاثير 4 / 511 - 512.
(1) في الكندي ولاة مصر ص 75: وكتب عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز،
يسأله أن يرفع له عن ولاية العهد، ليعهد إلى الوليد وسليمان فأبى عبد
العزيز ذلك وكتب إليه: إن يكن لك ولد فلنا أولاد، ويقضي الله بما يشاء.
إلى قوله: انك لو رأيت الاصبغ لسرك ولم تقدم عليه أحدا.
(انظر ابن الاثير 4 / 514 والطبري 8 / 54).
(*)
(9/70)
ذلك يجزل عطاء
من يعرب كلامه وينقص عطاء من يلحن فيه، فتسارع الناس في زمانه إلى تعلم
العربية.
قال عبد العزيز يوما إلي رجل: ممن أنت ؟ قال: من بنو عبد الدار، فقال:
تجدها في
جائزتك، فنقصت جائزته مائة دينار.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا مجاهد بن موسى، ثنا إسحاق بن يوسف أنبأنا
سفيان، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم قال: كتب عبد العزيز بن
مروان إلى عبد الله بن عمر: ارفع إلي حاجتك.
فكتب إليه ابن عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اليد
العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول ".
ولست أسألك شيئا ولا أرد رزقا رزقنيه الله عزوجل منك.
وقال ابن وهب: حدثني يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس
قال: بعثني عبد العزيز بن مروان بألف دينار إلى ابن عمر قال: فجئت
فدفعت إليه الكتاب فقال: أين المال ؟ فقلت: لا أستطيعه الليلة حتى
أصبح، قال: لا والله لا يبيت ابن عمر الليلة وله ألف دينار، قال: فدفع
إلي الكتاب حتى جئته بها ففرقها رضي الله عنه.
ومن كلامه رحمه الله: عجبا لمؤمن يؤمن ويوقن أن الله يرزقه ويخلف عليه،
كيف يحبس مالا عن عظيم أجر وحسن ثناء.
ولما حضرته الوفاة أحضر له مال يحصيه وإذا هو ثلاثمائة مد من ذهب،
فقال: والله لوددت أنه بعر خائل بنجد، وقال: والله لوددت أني لم أكن
شيئا مذكورا، ولوددت أن أكون هذا الماء الجاري، أو نباتة (1) بأرض
الحجاز، وقال لهم: ائتوني بكفني الذي تكفنوني فيه، فجعل يقول: أف لك ما
أقصر طويلك، وأقل كثيرك.
قال يعقوب بن سفيان عن ابن بكير عن الليث بن سعد قال: كانت وفاته ليلة
الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الاولى سنة ست وثمانين (2)، قال
ابن عساكر: وهذا وهم من يعقوب بن سفيان والصواب سنة خمس وثمانين، فإنه
مات قبل عبد الملك أخيه، ومات عبد الملك بعده بسنة سنة ست وثمانين.
وقد كان عبد العزيز بن مروان من خيار الامراء كريما جوادا ممدحا، وهو
والد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وقد اكتسى عمر أخلاق أبيه وزاد
عليه بأمور كثيرة.
وكان لعبد العزيز من الاولاد غير عمر، عاصم وأبو بكر ومحمد والاصبغ -
مات قبله بقليل فحزن عليه حزنا كثيرا ومرض بعده ومات.
وسهيل وكان له عدة بنات، أم محمد وسهيل وأم عثمان وأم الحكم وأم البنين
وهن من أمهات شتى، وله من الاولاد غير هؤلاء، مات بالمدينة التي بناها
(3) على مرحلة
من مصر وحمل إلى مصر في النيل ودفن بها، وقد ترك عبد العزيز من الاموال
والاثاث والدواب من
__________
(1) في ولاة مصر 76: كناسة.
(2) وهي رواية الكندي أيضا، وفي ابن سعد والطبري فكالاصل سنة 85 ه.
(3) وهي مدينة حلوان فحمل في الليل منها حلوان إلى الفسطاط، فدفن بها
(الكندي - الاعلام للزركلي).
(*)
(9/71)
الخيل والبغال
والابل وغير ذلك ما يعجز عنه الوصف: من جملة ذلك ثلاثمائة مد من ذهب
غير الورق، مع جوده وكرمه وبذله وعطاياه الجزيلة، فإنه كان من أعطى
الناس للجزيل رحمه الله تعالى.
وقد ذكر ابن جرير أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أخيه عبد العزيز وهو
بالديار المصرية يسأله أن ينزل عن العهد الذي له من بعده لولده الوليد
أو يكون ولي العهد من بعده، فإنه أعز الخلق علي.
فكتب إليه عبد العزيز يقول: إني أرى في أبي بكر بن عبد العزيز ما ترى
في الوليد.
فكتب إليه عبد الملك يأمره.
بحمل خراج مصر - وقد كان عبد العزيز لا يحمل إليه شيئا من الخراج ولا
غيره، وإنما كانت بلاد مصر بكمالها وبلاد المغرب وغير ذلك كلها لعبد
العزيز، مغانمها وخراجها وحملها - فكتب عبد العزيز إلى عبد الملك: إني
وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا سنا لا يبلغها أحد من أهل بيتك إلا
كان بقاؤه قليلا، وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولا، فإن
رأيت أن لا تعتب (1) علي بقية عمري فافعل، فرق له عبد الملك وكتب إليه:
لعمري لا أعتب (2) عليك بقية عمرك.
وقال عبد الملك لابنه الوليد: إن يرد الله أن يعطيكها لا يقدر أحد من
العباد على رد ذلك عنك، ثم قال لابنه الوليد وسليمان: هل قارفتما محرما
أو حراما قط ؟ فقالا: لا والله، فقال: الله أكبر، نلتماها ورب الكعبة.
ويقال إن عبد الملك لما امتنع أخوه من إجابته إلى ما طلب منه في بيعته
لولده الوليد دعا عليه وقال: اللهم إنه قطعني فاقطعه، فمات في هذه
السنة كما ذكرنا، فلما جاءه الخبر بموت أخيه عبد العزيز ليلا حزن وبكى
وبكى أهله بكاء كثيرا على عبد العزيز، ولكن سره ذلك من جهة ابنيه فإنه
نال فيها ما كان يؤمله لهما من ولايته إياهما بعده.
وقد كان الحجاج بعث إلى عبد الملك يحسن له
ولاية الوليد ويزينها له من بعده، وأوفد إليه وفدا في ذلك عليهم عمران
بن عصام العثري (3)، فلما دخلوا عليه قام عمران خطيبا فتكلم وتكلم
الوفد في ذلك وحثوا عبد الملك على ذلك وأنشد عمران بن عصام في ذلك:
أمير المؤمنين إليك نهدي * على النأي التحية والسلاما أجبني في بنيك
يكن جوابي * لهم عادية ولنا قواما فلو أن الوليد أطاع فيه * جعلت له
الخلافة والذماما شبيهك حول قبته قريش * به يستمطر الناس الغماما ومثلك
في التقى لم يصب يوما * لدن خلع القلائد والتماما فإن تؤثر أخاك بها
فانا * وجدك لا نطيق لها اتهاما
__________
(1) في الطبري 8 / 54: لا تغثث، وفي ابن الاثير 4 / 514: لا تفسد.
(2) في الطبري: لا أغثث عليه بقية عمره.
وفي ابن الاثير: فرق له عبد الملك وتركه.
(3) في الطبري: العنزي.
(*)
(9/72)
ولكنا نحاذر من
بنيه * بني العلات مأثرة سماما ونخشى إن جعلت الملك فيهم * سحابا أن
تعود لهم جهاما فلايك ما حلبت غدا لقوم * وبعد غد بنوك هم العياما
فأقسم لو تخطاني عصام * بذلك ما عذرت به عصاما ولو إني حبوت أخا بفضل *
أريد به المقالة والمقاما لعقب في بني على بنيه * كذلك أو لرمت له
مراما فمن يك في أقاربه صدوع * فصدع الملك أبطؤه التئاما قال: فهاجه
ذلك على أن كتب لاخيه يستنزله عن الخلافة للوليد فأبى عليه، وقدر الله
سبحانه موت عبد العزيز قبل موت عبد الملك بعام واحد، فتمكن حينئذ مما
أراد من بيعة الوليد وسليمان والله
سبحانه وتعالى أعلم.
بيعة عبد الملك لولده الوليد ثم من بعده لولده سليمان وكان ذلك في هذه
السنة بعد موت عبد العزيز بن مروان، بويع له بدمشق ثم في سائر الاقاليم
ثم لسليمان من بعده، ثم لما انتهت البيعة إلى المدينة امتنع سعيد بن
المسيب أن يبايع في حياة عبد الملك لاحد، فأمر به هشام بن إسماعيل نائب
المدينة فضربه ستين سوطا، وألبسه ثيابا من شعر وأركبه جملا وطاف به في
المدينة، ثم أمر به فذهبوا به إلى ثنية ذباب - وهي الثنية التي كانوا
يصلون عندها ويقيلون - فلما وصلوا إليها ردوه إلى المدينة فأودعوه
السجن، فقال لهم: والله لو أعلم أنكم لا تقتلوني لم أليس هذا الثياب.
ثم كتب هشام بن إسماعيل المخزومي إلى عبد الملك يعلمه بمخالفة سعيد في
ذلك، فكتب إليه يعنفه في ذلك ويأمره باخراجه ويقول له: إن سعيدا كان
أحق منك بصلة الرحم مما فعلت به، وإنا لنعلم أن سعيدا ليس عنده شقاق
ولا خلاف، ويروى أنه قال له: ما ينبغي إلا أن يبايع، فإن لم يبايع ضربت
عنقه أو خليت سبيله.
وذكر الواقدي أن سعيدا لما جاءت بيعة الوليد (1) امتنع من البيعة فضربه
نائبها في ذلك الوقت - وهو جابر بن الاسود بن عوف - ستين سوطا أيضا
وسجنه فالله أعلم.
قال أبو مخنف وأبو معشر والواقدي: وحج بالناس في هذه السنة هشام بن
إسماعيل المخزومي نائب المدينة، وكان على العراق والمشرق بكماله
الحجاج، قال شيخنا الحافظ الذهبي: وتوفي في هذه السنة أبان بن عثمان بن
عفان أمير المدينة، كان من فقهاء المدينة العشرة، قاله يحيى بن القطان.
__________
(1) في الطبري 8 / 56 وابن الاثير 4 / 515: لما جاءت بيعة عبد الله بن
الزبير، ولعل اقحام اسم الوليد سهو من الناسخ، لان جابر بن الاسود كان
على المدينة من قبل ابن الزبير وكان قد دعا الناس إلى بيعته.
(*)
(9/73)
وقال محمد بن
سعد كان ثقة وكان به صمم ووضح كثير، وأصابه الفالج قبل أو يموت.
عبد الله بن عامر بن ربيعة.
عمرو بن حريث.
عمرو بن سلمة.
واثلة بن الاسقع.
شهد واثلة تبوك ثم شهد فتح دمشق ونزلها، ومسجده بها عند حبس باب الصغير
من القبلة.
قلت: وقد احترق مسجده في
فتنة تمر لنك ولم يبق منه إلا رسومه، وعلى بابه من الشرق قناة ماء.
خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، كان أعلم
قريش بفنون العلم، وله يد طولى في الطب، وكلام كثير في الكيمياء، وكان
قد استفاد ذلك من راهب اسمه مريانش (1)، وكان خالد فصيحا بليغا شاعرا
منطقيا كأبيه، دخل يوما على عبد الملك بن مروان بحضرة الحكم بن أبي
العاص، فشكى إليه أن ابنه الوليد يحتقر أخاه عبد الله بن يزيد، فقال
عبد الملك: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة)
[ النمل: 34 ] فقال له خالد: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها
ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) [ الاسراء: 16 ] فقال
عبد الملك: والله لقد دخل علي أخوك عبد الله فإذا هو لا يقيم اللحن،
فقال خالد: والوليد لا يقيم اللحن، فقال عبد الملك: إن أخاه سليمان لا
يلحن، فقال خالد: وأنا أخو عبد الله لا ألحن، فقال الوليد - وكان حاضرا
- لخالد بن يزيد: أسكت، فوالله ما تعد في العير ولا في النفير، فقال
خالد: اسمع يا أمير المؤمنين ! ثم أقبل خالد على الوليد فقال: ويحك وما
هو العير والنفير غير جدي أبي سفيان صاحب العير، وجدي عتبة بن ربيعة
صاحب النفير، ولكن لو قلت غنيمات وجبيلات والطائف، ورحم الله عثمان،
لقلنا صدقت - يعني أن الحكم كان منفيا بالطائف يرعى غنما ويأوي إلى
جبلة (2) الكرم حتى آواه عثمان بن عفان حين ولي - فسكت الوليد وأبوه
ولم يحيرا جوابا، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ست وثمانين
ففيها غزا قتيبة بن مسلم نائب الحجاج على
مرو وخراسان، بلادا كثيرة من أرض الترك وغيرهم من الكفار، وسبى
وغنم وسلم وتسلم قلاعا وحصونا وممالك، تم قفل فسبق الجيش، فكتب إليه
الحجاج يلومه على ذلك ويقول له: إذا كنت قاصدا بلاد العدو فكن في مقدمة
الجيش، وإذا قفلت راجعا فكن في ساقة الجيش - يعني لتكون ردءا لهم من أن
ينالهم أحد من العدو وغيرهم بكيد - وهذا رأي حسن وعليه جاءت السنة،
وكان في السبي امرأة برمك (3) - والد خالد بن برمك -
__________
(1) انظر في ذلك: الفهرست لابن النديم ص 497 ووفيات الاعيان 2 / 224
وتهذيب ابن عساكر: 5 / 116.
ومفتاح السعادة 1 / 318 - 319 وفي الاعلام 1 / 300 قال: شك ابن الاثير
في بعض نواحي علمه فقال: " يقال
انه أصاب علم الكيمياء ولا يصح ذلك لاحد ".
وقال دي مييلي في كتابه العلم عند العرب (الترجمة العربية ص 99) في
الحديث عن صلة خالد بالعلوم القديمة: (وليس ذلك كله إلا اسطورة محضا
على الاخص ما ذكروه من تبحره في علم الصنعة) أي الكيمياء.
(2) في وفيات الاعيان 2 / 226 حبيلة وهي الكرمة.
(3) وكان برمك طبيبا وهو كبير سدنة النوبهار وهو بيت النار في بلخ
والذي تقدره المجوس.
(*)
(9/74)
جمح فيقول:
أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لا تخذنه حنانا (1).
قلت: قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفي بعد البعثة في فترة
الوحي، وإسلام من أسلم إنما كان بعد نزول (يا أيها المدثر) فكيف يمر
ورقة ببلال، هو يعذب وفيه نظر (2).
ثم ذكر ابن إسحاق مرور أبي بكر ببلال وهو يعذب، فاشتراه من أمية بعبد
له أسود فاعتقه وأراحه من العذاب وذكر مشتراه لجماعة ممن أسلم من
العبيد والاماء، منهم بلال، وعامر بن فهيرة، وأم عميش (3) التي أصيب
بصرها ثم رده الله تعالى لها، والنهدية وابنتها اشتراها من بني عبد
الدار بعثتهما سيدتهما تطحنان لها فسمعها وهي تقول لهما: والله لا
أعتقكما أبدا فقال أبو بكر: حل يا أم فلان، فقالت حل أنت أفسدتهما
فأعتقهما، قال فبكم هما ؟ قالت بكذا وكذا.
قال قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها.
قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها ؟ قال: [ أو ] ذلك إن
شئتما.
واشترى جارية بني مؤمل - حي من بني عدي - كان عمر يضربها على الاسلام.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق عن عامر بن عبد
الله بن الزبير عن بعض أهله.
قال قال أبو قحافة لابنه أبي بكر: يا بني إني أراك تعتق ضعافا، فلو أنك
إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعنونك ويقومون دونك ؟ قال فقال
أبو بكر: يا أبة إني إنما أريد ما أريد.
قال: فتحدث أنه ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه (فأما من
أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى) إلى آخر السورة (4).
وقد تقدم ما رواه الامام أحمد وإبن ماجه من حديث عاصم بن بهدلة عن زر
عن ابن مسعود.
قال أول من أظهر الاسلام سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو
بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد فأما رسول الله صلى
الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه [ أبي طالب ]، وأبو بكر منعه الله
بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في
الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فإنه
هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان
فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد.
ورواه الثوري عن منصور عن مجاهد مرسلا (5).
__________
(1) أي لاجعلن قبره موضع حنان فاتمسح به متبركا.
(2) وقد تقدم التعليق حول وفاة ورقة بعد فترة الوحي، كما جاء في
البخاري، وأن ورقة لم يبق إلى إسلام بلال.
فليراجع في مكانه من هذا الجزء.
(3) كذا في الاصول: وفي ابن هشام: أم عبيس، وان التي أصيب بصرها حين
أعتقها أبو بكر هي زنيرة - كما عند ابن هشام - فقالت قريش عند ذلك: ما
أذهب بصرها إلا اللات والعزى.
فقالت: كذبوا وبيت الله، فرد الله بصرها.
(راجع ترجمتها في الاستيعاب لابن عبد البر على هامش الاصابة 4: 322
والاصابة ج 4 / 311).
(4) الخبر في سيرة ابن هشام 1 / 339 - 341 340.
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 284 وقال: صحيح الاسناد، ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبي.
وأخرجه أبو نعيم في حلية الاولياء 1 / 149 وابن عبد البر في الاستيعاب.
(*)
(9/75)
وكان مولده
ومولد يزيد بن معاوية في سنة ست وعشرين، وقد كان عبد الملك قبل الخلافة
من العباد الزهاد الفقهاء (1) الملازمين للمجسد التالين للقرآن، وكان
ربعة من الرجال أقرب إلى القصر.
وكانت أسنانه مشبكة بالذهب، وكان أفوه مفتوح الفم، فربما غفل فينفتح
فمه فيدخل فيه الذباب، ولهذا كان يقال له أبو الذباب.
وكان أبيض ربعة ليس بالنحيف ولا البادن، مقرون الحاجبين أشهل كبير
العينين دقيق (2) الانف مشرق الوجه أبيض الرأس واللحية حسن الوجه لم
يخضب، ويقال إنه خضب بعد.
وقد قال نافع: لقد رأيت المدينة وما فيها شاب أشد تشميرا ولا أفقه ولا
أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان، وقال الاعمش عن أبي الزناد:
كان فقهاء المدينة أربعة سعيد بن
المسيب، وعروة، وقبيصة بن ذويب، وعبد الملك بن مروان قبل أن يدخل في
الامارة.
وعن ابن عمر أنه قال: ولد الناس أبناء وولد مروان أبا - يعني عبد الملك
- ورآه يوما وقد ذكر اختلاف الناس، فقال: لو كان هذا الغلام اجتمع
الناس عليه، وقال عبد الملك: كنت أجالس بريدة بن الحصيب فقال لي يوما:
يا عبد الملك إن فيك خصالا، وإنك لجدير أن تلي أمر هذه الامة، فاحذر
الدماء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الرجل ليدفع
عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها على محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق
".
وقد أثني عليه قبل الولاية معاوية وعمرو بن العاص في قصة طويلة.
وقال سعيد بن داود الزبيري: عن مالك، عن يحيى بن سعيد بن داود الزبيري
قال: كان أول من صلى ما بين الظهر والعصر عبد الملك بن مروان وفتيان
معه، فقال سعيد بن المسيب: ليست العبادة بكثرة الصلاة والصوم، إنما
العبادة التفكر في أمر الله والورع عن محارم الله.
وقال الشعبي: ما جالست أحدا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن
مروان فأني ما ذاكرته حديثا إلا زادني منه، ولا شعرا إلا زادني فيه.
وذكر خليفة بن خياط أن معاوية كتب إلى مروان وهو نائبه عن المدينة سنة
خمسين أن ابعث ابنك عبد الملك على بعث المدينة إلى بلاد المغرب مع
معاوية بن خديج، فذكر من كفايته وغنائه ومجاهدته في تلك البلاد شيئا
كثيرا.
ولم يزل عبد الملك مقيما بالمدينة حتى كانت وقعة الحرة، واستولى ابن
الزبير على بلاد الحجاز، وأجلى بني أمية من هنالك، فقدم مع أبيه الشام،
ثم لما صارت الامارة مع أبيه وبايعه أهل الشام كما تقدم أقام في
الامارة تسعة أشهر ثم عهد إليه بالامارة من بعده، فاستقل عبد الملك
بالخلافة في مستهل رمضان أو ربيع الاول من سنة خمس وستين، واجتمع الناس
عليه بعد مقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين في جمادى الاولى إلى هذه
السنة.
وقال ثعلب عن ابن الاعرابي: لما سلم على عبد الملك بالخلافة كان في
حجره مصحف فأطبقه
__________
(2) انظر في مقام عبد الملك في الفقه طبقات الفقهاء للشيرازي ص 62.
(2) في فوات الوفيات 2 / 403: مشرف.
(*)
(9/76)
وقال: هذا فراق
بيني وبينك (1).
وقال أبو الطفيل: صنع لعبد الملك مجلس توسع فيه، وقد كان بنى له فيه
قبة قبل ذلك، فدخله وقال: لقد كان حثمة الاحوازي - يعني عمر بن الخطاب
- يرى أن هذا عليه حرام، وقيل إنه لما وضع المصحف من حجره قال: هذا آخر
العهد منك.
وكان عبد الملك له إقدام على سفك الدماء، وكان حازما فهما فطنا سائسا
لامور الدنيا، لا يكل أمر دنياه إلى غيره وأمه عائشة بنت معاوية بن
المغيرة بن أبي العاص، وأبوها معاوية هو الذي جدع أنف حمزة عم النبي
صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وقال سعيد بن عبد العزيز: لما خرج عبد
الملك إلى العراق لقتال مصعب بن الزبير خرج معه يزيد بن الاسود الجرشي،
فلما التقوا قال: اللهم احجز بين هذين الجبلين وول الامر أحبهما إليك.
فظفر عبد الملك - وقد كان مصعب من أعز الناس على عبد الملك - وقد ذكرنا
كيفية قتله مصعبا.
وقال سعيد بن عبد العزيز: لما بويع لعبد الملك بالخلافة كتب إليه عبد
الله بن عمر بن الخطاب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن عمر
إلى عبد الملك أمير المؤمنين ! سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا
إله إلا هو، أما بعد فإنك راع وكل راع مسؤول عن رعيته (الله لا إله إلا
هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا) [
النساء: 86 ] لا أحد والسلام (2).
وبعث به مع سلام فوجدوا عليه إذ قدم اسمه على اسم أمير المؤمنين، ثم
نظروا في كتبه إلى معاوية فوجدوها كذلك، فاحتملوا ذلك منه.
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي ميسرة عن أبي موسى الخياط عن أبي كعب قال:
سمعت عبد الملك بن مروان يقول: يا أهل المدينة أنا أحق الناس أن يلزم
الامر الاول، وقد سالت علينا أحاديث من قبل هذا المشرق ولا نعرفها ولا
نعرف منها إلا قراءة القرآن، فالزموا ما في مصحفكم الذي حملكم عليه
الامام المظلوم، وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم رحمه
الله، فإنه قد استشار في ذلك زيد بن ثابت ونعم المشير كان للاسلام رحمه
الله، فأحكما ما أحكما، واستقصيا ما شذ عنهما.
وقال ابن جريج عن أبيه: حج علينا عبد الملك سنة خمس وسبعين بعد مقتل
ابن الزبير بعامين (3)، فخطبنا فقال: أما بعد فإنه كان من قبلي من
الخلفاء يأكلون من المال
ويوكلون، وإني والله لا أداوي أدواء هذه الامة إلا بالسيف (4)، ولست
بالخليفة المستضعف - يعني
__________
(1) تاريخ بغداد 10 / 388.
(2) في العقد الفريد نسخة كتاب عبد الله بن عمر إلى عبد الملك 2 / 262
وفيه: لعبد الملك بن مروان من عبد الله بن عمر سلام عليك فإني اقررت لك
بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وبيعة
نافع مولاي على مثل ما بايعتك عليه.
(3) في فوات الوفيات 2 / 403: ولما قتل عمرو بن سعيد بن العاص خطب
الناس فقال: (انظر العقد الفريد 2 / 263).
(4) زيد في فوات الوفيات: حتى تستقيم لي قناتكم، تكلفوننا أعمال
المهاجرين الاولين ولا تعملون من أعمالهم، فلن تزدادوا إلا اجتراحا ولن
تزدادوا إلا عقوبة وهذا حكم السيف بيننا وبينكم.
(*)
(9/77)
عثمان - ولا
الخليفة المداهن - يعني معاوية - ولا الخليفة المأبون - يعني يزيد بن
معاوية - أيها الناس إنا نحتمل منكم كل الغرمة ما لم يكن عقد راية أو
وثوب على منبر: هذا عمرو بن سعيد حقه حقه، قرابته وابنه، قال برأسه
هكذا فقلنا بسيفنا هكذا، وإن الجامعة التي خلعها من عنقه عندي، وقد
أعطيت الله عهدا أن لا أضعها في رأس أحد إلا أخرجها الصعداء، فليبلغ
الشاهد الغائب.
وقال الاصمعي: ثنا عباد بن سلم بن عثمان بن زياد عن أبيه عن جده.
قال: ركب عبد الملك بن مروان (1) بكرا فأنشأ قائده يقول: - يا أيها
البكر الذي أراكا * عليك سهل الارض في ممشاكا (2) ويحك هل تعلم من
علاكا * خليفة الله الذي امتطاكا لم يحب بكرا مثل ما حباكا فلما سمعه
عبد الملك قال: أيها يا هناه، قد أمرت لك بعشرة آلاف.
وقال الاصمعي: خطب عبد الملك فحصر فقال: إن اللسان بضعة من الانسان،
وإنا نسكت حصرا ولا ننطق هذرا، ونحن أمراء الكلام، فينا رسخت عروقه،
وعلينا تدلت أغصانه، وبعد مقامنا هذا مقام،
وبعد عينا هذا مقال، وبعد يومنا هذا أيام، يعرف فيها فصل الخطاب وموضع
الصواب.
قال الاصمعي: قيل لعبد الملك أسرع إليك الشيب، فقال: وكيف لا وأنا أعرض
عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين ؟ وقال غيره قيل لعبد الملك:
أسرع إليك الشيب، فقال: وتنسى ارتقاء المنبر ومخافة اللحن ؟ ولحن رجل
عند عبد الملك - يعني أسقط من كلامه ألفا - فقال له عبد الملك زد ألف،
فقال الرجل: وأنت فزد ألفا، وقال الزهري: سمعت عبد الملك يقول في
خطبته: إن العلم سيقبض قبضا سريعا، فمن كان عنده علم فليظهره غير غال
فيه ولا جاف عنه، وروى ابن أبي الدنيا أن عبد الملك كان يقول لمن
يسايره في سفره: إذا رفعت له شجرة، سبحوا بنا حتى نأتي تلك الشجرة،
كبروا بنا حتى نأتي تلك الحجرة، ونحو ذلك.
وروى البيهقي أن عبد الملك وقع منه فلس في بئر قذرة فاكترى عليه بثلاثة
عشر دينارا حتى أخرجه منها، فقيل له في ذلك فقال: إنه كان عليه اسم
الله عزوجل.
وقال غير واحد: كان عبد الملك إذا جلس للقضاء بين الناس يقوم السيافون
على رأسه بالسيف فينشد، وقال بعضهم: يأمر من ينشد فيقول: إنا إذا نالت
دواعي الهوى * وأنصت السامع للقائل
__________
(1) سقط من العقد 2 / 274 وفيه أن الوليد بن عبد الملك كان على البعير
وليس عبد الملك.
(2) في العقد الفريد 2 / 263: قدم عمر بن علي بن أبي طالب على عبد
الملك فسأله أن يصير إليه صدقة علي فقال عبد الملك متمثلا بأبيات ابن
الحقيق.
(*)
(9/78)
واصطرع الناس
بألبابهم (1) * نقضي بحكم عادل فاصل لا نجعل الباطل حقا ولا * نلفظ دون
(2) الحق بالباطل نخاف أن تسفه أحلامنا * فنجهل الحق مع الجاهل وقال
الاعمش: أخبرني محمد بن الزبير: أن أنس بن مالك كتب إلى عبد الملك يشكو
الحجاج ويقول في كتابه: لو أن رجلا خدم عيسى بن مريم أو رآه أو صحبه
تعرفه النصارى أو تعرف مكانه لهاجرت
إليه ملوكهم، ولنزل من قلوبهم بالمنزلة العظيمة، ولعرفوا له ذلك، ولو
أن رجلا خدم موسى أو رآه تعرفه اليهود لفعلوا به من الخير والمحبة وغير
ذلك ما استطاعوا، وإني خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه
ورأيته وأكلت معه، ودخلت وخرجت وجاهدت معه أعداءه، وإن الحجاج قد أضربي
وفعل وفعل (3)، قال: أخبرني من شهد عبد الملك يقرأ الكتاب وهو يبكي
وبلغ به الغضب ما شاء الله، ثم كتب إلى الحجاج بكتاب غليظ (4)، فجاء
إلى الحجاج فقرأه فتغير ثم قال إلى حامل الكتاب: انطلق بنا إليه
نترضاه.
وقال أبو بكر بن دريد: كتب عبد الملك إلى الحجاج في أيام ابن الاشعث:
إنك أعز ما تكون بالله أحوج ما تكون إليه، وأذل ما تكون للمخلوق أحوج
ما تكون إليهم، وإذا عززت بالله فاعف له، فإنك به تعز وإليه ترجع.
قال بعضهم: سأل رجل من عبد الملك أن يخلو به فأمر من عنده بالانصراف،
فلما خلا به وأراد الرجل أن يتكلم قال له عبد الملك: احذر في كلامك
ثلاثا، إياك أن تمدحني فإني أعلم بنفسي منك، أو تكذبني فإنه لا رأي
لكذوب، أو تسعى إلي بأحد من الرعية فإنهم إلى عدلي وعفوي أقرب منهم إلى
جوري وظلمي، وإن شئت أقلتك.
فقال الرجل: أقلني فأقاله.
وكذا كان يقول للرسول إذا قدم عليه من الآفاق: اعفني من أربع وقل ما
شئت، لا تطرني، ولا تجبني فيما لا أسألك عنه، ولا تكذبني، ولا تحملني
على الرعية فإنهم إلى رأفني ومعدلتي أحوج.
وقال الاصمعي عن أبيه قال: أتى عبد الملك برجل كان مع بعض من خرج عليه
فقال: اضربوا عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين ما كان هذا جزائي منك،
فقال: وما جزاؤك ؟ فقال: والله ما خرجت مع فلان إلا بالنظر لك، وذلك
أني رجل مشؤوم ما كنت مع رجل قط إلا غلب وهزم، وقد بان لك صحة ما
ادعيت، وكنت عليك خيرا من مائة ألف معك تنصحك، لقد كنت مع فلان فكسر
وهزم وتفرق جمعه، وكنت مع فلان فقتل، وكنت مع فلان فهزم - حتى عد
__________
(1) في العقد الفريد 2 / 263: بآرائهم.
(2) في العقد: نرضى بدون.
(3) نسخة الكتاب في الاخبار الطوال ص 323: " بسم الله الرحمن الرحيم،
لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين من أنس بن مالك، أما بعد، فإن
الحجاج قال لي نكرا، واسمعني هجرا، ولم أكن لذلك أهلا، فخذ على يديه،
وأعدني عليه، والسلام ".
(4) انظر الاخبار الطوال ص 324 فيه نسخة الكتاب.
(*)
(9/79)
جماعة من
الامراء - فضحك وخلى سبيله.
وقيل لعبد الملك: أي الرجال أفضل ؟ قال: من تواضع عن رفعة وزهد عن
قدرة، وترك النصرة عن قوة.
وقال أيضا لا طمأنينة قبل الخبرة، فإن الطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم.
وقال: خير المال ما أفاد حمدا ودفع ذما، ولا يقولن أحدكم ابدا بمن
تعول، فإن الخلق كلهم عيال الله، وينبغي أن يحمل هذا على غير ما ثبت به
الحديث.
وقال المدائني: قال عبد الملك لمؤدب أولاده - وهو إسماعيل بن عبيد الله
بن أبي المهاجر -: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم السفلة فإنهم
أسوأ الناس رغبة في الخير وأقلهم أدبا، وجنبهم الحشم فإنهم لهم مفسدة،
واحف شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقووا، وعلمهم الشعر يمجدوا
وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضا، ويمصوا الماء مصا، ولا يعبوا عبا،
وإذا احتجت أن تتناولهم فتناولهم بأدب فليكن ذلك في سر لا يعلم بهم أحد
من الغاشية فيهونوا عليهم.
وقال الهيثم بن عدي: أذن عبد الملك للناس في الدخول عليه إذنا خاصا،
فدخل شيخ رث الهيئة لم يأبه له الحرس، فألقى بين يدي عبد الملك صحيفة
وخرج فلم يدر أين ذهب، وإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، يا أيها
الانسان إن الله قد جعلك بينه وبين عباده فاحكم بينهم (بالحق ولا تتبع
الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد
بما نسوا يوم الحساب) [ ص: 26 ] (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم
عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين) [ المطففين: 4 - 6 ] (ذلك يوم
مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) [ هود: 104 ] (وما تؤخره إلا لاجل
معدود) [ هود: 105 ] إن اليوم الذي أنت فيه لو بقي لغيرك ما وصل إليك،
(فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) [ النمل 52 ] وإني أحذرك يوم ينادي
المنادي (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) [ الصافات: 22 ] (ألا لعنة الله
على الظالمين) [ هود: 18 ] قال فتغير وجه عبد الملك فدخل دار حرمه ولم
تزل الكآبة في وجهه بعد ذلك أياما.
وكتب زر بن حبيش إلى عبد الملك كتابا وفي آخره: ولا يطمعك يا أمير
المؤمنين في طول البقاء ما يظهر لك في صحتك فأنت أعلم بنفسك واذكر ما
تكلم به الاولون: إذا الرجال ولدت أولادها * وبليت من كبر أجسادها
وجعلت أسقامها تعتادها * تلك زروع قد دنا حصادها فلما قرأه عبد الملك
بكى حتى بل طرف ثوبه، ثم قال: صدق زر، ولو كتب إلينا بغير هذا كان
أرفق.
وسمع عبد الملك جماعة من أصحابه يذكرون سيرة عمر بن الخطاب فقال: أنهى
عن ذكر عمر فإن مرارة للامراء مفسدة للرعية.
وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى القباني، عن أبيه عن جده قال: كان عبد
الملك يجلس في حلقة أم الدرداء في مؤخر المسجد بدمشق، فقالت له: بلغني
أنك شربت الطلا بعد العبادة والنسك، فقال: إي والله، والدما أيضا قد
شربتها.
ثم جاءه غلام كان قد بعثه في حاجة فقال: ما حبسك لعنك الله ؟ فقالت أم
الدرداء: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإني سمعت أبا
(9/80)
الدرداء يقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل الجنة لعان ".
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: ثنا الحسين بن عبد الرحمن، قال: قيل لسعيد
بن المسيب: إن عبد الملك بن مروان قال: قد صرت لا أفرح بالحسنة أعملها،
ولا أحزن على السيئة أرتكبها، فقال سعيد: الآن تكامل موت قلبه.
وقال الاصمعي عن أبيه عن جده قال: خطب عبد الملك يوما خطبة بليغة ثم
قطعها وبكى بكاء شديدا ثم قال: يا رب إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك
أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي.
قال: فبلغ ذلك الحسن فبكى وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا
الكلام، وقد روى عن غير واحد نحو ذلك، أي أنه لما بلغه هذا الكلام قال
مثل ما قال الحسن.
وقال مسهر الدمشقي: وضع سماط عبد الملك يوما بين يديه فقال لحاجبه:
ائذن لخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فقال: مات يا أمير المؤمنين،
قال: فلابيه عبد الله بن خالد بن أسيد، قال: مات، قال: فلخالد بن يزيد
بن معاوية، قال: مات، قال فلفلان وفلان - حتى عد أقواما قد ماتوا وهو
يعلم ذلك قبلنا - فأمر برفع السماط وأنشأ يقول:
ذهبت لداتي وانقضت أيامهم * وغبرت بعدهم ولست بخالد وقيل: إنه لما
احتضر دخل عليه ابنه الوليد فبكى فقال له عبد الملك: ما هذا ؟ أتحن
حنين الجارية والامة ؟ إذا أنا مت فشمر واتزر والبس جلد النمر، وضع (1)
الامور عند أقرانها، واحذر قريشا.
ثم قال له: يا وليد اتق الله فيما أستخلفك فيه، واحفظ وصيتي، وانظر إلى
أخي معاوية فصل رحمه واحفظني فيه، وانظر إلى أخي محمد فأمره على
الجزيرة ولا تعز له عنها، وانظر إلى ابن عمنا علي بن عباس فإنه قد
انقطع إلينا بمودته ونصيحته وله نسب وحق فصل رحمه واعرف حقه، وانظر إلى
الحجاج بن يوسف فأكرمه فإنه هو الذي مهد لك البلاد وقهر الاعداء وخلص
لكم الملك وشتت الخوارج، وأنهاك وإخوتك عن الفرقة وكونوا أولاد أم
واحدة، وكونوا في الحرب أحرارا، وللمعروف منارا، فإن الحرب لم تدن منية
قبل وقتها، وإن المعروف يشيد ذكر صاحبه ويميل القلوب بالمحبة، ويذلل
الالسنة بالذكر الجميل، ولله در القائل: إن الامور (2) إذا اجتمعن
فرامها * بالكسر ذو حنق وبطش مفند عزت فلم تكسر وإن هي بددت * فالكسر
والتوهين للمتبدد (3)
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 196 وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه لك
فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه، وانظر الاخبار الطوال ص 325.
(2) في مروج الذهب: إن القداح...وبطش باليد.
(3) في مروج الذهب 3 / 203: فالوهن والتكسير للمتبدد.
وفي ابن الاعثم 7 / 203: فالوهن والتضييع.
وفيه ان الوليد أجابه: إني لما أوصيتنيه لحافظ * أرعاه غير مقصر في
المحتد
(9/81)
ثم قال: إذا
أنا مت فادع الناس إلى بيعتك فمن أبى فالسيف، وعليك بالاحسان إلى
أخواتك فأكرمهن وأحبهن إلي فاطمة - وكان قد أعطاها قرطي مارية والدرة
اليتيمة - ثم قال: اللهم احفظني فيها.
فتزوجها عمر بن عبد العزيز وهو ابن عمها (1).
ولما احتضر سمع غسالا يغسل الثياب فقال: ما هذا ؟ فقالوا غسال، فقال:
يا ليتني كنت غسالا أكسب ما أعيش به يوما بيوم، ولم أل الخلافة.
ثم تمثل فقال: - لعمري لقد عمرت في الملك برهة * ودانت لي الدنيا بوقع
البواتر وأعطيت حمر المال والحكم والنهى * ولي سلمت كل الملوك الجبابر
فأضحى الذي قد كان مما يسرني * كحلم مضى في المزمنات الغوابر فياليتني
لم أعن بالملك ليلة * ولم أسع في لذات عيش نواضر وقد أنشد هذه الابيات
معاوية بن أبي سفيان عند موته.
وقال أبو مسهر: قيل لعبد الملك في مرض موته: كيف تجدك ؟ فقال أجدني كما
قال الله تعالى (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما
خولناكم وراء ظهوركم) الآية [ الانعام: 94 ].
وقال سعيد بن عبد العزيز: لما احتضر عبد الملك أمر بفتح الابواب من
قصره، فلما فتحت سمع قصارا بالوادي فقال: ما هذا ؟ قالوا قصار، فقال:
يا ليتني كنت قصارا أعيش من عمل يدي، فلما بلغ سعيد بن المسيب قوله
قال: الحمد لله الذي جعلهم عند موتهم يفرون إلينا ولا نفر إليهم.
وقال: لما حضره الموت جعل يندم ويندب ويضرب بيده على رأسه ويقول: وددت
أني اكتسبت قوتي يوما بيوم واشتغلت بعبادة ربي عزوجل وطاعته.
وقال غيره: لما حضرته الوفاة دعا بنيه فوصاهم ثم قال: الحمد لله الذي
لا يسأل أحدا من خلقه صغيرا أو كبيرا ثم ينشد: - فهل من خالد إما هلكنا
* وهل بالموت للباقين غار (2) ويروى أنه قال: ارفعوني، فرفعوه حتى شم
الهواء وقال: يا دنيا ما أطيبك ! إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير،
وإنا كنا بك لفي غرور، ثم تمثل بهذين البيتين:
__________
= وأكون للاعداء سما ناقعا * والذي القرابة كالحميد الايد واقوم بعدك
في الرعية بالذي * أوصيتني بهم بحسن تودد (1) انظر في وصيته مروج الذهب
3 / 196 - 197 ابن الاثير 4 / 517 - 518 والاخبار الطوال ص 325 وابن
الاعثم 7 / 201 - 202.
(2) في تاريخ الاسلام للذهبي 3 / 281: وهل بالموت يا للناس عار.
والبيت في ابن الاعثم 7 / 204: فهل من خالد إن نحن متنا * وهل بالموت
للاحياء عار (*)
(9/82)
إن تناقش يكن
نقاشك يا رب * عذابا لا طوق لي بالعذاب أو تجاوز فأنت رب صفوح * عن مسئ
ذنوبه كالتراب قالوا: وكانت وفاته بدمشق يوم الجمعة وقيل يوم الاربعاء
وقيل الخميس، في النصف من شوال سنة ست وثمانين، وصلى عليه ابنه الوليد
ولي عهده من بعده، وكان عمره يوم مات ستين سنة.
قاله أبو معشر وصححه الواقدي، وقيل ثلاثا وستين سنة.
قاله المدائني، وقيل ثماني وخمسين.
ودفن بباب الجابية الصغير، قال ابن جرير: ذكر أولاده وأزواجه: منهم
الوليد وسليمان ومروان الاكبر درج وعائشة، وأمهم ولادة بنت العباس بن
جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث
بن قطيعة بن عبس بن بغيض، ويزيد ومروان الاصغر ومعاوية درج وأم كلثوم
وأمهم عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وهشام وأمه أم هشام
عائشة - فيما قاله المدائني - بنت هشام بن إسماعيل المخزومي.
وأبو بكر واسمه بكار وأمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي،
والحكم درج وأمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان الاموي، وفاطمة
وأمها أم الغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة
المخزومي.
وعبد الله ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمد وسعد (1) الخير والحجاج لامهات
أولاد شتى، فكان جملة أولاده تسعة عشر ذكورا وإناثا، وكانت مدة خلافته
إحدى وعشرين سنة، منها تسع سنين مشاركا لابن الزبير، وثلاث عشرة سنة
وثلاثة أشهر ونصف مستقلا بالخلافة وحده.
وكان قاضيه أبو إدريس الخولاني، وكاتبه روح بن زنباع، وحاجبه يوسف
مولاه، وصاحب بيت المال والخاتم قبيصة بن ذؤيب.
وعلى شرطته أبو الزعيزعة.
وقد ذكرنا عماله فيما مضى.
قال المدائني: وكان له زوجات أخر، شقراء بنت سلمة بن حلبس الطائي،
وابنة لعلي بن أبي طالب، وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر.
وممن يذكر أنه توفي في هذه السنة تقريبا.
أرطأة بن زفر ابن عبد الله بن مالك بن شداد (2) بن ضمرة بن غقعان بن
أبي حارثة بن مرة بن شبة بن نميط بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن
بغيض بن ريث بن غطفان الوليد المري، ويعرف بابن سهية (3)، وهي أمه بنت
رامل (4) بن مروان بن زهير بن ثعلبة بن خديج بن جشم بن كعب بن عون بن
عامر بن عوف - سبية من كلب - وكانت عند ضرار بن الازور، ثم صارت إلى
زفر وهي
__________
(1) في الطبري 8 / 57 والمعارف ص 157: سعيد الخير.
(2) في الاصابة 1 / 101: سواد.
(3) من الاصابة 1 / 101 ووفيات الاعيان 6 / 103 وفي الاصل شهبة.
وفي حماسة الشجري ص 63: أرطأة بن سمية المزني وهو تصحيف.
وفي الاصابة تكرر فيها المزني مكان المري.
(4) في الاعلام للزركلي 1 / 288: زامل.
(*)
(9/83)
حامل فأتت
بأرطاة على فراشه، وقد عمر أرطاة دهرا طويلا حتى جاوز المائة بثلاثين
سنة، وقد كان سيدا شريفا مطاعا ممدحا شاعرا مطبقا قال المدائني: ويقال
إن بني غقعان بن حنظلة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث دخلوا في
بني مرة بن شبة فقالوا بني غقعان بن أبي حارثة بن مرة.
وقد وفد أبو الوليد أرطاة بن زفر هذا على عبد الملك فأنشده أبياتا: -
رأيت المرء تأكله الليالي * كأكل الارض ساقطة الحديد وما تبقى المنية
حين تأتي * على نفس ابن آدم من مزيد وأعلم أنها ستكر حتى * توفي نذرها
بأبي الوليد قال: فارتاع عبد الملك وظن أنه عناه بذلك فقال يا أمير
المؤمنين إنما عنيت نفسي، فقال عبد الملك: وأنا والله سيمر بي ما الذي
يمر بك، وزاد بعضهم في هذه الابيات: - خلقنا أنفسا وبنى نفوس * ولسنا
بالسلام ولا الحديد لئن أفجعت بالقرناء يوما * لقد متعت بالامل البعيد
وهو القائل: وإني لقوام لدى الضيف موهنا * إذا أسبل الستر البخيل
المواكل دعا فأجابته كلاب كثيرة * على ثقة مني بأني فاعل وما دون ضيفي
من تلاد تحوزه * لي النفس إلا أن تصان الحلائل مطرف بن عبد الله بن
الشخير كان من كبار التابعين، وكان من أصحاب عمران بن حصين، وكان مجاب
الدعوة، وكان يقول ما أوتي أحد أفضل من العقل (1)، وعقول الناس على قدر
زمانهم.
وقال: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته قال الله هذا عبدي حقا.
وقال: إذا دخلتم على مريض فإن استطعتم أن يدعو لكم فإنه قد حرك - أي قد
أوقظ من غفلته بسبب مرضه - فدعاؤه مستجاب من أجل كسره ورقة قلبه.
وقال: إن أقبح ما طلبت به الدنيا عمل الآخرة.
خلافة الوليد بن عبد الملك
باني جامع دمشق لما رجع من دفن أبيه خارج باب الجابية الصغير - وكان
ذلك في يوم الخميس وقيل الجمعة للنصف من شوال من هذه السنة - لم يدخل
المنزل حتى صعد المنبر - منبر المسجد الاعظم بدمشق - فخطب الناس فكان
مما قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا في
أمير المؤمنين،
__________
(1) في صفة الصفوة 3 / 224 عن ابي العلاء عن مطرف قال: ما أوتي عبد بعد
الايمان أفضل من العقل.
(*)
(9/84)
والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا.
فكان أول من قام إليه عبد الله بن همام السلولي وهو يقول: - الله أعطاك
التي لا فوقها * وقد أراد الملحدون عوقها عنك ويأبي الله إلا سوقها *
إليك حتى قلدوك طوقها ثم بايعه وبايع الناس بعده.
وذكر الواقدي: أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه لا مقدم
لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم الله، وقد كان من قضاء الله وسابقته ما
كتبه على أنبيائه وحملة
عرشه وملائكته الموت، وقد صار إلى منازل الابرار بما لاقاه في هذه
الامة - يعني بالذي يحق لله عليه - من الشدة على لمريب واللين لاهل
الحق والفضل وإقامة ما أقام الله من منار الاسلام وإعلائه (1) من حج
هذا البيت وغزو هذه الثغور وشن هذه الغارات على أعداء الله عزوجل فلم
يكن عاجزا ولا مفرطا، أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة فإن
الشيطان مع الواحد، أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه
عيناه، ومن سكت مات بدائه.
ثم نزل فنظر ما كان من دواب الخلافة فحازها.
وكان جبارا عنيدا.
وقد ورد في ولاية الوليد حديث غريب، وإنما هو الوليد بن يزيد بن عبد
الملك كما سيأتي، وكما تقدم تقريره في دلائل النبوة في باب الاخبار عن
الغيوب المستقبلة، فيما يتعلق بدولة بني أمية، وأما الوليد بن عبد
الملك هذا فقد كان صينا في نفسه حازما في رأيه، يقال إنه لا تعرف له
صبوة، ومن جملة محاسنه ما صح عنه أنه قال: لو لا أن الله قص لنا قصة
قوم لوط في كتابه ما ظننا أن ذكرا كان يأتي ذكرا كما تؤتى النساء، كما
سيأتي ذلك في ترجمته عند ذكر وفاته، وهو باني مسجد جامع دمشق الذي لا
يعرف في الآفاق أحسن بناء منه، وقد شرع في بنائه في ذي القعدة من هذه
السنة، فلم يزل في بنائه وتحسينه مدة خلافته وهي عشر سنين، فلما أنهاه
انتهت أيام خلافته كما سيأتي بيان ذلك مفصلا.
وقد كان موضع هذا المسجد كنيسة يقال لها كنيسة يوحنا، فلما فتحت
الصحابة دمشق جعلوها مناصفة، فأخذوا منها الجانب الشرقي فحولوه مسجدا،
وبقي الجانب الغربي كنيسة بحاله من لدن سنة أربع عشرة إلى هذه السنة،
فعزم الوليد على أخذ بقية الكنيسة منهم وعوضهم عنها كنيسة مريم لدخولها
في جانب السيف، وقيل عوضهم عنها كنيسة توما، وهدم بقية هذه الكنيسة
وأضافها إلى مسجد الصحابة، وجعل الجميع مسجدا واحدا على هيئة بديعة لا
يعرف كثير من الناس أو أكثرهم لها نظيرا في البنيان والزينات والآثار
والعمارات، والله سبحانه أعلم. |