البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
سنة مائة من الهجرة النبوية
قال الامام أحمد: حدثنا علي بن حفص، أنبأ ورقاء، عن منصور، عن المنهال
بن عمرو، عن نعيم بن دجاجة قال: دخل ابن مسعود على علي فقال: أنت
القائل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يأتي على الناس مائة
عام وعلى الارض نفس منفوسة " ؟ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يأتي على الناس
مائة عام وعلى الارض نفس منفوسة ممن هو حي، وإن رخاء هذه الامة بعد
المائة ".
تفرد به أحمد.
وفي رواية لابنه عبد الله أن عليا قال له: يا فروخ أنت القائل لا يأتي
على الناس مائة سنة وعلى الارض عين تطرف ممن هو حي اليوم، وإنما رخاء
هذه الامة وفرحها بعد المائة ؟ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الارض عين تطرف.
أخطأت أستك الحفرة، وإنما أراد ممن هو اليوم حي " تفرد به وهكذا جاء في
الصحيحين عن ابن عمر.
فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك، وإنما أراد
انخرام قرنه.
وفيها خرجت خارجة من الحرورية بالعراق فبعث أمير المؤمنين عمر بن عبد
العزيز إلى
(9/211)
عبد الحميد
نائب الكوفة، يأمره بأن يدعوهم إلى الحق، ويتلطف بهم، ولا يقاتلهم حتى
يفسدوا في الارض، فلما فعلوا ذلك بعث إليهم جيشا فكسرهم الحرورية، فبعث
عمر إليه يلومه على جيشه، وأرسل عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك من
الجزيرة إلى حربهم، فأظفره الله بهم، وقد أرسل عمر إلى كبير الخوارج -
وكان يقال له بسطام - (1) يقول له: ما أخرجك علي ؟ فإن كنت خرجت غضبا
لله فأنا أحق بذلك منك، ولست أولى بذلك مني، وهلم أناظرك، فإن رأيت حقا
اتبعته، وإن أبديت حقا نظرنا فيه.
فبعث طائفة من أصحابه إليه فاختار منهم عمر رجلين (2) فسألهما: ماذا
تنقمون ؟ فقالا: جعلك يزيد بن عبد الملك من بعدك، فقال: إني لم أجعله
أبدا وإنما جعله غيري.
قالا: فكيف ترضى به أمينا للامة من بعدك ؟ فقال: أنظراني ثلاثة، فيقال
إن بني أمية دست إليه سما فقتلوه خشية أن يخرج الامر من أيديهم ويمنعهم
الاموال والله أعلم (3).
وفيها غزا عمر بن الوليد بن هشام المعيطي، وعمرو بن قيس الكندي من أهل
حمص، الصائفة وفيها ولى عمر بن عبد العزيز عمر بن هبيرة الجزيرة فسار
إليها.
وفيها حمل يزيد بن المهلب إلى عمر بن عبد العزيز من العراق، فأرسله عدي
بن أرطاة نائب البصرة مع موسى بن وجيه، وكان عمر يبغض يزيد بن المهلب
وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم، فلما دخل على عمر طالبه
بما قبله من الاموال التي كان قد كتب إلى سليمان أنها حاصلة عنده،
فقال: إنما كتبت ذلك
لارهب الاعداء بذلك، ولم يكن بيني وبين سليمان شئ، وقد عرفت مكانتي
عنده.
فقال له عمر: لا أسمع منك هذا، ولست أطلقك حتى تؤدي أموال المسلمين،
وأمر بسجنه.
وكان عمر قد بعث على إمرة خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي عوضه، وقدم
ولد يزيد بن المهلب، مخلد بن يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين إن الله
عزوجل قد من على هذه الامة ولايتك عليها، فلا نكونن نحن أشقى الناس بك
فعلام تحبس هذا الشيخ وأنا أقوم له أتصالحني عنه ؟ فقال عمر: لا أصالحك
عنه إلا أن تقوم بجميع ما يطلب منه، ولا آخذ منه إلا جميع ما عنده من
مال المسلمين.
فقال: يا أمير المؤمنين إن كانت لك بينة عليه بما تقول وإلا فاقبل
يمينه أو فصالحني عنه، فقال: لا آخذ منه إلا جميع ما عنده.
فخرج مخلد بن يزيد من عند عمر، فلم يلبث أن مات مخلد.
وكان عمر يقول: هو خير من أبيه.
ثم إن عمر أمر بأن يلبس يزيد بن المهلب جبة صوف ويركب على بعير إلى
جزيرة دهلك التي كان ينفي إليها الفساق، فشفعوا فيه فرده إلى السجن،
فلم يزل به حتى مرض عمر مرضه الذي
__________
(1) وهو شوذب الخارجي، من بني يشكر وخرج في جوخى في ثمانين رجلا.
(2) في الطبري 8 / 132 وابن الاثير 5 / 45 ومروج الذهب 3 / 233: ان
بسطام بعث رجلين إلى عمر يدارسانه ويناظرنه.
في الطبري وهما: ممزوج مولى بني شيبان (وفي ابن الاثير: عاصم) والآخر
من صليبة بني يشكر.
(3) كذا بالاصل والطبري 8 / 132 وانظر مناظرة طويلة بينه وبينهما في
ابن الاثير 5 / 46 وما بعدها ومروج الذهب 3 / 233 وما بعدها.
والامامة والسياسة 2 / 118 - 120.
(9/212)
مات فيه، فهرب
من السجن وهو مريض، وعلم أنه يموت في مرضه ذلك، وبذلك كتب إليه كما
سيأتي، وأظنه كان عالما أن عمر قد سقي سما.
وفيها في رمضان منها عزل عمر بن عبد العزيز الجراح بن عبد الله الحكمي
عن إمرة خراسان، بعد سنة وخمسة أشهر، وإنما عزله لانه كان يأخذ الجزية
ممن أسلم من الكفار ويقول: أنتم إنما تسلمون فرارا منها (1).
فامتنعوا من الاسلام وثبتوا على دينهم وأدوا الجزية، فكتب إليه عمر: إن
الله إنما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا، ولم يبعثه جابيا.
وعزله وولى بدله عبد الرحمن بن نعيم القشيري على
الحرب، وعبد الرحمن بن عبد الله على الخراج.
وفيها كتب عمر إلى عماله (2) يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، ويبين لهم
الحق ويوضحه لهم ويعظمهم فيما بينه وبينهم، ويخوفهم بأس الله وانتقامه،
وكان فيما كتب إلى عبد الرحمن بن نعيم القشيري: أما بعد فكن عبد الله
ناصحا لله في عباده، ولا تأخذك في الله لومة لائم، فإن الله أولى بك من
الناس، وحقه عليك أعظم، ولا تولين شيئا من أمور المسلمين إلا المعروف
بالنصيحة لهم، والتوفير عليهم.
وأدى الامانة فيما استرعي، وإياك أن يكون ميلك ميلا إلى غير الحق، فإن
الله لا تخفى عليه خافية، ولا تذهبن عن الله مذهبا، فإنه لا ملجأ من
الله إلا إليه.
وكتب مثل ذلك مواعظ كثيرة إلى العمال.
وقال البخاري في صحيحه: وكتب عمر إلى عدي بن عدي: إن للايمان فرائض
وشرائع وحدودا وسننا، من استكملها استكمل الايمان، ومن لم يستكملها لم
يستكمل الايمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا
على صحبتكم بحريص.
وفيها كان بدو دعوة بني العباس وذلك
أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - وكان مقيما بأرض الشراة (3) -
بعث من جهته رجلا يقال له ميسرة، إلى العراق، وأرسل طائفة أخرى: وهم
محمد بن خنيس وأبو عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار -
خال إبراهيم بن سلمة - إلى خراسان، وعليها يومئذ الجراح بن عبد الله
الحكمي قبل أن يعزل في رمضان، وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته،
فلقوا من لقوا ثم انصرفوا بكتب من استجاب منهم إلى ميسرة الذي بالعراق،
فبعث بها إلى محمد بن
__________
(1) في الطبري 8 / 134 وابن الاثير 5 / 51: قيل للجراح إن الناس سارعوا
إلى الاسلام نفورا من الجزية، فامتحنهم بالختان...فكتب إليه عمر: إن
الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه خاتنا.
(2) انظر نسخ بعض هذه الكتب في ابن الاثير 5 / 60 - 61.
(3) الشراة: من أعمال البلقاء بالشام.
قاله ابن الاثير.
وفي معجم البلدان: صقع بالشام بين دمشق ومدينة الرسول (صلى الله عليه
وسلم) ومن بعض نواحيه القرية المعروفة بالحميمة التي كان يسكنها ولد
علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب في أيام بني مروان.
(*)
(9/213)
علي ففرح بها
واستبشر وسره أن ذلك أول مبادئ أمر قد كتب الله إتمامه، وأول رأي قد
أحكم الله إبرامه، أن دولة بني أمية قد بان عليها مخايل الوهن والضعف،
ولا سيما بعد موت عمر بن عبد العزيز، كما سيأتي بيانه.
وقد اختار أبو محمد الصادق لمحمد بن علي اثني عشر نقيبا، وهم سليمان بن
كثير الخزاعي، ولاهز بن قريظ التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن
كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم أبو داود من بني عمرو بن شيبان بن ذهل،
والقاسم بن مجاشع التميمي، وعمران بن إسماعيل أبو النجم - مولى لآل أبي
معيط - ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وعمرو بن أعين
أبو حمزة - مولى لخزاعة -، وشبل بن طهمان أبو علي الهروي - مولى لبني
حنيفة - وعيسى بن أعين مولى لخزاعة أيضا.
واختار سبعين رجلا أيضا.
وكتب إليهم محمد بن علي كتابا يكون مثالا وسيرة يقتدون بها ويسيرون
بها.
وقد حج بالناس في هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، نائب
المدينة.
والنواب على الامصارهم المذكورون في التي قبلها، سوى من ذكرنا ممن عزل
وتولى غيره والله أعلم.
ولم يحج عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته لشغله بالامور، ولكنه كان
يبرد البريد إلى المدينة فيقول له: سلم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم عني، وسيأتي إن شاء الله.
وممن توفي فيها من الاعيان (سالم بن
أبي الجعد الاشجعي) مولاهم الكوفي.
أخو زياد وعبد الله وعبيد الله وعمران ومسلم، وهو تابعي جليل، روى عن
ثوبان (1) وجابر وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، والنعمان بن
بشير وغيرهم.
وعنه قتادة والاعمش وآخرون، وكان ثقة نبيلا جليلا.
أبو أمامة [ أسعد بن ] سهل بن حنيف الانصاري الاوسي المدني، ولد في
حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه وحدث عن أبيه وعمر وعثمان وزيد بن
ثابت ومعاوية وابن عباس.
وعنه الزهري وأبو حازم وجماعة، قال الزهري: كان من علية الانصار
وعلمائهم، ومن أبناء الذين شهدوا بدرا.
وقال يوسف بن الماجشون عن عتبة بن مسلم،
قال: آخر خرجة خرجها عثمان بن عفان إلى الجمعة حصبه الناس وحالوا بينه
وبين الصلاة، فصلى بالناس يومئذ أبو أمامة [ أسعد بن ] (2) سهل بن
حنيف.
قالوا: توفي سنة مائة والله أعلم.
أبو الزاهرية حدير بن كريب الحمصي تابعي جليل، سمع أبا أمامة صدي بن
عجلان، وعبد الله بن بسر، ويقال إنه أدرك أبا
__________
(1) في هامش المطبوعة: في خلاصة تذهيب الكمال: " قال أحمد: لم يلق
ثوبان.
وقال البخاري: لم يسمع منه ".
(2) من ابن سعد 5 / 82 وابن الاثير 5 / 55.
(*)
(9/214)
الدرداء
والصحيح أن روايته عنه وعن حذيفة مرسلة، وقد حدث عنه جماعة من أهل
بلده، وقد وثقه ابن معين وغيره.
ومن أغرب ما روي عنه قول قتيبة: ثنا شهاب بن خراش، عن حميد، عن أبي
الزاهرية قال: أغفيت في صخرة بيت المقدس فجاءت السدنة فأغلقوا علي
الباب، فما انتبهت إلا بتسبيح الملائكة فوثبت مذعورا فإذا الملائكة
صفوف، فدخلت معهم في الصف.
قال أبو عبيدة وغيره: مات سنة مائة.
أبو الطفيل عامر بن واثلة ابن عبد الله بن عمرو الليثي الكناني، صحابي،
وهو آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وفاة بالاجماع قال: رأيت
النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الركن بمحجنه (1)، وذكر صفة النبي صلى
الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود، وحدث عنه
الزهري وقتادة وعمرو بن دينار وأبو الزبير وجماعة من التابعين، وكان من
أنصار علي بن أبي طالب، شهد معه حروبه كلها، لكن نقم بعضهم عليه كونه
كان مع المختار بن أبي عبيد، ويقال إنه كان حامل رايته، وقد روى أنه
دخل على معاوية فقال: ما أبقى لك الدهر من ثكلك عليا ؟ فقال: ثكل
العجوز المقلاة والشيخ الرقوب (2)، فقال: كيف حبك له ؟ قال حب أم موسى
لموسى، وإلى الله أشكو التقصير.
قيل إنه أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، ومات سنة
مائة وقيل سنة سبع ومائة فالله أعلم.
قال مسلمة بن الحجاج: وهو آخر من مات من الصحابة مطلقا ومات سنة مائة.
أبو عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن مل البصري، أدرك الجاهلية وحج في
زمن الجاهلية مرتين، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره،
وأدى في زمانه الزكاة ثلاث سنين إلى عمال النبي صلى الله عليه وسلم،
ومثل هذا يسميه أئمة الحديث مخضرما، وهاجر إلى المدينة في زمان عمر بن
الخطاب، فسمع منه ومن علي وابن مسعود وخلق من الصحابة وصحب سلمان
الفارسي ثنتي عشرة سنة حتى دفنه، وروى عنه جماعة من التابعين وغيرهم،
منهم أيوب، وحميد الطويل، وسليمان بن طرخان التيمي، وقال عاصم الاحول:
سمعته يقول: أدركت في الجاهلية يغوث صنما من رصاص يحمل على جمل أجرد،
فإذا بلغ واديا برك فيه فيقولون: قد رضي ربكم لكم هذا الوادي فينزلون
فيه، قال: وسمعته وقد قيل له أدركت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال:
نعم ! أسلمت على عهده، وأديت إليه الزكاة ثلاث مرات، ولم ألقه، وشهدت
اليرموك والقادسية وجلولاء ونهاوند.
كان أبو عثمان صواما قواما، يسرد الصوم ويقوم الليل لا يتركه، وكان
يصلي حتى يغشى عليه، وحج ستين مرة ما بين حجة وعمرة، قال سليمان
التيمي: إني
__________
(1) المحجن: العصا المنعطفة الرأس، وقيل: كل معطوف الرأس على الاطلاق.
(2) الرقوب: الذي لا يستطيع الكسب ولا كسب له.
(*)
(9/215)
لاحسبه لا يصيب
ذنبا، لانه ليله قائما ونهاره صائما، وقال بعضهم: سمعت أبا عثمان
النهدي يقول: أتت علي ثلاثون ومائة سنة وما مني شئ إلا وقد أنكرته خلا
أملي فإني أجده كما هو.
وقال ثابت البناني عن أبي عثمان.
قال: إني لا علم حين يذكرني ربي عزوجل، قال فيقول: من أين تعلم ذلك ؟
فيقول قال الله تعالى (فاذكروني أذكركم) [ البقرة: 152 ] فإذا ذكرت
الله ذكرني.
قال: وكنا إذا دعونا الله قال: والله لقد استجاب الله لنا، قال الله
تعالى (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) [ المؤمن: 60 ] قالوا: وعاش مائة
وثلاثين سنة، قاله هشيم وغيره.
قال المدائني وغيره: توفي سنة مائة، وقال الفلاس: توفي سنة خمس وتسعين،
والصحيح سنة مائة والله أعلم.
وفيها توفي عبد الملك بن عمر بن عبد
العزيز، وكان يفضل على والده في العبادة والانقطاع عن
الناس، وله كلمات حسان مع أبيه ووعظه إياه.
ثم دخلت سنة إحدى ومائة فيها كان
هرب يزيد بن المهلب من السجن حين بلغه مرض عمر بن عبد العزيز، فواعد
غلمانه يلقونه بالخيل في بعض الاماكن، وقيل بابل له، ثم نزل من محبسه
ومعه جماعة وامرأته عاتكة بنت الفرات العامرية، فلما جاء غلمانه ركب
رواحله وسار، وكتب إلى عمر بن عبد العزيز: إني والله ما خرجت من سجنك
إلا حين بلغني مرضك، ولو رجوت حياتك ما خرجت، ولكني خشيت من يزيد بن
عبد الملك فإنه يتوعدني بالقتل (1)، وكان يزيد يقول: لئن وليت لاقطعن
من يزيد بن المهلب طائفة، وذلك أنه لما ولي العراق عاقب أصهاره آل أبي
عقيل، وهم بيت الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان يزيد بن عبد الملك مزوجا
ببنت محمد بن يوسف (2)، وله ابنه الوليد بن يزيد الفاسق المقتول كما
سيأتي.
ولما بلغ عمر بن عبد العزيز أن يزيد بن المهلب هرب من السجن قال: اللهم
إن كان يريد بهذه الامة سوءا فاكفهم شره واردد كيده في نحره، ثم لم يزل
المرض يتزايد بعمر بن عبد العزيز حتى مات وهو بخناصرة، من دير سمعان
بين حماه وحلب، في يوم الجمعة، وقيل في يوم الاربعاء لخمس بقين من رجب
من هذه السنة - أعني سنة إحدى ومائة - عن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وقيل
إنه جاوز الاربعين بأشهر فالله أعلم.
__________
(1) انظر نسخة كتابه في ابن الاعثم 7 / 322 والطبري 8 / 136 وابن
الاثير 5 / 58.
(2) ذكر ابن الاعثم 7 / 321 سببا آخر قال: خرج يزيد يوما وعليه حلة
يمانية - في أيام سليمان - وقد تضمخ بالغالية فقال يزيد - وعمر بن عبد
العزيز إلى جانبه - قبح الله هذه الدنيا وما فيها لوددت أن مثقال غالية
بألف دينار فلا ينالها إلا كل شريف فقال له يزيد بن المهلب: يا مؤنث
ألي يقال هذا وأنا ابن المهلب إنما كان يجب عليك أن تقول: وددت أن
الغالية لا توجد إلا في جبهة الاسد فلا ينالها إلا مثلي...فالتفت يزيد
بن عبد الملك فقال: والله لئن وليت هذا الامر يوما - وكان وليا للعهد -
لاقطعن خير طابق من يديك فقال له ابن المهلب: والله لئن وليت هذا الامر
وأنا حي لاضربن وجهك بخمسين ألف سيف.
(*)
(9/216)
وكانت خلافته
فيما ذكر غير واحد سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وكان حكما مقسطا،
وإماما عادلا وورعا دينا لا تأخذه في الله لومة لائم رحمه الله تعالى.
وهذه ترجمة عمر بن عبد العزيز
الامام المشهور رحمه الله
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد
شمس بن عبد مناف أبو حفص القرشي الاموي المعروف أمير المؤمنين، وأمه أم
عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ويقال له أشج بني
مروان، وكان يقال: الاشج والناقص أعدلا بني مروان.
فهذا هو الاشج وسيأتي ذكر الناقص.
كان عمر تابعيا جليلا، روى عن أنس بن مالك والسائب بن يزيد، ويوسف بن
عبد الله بن سلام، ويوسف صحابي صغير.
وروى عن خلق من التابعين (1).
وعنه جماعة من التابعين وغيرهم.
قال الامام أحمد بن حنبل: لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر
بن عبد العزيز.
بويع له بالخلافة بعد ابن عمه سليمان بن عبد الملك، عن عهد منه له بذلك
كما تقدم، ويقال: كان مولده في سنة إحدى وستين (2)، وهي السنة التي قتل
فيها الحسين بن علي بمصر، قاله غير واحد.
وقال محمد بن سعد: ولد سنة ثلاث وستين، وقيل سنة تسع وخمسين، فالله
أعلم.
وكان له جماعة من الاخوة ولكن الذين هم من أبويه: أبو بكر وعاصم ومحمد،
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين، عن يحيى بن بكير عن الليث.
قال: بلغني أن عمران بن عبد الرحمن ابن شرحبيل بن حسنة كان يحدث أن
رجلا رأى في المنام ليلة ولد عمر بن عبد العزيز - أو ليلة ولي الخلافة
شك أبو بكر - أن مناديا بين السماء والارض ينادي: أتاكم اللين والدين
وإظهار العمل الصالح في المصلين، فقلت: ومن هو ؟ فنزل فكتب في الارض ع
م ر.
وقال آدم بن إياس: ثنا أبو علي ثروان مولى عمر بن عبد العزيز.
قال: دخل عمر بن عبد العزيز إلى اصطبل أبيه فضربه فرس فشجه، فجعل أبوه
يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذا لسعيد.
رواه الحافظ ابن عساكر من طريق هارون بن معروف عن ضمرة، وقال نعيم بن
حماد: ثنا ضمام بن إسماعيل عن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو
غلام صغير، فبلغ أمه فأرسلت إليه فقالت: ما يبكيك ؟
قال: ذكرت الموت، فبكت أمه.
وكان قد جمع القرآن وهو صغير، وقال الضحاك بن عثمان الخزامي: كان أبوه
قد جعله عند صالح بن كيسان يؤدبه، فلما حج أبوه اجتاز به في المدينة
فسأله عنه فقال: ما خبرت أحدا الله أعظم في صدره من هذا الغلام.
وروى يعقوب بن سفيان أن عمر بن *
__________
(1) ذكر ابن الجوزي بعضهم: سعيد بن المسيب وعبد الله بن ابراهيم بن
قارظ وسالم وأبي سلمة وعروة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وخارجة بن
زيد وعامر بن سعد بن أبي وقاص وابي بردة بن أبي موسى والربيع بن سبرة
وعراك بن مالك وابي حازم والزهري والقرظي.
صفة الصفوة 2 / 127 فوات الوفيات 3 / 133.
(2) في فوات الوفيات 3 / 133: سنة ستين.
(*)
(9/217)
عبد العزيز
تأخر عن الصلاة مع الجماعة يوما فقال صالح بن كيسان: ما شغلك ؟ فقال:
كانت مرجلي تسكن شعري، فقال له: قدمت ذلك على الصلاة ؟ وكتب إلى أبيه
وهو على مصر يعلمه بذلك، فبعث أبوه رسولا فلم يكلمه حتى حلق رأسه.
وكان عمر بن عبد العزيز يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه،
فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص عليا، فلما أتاه عمر أعرض عبيد الله عنه
وقام يصلي، فجلس عمر ينتظره، فلما سلم أقبل على عمر مغضبا وقال له: متى
بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم ؟ قال ففهمها عمر وقال:
معذرة إلى الله ثم إليك، والله لا أعود، قال: فما سمع بعد ذلك يذكر
عليا إلا بخير.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة، ثنا أبي، ثنا المفضل بن عبد الله، عن داود
بن أبي هند.
قال: دخل علينا عمر بن عبد العزيز من هذا الباب - وأشار إلى باب من
أبواب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم - فقال رجل من القوم: بعث الفاسق
لنا بابنه هذا يتعلم الفرائض والسنن، ويزعم أنه لن يموت حتى يكون
خليفة، ويسير سيرة عمر بن الخطاب.
قال داود: والله ما مات حتى رأينا ذلك فيه.
وقال الزبير بن بكار: حدثني العتبي قال: إن أول ما استبين من رشد عمر
بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الادب، إن أباه ولي مصر وهو
حديث السن يشك في بلوغه، فأراد أبوه إخراجه معه إلى مصر من الشام،
فقال: يا أبة أو غير ذلك لعله يكون أنفع لي ولك ؟ قال: وما
هو ؟ قال: ترحلني إلى المدينة فأقعد إلى فقهائها وأتأدب بآدابهم.
فعند ذلك أرسله أبوه إلى المدينة، وأرسل معه الخدام، فقعد مع مشايخ
قريش، وتجنب شبابهم، وما زال دأبه حتى اشتهر ذكره، فلما مات أبوه أخذه
عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير
منهم، وزوجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول الشاعر فيها: بنت الخليفة
والخليفة جدها * أخت الخلائف والخليفة زوجها قال: ولا نعرف امرأة بهذه
الصفة إلى يومنا هذا سواها.
قال العتبي: ولم يكن حاسد عمر بن عبد العزيز ينقم عليه شيئا سوى
متابعته في النعمة، والاختيال في المشية، وقد قال الاحنف بن قيس:
الكامل من عدت هفواته ولا تعد إلا من قلة.
وقد ورث عمر من أبيه من الاموال والمتاع والدواب هو وإخوته ما لم يرثه
غيره فيما نعلم، كما تقدم ذلك، ودخل يوما على عمه عبد الملك وهو يتجانف
في مشيته فقال: يا عمر مالك تمشي غير مشيتك ؟ قال: إن في جرحا، فقال:
وأين هو من جسدك ؟ قال: بين الرانقة والصفن - يعني بين طرف الالية
وجلدة الخصية - فقال عبد الملك لروح بن زنباع: بالله لو رجل من قومك
سئل عن هذا ما أجاب بمثل هذا الجواب.
قالوا: ولما مات عمه عبد الملك حزن عليه ولبس المسوح تحت ثيابه سبعين
يوما، ولما ولي الوليد عامله بما كان أبوه يعامله به، وولاه المدينة
ومكة والطائف من سنة ست وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين، وأقام للناس الحج
سنة تسع وثمانين، وسنة تسعين، وحج الوليد بالناس سنة
(9/218)
إحدى وتسعين،
ثم حج بالناس عمر سنة ثنتين أو ثلاث وتسعين.
وبنى في مدة ولايته هذه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه عن أمر
الوليد له بذلك، فدخل فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان في
هذه المدة من أحسن الناس معاشرة، وأعدلهم سيرة، كان إذا وقع له أمر
مشكل جمع فقهاء المدينة عليه، وقد عين عشرة منهم، وكان لا يقطع أمرا
بدونهم أو من حضر منهم، وهم عروة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو
بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن خيثمة،
وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن حزم، وسالم بن عبد الله،
وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت.
وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب، وقد كان سعيد بن المسيب لا يأتي
أحدا من الخلفاء، وكان يأتي إلى عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة، وقال
إبراهيم بن عبلة: قدمت المدينة وبها ابن المسيب وغيره، وقد ندبهم عمر
يوما إلى رأي.
وقال ابن وهب: حدثني الليث، حدثني قادم البريري أنه ذاكر ربيعة بن أبي
عبد الرحمن يوما شيئا من قضايا عمر بن عبد العزيز إذ كان بالمدينة،
فقال له الربيع: كأنك تقول: أخطأ، والذي نفسي بيده ما أخطأ قط.
وثبت من غير وجه عن أنس بن مالك.
قال: ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من
هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - حين كان على المدينة.
قالوا: وكان يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود، وفي رواية صحيحة
أنه كان يسبح في الركوع والسجود عشرا عشرا، وقال ابن وهب: حدثني الليث
عن أبي النضر المديني، قال: رأيت سليمان بن يسار خارجا من عند عمر بن
عبد العزيز فقلت له: من عند عمر خرجت ؟ قال: نعم ! قلت: تعلمونه ؟ قال:
نعم، فقلت: هو والله أعلمكم.
وقال مجاهد: أتينا عمر نعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه.
وقال ميمون بن مهران: كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة، وفي
رواية قال ميمون: كان عمر بن عبد العزيز معلم العلماء.
وقال الليث: حدثني رجل كان قد صحب ابن عمر وابن عباس، مكان عمر بن عبد
العزيز يستعمله على الجزيرة، قال: ما التمسنا علم شئ إلا وجدنا عمر بن
عبد العزيز أعلم الناس بأصله وفرعه، وما كان العلماء عند عمر بن عبد
العزيز إلا تلامذة.
وقال عبد الله بن طاووس: رأيت أبي تواقف هو وعمر بن عبد العزيز من بعد
صلاة العشاء حتى أصبحنا، فلما افترقا قلت: يا أبة من هذا الرجل ؟ قال
هذا عمر بن عبد العزيز، وهو من صالحي هذا البيت - يعني بني أمية - وقال
عبد الله بن كثير قلت لعمر بن عبد العزيز ما كان بدء إنابتك ؟ قال:
أردت ضرب غلام لي فقال لي: اذكر يوما صبيحتها يعني يوم القيامة (1).
وقال الامام مالك: لما عزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة - يعني في سنة
ثلاث وتسعين -
__________
(1) كذا بالاصل، والنص في سيرة عمر بن عبد العزيز لابن جوزي ص 149:
اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة وهو أصوب.
(*)
(9/219)
وخرج منها
التفت إليها وبكى وقال لمولاه: يا مزاحم، نخشى أن نكون ممن نفت المدينة
- يعني أن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد - وينصع
طيبها.
قلت: خرج من المدينة فنزل بمكان قريب منها يقال له السويداء حينا (1)،
ثم قدم دمشق على بني عمه.
قال محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أبي حكيم.
قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: خرجت من المدينة وما من رجل أعلم
مني، فلما قدمت الشام نسيت.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن زيد، عن معمر عن الزهري
قال: سهرت مع عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فحدثته، فقال: كل ما حدثت فقد
سمعته ولكن حفظت ونسيت.
وقال ابن وهب عن الليث، عن عقيل، عن الزهري قال قال عمر بن عبد العزيز:
بعث إلي الوليد ذات ساعة من الظهيرة، فدخلت عليه فإذا هو عابس، فأشار
إلي أن اجلس، فجلست فقال: ما تقول فيمن يسب الخلفاء أيقتل ؟ فسكت، ثم
عاد فسكت، ثم عاد فقلت: أقتل يا أمير المؤمنين ؟ قال: لا، ولكن سب،
فقلت: ينكل به، فغضب وانصرف إلى أهله، وقال لي ابن الريان السياف:
اذهب، قال: فخرجت من عنده وما تهب ريح إلا وأنا أظن أنه رسول يردني
إليه.
وقال عثمان بن زبر: أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين ومعه
عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال
والاثقال والرجال، فقال سليمان: ما تقول يا عمر في هذا ؟ فقال: أرى
دنيا يأكل بعضها بعضا وأنت المسؤول عن ذلك كله، فلما اقتربوا من
المعسكر إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها،
ونعب نعبة، فقال له سليمان: ما هذا يا عمر ؟ فقال: لا أدري، فقال: ما
ظنك أنه يقول ؟ قلت: كأنه يقول: من أين جاءت وأين يذهب بها ؟ فقال له
سليمان: ما أعجبك ؟ فقال عمر: اعجب ممن عرف الله فعصاه، ومن عرف
الشيطان فأطاعه، ومن عرف الدنيا فركن إليها.
وتقدم أنه لما وقف سليمان وعمر بعرفة ورأى سليمان كثرة الناس فقال له
عمر: هؤلاء رعيتك اليوم وأنت مسؤول عنهم غدا.
وفي رواية وهم خصماؤك يوم القيامة، فبكى سليمان وقال: بالله نستعين.
وتقدم أنهم لما أصابهم ذلك المطر والرعد فزع سليمان وضحك عمر فقال له:
أتضحك ؟
فقال: نعم هذه آثار رحمته ونحن في هذه الحال، فكيف بآثار غضبه وعقابه
ونحن في تلك الحال ؟ وذكر الامام مالك أن سليمان وعمر تقاولا مرة فقال
له سليمان في جملة الكلام: كذبت، فقال: تقول كذبت ؟ والله ما كذبت منذ
عرفت أن الكذب يضر أهله، ثم هجره عمر وعزم على الرحيل إلى مصر، فلم
يمكنه سليمان، ثم بعث إليه فصالحه وقال له: ما عرض لي أمر يهمني إلا
خطرت على
__________
(1) في هامش المطبوعة: السويداء أرض كان يملكها عمر بن عبد العزيز
واستنبط فيها من عطائه عن ماء، وله فيها قصر مبني، ولما تنازل لبيت
المال عن جميع ما ورثه عن آبائه أبقى السويداء وخيبر لانه اطمأن إلى
انهما حلال خالص ليس في أية شبهة، وكان هو خليفة يأكل من غلتها وينفق
ما يزيد عن الضرورة.
(*)
(9/220)
بالي.
وقد ذكرنا أنه لما حضرته الوفاة أوصى بالامر من بعده إلى عمر بن عبد
العزيز فانتظم الامر على ذلك ولله الحمد.
فصل وقد كان منتظرا فيما يؤثر من
الاخبار قال أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي
سلمة الماجشون، ثنا عبد الله بن دينار قال: قال ابن عمر: يا عجبا ! !
يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل
عمر، قال: وكانوا يرونه بلال بن عبد الله بن عمر، قال: وكان بوجهه أثر،
فلم يكن هو، وإذا هو عمر بن عبد العزيز، وأمه ابنة عاصم بن عبد الله بن
عمر بن الخطاب.
وقال البيهقي: أنبأ الحاكم، أنبأ أبو حامد بن علي المقري، ثنا أبو عيسى
الترمذي، ثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عفان، ثنا عثمان بن عبد الحميد بن
لاحق، عن جويرية بن أسماء عن نافع.
قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: إن من ولدي رجلا بوجهه شجان يلي
فيملا الارض عدلا.
قال نافع من قبله: ولا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز.
ورواه مبارك بن فضالة عن عبيد الله عن نافع.
وقال: كان ابن عمر يقول: ليت شعري من هذا الذي من لد عمر في وجهه علامة
يملا الارض عدلا ؟ قال وهيب بن الورد: بينما أنا نائم رأيت كأن رجلا
دخل من باب بني شيبة وهو يقول: يا أيها
الناس ! ولي عليكم كتاب الله.
فقلت: من ؟ فأشار إلى ظفره، فإذا مكتوب عليه ع م ر، قال فجاءت بيعة عمر
بن عبد العزيز.
وقال بقية عن عيسى بن أبي رزين، حدثني الخزاعي، عن عمر بن عبد العزيز
أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في روضة خضراء فقال له: " إنك
ستلي أمر أمتي فزع عن الدم فزع عن الدم، فإن اسمك في الناس عمر بن عبد
العزيز، واسمك عند الله جابر ".
وقال أبو بكر بن المقري: ثنا أبو عروبة الحسين بن محمد بن مودود
الحراني، ثنا أيوب بن محمد الوزان، ثنا ضمرة بن ربيعة، ثنا السري بن
يحيى، عن رياح بن عبيدة.
قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة وشيخ متوكئ على يده، فقلت في
نفسي: إن هذا الشيخ جاف، فلما صلى ودخل لحقته فقلت: أصلح الله الامير،
من هذا الشيخ الذي أتكأته يدك ؟ فقال: يا رياح رأيته ؟ قلت: نعم ! قال:
ما أحسبك يا رياح إلا رجلا صالحا، ذاك أخي الخضر أتاني فأعلمني أني
سألي أمر هذه الامة وأني سأعدل فيها.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو عمير، ثنا ضمره، عن علي بن خولة عن أبي
عنبس.
قال: كنت جالسا مع خالد بن يزيد بن معاوية فجاء شاب عليه مقطعات فأخذ
بيد خالد، فقال:
(9/221)
هل علينا من
عين ؟ فقال أبو عنبس: فقلت عليكما من الله عين بصرة، وأذن سميعة، قال:
فترقوقت عينا الفتى.
فأرسل يده من يد خالد وولى، فقلت: من هذا ؟ قال: هذا عمر بن عبد العزيز
ابن أخي أمير المؤمنين، ولئن طالت بك حياة لترينه إمام هدى.
قلت: قد كان عند خالد بن يزيد بن معاوية شئ جيد من أخبار الاوائل
وأقوالهم، وكان ينظر في النجوم والطب.
وقد ذكرنا في ترجمة سليمان بن عبد الملك أنه لما حضرته الوفاة أراد أن
يعهد إلى بعض أولاده، فصرفه وزيره الصالح رجاء بن حيوة عن ذلك، وما زال
به حتى عهد إلى عمر بن عبد العزيز من بعده وصوب ذلك رجاء فكتب سليمان
العهد في صحيفة وختمها ولم يشعر بذلك عمر ولا أحد من بني مروان سوى
سليمان ورجاء، ثم أمر صاحب الشرطة باحضار الامراء ورؤوس الناس من بني
مروان وغيرهم، فبايعوا سليمان على ما في الصحيفة المختومة، ثم انصرفوا،
ثم لما مات الخليفة استدعاهم
رجاء بن حيوة فبايعوا ثانية قبل أن يعلموا موت الخليفة، ثم فتحها
فقرأها عليهم، فإذا فيها البيعة لعمر بن عبد العزيز، فأخذوه فأجلسوه
على المنبر وبايعوه فانعقدت له البيعة.
وقد اختلف العلماء في مثل هذا الصنيع في الرجل يوصي الوصية في كتاب
ويشهد على ما فيه من غير أن يقرأ على الشهود.
ثم يشهدون على ما فيه فينفذ، فسوغ ذلك جماعات من أهل العلم، قال القاضي
أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري: أجاز ذلك وأمضاه وأنفذ الحكم به
جمهور أهل الحجاز، وروى ذلك عن سالم بن عبد الله.
وهو مذهب مالك ومحمد بن مسلمة المخزومي ومكحول، ونمير بن أوس وزرعة بن
إبراهيم، والاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، ومن وافقهم من فقهاء الشام.
وحكى نحو ذلك خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه وقضاة جنده، وهو قول
الليث بن سعد فيمن وافقه من فقهاء أهل مصر والمغرب، وهو قول فقهاء أهل
البصرة وقضاتهم.
وروى عن قتادة وعن سوار بن عبد الله وعبيد الله بن الحسن ومعاذ بن معاذ
العنبري فيمن سلك سبيلهم، وأخذ بهذا عدد كثير من أصحاب الحديث، منهم
أبو عبيد وإسحاق بن راهويه.
قلت: وقد اعتنى به البخاري في صحيحه.
قال المعافى: وأبى ذلك جماعة من فقهاء العراق، منهم إبراهيم وحماد
والحسن، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، قال: وهو قول شيخنا أبي جعفر، وكان
بعض أصحاب الشافعي بالعراق يذهب إلى القول الاول، قال الجريري: وإلى
القول الاول نذهب.
وتقدم أن عمر بن عبد العزيز لما رجع من جنازة سليمان أتي بمراكب
الخلافة ليركبها فامتنع من ذلك وأنشأ يقول: - فلو لا التقى ثم النهى
خشية الردى (1) * لعاصيت في حب الصباكل زاجر قضى ما قضى فيما مضى ثم لا
ترى * له صبوة أخرى الليالي الغوابر ثم قال: ما شاء الله لا قوة إلا
بالله.
قدموا إلي بغلتي، ثم أمر ببيع تلك المراكب الخليفية
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 331: ولو لا التقى من خشية الموت والردى...(*)
(9/222)
فيمن يزيد،
وكانت من الخيول الجياد المثمنة، فباعها وجعل أثمانها في بيت المال.
قالوا: ولما رجع
من الجنازة وقد بايعه الناس واستقرت الخلافة باسمه، انقلب وهو مغتم
مهموم، فقال له مولاه: مالك هكذا مغتما مهموما وليس هذا بوقت هذا ؟
فقال: ويحك ومالي لا أغتم وليس أحد من أهل المشارق والمغارب من هذه
الامة إلا وهو يطالبني بحقه أن أؤديه إليه، كتب إلي في ذلك أو لم يكتب،
طلبه مني أو لم يطلب.
قالوا: ثم إنه خير امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له
إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت وبكى جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في
داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله.
وقال له رجل: تفرغ لنا يا أمير المؤمنين، فأنشأ يقول: قد جاء شغل شاغل
* وعدلت عن طرق السلامه ذهب الفراغ فلا فرا * غ لنا إلى يوم القيامة
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن سلام، عن سلام بن سليم قال: لما
ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر وكان أول خطبة خطبها حمد الله وأثنى
عليه ثم قال: أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فليفارقنا.
يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا
من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا أحدا، ولا يعرض فيما
لا يعنيه.
فانقشع عنه الشعراء والخطباء وثبت معه الفقهاء والزهاد، وقالوا: ما
يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله.
وقال سفيان بن عيينة: لما ولي عمر بن عبد العزيز بعث إلى محمد بن كعب
ورجاء بن حيوة وسالم بن عبد الله فقال لهم: قد ترون ما ابتليت به وما
قد نزل بي، فما عندكم ؟ فقال محمد بن كعب: اجعل الشيخ أبا، والشاب أخا،
والصغير ولدا، وبر أباك وصل أخاك، وتعطف على ولدك.
وقال رجاء: ارض للناس ما ترضى لنفسك، وما كرهت أن يؤتى إليك فلا تأته
إليهم، واعلم أنك أول خليفة تموت.
وقال سالم: اجعل الامر واحدا وصم فيه عن شهوات الدنيا، واجعل آخر فطرك
فيه الموت.
فكأن قد.
فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال غيره: خطب عمر بن عبد العزيز يوما الناس فقال - وقد خنقته العبرة
- أيها الناس أصلحوا آخرتكم يصلح الله دنياكم، وأصلحوا أسراركم (1)
يصلح لكم علانيتكم، والله إن عبدا ليس بينه وبين آدم أب إلا قد مات،
إنه لمعرق له في الموت.
وقال في بعض خطبه: كم من عامر
موثق عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن.
فأحسنوا رحمكم الله من الدنيا الرحلة بأحسن ما يحضر بكم من النقلة،
بينما ابن آدم في الدنيا ينافس قرير العين فيها يانع، إذ دعاه الله
بقدره، ورماه بسهم حتفه، فسلبه اثارة دنياه، وصبر إلى قوم آخرين مصانعه
ومغناه، إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، تسر قليلا وتحزن طويلا.
وقال إسماعيل بن عياش عن عمرو بن مهاجر قال: لما
__________
(1) في العقد الفريد 2 / 143: سرائركم.
وانظر صفة الصفوة 2 / 114 في خطبة أطول.
(*)
(9/223)
استخلف عمر بن
عبد العزيز قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس !
إنه لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد عليه السلام، وإني لست بقاض
ولكني منفذ، وإني لست بمبتدع ولكني متبع، إن الرجل الهارب من الامام
الظالم ليس بظالم (1) إلا أن الامام الظالم هو العاصي، ألا لا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق عزوجل.
وفي رواية أنه قال فيها: وإني لست بخير من أحد منكم، ولكنني أثقلكم
حملا، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا هل أسمعت ؟ وقال أحمد بن
مروان: ثنا أحمد بن يحيى الحلواني، ثنا محمد بن عبيد، ثنا إسحاق بن
سليمان، عن شعيب بن صفوان، حدثني ابن لسعيد بن العاص قال: كان آخر خطبة
خطبها عمر بن عبد العزيز، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم
لم تخلقوا عبثا، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم
فيكم والفصل بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله تعالى (2)، وحرم جنة
عرضها السموات والارض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر اليوم
الآخر وخافه، وباع فانيا بباق، ونافدا بمالا نفاد له، وقليلا بكثير،
وخوفا بأمان، ألا ترون أنكم في أسلاب (3) الهالكين، وسيكون من بعدكم
للباقين، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، ثم إنكم في كل يوم تشيعون
غاديا ورائحا إلى الله لا يرجع، قد قضى نحبه حتى تغيبوه في صدع من
الارض، في بطن صدع غير موسد ولا ممهد، قد فارق الاحباب، وواجه التراب
والحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير لما قدم، فاتقوا الله قبل
القضاء، راقبوه قبل نزول الموت بكم، أما إني أقول هذا، ثم وضع طرف
ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.
وفي رواية: وأيم الله إني لاقول قولي
هذا ولا أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي، ولكنها
سنن من الله عادلة، أمر فيها بطاعته، ونهى فيها عن معصيته، وأستغفر
الله، ووضع كمه على وجهه فبكى حتى بل لحيته، فما عاد لمجلسه حتى مات
رحمه الله.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا: عن عمر بن عبد العزيز أنه رأى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول: " ادن يا عمر، فدنوت حتى خشيت
أن أصيبه، فقال: إذا وليت فاعمل نحوا من عمل هذين، فإذا كهلان قد
اكتنفاه، فقلت: ومن هذان ؟ قال: هذا أبو بكر وهذا عمر ".
وروينا أنه قال: لسالم بن عبد الله بن عمر: اكتب لي سيرة عمر حتى أعمل
بها، فقال له سالم: إنك لا تستطيع ذلك، قال: ولم ؟ إنك إن عملت بها كنت
أفضل من عمر، لانه كان يجد على الخير أعوانا، وأنت لا تجد من يعينك على
الخير.
وقد روى أنه كان نقش خاتمه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفي رواية
آمنت بالله، وفي رواية الوفاء عزيز.
وقد جمع يوما رؤوس الناس فخطبهم فقال: إن فدك كانت بيد
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 226: بعاص.
(2) زيد في العقد الفريد 2 / 144: التي وسعت كل شئ.
(3) في العقد: أصلاب.
وانظر الاغاني 9 / 266 - 267.
وصفة الصفوة 2 / 123 - 124.
(*)
(9/224)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر وعمر كذلك، قال
الاصمعي: وما أدري ما قال في عثمان، قال: ثم إن مروان أقطعها فحصل لي
منها نصيب، ووهبني الوليد وسليمان نصيبهما، ولم يكن من مالي شئ أرده
أغلى منها، وقد رددتها في بيت المال على ما كانت عليه في زمان رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فيئس الناس عند ذلك من المظالم، ثم أمر بأموال جماعة من بني أمية
فردها إلى بيت المال وسماها أموال المظالم، فاستشفعوا إليه بالناس،
وتوسلوا إليه بعمته فاطمة بنت مروان فلم ينجع فيه شئ، وقال لهم: لتدعني
وإلا ذهبت إلى مكة فنزلت عن هذا الامر لاحق الناس به، وقال: والله لو
أقمت فيكم خمسين عاما ما أقمت فيكم إلا ما أريد من العدل، وإني لاريد
الامر فما أنفذه إلا من طمع من الدنيا حتى تسكن قلوبهم.
وقال الامام أحمد عن عبد الرزاق، عن أبيه، عن وهب بن منبه أنه قال: إن
كان في هذه الامة مهدي فهو عمر بن عبد العزيز، ونحو هذا قال قتادة
وسعيد بن المسيب وغير واحد.
وقال طاووس: هو مهدي وليس به، إنه لم يستكمل العدل كله، إذا كان المهدي
ثبت على المسئ من إساءته، وزيد المحسن في إحسانه، سمح بالمال شديد على
العمال رحيم بالمساكين.
وقال مالك عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب أنه قال: الخلفاء
أبو بكر والعمران، فقيل له: أبو بكر وعمر قد عرفناهما فمن عمر الآخر ؟
قال: يوشك إن عشت أن تعرفه، يريد عمر بن عبد العزيز، وفي رواية أخرى
عنه أنه قال: هو أشج بني مروان.
وقال عباد السماك وكان يجالس سفيان الثوري: سمعت الثوري يقول: الخلفاء
خمسة، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز.
وهكذا روي عن أبي بكر بن عياش والشافعي وغير واحد.
وأجمع العلماء قاطبة على أنه من أئمة العدل وأحد الخلفاء الراشدين
والائمة المهديين.
وذكره غير واحد في الائمة الاثني عشر، الذين جاء فيهم الحديث الصحيح: "
لا يزال أمر هذه الامة مستقيما حتى يكون فيهم اثني عشر خليفة كلهم من
قريش " (1).
وقد اجتهد رحمه الله في مدة ولايته - مع قصرها - حتى رد المظالم، وصرف
إلى كل ذي حق حقه، وكان مناديه في كل يوم ينادي: أين الغارمون ؟ أين
الناكحون ؟ أين المساكين ؟ أين اليتامى ؟ حتى أغنى كلا من هؤلاء.
وقد اختلف العلماء أيهم أفضل هو أو معاوية بن أبي سفيان ؟ ففضل بعضهم
عمر لسيرته ومعدلته وزهده وعبادته، وفضل آخرون معاوية لسابقته وصحبته،
حتى قال بعضهم: ليوم شهده معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم خير
من عمر بن عبد العزيز وأيامه وأهل بيته.
وذكر ابن عساكر في تاريخه: أن عمر بن عبد العزيز كان يعجبه جارية من
جواري زوجته فاطمة بنت عبد الملك، فكان سألها إياها إما بيعا أو هبة،
فكانت تأبى عليه ذلك، فلما ولي الخلافة ألبستها
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه في أول كتاب المهدي.
والامام أحمد في مسنده (5 / 92).
والبخاري في (93) كتاب الاحكام.
(51) باب.
ومسلم في كتاب الامارة (1) باب.
ص (1452).
(*)
(9/225)
وطيبتها
وأهدتها إليه ووهبتها منه، فلما أخلتها به أعرض عنها، فتعرضت له فصدف
عنها، فقالت له: يا سيدي فأين ما كان يظهر لي من محبتك إياي ؟ فقال:
والله إن محبتك لباقية كما هي، ولكن لا حاجة لي في النساء، فقد جاءني
أمر شغلني عنك وعن غيرك، ثم سألها عن أصلها ومن أين جلبوها، فقالت: يا
أمير المؤمنين إن أبي أصاب جناية ببلاد المغرب فصادره موسى بن نصير
فأخذت في الجناية، وبعث بي إلى الوليد فوهبني الوليد إلى أخته فاطمة
زوجتك، فأهدتني إليك.
فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، كدنا والله نفتضح ونهلك، ثم أمر
بردها مكرمة إلى بلادها وأهلها.
وقالت زوجته فاطمة: دخلت يوما عليه وهو جالس في مصلاه واضعا خده على
يده ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك ؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وليت
من أمر هذه الامة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع،
والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والارملة الوحيدة والمظلوم المقهور.
والغريب والاسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل،
وأشباههم في أقطار الارض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عزوجل سيسألني
عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن
لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت.
وقال ميمون بن مهران: ولاني عمر بن عبد العزيز عمالة ثم قال لي: إذا
جاءك كتاب مني على غير الحق فاضرب به الارض.
وكتب إلى بعض عماله: إذا دعتك قدرتك على الناس إلى مظلمة، فاذكر قدرة
الله عليك ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: عن جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم قال: كتب
عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: إن للاسلام سننا وفرائض وشرائع، فمن
استكملها استكمل الايمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الايمان، فإن أعش
أبينها لكم لتعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
وذكره البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به.
وذكر الصولي: أن عمر كتب إلى بعض عماله: عليك بتقوى الله فإنها هي التي
لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثاب إلا عليها، وإن الواعظين
بها كثير، والعاملين بها قليل.
وقال: من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه، ومن
أكثر ذكر الموت اجتزأ من الدنيا
باليسير.
وقال: من لم يعد كلامه من عمله كثرت خطاياه، ومن عبد الله بغير علم كان
ما يفسده أكثر مما يصلحه.
وكلمه رجل يوما حتى أغضبه فهم به عمر ثم أمسك نفسه، ثم قال للرجل: أردت
أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك ما تناله مني غدا ؟ قم
عافاك الله لا حاجة لنا في مقاولتك.
وكان يقول: إن أحب الامور إلى الله القصد في الجد، والعفو في المقدرة،
والرفق في الولاية، وما رفق بعبد في الدنيا إلا رفق الله به يوم
القيامة.
وخرج ابن له وهو صغير يلعب مع الغلمان فشجه صبي منهم، فاحتملوا الصبي
الذي شج ابنه وجاؤوا به إلى عمر، فسمع الجلبة فخرج إليهم، فإذا مريئة
تقول: إنه ابني وإنه يتيم، فقال لها عمر: هوني عليك، ثم قال لها عمر:
أله عطاء في الديوان ؟
(9/226)
قالت: لا !
قال: فاكتبوه في الذرية.
فقالت زوجته فاطمة: أتفعل هذا به وقد شج ابنك ؟ فعل الله به وفعل،
المرة الاخرى يشج ابنك ثانية.
فقال: ويحك، إنه يتيم وقد أفزعتموه.
وقال مالك بن دينار: يقولون مالك زاهد، أي زهد عندي ؟ إنما الزاهد عمر
بن عبد العزيز، أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها جملة.
قالوا: ولم يكن له سوى قميص واحد فكان إذا غسلوه جلس في المنزل حتى
ييبس، وقد وقف مرة على راهب فقال له: ويحك عظني، فقال له: عليك بقول
الشاعر: - تجرد من الدنيا فإنك إنما * خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد قال:
وكان يعجبه ويكرره وعمل به حق العمل.
قالوا: ودخل على امرأته يوما فسألها أن تقرضه درهما أو فلوسا يشتري له
بها عنبا، فلم يجد عندها شيئا، فقالت له: أنت أمير المؤمنين وليس في
خزانتك ما تشتري به عنبا ؟ فقال: هذا أيسر من معالجة الاغلال والانكل
غدا في نار جهنم.
قالوا: وكان سراج بيته على ثلاث قصبات في رأسهن طين، قالوا: وبعث يوما
غلامه ليشوي له لحمة فجاءه بها سريعا مشوية، فقال: أين شويتها ؟ قال:
في المطبخ، فقال: في مطبخ المسلمين ؟ قال: نعم.
فقال: كلها فإني لم أرزقها، هي رزقك.
وسخنوا له الماء في المطبخ العام فرد بدل ذلك بدرهم حطبا.
وقالت زوجته: ما جامع ولا احتلم وهو خليفة.
قالوا: وبلغ عمر بن عبد العزيز عن أبي سلام الاسود أنه يحدث عن ثوبان
بحديث الحوض فبعث إليه فأحضره على البريد
وقال له، كالمتوجع له: يا أبا سلام ما أردنا المشقة عليه، ولكن أردت أن
تشافهني بالحديث مشافهة، فقال: سمعت ثوبان يقول قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " حوضي ما بين عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد بياضا من
اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم
يظمأ بعدها أبدا، وأول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين، الشعث رؤوسا،
الدنس ثيابا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم السدد ".
فقال عمر: لكني نكحت المتنعمات، فاطمة بنت عبد الملك، فلا جرم لا أغسل
رأسي حتى يشعث، ولا ألقي ثوبي حتى يتسخ.
قالوا: وكان له سراج يكتب عليه حوائجه، وسراج لبيت المال يكتب عليه
مصالح المسلمين، لا يكتب على ضوئه لنفسه حرفا.
وكان يقرأ في الصحف كل يوم أول النهار، ولا يطيل القراءة، وكان له
ثلاثمائة شرطي، وثلاثمائة حرسي، وأهدى له رجل من أهل بيته تفاحا فاشتمه
ثم رده مع الرسول، وقال له: قل له قد بلغت محلها، فقال له رجل: يا أمير
المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وهذا رجل
من أهل بيتك، فقال: إن الهدية كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم
هدية، فأما نحن فهي لنا رشوة.
قالوا: وكان يوسع على عماله في النفقة، يعطي الرجل منهم في الشهر مائة
دينار، ومائتي دينار، وكان يتأول أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا
لاشغال المسلمين، فقالوا له: لو أنفقت على عيالك كما تنفق على عمالك ؟
فقال: لا أمنعهم حقا لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم.
وكان أهله قد بقوا في جهد عظيم فاعتذر بأن معهم سلفا كثيرا من قبل ذلك،
وقال يوما لرجل من ولد علي: إني
(9/227)
لاستحي من الله
أن تقف ببابي ولا يؤذن لك، وقال لآخر منهم: إني لاستحي من الله وأرغب
بك أن أدنسك بالدنيا لما أكرمك الله به.
وقال أيضا: كنا نحن وبنو عمنا بنو هاشم مرة لنا ومرة علينا، نلجأ إليهم
ويلجئون إلينا، حتى طلعت شمس الرسالة فأكسدت كل نافق، وأخرست كل منافق،
وأسكتت كل ناطق.
وقال أحمد بن مروان: ثنا أبو بكر ابن أخي خطاب، ثنا خالد بن خداش، ثنا
حماد بن زيد عن موسي بن أيمن الراعي - وكان يرعى الغنم لمحمد بن عيينة
- قال: كانت الاسد والغنم والوحش
ترعى في خلافة عمر بن عبد العزيز في موضع واحد، فعرض ذات يوم لشاة منها
ذئب فقلت: إنا لله، ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك.
قال فحسبناه فوجدناه قد هلك في تلك الليلة.
ورواه غيره عن حماد فقال: كان يرعى الشاة بكرمان فذكر نحوه، وله شاهد
من وجه آخر، ومن دعائه: اللهم إن رجالا أطاعوك فيما أمرتهم وانتهوا عما
نهيتهم، اللهم وإن توفيقك إياهم كان قبل طاعتهم إياك، فوفقني.
ومنه: اللهم إن عمر ليس بأهل أن تناله رحمتك، ولكن رحمتك أهل أن تنال
عمر.
وقال له رجل: أبقاك الله ما كان البقاء خيرا لك، فقال: هذا شئ قد فرغ
منه، ولكن قل: أحياك الله حياة طيبة، وتوفاك مع الابرار.
وقال له رجل: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين ؟ فقال: أصبحت بطيئا بطينا،
متلوثا بالخطايا، أتمنى على الله عزوجل.
ودخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك كانت الخلافة لهم
زين، وأنت زين الخلافة، وإنما مثلك يا أمير المؤمنين كما قال الشاعر:
وإذا الدر زان حسن وجوه * كان للدر حسن وجهك زينا قال: فأعرض عنه عمر.
وقال رجاء بن حيوة: سمرت عند عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فعشى السراج
فقلت: يا أمير المؤمنين: ألا أنبه هذا الغلام يصلحه ؟ فقال: لا ! دعه
ينام، لا أحب أن أجمع عليه عملين.
فقلت: أفلا أقوم أصلحه ؟ فقال: لا ! ليس من المروءة استخدام الضيف، ثم
قام بنفسه فأصلحه وصب فيه زيتا ثم جاء وقال: قمت وأنا عمر بن عبد
العزيز، وجلست وأنا عمر بن عبد العزيز، وقال: أكثروا ذكر النعم فإن
ذكرها شكرها.
وقال: إنه ليمنعني من كثرة ذكرها مخافة المباهاة، وبلغه أن رجلا من
أصحابه توفي، فجاء إلى أهله ليعزيهم فيه، فصرخوا في وجهه بالبكاء عليه،
فقال: مه، إن صاحبكم لم يكن يرزقكم، وإن الذي يرزقكم حي لا يموت، وإن
صاحبكم هذا، لم يسد شيئا من حفركم، وإنما سد حفرة نفسه، ألا وإن لكل
امرئ منكم حفرة لا بد والله أن يسدها، إن الله عزوجل لما خلق الدنيا
حكم عليها بالخراب، وعلى أهلها بالفناء وما امتلات دار خبرة إلا امتلات
عبرة، ولا اجتمعوا إلا تفرقوا، حتى يكون الله هو الذي يرث الارض ومن
عليها، فمن كان منكم باكيا فليبك على نفسه، فإن الذي صار إليه
صاحبكم كل الناس يصيرون إليه غدا.
(9/228)
وقال ميمون بن
مهران: خرجت مع عمر إلى القبور فقال لي: يا أبا أيوب ! هذه قبور آبائي
بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم، أما تراهم
صرعى قد خلت بهم المثلاث، واستحكم فيهم البلاء ؟ ثم بكى حتى غشي عليه،
ثم أفاق فقال: انطلقوا بنا فوالله لا أعلم أحدا انعم ممن صار إلى هذه
القبور، وقد أمن من عذاب الله، ينتظر ثواب الله.
وقال غيره: خرج عمر بن عبد العزيز في جنازة فلما دفنت قال لاصحابه:
قفوا حتى آتي قبور الاحبة: فأتاهم فجعل يبكي ويدعو، إذ هتف به التراب
فقال: يا عمر ألا تسألني ما فعلت في الاحبة ؟ قال قلت: وما فعلت بهم ؟
قال: مزقت الاكفان، وأكلت اللحوم، وشدخت المقلتين، وأكلت الحدقتين،
ونزعت الكفين من الساعدين، والساعدين من العضدين والعضدين من المنكبين،
والمنكبين من الصلب، والقدمين من الساقين، والساقين من الفخذين،
والفخذين من الورك، والورك من الصلب.
فلما أراد أن يذهب قال له: يا عمر أدلك على أكفان لا تبلى ؟ قال: وما
هي ؟ قال: تقوى الله والعمل الصالح.
وقال مرة لرجل من جلسائه: لقد أرقت الليلة مفكرا، قال: وفيم يا أمير
المؤمنين ؟ قال: في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث في قبره،
وما صار إليه، لاستوحشت من قربه بعد طول الانس منك بناحيته، ولرأيت
بيتا تجول فيه الهوام، وتخترق فيه الديدان، ويجري فيه الصديد، مع تغير
الريح، وبلى الاكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح، ونقاء الثوب، قال: ثم
شهق شهقة خر مغشيا عليه.
وقال مقاتل بن حيان: صليت وراء عمر بن عبد العزيز فقرأ (وقفوهم إنهم
مسؤلون) [ الصافات: 24 ] فجعل يكررها وما يستطيع أن يتجاوزها.
وقالت امرأته فاطمة: ما رأيت أحدا أكثر صلاة وصياما منه، ولا أحد أشد
فرقا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم
ينتبه فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، قالت: ولقد كان يكون معي في
الفراش فيذكر الشئ من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء،
ويجلس
يبكي، فأطرح عليه اللحاف رحمة له، وأنا أقول: يا ليت كان بيننا وبين
الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سرورا منذ دخلنا فيها.
وقال علي بن زيد: ما رأيت رجلين كأن النار لم تخلق إلا لهما مثل الحسن
وعمر بن عبد العزيز.
وقال بعضهم: رأيته يبكي حتى بكى دما، قالوا: وكان إذا أوى إلى فراشه
قرأ (إن ربكم الذي خلق السموات والارض في ستة أيام) الآية، ويقرأ
(أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون) [ الاعراف: 53 ]
ونحو هذه الآيات، وكان يجتمع كل ليلة إليه أصحابه من الفقهاء فلا
يذكرون إلا الموت والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بينهم جنازة، وقال أبو بكر
الصولي: كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بقول الشاعر: فما تزود مما كان
يجمعه * سوى حنوط غداة البين في خرق
(9/229)
وغير نفحة
أعواد تشب له * وقل ذلك من زاد لمنطلق بأيما بلد كانت منيته * إن لا
يسر طائعا في قصدها يسق ونظر عمر بن عبد العزيز وهو في جنازة إلى قوم
قد تلثموا من الغبار والشمس وانحازوا إلى الظل فبكى وأنشد: من كان حين
تصيب (1) الشمس جبهته * أو الغبار يخاف الشين والشعثا ويألف الظل كي
تبقى بشاشته * فسوف يسكن يوما راغما جدثا في قعر مظلمة غبراء موحشة *
يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا (2) تجهزي بجهاز تبلغين به * يا نفس
قبل الردى (3) لم تخلقي عبثا هذه الابيات ذكرها الآجري في أدب النفوس
بزيادة فيها فقال: أخبرنا أبو بكر، أنبأنا أبو حفص عمر بن سعد
القراطيسي، حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي الدنيا، حدثني محمد بن
صالح القرشي، أخبرني عمر بن الخطاب الازدي، حدثني ابن لعبد الصمد بن
عبد الاعلى بن أبي عمرة قال: أراد عمر بن عبد العزيز أن يبعثه رسولا
إلى إليون طاغية الروم يدعوه إلى الاسلام، فقال له
عبد الاعلى: يا أمير المؤمنين ! إئذن لي في بعض بني يخرج معي - وكان
عبد الاعلى له عشرة من الذكور - فقال له: انظر من يخرج معك من ولدك.
فقال: عبد الله، فقال له عمر: إني رأيت ابنك عبد الله يمشي مشية كرهتها
منه ومقته عليها، وبلغني أنه يقول الشعر.
فقال عبد الاعلى: أما مشيته تلك فغريزة فيه، وأما الشعر فإنما هو نواحة
ينوح بها على نفسه، فقال له: مر عبد الله يأتيني وخذ معك غيره، فراح
عبد الاعلى بابنه عبد الله إليه، فاستنشده فأنشده ذلك الشعر المتقدم:
تجهزي بجهاز تبلغين به * يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا ولا تكدي لمن
يبقى وتفتقري * إن الردى وارث الباقي وما ورثا واخشي حوادث صرف الدهر
في مهل * واستيقظي لا تكوني كالذي بحثا عن مدية كان فيها قطع مدته *
فوافت الحرث موفورا كما حرثا لا تأمني فجع دهر مترف ختل * قد استوى
عنده من طاب أو خبثا يا رب ذي أمل فيه على وجل * أضحى به آمنا أمسى وقد
حدثا من كان حين تصيب الشمس جبهته * أو الغبار يخاف الشين والشعثا
__________
(1) في الكامل للمبرد 1 / 375: تمس.
والاشعث والشعثاء: الخاليان من الدهن.
(2) في الكامل، ورد البيت: في بطن مظلمة غبراء مقفرة * كيما يطيل بها
في بطنها اللبثا (3) في الكامل للمبرد: يا نفس واقتصدي...(*)
(9/230)
ويألف الظل كي
تبقى بشاشته * فكيف يسكن يوما راغما جدثا قفراء موحشة غبراء مظلمة *
يطيل تحت الثرى من قعرها اللبثا وقد ذكرها ابن أبي الدنيا فعمر أنشدها
عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكان عمر يتمثل بها كثيرا ويبكي.
وقال الفضل بن عباس الحلبي: كان عمر بن عبد العزيز لا يجف فوه من هذا
البيت:
ولا خير في عيش امرئ لم يكن له * من الله في دار القرار نصيب وزاد غيره
معه بيتا حسنا وهو قوله: فإن تعجب الدنيا أناسا فإنها * متاع قليل
والزوال قريب ومن شعره الذي أنشده ابن الجوزي: أنا ميت وعز من لا يموت
* قد تيقنت أنني سأموت ليس ملك يزيله الموت ملكا * إنما الملك ملك من
لا يموت وقال عبد الله بن المبارك: كان عمر بن عبد العزيز يقول: تسر
بما يفنى وتفرح بالمنى * كما اغتر باللذات في النوم حالم (1) نهارك يا
مغرور سهو وغفلة * وليلك نوم والردى لك لازم وسعيك فيما سوف تكره غبه *
كذلك في الدنيا تعيش البهائم وقال محمد بن كثير: قال عمر بن عبد العزيز
يلوم نفسه: أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم * وكيف يطبق النوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لحرقت * محاجر (2) عينيك الدموع السواجم اصبحت في
النوم الطويل وقد دنت * إليك أمور مفظعات عظائم وتكدح (3) فيما سوف
تكره غبه * كذلك في الدنيا تعيش البهائم
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 331: نسر بما يبلى، ونشغل بالمنى * كما سر
بالاحلام في النوم حالم وفي صفوة الصفوة.
يغرك ما يفني وتشغل بالمنى * كما غر باللذات في النوم حالم (2) في صفة
الصفوة 2 / 124: مدامع.
(3) في الصفة: وتشعل.
وغبه: كذا بالاصل والصفوة ولعلها غيبه أو عينه.
وعين الشئ ذاته ونفسه.
والعين أيضا: العيب.
(*)
(9/231)
فلا أنت في
النوام يوما بسالم * ولا أنت في الايقاظ يقظان حازم وروى ابن أبي
الدنيا بسنده عن فاطمة بنت عبد الملك قالت: انتبه عمر ذات ليلة وهو
يقول: لقد رأيت الليلة رؤيا عجيبة، فقلت: أخبرني بها، فقال: حتى نصبح،
فلما صلى بالمسلمين دخل فسألته فقال: رأيت كأني دفعت إلى أرض خضراء
واسعة كأنها بساط أخضر وإذا فيها قصر كأنه الفضة فخرج منه خارج فنادى
أين محمد بن عبد الله، أين رسول الله ؟ إذ أقبل رسول الله صلى الله
عليه وسلم، حتى دخل ذلك القصر، ثم خرج آخر فنادى: أين أبو بكر الصديق ؟
فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى أين عمر بن الخطاب ؟ فأقبل فدخل، ثم خرج
آخر فنادى أين عثمان بن عفان ؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى أين علي
بن أبي طالب ؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى أين عمر بن عبد العزيز ؟
فقمت فدخلت فجلست إلى جانب عمر بن الخطاب، وهو عن يسار رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأبو بكر عن يمينه، وبينه وبين رسول الله صلى الله
عليه وسلم رجل، فقلت: لابي: من هذا ؟ قال: هذا عيسى بن مريم، ثم سمعت
هاتفا يهتف بيني وبينه نور لا أراه، وهو يقول: يا عمر بن عبد العزيز
تمسك بما أنت عليه، واثبت على ما أنت عليه، ثم كأنه أذن لي في الخروج
فخرجت، فالتفت فإذا عثمان بن عفان وهو خارج من القصر وهو يقول: الحمد
لله الذي نصرني ربي، وإذا علي في إثره وهو يقول: الحمد لله الذي غفر لي
ربي.
فصل وقد ذكرنا في دلائل لنبوة
الحديث الذي رواه أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " إن الله يبعث لهذه الامة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر
دينها ".
فقال جماعة من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل فيما ذكره ابن الجوزي
وغيره: إن عمر بن عبد العزيز كان على رأس المائة الاولى، وإن كان هو
أولى من دخل في ذلك وأحق، لامامته وعموم ولايته، وقيامه واجتهاده في
تنفيذ الحق، فقد كانت سيرته شبيهة بسيرة عمر بن الخطاب، وكان كثيرا ما
تشبه به.
وقد جمع الشيخ أبو الفرج بن الجوزي سيرة لعمر بن الخطاب وعمر بن عبد
العزيز، وقد أفادنا سيرة عمر بن الخطاب في مجلد على
حدة، ومسنده في مجلد ضخم، وأما سيرة عمر بن عبد العزيز فقد ذكرنا منها
طرفا صالحا هنا، يستدل به على ما لم نذكره.
وقد كان عمر رحمه الله يعطي من انقطع إلى المسجد الجامع من بلده
وغيرها، للفقه ونشر العلم وتلاوة القرآن، في كل عام من بيت المال مائة
دينار، وكان يكتب إلى عماله أن يأخذوا بالسنة، ويقول: إن لم تصلحهم
السنة فلا أصلحهم الله، وكتب إلى سائر البلاد أن لا يركب ذمي من اليهود
والنصارى وغيرهم على سرج، ولا يلبس قباء ولا طيلسانا ولا السراويل، ولا
يمشين أحد منهم إلا بزنار من جلد، وهو مقرون الناصية، ومن وجد منهم في
منزله سلاح أخذ منه.
وكتب أيضا أن لا
(9/232)
يستعمل على
الاعمال إلا أهل القرآن، فإن لم يكن عندهم خير فغيرهم أولى أن لا يكون
عنده خير.
وكان يكتب إلى عماله: اجتنبوا الاشغال عند حضور الصلاة، فإن من أضاعها
فهو لما سواها من شرائع الاسلام أشد تضييعا.
وقد كان يكتب الموعظة إلى العامل من عماله فينخلع منها، وربما عزل
بعضهم نفسه عن العمالة وطوى البلاد من شدة ما تقع موعظته منه، وذلك أن
الموعظة إذا خرجت من قلب الواعظ دخلت قلب الوعوظ.
وقد صرح كثير من الائمة بأن كل من استعمله عمر بن عبد العزيز ثقة، وقد
كتب إليه الحسن البصري بمواعظ حسان ولو تقصينا ذلك لطال هذا الفصل.
ولكن قد ذكرنا ما فيه إشارة إلى ذلك، وكتب إلى بعض عماله: أذكر ليلة
تمخض بالساعة فصباحها القيامة، فيالها من ليلة ويا له من صباح، وكان
يوما على الكافرين عسيرا.
وكتب إلى آخر: أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الابد، وإياك
أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد بك، وانقطاع الرجاء منك،
قالوا: فخلع هذا العامل نفسه من العمالة وقدم على عمر فقال له: مالك ؟
فقال: خلعت قلبي بكتابك يا أمير المؤمنين، والله لا أعود إلى ولاية
أبدا.
فصل وقد رد جميع المظالم كما قدمنا،
حتى إنه رد فص خاتم كان في يده، قال: أعطانيه الوليد من غير حقه، وخرج
من جميع ما كان فيه من النعيم في الملبس والمأكل والمتاع، حتى إنه ترك
التمتع
بزوجته الحسناء، فاطمة بنت عبد الملك، يقال كانت من أحسن النساء، ويقال
إنه رد جهازها إلى بيت المال، والله أعلم.
وقد كان دخله في كل سنة قبل أن يلي الخلافة أربعين ألف دينار، فترك ذلك
كله حتى لم يبق له دخل سوى أربعمائة دينار في كل سنة، وكان حاصله في
خلافته ثلاثمائة درهم، وكان له من الاولاد جماعة، وكان ابنه عبد الملك
أجلهم، فمات في حياته في زمن خلافته، حتى يقال إنه كان خيرا من أبيه،
فلما مات لم يظهر عليه حزن، وقال: أمر رضيه الله فلا أكرهه، وكان قبل
الخلافة يؤتي بالقميص الرفيع اللين جدا فيقول: ما أحسنه لو لا خشونة
فيه، فلما ولي الخلافة كان بعد ذلك يلبس القميص الغليظ المرقوع ولا
يغسله حتى يتسخ جدا، ويقول: ما أحسنه لولا لينه.
وكان يلبس الفروة الغليظة، وكان سراجه على ثلاث قصبات في رأسهن طين،
ولم يبن شيئا في أيام خلافته، وكان يخدم نفسه بنفسه، وقال: ما ترك شيئا
من الدينا إلا عوضني الله ما هو خير منه، وكان يأكل الغليظ ولا يبالي
بشئ من النعيم، ولا يتبعه نفسه ولا يوده.
حتى قال أبو سليمان الداراني: كان عمر بن عبد العزيز أزهد من أويس
القرني، لان عمر ملك الدنيا بحذافيرها وزهد فيها، ولا ندري حال أويس لو
ملك ما ملكه عمر كيف يكون ؟ ليس من جرب كمن لم يجرب.
وتقدم قول مالك بن دينار: إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز.
وقال عبد الله بن دينار: لم يكن عمر يرتزق من بيت المال شيئا، وذكروا
أنه أمر جارية تروحه حتى ينام فروحته، فنامت هي، فأخذ
(9/233)
المروحة من
يدها وجعل يروحها ويقول: أصابك من الحر ما أصابني.
وقال له رجل: جزاك الله عن الاسلام خيرا.
فقال: بل جزى الله الاسلام عني خيرا.
ويقال إنه كان يلبس تحت ثيابه مسحا غليظا من شعر، ويضع في رقبته غلا
إذا قام يصلي من الليل، ثم إذا أصبح وضعه في مكان وختم عليه فلا يشعر
به أحد، وكانوا يظنونه مالا أو جوهرا من حرصه عليه، فلما مات فتحوا ذلك
المكان فإذا فيه غسل ومسخ.
وكان يبكي حتى يبكي الدم من الدموع، ويقال إنه بكى فوق سطح حتى سال
دمعه من الميزاب، وكان يأكل من العدس ليرق قلبه وتغزر دمعته، وكان إذا
ذكر الموت اضطربت أوصاله،
وقرأ رجل عنده (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين) الآية [ الفرقان:
13 ]، فبكى بكاء شديدا ثم قام فدخل منزله وتفرق الناس عنه، وكان يكثر
أن يقول: اللهم سلم سلم، وكان يقول: اللهم أصلح من كان في صلاحه صلاح
لامة محمد صلى الله عليه وسلم، وأهلك من كان في هلاكه صلاح أمة محمد
صلى الله عليه وسلم وقال: أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم.
وقال: لو أن المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر حتى يحكم أمر
نفسه لتواكل الناس الخير، ولذهب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقل
الواعظون والساعون لله بالنصيحة.
وقال: الدنيا عدوة أولياء الله، وولية أعداء الله، أما الاولياء فغمتهم
وأحزنتهم، وأما الاعداء فغرتهم وشتتتهم وأبعدتهم عن الله.
وقال: قد أفلح من عصم من المراء والغضب والطمع.
وقال لرجل: من سيد قومك ؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تقله.
وقال: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.
وقال: لقد بورك لعبد في حاجة أكثر فيها سؤال ربه، أعطي أو منع.
وقال: قيدوا العلم بالكتاب، وقال لرجل: علم ولدك الفقه الاكبر: القناعة
وكف الاذى.
وتكلم رجل عنده فأحسن فقال: هذا هو السحر الحلال.
وقصته مع أبي حازم مطولة حين رآه خليفة وقد شحب وجهه من التقشف، وتغير
حاله، فقال له: ألم يكن ثوبك نقيا ؟ ووجهك وضيا ؟ وطعامك شهيا ؟ ومركبك
وطيا ؟ فقال له: ألم تخبرني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: " إن من ورائكم عقبة كؤودا لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول " ؟
ثم بكى حتى غشي عليه، ثم أفاق فذكر أنه لقي في غشيته تلك أن القيامة قد
قامت، وقد استدعى بكل من الخلفاء الاربعة، فأمر بهم إلى الجنة، ثم ذكر
من بينه وبينهم فلم يدر ما صنع بهم، ثم دعي هو فأمر به إلى الجنة، فلما
انفصل لقيه سائل فسأله عما كان من أمره فأخبره، ثم قال للسائل، فمن أنت
؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف، قتلني ربي كل قتلة قتلة، ثم ها أنا أنتظر
ما ينتظره الموحدون.
وفضائله ومآثره كثيرة جدا، وفيما ذكرنا كفاية ولله الحمد والمنة، وهو
حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة لنا إلا به.
ذكر سبب وفاته رحمه الله
كان سببها السل، وقيل سببها أن مولى له سمه في طعام أو شراب، وأعطي على
ذلك ألف
(9/234)
دينار، فحصل له
بسبب ذلك مرض، فأخبر أنه مسموم (1)، فقال: لقد علمت يوم سقيت السم، ثم
استدعى مولاه الذي سقاه، فقال له: ويحك ! ! ما حملك على ما صنعت ؟
فقال: ألف دينار أعطيتها.
فقال: هاتها، فأحضرها فوضعها في بيت المال، ثم قال له: اذهب حيث لا
يراك أحد فتهلك.
ثم قيل لعمر: تدارك نفسك، فقال: والله لو أن شفائي أن أمس شحمة أذني أو
أوتى بطيب فأشمه ما فعلت، فقيل له: هؤلاء بنوك - وكانوا اثني عشر - ألا
توصي لهم بشئ فإنهم فقراء ؟ فقال: (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو
يتولى الصالحين) [ الاعراف: 195 ] والله لا أعطيتهم حق أحد وهم بين
رجلين إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فما كنت لاعينه
على فسقه.
وفي رواية فلا أبالي في أي واد هلك.
وفي رواية أفأدع له ما يستعين به على معصية الله فأكون شريكه فيما يعمل
بعد الموت ؟ ما كنت لافعل.
ثم استدعى بأولاده فودعهم وعزاهم بهذا، وأوصاهم بهذا الكلام ثم قال:
انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم (2).
قال: فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرس في
سبيل الله، وكان بعض أولاد سليمان بن عبد الملك - مع كثرة ما ترك لهم
من الاموال - يتعاطى ويسأل من أولاد عمر بن عبد العزيز، لان عمر وكل
ولده إلى الله عزوجل، وسليمان وغيره إنما يكلون أولادهم إلى ما يدعون
لهم، فيضيعون وتذهب أموالهم في شهوات أولادهم.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب قال
قيل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة، فإن قضى
الله موتا دفنت في القبر الرابع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي
بكر وعمر، فقال: والله لان يعذبني الله بكل عذاب، إلا النار فإنه لا
صبر لي عليها، أحب إلي من أن يعلم الله من قلبي أني لذلك الموضع أهل.
قالوا: وكان مرضه بدير سمعان من قرى حمص وكانت مدة مرضه عشرين يوما،
ولما احتضر قال: أجلسوني فأجلسوه فقال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت،
ونهيتني فعصيت، ثلاثا، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحد النظر،
فقالوا: إنك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين، فقال: إني لارى حضرة
ما هم بإنس ولا جان، ثم قبض من ساعته.
وفي رواية أنه قال لاهله: اخرجوا عني، فخرجوا وجلس على الباب
مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعوه يقول: مرحبا بهذه الوجوه التي
ليست بوجوه إنس ولا جان ثم قرأ (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا
يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) [ القصص: 83 ] ثم
هدأ الصوت فدخلوا عليه فوجدوه قد غمض وسوي إلى القبلة وقبض.
__________
(1) وهو قول ابن عبد ربه في العقد الفريد 2 / 280 وقال ان يزيد بن عبد
الملك دس إليه السم مع خادم له.
وفوات الوفيات وفيه: سقاه بنو أمية السم لما شدد عليهم.
وفي الطبري 8 / 137 وابن الاثير 5 / 58 ان مرضا ألم به وكانت شكواه
عشرين يوما.
ولم يذكرا أنه مات مسموما.
(2) انظر وصيته لابنه محمد لما حضرته الوفاة في ابن الاعثم 7 / 323.
(*)
(9/235)
وقال أبو بكر
بن أبي شيبة: ثنا عبد الملك بن عبد العزيز، عن الدراوردي، عن عبد
العزيز بن أبي سلمة أن عمر بن عبد العزيز لما وضع عند قبره هبت ريح
شديدة فسقطت صحيفة بأحسن كتاب فقرأوها فإذا فيها: بسم الله الرحمن
الرحيم براءة من الله لعمر بن عبد العزيز من النار.
فأدخلوها بين أكفانه ودفنوها معه.
وروى نحو هذا من وجه آخر ابن عساكر في ترجمة عبد الصمد بن إسماعيل
بسنده عن عمير بن حبيب السلمي، قال: أسرت أنا وثمانية في زمن بني أمية،
فأمر ملك الروم بضرب رقابنا، فقتل أصحابي وشفع في بطريق من بطارقة
الملك، فأطلقني له، فأخذني إلى منزله، وإذا له ابنة مثل الشمس، فعرضها
علي على أن يقاسمني نعمته وأدخل معه في دينه فأبيت، وخلت بي ابنته
فعرضت نفسها علي فامتنعت، فقالت: ما يمنعك من ذلك ؟ فقلت: يمنعني ديني،
فلا أترك ديني لامرأة ولا لشئ.
فقالت: تريد الذهاب إلى بلادك ؟ قلت: نعم، فقالت: سر على هذا النجم
بالليل واكمن بالنهار، فإنه يلقيك إلى بلادك، قال: فسرت كذلك، قال
فبينا أنا في اليوم الرابع مكمن إذا بخيل مقبلة فخشيت أن تكون في طلبي،
فإذا أنا بأصحابي الذين قتلوا ومعهم آخرون على دواب شهب، فقالوا: عمير
؟ فقلت: عمير.
فقلت: لهم أو ليس قد قتلتم ؟ قالوا: بلى، ولكن الله
عزوجل نشر الشهداء وأذن لهم أن يشهدوا جنازة عمر بن عبد العزيز، قال:
ثم قال لي بعضهم: ناولني يدك يا عمير، فأردفني فسرنا يسيرا ثم قذف بي
قذفة وقعت قرب منزلي بالجزيرة، من غير أن يكون لحقني شر.
وقال رجاء بن حيوة: كان عمر بن عبد العزيز قد أوصى إلي أن أغسله
وأكفنه، فإذا حللت عقدة الكفن أن أنظر في وجهه فادلى، ففعلت فإذا وجهه
مثل القراطيس بياضا، وكان قد أخبرني أنه كل من دفنه قبله من الخلفاء
وكان يحل عن وجوههم فإذا هي مسودة.
وروى ابن عساكر في ترجمة يوسف بن ماهك قال: بينما نحن نسوي التراب على
قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا من السماء كتاب فيه: بسم الله
الرحمن الرحيم أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار، ساقه من طريق
إبراهيم بن بشار، عن عباد بن عمرو، عن محمد بن يزيد البصري، عن يوسف بن
ماهك فذكره، وفيه غرابة شديدة والله أعلم.
وقد رئيت له منامات صالحة، وتأسف عليه الخاصة والعامة، لا سيما العلماء
والزهاد والعباد، ورثاه الشعراء، فمن ذلك ما أنشده أبو عمرو الشيباني
لكثير (1) عزة يرثي عمر: -
__________
(1) قال المبرد في الكامل 2 / 322: وقال رجل من خزاعة وينحله كثير يرثي
عمر بن عبد العزيز بن مروان (قال أبو الحسن: الذي صح عندنا أن هذا
الشعر لقطرب النحوي).
(*)
(9/236)
عمت صنائعه فعم
هلاكه (1) * فالناس فيه كلهم مأجور والناس مأتمهم عليه واحد * في كل
دار رنة وزفير يثني عليك لسان من لم توله * خيرا لانك بالثناء جدير ردت
صنائعه عليه (2) حياته * فكأنه من نشرها منشور وقال جرير يرثي عمر بن
عبد العزيز رحمه الله: - ينعي النعاة أمير المؤمنين لنا * يا خير من حج
بيت الله واعتمرا حملت أمرا عظيما فاضطلعت به * وسرت فيه بأمر الله يا
عمرا (1)
الشمس كاسفة ليست بطالعة (4) * تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وقال
محارب بن دثار رحمه الله يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: - لو
أعظم الموت خلقا أن يواقعه * لعدله لم يصبك الموت يا عمر كم من شريعة
عدل قد نعشت لهم * كادت تموت وأخرى منك تنتظر يا لهف نفسي ولهف
الواجدين معى * على العدول التي تغتالها الحفر ثلاثة ما رأت عيني لهم
شبها * تضم أعظمهم في المسجد الحفر وأنت تتبعهم لم تأل مجتهدا * سقيا
لها سنن بالحق تفتقر لو كنت أملك والاقدار غالبة * تأتي رواحا وتبيانا
وتبتكر صرفت عن عمر الخيرات مصرعه * بدير سمعان لكن يغلب القدر قالوا:
وكانت وفاته بدير سمعان من أرض حمص، يوم الخميس، وقيل الجمعة لخمس
مضين، وقيل بقين من رجب، وقيل لعشر بقين منه، سنة إحدى وقيل ثنتين
ومائة، وصلى عليه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك، وقيل صلى عليه يزيد بن
عبد الملك، وقيل ابنه عبد العزيز بن عمر بن
__________
(1) في المبرد: جلت رزيئته فعم مصابه.
وقبله فيه: أما القبور فإنهن أوانس * بجوار قبرك والديار قبور (2) في
المبرد: إليه.
(3) البيت في كامل المبرد 1 / 403.
حملت أمرا جسيما فاصطبرت له * وقمت فيه بحق الله يا عمرا وفي العقد
الفريد 2 / 281.
حملت أمرا عظيما فاصطبرت له * وسرت فينا بحكم الله يا عمرا (4) في
الكامل للمبرد والعقد: الشمس طالعة ليست بكاسفة...(*)
(9/237)
عبد العزيز،
وكان عمره يوم مات تسعا وثلاثين سنة وأشهرا، وقيل إنه جاوز الاربعين
بأشهر، وقيل بستة.
وقيل بأكثر، وقيل إنه عاش ثلاثا وستين سنة، وقيل ستا وثلاثين، وقيل
سبعا وثلاثين، وقيل ثمانيا وثلاثين سنة، وقيل ما بين الثلاثين إلى
الاربعين ولم يبلغها.
وقال أحمد عن عبد الرزاق عن معمر: مات على رأس خمس وأربعين سنة.
قال ابن عساكر: وهذا وهم، والصحيح الاول تسعا وثلاثين سنة وأشهرا.
وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وقيل أربعة عشر يوما، وقيل
سنتان ونصف.
وكان رحمه الله أسمر دقيق الوجه حسنه نحيف الجسم حسن اللحية غائر
العينين، بجبهته أثر شجة وكان قد شاب وخضب رحمه الله، والله سبحانه
أعلم.
فصل لما ولي عمر بن عبد العزيز
الخلافة جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة على عادته مع الخلفاء
قبله، فقال له عمر: ما لي ولك ؟ تنح عني، إنما أنا رجل من المسلمين.
ثم سار وساروا معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر واجتمع الناس إليه
فقال: أيها الناس ! إني قد ابتليت بهذا الامر عن غير رأي كان مني فيه،
ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من
بيعتي، فاختاروا لانفسكم ولامركم من تريدون.
فصاح المسلمون صيحة واحدة: قد اخترناك لانفسنا وأمرنا، ورضينا كلنا بك.
فلما هدأت أصواتهم حمد الله وأثنى عليه وقال: أوصيكم بتقوى الله، فإن
تقوى الله خلف من كل شئ، وليس من تقوى الله خلف (1)، وأكثروا من ذكر
الموت فإنه هادم اللذات، وأحسنوا الاستعداد له قبل نزوله، وإن هذه
الامة لم تختلف في ربها ولا في كتابها ولا في نبيها، وإنما اختلفوا في
الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحدا باطلا، ولا أمنع أحدا حقا،
ثم رفع صوته فقال: أيها الناس ! من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله
فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت والثياب التي كانت تبسط للخلفاء أمر
بها فبيعت، وأدخل أثمانها في بيت المال، ثم ذهب يتبوأ مقيلا، فأتاه
ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين ماذا تريد أن تصنع ؟ قال: يا
بني أقيل، قال: تقيل ولا ترد المظالم
إلى أهلها ؟ فقال: إني سهرت البارحة في أمر سليمان، فإذا صليت الظهر
رددت المظالم.
فقال له ابنه: ومن لك أن تعيش إلى الظهر ؟ قال: ادن مني أي بني، فدنا
منه فقبل بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على
ديني.
ثم قام وخرج وترك القائلة وأمر مناديه
__________
(1) زيد في صفة الصفوة 2 / 114: فاعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته
كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم
علانيتكم...(*)
(9/238)
فنادى: ألا من
كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذمي من أهل حمص (1) فقال: يا
أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال: ما ذاك ؟ قال: العباس بن الوليد
بن عبد الملك اغتصبني أرضي.
والعباس جالس، فقال له عمر: يا عباس ما تقول ؟ قال: نعم ! أقطعنيها
أمير المؤمنين الوليد وكتب لي بها سجلا، فقال عمر: ما تقول يا ذمي ؟
قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى.
فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد، قم فاردد عليه
ضيعته، فردها عليه.
ثم تتابع الناس في رفع المظالم إليه.
فما رفعت إليه مظلمة إلا ردها، سواء كانت في يده أو في يد غيره حتى أخذ
أموال بني مروان وغيرهم، مما كان في أيديهم بغير استحقاق، فاستغاث بنو
مروان بكل واحد من أعيان الناس، فلم يفدهم ذلك شيئا، فأتوا عمتهم فاطمة
بنت مروان - وكانت عمته - فشكوا إليها ما لقوا من عمر، وأنه قد أخذ
أموالهم ويستنقصون عنده، وأنه لا يرفع بهم رأسا، وكانت هذه المرأة لا
تحجب عن الخلفاء، ولا ترد لها حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك
كان عمر يفعل معها قبل الخلافة، وقامت فركبت إليه، فلما دخلت عليه
عظمها وأكرمها، لانها أخت أبيه، وألقى لها وسادة، وشرع يحادثها، فرآها
غضبى وهي على غير العادة، فقال لها عمر: يا عمة مالك ؟ فقالت: بنو أخي
عبد الملك وأولادهم يهانون في زمانك وولايتك ؟ وتأخذ أموالهم فتعطيها
لغيرهم، ويسبون عندك فلا تنكر ؟ فضحك عمر وعلم أنها متحملة، وأن عقلها
قد كبر، ثم شرع يحادثها والغضب لا يتحيز عنها، فلما رأى ذلك أخذ معها
في الجد، فقال: يا عمه ! اعلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وترك
الناس على نهر مورود، فولى ذلك النهر بعده رجل فلم يستنقص منه شيئا حتى
مات، ثم ولى ذلك النهر بعد ذلك الرجل رجل آخر فلم يستنقص منه شيئا حتى
مات، ثم ولى ذلك النهر رجل آخر فكرى منه ساقية، ثم لم يزل الناس بعده
يكرون السواقي حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه، وأيم الله لئن أبقائي الله
لاردنه إلى مجراه الاول، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وإذا
كان الظلم من الاقارب الذين هم بطانة الوالي، والوالي لا يزيل ذلك،
فكيف يستطيع أن يزيل ما هو ناء عنه في غيرهم ؟ فقالت: فلا يسبوا عندك ؟
قال: ومن يسبهم ؟ إنما يرفع الرجل مظلمته فآخذ له بها.
ذكر ذلك ابن أبي الدنيا وأبو نعيم وغيرهما، وقد أشار إليه المؤلف إشارة
خفية.
وقال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر في مرضه فإذا عليه قميص وسخ،
فقلت لفاطمة: ألا تغسلوا قميص أمير المؤمنين ؟ فقالت: والله ماله قميص
غيره، وبكى فبكت فاطمة فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء،
فلما انجلت عنهم العبرة قالت فاطمة: ما أبكاك
__________
(1) في هامش المطبوعة: " في الاصل من أهل خضر وصححناه من سيرة عمر بن
عبد العزيز لابن الجوزي " وانظر صفة الصفوة 2 / 115.
(*)
(9/239)
يا أمير
المؤمنين ؟ فقال: إني ذكرت منصرف الخلائق من بين يدي الله، فريق في
الجنة وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه.
وعرض عليه مرة مسك من بيت المال فسد أنفه حتى وضع، فقيل له في ذلك
فقال: وهل ينتفع من المسك إلا بريحه ؟ ولما احتضر دعا بأولاده وكانوا
بضعة عشر ذكرا، فنظر إليهم فذرفت عيناه ثم قال: بنفسي الفتية.
وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل كثيرا بهذه الابيات: - يرى مستكينا وهو
للقول ماقت * به عن حديث القوم ما هو شاغله وأزعجه علم عن الجهل كله *
وما عالم شيئا كمن هو جاهله عبوس عن الجهال حين يراهم * فليس له منهم
خدين يهازله تذكر ما يبقى من العيش فارعوى * فأشغله عن عاجل العيش آجله
وروى ابن أبي الدنيا عن ميمون بن مهران قال: دخلت على عمر بن عبد
العزيز وعنده سابق البربري وهو ينشده شعرا، فانتهى في شعره إلى هذه
الابيات: - فكم من صحيح بات للموت آمنا * أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة * فرارا ولا منه بقوته امتنع فأصبح تبكيه
النساء مقنعا * ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع وقرب من لحد فصار مقيله *
وفارق ما قد كان بالامس قد جمع فلا يترك الموت الغني لماله * ولا معدما
في المال ذا حاجة يدع وقال رجا بن حيوة: لما مات أمير المؤمنين عمر بن
عبد العزيز وقام يزيد بن عبد الملك بعده في الخلافة، أتاه عمر بن
الوليد بن عبد الملك فقال ليزيد يا أمير المؤمنين ! إن هذا المرائي -
يعني عمر بن عبد العزيز - قد خان من المسلمين كل ما قدر عليه من جوهر
نفيس ودر ثمين، في بيتين في داره مملوءين، وهما مقفولان على ذلك الدر
والجوهر.
فأرسل يزيد إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر: بلغني أن عمر خلف
جوهرا ودرا في بيتين مقفولين.
فأرسلت إليه: يا أخي ما ترك عمر من سبد ولا لبد، إلا ما في هذا
المنديل.
وأرسلت إليه به، فحله فوجد فيه قميصا غليظا مرقوعا، ورداء قشبا، وجبة
محشوة غليظة واهية البطانة.
فقال يزيد للرسول: قل لها: ليس عن هذا أسأل، ولا هذا أريد، إنما أسأل
عما في البيتين.
فأرسلت تقول له: والذي فجعني بأمير المؤمنين ما دخلت هذين البيتين منذ
ولي الخلافة، لعلمي بكراهته لذلك، وهذه مفاتيحهما فتعال فحول ما فيهما
لبيت مالك.
فركب يزيد ومعه عمر بن الوليد حتى دخل الدار ففتح أحد البيتين فإذا فيه
كرسي من أدم وأربع آجرات مبسوطات عند الكرسي، وقمقم.
فقال عمر بن الوليد: أستغفر الله، ثم فتح البيت الثاني فوجد فيه مسجدا
مفروشا بالحصا، وسلسلة معلقة بسقف البيت، فيها كهيئة الطوق
(9/240)
بقدر ما يدخل
الانسان رأسه فيها إلى أن تبلغ العنق، كان إذا فتر عن العبادة أو ذكر
بعض ذنوبه وضعها في رقبته، وربما كان يضعها إذا نعس لئلا ينام، ووجدوا
صندوقا مقفلا ففتح فوجدوا فيه
سفطا ففتحه فإذا فيه دراعة وتبان، كل ذلك من مسوح غليظ، فبكى يزيد ومن
معه وقال: يرحمك الله يا أخي، إن كنت لنقي السريرة، نقي العلانية.
وخرج عمر بن الوليد وهو مخذول وهو يقول: أستغفر الله، إنما قلت ما قيل
لي.
وقال رجاء: لما احتضر جعل يقول: اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك،
حتى لا أحب لما عجلت تأخيرا، ولا لما أخرت تعجيلا.
فلا زال يقول ذلك حتى مات.
وكان يقول: لقد أصبحت ومالي في الامور هوى إلا في مواضع قضاء الله
فيها.
وقال شعيب بن صفوان: كتب سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى عمر بن
عبد العزيز لما ولي الخلافة: أما بعد يا عمر فإنه قد ولي الخلافة
والملك قبلك أقوام، فماتوا على ما قد رأيت، ولقوا الله فرادى بعد
الجموع والحفدة والحشم، وعالجوا نزع الموت الذي كانوا منه يفرون،
فأنفقأت عينهم التي كانت لاتفتأ تنظر لذاتها، واندفنت رقابهم غير
موسدين بعد لين الوسائد، وتظاهر الفرش والمرافق والسرر والخدم، وانشقت
بطونهم التي كانت لا تشبع من كل نوع ولون من الاموال والاطعمة، وصاروا
جيفا بعد طيب الروائح العطرة، حتى لو كانوا إلى جانب مسكين ممن كانوا
يحقرونه وهم أحياء لتأذى بهم، ولنفر منهم، بعد إنفاق الاموال على
أغراضهم من الطيب والثياب الفاخرة اللينة، كانوا ينفقون الاموال إسرافا
في أغراضهم وأهوائهم، ويقترون في حق الله وأمره، فإن استطعت أن تلقاهم
يوم القيامة وهم محبوسون مرتهنون بما عليهم، وأنت غير محبوس ولا مرتهن
بشئ فافعل، واستعن بالله ولا قوة إلا بالله سبحانه: وما ملك عما قليل
بسالم * ولو كثرت أحراسه ومواكبه (1) ومن كان ذا باب شديد وحاجب (2) *
فعما قليل يهجر الباب حاجبه وما كان غير الموت حتى تفرقت * إلى غيره
أعوانه وحبائبه (3) فأصبح مسرورا به كل حاسد (4) * وأسلمه أصحابه
وحبائبه (5)
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 222: وما سالم...وكتائبه.
(2) في مروج الذهب، ومن يك ذا بأس شديد ومنعة.
(3) في مروج الذهب: فما كان إلا الدفن حتى تفرقت * إلى غيره أحراسه
ومواكبه (4) في مروج الذهب: كاشح...* واسلمه أحبابه وأقاربه وبعده:
فنفسك أكسبها السعادة جاهدا * فكل امرئ هن بما هو كاسبه (*)
(9/241)
وقيل إن هذه
الابيات لغيره.
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الاخلاص: حدثنا عاصم بن عامر، حدثنا أبي،
عن عبد ربه بن أبي هلال، عن ميمون بن مهران قال تكلم عمر بن عبد العزيز
ذات يوم وعنده رهط من إخوانه ففتح له منطق وموعظة حسنة، فنظر إلى رجل
من جلسائه وقد ذرفت عيناه بالدموع، فلما رأى ذلك عمر قطع منطقه، فقلت
له: يا أمير المؤمنين امض في موعظتك فإني أرجو أن يمن الله به على من
سمعه أو بلغه، فقال إليك عني يا أبا أيوب، فإن في القول على الناس فتنة
لا يخلص من شرها متكلم عليهم، والفعال أولى بالمؤمن من المقال.
وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه قال: استعملنا أقواما كنا نرى أنهم أبرار
أخيار، فلما استعملناهم إذا هم يعملون أعمال الفجار، قاتلهم الله، أما
كانوا يمشون على القبور ! وروى عبد الرزاق قال: سمعت معمرا يذكر قال:
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة - وبلغه عنه بعض ما يكره -:
أما بعد فإنه غرني بك مجالستك الفراء، وعمامتك السوداء، وإرسالك إياها
من وراء ظهرك، وإنك أحسنت العلانية فأحسنا بك الظن، وقد أطلعنا الله
على كثير مما تعملون.
وروى الطبراني والدار قطني وغير واحد من أهل العلم بأسانيدهم إلى عمر
بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامل له: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله
واتباع سنة رسوله، والاقتصاد في أمره، وترك ما
أحدث المحدثون بعده، ممن قد حارب سنته، وكفوا مؤنته، ثم اعلم أنه لم
تكن بدعة إلا وقد مضى قبلها ما هو دليل على بطلانها - أو قال دليل
عليها - فعليك لزوم السنة، فإنه إنما سنها من قد علم ما في خلافها من
الزيغ والزلل، والحمق والخطأ والتعمق، ولهم كانوا على كشف الامور أقوى،
وعلى العمل الشديد أشد، وإنما كان عملهم على الاسد، ولو كان فيما
تحملون أنفسكم فضل لكانوا فيه أحرى، وإليه أجرى، لانهم السابقون إلى كل
خير، فإن قلت: قد حدث بعدهم خير، فاعلم أنه إنما أحدثه من قد اتبع غير
سبيل المؤمنين، وحاد عن طريقهم، ورغبت نفسه عنهم، ولقد تكلموا منه ما
يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فأين لا أين، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم غير
محسن، ولقد قصر أقوام دينهم فحفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، فرحم الله
ابن عبد العزيز.
ما أحسن هذا القول الذي ما يخرج إلا من قلب قد امتلا بالمتابعة ومحبة
ما كان عليه الصحابة، فمن الذي يستطيع أن يقول مثل هذا من الفقهاء
وغيرهم ؟ فرحمه الله وعفا عنه.
وروى الخطيب البغدادي من طريق يعقوب بن سفيان الحافظ عن سعيد بن أبي
مريم، عن رشيد بن سعيد قال: حدثني عقيل، عن شهاب، عن عمر بن عبد
العزيز.
قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه بعده سننا، الاخذ بها
تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، ليس على أحد تغييرها ولا
تبديلها، ولا النظر في رأى من خالفها، فمن اقتدى بما سبق هدي، ومن
استبصر
(9/242)
بها أبصر، ومن
خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت
مصيرا.
وأمر عمر بن عبد العزيز مناديه ذات يوم فنادى في الناس: الصلاة جامعة،
فاجتمع الناس فخطبهم فقال في خطبته: إني لم أجمعكم إلا أن المصدق منكم
بما بين يديه من لقاء الله والدار الآخرة ولم يعمل لذلك ويستعد له
أحمق، والمكذب له كافر.
ثم تلا قوله تعالى (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم) [ فصلت: 54 ] وقوله
تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) [ يوسف: 106 ].
وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه أرسل أولاده مع مؤدب لهم إلى الطائف
يعلمهم هناك، فكتب
إليه عمر: بئس ما علمت، إذ قدمت إمام المسلمين صبيا لم يعرف النية - أو
لم تدخله النية - ذكره في كتاب النية له.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الرقة والبكاء، عن مولى لعمر بن عبد
العزيز أنه قال له: يا بني ليس الخير أن يسمع لك وتطاع، وإنما الخير أن
تكون قد غفلت عن ربك عزوجل ثم أطعته، يا بني لا تأذن اليوم لاحد علي
حتى أصبح ويرتفع النهار، فإني أخاف أن لا أعقل عن الناس ولا يفهمون
عني، فقال له مولاه: رأيتك البارحة بكيت بكاء ما رأيتك بكيت مثله، قال
فبكى ثم قال: يا بني إني والله ذكرت الوقوف بين يدي الله عزوجل.
قال: ثم غشي عليه فلم يفق حتى علا النهار، قال: فما رأيته بعد ذلك
متبسما حتى مات.
وقرأ ذات يوم (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل
إلا كنا عليكم شهودا) [ يونس: 61 ] الآية، فبكى بكاءا شديدا حتى سمعه
أهل الدار، فجاءت فاطمة فجلست تبكي لبكائه وبكى أهل الدار لبكائهما،
فجاء ابنه عبد الملك فدخل عليهم وهم على تلك الحال، فقال له: يا أبة ما
يبكيك ؟ فقال: يا بني خير، ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه،
والله يا بني لقد خشيت أن أهلك وأن أكون من أهل النار.
وروى ابن أبي الدنيا عن عبد الاعلى بن أبي عبد الله العنبري.
قال: رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة، وراءه حبشي
يمشي فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين
قال: هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر فخطب فقرأ (إذا الشمس كورت) [
التكوير: 1 ] فقال: وما شأن الشمس (وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت)
[ التكوير: 12 - 13 ] فبكى وبكى أهل المسجد، وارتج المسجد بالبكاء حتى
رأيت حيطان المسجد تبكي معه، ودخل عليه أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين
جاءت بى إليك الحاجة، وانتهيت إلى الغاية، والله سائلك عني.
فبكى عمر وقال له: كم أنتم ؟ فقال: أنا وثلاث بنات.
ففرض له على ثلاثمائة، وفرض لبناته مائة مائة، وأعطاه مائة درهم من
ماله، وقال له: اذهب فاستنفقها حتى تخرج أعطيات المسلمين فتأخذ معهم.
(9/243)
وجاءه رجل من
أهل اذربيجان فقام بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين اذكر بمقامي هذا
بين يديك مقامك غدا بين يدي الله، حيث لا يشغل الله عنك فيه كثرة من
يخاصم من الخلائق، من يوم تلقاه بلائقة من العمل، ولا براءة من الذنب،
قال: فبكى عمر بكاءا شديدا ثم قال له: ما حاجتك ؟ فقال: إن عاملك
بأذربيجان عدا علي فأخذ مني اثني عشر ألف درهم فجعلها في بيت المال.
فقال عمر: اكتبوا له الساعة إلى عاملها، فليرد عليه، ثم أرسله مع
البريد.
وعن زياد مولى ابن عياش قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز في ليلة باردة
شاتية، فجعلت أصطلي على كانون هناك، فجاء عمرو هو أمير المؤمنين فجعل
يصطلي معي على ذلك الكانون، فقال لي: يا زياد ؟ قلت: نعم يا أمير
المؤمنين، قال: قص علي، قلت ما أنا بقاص، فقال: تكلم، فقلت زياد، فقال:
ما له ؟ فقلت: لا ينفعه من دخل الجنة إذا دخل النار، ولا يضره من دخل
النار إذا دخل الجنة، فقال: صدقت، ثم بكى حتى أطفأ الجمر الذي في
الكانون.
وقال له زياد العبدي: يا أمير المؤمنين لا تعمل نفسك في الوصف واعملها
في المخرج مما وقعت فيه، فلو أن كل شعرة فيك نطقت بحمد الله وشكره
والثناء عليه ما بلغت كنه ما أنت فيه، ثم قال له زياد: يا أمير
المؤمنين أخبرني عن رجل له خصم ألد ما حاله ؟ قال: سئ الحال، قال: فإن
كانا خصمين الدين ؟ قال: فهو أسوأ حالا، قال: فإن كانوا ثلاثة ؟ قال:
ذاك حيث لا يهنئه عيش.
قال: فوالله يا أمير المؤمنين ما أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
إلا وهو خصمك، قال: فبكى عمر حتى تمنيت أني لم أكن حدثته ذلك.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة وأهل البصرة: أما بعد فإن من
الناس من شاب في هذا الشراب، ويغشون عنده أمورا انتهكوها عند ذهاب
عقولهم، وسفه أحلامهم، فسفكوا له الدم الحرام، وارتكبوا فيه الفروج
الحرام، والمال الحرام، وقد جعل الله عن ذلك مندوحة من أشربة حلال، فمن
انتبذ فلا ينتبذ إلا من أسقية الادم، واستغنوا بما أحل الله عما حرم،
فإنا من وجدناه شرب شيئا مما حرم الله بعد ما تقدمنا إليه، جعلنا له
عقوبة شديدة، ومن استخف بما حرم الله عليه فالله أشد عقوبة له وأشد
تنكيلا.
خلافة يزيد بن عبد الملك
بويع له بعهد من أخيه سليمان بن عبد الملك أن يكون ولي الامر من بعد
عمر بن عبد العزيز، فلما توفي عمر في رجب من هذه السنة - أعني سنة إحدى
ومائة - بايعه الناس البيعة العامة، وعمره إذ ذاك تسع وعشرون سنة، فعزل
في رمضان منها عن إمرة المدينة أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وولى
عليها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، فجرت بينه وبين أبي بكر بن حزم
منافسات وضغائن، حتى آل الامر إلى أن استدرك عليه حكومة فحده حدين فيها
(1).
__________
(1) حده في خلاف سابق بينه وبين عثمان بن حيان دون أن يسأله عبد الرحمن
شيئا.
(انظر الطبري 8 / 142 وابن الاثير 5 / 67).
(*)
(9/244)
وفيها كانت وقعة بين الخوارج،
وهم أصحاب بسطام الخارجي، وبين جند الكوفة، وكانت الخوارج جماعة قليلة،
وكان جيش الكوفة نحوا من عشرة آلاف فارس، وكادت الخوارج أن تكسرهم،
فتذامروا بينهم فطحنوا الخوارج طحنا عظيما، وقتلوهم عن آخرهم، فلم
يبقوا منهم ثائرة.
وفيها خرج يزيد بن المهلب فخلع يزيد بن عبد
الملك واستحوذ على البصرة، وذلك بعد محاصرة طويلة، وقتال طويل،
فلما ظهر عليها بسط العدل في أهلها، وبذل الاموال، وحبس عاملها عدي بن
أرطاة، لانه كان قد حبس آل المهلب الذين كانوا بالبصرة (1)، حين هرب
يزيد بن المهلب من محبس عمر بن عبد العزيز، كما ذكرنا، ولما ظهر على
قصر الامارة أتي بعدي بن أرطاة فدخل عليه وهو يضحك، فقال يزيد بن
المهلب: إني لاعجب من ضحكك، لانك هربت من القتال كما تهرب النساء، إنك
جئتني وأنت تتل كما يتل العبد.
فقال عدي: إني لاضحك لان بقائي بقاء لك وأن من ورائي طالبا لا يتركني،
قال: ومن هو ؟ قال: جنود بني أمية بالشام، ولا يتركونك، فدارك نفسك (2)
قبل أن يرمي إليك البحر بأمواجه، فتطلب الاقالة فلا تقال (3).
فرد عليه يزيد جواب ما قال، ثم سجنه كما سجن أهله، واستقر أمر يزيد بن
المهلب على البصرة، وبعث نوابه في النواحي والجهات، واستناب في
الاهواز، وأرسل أخاه مدرك بن المهلب على نيابة خراسان، ومعه جماعة من
المقاتلة، فلما بلغ خبره الخليفة يزيد بن عبد الملك جهز ابن أخيه
العباس بن الوليد بن عبد الملك في أربعة آلاف (4)، مقدمة بين يدي عمه
مسلمة بن عبد الملك، وهو في جنود الشام، قاصدين البصرة لقتاله، ولما
بلغ يزيد بن المهلب مخرج الجيوش إليه خرج من البصرة واستناب عليها أخاه
مروان بن المهلب، وجاء حتى نزل واسط، واستشار من معه من الامراء فيما
ذا يعتمده ؟ فاختلفوا عليه في الرأي، فأشار عليه بعضهم بأن يسير إلى
الاهواز ليتحصن في رؤوس الجبال، فقال: إنما تريدون أن تجعلوني طائرا في
رأس جبل ؟ وأشار عليه رجل أهل العراق أن يسير إلى الجزيرة فينزلها
بأحصن حصن فيها، ويجتمع عليه أهل الجزيرة فيقاتل بهم أهل الشام،
وانسلخت هذه السنة وهو نازل بواسط وجيش الشام قاصده.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس أمير المدينة،
وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة عبد
الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن
__________
(1) ومنهم: المفضل وحبيب ومروان وعبد الملك بنو المهلب.
وفي الفتوح لابن الاعثم 8 / 1: بعث المفضل وحبيب ومروان وحماد وجميع
اخوة يزيد بن المهلب فحبسهم وحبس مواليهم وشيعتهم.
(2) في الطبري 8 / 101: فتدارك فلتتك وزلتك بالتوبة واستقالة العثرة.
(3) زيد في الطبري: وإن أردت الصلح وقد أشخصت القوم إليك وجدتهم لك
مباعدين وما لم يشخص القوم إليك لم يمنعوك شيئا طلبت فيه الامان على
نفسك وأهلك ومالك.
(4) في ابن الاعثم 8 / 12: عشرين ألفا.
(*)
(9/245)
الخطاب، وعلى قضائها عامر الشعبي، وعلى البصرة يزيد بن المهلب.
قد استحوذ عليها وخلع أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك.
وفيها توفي عمر بن عبد العزيز،
وربعي بن حراش، وأبو صالح السمان وكان عابدا صادقا ثبتا، وقد ترجمناه
في كتابنا التكميل والله أعلم. |