البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين في أول يوم من جمادى الاولى وجه المأمون
ابنه العباس إلى بلاد الروم لبناء الطوانة وتجديد عمارتها.
وبعث إلى سائر الاقاليم في تجهيز الفعلة من كل بلد إليها، من مصر
والشام والعراق،
فاجتمع عليها خلق كثير، وأمره أن يجعلها ميلا في ميل، وأن يجعل سورها
ثلاث فراسخ، وأن يجعل لها ثلاثة أبواب.
ذكر أول المحنة والفتنة
في هذه السنة كتب المأمون إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب
يأمره أن يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن وأن يرسل إليه
جماعة منهم، وكتب إليه يستحثه في كتاب مطول وكتب غيره قد سردها ابن
جرير كلها (1)، ومضمونها الاحتجاج على أن القرآن محدث وكل محدث مخلوق،
وهذا احتجاج لا يوافقه عليه كثير من المتكلمين فضلا عن المحدثين، فإن
القائلين بأن الله تعالى تقوم به الافعال الاختيارية لا يقولون بأن
فعله تعالى القائم بذاته المقدسة مخلوق، بل لم يكن مخلوقا، بل يقولون
هو محدث وليس بمخلوق، بل هو كلام الله القائم بذاته المقدسة، وما كان
قائما بذاته لا يكون مخلوقا، وقد قال الله تعالى (ما يأتيهم من ذكر من
ربهم محدث) [ الانبياء: 2 ] وقال تعالى (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم
قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) [ الاعراف: 11 ] فالامر بالسجود صدر منه
بعد خلق آدم، فالكلام القائم بالذات ليس مخلوقا، وهذا له موضع آخر.
وقد صنف البخاري كتابا في هذا المعنى سماه خلق أفعال العباد.
والمقصود أن كتاب المأمون لما ورد بغداد قرئ على الناس، وقد عين
المأمون جماعة من المحدثين ليحضرهم إليه، وهم محمد بن سعد كاتب
الواقدي، وأبو مسلم المستملي، ويزيد بن هارون (2) ويحيى بن معين وأبو
خيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن أبي مسعود.
وأحمد بن الدورقي.
فبعث بهم إلى المأمون إلى الرقة فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه إلى ذلك
وأظهروا موافقته وهم كارهون، فردهم إلى بغداد وأمر بإشهار أمرهم بين
الفقهاء، ففعل إسحاق ذلك - وأحضر خلقا من مشايخ الحديث والفقهاء وأئمة
المساجد وغيرهم،
__________
(3) البغدادي الجوهري الحافظ، كما ثقة مبرزا.
(4) الضبي.
أبو عبد الله الكوفي كان مصنفا مكثرا مأمونا، قاضي طرسوس حتى وفاته
وكان ثقة، زاهدا صاحب حديث.
(1) تاريخ الطبري 10 / 284 وما بعدها.
(2) كذا بالاصل، وفي الطبري وابن الاثير وردت العبارة " وأبو مسلم
مستملي يزيد بن هارون " وهي أصح، فما ورد بالاصل سهو من الناسخ،
والمشهور أن يزيد بن هارون مات سنة 206 وقد ذكر المؤلف وفاته هناك.
(*)
(10/298)
فدعاهم إلى ذلك
عن أمر المأمون، وذكر لهم موافقة أولئك المحدثين له على ذلك، فأجابوا
بمثل جواب أولئك موافقة لهم، ووقعت بين الناس فتنة عظيمة فإنا لله وإنا
إليه راجعون.
ثم كتب المأمون إلى إسحاق أيضا بكتاب ثان يستدل به على القول بخلق
القرآن بشبه من الدلائل أيضا لا تحقيق تحتها ولا حاصل لها، بل هي من
المتشابه وأورد من القرآن آيات هي حجة عليه.
أورد ابن جرير ذلك كله.
وأمر نائبه أن يقرأ ذلك على الناس وأن يدعوهم إليه وإلى القول بخلق
القرآن، فأحضر أبو إسحاق جماعة من الائمة وهم أحمد بن حنبل.
وقتيبة.
وأبو حيان الزيادي.
وبشر بن الوليد الكندي.
وعلي بن أبي مقاتل، وسعدويه الواسطي.
وعلي بن الجعد.
وإسحاق بن أبي إسرائيل.
وابن الهرش، وابن علية الاكبر، ويحيى بن عبد الحميد (1) العمري.
وشيخ آخر من سلالة عمر كان قاضيا على الرقة، وأبو نصر التمار، وأبو
معمر القطيعي، ومحمد بن حاتم بن ميمون.
ومحمد بن نوح الجند يسابوري المضروب، وابن الفرخان، والنضر بن شميل،
وأبو (2) علي بن عاصم، وأبو العوام البارد (3)، وأبو (4) شجاع، و عبد
الرحمن بن إسحاق وجماعة.
فلما دخلوا على أبي إسحاق قرأ عليهم كتاب المأمون.
فلما فهموه قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن ؟ فقال: هو كلام
الله.
قال: ليس عن هذا أسألك.
وإنما أسألك أهو مخلوق ؟ قال: ليس بخالق.
قال: ولا عن هذا أسألك.
فقال: ما أحسن غير هذا.
وصمم على ذلك.
فقال: تشهد أن لا إله إلا الله أحدا فردا لم يكن قبله شئ ولا بعده شئ
ولا يشبهه شئ من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه ؟ قال: نعم
! فقال للكاتب: اكتب بما قال.
فكتب.
ثم امتحنهم رجلا رجلا فأكثرهم امتنع من القول بخلق القرآن، فكان إذا
امتنع الرجل منهم امتحنه بالرقعة التي وافق عليها بشر بن الوليد
الكندي، من أنه يقال لا يشبهه شئ من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه
من الوجوه فيقول: نعم كما قال بشر ولما انتهت النوبة إلى امتحان أحمد
بن حنبل فقال له: أتقول إن القرآن مخلوق ؟ فقال: القرآن كلام الله لا
أزيد على
هذا.
فقال له: ما تقول في هذه الرقعة ؟ فقال أقول (ليس كمثله شئ وهو السميع
البصير) [ الشورى: 11 ] فقال رجل من المعتزلة: إنه يقول: سميع بأذن
بصير بعين.
فقال له إسحاق: ما أردت بقولك سميع بصير ؟ فقال: أردت منها ما أراده
الله منها وهو كما وصف نفسه ولا أزيد على ذلك.
فكتب جوابات القوم رجلا رجلا وبعث بها إلى المأمون.
وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعة مكرها لانهم
كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه، وإن كان له رزق على بيت المال قطع،
وإن كان مفتيا منع من الافتاء، وإن كان شيخ حديث ردع عن الاسماع
والاداء ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء وداهية دهياء فلا حول ولا قوة إلا
بالله.
__________
(1) في الطبري 10 / 287 وابن الاثير 6 / 424: عبد الرحمن.
(2) في الطبري وابن الاثير: وابن.
(3) في الطبري وابن الاثير: البزاز.
(4) في الطبري وابن الاثير: ابن.
(*)
(10/299)
فصل
فلما وصلت جوابات القوم إلى المأمون بعث إلى نائبه يمدحه على ذلك ويرد
على كل فرد فرد ما قال في كتاب أرسله.
وأمر نائبه أن يمتحنهم أيضا فمن أجاب منهم شهر أمره في الناس، ومن لم
يجب منهم فابعثه إلى عسكر أمير المؤمنين مقيدا محتفظا به حتى يصل إلى
أمير المؤمنين فيرى فيه رأيه، ومن رأيه أن يضرب عنق من لم يقل بقوله.
فعند ذلك عقد النائب ببغداد مجلسا آخر وأحضر أولئك وفيهم إبراهيم بن
المهدي، وكان صاحبا لبشر بن الوليد الكندي، وقد نص المأمون على قتلهما
إن لم يجيبا على الفور، فلما امتحنهم إسحاق أجابوا كلهم مكرهين متأولين
قوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) [ النحل: 106 ] الآية.
إلا أربعة وهم: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والحسن بن حماد سجادة،
وعبيد الله بن عمر القواريري.
فقيدهم وأرصدهم ليبعث بهم إلى المأمون، ثم استدعى بهم في اليوم الثاني
فامتحنهم فأجاب سجادة إلى القول بذلك فأطلق.
ثم امتحنهم في اليوم الثالث فأجاب
القواريري إلى ذلك فأطلق قيده.
وأخر أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح الجند يسابوري لانهما أصرا على
الامتناع من القول بذلك، فأكد قيودهما وجمعهما في الحديد وبعث بهما إلى
الخليفة وهو بطرسوس، وكتب كتابا بإرسالهما إليه.
فسارا مقيدين في محارة على جمل متعادلين رضي الله عنهما.
وجعل الامام أحمد يدعو الله عزوجل أن لا يجمع بينهما وبين المأمون، وأن
لا يرياه ولا يراهما.
ثم جاء كتاب المأمون إلى نائبه أنه قد بلغني أن القوم إنما أجابوا
مكرهين متأولين قوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) الآية.
وقد أخطأوا في تأويلهم دلك خطأ كبيرا، فأرسلهم كلهم إلى أمير المؤمنين.
فاستدعاهم إسحاق وألزمهم بالمسير إلى طرسوس فساروا إليها، فلما كانوا
ببعض الطريق بلغهم موت المأمون فردوا إلى الرقة، ثم أذن لهم بالرجوع
إلى بغداد.
وكان أحمد بن حنبل وابن نوح قد سبقا الناس، ولكن لم يجتمعا به.
بل أهلكه الله قبل وصولهما إليه، واستجاب الله سبحانه دعاء عبده ووليه
الامام أحمد بن حنبل، فلم يريا المأمون ولا رآهما، بل ردوا إلى بغداد.
وسيأتي تمام ما وقع لهم من الامر الفظيع في أول ولاية المعتصم بن
الرشيد، وتمام باقي الكلام على ذلك في ترجمة الامام أحمد عند ذكر وفاته
في سنة إحدى وأربعين ومائتين وبالله المستعان.
عبد الله المأمون هو عبد الله المأمون بن هارون الرشيد العباسي القرشي
الهاشمي أبو جعفر أمير المؤمنين، وأمه أم ولد يقال لها مراجل
الباذغيسية، وكان مولده في ربيع الاول سنة سبعين ومائة ليلة توفي عمه
الهادي، وولي أبوه هارون الرشيد، وكان ذلك ليلة الجمعة كما تقدم، قال
ابن عساكر: روى الحديث عن أبيه وهاشم بن بشر، وأبي معاوية الضرير،
ويوسف بن قحطبة، وعباد بن العوام، وإسماعيل بن علية، وحجاج بن محمد
الاعور.
وروى عنه أبو حذيفة إسحاق بن بشر - وهو أسن منه - ويحيى بن أكثم القاضي
وابنه الفضل بن المأمون ومعمر بن شبيب وأبو يوسف القاضي وجعفر بن أبي
عثمان
(10/300)
الطيالسي وأحمد
بن الحارث الشعبي - أو اليزيدي - وعمرو بن مسعدة وعبد الله بن طاهر بن
الحسين، ومحمد بن إبراهيم السلمي ودعبل بن علي الخزاعي.
قال: وقدم دمشق مرات وأقام بها مدة، ثم روى
ابن عساكر من طريق أبي القاسم البغوي حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي
قال: سمعت المأمون في الشماسية وقد أجرى الحلبة فجعل ينظر إلى كثرة
الناس فقال ليحيى بن أكثم: أما ترى كثرة الناس ؟ قال: حدثنا يوسف بن
عطية عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الخلق كلهم
عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله ".
ومن حديث أبي بكر المنابحي، عن الحسين بن أحمد المالكي، عن يحيى بن
أكثم القاضي، عن المأمون، عن هشيم، عن منصور، عن الحسن عن أبي بكرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحياء من الايمان " (1).
ومن حديث جعفر بن أبي عثمان الطيالسي: أنه صلى العصر يوم عرفة خلف
المأمون بالرصافة فلما سلم كبر الناس فجعل يقول: لا يا غوغاء لا يا
غوغاء، غدا التكبير سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.
فلما كان الغد صعد المنبر فكبر ثم قال: أنبأ هشيم بن بشير، ثنا ابن
شبرمة، عن الشعبي، عن البراء بن عازب، عن أبي بردة بن نيار (2).
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو
لحم (3) قدمه لاهله، ومن ذبح بعد أن يصلي الغداة فقد أصاب السنة (4) ".
الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا، اللهم
اصلحني واستصلحني وأصلح على يدي.
تولى المأمون الخلافة في المحرم لخمس بقين منه بعد مقتل أخيه سنة ثمان
وتسعين ومائة، واستمر في الخلافة عشرين سنة وخمسة أشهر.
وقد كان فيه تشيع واعتزال وجهل بالسنة الصحيحة، وقد بايع في سنة إحدى
ومائتين بولاية العهد من بعده لعلي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر
الصادق بن محمد الباقر بن علي - زين العابدين - بن الحسين بن علي بن
أبي طالب، وخلع السواد ولبس الخضرة كما تقدم، فأعظم ذلك العباسيون من
البغاددة وغيرهم، وخلعوا المأمون وولوا عليهم إبراهيم بن المهدي، ثم
ظفر المأمون بهم واستقام له الحال في الخلافة، وكان على مذهب الاعتزال
لانه اجتمع بجماعة منهم بشر بن غياث المريسي فخدعوه وأخذ عنهم هذا
المذهب الباطل، وكان يحب العلم ولم
__________
(1) أخرجه البخاري في الايمان (16) وفي الادب (77) ومسلم في الايمان ح
(57 - 59) وأبو داود في السنة (14).
والترمذي في البر (56 - 80) والايمان (7) والنسائي في الايمان.
وابن ماجه في المقدمة (9) وفي الزهد (17) ومالك في الموطأ في حسن الخلق
(10) والامام أحمد في المسند 2 / 56، 147، 392، 414، 442، 450، 533، 5
/ 269.
(2) من تقريب التهذيب، وفي الاصل دينار تحريف، وأبو بردة اسمه هانئ
وقيل الحارث بن عمرو، وقيل مالك بن هبيرة.
صحابي من الانصار.
(3) معناه أي ليست ضحية، ولا ثواب فيها، بل هي لحم لك تنتفع به.
(4) أخرجه البخاري في العيدين، والذبائح (17) والاضاحي.
ومسلم في الاضاحي (1، 4، 10، 11) والنسائي في العيدين (8، 30)
والضحايا، وابن ماجه في الاضاحي (12) وأحمد في المسند.
3 / 113، 117، 364، 385.
(*)
(10/301)
يكن له بصيرة
نافذة فيه، فدخل عليه بسبب ذلك الداخل، وراج عنده الباطل.
ودعا إليه وحمل الناس عليه قهرا.
وذلك في آخر أيامه وانقضاء دولته.
وقال ابن أبي الدنيا: كان المأمون أبيض ربعة حسن الوجه قد وخطه الشيب
يعلوه صفرة أعين طويل اللحية رقيقها ضيق الجبين، على خده خال.
أمه أم ولد يقال لها مراجل.
وروى الخطيب عن القاسم بن محمد بن عباد قال: لم يحفظ القرآن أحد من
الخلفاء غير عثمان بن عفان والمأمون، وهذا غريب جدا لا يوافق عليه، فقد
كان يحفظ القرآن عدة من الخلفاء.
قالوا: وقد كان المأمون يتلو في شهر رمضان ثلاثا وثلاثين ختمة، وجلس
يوما لاملاء الحديث فاجتمع حوله القاضي يحيى بن أكثم وجماعة فأملى
عليهم من حفظه ثلاثين حديثا.
وكانت له بصيرة بعلوم متعددة، فقها وطبا وشعرا وفرائض وكلاما ونحوا
وغريبه، وغريب حديث، وعلم النجوم.
وإليه ينسب الزيج المأموني.
وقد اختبر مقدار الدرجة في وطئه سنجار فاختلف عمله وعمل الاوائل من
الفقهاء.
وروى ابن عساكر أن المأمون جلس يوما للناس وفي مجلسه الامراء والعلماء،
فجاءت امرأة تتظلم إليه فذكرت أن أخاها توفي وترك ستمائة دينار، فلم
يحصل لها سوى دينار واحد.
فقال لها المأمون على البديهة: قد وصل إليك، حقك، كان أخاك قد ترك
بنتين وأما وزوجة واثني عشر أخا وأختا واحدة وهي أنت، قالت: نعم يا
أمير المؤمنين.
فقال: للبنتين الثلثان أربعمائة دينار، وللام السدس مائة دينار،
وللزوجة الثمن خمسة وسبعون دينارا، بقي خمسة وعشرون دينارا لكل أخ
ديناران ديناران، ولك دينار واحد.
فعجب العلماء من فطنته وحدة ذهنه وسرعة جوابه.
وقد رويت هذه
الحكاية عن علي بن أبي طالب.
ودخل بعض الشعراء على المأمون وقد قال فيه بيتا من الشعر يراه عظيما،
فلما أنشده إياه لم يقع منه موقعا طائلا، فخرج من عنده محروما، فلقيه
شاعر آخر فقال له: ألا أعجبك ! أنشدت المأمون هذا البيت فلم يرفع به
رأسا.
فقال: وما هو ؟ قال قلت فيه: أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا * بالدين
والناس بالدنيا مشاغيل فقال له الشاعر الآخر: ما زدت على أن جعلته
عجوزا في محرابها.
فهلا قلت كما قال جرير في عبد العزيز بن مروان: فلا هو في الدنيا مضيع
(1) نصيبه * ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله وقال المأمون يوما لبعض
جلسائه: بيتان اثنان لاثنين ما يلحق بهما أحد، قول أبي نواس: إذا اختبر
الدنيا لبيب تكشفت * له عن عدو في لباس صديق وقول شريح:
__________
(1) في ابن الاثير 6 / 438: يضيع.
(*)
(10/302)
تهون على
الدنيا الملامة إنه * حريص على استصلاحها من يلومها قال المأمون: وقد
ألجأني الزحام يوما وأنا في الموكب حتى خالطت السوقة فرأيت رجلا في
دكان عليه أثواب خلقة، فنظر إلي نظر من يرحمني أو من يتعجب من أمري
فقال: أرى كل مغرور تمنيه نفسه * إذا ما مضى عام سلامة قابل وقال يحيى
بن أكثم: سمعت المأمون يوم عيد خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى
على الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: عباد الله ! عظم أمر الدارين
وارتفع جزاء العالمين، وطالت مدة الفريقين، فوالله إنه للجد لا اللعب،
وإنه للحق لا الكذب، وما هو إلا الموت والبعث والحساب والفصل والميزان
والصراط ثم العقاب أو الثواب، فمن نجا يومئذ فقد فاز.
ومن هوى يومئذ فقد خاب، الخير كله في الجنة، والشر كله في النار.
وروى ابن عساكر من طريق النضر بن شميل قال: دخلت على المأمون
فقال: كيف أصبحت يا نضر ؟ فقلت: بخير يا أمير المؤمنين.
فقال: ما الارجاء ؟ فقلت دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقصون
به من دينهم.
قال: صدقت.
ثم قال: يا نضر أتدري ما قلت في صبيحة هذا اليوم ؟ قلت: إني لمن علم
الغيب لبعيد.
فقال قلت أبياتا وهي: أصبح ديني الذي أدين به * ولست منه الغداة معتذرا
حب علي بعد النبي ولا * أشتم صديقا ولا عمرا ثم ابن عفان في الجنان مع
ال * أبرار ذاك القتيل مصطبرا ألا ولا أشتم الزبير ولا * طلحة إن قال
قائل غدرا وعائش الام لست أشتمها * من يفتريها فنحن منه برا وهذا
المذهب ثاني مراتب الشيعة وفيه تفضيل علي على الصحابة.
وقد قال جماعة من السلف والدار قطني: من فضل عليا على عثمان فقد أزرى
بالمهاجرين والانصار - يعني في اجتهادهم ثلاثة أيام ثم اتفقوا على
عثمان وتقديمه على علي بعد مقتل عمر - وبعد ذلك ست عشرة مرتبة في
التشيع، على ما ذكره صاحب كتاب البلاغ الاكبر، والناموس الاعظم، وهو
كتاب ينتهي به إلى أكفر الكفر.
وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: لا أوتى بأحد
فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري.
وتواتر عنه أنه قال: خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر
ثم عمر.
فقد خالف المأمون الصحابة كلهم حتى علي بن أبي طالب.
وقد أضاف المأمون إلى بدعته هذه التي أزرى فيها على المهاجرين
والانصار، البدعة الاخرى والطامة الكبرى وهي القول بخلق القرآن مع ما
فيه من الانهماك على تعاطي المسكر وغير ذلك من الافعال التي تعدد فيها
المنكر.
ولكن كان فيه شهامة عظيمة وقوة جسيمة في القتال وحصار الاعداء ومصابرة
الروم وحصرهم، وقتل رجالهم وسبي نسائهم، وكان يقول: كان لعمر بن عبد
العزيز وعبد الملك حجاب وأنا بنفسي، وكان يتحرى العدل ويتولى بنفسه
الحكم بين
(10/303)
الناس والفصل،
جاءته امرأة ضعيفة قد تظلمت على ابنه العباس وهو قائم على رأسه، فأمر
الحاجب فأخذه بيده فأجلسه معها بين يديه، فادعت عليه بأنه أخذ ضيعة لها
واستحوذ عليها، فتناظرا ساعة
فجعل صوتها يعلو على صوته، فزجرها بعض الحاضرين فقال له المأمون: اسكت
فإن الحق أنطقها والباطل أسكته، ثم حكم لها بحقها وأغرم ابنه لها عشرة
آلاف درهم.
وكتب إلى بعض الامراء: ليس المروءة أن يكون بيتك من ذهب وفضة وغريمك
عار، وجارك طاو والفقير جائع.
ووقف رجل بين يديه فقال له المأمون: والله لاقتلنك.
فقال: يا أمير المؤمنين تأن علي فإن الرفق نصف العفو، فقال: ويلك ويحك
! قد حلفت لاقتلنك، فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن تلق الله حانثا خير
من أن تلقاه قاتلا.
فعفا عنه.
وكان يقول: ليت أهل الجرائم يعرفون أن مذهبي العفو حتى يذهب الخوف عنهم
ويدخل السرور إلى قلوبهم.
وركب يوما في حراقة فسمع ملاحا يقول لاصحابه: ترون هذا المأمون ينبل في
عيني وقد قتل أخاه الامين - يقول ذلك وهو لا يشعر بمكان المأمون - فجعل
المأمون يتبسم ويقول: كيف ترون الحيلة حتى أنبل في عين هذا الرجل
الجليل القدر ؟ وحضر عند المأمون هدبة بن خالد ليتغدى عنده فلما رفعت
المائدة جعل هدبة يلتقط ما تناثر منها من اللباب وغيره، فقال له
المأمون: أما شبعت يا شيخ ؟ فقال: بلى، حدثني حماد بن سلمة، عن ثابت،
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أكل ما تحت مائدته
أمن من الفقر ".
قال فأمر له المأمون بألف دينار..وروى ابن عساكر أن المأمون قال يوما
لمحمد بن عباد بن المهلب: يا أبا عبد الله قد أعطيتك ألف ألف، وألف
ألف، وألف ألف، وأعطيك دينارا.
فقال: يا أمير المؤمنين إن منع الموجود سوء ظن بالمعبود.
فقال: أحسنت يا أبا عبد الله ! أعطوه ألف ألف وألف ألف وألف ألف.
ولما أراد المأمون أن يدخل ببوران بنت الحسن بن سهل جعل الناس يهدون
لابيها الاشياء النفيسة، وكان من جملة من يعتز به رجل من الادباء.
فأهدى إليه مزودا فيه ملح طيب، ومزودا فيه أشنان جيد، وكتب إليه: إني
كرهت أن تطوى صحيفة أهل البر ولا أذكر فيها، فوجهت إليك بالمبتدأ به
ليمنه وبركته، وبالمختوم به لطيبه ونظافته.
وكتب إليه: بضاعتي تقصر عن همتي * وهمتي تقصر عن مالي فالملح والاشنان
يا سيدي * أحسن ما يهديه أمثالي
قال: فدخل بها الحسن بن سهل على المأمون فأعجبه ذلك وأمر بالزودين
ففرغا وملئا دنانير وبعث بهما إلى ذلك الاديب.
وولد للمأمون ابنه جعفر فدخل عليه الناس يهنئونه بصنوف التهاني ودخل
بعض الشعراء فقال يهنيه بولده: مد لك الله الحياة مدا * حتى ترى ابنك
هذا جدا
(10/304)
ثم يفدى ما
تفدى * كأنه أنت إذا تبدى أشبه منك قامة وقدا * مؤزرا بمجده مردا قال
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
وقدم عليه وهو بدمشق مال جزيل بعد ما كان قد أفلس وشكى إلى أخيه
المعتصم ذلك، فوردت عليه خزائن من خراسان ثلاثون ألف ألف درهم، فخرج
يسعرضها وقد زينت الجمال والاحمال، ومعه يحيى بن أكثم القاضي، فلما
دخلت البلد قال: ليس من المروءة أن نحوز نحن هذا كله والناس ينظرون.
ثم فرق منه أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب لم ينزل عن
فرسه.
ومن لطيف شعره: لساني كتوم لاسراركم * ودمعي نموم لسري مذيع فلولا
دموعي كتمت الهوى * ولو لا الهوى لم تكن لي دموع بعث خادما ليلة من
الليالي ليأتيه بجارية فأطال الخادم عندما المكث، وتمنعت الجارية من
المجئ إليه حتى يأتي إليها المأمون بنفسه، فأنشأ المأمون يقول: بعثتك
مشتاقا (1) ففزت بنظرة * وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا فناجيت من أهوى
وكنت مباعدا * فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى ورددت طرفا في محاسن وجهها
* ومتعت باستسماع نغمتها أذنا أرى أثرا منه بعينيك بينا * لقد سرقت (2)
عيناك من عينها حسنا ولما ابتدع المأمون ما ابتدع من التشيع والاعتزال،
فرح بذلك بشر المريسي - وكان بشر هذا شيخ المأمون - فأنشأ يقول:
قد قال مأموننا وسيدنا * قولا له في الكتب تصديق إن عليا أعني أبا حسن
* أفضل من قد أقلت النوق بعد نبي الهدى وإن لنا * أعمالنا، والقران
مخلوق فأجابه بعض العشراء من أهل السنة: يا أيها الناس لا قول ولا عمل
* لمن يقول: كلام الله مخلوق ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر * ولا النبي
ولم يذكره صديق ولم يقل ذاك إلا كل مبتدع * على الرسول وعند الله زنديق
__________
(1) في ابن الاثير 6 / 436 وفوات الوفيات 2 / 239: مرتادا.
(2) في ابن الاثير: أخذت.
(*)
(10/305)
بشر أراد به
إمحاق دينهم * لان دينهم والله ممحوق يا قوم أصبح عقل من خليفتكم *
مقيدا وهو في الاغلال موثوق وقد سأل بشر من المأمون أن يطلب قائل هذا
فيؤدبه على ذلك، فقال: ويحك لو كان فقيها لادبته ولكنه شاعر فسلت أعرض
له.
ولما تجهز المأمون للغزو في آخر سفرة سافرها إلى طرسوس استدعى بجارية
كان يحبها وقد اشتراها في آخر عمره، فضمها إليه فبكت الجارية وقالت:
قتلتني يا أمير المؤمنين بسفرك ثم أنشأت تقول: سأدعوك دعوة المضطر ربا
* يثيب على الدعاء ويستجيب لعل الله أن يكفيك حربا * ويجمعنا كما تهوى
القلوب فضمها إليه وأنشأ يقول متمثلا: فيها حسنها إذ يغسل الدمع كحلها
* وإذ هي تذري الدمع منها الانامل صبيحة قالت في العتاب (1) قتلتني *
وقتلي بما قالت هناك تحاول ثم أمر مسرورا الخادم بالاحسان إليها والا
حتفاظ عليها حتى يرجع، ثم قال: نحن كما قال
الاخطل: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم * دون النساء ولو باتت باطهار ثم
ودعها وسار فمرضت الجارية في غيبته هذه، ومات المأمون أيضا في غيبته
هذه، فلما جاء نعيه إليها تنفست الصعداء وحضرتها الوفاة وأنشأت تقول
وهي في السياق: إن الزمان سقانا من مرارته * بعد الحلاوة كاسات فأروانا
أبدى لنا تارة منه فأضحكنا * ثم انثنى تارة أخرى فأبكانا إنا إلى الله
فيما لا يزال بنا * من القضاء ومن تلوين دنيانا دنيا تراها ترينا من
تصرفها * ما لا يدوم مصافاة وأحزانا ونحن فيها كأنا لا يزايلنا * للعيش
أحيا وما يبكون موتانا كانت وفاة المأمون بطرسوس في يوم الخميس وقت
الظهر وقيل بعد العصر، لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب من سنة ثماني عشرة
ومائتين، وله من العمر نحو من ثمان وأربعين سنة، وكانت مدة خلافته
عشرين سنة وأشهرا، وصلى عليه أخوه المعتصم وهو ولي العهد من بعده، ودفن
بطرسوس في دار خاقان الخادم، وقيل كانت وفاته يوم الثلاثاء، وقيل يوم
الاربعاء لثمان بقين من هذه السنة.
وقيل
__________
(1) في ابن الاعثم 8 / 333: عشية قالت يا حبيبي...(*)
(10/306)
إنه مات خارج
طرسوس بأربع مراحل فحمل إليها فدفن بها، وقيل إنه نقل إلى أذنة في
رمضان فدفن بها فالله أعلم.
وقد قال أبو سعيد المخزومي: هل رأيت النجوم أغنت عن المأ * مون شيئا أو
ملكه المأسوس (1) خلفوه بعرصتي طرسوس * مثل ما خلفوا أباه بطوس وقد كان
أوصى إلى أخيه المعتصم وكتب وصيته بحضرته وبحضرة ابنه العباس وجماعة
القضاة والامراء والوزراء والكتاب.
وفيها القول بخلق القرآن ولم يتب من ذلك بل مات عليه وانقطع عمله وهو
على ذلك لم يرجع عنه ولم يتب منه، وأوصى أن يكبر عليه الذي يصلي عليه
خمسا، وأوصى
المعتصم بتقوى الله عز وجل والرفق بالرعية، وأوصاه أن يعتقد ما كان
يعتقده أخوه المأمون في القرآن وأن يدعو الناس إلى ذلك، وأوصاه بعبد
الله بن طاهر وأحمد بن إبراهيم وأحمد بن أبي دواد، وقال شاوره في أمورك
ولا تفارقه، وإياك ويحيى بن أكثم أن تصحبه، ثم نهاه عنه وذمه وقال:
خانني ونفر الناس عني ففارقته غير راض عنه.
ثم أوصاه بالعلويين خيرا، أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن ميسئهم، وأن
يواصلهم بصلاتهم في كل سنة.
وقد ذكر ابن جرير للمأمون ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة لم يذكرها
ابن عساكر مع كثرة ما يورده، وفوق كل ذي علم عليم.
خلافة المعتصم بالله أبي إسحاق بن هارون
بويع له بالخلافة يوم مات أخوه المأمون بطرسوس يوم الخميس الثاني عشر
(2) من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين، وكان إذ ذاك مريضا، وهو الذي
صلى على أخيه المأمون، وقد سعى بعض الامراء في ولاية العباس بن المأمون
فخرج عليهم العباس فقال: ما هذا الخلف (3) البارد ؟ أنا قد بايعت عمي
المعتصم.
فسكن الناس وخمدت الفتنة وركب البرد بالبيعة للمعتصم إلى الآفاق،
وبالتعزية بالمأمون.
فأمر المعتصم بهدم ما كان بناه المأمون في مدينة طوانة، ونقل ما كان
حول إليها من السلاح وغيره إلى حصون المسلمين، وأذن الفعلة بالانصراف
إلى بلدانهم، ثم ركب المعتصم بالجنود قاصدا بغداد وصحبته العباس بن
المأمون، فدخلها يوم السبت مستهل رمضان في أبهة عظيمة وتجمل تام.
وفيها دخل خلق كثير من أهل همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجان في دين
الخرمية، فتجمع منهم بشر كثير، فجهز إليهم المعتصم جيوشا كثيرة آخرهم
إسحاق بن إبراهيم بن مصعب في جيش
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 53: وملكه المأنوس.
(2) في مروج الذهب 4 / 54: لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب.
(3) في الطبري وابن الاثير وابن الاعثم: الحب.
(*)
(10/307)
عظيم، وعقد له
على الجبال، فخرج في ذي القعدة وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وأنه
قهر الخرمية
وقتل منهم خلقا كثيرا، وهرب بقيتهم إلى بلاد الروم، وعلى يدي هذا جرت
فتنة الامام أحمد وضرب بين يديه كما سيأتي بسط ذلك في ترجمة أحمد في
سنة إحدى وأربعين ومائتين.
وفيها توفي من الاعيان: بشر المريسي
وهو بشر بن غياث بن أبي كريمة أبو عبد الرحمن المريسي المتكلم شيخ
المعتزلة، وأحد من أضل المأمون، وقد كان هذا الرجل ينظر أولا في شئ من
الفقه، وأخذ عن أبي يوسف القاضي، وروى الحديث عنه وعن حماد بن سلمة
وسفيان بن عيينة وغيرهم، ثم غلب عليه علم الكلام، وقد نهاه الشافعي عن
تعلمه وتعاطيه فلم يقبل منه، وقال الشافعي: لئن يلقى الله العبد بكل
ذنب ما عدا الشرك أحب إلي من أن يلقاه بعلم الكلام.
وقد اجتمع بشر بالشافعي عندما قدم بغداد.
قال ابن خلكان: جدد القول بخلق القرآن وحكي عنه أقوال شنيعة، وكان
مرجئيا وإليه تنسب المريسية من المرجئة، وكان يقول: إن السجود للشمس
والقمر ليس بكفر، وإنما هو علامة للكفر، وكان يناظر الشافعي وكان لا
يحسن النحو، وكان يلحن لحنا فاحشا.
ويقال: إن أباه كان يهوديا صباغا بالكوفة، وكان يسكن درب المريسي
ببغداد.
والمريس عندهم هو الخبز الرقاق يمرس بالسمن والتمر.
قال: ومريس ناحية ببلاد النوبة تهب عليها في الشتاء ريح باردة.
وفيها توفي عبد الله بن يوسف الشيبي (1).
وأبو مسهر عبد الاعلى بن مسهر الغساني الدمشقي (2).
ويحيى بن عبد الله البابلتي (3).
وأبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب المعافري راوي السيرة عن زياد بن
عبد الله البكائي عن ابن إسحاق مصنفها، وإنما نسبت إليه فيقال سيرة ابن
هشام، لانه هذبها وزاد فيها ونقص منها، وحرر أماكن واستدرك أشياء.
وكان إماما في اللغة والنحو، وقد كان مقيما بمصر واجتمع به الشافعي حين
وردها، وتناشدا من أشعار العرب شيئا كثيرا.
__________
(1) في تقريب التهذيب: التنيسي، وهو أبو محمد الكلامي أصله من دمشق،
ثقة متقن من أثبت الناس في الموطأ سمع من سعيد بن عبد العزيز ومالك
والليث.
(2) ولد سنة أربعين ومائة وكان علامة بالمغازي، قال أبو حاتم: ما رأيت
أفصح منه، مات ببغداد في رجب في محنة
" خلق القرآن ".
(3) وهو يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلتي الحراني روى عن الاوزاعي
وابن أبي ذئب وطائفة وليس بالقوي في الحديث.
(*)
(10/308)
كانت وفاته
بمصر لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة، قاله ابن يونس في
تاريخ مصر.
وزعم السهيلي أنه توفي في سنة ثلاث عشرة كما تقدم فالله أعلم.
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين فيها ظهر
محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالطالقان
من خراسان يدعو إلى الرضى من آل محمد، واجتمع عليه خلق كثير وقاتله
قواد عبد الله بن طاهر مرات متعددة، ثم ظهروا عليه وهرب فأخذ ثم بعث به
إلى عبد الله بن طاهر فبعث به إلى المعتصم فدخل عليه للنصف من ربيع
الآخر (1) فأمر به فحبس في مكان ضيق طوله ثلاثة أذرع في ذراعين، فمكث
فيه ثلاثا، ثم حول لاوسع منه وأجرى عليه رزق ومن يخدمه، فلم يزل محبوسا
هناك إلى ليلة عيد الفطر فاشتغل الناس بالعيد فدلي له حبل من كوة كان
يأتيه الضوء منها، فذهب فلم يدر كيف ذهب وإلى أين صار من الارض (2).
وفي يوم الاحد لاحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الاولى دخل إسحاق بن
إبراهيم إلى بغداد راجعا من قتال الخرمية، ومعه أسارى منهم، وقد قتل في
حربه منهم مائة ألف مقاتل.
وفيها بعث المعتصم عجيفا في جيش كثيف لقتال الزط الذين عاثوا فسادا في
بلاد البصرة، وقطعوا الطريق ونهبوا الغلات، فمكث في قتالهم تسعة أشهر
فقهرهم وقمع شرهم وأباد خضراهم.
وكان القائم بأمرهم رجل يقال له محمد بن عثمان ومعه آخر يقال له سملق،
وهو داهيتهم وشيطانهم، فأراح الله المسلمين منه ومن شره.
وفيها توفي سليمان بن داود الهاشمي
شيخ الامام أحمد.
وعبد الله بن الزبير الحميدي صاحب المسند وتلميذ الشافعي وعلي بن عياش
(3).
وأبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري.
وأبو بحار
الهندي.
ثم دخلت سنة عشرين ومائتين من الهجرة في
يوم عاشوراء منها دخل عجيف في السفن إلى بغداد ومعه من الزط سبعة
وعشرون ألفا قد جاؤوا بالامان إلى الخليفة، فأنزلوا في الجانب الشرقي
ثم نفاهم إلى عين زربة (4)، فأغارت الروم عليهم
__________
(1) في ابن الاثير 6 / 443: ربيع الاول.
(2) في رواية في مروج الذهب 4 / 61: قتل مسموما.
(3) الالهاني الحمصي الحافظ محدث حمص وعابدها سمع من جرير بن عثمان
وطبقته.
(4) من الطبري وابن الاثير، وفي الاصل: عين رومة.
وفي معجم البلدان: عين زربى: وهو بلد بالثغر من نواحي = (*)
(10/309)
فاجتاحوهم عن
آخرهم، ولم يفلت منهم أحد.
فكان آخر العهد بهم.
وفيها عقد المعتصم للافشين واسمه حيدر بن كاوس على جيش عظيم لقتال بابك
الخرمي لعنه الله، وكان قد استفحل أمره جدا، وقويت شوكته، وانتشرت
أتباعه في أذربيجان وما والاها، وكان أول ظهوره في سنة إحدى ومائتين،
وكان زنديقا كبيرا وشيطانا رجيما، فسار الافشين وقد أحكم صناعة الحرب
في الارصاد وعمارة الحصون وإرصاد المدد، وأرسل إليه المعتصم مع بغا
الكبير أموالا جزيلة نفقة لمن معه من الجند والاتباع، فالتقى هو وبابك
فاقتتلا قتالا شديدا، فقتل الافشين من أصحاب بابك خلقا كثيرا أزيد من
مائة ألف، وهرب هو إلى مدينته فأوى فيها مكسورا، فكان هذا أول ما تضعضع
من أمر بابك، وجرت بينهما حروب يطول ذكرها، وقد استقصاها ابن جرير.
وفيها خرج المعتصم من بغداد فنزل القاطول فأقام بها.
وفيها غضب المعتصم على الفضل بن مروان بعد المكانة العظيمة، وعزله عن
الوزارة وحبسه وأخذ أمواله وجعل مكانه محمد بن عبد الملك بن الزيات
(1).
وحج بالناس فيها صالح بن علي بن محمد أمير السنة الماضية في الحج.
وفيها توفي آدم بن أبي إياس (2).
وعبد الله بن رجاء (3).
وعفان بن مسلم (4).
وقالون (5) أحد مشاهير القراء.
وأبو حذيفة النهدي (6).
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين فيها كانت
وقعة هائلة بين بغا الكبير وبابك فهزم بابك بغا وقتل خلقا من أصحابه.
ثم اقتتل الافشين وبابك فهزمه افشين وقتل خلقا من أصحابه بعد حروب
طويلة قد استقصاها ابن جرير.
وحج بالناس فيها نائب مكة محمد بن داود بن عيسى بن موسى العباسي.
__________
= المصيصة.
وقد بناها الرشيد سنة 180 وحصنها وندب إليها ندبة من أهل خراسان وغيرهم
وأقطعهم بها المنازل، ونقل إليها المعتصم قوما من الزط...(1) قال
الفخري ص 233: ثم وزر له أحمد بن عمار - بعد نكبه بالفضل بن مروان -
فمكث مدة في وزارة المعتصم ثم صرفه صرفا جميلا واستوزر محمد بن عبد
الملك الزيات.
(2) الخراساني ثم البغدادي نزيل عسقلان وكان صالحا ثقة قانتا.
قال أبو حاتم: ثقة مأمون متعبد.
(3) ابن عمر الغداني - من غدانة بن يربوع من تميم - بصري صدوق يهم
قليلا.
(4) من تقريب التهذيب، وفي الاصل مسلمة.
وهو ابن مسلم بن عبد الله الباهلي، أبو عثمان الصفار البصري ثقة ثبت.
نزل بغداد ونشر بها علمه.
(5) أبو موسى عيسى بن ميناء الزهري المدني.
قال في المغني: حجة في القراءة لا في الحديث.
(6) من تقريب التهذيب، وفي الاصل الهندي، وهو موسى بن مسعود النهدي
صدوق مشهور تكلم فيه أحمد ولينه.
قال ابن خزيمة: لا أحدث عنه.
(*)
(10/310)
وفيها توفي عاصم بن علي.
وعبد الله بن مسلمة القعنبي.
وعبدان (1).
وهشام بن عبيد الله الرازي. |