البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين ومائتين فيها جهز المعتصم جيشا كثيرا مددا للافشين على محاربة بابك وبعث إليه ثلاثين ألف ألف درهم نفقة للجند، فاقتتلوا قتالا عظيما، وافتتح الافشين البذ مدينة بابك واستباح ما فيها، وذلك يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان.
وذلك بعد محاصرة وحروب هائلة وقتال شديد وجهد جهيد.
وقد
أطال بن جرير بسط ذلك جدا.
وحاصل الامر أنه افتتح البلد وأخذ جميع ما فيه من الاموال مما قدر عليه.
ذكر مسك بابك لما احتوى المسلمون على بلده المسمى بالبذ وهي دار ملكه ومر سلطته هرب بمن معه من أهله وولده ومعه أمه وامرأته، فانفرد في شرذمة قليلة ولم يبق معهم طعام، فاجتازوا بحراث فبعث غلامه إليه وأعطاه ذهبا فقال: اعطه الذهب وخذ ما معه من الخبز، فنظر شريك الحراث إليه من بعيد وهو يأخذ منه الخبز، فظن أنه قد أغتصبه منه، فذهب إلى حصن هناك فيه نائب للخليفة يقال له سهل بن سنباط ليستعدي على ذلك الغلام، فركب بنفسه وجاء فوجد الغلام فقال: ما خبرك ؟ فقال: لا شئ، إنما أعطيته دنانير وأخذت منه الخبز.
فقال: ومن أنت ؟ فأراد أن يعمي عليه الخبر فألح عليه فقال: من غلمان بابك، فقال: وأين هو ؟ فقال: ها هو ذا جالس يريد الغداء.
فسار إليه سهل بن سنباط فلما رآه ترجل وقبل يده وقال: يا سيدي أين تريد ؟ قال: أريد أن أدخل بلاد الروم، فقال:: إلى عند من تذهب أحرز من حصني وأنا غلامك وفي خدمتك ؟ وما زال به حتى خدعه وأخذه معه إلى الحصن فأنزله عنده وأجرى عليه النفقات الكثيرة والتحف وغير ذلك، وكتب إلى الافشين يعلمه، فأرسل إليه أميرين لقبضه، فنزلا قريبا من الحصن وكتبا إلى ابن سنباط فقال: أقيما مكانكما حتى يأتيكما أمري.
ثم قال لبابك: إنه قد حصل لك هم وضيق من هذا الحصن وقد عزمت على الخروج اليوم إلى الصيد ومعنا بزاة وكلاب، فإن أحببت أن تخرج معنا لتشرح صدرك وتذهب همك فافعل.
قال: نعم ! فخرجوا وبعث ابن سنباط إلى الاميرين أن كونوا مكان كذا وكذا في وقت كذا وكذا من النهار، فلما كانا
__________
(1) عبدان واسمه عبد الله بن عثمان المروزي محدث مرو وشيخها وكان ثقة جليل القدر معظما روى عنه البخاري غيره.
عاش 76 سنة.
(*)

(10/311)


بذلك الموضع أقبل الاميران بمن معهما من الجنود فأحاطوا ببابك وهرب ابن سنباط فلما رأوه جاؤوا إليه فقالوا: ترجل عن دابتك، فقال: ومن أنتما ؟ فذكرا أنهم من عند الافشين، فترجل حينئذ عن دابته
وعليه دراعة بيضاء وخف قصير وفي يده باز، فنظر إلى ابن سنباط فقال: قبحك الله فهلا طلبت مني من المال ما شئت كنت أعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء ! ثم أركبوه وأخذوه معهما إلى الافشين، فلما اقتربوا منه خرج فتلقاه وأمر الناس أن يصطفوا صفين، وأمر بابك أن يترجل فيدخل بين الناس وهو ماش، ففعل ذلك، وكان يوما مشهودا جدا.
وكان ذلك في شوال من هذه السنة.
ثم احتفظ به وسجنه عنده.
ثم كتب الافشين إلى المعتصم بذلك فأمره أن يقدم به وبأخيه، وكان قد مسكه أيضا.
وكان اسم أخي بابك عبد الله، فتجهز الافشين بهما إلى بغداد في تمام هذه السنة ففرغت ولم يصل بهما إلى بغداد.
وحج بالناس فيها الامير المتقدم ذكره في التي قبلها.
وفيها توفي أبو اليمان الحكم بن نافع (1).
وعمر بن حفص بن غياث (2).
ومسلم بن إبراهيم (3).
ويحيى بن صالح الوحاظي (4).
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين في يوم الخميس ثالث صفر منها دخل الافشين وصحبته بابك على المعتصم سامرا، ومعه أيضا أخو بابك في تجمل عظيم، وقد أمر المعتصم ابنه هارون الواثق أن يتلقى الافشين وكانت أخباره تفد إلى المعتصم في كل يوم من شدة اعتناء المعتصم بأمر بابك، وقد ركب المعتصم قبل وصول بابك بيومين على البريد حتى دخل إلى بابك وهو لا يعرفه، فنظر إليه ثم رجع، فلما كان يوم دخوله عليه تأهب المعتصم واصطف الناس سماطين وأمر بابك أن يركب على فيل ليشهر أمره ويعرفوه، وعليه قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة، وقد هيأوا الفيل وخضبوا أطرافه ولبسوه من الحرير والامتعة التي تليق به شيئا كثيرا، وقد قال فيه بعضهم (5): قد خضب الفيل كعاداته * يحمل شيطان خراسان والفيل لا تخضب أعضاؤه * إلا لذي شأن من الشان ولما أحضر بين يدي المعتصم أمر بقطع يديه ورجليه وجز رأسه وشق بطنه، ثم أمر بحمل رأسه
__________
(1) البهراني الحمصي الحافظ، كان ثقة حجة كثير الحديث ولد سنة 138 روى عن جرير بن عبد الحميد وطبقته.
(2) من تقريب التهذيب، وفي الاصل عياش، ابن الطلق الكوفي ثقة ربما وهم روى عن ابيه وطبقته.
(3) أبو عمرو الفراهيدي مولاهم البصري القصاب الحافظ محدث البصرة، وكان ثقة حجة أضر بآخره.
(4) قال العقيلي كان جهميا وقال الجوزجاني: كان مرجئا خبيثا، ووثقه غيره.
(5) في الطبري وابن الاثير: فقال محمد بن عبد الملك الزيات.
(*)

(10/312)


إلى خراسان وصلب جثته على خشبة بسامرا، وكان بابك قد شرب الخمر ليلة قتله وهي ليلة الخميس لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة.
وكان هذا الملعون قد قتل من المسلمين في مدة ظهوره - وهي عشرون سنة - مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفا وخمسمائة إنسان - قاله ابن جرير - وأسر خلقا لا يحصون، وكان جملة من استنقذه الافشين من أسره نحوا من سبعة آلاف وستمائة إنسان، وأسر من أولاده سبعة عشر رجلا، ومن حلائله وحلائل أولاده ثلاث وعشرين امرأة من الخواتين، وقد كان أصل بابك من جارية زرية الشكل جدا، فآل به الحال إلى ما آل به إليه، ثم أراح الله المسلمين من شره بعد ما افتتن به خلق كثير وجم غفير من العوام الطغام.
ولما قتله المعتصم توج الافشين وقلده وشاحين من جوهر، وأطلق له عشرين ألف ألف درهم، وكتب له بولاية السند، وأمر الشعراء أن يدخلوا عليه فيمدحوه على ما فعل من الخير إلى المسلمين، وعلى تخريبه بلاد بابك التي يقال لها البذ وتركه إياها قيعانا وخرابا.
فقالوا في ذلك فأحسنوا، وكان من جملتهم أبو تمام الطائي وقد أورد قصيدته بتمامها ابن جرير وهي قوله: بذ الجلاد البذ فهو دفين * ما إن بها إلا الوحوش قطين لم يقر هذا السيف هذا الصبر في * هيجاء إلا عز هذا الدين قد كان عذرة سودد فافتضها * بالسيف فحل المشرق الافشين فأعادها تعوي الثعالب وسطها * ولقد ترى بالامس وهي عرين هطلت عليها من جماجم أهلها * ديم إمارتها طلى وشؤون كانت من المهجات قبل مفازة * عسرا فأضحت وهي منه معين وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاث وعشرين ومائتين - أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل
ملطية من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة، قتل فيها خلقا كثيرا من المسلمين، وأسر ما لا يحصون كثرة، وكان من جملة من أسر ألف مرأة من المسلمات.
ومثل بمن وقع في أسره من المسلمين فقطع آذانهم وأنوفهم وسمل أعينهم قبحه الله.
وكان سبب ذلك أن بابك لما أحيط به في مدينة البذ استوسقت الجيوش حوله وكتب إلى ملك الروم يقول له: إن ملك العرب قد جهز إلي جمهور جيشه ولم يبق في أطراف بلاده من يحفظها، فإن كنت تريد الغنيمة فانهض سريعا إلى ما حولك من بلاده فخذها فإنك لا تجد أحدا يمانعك عنها.
فركب توفيل بمائة ألف وانضاف إليه المحمرة الذين كانوا قد خرجوا في الجبال وقاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلم يقدر عليهم لانهم تحصنوا بتلك الجبال فلما قدم ملك الروم صاروا معه على المسلمين فوصلوا إلى ملطية فقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وأسروا نساءهم، فلما بلغ ذلك المعتصم انزعج لذلك جدا وصرخ في قصره بالنفير، ثم نهض من فوره وأمر بتعبئة الجيوش واستدعى القاضي والشهود فأشهدهم أن ما يملكه من الضياع ثلثه صدقة وثلثه لولده وثلثه لمواليه.
وخرج من بغداد فعسكر غربي دجلة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الاولى ووجه بين

(10/313)


يديه عجيفا وطائفة من الامراء ومعهم خلق من الجيش إعانة لاهل زبطرة، فأسرعوا السير فوجدوا ملك الروم قد فعل ما فعل وانشمر راجعا إلى بلاده، وتفارط الحال ولم يمكن الاستدراك فيه، فرجعوا إلى الخليفة لاعلامه بما وقع من الامر، فقال للامراء: أي بلاد الروم أمنع ؟ قالوا: عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الاسلام، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية.
فتح عمورية على يد المعتصم لما تفرغ المعتصم من بابك وقتله وأخذ بلاده استدعى بالجيوش إلى بين يديه وتجهز جهازا لم يجهزه أحد كان قبله من الخلفاء، وأخذ معه من آلات الحرب والاحمال والجمال والقرب والدواب والنفط والخيل والبغال شيئا لم يسمع بمثله، وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال، وبعث الافشين حيدر بن كاوس من ناحية سروج، وعبى جيوشه تعبئة لم يسمع بمثلها، وقدم بين يديه الامراء المعروفين بالحرب، فانتهى في سيره إلى نهر اللسى (1) وهو قريب من طرسوس، وذلك في رجب من
هذه السنة.
وقد ركب ملك الروم في جيشه فقصد نحو المعتصم فتقاربا حتى كان بين الجيشين نحو من أربعة فراسخ، ودخل الافشين بلاد الروم من ناحية أخرى، فجاؤوا في أثره وضاق ذرعه بسبب ذلك إن هو ناجز الخليفة جاءه الافشين من خلفه فالتقيا عليه فيهلك، وإن اشتغل بأحدهما وترك الآخر أخذه من خلفه.
ثم اقترب منه الافشين فسار إليه ملك الروم في شرذمة من جيشه واستخلف على بقية جيشه قريبا له فالتقيا هو والافشين في يوم الخميس لخمس بقين من شعبان منها، فثبت الافشين في ثاني الحال وقتل من الروم خلقا وجرح آخرين، وتغلب على ملك الروم وبلغه أن بقية الجيش قد شردوا عن قرابته وذهبوا عنه وتفرقوا عليه فأسرع الاوبة فإذا نظام الجيش قد انحل، فغضب على قرابته وضرب عنقه وجاءت الاخبار بذلك كله إلى المعتصم فسره ذلك وركب من فوره وجاء إلى أنقره ووافاه الافشين بمن معه إلى هناك، فوجدوا أهلها قد هربوا منه فتقووا منها بما وجدوا من طعام وغيره، ثم فرق المعتصم جيشه ثلاث فرق فالميمنة عليها الافشين، والميسرة عليها اشناس، والمعتصم في القلب، وبين كل عسكرين فرسخان، وأمر كل أمير من الافشين وأشناس أن يجعل لجيشه ميمنة وميسرة وقلبا ومقدمة وساقة، وأنهم مهما مروا عليه من القرى حرقوه وخربوه وأسروا وغنموا، وسار بهم كذلك قاصدا إلى عمورية، وكان بينها وبين مدينة أنقره سبع مراحل، فأول من وصل إليها من الجيش أشناس أمير الميسرة ضحوة يوم الخميس لخمس خلون من رمضان من هذه السنة، فدار حولها دورة ثم نزل على ميلين منها، ثم قدم المعتصم صبيحة يوم الجمعة بعده، فدار حولها دورة ثم نزل قريبا منها، وقد تحصن أهلها تحصنا شديدا وملاوا أبراجها بالرجال والسلاح، وهي مدينة عظيمة كبيرة جدا ذات سور
__________
(1) في ابن الاثير 6 / 481: نهر السن، وفي الطبري 10 / 335: نهر اللمس وهو على سلوقية قريبا من البحر بينه وبين طرسوس مسيرة يوم.
(*)

(10/314)


منيع وأبراج عالية كبار كثيرة.
وقسم المعتصم الابراج على الامراء فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه وعينه له، ونزل المعتصم قبالة مكان هناك قد أرشد إليه، أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين، وكان قد تنصر عندهم وتزوج منهم، فلما رأى أمير المؤمنين والمسلمين رجع إلى الاسلام
وخرج إلى الخليفة فأسلم وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبني بناء ضعيفا بلا أساس، فنصب المعتصم المجانيق حول عمورية فكان أول موضع انهدم من سورها ذلك الموضع الذي دلهم عليه ذلك الاسير، فبادر أهل البلد فسدوه بالخشب الكبار المتلاصقة فألح عليها المنجنيق فجعلوا فوقها البرادع ليردوا حدة الحجر فلم تغن شيئا، وانهدم السور من ذلك الجانب وتفسخ.
فكتب نائب البلد إلى ملك الروم يعلمه بذلك، وبعث ذلك مع غلامين من قومهم فلما اجتازوا بالجيش في طريقهما أنكر المسلمون أمرهما فسألوهما ممن أنتما ؟ فقالا: من أصحاب فلان - لامير سموه من أمراء المسلمين - فحملا إلى المعتصم فقررهما فإذا معهما كتاب مناطس (1) نائب عمورية إلى ملك الروم يعلمه بما حصل لهم من الحصار، وأنه عازم على الخروج من أبواب البلد بمن معه بغتة على المسلمين ومناجزهم القتال كائنا في ذلك ما كان.
فلما وقف المعتصم على ذلك أمر بالغلامين فخلع عليهما، وأن يعطى كل غلام منهما بدرة، فأسلما من فورهما فأمر الخليفة أن يطاف بهما حول البلد وعليهما الخلع، وأن يوقفا تحت حصن مناطس فينثر عليهما الدراهم والخلع، ومعهما الكتاب الذي كتب به مناطس إلى ملك الروم فجعلت الروم تلعنهما وتسبهما.
ثم أمر المعتصم عند ذلك بتجديد الحرس والاحتياط والاحتفاظ من خروج الروم بغتة فضاقت الروم ذرعا بذلك، وألح عليهم المسلمون في الحصار، وقد زاد المعتصم في المجانيق والدبابات وغير ذلك من آلات الحرب.
ولما رأى المعتصم عمق خندقها وارتفاع سورها، أعمل المجانيق في مقاومة السور، وكان قد غنم في الطريق غنما كثيرا جدا ففرقها في الناس وأمر أن يأكل كل رجل رأسا ويجئ بملء جلده ترابا فيطرحه في الخندق، ففعل الناس ذلك فتساوى الخندق بوجه الارض من كثرة ما طرح فيه من الاغنام ثم أمر بالتراب فوضع فوق ذلك حتى صار طريقا ممهدا، وأمر بالدبابات أن توضع فوقه فلم يحوج الله إلى ذلك.
وبينما الناس في الجسر المردوم إذ هدم المنجنيق ذلك الموضع المعيب، فلما سقط ما بين البرجين سمع الناس هدة عظيمة فظنها من لم يرها أن الروم قد خرجوا على المسلمين بغتة، فبعث المعتصم من نادى في الناس: إنما ذلك سقوط السور.
ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، لكن لم يكن ما هدم يسع الخيل والرجال إذا دخلوا.
وقوي الحصار وقد وكلت الروم بكل برج من أبراج السور أميرا يحفظه، فضعف ذلك الامير الذي هدمت ناحيته من
السور عن مقاومة ما يلقاه من الحصار، فذهب إلى مناطس فسأله نجدة فامتنع أحد من الروم أن ينجده وقالوا: لا نترك ما نحن موكلون في حفظه.
__________
(1) في الطبري: 10 / 339: ياطس، وفي ابن الاثير 6 / 485: ناطس.
وفي مروج الذهب 4 / 70: باطس وهو بطريق عمورية الكبير.
(*)

(10/315)


فلما يئس منهم خرج إلى المعتصم ليجتمع به.
فلما وصل إليه أمر المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد خلت من المقاتلة، فركب المسلمون نحوها فجعلت الروم يشيرون إليهم ولا يقدرون على دفاعهم، فلم يلتفت إليهم المسلمون، ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهرا وتتابع المسلمون إليها يكبرون، وتفرقت الروم عن أماكنها فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم، وقد حشروهم في كنيسة لهم هائلة ففتحوها قسرا وقتلوا من فيها وأحرقوا عليهم باب الكنيسة فاحترقت فأحرقوا عن آخرهم، ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه النائب، وهو مناطس في حصن منيع، فركب المعتصم فرسه وجاء حتى وقف بحذاء الحصن الذي فيه مناطس فناداه المنادي ويحك يا مناطس ! هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك.
فقالوا: ليس بمناطس ههنا مرتين.
فغضب المعتصم من ذلك وولى فنادى مناطس هذا مناطس هذا مناطس.
فرجع الخليفة ونصب السلالم على الحصن وطلعت الرسل إليه فقالوا له: ويحك انزل على حكم أمير المؤمنين.
فتمنع ثم نزل متقلدا سيفا فوضع السيف في عنقه ثم جئ به حتى أوقف بين يدي المعتصم فضربه بالسوط على رأسه ثم أمر به أن يمشي إلى مضرب الخليفة مهانا إلى الوطاق الذي فيه الخليفة نازل، فأوثق هناك.
وأخذ المسلمون من عمورية أموالا لا تحد ولا توصف فحملوا منها ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك، وبإحراق ما هنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب لئلا يتقوى بها الروم على شئ من حرب المسلمين، ثم انصرف المعتصم راجعا إلى ناحية طرسوس في آخر شوال من هذه السنة.
وكانت إقامته على عمورية خمسة وعشرين (1) يوما.
مقتل العباس بن المأمون
كان العباس مع عمه المعتصم في غزوة عمورية، وكان عجيف بن عنبسة قد ندمه إذ لم يأخذ الخلافة بعد أبيه المأمون بطرسوس حين مات بها، ولامه على مبايعته عمه المعتصم (2)، ولم يزل به حتى أجابه إلى الفتك بعمه وأخذ البيعة من الامراء له، وجهز رجلا يقال له الحارث السمرقندي وكان نديما للعباس، فأخذ له البيعة من جماعة من الامراء في الباطن، واستوثق منهم وتقدم إليهم أنه يلي الفتك بعمه، فلما كانوا بدرب الروم وهم قاصدون إلى أنقره ومنها إلى عمورية، أشار عجيف على العباس أن يقتل عمه في هذا المضيق ويأخذ له البيعة ويرجع إلى بغداد، فقال العباس: إني أكره أن أعطل على الناس هذه الغزوة، فلما فتحوا عمورية واشتغل الناس بالمغانم أشار عليه أن يقتله فوعده مضيق الدرب إذا رجعوا، فلما رجعوا فطن المعتصم بالخبر فأمر بالاحتفاظ وقوة الحرس وأخذ بالحزم واجتهد
__________
(1) في الطبري 10 / 343 وابن الاثير 6 / 488: خمسة وخمسين.
(2) كان عجيف بن عنبسة قد نقم على المعتصم لانه لم يطلق يده كما أطلق يد الافشين.
وقيد حركته واستقصر أمره وأفعاله فعمل على تحريض العباس بن المأمون على عمه وشجعه على طلب الخلافة (الطبري - ابن الاثير).
(*)

(10/316)


بالعزم، واستدعى بالحارث السمرقندي فاستقره فأقر له بجملة الامر، وأخذ البيعة للعباس بن المأمون من جماعة من الامراء أسماهم له، فاستكثرهم المعتصم واستدعى بابن أخيه العباس فقيده وغضب عليه وأهانة، ثم أظهر له أنه قد رضي عنه وعفا عنه، فأرسله من القيد وأطلق سراحه، فلما كان من الليل استدعاه إلى حضرته في مجلس شرابه واستخلى به حتى سقاه واستحكاه عن الذي كان قد دبره من الامر، فشرح له القضية، وذكر له القصة، فإذا الامر كما ذكر الحارث السمرقندي.
فلما أصبح استدعى بالحارث فأخلاه وسأله عن القضية ثانيا فذكرها له كما ذكرها أول مرة، فقال: ويحك إني كنت حريصا على ذلك فلم أجد إلى ذلك سبيلا بصدقك إياي في هذه القصة.
ثم أمر المعتصم حينئذ بابن أخيه العباس فقيد وسلم إلى الافشين، وأمر بعجيف وبقية الامراء الذين ذكرهم فاحتفظ عليهم، ثم أخذهم بأنواع النقمات التي اقترحها لهم، فقتل كل واحد منهم بنوع لم يقتل به الآخر، ومات العباس بن المأمون بمنبج فدفن هناك، وكان سبب موته أنه أجاعه جوعا شديدا، ثم جئ بأكل
كثير فأكل منه وطلب الماء فمنع حتى مات، وأمر المعتصم بلعنه على المنبر وسماه اللعين.
وقتل جماعة من ولد المأمون أيضا.
وحج بالناس فيها محمد بن داود.
وفيها توفي من الاعيان.
بابك الخرمي قتل وصلب كما قدمنا.
وخالد بن خداش (1) وعبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد.
ومحمد بن سنان العوفي (2).
وموسى بن إسماعيل (3).
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين فيها خرج رجل بآمل طبرستان يقال له مازيار بن قارن بن يزداهرمز (4)، وكان لا يرضى أن يدفع الخراج إلى نائب خراسان عبد الله بن طاهر بن الحسين، بل يبعثه إلى الخليفة ليقبضه منه، فيبعث الخليفة من يتلقى الحمل إلى بعض البلاد ليقبضه منه ثم يدفعه إلى ابن طاهر، ثم آل أمره إلى أن وثب على تلك البلاد وأظهر المخالفة للمعتصم.
وقد كان المازيار هذا ممن يكاتب بابك الخرمي ويعده بالنصر.
ويقال إن الذي قوى رأس مازيار على ذلك الافشين ليعجز عبد الله بن طاهر عن مقاومته فيوليه المعتصم بلاد خراسان مكانه، فبعث إليه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب - أخا
__________
(1) أبو الهيثم المهلبي البصري المحدث خرج له البخاري في التاريخ ومسلم والنسائي.
قال أبو حاتم وغيره: صدوق، وقال ابن المديني: ضعيف.
(2) أبو بكر البصري أحد الاثبات روى عن جرير بن حازم وطبقته.
(3) أبو سلمة المنقري التبوذكي البصري الحافظ أكثر عن حماد بن سلمة وطبقته أحد أركان الحديث.
(4) في ابن الاثير 6 / 495: ونداد هرمز، وفي الطبري: وندا هرمز، وفي مروج الذهب 4 / 71 بندار هرمس، وقال اسم المازيار: محمد وقد خرج سنة 225 وليس سنة 224.
قال ابن الاثير: والاصح سنة 224، وكان قتله سنة 225 ه.
(*)

(10/317)


إسحاق بن إبراهيم - في جيش كثيف فجرت بينهم حروب طويلة استقصاها ابن جرير، وكان آخر ذلك أسر المازيار وحمله إلى ابن طاهر، فاستقره عن الكتب التي بعثها إليه الافشين فأقربها، فأرسله إلى المعتصم وما معه من أمواله التي احتفظت للخليفة، وهي أشياء كثيرة جدا، من الجواهر والذهب
والثياب.
فلما أوقف بين يدي الخليفة سأله عن كتب الافشين إليه فأنكرها، فأمر به فضرب بالسياط حتى مات وصلب إلى جانب بابك الخرمي على جسر بغداد، وقتل عيون أصحابه وأتباعه.
وفيها تزوج الحسن بن الافشين باترجة بنت أشناس ودخل بها في قصر المعتصم بسامرا في جمادى، وكان عرسا حافلا، وليه المعتصم بنفسه، حتى قيل إنهم كانوا يخضبون لحا العامة بالغالية.
وفيها خرج منكجور الاشروسني قرابة الافشين بأرض أذربيجان وخلع الطاعة، وذلك أن الافشين كان قد استنابه على بلاد أذربيجان حتن فرغ من أمر بابك، فظفر منكجور بمال عظيم مخزون لبابك في بعض البلدان، فأخذه لنفسه وأخفاه عن المعتصم، وظهر على ذلك رجل يقال له عبد الله بن عبد الرحمن، فكتب إلى الخليفة في ذلك فكتب منكجور يكذبه في ذلك، وهم به ليقتله فامتنع منه بأهل أردبيل.
فلما تحقق الخليفة كذب منكجور بعث إليه بغا الكبير فحاربه وأخذه بالامان وجاء به إلى الخليفة.
وفيها مات مناطس الرومي نائب عمورية، وذلك أن المعتصم أخذه معه أسيرا فاعتقله بسامرا حتى مات في هذه السنة.
وفي رمضان منها مات إبراهيم بن المهدي بن المنصور عن المعتصم ويعرف بابن شكله، وكان أسود اللون ضخما فصيحا فاضلا، قال ابن ماكولا: وكان يقال له الصيني - يعني لسواده - وقد كان ترجمه ابن عساكر ترجمة حافلة، وذكر أنه ولي إمرة دمشق نيابة عن الرشيد أخيه مدة سنتين ثم عزله عنها ثم أعاده إليها الثانية فأقام بها أربع سنين.
وذكر من عدله وصرامته أشياء حسنة، وأنه أقام للناس الحج سنة أربع وثمانين، ثم عاد إلى دمشق، ولما بويع بالخلافة في أول خلافة المأمون سنة ثنتين ومائتين قاتله الحسن بن سهل نائب بغداد، فهزمه إبراهيم هذا، فقصده حميد الطوسي فهزم إبراهيم واختفى إبراهيم ببغداد حين قدمها المأمون، ثم ظفر به المأمون فعفا عنه وأكرمه.
وكانت مدة ولايته الخلافة سنة وأحد عشر شهرا واثنا عشر يوما، وكان بدء اختفائه في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين، فمكث مختفيا ست سنين وأربعة أشهر وعشرا.
قال الخطيب: كان إبراهيم بن المهدي هذا وافر الفضل غزير الادب واسع النفس سخي الكف، وكان معروفا بصناعة الغناء، حاذقا فيها وقد قل المال عليه في أيام خلافته ببغداد فألح الاعراب عليه في أعطياتهم فجعل يسوف بهم.
ثم خرج إليهم رسوله يقول: إنه لا مال عنده اليوم، فقال بعضهم: فليخرج الخليفة إلينا
فليغن لاهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولاهل هذا الجانب ثلاثة أصوات.
فقال في ذلك دعبل شاعر المأمون يذم إبراهيم بن المهدي: يا معشر الاعراب لا تغلطوا * خذوا عطاياكم ولا تسخطوا فسوف يعطيكم حنينية * لا تدخل الكيس ولا تربط والمعبديات لقوادكم * وما بهذا أحد يغبط

(10/318)


فهكذا يرزق أصحابه * خليفة مصحفه البربط (1) وكتب إلى ابن أخيه المأمون حين طال عليه الاختفاء: ولي الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى، وقد جعل الله أمير المؤمنين فوق كل عفو، كما جعل كل ذي نسب دونه، فإن عفا فبفضله وإن عاقب فبحقه.
فوقع المأمون في جواب ذلك.
القدرة تذهب الحفيظة وكفى بالندم إنابة وعفو الله أوسع من كل شئ.
ولما دخل عليه أنشأ يقول: إن أكن مذنبا فحظي أخطأت * فدع عنك كثرة التأنيب قل كما قال يوسف لبني يعقو * ب لما أتوه لا تثريب فقال المأمون: لا تثريب.
وروى الخطيب أن إبراهيم لما وقف بين يدي المأمون شرع يؤنبه على ما فعل فقال: يا أمير المؤمنين حضرت أبي وهو جدك وقد أتي برجل ذنبه أعظم من ذنبي فأمر بقتله فقال مبارك بن فضالة: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تؤخر قتل هذا الرجل حتى أحدثك حديثا، فقال: قل.
فقال: حدثني الحسن البصري عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: ليقم العافون عن الناس من الخلفاء إلى أكرم الجزاء، فلا يقوم إلا من عفا ".
فقال المأمون: قد قبلت هذا الحديث بقبوله وعفوت عنك يا عم.
وقد ذكرنا في سنة أربع ومائتين زيادة على هذا.
وكانت أشعاره جيدة بليغة سامحه الله.
وقد ساق من ذلك ابن عساكر جانبا جيدا.
كان مولد إبراهيم هذا في مستهل ذي القعدة سنة ثنتين وستين ومائة، وتوفي يوم الجمعة لسبع خلون (2) من هذه السنة عن ثنتين وستين سنة.
وفيها توفي سعيد بن أبي مريم المصري.
وسليمان بن حرب (3).
وأبو معمر المقعد (4).
وعلي بن محمد المدائني الاخباري أحد أئمة هذا الشأن في زمانه.
وعمرو بن مرزوق شيخ البخاري.
وقد تزوج هذا الرجل ألف امرأة.
وأبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي أحد أئمة اللغة والفقه والحديث والقرآن والاخبار وأيام الناس، له المصنفات المشهورة المنتشرة بين الناس، حتى يقال إن الامام أحمد كتب كتابه
__________
(1) الابيات في الاغاني باختلاف في الالفاظ 20 / 150 (دار الكتب).
(2) كذا بالاصل وفيه نقص ظاهر، وفي الطبري وابن الاثير: مات في رمضان وفي وفيات الاعيان 1 / 41: لتسع خلون من شهر رمضان.
(3) أبو أيوب الازدي الواشحي البصري قاضي مكة، سمع شعبة وطبقته.
قال ابن ناصر الدين: هو ثقة ثبت.
(4) وهو عبد الله بن عمرو المنقري مولاهم البصري الحافظ.
قال ابن معين: ثقة ثبت.
قال ابن ناصر الدين: كنيته أبو عمر، حدث عن البخاري وغيره وهو ثقة.
(*)

(10/319)


في الغريب بيده، ولما وقف عليه عبد الله بن طاهر رتب له في كل شهر خمسمائة درهم، وأجراها على ذريته من بعده.
وذكر ابن خلكان: أن ابن طاهر استحسن كتابه وقال: ما ينبغي لعقل بعث صاحبه على تصنيف هذا الكتاب أن نحوج صاحبه إلى طلب المعاش.
وأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر.
وقال محمد بن وهب المسعودي: سمعت أبا عبيد يقول: مكثت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة.
وقال هلال بن العلاء (1) الرقي: من الله على المسلمين بهؤلاء الاربعة: الشافعي تفقه في الفقه والحديث، وأحمد بن حنبل في المحنة، ويحيى بن معين في نفي الكذب، وأبو عبيد في تفسير غريب الحديث.
ولو لا ذلك لاقتحم الناس المهالك.
وذكر ابن خلكان أن أبا عبيد ولي القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة، وذكر له من العبادة والاجتهاد في العبادة شيئا كثيرا.
وقد روى الغريب عن أبي زيد الانصاري والاصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى، وابن الاعرابي، والفراء والكسائي وغيرهم وقال إسحاق بن راهويه: نحن نحتاج إليه وهو لا يحتاج إلينا.
وقدم بغداد وسمع الناس منه ومن تصانيفه.
وقال إبراهيم الحربي: كان كأنه
جبل نفخ فيه روح، يحسن كل شئ.
وقال أحمد بن كامل القاضي: كان أبو عبيد فاضلا دينا ربانيا عالما متقنا ؟ (2) في أصناف علوم أهل الايمان والاتقان والاسلام: من القرآن والفقه والعربية والاحاديث، حسن الرواية صحيح النقل، لا أعلم أحدا طعن عليه في شئ من علمه وكتبه، وله كتاب الاموال وكتاب فضائل القرآن ومعانيه، وغير ذلك من الكتب المنتفع بها رحمه الله.
توفي في هذه السنة قاله البخاري.
وقيل في التي قبلها بمكة، وقيل بالمدينة.
وله سبع وستون سنة.
وقيل جاوز السبعين فالله أعلم.
ومحمد بن عثمان أبو الجماهر الدمشقي الكفرتوتي (3) أحد مشايخ الحديث.
ومحمد بن الفضل أبو النعمان السدوسي الملقب بعارم شيخ البخاري، ومحمد بن عيسى بن الطباع (4).
ويزيد بن عبد ربه الجرجسي الحمصي شيخها في زمانه.
__________
(1) من وفيات الاعيان وتقريب التهذيب، وهو هلال بن العلاء بن هلال بن عمر الباهلي مولاهم، أبو عمر الرقي، صدوق، وفي الاصل: المعلى.
(2) في رواية ابن خلكان عن القاضي 4 / 60: متفننا.
(3) الكفرتوثي: نسبة إلى كفرتوثا قرية بالشام أو الجزيرة كما في اللباب والمراصد.
واسمه محمد بن عثمان التنوخي ثقة سمع من سعيد بن عبد العزيز وطبقته.
(4) الحافظ نزيل الثغر بأذنة سمع مالكا وطبقته.
قال أبو داود: كان يتفقه.
(*)

(10/320)


ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين فيها دخل بغا الكبير ومعه منكجور قد أعطى الطاعة بالامان.
وفيها عزل المعتصم جعفر بن دينار عن نيابة اليمن وغضب عليه وولى اليمن ايتاخ.
وفيها وجه عبد الله بن طاهر بالمازيار فدخل بغداد على بغل باكاف فضربه المعتصم بين يديه أربعمائة وخمسين سوطا ثم سقي الماء حتى مات، وأمر بصلبه إلى جنب بابك، وأقر في ضربه أن الافشين كان يكاتبه ويحسن له خلع الطاعة، فغضب المعتصم على الافشين وأمر بسجنه، فبنى له مكان كالمنارة من دار الخلافة تسمى الكوة، إنما تسعه
فقط، وذلك لما تحقق أنه يريد مخالفته والخروج عليه، وأنه قد عزم على الذهاب لبلاد الخزر ليستجيش بهم على المسلمين فعاجله الخليفة بالقبض عليه قبل ذلك كله وعقد له المعتصم مجلسا فيه قاضيه أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، ووزيره محمد بن عبد الملك بن الزيات، ونائبه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فاتهم الافشين في هذا المجلس بأشياء تدل على أنه باق على دين أجداده من الفرس.
منها أنه غير مختتن فاعتذر أنه يخاف ألم ذلك، فقال له الوزير - وهو الذي كان يناظره من بين القوم - فأنت تطاعن بالرماح في الحروب ولا تخاف من طعنها وتخاف من قطع قلفة ببدنك ؟ ومنها أنه ضرب رجلين إماما ومؤذنا كل واحد ألف سوط لانهما هدما بيت أصنام فاتخذاه مسجدا.
ومنها أنه عنده كتاب كليلة ودمنة مصورا فيه الكفر وهو محلى بالجواهر والذهب، فاعتذر أنه ورثه من آبائهم.
واتهم بأن الاعاجم يكاتبونه وتكتب إليه في كتبها: أنت إله الآلهة من العبيد، وأنه يقرهم على ذلك.
فجعل يعتذر بأنه أجراهم على ما كانوا يكاتبون به أباه وأجداده، وخاف أن يأمرهم بترك ذلك فيتضع عندهم فقال له الوزير: ويحك فماذا أبقيت لفرعون حين قال: أنا ربكم الاعلى ؟ وأنه كان يكاتب المازيار بأن يخرج عن الطاعة وأنه في ضيق حتى ينصر دين المجوس الذي كان قديما ويظهره على دين العرب، وأنه كان يستطيب المنخنقة على المذبوحة، وأنه كان في كل يوم أربعاء يستدعي بشاة سوداء فيضربها بالسيف نصفين ويمشي بينهما ثم يأكلها، فعند ذلك أمر المعتصم بغا الكبير أن يسجنه مهانا ذليلا فجعل يقول: إني كنت أتوقع منكم ذلك.
وفي هذه السنة حمل عبد الله بن طاهر الحسن بن الافشين وزوجته أترجة بنت أشناس إلى سامرا.
وحج بالناس فيها محمد بن داود.
وفيها توفي من الاعيان أصبغ بن الفرج (1)، وسعدويه (2)، ومحمد بن سلام البيكندي شيخ البخاري، وأبو عمر الجرمي، وأبو دلف (3) العجلي التميمي الامير أحد الاجواد.
__________
(1) الفقيه، أبو عبد الله المصري الثقة مفتي أهل مصر.
قال ابن معين: كان من أعلم خلق الله برأي مالك.
(2) واسمه سعيد بن سليمان الواسطي، الحافظ.
قال أبو حاتم: ثقة مأمون مات ببغداد.
(3) واسمه قاسم بن عيسى العجلي صاحب الكرخ واحد من الابطال الممدوحين والاجواد المشهورين والشعراء
المجيدين ولي إمرة دمشق للمعتصم.
(*)

(10/321)


وسعيد بن مسعدة أبو الحسن الاخفش الاوسط البلخي ثم البصري النحوي، أخذ النحو عن سيبويه وصنف كتبا كثيرة منها كتاب في معاني القرآن، وكتاب الاوسط في النحو وغير ذلك، وله كتاب في العروض زاد فيه بحر الخبب على الخليل، وسمي الاخفش لصغر عينيه وضعف بصره، وكان أيضا أدلغ، وهو الذي لا يضم شفتيه على أسنانه، كان أولا يقال له الاخفش الصغير بالنسبة إلى الاخفش الكبير، أبي الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد الهجري، شيخ سيبويه وأبي عبيدة، فلما ظهر علي بن سليمان ولقب بالاخفش أيضا صار سعيد بن مسعدة هو الاوسط، والهجري الاكبر، وعلي بن سليمان الاصغر.
وكانت وفاته في هذه السنة، وقيل سنة إحدى وعشرين ومائتين.
الجرمي النحوي وهو صالح بن إسحاق البصري، قدم بغداد وناظر بها الفراء، وكان قد أخذ النحو عن أبي عبيدة وأبي زيد والاصمعي وصنف كتبا منها الفرخ - يعني فرخ كتاب سيبويه - وكان فقيها فاضلا نحويا بارعا عالما باللغة حافظا لها، دينا ورعا حسن المذهب، صحيح الاعتقاد وروى الحديث.
ذكره ابن خلكان وروى عنه المبرد، وذكره أبو نعيم في تاريخ أصبهان.