البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين في رجب منها عقد المعتز لموسى بن بغا
الكبير على جيش قريب من أربعة آلاف ليذهبوا إلى قتال عبد العزيز بن أبي
دلف بناحية همذان،
لانه خرج عن الطاعة وهو في نحو من عشرين ألفا بناحية همذان، فهزموا عبد
العزيز في أواخر هذه السنة هزيمة فظيعة، ثم كانت بينهما وقعة أخرى في
رمضان عند الكرج فهزم عبد العزيز أيضا وقتل من أصحابه بشر كثير، وأسروا
ذراري كثيرة حتى أسروا أم عبد العزيز أيضا، وبعثوا إلى المعتز سبعين
حملا من الرؤوس وأعلاما كثيرة، وأخذ من عبد العزيز ما كان استحوذ عليه
من البلاد.
وفي رمضان منها خلع على بغا الشرابي وألبسه التاج والوشاحين.
وفي يوم عيد الفطر كانت وقعة هائله عند مكان يقال له البوازيج، وذلك أن
رجلا يقال له مساور بن عبد الحميد حكم فيها والتف عليه نحو من سبعمائة
من الخوارج، فقصد له رجل يقال له بندار الطبري في ثلاثمائة من أصحابه،
فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من الخوارج نحو من خمسين رجلا.
وقتل أصحاب بندار مائتان وقيل وخمسون رجلا.
وقتل بندار فيمن قتل رحمه الله.
ثم صمد مساور إلى حلوان فقاتله أهلها وأعانهم حجاج أهل خراسان فقتل
مساور منهم نحوا من أربعمائة قبحه الله.
وقتل من جماعته كثيرون أيضا.
ولثلاث بقين من شوال قتل وصيف التركي وأرادت العامة نهب داره في سامرا
ودور أولاده فلم يمكنهم ذلك، وجعل الخليفة ما كان إليه إلى بغا
الشرابي.
وفي ليلة أربع
عشرة من ذي القعدة من هذه السنة خسف القمر حتى غاب أكثره وغرق نوره،
وعند انتهاء خسوفه
__________
(1) أبو يعقوب التنوخي الانباري الحافظ، من كبار الائمة صنف في
القراءات وفي الحديث والفقه عاش 88 سنة.
(2) أبو هاشم الطوسي ثم البغدادي دلويه.
وكان ثقة ثبتا حدث عنه البخاري وأحمد وغيرهما.
(3) أبو بكر العبدي البصري الحافظ الثقة، وما أثبتناه من ابن الاثير،
وفي الاصل: محمد بن بشار وغندر وانظر تقريب التهذيب.
(4) أبو موسى العتري البصري، روى عنه الائمة الستة وابن خزيمة وغيرهم
وكان حجة حافظا.
(5) أبو يوسف العبدي النكري الدورقي البغدادي الحافظ الثقة الحجة روى
عنه الستة وغيرهم وسمع هشيما وإبراهيم بن سعد وطبقتهما (*).
(11/16)
مات محمد بن
عبد الله بن طاهر نائب العراق ببغداد.
وكانت علته قورحا في رأسه وحلقه فذبحته، ولما أتي به ليصلى عليه اختلف
أخوه عبيد الله وابنه طاهر وتنازعا الصلاة عليه حتى جذبت السيوف وترامى
الناس بالحجارة، وصاحت الغوغاء يا طاهر يا منصور: فمال عبيد الله إلى
الشرقية ومعه القواد وأكابر الناس، فدخل داره وصلى عليه ابنه وكان أبوه
قد أوصلى إليه.
وحين بلغ المعتز ما وقع بعث بالخلع والولاية إلى عبيد الله بن عبد الله
بن طاهر فأطلق عبيد الله للذي قدم بالخلع خمسين ألف درهم.
وفيها نفى المعتز أخاه أبا أحمد من سر من رأى إلى واسط، ثم إلى البصرة.
ثم رد إلى بغداد أيضا.
وفي يوم الاثنين منها سلخ ذي القعدة التقي موسى بن بغا الكبير والحسين
بن أحمد الكوكبي الطالبي الذي خرج في سنة إحدى وخمسين عند قزوين
فاقتتلا قتالا شديد، ثم هزم الكوكبي وأخذ موسى قزوين وهرب الكوكبي إلى
الديلم.
وذكر أبن جرير عن بعض من حضر هذه الوقعة أن الكوكبي حين التقى أمر
أصحابه أن يتترسوا بالحجف - وكانت السهم لا تعمل فيهم - فأمر موسى بن
بغا أصحابه عند ذلك أين يطرحوا ما معهم من النفط ثم حاولوهم وأروهم
أنهم قد انهزموا منهم، فتبعهم أصحاب الكوكبي، فلما توسطوا الارض التي
فيها النفط أمر عند ذلك بإلقاء النار فيه فجعل
النفط يحرق أصحاب الكوكبي ففروا سراعا هاربين، وكر عليهم موسى وأصحابه
فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب الكوكبي إلى الديلم، وتسلم موسى قزوين.
وفيها حج بالناس عبد الله بن محمد بن سليمان الزينبي.
وفيها توفي من الاعيان أبو الاشعث
(1).
وأحمد بن سعيد الدارمي (2).
و سري السقطي أحد كبار مشايخ الصوفية.
تلميذ معروف الكرخي.
حدث عن هشيم وأبي بكر بن عياش وعلي بن عراب ويحيى بن يمان ويزيد بن
هارون وغيرهم.
وعنه ابن أخته الجنيد بن محمد.
وأبو الحسن النوري ومحمد بن الفضل بن جابر السقطي وجماعة.
وكانت له دكان يتجر فيها فمرت به جارية قد انكسر إناء كان معها تشتري
فيه شيئا لسادتها، فجعلت تبكي فأعطاها سري شيئا تشتري بدله، فنظر معروف
إليه وما صنع بتلك الجارية فقال له: بغض الله إليك الدنيا فوجد الزهد
من يومه.
وقال سري: مررت في يوم عيد فإذا معروف ومعه صغير شعث الحال فقلت: ما
هذا ؟ فقال: هذا كان واقفا عند صبيان يلعبون بالجوز وهو مفكر، فقلت له:
ما لك لا تلعب كما يلعبون ؟ فقال: أنا يتيم ولا شئ معي أشتري به جوزا
ألعب به.
فأخذته لاجمع له نوى يشتري به جوزا يفرح به.
فقلت ألا أكسوه وأعطيه شيئا يشتري به جوزا ؟ فقال أو تفعل ؟ فقلت: نعم
فقال خذه أغنى الله قلبك.
قال سري:
__________
(1) أبو الاشعث: واسمه أحمد بن المقدام البصري العجلي المحدث.
قال في المغني: ثقة ثبت وقال النسائي: ليس به بأس.
سمع حماد بن زيد وطائفة (2) أبو جعفر السرخسي، الحافظ أحد الفقهاء
والائمة سمع النظر بن شميل وطبقته وكان ثقة (*).
(11/17)
فصغرت عندي
الدنيا حتى لهي أقل شئ.
وكان عنده مرة لوز فساومه رجل على الكر (1) بثلاثة وستين دينارا، ثم
ذهب الرجل فإذا اللوز يساوي الكر تسعين دينارا فقال له: إني أشتري منك
الكر بتسعين دينارا.
فقال له إني إنما ساومتك بثلاثة وستين دينارا وإني لا أبيعه إلا بذلك،
فقال الرجل: أنا أشري منك بتسعين دينارا.
فقال لا أبيعك هو إلا بما ساومتك عليه.
فقال له الرجل: إن من النصح أن لا
أشتري منك إلا بتسعين دينارا.
وذهب فلم يشتر منه.
وجاءت امرأة يوما إلى سري فقالت: إن ابني قد أخذه الحرسي وإني أحب أن
تبعث إلى صاحب الشرطة لئلا يضرب، فقام فصلى فطول الصلاة وجعلت المرأة
تحترق في نفسها، فلما انصرف من الصلاة قالت المرأة: الله الله في ولدي.
فقال لها: إني إنما كنت في حاجتك.
فما رام مجلسه الذي صلى فيه حتى جاءت امرأة إلى تلك المرأة فقالت لها:
ابشري فقد أطلق ولدك وها هو في المنزل.
فانصرفت إليه.
وقال سري: أشتهي أن آكل أكلة ليس لله فيها علي تبعة، ولا لاحد علي فيها
منة.
فما أجد إلى ذلك سبيلا.
وفي رواية عنه أنه قال: إني لاشتهي البقل من ثلاثين سنة فما أقدر عليه.
وقال: احترق سوقنا فقصدت المكان الذي فيه دكاني فتلقاني رجل فقال أبشر
فإن دكانك قد سلمت.
فقلت: الحمد لله.
ثم ذكرت ذلك التحميد إذ حمدت الله على سلامة دنياي وإني لم أواس الناس
فيما هم فيه، فأنا أستغفر الله منذ ثلاثين سنة.
رواها الخطيب عنه.
وقال: صليت وردي ذات ليلة ثم مددت رجلي في المحراب فنوديت: ياسري هكذا
تجالس الملوك ؟ قال فضممت رجلي وقلت: وعزتك لا مددت رجلي أبدا.
وقال الجنيد: ما رأيت أعبد من سري السقطي.
أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رئي مضطجعا إلا في علة الموت.
وروى الخطيب عن أبي نعيم عن جعفر الخلدي عن الجنيد قال: دخلت عليه
أعوده فقلت: كيف تجدك ؟ فقال: كيف أشكو إلى طبيبي ما بي * والذي (2)
أصابني من طبيبي قال: فأخذت المروحة لاروح عليه فقال: كيف يجد روح
المروحة من جوفه يحترق من داخل ؟ ثم أنشأ يقول: القلب محترق والدمع
مستبق * والكرب مجتمع والصبر مفترق كيف القرار على من لا قرار له * مما
جناه الهوى والشوق والقلق يا رب إن كان شئ لي به فرج (3) * فامنن علي
به ما دام بي رمق قال فقلت له: أوصني، قال: لا تصحب الاشرار، ولا تشتغل
عن الله بمجالسة الابرار الاخيار.
وقد ذكر الخطيب وفاته يوم الثلاثاء لست خلون من رمضان سنة ثلاث وخمسين
ومائتين بعد أذان الفجر، ودفن بعد العصر بمقبرة الشوينزي، وقبره ظاهر
معروف، وإلى جنبه قبر الجنيد.
وروي
__________
(1) الكر: مكيال للعراق، وهو ستون قفيزا أو أربعون أردبا (القاموس).
(2) في صفوة الصفوة 2 / 384: والذي بي.
(3) في صفة الصفوة: كان شئ فيه لي فرج (*)
(11/18)
عن أبي عبيدة
بن حربويه قال: رأيت سريا في المنام فقلت: ما فعل الله بك ؟ فقال غفر
لي ولكل من شهد جنازتي.
قلت: فإني ممن حضر جنازتك وصلى عليك.
قال: فأخرج درجا فنظر فيه فلم ير فيه اسمي، فقلت: بلى ! قد حضرت فإذا
اسمي في الحاشية.
وحكى ابن خلكان قولا أن سريا توفي سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة ست وخمسين
فالله أعلم.
قال ابن خلكان: وكان السري ينشد كثيرا: ولما ادعيت الحب (1) قالت
كذبتني * فما لي أرى الاعضاء منك كواسيا فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشى
* وتذهل حتى لاتجيب المناديا (2) ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائتين فيها
أمر الخليفة المعتز بقتل بغا الشرابي ونصب رأسه بسامرا ثم ببغداد وحرقت
جثته وأخذت أمواله وحواصله.
وفيها ولى الخليفة أحمد بن طولون الديار المصرية، وهو باني الجامع
المشهور بها.
وحج بالناس فيها علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد.
وتوفي فيها من الاعيان زياد بن أيوب
الحسياني (3).
وعلي بن محمد بن موسى الرضى، يوم الاثنين لاربع بقين من جمادى الآخرة
ببغداد.
وصلى عليه أبو أحمد المتوكل في الشارع المنسوب إلى أبي أحمد.
ودفن بداره ببغداد.
ومحمد بن عبد الله المخرمي (4).
وموهل بن إهاب (5).
وأما أبو الحسن علي الهادي [ فهو ] ابن محمد الجواد بن علي الرضا بن
موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن
الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب أحد الائمة الاثني عشرية، وهو والد
الحسن بن علي العسكري المنتظر عند الفرقة الضالة الجاهلة الكاذبة
الخاطئة.
وقد كان عابدا زاهدا نقله المتوكل إلى سامرا فأقام بها أزيد من عشرين
سنة بأشهر.
ومات بها في هذه السنة.
وقد ذكر
للمتوكل أن بمنزله سلاحا وكتبا كثيرة من الناس، فبعث كبسة فوجدوه جالسا
مستقبل القبلة وعليه مدرعة من صوف وهو على التراب ليس دونه حائل،
فأخذوه كذلك فحملوه إلى المتوكل وهو على
__________
(1) في الوفيات المطبوع 2 / 359: إذا ما شكوت الحب.
(2) وبعده في شذرات الذهب 2 / 127.
وتنحل حتى لا يبقى لك الهوى * سوى مقلة تبكي بها وتناجيا (3) أبو هاشم،
الطوسي الاصل يلقب دلويه، ثقة حافظ لقبه أحمد: شعبة الصغير.
قال في تقريب التهذيب مات سنة 252 (وانظر شذرات الذهب 2 / 126).
(4) أبو جعفر، الحافظ روى عن وكيع وطبقته روى عنه البخاري وأبو داود
والنسائي وغيرهم، ثقة مات ببغداد.
(5) أبو عبد الرحمن، الحافظ روى عن ضمرة بن ربيعة وحيي بن آدم.
مات بالرملة في رجب (*).
(11/19)
شرابه، فلما
مثل بين يديه أجله وأعظمه وأجلسه إلى جانبه وناوله الكأس الذي في يده
فقال: يا أمير المؤمنين لم يدخل باطني ولم يخالط لحمي ودمي قط، فاعفني
منه.
فأعفاه ثم قال له: أنشدني شعرا فأنشده: باتوا على قلل الاجبال تحرسهم *
غلب الرجال فما أغنتهم القلل واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * فأودعوا
حفرا يا بئس ما نزلوا نادى بهم صارخ من بعد ما قبروا * أين الاسرة
والتيجان والحلل ؟ أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الاستار
والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل قد
طال ما أكلوا دهرا وما لبسوا (1) * فأصبحوا بعد طول الاكل قد أكلوا
قال: فبكى المتوكل حتى بل الثرى، وبكى من حوله بحضرته، وأمر برفع
الشراب وأمر له بأربعة آلاف دينار، وتحلل منه ورده إلى منزله مكرما
رحمه الله.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين
فيها كانت وقعة بين مفلح وبين الحسن بن زيد الطالبي فهزمه مفلح ودخل
آمل طبرستان وحرق منازل الحسن بن زيد ثم سار وارءه إلى الديلم.
وفيها كانت محاربة شديدة بين يعقوب بن الليث وبين علي بن الحسين بن
قريش بن شبل، فبعث علي بن الحسين رجلا من جهته يقال له طوق بن المغلس،
فصابره أكثر من شهر ثم ظفر يعقوب بطوق فأسره فأسر وجوه أصحابه، ثم سار
إلى علي بن الحسين هذا فأسره وأخذ بلاده - وهي كرمان - فأضافها إلى ما
بيده من مملكة خراسان سجستان (2): ثم بعث يعقوب بن الليث بهدية سنية
إلى المعتز: دواب وبازات وثياب فاخرة.
وفيها ولى الخليفة سليمان بن عبد الله بن طاهر نيابة بغداد والسواد في
ربيع الاول (3) منها.
وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل كاتب المعتز والحسن بن مخلد
كاتب قبيحة أم المعتز وأبا نوح عيسى بن إبراهيم، وكانوا قد تمالؤا على
أكل بيت المال، وكانوا دواوين وغيرهم، فضربهم وأخذ خطوطهم بأموال جزيلة
يحملونها، وذلك بغير رضى من المعتز في الباطن واحتيط على أموالهم
حواصلهم وضياعهم وسموا الكتاب الخونة وولى الخليفة عن قهر غيرهم.
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 108 وفي وفيات الاعيان 3 / 272: شربوا.
وبعده في مروج الذهب ثلاثة أبيات.
(2) في الفخري ص 243: استولى يعقوب بن الليث على فارس وجمع جموعا
كثيرة، وقد خرج على المعتز، فلم يقدر المعتز على مقاومته.
وفي ابن الاثير 7 / 191: أنه كان يظهر طاعة لا حقيقة لها فالتمس المعتز
اقتتاله مع علي بن الحسين بن شبل ليسقط مؤونة الهالك عنه منهما وينفرد
بالآخر.
(3) في الطبري 11 / 160 ربيع الآخر (*).
(11/20)
وفي رجب منها
ظهر عيسى بن جعفر وعلي بن زيد الحسنيان بالكوفة وقتلا بها عبد الله بن
محمد بن داود بن عيسى واستفحل أمرهما بها.
موت الخليفة المعتز بن المتوكل ولثلاث بقين من رجب من هذه السنة خلع
الخليفة المعتز بالله، والليلتين مضتا من شعبان أظهر موته.
وكان سبب خلعه أن الجند اجتمعوا فطلبوا منه أرزاقهم فلم يكن عنده ما
يعطيهم، فسأل من
أمه أن تقرضه مالا يدفعهم عنه به فلم تعطه.
وأظهرت أنه لا شئ عندها، فاجتمع الاتراك على خلعه (1) فأرسلوا إليه
ليخرج إليهم فاعتذر بأنه قد شرب دواء وأن عنده ضعفا، ولكن ليدخل إلى
بعضكم.
فدخل إليه بعض الامراء فتناولوه بالدبابيس يضربونه وجروا برجله وأخرجوه
وعليه قميص مخرق ملطخ بالدم (2)، فأقاموه في وسط دار الخلافة في حر
شديد حتى جعل يراوح بين رجليه من شدة الحر، وجعل بعضهم بلطمه وهو يبكي
ويقول له الضارب اخلعها والناس مجتمعون ثم أدخلوه حجرة مضيقا عليها
فيها.
وما زالوا عليه بأنواع العذاب حتى خلع نفسه من الخلافة وولى بعده
المهتدي بالله كما سيأتي.
ثم سلموه إلى من يسومه سوء العذاب بأنواع المثلات، ومنع من الطعام
والشراب ثلاثة أيام حتى جعل يطلب شربة من ماء البئر فلم يسق، ثم
أدخلواه سربا فيه جص جير فدسوه فيه فأصبح ميتا، فاستلوه من الجص سليم
الجسد واشهدوا عليه جماعة من الاعيان أنه مات وليس به أثر، وكان ذلك في
اليوم الثاني من شعبان من هذه السنة، وكان يوم السبت، وصلى عليه
المهتدي بالله، ودفن مع أخيه المنتصر إلى جانب قصر الصوامع، عن أربع
وعشرين سنة.
وكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما وكان طويلا جسيما
وسيما أقنى الانف مدور الوجه حسن الضحك أبيض أسود الشعر مجعده، كثيف
اللحية حسن العينين ضيق الحاجبين أحمر الوجه وقد أثنى عليه الامام أحمد
في جودة ذهنه وحسن فهمه وأدبه حين دخل عليه في حياة أبيه المتوكل، كما
قدمنا في ترجمة أحمد.
وروى الخطيب عن علي بن حرب قال: دخلت على المعتز فما رأيت خليفة أحسن
وجها منه، فلما رأيته سجدت فقال: يا شيخ تسجد لغير الله ؟ فقلت: حدثنا
أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل، ثنا بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة،
عن أبيه، عن جده " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما
يفرح به أو بشر بما يسره سجد شكرا لله عز وجل ".
وقال الزبير بن بكار: سرت إلى المعتز وهو أمير فلما سمع بقدومي خرج
مستعجلا إلى فعثر فأنشأ يقول:
__________
(1) ذكر المسعودي في خلع المعتز أنه: لما رأى الاتراك إقدام المعتز على
قتل رؤسائهم وإعمال الحيلة في فنائهم، وأنه قد اصطنع المغاربة
والفراغنة دونهم صاروا إليه بأجمعهم وجعلوا يقرعونه بذنوبه ويوبخونه
على أفعاله وطالبوه بالاموال..ثم خلعوه 4 / 202.
(2) في مروج الذهب: وعليه قميص مدنس وعلى رأسه منديل (*).
(11/21)
يموت الفتى من
عثرة بلسانه * وليس يموت المرء من عثرة الرجل فعثرته من فيه ترمي برأسه
* وعثرته في الرجل تبرأ على مهل وذكر ابن عساكر أن المعتز لما حذق
القرآن في حياة أبيه المتوكل اجتمع أبوه والامراء لذلك وكذلك الكبراء
والرؤساء بسر من رأى، واختلفوا لذلك أياما عديدة، وجرت أحوال عظيمة.
ولما جلس وهو صبي على المنبر وسلم على أبيه بالخلافة وخطب الناس نثرت
الجواهر والذهب والدراهم على الخواص والعوام بدار الخلافة، وكان قيمة
ما نثر من الجواهر يساوي مائة ألف دينار، ومثلها ذهبا، وألف ألف درهم
غير ماكان من خلغ وأسمطة وأقمشة مما يفوت الحصر، وكان وقتا مشهودا لم
يكن سرورا بدار الخلافة أبهج منه ولا أحسن.
وخلع الخليفة على أم ولده المعتز قبيحة خلعا سنية، وأعطاها وأجزل لها
العطاء، وكذلك خلع على مؤدب ولده وهو محمد بن عمران، أعطاه من الجوهر
والذهب والفضة والقماش شيئا كثيرا جدا والله سبحانه وتعالى أعلم.
خلافة المهتدي بالله أبي محمد عبد الله
محمد بن الواثق بن المعتصم بن هارون، كانت بيعته يوم الاربعاء
لليلة بقيت من رجب من هذه السنة بعد خلع المعتز نفسه بين يديه وإشهاده
عليه بأنه عاجز عن القيام بها، وأنه قد رغب إلى من يقوم بأعبائها.
وهو محمد بن الواثق بالله، ثم مد يده فبايعه قبل الناس كلهم، ثم بايعه
الخاصة ثم كانت بيعة العامة على المنبر، وكتب على المعتز كتابا (1)
أشهد فيه بالخلع والعجز والمبايعة للمهتدي.
وفي آخر رجب وقعت في بغداد فتنة هائلة، وثبت فيها العامة على نائبها
سليمان بن عبد الله بن طاهر ودعوا إلى بيعة أبي أحمد بن المتوكل أخي
المعتز، وذلك لعدم علم أهل بغداد بما وقع بسامرا من بيعة المهتدي، وقتل
من أهل بغداد وغرق منهم خلق كثير، ثم لما بلغهم بيعة المهتدي سكنوا، -
وإنما بلغتهم في سابع شعبان - فاستقرت الامور واستقر المهتدي في
الخلافة.
وفي رمضان من هذه السنة ظهر عند قبيحة أم المعتز أموال عظيمة، وجواهر
نفيسة.
كان من جملة ذلك ما يقارب ألفي
ألف دينار، ومن الزمرد الذي لم ير مثله مقدار مكوك، ومن الحب الكبار
مكوك (2)، وكيلجة ياقوت أحمر مما لم ير مثله أيضا.
وقد كان الامراء طلبوا من ابنها المعتز خمسين ألف دينار تصرف في
أرزاقهم وضمنوا له أن يقتلوا صالح بن وصيف فلم يكن عنده من ذلك شئ،
فطلب من أمه قبيحة هذه قبحها الله فامتنعت أن تقرضه ذلك، فأظهرت الفقر
والشح، وأنه لا شئ عندها.
ثم لما قتل ابنها وكان ما كان، ظهر عندها من الاموال ما ذكرنا، وكان
عندها من الذهب والفضة والآنية شئ كثير، وقد كان لها من الغلات في كل
سنة ما يعدل عشرة آلاف ألف دينار، وقد كانت قبل ذلك مختفية عند صالح بن
وصيف عدو ولدها، ثم تزوجت به وكانت تدعو عليه تقول: اللهم اخز صالح بن
وصيف
__________
(1) نسخة الكتاب في الطبري 11 / 162.
(2) في الطبري: نصف مكوك (*).
(11/22)
كما هتك ستري
وقتل ولدي وبدد شملي وأخذ مالي وغربني عن بلدي وركب الفاحشة مني.
ثم استقرت الخلافة باسم المهتدي بالله.
وكانت بحمد الله خلافة صالحة.
قال يوما للامراء: إني ليست لي أم (1) لها من الغلات ما يقاوم عشرة
آلاف ألف دينار، ولست أريد إلا القوت فقط لا أريد فضلا على ذلك إلا
لاخوتي، فإنهم مستهم الحاجة.
وفي يوم الخمسين لثلاث بقين من رمضان أمر صالح بن وصيف بضرب أحمد بن
إسرائيل الذي كان وزيرا، وأبي نوح عيسى بن إبراهيم الذي كان نصرانيا
فأظهر الاسلام، وكان كاتب قبيحة، فضرب كل واحد منهما خمسمائة سوط بعد
استخلاص أموالهما ثم طيف بهما على بغلين منكسينن فماتا وهما كذلك، ولم
يكن ذلك عن رضى المهتدي ولكنه ضعيف لا يقدر على الانكار على صالح بن
وصيف في بادئ الامر (2).
وفي رمضان في هذه السنة وقعت فتنة بغداد أيضا بين محمد بن أوس ومن تبعه
من الشاكرية والجند وغيرهم، وبين العامة والرعاع، فاجتمع من العامة نحو
من مائة ألف وكان بين الناس قتال بالنبال والرماح والسوط، فقتل خلق
كثير ثم انهزم محمد بن أوس وأصحابه فنهبت العامة ما وجدوا من أمواله،
وهو ما يعادل ألفي ألف أو نحو ذلك.
ثم اتفق الحال على إخراج محمد بن
أوس من بغداد إلى أين أراد.
فخرج منها خائفا طريدا، وذلك لانه لم يكن عند الناس مرضى السيرة بل كان
جبارا عنيدا، وشيطانا مريدا وفاسقا شديدا، وأمر الخليفة بأن ينفى
القيان والمغنون من سامرا، وأمر بقتل السباع والنمور التي في دار
السلطان، وقتل الكلاب المعدة للصيد أيضا.
وأمر بإبطال الملاهي ورد المظالم وأن يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر،
وجلس للعامة (3).
وكانت ولايته في الدنيا كلها من أرض الشام وغيرها مفترقة.
ثم استدعى الخليفة موسى بن بغا الكبير إلى حضرته ليتقوى به على من عنده
من الاتراك ولتجتمع كلمة الخلافة، فاعتذر إليه من استدعائه بما هو فيه
من الجهاد في تلك البلاد.
خارجي اخر ادعى أنه من أهل البيت بالبصرة في النصف من شوال ظهر رجل
بظاهر البصرة زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يكن صادقا وإنما كان عسيفا - يعني
أجيرا - من عبد القيس، واسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم، وأمه قرة بنت
علي بن رحيب بن محمد بن حكيم من
__________
(1) كانت أمه قد ماتت قبل استخلافه، وقد كانت تحت المستعين ولما قتل
جعلها المعتز في قصر الرصافة، فماتت.
(2) في مروج الذهب 4 / 212: قتلهما المهدي لامور كانت منهما استحقا عند
المهدي فيما يجب في حكم الشريعة أن يفعل بهما ذلك.
(3) قال المسعودي في مروجه: فثقلت وطأته على العامة والخاصة بحمله
إياهم على الطريق الواضحة فاستطالوا خلافته وسئموا أيامه وعملوا الحيلة
عليه حتى قتلوه (*).
(11/23)
بني أسد بن
خزيمة، وأصله من قرية من قرى الري (1) قاله ابن جرير.
قال: وقد خرج أيضا في سنة تسع وأربعين ومائتين بالنجدين فادعى أنه علي
بن محمد بن الفضل بن الحسن (2) بن عبيد الله بن عباس بن علي بن أبي
طالب، فدعا الناس بهجر إلى طاعته فاتبعه جماعة من أهل هجر، ووقع بسببه
قتال كثير وفتن كبار، وحروب كثيرة، ولما خرج خرجته هذه الثانية بظاهر
البصرة التف عليه خلق من
الزنج الذين يكسحون السباخ، فعبر بهم دجلة فنزل الديناري، وكان يزعم
لبعض من معه أنه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتول بناحية الكوفة، وكان
يدعي أنه يحفظ سورا من القرآن في ساعة واحدة جرى بها لسانه لا يحفظها
غيره في مدة دهر طويل، وهن سبحان والكهف وص وعم.
وزعم أنه فكر يوما وهو في البادية إلى أي بلد يسير فخوطب من سحابة أن
يقصد البصرة فقصدها، فلما اقترب منها وجد أهلها متفرقين على شعبتين،
سعدية وبلالية، فطمع أن ينضم إلى أحداهما فيستعين بها على الاخرى فلم
يقدر على ذلك، فارتحل إلى بغداد فأقام بها سنة وانتسب بها إلى محمد بن
أحمد بن عيسى بن زيد، وكان يزعم بها أنه يعلم ما في ضمائر أصحابه، وأن
الله يعلمه بذلك، فتبعه على ذلك جهلة من الطغام، وطائفة من الرعاع
العوام.
ثم عاد إلى أرض البصرة في رمضان فاجتمع معه بشر كثير ولكن لم يكن معهم
عدد يقاتلون بها فأتاهم جيش من ناحية البصرة فاقتتلوا جميعا، ولم يكن
في جيش هذا الخارجي سوى ثلاثة أسياف، وأولئك الجيش معهم عدد وعدد
ولبوس، ومع هذا هزم أصحاب هذا الخارجي ذلك الجيش، وكانوا أربعة آلاف
مقاتل، ثم مضى نحو البصرة بمن معه فأهدى له رجل من أهل جبى فرسا فلم
يجد لها سرجا ولا لجاما، وإنما ألقى عليها حبلا وركبها وسنف حنكها
بليف، ثم صادر رجلا وتهدده بالقتل فأخذ منه مائة وخمسين دينارا وألف
درهم، وكان هذا أول مال نهبه من هذه البلاد، وأخذ من آخر ثلاثة براذين،
ومن موضع آخر شيئا من الاسلحة والامتعة، ثم سار في جيش قليل السلاح
والخيول، ثم جرت بينه وبين نائب البصرة وقعات متعددة يهزمهم فيها وكل
ما لامره يقوى وتزداد أصحابه ويعظم أمره ويكثر جيشه، وهو مع ذلك لا
يتعرض لاموال الناس ولا يؤذي أحدا، وإنما يريد أخذ أموال السلطان.
وقد انهزم أصحابه في بعض حروبه هزيمة عظيمة ثم تراجعوا إليه واجتمعوا
حوله، ثم كروا على أهل البصرة فهزموهم وقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين،
وكان لا يؤتى بأسير إلا قتله ثم قوي أمره وخافه أهل البصرة، وبعث
الخليفة إليها مددا ليقاتلوا هذا الخارجي وهو صاحب الزنج قبحه الله، ثم
أشار عليه بعض أصحابه أن يهجم بمن معه على البصرة فيدخلونها عنوة فهجن
آراءهم وقال: بل نكون منا قريبا حتى يكونوا هم الذين يطلبوننا إليها
ويخطبوننا عليها وسيأتي ما كان من أمره وأمر أهل البصرة في السنة
المستقبلة أن شاء الله.
وفيها حج بالناس علي بن
الحسين (3) بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن عباس.
__________
(1) في الطبري ومروج الذهب والطبري: وهي: ورزنين، وقال ياقوت: هي من
أعيان قرى الري كالمدينة.
(2) من الطبري 11 / 174 وفي الاصل: الحسين بن عبد الله.
(3) في الطبري 11 / 191 ومروج الذهب 4 / 458: الحسن.
(*)
(11/24)
وفيها توفي:
الجاحظ المتكلم المعتزلي وإليه تنسب الفرقة الجاحظية لجحوظ عينيه،
ويقال له الحدقي وكان شنيع المنظر سيئ المخبر ردئ الاعتقاد، ينسب إلى
البدع والضلالات، وربما جاز به بعضهم إلى الانحلال حتى قيل في المثل يا
ويح من كفره الجاحظ.
وكان بارعا فاضلا قد أتقن علوم كثيرة وصنف كتبا جمة تدل على قوة ذهنه
وجودة تصرفه.
ومن أجل كتبه كتاب الحيوان، وكتاب البيان والتبيين.
قال ابن خلكان: وهما أحسن مصنفاته وقد أطال ترجمته بحكايات ذكرها عنه.
وذكر أنه أصابه الفالج في آخر عمره وحكى أنه قال: أنا من جانبي الايسر
مفلوج لو قرض بالمقاريض ما علمت، وجانبي الايمن منقرس لو مرت به ذبابة
لآلمتني، وبي حصاة، وأشد ما علي ست وتسعون (1) سنة.
وكان ينشد: أترجو أن تكون وأنت شيخ * كما قد كنت أيام الشباب لقد كذبتك
نفسك ليس ثوب * دريس كالجديد من الثياب
وفيها توفي عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد الدارمي (2)، وعبد
الله بن هاشم الطوسي (3)، والخليفة أبو عبد الله المعتز بن المتوكل،
ومحمد بن عبد الرحيم الملقب صاعقة (4).
محمد بن كرام الذي تنسب إليه الفرقة الكرامية (5).
وقد نسب إليه جواز وضع الاحاديث على الرسول وأصحابه وغيرهم وهو محمد بن
كرام - بفتح الكاف وتشديد الراء، على وزن جمال - بن عراف بن حزامة بن
البراء، أبو عبد الله السجستاني العابد، يقال إنه من بني تراب، ومنهم
من يقول محمد بن
__________
(1) كذا بالاصل وابن خلكان، وفي مروج الذهب 4 / 223: نيف وسبعون سنة،
يعني عمره.
(2) السمرقندي الحافظ الثقة صاحب المسند المشهور.
قال أبو حاتم: هو إمام أهل زمانه.
سمع النضر بن شميل ويزيد بن هارون وطبقتهما.
قال ابن الاثير: توفي في ذي الحجة وعمره (75) سنة.
(3) أبو عبد الرحمن، سكن نيسابور، صاحب حديث، وثقه ابن حجر في التقريب
وقال: مات سنة بضع وخمسين ومائتين.
(4) أبو يحيى البغدادي البزاز كان احد الثقات الاثبات المجودين سمع عبد
الوهاب بن عطاء الخفاف وطبقته مات وله (70) سنة.
(5) قال في الفرق بين الفرق: قالت بتجسيم المعبود، وزعمت أنه جسم له حد
ونهاية من تحته والجهة التي منها يلاقي عرشه.
ووصف ابن كرام معبوده: أنه جوهر، قال: إن الله تعالى أحدي الذات أحدي
الجوهر.
ويقول: إن الله لم يزل خالقا رازقا على الاطلاق، وإن الله تعالى لم يزل
معبودا ولم يكن في الازل معبود العابدين.
ص (161 وما بعدها) (*).
(11/25)
كرام بكسر
الكاف وتشديد الراء وهو الذي سكن بيت المقدس إلى أن مات، وجعل الآخر
شيخا من أهل نيسابور والصحيح الذي يظهر من كلام أبي عبد الله الحاكم
وابن عساكر أنهما واحد، وقد روى ابن كرام عن علي بن حجرد وعلي بن إسحاق
الحنظلي السمرقندي، سمع منه التفسير عن محمد بن مروان عن الكلبي،
وإبراهيم بن يوسف الماكناني، وملك بن سليمان الهروي، وأحمد بن حرب،
وعتيق بن محمد الجسري، وأحمد بن الازهر النيسابوري، وأحمد بن عبد الله
الجوبياري، ومحمد بن تميم القارياني، وكانا كذابين وضاعين - وغيرهم.
وعنه محمد بن إسماعيل بن إسحاق وأبو إسحاق بن سفيان وعبد الله بن محمد
القيراطي، وإبراهيم بن الحجاج النيسابوري.
وذكر الحاكم أنه حبس في حبس طاهر بن عبد الله فلما أطلقه ذهب إلى ثغور
الشام ثم عاد إلى نيسابور فحبسه محمد بن طاهر بن عبد الله وأطال حبسه
وكان يتأهب لصلاة الجمعة ويأتي إلى السجان فيقول: دعني أخرج إلى
الجمعة، فيمنعه السجان فيقول: اللهم إنك تعلم أن المنع من غيري.
وقال غيره: أقام ببيت
المقدس أربع سنين، وكان يجلس للوعظ عند العمود الذي عند مشهد عيسى عليه
السلام واجتمع عليه خلق كثير ثم تبين لهم أنه يقول: إن الايمان قول بلا
عمل فتركه أهلها ونفاه متوليها إلى غورزغر فمات بها، ونقل إلى بيت
المقدس.
مات في صفر من هذه السنة.
وقال الحاكم: توفي ببيت المقدس ليلا ودفن بباب أريحا عند قبور الانبياء
عليهم السلام، وله بيت المقدس من الاصحاب نحو من عشرين ألفا والله
أعلم.
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين في صبيحة
يوم الاثنين الثاني عشر من المحرم قدم موسى بن بغا الكبير إلى سامرا
فدخلها في جيش هائل قد عباه ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين، فأتوا
دار الخلافة التي فيها المهتدي جالسا لكشف المظالم فأستأذنوا عليه
فأبطأ الاذن ساعة، وتأخر عنهم فظنوا في أنفسهم أن الخليفة إنما طلبهم
خديعة منه ليسلط عليهم صالح بن وصيف، فدخلوا عليه هجما فجعلوا
يراطنونهم بالتركي ثم عزموا فأقاموه من مجلسه وانتبهوا ما كان فيه، ثم
أخذوه مهانا إلى دار أخرى فجعل يقول لموسى بن بغا: ما لك ويحك ؟ إني
إنما أرسلت إليك لا تقوى بك على صالح بن وصيف.
فقال له موسى: لا بأس عليك احلف لي أنك لا تريد بي خلاف ما أظهرت.
فحلف له المهتدي، فطابت الانفس وبايعوه بيعة ثانية مشافهة وأخذوا عليه
العهود والمواثيق أن لا يمالئ صالحا عليهم، واصطلحوا على ذلك.
ثم بعثوا إلى صالح بن وصيف ليحضرهم للمناظرة في أمر المعتز ومن قتله
صالح بن وصيف من الكتاب وغيرهم، فوعدهم أن يأتيهم، ثم اجتمع بجماعة من
الامراء من أصحابه وأخذ يتأهب لجمع الجيوش عليهم، ثم اختفى من ليلته لا
يدري أحد أين ذهب في تلك الساعة، فبعثوا المنادية تنادي عليه في أرجاء
البلد وتهددوا من أخفاه فلم يزل مختفيا إلى آخر صفر على ما سنذكر، ورد
سليمان بن عبد الله بن طاهر إلى نيابة بغداد، وسلم الوزير عبد الله بن
محمد بن يزداد إلى الحسن بن مخلد الذي كان أراد صالح بن وصيف قتله مع
ذينك الرجلين، فبقي في السجن حتى رجع إلى الوزارة
(11/26)
ولما أبطأ خبر
صالح بن وصيف على موسى بن بغا وأصحابه قال بعظهم لبعض: اخلعوا هذا
الرجل - يعني الخليفة - فقال بعضهم: أتقتلون رجلا صواما قواما لا يشرب
الخمر ولا يأتي الفواحش ؟ والله إن هذا ليس كغيره من الخلفاء ولا
تطاوعكم الناس عليه.
وبلغ ذلك الخليفة فخرج إلى الناس وهو متقلد سيفا فجلس على السرير
واستدعى بموسى بن بغا وأصحابه فقال: قد بلغني ما تمالاتم عليه من أمري،
وإني والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط وقد أوصيت أخي بولدي، وهذا
سيفي، والله لاضربن به ما استمسك قائمه بيدي، والله لئن سقط من شعري
شعرة ليهلكن بدلها منكم، أو ليذهبن بها أكثركم، أما دين ؟ أما حياء ؟
أما تستحيون ؟ كم يكون هذا الاقدام على الخلفاء والجرأة على الله عز
وجل وأنتم لا تبصرون ؟ سواء عليكم من قصد الابقاء عليكم والسيرة
الصالحة فيكم، ومن كان يدعو بأرطال الشراب المسكر فيشربها بين أظهركم
وأنتم لا تنكرون ذلك، ثم يستأثر بالاموال عنكم وعن الضعفاء، هذا منزلي
فاذهبوا فانظروا فيه وفي منازل إخوتي ومن يتصل بي هل ترون فيها من آلات
الخلافة شيئا، أو من فرشها أو غير ذلك ؟ وإنما في بيوتنا ما في بيوت
آحاد الناس، ويقولون إني أعلم علم صالح بن وصيف، وهل هو إلا واحد منكم
؟ فاذهبوا فاعلموا علمه فابلغوا شفاء نفوسكم فيه وأما أنا فلست أعلم
علمه.
قالوا: فاحلف لنا على ذلك، قال أما اليمين فإني أبذلها لكم، ولكن
أدخرها لكم حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب
في غد إذا صليت صلاة الجمعة.
قال: فكأنهم لانوا لذلك قليلا.
فلما كان يوم الاحد لثمان بقين من صفر ظفروا بصالح بن وصيف فقتل وجئ
برأسه إلى المهتي بالله وقد انفتل من صلاة المغرب، فلم يزد على أن قال:
واروه.
ثم أخذ في تسبيحه وذكره.
ولما أصبح الصباح من يوم الاثنين رفع الرأس على رمح ونودي عليه في
أرجاء البلد.
هذا جزاء من قتل مولاه.
وما زال الامر مضطربا متفاقما وعظم الخطب حتى أفضى إلى خلع الخليفة
المهتدي وقتله رحمه الله.
خلع المهتدي بالله وولاية المعتمد أحمد بن
المتوكل
لما بلغ موسى بن بغا أن مساور الشاري قد عاث بتلك الناحية فساد ركب
إليه في جيش كثيف ومعه مفلح وبايكباك (1) التركي فاقتتلواهم ومساور
الخارجي ولم يظفروا به بل هرب منهم وأعجزهم، وكان قد فعل قبل مجيئهم
الافاعيل المنكرة فرجعوا ولم يقدروا عليه.
ثم إن الخليفة أراد أن يخالف بين
كلمة الاتراك فكتب إلى بايكباك (2) أن يتسلم الجيش من موسى بن بغا
ويكون هو الامير على الناس وأن يقبل بهم إلى سامرا، فلما وصل إليه
الكتاب أقرأه موسى بن بغا فاشتد عضبه على المهتدي واتفقا
__________
(1) في ابن الاثير 7 / 228 ومروج الذهب 4 / 210: بابكيال.
(2) في ابن الاثير ومروج الذهب: كتب إليه أن يتسلم العسكر ويقوم بحرب
مساور ويقتل موسى بن بغا ومفلح.
(انظر الطبري 11 / 203).
زاد في مروج الذهب: أنه كتب أيضا كتاب إلى موسى بن بغا يطلب فيه منه
قتل بابكيال (*).
(11/27)
عليه وقصدا
إليه إلى سامرا، وتركا ما كانا فيه.
فلما بلغ المهتدي ذلك استخدم من فوره جندا من المغاربة والفراغنة
والاشروسية والارز كشبية والاتراك أيضا، وركب في جيش كثيف فلما سمعوا
به رجع موسى بن بغا إلى طريق خراسان وأظهر بايكباك السمع والطاعة (1)،
فدخل في ثاني عشر رجب إلى الخليفة سامعا مطيعا، فلما أوقف بين يديه
وحوله الامراء والسادة من بني هاشم شاورهم في قتله فقال له صالح بن علي
بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور: يا أمير المؤمنين لم يبلغ أحد من
الخلفاء في الشجاعة ما بلغت، وقد كان أبو مسلم الخراساني شرا من هذا
وأكثر جندا، ولما قتله المنصور سكنت الفنتة وخمد صوت أصحابه.
فأمر عند ذلك بضرب عنق بايكباك ثم ألقى رأسه إلى الاتراك، فلما رأوا
ذلك أعظموه وأصبحوا من الغد مجتمعين على أخي بايكباك ظغوتيا فخرج إليهم
الخليفة فيمن معه فلما التقوا خامرت الاتراك الذين مع الخليفة إلى
أصحابهم وصاروا إلبا واحدا على الخليفة، فحمل الخليفة فقتل منهم نحو من
أربعة آلاف ثم حملوا عليه فهزموه ومن معه فانهزم الخليفة وبيده السيف
صلتا وهو ينادي: يا أيها الناس انصروا خليفتكم.
فدخل دار أحمد بن جميل (2) صاحب المعونة، فوضع فيها سلاحه ولبس البياض
وأراد أن يذهب فيختفي، فعاجله أحمد بن خاقان منها فأخذه قبل أن يذهب،
ورماه بسهم وطعن في خاصرته به وحمل على دابة وخلفه سائس وعليه قميص
وسراويل حتى أدخلوه دار أحمد بن خاقان، فجعل من هناك يصفعونه ويبزقون
في وجهه، وأخذ خطه بستمائة ألف دينار وسلموه إلى رجل فلم يزل يجأ
خصيتيه ويطأهما حتى مات رحمه الله.
وذلك يوم الخميس لثنتي عشرة
ليلة بقيت من رجب (3).
وكانت خلافته أقل من سنة بخمسة أيام (4)، وكان مولده في سنة تسع عشرة،
وقيل خمس عشرة ومائتين، وكان أسمرا رقيقا أحنى حسن اللحية يكنى أبا عبد
الله.
وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد ودفن بمقبرة المنتصر بن المتوكل.
قال الخطيب: وكان من أحسن الخلفاء مذهبا وأجودهم طريقة وأكثرهم ورعا
وعبادة وزهادة.
قال: وروى حديثا واحدا قال: حدثني علي بن هشام بن طراح، عن محمد بن
الحسن الفقيه، عن ابن أبي ليلى - وهو داود بن علي - عن أبيه عن ابن
عباس قال: قال العباس: يا رسول الله ما لنا في هذا الامر ؟ قال: " لي
النبوة ولكم الخلافة، بكم يفتح هذا الامر وبكم يختم " وقال للعباس: "
من أحبك نالته شفاعتي، ومن أبغضك لا نالته شفاعتي ".
وروى الخطيب أن رجلا استعان المهتدي على خصمه فحكم بينهما بالعدل فأنشأ
الرجل يقول:
__________
(1) كذا بالاصل والطبري وابن الاثير، وفي مروج الذهب: جرت بين المهتدي
وبابكيال حرب عظيمة واستظهر فيها المهتدي عليه.
(2) في الطبري: دخل دار ابي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وفيها أحمد
بن جميل.
(وهو صاحب الشرطة كما في ابن الاثير).
(3) في ابن الاثير: مات يوم الاربعاء، وفي مروج الذهب: يوم الثلاثاء
لاربع عشرة بقيت من رجب.
(4) في مروج الذهب: أحد عشر شهرا، وفي ابن الاثير: أحد عشر شهر وخمس
عشرة ليلة (*).
(11/28)
حكمتموه فقضى
بينكم * أبلج مثل القمر الزاهر لا يقبل الرشوة في حكمه * ولا يبالي غبن
الخاسر (1) فقال له المهتدي: أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك،
ولست أغتر بما قلت.
وأما أنا فإني ما جلست مجلسي هذا حتى قرأت (ونضع الموازين القسط ليوم
القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى
بنا حاسبين) [ الانبياء: 47 ] قال: فبكى الناس حوله فما رئي أكثر باكيا
من ذلك اليوم.
وقال بعضهم: سرد المهتدي الصوم من حين تولى إلى حين قتل رحمه الله.
وكان يحب الاقتداء بما سلكه عمر بن عبد العزيز الاموي في خلافته من
الورع والتقشف وكثرة العبادة وشدة الاحتياط، ولو عاش ووجد ناصرا لسار
سيرته ما أمكنه، وكان من عزمه أن يبيد الاتراك الذين أهانوا الخلفاء
وأذلوهم، وانتهكوا منصب الخلافة.
وقال أحمد بن سعيد الاموي: كنا جلوسا بمكة وعندي جماعة ونحن نبحث في
النحو وأشعار العرب، إذ وقف علينا رجل نظنه مجنونا فأنشأ يقول: أما
تستحيون الله ما معدن النحو * شغلتم بذا والناس في أعظم الشغل إمامكم
أضحى قتيلا مجندلا * وقد أصبح الاسلام مفترق الشمل وأنتم على الاشعار
والنحو عكفا * تصيحون بالاصوات في أحسن السبل قال فنظر وأرخنا ذلك
اليوم فإذا المهتدي بالله قد قتل في ذلك اليوم، وهو يوم الاثنين لاربع
عشرة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين.
خلافة المعتمد على الله
وهو أحمد بن المتوكل على الله ويعرب بابن فتيان (2)، بويع بالخلافة يوم
الثلاثاء لثلاث (3) عشرة ليلة خلت من رجب في هذه السنة في دار الامير
يارجوخ وذلك قبل خلع المهتدي بأيام (4)، ثم كانت بيعة العامة يوم
الاثنين لثمان مضت من رجب، قيل ولعشرين بقين من رجب دخل موسى بن بغا
ومفلح إلى سر من رأى فنزل موسى في داره وسكن وخمدت الفتنة هنالك، وأما
صاحب الزنج المدعي أنه علوي فهو محاصر للبصرة والجيوش الخليفية في وجهه
دونها، وهو في كل يوم يقهرهم ويغنم أموالهم وما يفد إليهم في المراكب
من الاطعمة وغيرها، ثم استحوذ بعد ذلك على الابلة وعبادان وغيرهما من
البلاد وخاف منه أهل البصرة خوفا شديدا، وكلما لامره في قوة وجيوشه في
زيادة، ولم يزل ذلك دأبه إلى انسلاخ هذه السنة.
__________
(1) البيتان للاعشى، في ديوانه.
(2) في ابن الاثير: قتيان، وهي أمه أم ولد كوفية.
(3) في الطبري ومروج الذهب: لاربع عشرة.
(4) في ابن الاثير: يومين (*).
(11/29)
وفيها خرج رجل
آخر في الكوفة يقال له علي بن زيد الطالبي، وجاء جيش من جهة الخليفة
فكسره الطالبي واستفحل أمره بالكوفة وقويت شوكته، وتفاقم أمره.
وفيها وثب محمد بن واصل التميمي على نائب الاهواز الحارث بن سيما
الشرابي فقتله واستحوذ على بلاد الاهواز (1).
وفي رمضان منها تغلب الحسن بن زيد الطالبي على بلاد الري فتوجه إليه
موسى بن بغا في شوال، وخرج الخليفة لتوديعه.
وفيها كانت وقعة عظيمة على باب دمشق بين أما جور نائب دمشق - ولم يكن
معه إلا قريب من أربعمائة فارس - وبين ابن (2) عيسى بن الشيخ، وهو في
قريب من عشرين ألفا، فهزمه أما جور وجاءت ولاية من الخليفة لابن الشيخ
على بلاد أرمينية على أن يترك أهل الشام، فقبل ذلك وانصرف عنهم.
وفيها حج بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور، وكان في جملة من حج
أبو أحمد بن المتوكل.
فتعجل وعجل السير إلى سامرا فدخلها ليلة الاربعاء لثلاث بقين من ذي
الحجة من هذه السنة.
وفيها توفي المهتدي بالله الخليفة
كما تقدم رحمه الله تعالى.
والزبير بن بكار ابن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير
بن العوام القرشي الزبيري قاضي مكة.
قدم بغداد وحدث بها، وله كتاب أنساب قريش، وكان من أهل العلم بذلك،
وكتابه في ذلك حافل جدا.
وقد روى عنه ابن ماجه وغيره، ووثقه الدار قطني والخطيب وأثنى عليه وعلى
كتابه وتوفي بمكة عن أربع وثمانين سنة في ذي القعدة من هذه السنة.
الامام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب
الصحيح
وقد ذكرنا له ترجمة حافلة في أول شرحنا لصحيحه، ولنذكر هاهنا نبذة
يسيرة من ذلك فنقول: هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن
يزدزبه (3) الجعفي مولاهم أبو عبد الله البخاري الحافظ، إمام أهل
الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أضرابه
وأقرانه، وكتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام، وأجمع العلماء على قبوله
وصحة ما فيه، وكذلك سائر أهل الاسلام، ولد البخاري رحمه الله في ليلة
الجمعة الثالث عشر من شوال سنة أربع وتسعين ومائة،
ومات أبوه وهو صغير فنشأ في حجر أمه فألهمه الله حفظ الحديث وهو في
المكتب، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة حتى قيل إنه كان يحفظ
وهو صبي سبعين ألف حديث سردا، وحج وعمره ثماني عشرة سنة.
فأقام بمكة يطلب بها الحديث، ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في
__________
(1) في الطبري 11 / 214 وابن الاثير 7 / 240: على بلاد فارس.
(2) وهو منصور بن عيسى بن الشيخ - ذكره ابن الاثير.
(3) قال ابن ماكولا في الاكمال: هو يزدزبه، وفي وفيات الاعيان: يزذبه.
وقال عبد الغني صاحب الكمال.
بردزبة مجوسي مات عليها.
أما المغيرة فقد أسلم على يد والي بخارى (*).
(11/30)
البلدان التي
أمكنته الرحلة إليها، وكتب عن أكثر من ألف شيخ (1).
وروى عنه خلائق وأمم.
وقد روى الخطيب البغدادي عن الفربري أنه قال: سمع الصحيح من البخاري
معي نحو من سبعين ألفا لم يبق منهم أحد غيري.
وقد روى البخاري من طريق الفربري كما هي رواية الناس اليوم من طريقه،
وحماد بن شاكر وإبراهيم بن معقل وطاهر بن مخلد.
وآخر من حدث عنه أبو طلحة منصور بن محمد بن علي البردي النسفي، وقد
توفي النسفي هذا في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
ووثقه الامير أبو نصر بن ماكولا.
وممن روى عن البخاري مسلم في غير الصحيح، وكان مسلم يتلمذ له ويعظمه،
وروى عنه الترمذي في جامعه، والنسائي في سننه في قول بعضهم.
وقد دخل بغداد ثمان مرات، وفي كل منها يجتمع بالامام أحمد فيحثه أحمد
على المقام بغداد ويلومه على الاقامة بخراسان.
وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج ويكتب
الفائدة تمر بخاطره ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان
يتعدد منه ذلك قريبا من عشرين مرة.
وقد كان أصيب بصره وهو صغير فرأت أمه إبراهيم الخليل عليه الصلاة
والسلام فقال: يا هذه قد رد الله على ولدك بصره بكثرة دعائك، أو قال
بكائك، فأصبح وهو بصير.
وقال البخاري: فكرت البارحة فإذا أنا قد كتبت لي مصنفات نحوا من مائتي
ألف حديث مسندة.
وكان يحفظها كلها.
ودخل مرة إلى سمرقند فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها، فركبوا
أسانيد وأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق،
وخلطوا الرجال في الاسانيد وجعلو متون الاحاديث على غير أسانيدها، ثم
قرأوها على البخاري فرد كل حديث إلى إسناده، وقوم تلك الاحاديث
والاسانيد كلها، وما تعنتوا عليه فيها، ولم يقدروا أن يعلفوا عليه سقطة
في إسناد ولا متن.
وكذلك صنع في بغداد وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة فيحفظه
من نظرة واحدة.
والاخبار عنه في ذلك كثيرة.
وقد اثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه.
فقال الامام أحمد: ما أخرجت خراسان مثله.
وقال علي بن المديني: لم ير البخاري مثل نفسه.
وقال إسحاق بن راهويه: لو كان في زمن الحسن لاحتاج الناس إليه في
الحديث ومعرفته وفقهه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير: ما رأينا مثله.
وقال علي بن حجر: لا أعلم مثله.
وقال محمود بن النظر بن سهل الشافعي.
دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها كلما جرى ذكر محمد
بن إسماعيل البخاري فضلوه على أنفسهم.
وقال أبو العباس الدعولي: كتب أهل بغداد إلى البخاري: المسلمون بخير ما
حييت لهم * وليس بعدك خير حين تفتقد وقال الفلاس: كل حديث لا يعرفه
البخاري فليس بحديث.
وقال أبو نعيم أحمد بن حماد: هو فقيه هذه الامة.
وكذا قال يعقوب بن إبراهيم الدورقي.
ومنهم من فضله في الفقه والحديث على الامام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن
راهويه.
وقال قتيبة بن سعيد: رحل إلى من شرق الارض وغربها
__________
(1) قال في صفة الصفوة عن البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم
من اهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر
(*).
(11/31)
خلق فما رحل
إلى مثل محمد بن إسماعيل البخاري.
وقال مرجى بن رجاء: فضل البخاري على العلماء كفضل الرجال على النساء -
يعني في زمانه - وأما قبل زمانه مثل قرب الصحابة والتابعين فلا.
وقال هو آية من آيات الله تمشي على الارض.
وقال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: محمد بن إسماعيل
البخاري أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا وأكثرنا طلبا.
وقال إسحاق بن راهويه: هو أبصر مني.
وقال أبو حاتم الرازي: محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق.
وقال عبد الله
العجلي: رأيت أبا حاتم وأبا زرعة يجلسان إليه يسمعان ما يقول، ولم يكن
مسلم يبلغه، وكان أعلم من محمد بن يحيى الذهلي بكذا وكذا، وكان حييا
فاضلا يحسن كل شئ.
وقال غيره: رأيت محمد بن يحيى الذهلي يسأل البخاري عن الاسامي والكنى
والعلل، وهو يمر فيه كالسهم، كأنه يقرأ قل هو الله أحد.
وقال أحمد بن حمدون القصار: رأيت مسلم بن الحجاج جاء إلى البخاري فقبل
بين عينيه وقال: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الاستاذين، وسيد المحدثين،
وطبيب الحديث في علله، ثم سأله عن حديث كفارة المجلس فذكر له علته فلما
فرغ قال مسلم لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك.
وقال الترمذي: لم أر بالعراق ولا في خراسان في معنى العلل والتاريخ
ومعرفة الاسانيد أعلم من البخاري، وكنا يوما عند عبد الله بن منير فقال
للبخاري: جعلك الله زين هذه الامة.
قال الترمذي: فاستجيب له فيه.
وقال ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري، ولو استقصينا
ثناء العلماء عليه في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وعبادته
لطال علينا، ونحن على عجل من أجل الحوادث والله سبحانه المستعان.
وقد كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع
والزهد في الدنيا دار الفناء، والرغبة في الاخرة دار البقاء.
وقال البخاري: إني لارجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني أني اغتبته.
فذكر له التاريخ وما ذكر فيه من الجرح والتعديل وغير ذلك.
فقال: ليس هذا من هذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إيذنوا له
فلبئس أخو العشيرة " (1) ونحن إنما روينا ذلك رواية ولم نقله من عند
أنفسنا.
وقد كان رحمه الله يصلي في كل ليلة ثلاث عشرة ركعة، وكان يختم القرآن
في كل ليلة من رمضان ختمة، وكانت له جدة ومال جيد ينفق منه سرا وجهرا،
وكان يكثر لصدقة بالليل والنهار، وكان مستجاب الدعوة مسدد الرمية شريف
النفس، بعث إليه بعض السلاطين ليأتيه حيت يسمع أولاده عليه فأرسل إليه:
في بيته العلم والحلم يؤتى - يعني إن كنتم تريدون ذلك فهلموا إلى -
وأبى أن يذهب إليهم.
والسلطان خالد بن أحمد الذهلي نائب الظاهرية ببخارى، فبقي في نفس
الامير من ذلك، فاتفق أن جاء كتاب من محمد بن يحيى الذهلي بأن البخاري
يقول لفظه بالقرآن مخلوق - وكان قد وقع بين محمد بن يحيى الذهلي وبين
البخاري في ذلك كلام وصنف البخاري في ذلك كتاب أفعال العباد - فأراد أن
يصرف
الناس عن السماع من البخاري، وقد كان الناس يعظمنونه جدا، وحين رجع
إليهم نثروا على رأسه
__________
(1) أخرجه البخاري في الادب باب (38) و (48).
ومسلم في كتاب البر والصلة (73) وأبو داود في الادب باب (5) ومالك في
الموطأ في حسن الخلق باب (4) وأحمد في المسند 6 / 28، 80، 158، 273
(*).
(11/32)
الذهب والفضة
يوم دخل بخارى عائدا إلى أهله، وكان له مجلس يجلس فيه للاملاء بجامعها
فلم يقبلوا من الامير، فأمر عند ذلك بنفيه من تلك البلاد فخرج منها
ودعا خالد بن أحمد فلم يمض شهر حتى أمر ابن طاهر بأن ينادى على خالد بن
أحمد على أتان، وزال ملكه وسجن في بغداد حتى مات، ولم يبق أحد يساعده
على ذلك إلا ابتلى ببلاء شديد، فنزح البخاري من بلده إلى بلدة يقال لها
خرتنك على فرسخين من سمرقند، فنزل عند أقارب له بها (1) وجعل يدعو الله
أن يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين، لما جاء في الحديث: " وإذا أردت
بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين " (2).
ثم اتفق مرضه على إثر ذلك.
فكانت وفاته ليلة عيد الفطر - وكان ليلة السبت - عند صلاة العشاء، وصلى
عليه يوم العيد بعد الظهر من هذه السنة - أعني سنة ست وخمسين ومائتين -
وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميس ولا عمامة، وفق ما أوصى به،
وحين ما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك ثم دام ذلك
أياما ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره.
وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة.
وقد ترك رحمه الله بعده علما نافعا لجيمع المسلمين، فعلمه لم ينقطع بل
هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة، وقد قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " إذا مات ابن آدم انقطع علمه إلا من ثلاث، علم ينتفع به "
(3) الحديث رواه مسلم وشرطه في صحيحه هذا أعز من شرط كل كتاب صنف في
الصحيح، لا يوازيه فيه غيره، لا صحيح مسلم ولا غيره.
وما أحسن ما قاله بعض الفصحاء من الشعراء: صحيح البخاري لو أنصفوه *
لما خط إلا بماء الذهب هو الفرق بين الهدى والعمى * هو السد بين الفتى
والعطب أسانيد مثل نجوم السماء * أمام متون لها كالشهب
بها قام ميزان دين الرسول * ودان به العجم بعد العرب حجاب من النار
لاشك فيه * يميز بين الرضى والغضب وستر رقيق إلى المصطفى * ونص مبين
لكشف الريب فيا علما أجمع العالمو * ن على فضل رتبته في الرتب سبقت
الائمة فيما جمعت * وفزت على زعمهم بالقصب نفيت الضعيف من الناقل * ين
ومن كان متهما بالكذب وأبرزت في حسن ترتيبه * وتبويبه عجبا للعجب
فأعطاك مولاك ما تشتهيه * وأجزل حظك فيما وهب
__________
(1) نزل في دار أبي منصور غالب بن جبرائيل الخرتنكي، ومات في داره
(معجم البلدان خرتنك).
(2) أخرجه مالك في الموطأ - في القرآن باب (40) وأحمد في المسند 3 /
424.
(3) أخرجه مسلم في الوصية (3) باب.
ح (1631) ص 3 / 1255.
وأبو داود في الوصايا.
باب (14) والترمذي في الاحكام (36) والنسائي في الوصايا باب (8).
والامام أحمد المسند 2 / 372.
(*)
(11/33)
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين فيها ولى الخليفة المعتمد ليعقوب بن
الليث بلخ وطخارستان وما يلي ذلك من كرمان وسجستان السند وغيرها.
وفي صفر منها عقد المعتمد لاخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة
والحرمين واليمن أضاف إليه في رمضان نيابة بغداد والسواد وواسط وكور
دجلة والبصرة والاهواز وفارس، وأذن له أن يسيب في ذلك كله.
وفيها تواقع سعيد الحاجب وصاحب الزنج في أراضي البصرة فهزمه سعيد
الحاجب واستنقذ من يده خلقا من النساء والذرية، واسترجع منه أموالا
جزيلة.
وأهان الزنج غاية الاهانة.
ثم إن الزنج بيتوا سعيدا وجيشه فقتلوا منهم خلقا كثيرا ويقال إن سعيد
بن صالح قتل أيضا.
ثم إن الزنج التقواهم ومنصور بن جعفر الخياط في جيش كثيف فهزمهم صاحب
الزنج المدعي أنه طالبي، وهو كاذب.
قال ابن جرير: وفيها ظفر ببغداد بموضع يقال له بركة زلزل برجل خناق قد
قتل
خلقا من النساء كان يؤلف المرأة ثم يخنقها ويأخذ ما عليها، فحمل إلى
المعتمد فضرب بين يديه بألفي سوط وأربعمائة، فلم يمت حتى ضربه الجلادون
على أنثييه بخشب العقابين فمات، ورد إلى بغداد وصلب هناك، ثم أحرقت
جثته.
وفي ليلة الرابع عشر من شوال من هذه السنة كسف القمر وغاب أكثره.
وفي صبيحة هذا اليوم دخل جيش الخبيث الزنجي إلى البصرة قهرا فقتل من
أهلها خلقا وهرب نائبها بغراج ومن معه، وأحرقت الزنج جامع البصرة ودورا
كثيرة، وانتهبوها ثم نادى فيهم إبراهيم بن المهلبي أحد أصحاب الزنجي
الخارجي: من أراد الامان فليحضر.
فاجتمع عنده خلق كثير من أهل البصرة فرأى أنه قد أصاب فرصة فغدر بهم
وأمر بقتلهم، فلم يفلت منهم إلا الشاذ: كانت الزنج تحيط بجماعة من أهل
البصرة ثم يقول بعضهم لبعض: كيلوا - وهي الاشارة بينهم إلى القتل -
فيحملون عليهم بالسيوف فلا يسمع إلا قول أشهد أن لا إله إلا الله، من
أولئك المقتولين وضجيجهم عند القتل - أي صراخ الزنج وضحكهم - فإنا لله
وإنا إليه راجعون.
وهكذا كانوا يفعلون في كل محال البصرة في عدة أيام نحسات، وهرب الناس
منهم كل مهرب، وحرقوا الكلا من الجبل إلى الجبل، فكانت النار تحرق ما
وجدت من شئ من إنسان أو بهيمة أو اتار أو غير ذلك، وأحرقوا المسجد
الجامع وقد قتل هؤلاء جماعة كثيرة من الاعيان والادباء والفضلاء
والمحدثين والعلماء.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان هذا الخبيث قد أوقع في أهل فارس وقعة عظيمة، ثم بلغه أن أهل
البصرة قد جاءهم من الميرة شئ كثير وقد اتسعوا بعد الضيق فحسدهم على
ذلك، فروى ابن جرير عن من سمعه يقول: دعوت الله على أهل البصرة فخوطبت
فقيل: إنما أهل البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف
الرغيف خربت البصرة فأولت الرغيف القمر وانكساره انكسافه، وقد كان هذا
شائعا في أصحابه حتى وقع الامر طبق ما أخبر به.
ولا شك أن هذا كان معه شيطان يخاطبه، كما كان يأتي الشيطان مسيلمة
وغيره.
قال: ولما وقع ما وقع من الزنج بأهل البصرة قال هذا الخبيث لمن معه:
إني صبيحة ذلك دعوت الله على أهل البصرة فرفعت لي البصرة بين السماء
والارض ورأيت أهلها يقتلون ورأيت الملائكة تقاتل مع أصحابي وإني لمنصور
على الناس والملائكة تقاتل معي، وتثبت
(11/34)
جيوشي،
ويؤيدوني في حروبي.
ولما صار إليه العلوية الذي كانوا بالبصرة انتسب هو حينئذ إلى يحيى بن
زيد، وهو كاذب في ذلك بالاجماع، لان يحيى بن زيد لم يعقب إلا بنتا ماتت
وهي ترضع، فقبح الله هذا اللعين ما أكذبه وأفجره وأغدره.
وفيها في مستهل ذي القعدة وجه الخليفة جيشا كثيفا مع الامير محمد -
المعروف بالمولد - لقتال صاحب الزنج، فقبض في طريقه على سعد بن أحمد
الباهلي الذي كان قد تغلب على أرض البطائح وأخاف السبيل.
وفيها خالف محمد بن واصل الخليفة بأرض فارس وتغلب عليها.
وفيها وثب رجل من الروم يقال له بسيل الصقلبي على ملك الروم ميخائيل بن
توفيل فقتله واستحوذ على مملكة الروم، وقد كان لميخائيل في الملك على
الروم أربع وعشرون سنة.
وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق العباسي.
وفيها توفي من الاعيان: الحسن بن
عرفة بن يزيد صاحب الجزء المشهور المروي، وقد جاوز المائة بعشر سنين،
وقيل بسبع، وكان له عشرة من الولد سماهم بأسماء العشرة.
وقد وثقه يحيى بن معين وغيره، وكان يتردد إلى الامام أحمد بن حنبل.
ولد في سنة خمسين ومائة، وتوفي في هذه السنة عن مائة وسبع سنين.
وأبو سعيد الاشج (1).
وزيد بن أخزم الطائي (2).
والرياشي (3) ذبحهما الزنج في جملة من ذبحوا من أهل البصرة.
وعلي بن خشرم، أحد مشايخ مسلم الذي يكثر عنهم الرواية.
والعباس بن الفرج أبو الفضل الرياشي النحوي اللغوي، كان عالما بأيام
العرب والسير وكان كثير الاطلاع ثقة عالما، روى عن الاصمعي وأبي عبيدة
وغيرهما، وعنه إبراهيم الحربي، وأبو بكر بن أبي الدنيا وغيرهما.
قتل بالبصرة في هذه السنة، قتله الزنج.
ذكره ابن خلكان في الوفيات وحكى عنه الاصمعي أنه قال: مر بنا أعرابي
ينشد ابنه فقلنا له صفه لنا.
فقال: كأنه دنينير.
فقلنا: لم نره، فلم نلبث أن جاء يحمله على عنقه أسيود كأنه سفل قدر.
فقلت: لو سألتنا عن هذا لارشدناك، إنه منذ اليوم يلعب ههنا مع لغلمان.
ثم أنشد الاصمعي:
__________
(1) وهو عبد الله بن سعيد الكندي الكوفي الحافظ صاحب التصانيف.
قال أبو حاتم: كان إمام أهل زمانه وكان
ثقة حجة روى عن هشيم وعبد الله بن إدريس وخلق.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: بريد بن أخرم تحريف.
وهو أبو طالب البصري النبهاني، قتلته الزنج حدث عنه أصحاب الكتب إلا
مسلما.
(3) من تقريب التهذيب، وفي الاصل: الرواسي وهو تحريف.
والرياشي اسمه العباس بن الفرج سيرد بعد قليل.
ولعل اقحام اسم الرواسي سهو في الناسخ (*).
(11/35)
نعم ضجيع الفتى
إذا برد * الليل سحرا وقرقف العرد (1) زينها الله في الفؤاد كما * زين
في عين والد ولد ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين في يوم الاثنين لعشر
بقين من ربيع الاول عقد الخليفة لاخيه أبي أحمد على ديار مصر وقنسرين
والعواصم، وجلس يوم الخميس في مستهل ربيع الآخر (2) فخلع على أخيه وعلى
مفلح وركبا نحو البصرة في جيش كثيف في عدد وعدد، فاقتتلوا هم والزنج
قتالا شديد فقتل مفلح للنصف من جمادى الاولى، أصابه بسهم بلا نصل في
صدره فأصبح ميتا، وحملت جثته إلى سامرا فدفن بها.
وفيها أسر يحيى بن محمد البحراني أحد أمراء صاحب الزنج الكبار، وحمل
إلى سامرا فضرب بين يدي المعتمد مائتي سوط ثم قطعت يداه ورجلاه من
خلاف، ثم أخذ بالسيوف ثم ذبح ثم أحرق، وكان الذين سروه جيش أبي أحمد في
وقعة هائلة مع الزنج قبحهم الله.
ولما بلغ خبره صاحب الزنج أسف على ذلك ثم قال: لقد خوطبت فيه فقيل لي:
قتله كان خيرا لك.
لانه كان شرها يخفي من المغانم خيارها وقد كان صاحب الزنج يقول
لاصحابه: لقد عرضت علي النبوة فخفت أن لا أقوم بأعبائها فلم أقبلها.
وفي ربيع الآخر منها وصل سعيد بن أحمد الباهلي إلى باب الخليفة فضرب
سبعمائة سوط حتى مات ثم صلب.
وفيها قتل قاض واربعة وعشرون (3) رجلا من أصحاب صاحب الزنج عند باب
العامة بسامرا.
وفيها رجع محمد بن واصل إلى طاعة السلطان وحمل خراج فارس وتمهدت الامور
هناك.
وفيها
في أواخر رجب كان بين أبي أحمد وبين الزنج وقعة هائلة فقتل منها خلق من
الفريقين.
ثم استوخم أبو أحمد منزله فانتقل إلى واسط فنزلها في أوائل شعبان، فلما
نزلها وقعت هناك زلزلة شديدة وهدة عظيمة، تهدمت فيها بيوت ودور كثيرة،
ومات من الناس نحو من عشرين ألفا.
وفيها وقع في الناس وباء شديد وموت عريض ببغداد وسامرا وواسط وغيرها من
البلاد، وحصل للناس ببغداد داء يقال له القفاع (4).
وفي يوم الخميس لسبع خلون من رمضان، أخذ رجل (5) من باب العامة بسامرا
ذكر عنه أنه يسب السلف فضرب ألف سوط حتى مات.
وفي يوم الجمعة ثامنه توفي الامير يارجوخ فصلى عليه أخوه الخليفة أبو
عيسى وحضره جعفر بن المعتمد على الله.
وفيها كانت وقعة هائلة بين موسى بن بغا وبين أصحاب الحسن بن زيد ببلاد
خراسان فهزمهم هزيمة فظيعة.
وفيها كانت وقعة بين مسرور
__________
(1) في ابن خلكان 3 / 27: الليل سحيرا وقرقف الصرد.
(2) في مروج الذهب 4 / 226: الاول.
(3) في الطبري 11 / 223: أربعة عشر: وفي ابن الاثير: جماعة من الزنج
كان فيهم قاض.
(4) القفاع: داء يصيب الشاة في قوائمها فيعوجها (قاموس محيط).
(5) ذكره الطبري: أبو فقعس (*).
(11/36)
لبلخي وبين
مساور الخارجي فكسره مسرور وأسر من أصحابه جماعة كثيرة.
وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق المتقدم ذكره.
وفيها توفي من الاعيان أحمد بن بديل
(1) وأحمد بن حفص (2).
وأحمد بن سنان القطان (3).
ومحمد بن يحيى الذهلي (4).
ويحيى بن معاذ الرازي (5).
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين في يوم
الجمعة لاربع بقين من ربيع الآخر رجع أبو أحمد بن المتوكل من واسط إلى
سامرا وقد استخلف على حرب الزنج محمد الملقب بالمولد، وكان شجاعا شهما.
وفيها بعث الخليفة إلى نائب الكوفة جماعة من القواد فذبحوه وأخذوا ما
كان معه من المال فإذا هو أربعون ألف دينار.
وفيها تغلب رجل جمال يقال له شركب الجمال على مدينة مرو فانتهبها
وتفاقم أمره وأمر أتباعه هناك ولثلاث
عشر بقيت من ذي القعدة توجه موسى بن بغا إلى حرب الزنج، وخرج المعتمد
لتوديعه وخلع عليه عند مفارقته له، وخرج عبد الرحمن بن مفلح إلى بلاد
الاهواز نائبا عليها، وليكون عونا لموسى بن بغا على حرب صاحب الزنج
الخبيث، فهزم عبد الرحمن بن مفلح جيش الخبيث وقتل من الزنج خلقا كثيرا
وأسر طائفة كبيرة منهم وأرعبهم رعبا كثيرا بحيث لم يتجاسروا على
مواقفته مرة ثانية، وقد حرضهم الخبيث كل التحريض فلم ينجع ذلك فيهم، ثم
تواقع عبد الرحمن بن مفلح وعلي بن أبان المهلبي وهو مقدم جيوش صاحب
الزنج فجرت بينهما حروب يطول شرحها، ثم كانت الدائرة على الزنج ولله
الحمد.
فرجع علي بن أبان إلى الخبيث مغلوبا مقهورا، وبعث عبد الرحمن بالاسارى
إلى سامرا فبادر إليهم العامة فقتلوا أكثرهم وسلبوهم قبل أن يصلوا إلى
الخليفة.
وفيها دنا ملك الروح لعنه الله إلى بلاد سميساط ثم إلى ملطية فقالته
أهلها فهزموه وقتلوا بطريق البطارقة من أصحابه، ورجع إلى بلاده خاسئا
وهو حسير.
وفيها دخل يعقوب بن الليث إلى نيسابور وظفر بالخارجي (6) الذي كان
بهراة ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة فقتله وحمل رأسه على رمح وطيف به
في الآفاق.
ومعه رقعة مكتوب فيها ذلك.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل (7) بن
__________
(1) أبو جعفر اليامي الكوفي قاضي الكوفة ثم همذان قال الدار قطني: فيه
لين.
قال في المغني: غير متهم.
وقال ابن عدي: يكتب حديثه مع ضعفه وقال النسائي: لا بأس به (2) السلمي
النيسابوري قاضي نيسابور روى عن أبيه وجماعة.
(3) أبو جعفر الواسطي الحافظ روى عنه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
قيل: هو إمام أهل زمانه (4) أبو عبد الله الذهلي أحد الائمة الاعلام
الثقات.
كان الامام أحمد يجله ويعظمه قال أبو حاتم: كان إمام أهل زمانه.
(5) الزاهد حكيم زمانه وواعظ عصره توفي في جمادى الاولى بنيسابور.
(6) هو عبد الرحمن الخارجي.
(7) في الطبري ومروج الذهب: إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي.
، وفي ابن الاثير: العباس بن إبراهيم بن محمد..وذكر بقية النسب كما في
الطبري (*).
(11/37)
إبراهيم بن يعقوب بن سليمان بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها توفي من الاعيان إبراهيم بن
يعقوب بن إسحاق أبو إسحاق الجوزجاني خطيب دمشق وإمامها وعالمها وله
المصنفات المشهورة المفيدة، منها المترجم فيه علوم غزيرة وفوائده
كثيرة. |