البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ستين ومائتين وفيها وقع غلاء شديد ببلاد الاسلام كلها حتى أجلي أكثر أهل البلدان منها إلى غيرها، ولم يبق بمكة أحد من المجاورين حتى ارتحلوا إلى المدينة وغيرها من البلاد، وخرج نائب مكة منها.
وبلغ كر الشعير ببغداد مائة وعشرين دينارا، واستمر ذلك شهورا.
وفيها قتل صاحب الزنج علي بن زيد صاحب الكوفة، وفيها أخذ الروم من المسلمين حصن لؤلؤة.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل المذكور قبلها.
وفيها توفي من الاعيان الحسن بن محمد الزعفراني (1)، وعبد الرحمن بن شرف ومالك بن طوق صاحب الرحبة التي تنسب إليه، وهو مالك بن طوق، وقال للرحبة رحبة مالك بن طوق، وحنين بن إسحاق العبادي الذي عرب كتاب اقليدس وحرره بعد ثابت بن قرة.
وعرب حنين أيضا كتاب المجسطي وغير ذلك من كتب الطب من لغة اليونان إلى لغة العرب، وكان المأمون شديد الاعتناء بذلك جدا، وكذلك جعفر البرمكي قبله ولحنين مصنفات كثيرة في الطب، وإليه تنسب مسائل حنين، وكان بارعا في فنه جدا، توفي يوم الثلاثاء لست خلون من صفر من هذه السنة.
قاله ابن خلكان.
سنة إحدى وستين ومائتين فيها انصرف الحسن بن زيد من بلاد الديلم إلى طبرستان وأحرق مدينة شالوس لممالاتهم يعقوب بن الليث عليه.
وفيها قتل مساور الخارجي يحيى بن حفص الذي كان يلي طريق خراسان في جمادى الآخرة فشخص إليه مسرور البلخي ثم تبعه أبو أحمد بن المتوكل فهرب مساور فلم يلحق.
وفيها كانت وقعة بين ابن واصل الذي تغلب على فارس وبين عبد الرحمن بن مفلح فكسره ابن واصل
وأسره (2) وقتل طاشتمر واصطلم الجيش الذين كانوا معه فلم يفلت منهم إلا اليسير، ثم سار ابن
__________
(1) أبو علي الفقيه الحافظ صاحب الشافعي.
والزعفراني: نسبة إلى زعفرانة قرية قرب بغداد.
روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم.
(2) قال ابن الاثير ان ابن واصل قتله.
وأظهر أنه مات بعد ان سعى الخليفة إلى اطلاق سراحه 7 / 275 (*).

(11/38)


واصل إلى واسط يريد حرب موسى بن بغا فرجع موسى إلى نائب الخليفة وسأل أن يعفى من ولاية بلاد المشرق لما بها من الفتن، فعزل عنها وولاها الخليفة إلى أخيه أبي أحمد.
وفيها سار أبو الساج إلى حرب الزنج فاقتتلوا قتالا شديدا وغلبتهم الزنج ودخلوا الاهواز فقتلوا خلقا من أهلها وأحرقوا منازل كثيرة، ثم صرف أبو الساج عن نيابة الاهواز وخربها الزنج وولى الخليفة ذلك إبراهيم بن سيما.
وفيها تجهز مسرور البلخي في جيش لقتال الزنج.
وفيها ولى الخليفة نصر بن أحمد بن أسد الساماني ما وراء نهر بلخ وكتب إليه بذلك في شهر رمضان.
وفي شوال قصد يعقوب بن الليث حرب ابن واصل فالتقيا في ذي القعدة فهزمه يعقوب وأخذ عسكره وأسر رجاله وطائفة من حرمه وأخذ من أمواله ما قيمته أربعون ألف ألف درهم.
وقتل من كان يمالئه وينصره من أهل تلك البلاد.
وأصلح الله به تلك الناحية.
ولاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال ولى المعتمد على الله ولده جعفرا العهد من بعده وسماه المفوض إلى الله وولاه المغرب وضم إليه موسى بن بغا ولاية إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وغير ذلك، وجعل الامر من بعد ولده لابي أحمد المتوكل ولقبه الموفق بالله وولاه المشرق وضم إليه مسرور البلخي وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والاهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والري وزنجان والسند، وكتب بذلك مكاتبات وقرئت بالآفاق، وعلق منها نسخة بالكعبة وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق.
وفيها توفي من الاعيان أحمد بن سليمان الرهاوي (1).
وأحمد بن عبد الله العجلي (2).
والحسن بن أبي الشوارب بمكة (3).
وداود بن سليمان الجعفري.
وشعيب بن أيوب (4).
وعبد الله بن الواثق أخو المهتدي بالله.
وأبو شعيب السوسي (5).
وأبو زيد البسطامي أحد أئمة الصوفية.
علي بن
إشكاب وأخوه أبو محمد ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح.
ذكر شئ من ترجته بلاختصار هو مسلم أبو الحسن القشيري النيسابوري أحد الائمة من حفاظ الحديث صاحب الصحيح الذي هو تلو صحيح البخاري عند أكثر العلماء، وذهبت المغاربة وأبو علي النيسابوري من المشارقة إلى تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فإن أرادوا تقديمه عليه في كونه ليس في شئ من
__________
(1) الحافظ أحد الائمة سمع زيد بن الحباب وأقرانه وهو ثقة ثبت.
(2) أبو الحسن العجلي الكوفي نزيل طرابلس المغرب وقد نزح إليها أيام محنة القرآن.
صاحب التاريخ والجرح والتعديل.
قال ابن ناصر الدين: كان إماما حافظا قدوة من المتقنين.
(3) قاضي القضاة، مات في رمضان وكان أحد الاجواد الممدحين.
(4) أبو بكر الصيرفي مقرئ واسط وعالمها.
ثقة.
(5) صالح بن زياد مقرئ أهل الرقة.
قال أبو حاتم: صدوق (تقريب التهذيب 1 / 360) (*).

(11/39)


التعليقات إلا القليل، وأنه يسوق الاحاديث بتمامها في موضع واحد ولا يقطعها كتقطيع البخاري لها في الابواب فهذا القدر لا يوازي قوة أسانيد البخاري واختياره في الصحيح لها ما أورده في جامعه معاصرة الراوي لشيخه وسماعه منه وفي الجملة فإن مسلما لم يشترط في كتابه الشرط الثاني كما هو مقرر في علوم الحديث، وقد بسطت ذلك في أول شرح البخاري.
والمقصود أن مسلما دخل إلى العراق والحجاز والشام ومصر وسمع من جماعة كثيرين قد ذكرهم شيخنا الحافظ المزي في تهذيبه مرتبين على حروف المعجم.
وروى عنه جماعة كثيرون منهم الترمذي في جامعه حديثا واحدا وهو حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " احصوا هلال شعبان لرمضان " (1).
وصالح بن محمد حرره.
وعبد الرحمن بن أبي حاتم.
وابن خزيمة، وابن صاعد، وأبو عوانة الاسفراييني.
وقال الخطيب: أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا أحمد بن نعيم الضبي، أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، سمعت أحمد بن سلمة يقول: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان
مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما.
وأخبرني ابن يعقوب، أنا محمد بن نعيم، سمعت الحسين بن محمد الماسرخسي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت مسلما بن الحجاج يقول: صنفت هذا المسند الصحيح ثلثمائة ألف حديث مسموعة.
وروى الخطيب قائلا: حدثني أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي السودرجاني - بأصبهان - سمعت محمد بن إسحاق بن منده سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري يقول: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث.
وقد ذكر مسلم عند إسحاق بن راهويه فقال بالعجمية ما معناه: أي رجل كان هذا ؟ وقال إسحاق بن منصور لمسلم: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.
وقد أثنى عليه جمعاة من العلماء من أهل الحديث وغيرهم.
وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الاخرم: قل ما يفوت البخاري ومسلما ما يثبت في الحديث.
وروى الخطيب عن أبي عمر ومحمد بن حمدان الحيري قال: سألت أبا العباس أحمد بن سعيد بن عقدة الحافظ عن البخاري ومسلم أيهما أعلم ؟ فقال: كان البخاري عالما ومسلم عالما، فكررت ذلك عليه مرارا وهو يرد علي هذا الجواب ثم قال: يا أبا عمرو قد يقع للبخاري الغلط في أهل الشام، وذلك أنه أخذ كتبهم فنظر فيها فربما ذكر الواحد منهم بكنيته ويذكره في موضع آخر باسمه ويتوهم أنهما اثنان، وأما مسلم فقل ما يقع له الغلط لانه كتب المقاطيع والمراسيل.
قال الخطيب: إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه.
ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم وأدام الاختلاف إليه.
وقد حدثني عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال سمعت أبا الحسن الداقطني يقول: لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء.
قال الخطيب: وأخبرني أبو بكر المنكدر ثنا محمد بن عبد الله الحافظ حدثني أبو نصر بن محمد الزراد، سمعت أبا حامد أحمد بن حمدان القصار، سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبل بين عينيه
__________
(6) أخرجه الترمذي في الصوم (4) باب.
ح 687 ص 3 / 71.
والحديث لم يخرجه من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي.
(*)

(11/40)


وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الاستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله، حدثك
محمد بن سلام، ثنا مخلد بن يزيد الحراني، حدثنا ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة المجلس فما علته ؟ فقال البخاري: هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلول ثنا به موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، عن سهيل، عن عوز بن عبد الله قوله.
قال البخاري: وهذا أولى فإنه لايعرف لموسى بن عقبة سماع من سهيل.
قلت: وقد أفردت لهذا الحديث جزءا على حدة وأوردت فيه طرقه وألفاظه ومتنه وعلله.
قال الخطيب وقد كان مسلم يناضل عن البخاري.
ثم ذكر ما وقع بين البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي في مسألة اللفظ بالقرآن في نيسابور، وكيف نودي على البخاري بسبب ذلك بنيسابور، وأن الذهلي قال يوما لاهل مجلسه وفيهم مسلم بن الحجاج: ألا من كان يقول بقول البخاري في مسألة اللفظ بالقرآن فليعتزل مجلسنا.
فنهض مسلم من فوره إلى منزله، وجمع ما كان سمعهه من الذهلي جميعه وأرسله إليه وترك الرواية عن الذهلي بالكلية فلم يرو عنه شيئا لا في صحيحه ولا في غيره، واستحكمت الوحشة بينهما.
هذا ولم يترك البخاري محمد بن يحيى الذهلي بل روى عنه في صحيحه وغيره وعذره رحمه الله.
وقد ذكر الخطيب سبب موت مسلم رحمه الله أنه عقد مجلس للمذاكرة فسئل يوما عن حديث فلم يعرفه فانصرف إلى منزله فأوقد السراج وقال لاهله: لا يدحل أحد الليلة علي، وقد أهديت له سلة من تمر فهي عنده يأكل تمرة ويكشف عن حديث ثم يأكل أخرى ويكشف عن آخر، فلم يزل ذلك دأبه حتى أصبح وقد أكل تلك السلة وهو لايشعر.
فحصل له بسبب ذلك ثقل ومرض من ذلك حتى كانت وفاته عشبة يوم الاحد، ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور (1)، وكان مولده في السنة التي توفي فيها الشافعي، وهي سنة أربع ومائتين، فكان عمره سبعا (2) وخمسين سنة رحمه الله تعالى.
أبو زيد البسطامي اسمه طيفور بن عيسى (3) بن علي، أحد مشايخ الصوفية، وكان جده مجوسيا فأسلم، وكان لابي يزيد أخوات صالحات عابدات، وهو أجلهم، وقيل لابي يزيد: بأي شئ وصلت إلى المعرفة ؟
فقال ببطن جائع وبدن عار.
وكان يقول: دعوت نفسي إلى طاعة الله فلم تجبني فمنعتها الماء سنة، وقال إذا رأيت الرجل قد أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف
__________
(1) في وفيات الاعيان 5 / 195: بنصر أباذ ظاهر نيسابور.
(2) في وفيات الاعيان: خمس وخمسون.
وقال في العبر، مات وله ستون سنة (3) في ابن خلكان 2 / 531 ومعجم البلدان " بسطام ": عيسى بن آدم بن عيسى بن علي.
والبسطامي نسبة إلى بسطام وهي بلدة مشهورة من أعمال قومس (*).

(11/41)


تجدونه عند الامر والنهي وحفظ الحدود والوقوف عند الشريعة.
قال ابن خلكان: وله مقامات ومجاهدات مشهورة وكرامات ظاهرة.
توفي سنة إحدى وستين ومائتين.
قلت: وقد حكي عنه شحطات ناقصات، وقد تأولها كثير من الفقهاء والصوفية وحملوها على محامل بعيدة، وقد قال بعضهم: إنه قال ذلك في حال الاصطلام والغيبة.
ومن العلماء من بدعه وخطأه وجعل ذلك من أكبر البدع وأنها تدل على اعتقاد فاسد كامن في القلب ظهر في أوقاته والله أعلم.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين فيها قدم يعقوب بن الليث في جحافل فدخل واسط قهرا فخرج الخليفة المعتمد بنفسه من سامرا لقتاله فتوسط بين بغداد وواسط فانتدب له أبو أحمد الموفق بالله أخو الخليفة، في جيش عظيم على ميمنته موسى بن بغا، وعلى ميسرته مسرور البلخي، فاقتتلوا في رجب من هذه السنة أياما قتالا عظيما، ثم كانت الغلبة على يعقوب وأصحابه، وذلك يوم عيد الشعانين.
فقتل منهم خلق كثير وغنم منهم أبو أحمد شيئا كثيرا من الذهب والفضة والمسك والدواب: ويقال إنهم وجدوا في جيش يعقوب هذا رايات عليها صلبان.
ثم انصرف المعتمد إلى المدائن ورد محمد بن طاهر إلى نيابة بغداد وأمر له بخمسمائة ألف درهم.
وفيها غلب يعقوب بن الليث على بلاد فارس وهرب ابن واصل منها.
وفيها كانت حروب كثيرة بين صاحب الزنج وجيش الخليفة.
وفيها ولى القضاء علي بن محمد بن أبي الشوارب.
وفيها جمع للقاضي إسماعيل بن إسحاق قضاء جانبي بغداد.
وفيها حج بالناس
الفضل بن إسحاق العباسي.
قال ابن جرير: وفيها وقع بين الخياطين والخرازين (1) بمكة فاقتتلوا يوم التروية أو قبله بيوم.
فقتل منهم سبعة عشر نفسا وخاف الناس أن يفوتهم الحج بسببهم، ثم توادعوا إلى ما بعد الحج.
وفيها توفي من الاعيان صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور في ربيع الآخر منها.
وعمر بن شبة النميري (2).
ومحمد بن عاصم (3).
ويعقوب بن شيبة صاحب المسند الحافل المشهور والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين فيها جرت حروب كثيرة منتشرة في بلاد شتى فمن ذلك مقتلة عظيمة في الزنج لعنهم الله، حصرهم في بعض المواقف بعض الامراء من جهة الخليفة فقتل الموجودين عنده من آخرهم.
وفيها سلمت الصقالبة حصن لؤلؤة إلى طاغية الروم.
وفيها تغلب أخو شركب الجمال على نيسابور وأخرج
__________
(1) في ابن الاثير: الخياطين والجزارين، وفي الطبري: الحناطين والجزارين.
(2) الحافظ العلامة الاخباري الثقة صاحب التصانيف حدث عن عبد الوهاب الثقفي وغندر وطبقتهما وكان ثقة.
(3) أبو جعفر الاصبهاني الحافظ أحد الاعلام قال في العبر: صدوق (*).

(11/42)


منها عاملها الحسين بن طاهر وأخذ من أهلها ثلث أموالهم مصادرة قبحه الله.
وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق العباسي.
وفيها توفي من الاعيان مساور بن عبد الحميد الشاري الخارجي، وقد كان من الابطال والشجعان المشهورين، والتف عليه خلق من الاعراب وغيرهم، وطالت مدته حتى قصمه الله.
ووزير الخلافة عبيد الله بن يحيى بن خاقان صدمه في الميدان خادم يقال له ريشق فسقط عن دابته على أم رأسه فخرج دماغه من أذنيه وأنفه فمات بعد ثلاث ساعات، وصلى عليه أبو أحمد الموفق بن المتوكل، ومشى في جنازته، وذلك يوم الجمعة لعشر خلون من ذي القعدة من هذه السنة، واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، فلما قدم موسى بن بغا سامرا عزله واستوزر مكانه سليمان بن وهب، وسلمت دار عبد الله بن يحيى بن خاقان إلى الامير المعروف بكيطلغ (1).
وفيها توفي أحمد بن
الازهر (2).
والحسن بن أبي الربيع (3).
ومعاوية بن صالح الاشعري (4).
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين في المحرم منها عسكر أبو أحمد وموسى بن بغا بسامرا وخرجا منها لليلتين مضتا من صفر، وخرج المعتمد لتوديعهما، وسار إلى بغداد.
فلما وصلا إلى بغداد توفي الامير موسى بن بغا وحمل إلى سامرا فدفن بها.
وفيها ولى محمد بن المولد واسطا لمحاربة سليمان بن جامع نائبها من جهة صاحب الزنج، فهزمه ابن المولد بعد حروب طويلة.
وفيها سار ابن الديراني إلى مدينة الدينور واجتمع عليه دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف وابن عياض فهزماه ونهبا أمواله ورجع مفلولا.
ولما توفي موسى بن بغا عزل الخليفة الوزير الذي كان من جهته وهو سليمان بن حرب وحبسه مقيدا وأمر بنهب دوره ودور أقربائه ورد الحسن بن مخلد إلى الوزارة، فبلغ ذلك أبا أحمد وهو ببغداد فسار بمن معه إلى سامرا فتحصن منه أخوه المعتمد بجانبها الغربي، فلما كان يوم التروية عبر جيش أبي أحمد إلى الجانب الذي فيه المعتمد فلم يكن بينهم قتال بل اصطلحوا على رد سليمان بن وهب إلى الوزارة وهرب الحسن بن مخلد فنهبت أمواله وحواصله واختفى أبو عيسى بن المتوكل ثم ظهر، وهرب جماعة من الامراء إلى الموصل خوفا من أبي أحمد، وفيها حج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي الكوفي.
وفيها
__________
(1) في الطبري 11 / 246 وابن الاثير 7 / 310: كيغلغ.
(2) ابن منيع بن سليط أبو الازهر النيسابوري الحافظ.
قال النسائي: لا بأس به.
وقال ابن ناصر الدين كان حافظا صدوقا.
قال في التقريب 1 / 10: لما كبر صار كتابه أثبت من حفظه.
(3) أبو علي، قال في التقريب في نسبة: الحسن بن يحيى بن الجعد العبدي.
نزيل بغداد صدوق (4) ابن أبي عبيد الله الاشعري، أبو عبد الله الدمشقي روى عن عبيد الله بن موسى وأبي مسهر، صدوق.
(تقريب التهذيب - شذرات الذهب) (*).

(11/43)


توفي من الاعيان أحمد بن عبد الرحمن بن وهب (1).
وإسماعيل بن يحيى المزني أحد رواة الحديث عن الشافعي من أهل مصر وقد ترجمناه في طبقات الشافعيين.
أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي أحد الحفاظ المشهورين قيل إنه كان يحفظ سبعمائة ألف حديث وكان فقيها ورعا زاهدا عابدا متواضعا خاشعا أثنى عليه أهل زمانه بالحفظ والديانة، وشهدوا له بالتقدم على أقرانه، وكان في حال شبيبته إذا اجتمع بأحمد بن حنبل يقتصر أحمد على الصلوات المكتوبات ولا يفعل المندوبات اكتفاء بمذاكرته.
توفي يوم الاثنين سلخ ذي الحجة من هذه السنة، وكان مولده سنة مائتين، وقيل سنة تسعين ومائة، وقد ذكرنا ترجمته مبسوطة في التكميل.
ومحمد بن إسماعيل بن علية قاضي دمشق.
ويونس بن عبد الاعلى الصدفي المصري وهو ممن روى عن الشافعي.
وقد ذكرناه في التكميل وفي الطبقات.
وقبيحة أم المعتز إحدى حظايا المتوكل على الله، وقد جمعت من الجواهر واللآلئ والذهب والمصاغ ما لم يعهد لمثلها.
ثم سلبت ذلك كله وقتل ولدها المعتز لاجل نفقات الجند، وشحت عليه بخمسين ألف دينار تداري بها عنه.
كانت وفاتها في ربيع الاول من هذه السنة.
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين فيها كانت وقعة بين ابن ليثويه عامل أبي أحمد وبين سليمان بن جامع فظفر بها ابن ليثويه بابن جامع نائب صاحب الزنج، فقتل خلقا من أصحابه وأسر (2) منهم سبعة وأربعين أسيرا، وحرق له مراكب كثيرة، وغنم منهم أموالا جزيلة.
وفي المحرم من هذه السنة حاصر أحمد بن طولون نائب الديار المصرية مدينة إنطاكية وفيها سيما الطويل فأخذها منه وجاءته هدايا ملك الروم، وفي جملتها أسارى من أسارى المسلمين، ومع كل أسير مصحف، منهم عبد الله بن رشيد بن كاوس الذي كان عامل الثغور فاجتمع لاحمد بن طولون ملك الشام بكماله مع الديار المصرية، لانه لما مات نائب دمشق أماخور ركب ابن طولون من مصر فتلقاه ابن أماخور إلى الرملة فأقره عليها، وسار إلى دمشق فدخلها ثم إلى حمص فتسلمها ثم إلى حلب فأخذها ثم ركب إلى إنطاكية فكان من أمره ما تقدم.
وكان قد استخلف على مصر ابنه العباس فلما بلغه قدوم أبيه عليه من الشام أخذ ما كان في بيت المال من الحواصل ووازره جماعة على ذلك، ثم ساروا إلى برقة خارجا عن طاعة أبيه، فبعث إليه من أخذه ذليلا
__________
(1) لقبه بحشل، ويكنى أبا عبيد الله صدوق تغير بآخره (تقريب التهذيب).
(2) في الطبري 11 / 265: وقتل سبعة وأربعين قائدا، وفي ابن الاثير 1 / 322: قتل من الزنوج نيفا وأربعين قائدا (*).

(11/44)


حقيرا، وردوه إلى مصر فحبسه وقتل جماعة من أصحابه.
وفيها خرج رجل يقال له القاسم بن مهاة على دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي فقتله واستحوذ على أصبهان فانتصر أصحاب دلف له فقتلوا القاسم ورأسوا عليهم أحمد بن عبد العزيز.
وفيها لحق محمد المولود بيعقوب بن الليث فسار إليه في المحرم فأمر الخليفة بنهب حواصله وأمواله وأملاكه.
وفيها دخل صاحب الزنج إلى النعمانية فقتل وحرق ثم سار إلى جرجرايا فانزعج الناس منه ودخل أهل السواد إلى بغداد.
وفيها ولى أبو أحمد عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند، ووجهه إليها بذلك وبالخلع والتحف.
وفيها حاصرت الزنج تستر حتى كادوا يأخذونها.
فوافاهم تكين البخاري فلم يضع ثياب سفره حتى ناجز الزنج فقتل منهم خلقا وهزمهم هزيمة فظيعة جدا، وهرب أميرهم علي بن أبان المهلبي مخذولا.
قال ابن جرير: وهذه وقعة باب كودك (1) المشهورة، ثم إن علي بن أبان المهلبي أخذ في مكاتبة تكين واستمالته إليه وإلى صاحب الزنج فسارع تكين في إجابته إلى ذلك فبلغ خبره مسرورا البلخي فسار نحوه وأظهر له الامان حتى أخذه فقيده وتفرق جيشه عنه ففرقة صارت إلى الزنج وفرقة إلى محمد بن عبيد الله الكردي، وفرقة انضافت إلى مسرور بعد إعطائه إياهم الامان، وولى مكانه على عمالته أميرا آخر يقال له اغرتمش.
وفيها حج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى العباسي.
وفيها توفي من الاعيان أحمد بن منصور الرمادي رواية عبد الرزاق وقد صحب الامام أحمد وكان يعد من الابدال توفي عن ثلاث وستين سنة.
وسعدان بن نصر (2).
وعبد الله بن محمد المخزومي وعلي بن حرب الطائي الموصلي (3).
وأبو حفص النيسابوري علي بن موفق الزاهد.
ومحمد بن سحنون (4) قال ابن الاثير في كامله: وفيها قتل أبو الفضل العباس بن الفرج الرياضي صاحب أبي عبيدة والاصمعي قتلته الزنج بالبصرة.
يعقوب بن الليث الصفار أحد الملوك العقلاء الابطال.
فتح بلادا كثيرة من ذلك بلد الرجح التي كان فيها ملك صاحب الزنج وكان يحمل في سرير من ذهب على رؤوس اثني عشر رجلا، وكان له بيت في رأس جبل عال سماه مكة، فما زال حتى قتل وأخذ بلده واستسلم أهلها فأسلموا على يديه، ولكن كان قد خرج عن طاعة الخليفة وقاتله أبو أحمد الموفق كما تقدم.
ولما مات ولوا أخاه عمرو بن الليث ما كان يليه أخوه يعقوب مع شرطة بغداد وسامرا كما سيأتي.
__________
(1) في ابن الاثير 7 / 322: باب كورك.
(2) أبو عثمان الثقفي البغدادي البزاز سمع من ابن عيينة وأبي معاوية والكبار.
ووثقه الدار قطني.
(3) أبو الحسن المحدث الاخباري صاحب المسند سمع من أبن عيينة والمحاربي عاش (90) سنة.
(4) المغربي المالكي مفتي القيروان تفقه على أبيه كثير التصانيف (*).

(11/45)


ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين في صفر منها تغلب إساتكين على بلد الري وأخرج عاملها منها ثم مضى إلى قزوين فصالحه أهلها فدخلها وأخذ منها أموالا جزيلة، ثم عاد إلى الري فمانعه أهلها عن الدخول إليها فقهرهم ودخلها.
وفيها غارت سرية من الروم على ناحية ديار ربيعة فقتلوا وسبوا ومثلوا وأخذوا نحوا من مائتين وخمسين أسيرا، فنفر إليهم أهل نصيبين (1) وأهل الموصل فهربت منهم الروم ورجعوا إلى بلادهم.
وفيها ولى عمرو بن الليث شرطة بغداد وسامرا لعبيد الله بن طاهر، وبعث إليه أبو أحمد بالخلعة وخلع عليه عمرو بن الليث أيضا وأهدى إليه عمودين (2) من ذهب، وذلك مضافا إلى ما كان يليه أخوه من البلدان.
وفيها سار اغرتمش إلى قتال علي بن أبان المهلبي بتستر فأخذ من كان في السجن من أصحاب علي بن أبان المهلبي من الامراء فقتلهم عن آخرهم، ثم سار إلى علي بن أبان فاقتتلا قتالا شديدا في
مرات عديدة، كان آخرها لعلي بن أبان المهلبي، قتل خلقا كثيرا من أصحاب اغرتمش وأسر بعضهم فقتلهم أيضا، وبعث برؤوسهم إلى صاحب الزنج فنصبت رؤوسهم على باب مدينته قبحه الله.
وفيها وثب أهل حمص على عاملهم عيسى الكرخي فقتلوه في شوال منها، وفيها دعا الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن حسين الاصغر العقيلي (3) أهل طبرستان إلى نفسه وأظهر لهم أن الحسن بن زيد أسر ولم يبق من يقوم بهذا الامر غيره، فبايعوه.
فلما بلغ ذلك الحسن بن زيد قصده فقاتله فقتله ونهب أمواله وأموال من أتبعه وأحرق دورهم.
وفيها وقعت فتنة بالمدينة ونواحيها بين الجعفرية والعلوية وتغلب عليها رجل من أهل البيت من سلالة الحسن بن زيد الذي تغلب على طبرستان، وجرت شرور كثيرة هنالك بسبب قتل الجعفرية والعلوية يطول ذكرها.
وفيها وثبت طائفة من الاعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها، وسار بعضهم إلى صاحب الزنج وأصاب الحجيج منهم شدة وبلاء شديد وأمور كريهة.
وفيها أغارت الروم أيضا على ديار ربيعة.
وفيها دخل أصحاب صاحب الزنج إلى رامهرمز فافتتحوها بعد قتال طويل.
وفيها دخل ابن أبي الساج مكة فقاتله المخزومي فقهره ابن أبي الساج وحرق داره واستباح ماله، وذلك يوم التروية في هذه السنة.
ثم جعلت إمرة الحرمين إلى ابن أبي الساج من جهة الخليفة.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد المتقد ذكره قبلها.
وفيها عمل محمد بن عبد الرحمن الداخل إلى بلاد المغرب - وهو خليفة بلاد الاندلس وبلاد المغرب - مراكب في نهر قرطبة ليدخل بها إلى البحر المحيط ولتسير الجيوش في أطرافه إلى بعض البلاد ليقاتلوهم، فلما دخلت المراكب البحر المحيط تكسرت وتقطعت ولم ينج من أهلها إلا اليسير بل غرق
__________
(1) من الطبري 11 / 255 وابن الاثير 7 / 333، وفي الاصل: الصين وهو تحريف.
(2) في الطبري 11 / 255: عمود.
(3) في الطبري: العقيقي.
(انظر ابن الاثير 7 / 335) (*).

(11/46)


أكثرهم.
وفيها التقى أسطول المسلمين وأسطول الروم ببلاد صقلية فاقتتلوا فقتل من المسلمين خلق كثير إنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها حارب لؤلؤ غلام ابن طولون لموسى بن أتامش فكسره لؤلؤ وأسره
وبعث به إلى مولاه أحمد بن طولون، وهو إذ ذاك نائب الشام ومصر وإفريقية من جهة الخليفة، ثم اقتتل لؤلؤ هذا وطائفة من الروم فقتل من الروم خلقا كثيرا.
قال ابن الاثير: وفيها اشتد الحال وضاق الناس ذرعا بكثرة الهياج والفتن وتغلب القواد والاجناد على كثير من البلاد بسبب ضعف منصب الخلافة واشتغال أخيه أبي أحمد بقتال الزنج.
وفيها اشتد الحر في تشرين الثاني جدا ثم قوي به البرد حتى جمد الماء.
وفيها توفي من الاعيان إبراهيم بن رومة (1).
وصالح بن الامام أحمد بن حنبل قاضي أصبهان.
ومحمد بن شجاع البلخي أحد عباد الجهمية.
ومحمد بن عبد الملك الدقيقي (2).