البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين فيها وجه أبو أحمد الموفق ولده أبا العباس في نحو من عشرة آلاف فارس وراجل في أحسن هيئة وأكمل تجمل لقتال الزنج، فساروا نحوهم فكان بينهم وبينهم من القتال والنزال في أوقات متعددات ووقعات مشهورات ما يطول بسطه، وقد استقصاه ابن جرير في تاريخه مبسوطا مطولا.
وحاصل ذلك أنه آل الحال أن استحوذ أبو العباس بن الموفق على ما كان استولى عليه الزنج ببلاد واسط وأراضي دجلة، هذا وهو شاب حدث لا خبرة له بالحرب، ولكن سلمه الله وغنمه وأعلى كلمته وسدد رميته وأجاب دعوته وفتح على يديه وأسبغ نعمه عليه، وهذا الشاب هو الذي ولي الخلافة بعد عمه المعتمد كما سيأتي، ثم ركب أبو أحمد الموفق ناصر دين الله في بغداد في صفر منها في جيوش كثيفة فدخل واسط في ربيع الاول منها، فتلقاه ابنه وأخبره عن الجيوش الذين معه، وأنهم نصحوا وتحملوا من أعباء الجهاد، فخلع على الامراء كلهم خلعا سنية، ثم سار بجميع الجيوش إلى صاحب الزنج وهو بالمدينة التي أنشأها وسماها المنيعة، فقاتل الزنج دونها قتالا شديدا فقهرهم ودخلها عنوة وهربوا منها، فبعث في آثارهم جيشا فلحقوهم إلى البطائح يقتلون ويأسرون، وغنم أبو أحمد من المنيعة شيئا كثيرا واستنقذ من النساء المسلمات خمسة آلاف امرأة، وأمر بإرسالهن إلى أهاليهن بواسط، وأمر بهدم سور البلد وبطم خندقها وجعلها بلقعا بعد ما كان للشر مجمعا.
ثم سار الموفق إلى المدينة التي لصاحب الزنج التي يقال لها المنصورة وبها سليمان بن جامع،
فحاصروها وقاتلوه دونها فقتل خلق كثير من الفريقين، ورمى أبو العباس بن الموفق بسهم أحمد بن
__________
(1) في شذرات الذهب 2 / 151: أورمة، أبو اسحاق الاصبهاني الحافظ أحد الاذكياء المحدثين.
قال ابن ناصر الدين: فاق أهل عصره في الذكاء والحفظ.
مات في ذي الحجة ببغداد.
(2) أبو جعفر الواسطي روى عن يزيد بن هارون وطبقته وكان إماما ثقة صاحب حديث مات في شوال (*).

(11/47)


هندي (1) أحد أمراء صاحب الزنج فأصابه في دماغه فقتله، وكان من أكابر أمراء صاحب الزنج، فشق ذلك على الزنج جدا وأصبح الناس محاصرين مدينة الزنج يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر والجيوش الموفقية مرتبة أحسن ترتيب، فتقدم الموفق فصلى أربع ركعات وابتهل إلى الله في الدعاء واجتهد في حصارها فهزم الله مقاتلتها وانتهى إلى خندقها فإذا هو قد حصن غاية التحصين، وإذا هم قد جعلوا حول البلد خمسة خنادق وخمسة أسوار، فجعل كلما جاوز سورا قاتلوه دون الآخر فيقهرهم ويجوز إلى الذي يليه، حتى انتهى إلى البلد فقتل منهم خلقا كثيرا وهرب بقيتهم وأسر من نساء الزنج من حلائل سليمان بن جامع وذويه نساء كثيرة وصبيانا، واستنقذ من أيديهم النساء المسلمات والصبيان من أهل البصرة والكوفة نحوا من عشرة آلاف (2) نسمة فسيرهم إلى أهليهم، جزاه الله خيرا.
ثم أمر بهدم فنادقها وأسوارها وردم خنادقها وأنهارها، وأقام بها سبعة عشر يوما، بعث في آثار من انهزم منهم، فكان لا يأتون بأحد منهم إلا استماله إلى الحق برفق ولين وصفح، فمن أجابه أضافه إلى بعض الامراء - وكان مقصوده رجوعهم إلى الدين والحق - ومن لم يجبه قتله وحبسه.
ثم ركب إلى الاهواز فأجلاهم عنها وطردهم منها وقتل خلقا كثيرا من أشرافهم، منهم أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصري وكان رئيسا فيهم مطاعا، وغنم شيئا كثيرا من أموالهم، وكتب الموفق إلى صاحب الزنج قبحه الله كتابا يدعوه فيه إلى التوبة والرجوع عما ارتكبه من المآثم والمظالم والمحارم ودعوى النبوة والرسالة وخراب البلدان واستحلال الفروج الحرام.
ونبذ له الامان إن هو رجع إلى الحق، فلم يرد عليه صاحب الزنج جوابا.
مسير أبي أحمد الموفق إلى مدينة صاحب الزنج وحصار المختارة
لما كتب أبو أحمد إلى صاحب الزنج يدعوه إلى الحق فلم يجبه، استهانة به، ركب من فوره في جيوش عظيمة قريب من خمسين ألف مقاتل، قاصدا إلى المختارة مدينة صاحب الزنج، فلما انتهى إليها وجدها في غاية الاحكام، وقد حوط عليها من آلات الحصار شيئا كثيرا، وقد التف على صاحب الزنج نحو من ثلثمائة ألف مقاتل بسيف ورمح ومقلاع، ومن يكثر سوادهم، فقدم الموفق ولده أبا العباس بين يديه فتقدم حتى وقف تحت قصر الملك فحاصره محاصرة شديدة، وتعجب الزنج من إقدامه وجرأته، ثم تراكمت الزنج عليه من كل مكان فهزمهم وأثبت بهبوذ أكبر أمراء صاحب الزنج بالسهام والحجارة ثم خامر جماعة من أصحاب أمراء صاحب الزنج إلى الموفق فأكرمهم وأعطاهم خلعا سنية ثم رغب إلى ذلك جماعة كثيرون فصاروا إلى الموفق، ثم ركب أبو أحمد الموفق في يوم النصف من شعبان ونادى في الناس كلهم بالامان إلى صاحب الزنج فتحول خلق كثير من جيش صاحب الزنج إلى
__________
(1) في الطبري 11 / 270: أحمد بن مهدي الجبائي.
وفي ابن الاثير 7 / 346: أحمد بن هندي الحيامي.
(2) في ابن الاثير 7 / 347: عشرين ألفا (*).

(11/48)


الموفق، وابتنى الموفق مدينة تجاه مدينة صاحب الزنج سماها الموفقية، وأمر بحمل الامتعة والتجارات إليها، فاجتمع بها من أنواع الاشياء وصنوفها ما لم يجتمع في بلد قبلها، وعظم شأنها وامتلات من المعايش والارزاق وصنوف التجارات والسكان والدواب وغيرهم، وإنما بناها ليستعين بها على قتال صاحب الزنج، ثم جرت بينهم حروب عظيمة، وما زالت الحرب ناشبة حتى أنسلخت هذه السنة وهم محاصرون للخبيث صاحب الزنج، وقد تحول منهم خلق كثير فصاروا على صاحب الزنج بعد ما كانوا معه، وبلغ عدد من تحول قريبا من خمسين ألفا من الامراء الخواص والاجناد، والموفق وأصحابه في زيادة وقوة ونصر وظفر.
وفيها حج بالناس هارون بن محمد الهاشمي.
وفيها توفي من الاعيان إسماعيل بن سيبويه (1).
وإسحاق بن إبراهيم بن شاذان (2)، ويحيى بن نصر الخولاني (3)، وعباس البرقفي (4)، ومحمد بن حماد بن بكر بن حماد أبو بكر المقري صاحب خلف بن هشام البزار ببغداد في ربيع الاول ومحمد بن عزيز الايلي (5)، ويحيى بن محمد بن يحيى الذهلي
حبكان (6)، ويونس بن حبيب راوي مسند أبي داود الطيالسي عنه.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين في المحرم منها استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان - وكان من أكابر صاحب الزنج وثقاتهم في أنفسهم - الموفق فأمنه وفرح به وخلع عليه وأمره فركب في سمرته فوقف تجاه قصر الملك فنادى في الناس وأعلمهم بكذب صاحب الزنج وفجوره، وأنه في غرور هو ومن اتبعه، فاستأمن بسبب ذلك بشر كثير منهم، وبرد قتال الزنج عند ذلك إلى ربيع الآخر.
فعند ذلك أمر الموفق أصحابه بمحاصرة السور، وأمرهم إذا دخلوه أن لا يدخلوا البلد حتى يأمرهم، فنقبوا السور حتى انثلم ثم عجلوا الدخول فدخلوا فقاتلهم الزنج فهزمهم المسلمون وتقدموا إلى وسط المدينة، فجاءتهم الزنج من كل جانب وخرجت عليهم الكمائن من أماكن لا يهتدون لها، فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا واستلبوهم وفر الباقون فلامهم الموفق على مخالفته وعلى العجلة، وأجرى الارزاق على ذرية من قتل
__________
(1) في شذرات الذهب 2 / 152: سموية، وهو أبو بشر العبدي الاصبهاني الحافظ، سمع بكر بن بكار أبا مسهر وخلقا.
قال ابن ناصر الدين: ثقة.
(2) قاضي شيراز روى عن جده سعد بن الصلت وطائفة.
وثقه بن حبان مات في جمادى الاخرة (شذرات 2 / 152).
(3) سمع ابن وهب.
أحد الثقات الاثبات.
(4) من تذكرة الحفاظ، وفي الاصل الترقفي.
أحد الثقات مات ببغداد.
(1) روى عن سلامة بن روح وغيره.
قال في المغني: " قال النسائي: صويلح، وقال أبو أحمد الحاكم: فيه نظر ".
(6) من تقريب التهذيب، وفي الاصل حنكان، أبو عبد الله الذهلي شيخ نيسابور.
ثقة مات شهيدا (*).

(11/49)


منهم، فحسن ذلك عند الناس جدا، وظفر أبو العباس بن الموفق بجماعة من الاعراب كانوا يجلبون الطعام إلى الزنج فقتلهم، وظفر ببهبوذ بن عبد الله بن عبد الوهاب فقتله، وكان ذلك من أكبر الفتح
عند المسلمين، وأعظم الرزايا عند الزنج.
وبعث عمرو بن الليث إلى أبي أحمد الموفق ثلثمائة ألف دينار وخمسين منا من مسك، وخمسين منا من عنبر، ومائتي من من عود، وفضة بقيمة ألف وثيابا من وشي وغلمانا كثيرة جدا.
وفيها خرج ملك الروم المعروف بابن الصقلبية فحاصر أهل ملطية فأعانهم أهل مرعش ففر الخبيث خاسئا.
وغزا الصائفة من ناحية الثغور عامل ابن طولون فقتل من الروم سبعة (1) عشر ألفا.
وحج بالناس فيها هارون المتقدم: وفيها قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني.
وفيها توفي من الاعيان أحمد بن سيار (2).
وأحمد بن شيبان (3).
وأحمد بن يونس الضبي (4).
وعيسى بن أحمد البلخي (5) ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري الفقيه المالكي.
وقد صحب الشافعي وروى عنه.
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين فيها اجتهد الموفق بالله في تخريب مدينة صاحب الزنج فخرب منه شيئا كثيرا، وتمكن الجيوش من العبور إلى البلد، ولكن جاءه في أثناء هذه الحالة سهم في صدره من يد رجل رومي يقال له قرطاس فكاد يقتله، فاضطرب الحال لذلك وهو يتجلد ويحض على القتال مع ذلك، ثم أقام ببلده الموفقية أياما يتداوى فاضطرب الاحوال وخاف الناس من صاحب الزنج، وأشاروا على الموفق بالمسير إلى بغداد فلم يقبل فقويت علته ثم من الله عليه بالعافية في شعبان، ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، فنهض مسرعا إلى الحصار فوجد الخبيث قد رمم كثيرا مما كان الموفق قد خربه وهدمه فأمر بتخريبه وما حوله وما قرب منه، ثم لازم الحصار فما زال حتى فتح المدينة الغربية وخرب قصور صاحب الزنج ودور أمرائه، وأخذ من أموالهم شيئا كثيرا مما لا يحد ولا يوصف كثرة، وأسر من نساء الزنج واستنقذ من نساء المسلمين وصبيانهم خلقا كثيرا، فأمر بردهم إلى أهاليهم مكرمين وقد تحول صاحب الزنج إلى الجانب الشرقي وعمل الجسر والقناطر الحائلة بينه وبين وصل السمريات إليه، فأمر الموفق بتخريبها وقطع الجسور، واستمر الحصار باقي هذه السنة وما برح حتى تسلم الجانب الشرقي أيضا واستحوذ على حواصله وأمواله، وفر الخبيث هاربا غير آيب، وخرج منها هاربا وترك حلائله وأولاده وحواصله، فأخذها الموفق وشرح ذلك يطول جدا.
وقد حرره مبسوطا ابن جرير ولخصه ابن الاثير واختصره ابن
__________
(1) في الطبري 11 / 295 وابن الاثير 7 / 373: بضعة.
(2) محدث مرو، ومصنف تاريخ مرو.
وكان يشبه ابن المبارك علما وزهدا (3) الرملي، وثقه الحاكم، وقال ابن حبان: يخطئ.
(4) كان ثقة محتشما مات بأصبهان.
(5) نزل عسقلان محلة ببلخ وهو بغدادي الاصل (*).

(11/50)


كثير والله أعلم وهو الموفق إلى الصواب وإليه المرجع والمآب.
ولما رأى الخليفة المعتمد أن أخاه أبا أحمد قد استحوذ على أمور الخلافة وصار هو الحاكم الآمر الناهي، وإليه تجلب التقادم وتحمل الاموال والخراج، وهو الذي يولي ويعزل، كتب إلى أحمد بن طولون يشكو إليه ذلك، فكتب إليه ابن طولون أن يتحول إلى عنده إلى مصر ووعده النصر والقيام معه، فاستغنم غيبة أخيه الموفق وركب في جمادى الاولى ومعه جماعة من القواد وقد أرصد له ابن طولون جيشا بالرقة يتلقونه، فلما اجتاز الخليفة بإسحاق بن كنداج (1) نائب الموصل وعامة الجزيرة اعتقله عنده عن الميسر إلى ابن طولون، وفند أعيان الامراء الذين معه، وعاتب الخليفة ولامه على هذا الصنع أشد اللوم، ثم ألزمه العود إلى سامرا ومن معه من الامراء فرجعوا إليها في غاية الذل والاهانة.
ولما بلغ الموفق ذلك شكر سعي إسحاق وولاه جميع أعمال أحمد بن طولون إلى أقصى بلاد إفريقية، وكتب إلى أخيه أن يأمن ابن طولون في دار العامة، فلم يمكن المعتمد إلا إجابته إلى ذلك، وهو كاره، وكان ابن طولون قد قطع ذكر الموفق في الخطب وأسقط اسمه عن الطرازات.
وفيها في ذي القعدة وقعت فتنة بمكة بين أصحاب الموفق وأصحاب ابن طولون، فقتل من أصحاب ابن طولون مائتان وهرب بقيتهم، واستلبهم أصحاب الموفق شيئا كثيرا.
وفيها قطع الاعراب على الحجيج الطريق وأخذ منهم خمسة آلاف بعير بأحمالها.
وفيها توفي إبراهيم بن منقذ الكناني (2).
وأحمد بن خلاد (3) مولى المعتصم - وكان من دعاة المعتزلة أخذ الكلام عن جعفر بن معشر المعتزلي - وسليمان بن حفص المعتزلي صاحب بشر المريسي،
وأبي الهذيل العلاف.
وعيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني نائب أرمينية وديار بكر.
وأبو فروة يزيد بن محمد الرهاوي أحد الضعفاء.
ثم دخلت سنة سبعين ومائتين فيها كان مقتل صاحب الزنج قبحه الله: وذلك أن الموفق لما فرغ من شأن مدينة صاحب الزنج وهي المختارة واحتاز ما كان بها من الاموال وقتل من كان بها من الرجال، وسبى من وجد فيها من النساء والاطفال، وهرب صاحب الزنج عن حومة الحرب والجلاد، وسار إلى بعض البلاد طريدا شريدا بشر حال، عاد الموفق إلى مدينته الموفقية مؤيد منصورا، وقدم عليه لؤلؤة غلام أحمد بن طولون منابذا لسيده سميعا مطيعا للموفق، وكان وروده عليه في ثالث المحرم من هذه السنة، فأكرمه وعظمه وأعطاه وخلع عليه وأحسن إليه، وبعثه طليعة بين يديه لقتال صاحب الزنج، وركب الموفق في
__________
(1) في ابن الاثير 7 / 394 والطبري 11 / 304: كندا جيق.
(2) في شذرات الذهب 2 / 155: الخولاني المصري.
صاحب ابن وهب.
ثقة.
(3) في ابن الاثير 7 / 398: مخالد (*).

(11/51)


الجيوش الكثيفة الهائلة وراءه فقصدوا الخبيث وقد تحصن ببلدة أخرى، فلم يزل به محاصرا له حتى أخرجه منها ذليلا، واستحوذ على ما كان بها من الاموال والمغانم، ثم بعث السرايا والجيوش وراء حاجب الزنج فأسروا عامة من كان معه من خاصته وجماعته، منهم سليمان بن جامع فاستبشر الناس بأسره وكبروا الله وحمدوه فرحا بالنصر والفتح، وحمل الموفق بمن معه حملة واحدة على أصحاب الخبيث فاستحر فيهم القتل، وما انجلت الحرب حتى جاء البشير بقتل صاحب الزنج في المعركة، وأتي برأسه مع غلام لؤلؤة الطولوني، فلما تحقق الموقف أنه رأسه بعد شهادة الامراء الذين كانوا معه من أصحابه بذلك خر ساجدا لله، ثم انكفأ راجعا إلى الموفقية ورأس الخبيث يحمل بين يديه، وسليمان معه أسير، فدخل البلد وهو كذلك، وكان يوما مشهودا وفرح المسلمون بذلك في المغارب والشارق، ثم جئ بأنكلاني ولد صاحب الزنج وأبان بن علي المهلبي مسعر حربهم مأسورين ومعهم قريب من خمسة آلاف
أسير، فتم السرور وهرب قرطاس الذي رمى الموفق بصدره بذلك السهم إلى رامهرمز فأخذ وبعث به إلى الموفق فقتله أبو العباس أحمد بن الموفق.
واستتاب من بقي من أصحاب صاحب الزنج وأمنهم الموفق ونادى في الناس بالامان، وأن يرجع كل من كان أخرج من دياره بسبب الزنج إلى أوطانهم وبلدانهم، ثم سار إلى بغداد وقدم ولده أبا العباس بين يديه ومعه رأس الخبيث يحمل ليراه الناس فدخلها لثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادي الاولى من هذه السنة وكان يوما مشهودا، وانتهت أيام صاحب الزنج المدعي الكذاب قبحه الله.
وقد كان ظهوره في يوم الاربعاء لاربع بقين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان هلاكه يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين.
وكانت دولته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام ولله الحمد والمنة.
وقد قيل في انقضاء دولة الزنج وما كان من النصر عليهم أشعار كثيرة، من ذلك قول يحيى بن محمد الاسلمي: أقول وقد جاء البشير بوقعة * أعزت من الاسلام ما كان واهيا جزى الله خير الناس للناس بعدما * أبيح حماهم خير ما كان جازيا تفرد إذ لم ينصر الله ناصر * بتجديد دين كان أصبح باليا وتشديد (1) ملك قد وهى عبد عزه * وأخذ بثأرات (2) تبير الاعاديا ورد عمارات أزيلت وأخربت * ليرجع فئ قد تخرم وافيا وترجع أمصار أبيحت وأحرقت * مرارا وقد أمست قواء عوافيا ويشفى صدور المسلمين (3) بوقعة * تقربها منا العيون البواكيا ويتلى كتاب الله في كل مسجد * ويلقى دعاء الطالبين خاسيا
__________
(1) في ابن الاثير 7 / 406: وتجديد.
(2) في الطبري 11 / 327: وادراك ثارات.
(3) في الطبري: المؤمنين (*).

(11/52)


فأعرض عن أحبابه ونعيمه * وعن لذة الدنيا وأصبح غازيا (1) وفي هذه السنة أقبلت الروم في مائة الف مقاتل فنزلوا قريبا (2) من طرسوس فخرج إليهم المسلمون فبيتوهم فقتلوا منهم في ليلة واحدة حتى الصباح نحوا من سبعين ألفا ولله الحمد.
وقتل المقدم الذي عليهم وهو بطريق البطارقة، وجرح أكثر الباقين، وغنم المسلمون منهم غنيمة عظيمة، ومن ذلك سبع صلبان من ذهب وفضة، وصليبهم الاعظم وهو من ذهب صامت مكلل بالجواهر وأربع كراسي من ذهب ومائتي كرسي من فضة، وآنية كثيرة، وعشرة آلاف علم من ديباج، وغنموا حرير كثيرا وأموالا جزيلة، وخمسة عشر ألف دابة وسروجا وسلاحا وسيوفا محلاة وغير ذلك ولله الحمد.
وفيها توفي من الاعيان.
أحمد بن طولون أبو العباس أمير الديار المصرية وباني الجامع بها المنسوب إلى طولون، وإنما بناه أحمد ابنه (3)، وقد ملك دمشق والعواصم والثغور مدة طويلة، وقد كان أبوه طولون من الاتراك الذين أهداهم نوح بن أسد الساماني عامل بخارى إلى المأمون في سنة مائتين، ويقال إلى الرشيد في سنة تسعين ومائة.
ولد أحمد هذا في سنة أربع عشرة ومائتين، ومات طولون أبوه في سنة ثلاثين، وقيل في سنة أربعين ومائتين.
وحكى ابن خلكان: أنه لم يكن أباه وإنما تبناه والله أعلم.
وحكى ابن عساكر أنه من جارية تركية اسمها هاشم.
ونشأ أحمد هذا في صيانة وعفاف ورياسة ودراسة للقرآن العظيم، مع حسن الصوت به، وكان يعيب على أولاد الترك ما يرتكبونه من المحرمات والمنكرات، وكانت أمه جارية اسمها هاشم.
وحكى ابن عساكر عن بعض مشايخ مصر أن طولون لم يكن أباه وإنما كان قد تبناه لديانته وحسن صوته بالقرآن وظهور نجابته وصيانته من صغره، وأن طولون اتفق له معه أن بعثه مرة في حاجة ليأتيه بها من دار الامارة فذهب فإذا حظية من حظايا طولون مع بعض الخدم وهما على فاحشة، فأخذ حاجته التي أمره بها وكر راجعا إليه سريعا، ولم يذكر له شيئا مما رأى من الحظية والخادم، فتوهمت الحظية أن يكون أحمد قد أخبر طولون بما رأى، فجاءت إلى طولون فقالت: إن أحمد
جاءني الآن إلى المكان الفلاني وراودني عن نفسي وانصرفت إلى قصرها، فوقع في نفسه صدقها فاستدعى أحمد وكتب معه كتابا وختمه إلى بعض الامراء ولم يواجه أحمد بشئ مما قالت الجارية، وكان في الكتاب أن ساعة وصول حامل هذا الكتاب إليك تضرب عنقه وأبعث برأسه سريعا إلي.
فذهب
__________
(1) في ابن الاثير: عاريا.
(2) نزلوا بناحية باب قلمية على ستة أميال من طرسوس (الطبري - ابن الاثير).
(3) قال القضاعي في الخطط: شرع أحمد في بنائه سنة 264 وفرغ منه في سنة 266 (ابن خلكان 1 / 173 - ولاة مصر للكندي - ص 245) (*).

(11/53)


بالكتاب من عند طولون وهو لا يدري ما فيه، فاجتاز بطريقه بتلك الحظية فاستدعته إليها فقال: إني مشغول بهذا الكتاب لاوصله إلى بعض الامراء.
قالت: هلم فلي إليه حاجة - وأرادت أن تحقق في ذهن الملك طولون ما قالت له عنه فحبسته عندها ليكتب لها كتابا، ثم استوهبت من أحمد الكتاب الذي أمره طولون أن يوصله إلى ذلك الامير، فدفعه إليها فأرسلت به ذلك الخادم الذي وجده معها على الفاحشة وظنت أن به جائزة تريد أن تخص بها الخادم المذكور فذهب بالكتاب إلى ذلك الامير، فلما قرأه أمر بضرب عنق ذلك الخادم وأرسل برأسه إلى الملك طولون.
فتعجب الملك من ذلك وقال: أين أحمد ؟ فطلب له فقال: ويحك أخبرني كيف صنعت منذ خرجت من عندي ؟ فأخبره بما جرى من الامر.
ولما سمعت تلك الحظية بأن رأس الخادم قد أتي به إلى طولون أسقط في يديها وتوهمت أن الملك قد تحقق الحال، فقامت إليه تعتذر وتستغفر مما وقع منها مع الخادم، واعترفت بالحق وبرأت أحمد مما نسبته إليه، فحظي عند الملك طولون وأوصى له بالملك من بعده.
ثم ولي نيابة الديار المصرية للمعتز فدخلها يوم الاربعاء لسبع بقين من رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، فأحسن إلى أهلها وأنفق فيهم من بيت المال ومن الصدقات، واستغل الديار المصرية في بعض السنين أربعة آلاف ألف دينار، وبنى بها الجامع، غرم عليه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وفرغ منه في سنة سبع وخمسين، وقيل في سنة ست وستين ومائتين، وكانت له مائدة في كل يوم
يحضرها الخاص والعام، وكان يتصدق من خالص ماله في كل شهر بألف دينار.
وقد قال له وكيله يوما: إنه تأتيني المرأة وعليها الازار والبدلة ولها الهيئة الحسنة تسألني فأعطيها ؟ فقال: من مد يده إليك فأعطه، وكان من أحفظ الناس للقرآن، ومن أطيبهم به صوتا.
وقد حكى ابن خلكان عنه أنه قتل صبرا نحوا من ثمانية عشر ألف نفس، فالله أعلم.
وبنى المارستان غرم عليه ستين ألف دينار، وعلى الميدان مائة وخمسين ألفا، وكانت له صدقات كثيرة جدا، وإحسان زائد ثم ملك دمشق بعد أميرها ماخور (1) في سنة أربع وستين ومائتين، فأحسن إلى أهلها أيضا إحسانا بالغا، واتفق أنه وقع بها حريق عند كنيسة مريم فنهض بنفسه إليه ومعه أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الحافظ الدمشقي، وكاتبه أبو عبد الله أحمد بن محمد الواسطي، فأمر كاتبه أن يخرج من ماله سبعين ألف دينار تصرف إلى أهل الدور والاموال التي أحرقت.
فصرف إليهم جميع قيمة ما ذكره وبقي أربعة عشر ألف دينار فاضلة عن ذلك، فأمر بها أن توزع عليهم على قدر حصصهم، ثم أمر بمال عظيم يفرق على فقراء دمشق وغوطتها، فأقل ما حصل للفقير دينار.
رحمه الله.
ثم خرج إلى إنطاكية فحاصر بها صاحبها سيما حتى قتله (2) وأخذ البلد كما ذكرنا.
توفي بمصر في أوائل ذي القعدة من هذه السنة من علة أصابته من أكل لبن الجواميس كان يحبه
__________
(1) في الكندي الولاة ص 245 وابن الاثير ومروج الذهب 4 / 239: ماجور.
(2) في مروج الذهب 4 / 240 وولاة الكندي ص 246: محرم سنة 265 (*).

(11/54)


فأصابه بسببه ذرب فكاواه الاطباء وأمروه أن يحتمي منه فلم يقبل منهم، فكان يأكل منه خفية فمات رحمه الله.
وقد ترك من الاموال والاثاث والدواب شيئا كثيرا جدا، من ذلك عشرة آلاف ألف دينار، ومن الفضة شيئا كثيرا، وكان له ثلاثة وثلاثون ولدا، منهم سبعة عشر ذكرا، فقام بالامر من بعده ولده خمارويه كما سيأتي ما كان من أمره.
وكان له من الغلمان سبعة آلاف مولى، ومن البغال والخيل والجمال نحو سبعين ألف دابة، وقيل أكثر من ذلك.
قال ابن خلكان: وإنما تغلب على البلاد لاشتغال الموفق بن المتوكل بحرب صاحب الزنج، وقد كان الموفق نائب أخيه المعتمد.
وفيها توفي أحمد بن عبد الكريم بن سهل الكاتب صاحب كتاب الخراج.
قاله ابن خلكان.
وأحمد بن عبد الله بن البرقي (1).
وأسيد بن عاصم الجمال (2).
وبكار بن قتيبة المصري (3) في ذي الحجة من هذه السنة...والحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان في رجب منها، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام، وقام من بعده بالامر أخوه محمد بن زيد.
وكان الحسن بن زيد هذا كريما جوادا يعرف الفقه والعربية، قال له مرة شاعر من الشعراء في جملة قصيدة مدحه بها: الله فرد وابن زيد فرد.
فقال له: اسكت سد الله فاك، ألا قلت: الله فرد وابن زيد عبد.
ثم نزل عن سريره وخر لله ساجدا وألصق خده بالتراب ولم يعط ذلك الشاعر شيئا.
وامتدحه بعضهم في أول قصيدة: لا تقل بشرى ولكن بشريان * غرة الداعي ويوم المهرجان (4) فقال له الحسن: لو ابتدأت بالمصراع الثاني كان أحسن، وأبعد لك أن تبتدئ شعرك بحرف " لا ".
فقال له الشاعر: ليس في الدنيا أجل من قول لا إله إلا الله.
فقال: أصبت وأمر له بجائزة سنية.
والحسن بن علي بن عفان العامري (5).
__________
(2) أبو بكر الزهري المصري، الحافظ.
كان حافظا عمدة قاله ابن ناصر الدين.
(2) صنف المسند وسمع من سعيد بن عامر الضبعي وطبقته.
(3) قاضي الديار المصرية سمع أبا داود الطيالسي وأقرانه.
(4) البيت لابي مقاتل الضرير واسمه نصر بن نصر الحلواني الشاعر (تاريخ طبرستان ومعاهد التنصيص) والمهرجان - بكسر الميم - عيد من أعياد الفرس ومعناه محبة الروح وكان يحتفل به في دولة بني العباس حتى من غير الفرس.
(5) أبو محمد العامري الكوفي روى عن عبد الله بن نمير وأبي أسامة وعدة.
قال أبو حاتم: صدوق.
مات في صفر (*).

(11/55)


وداود بن علي الاصبهاني ثم البغدادي الفقيه الظاهري إمام أهل الظاهر، روى عن أبي ثور وإبراهيم بن خالد وإسحاق بن راهويه وسليمان بن حرب وعبد الله بن سلمة القعنبي ومسدد بن سرهد، وغير واحد.
روى عنه ابنه الفقيه أبو بكر بن داود، وزكريا بن يحيى الساجي.
قال الخطيب: كان فقيها زاهدا وفي كتبه حديث كثير دال على غزارة علمه، كانت وفاته ببغداد في هذه السنة، وكان مولده في سنة مائتين.
وذكر أبو إسحاق السير امي في طبقاته أن أصله من أصبهان وولد بالكوفة، ونشأ ببغداد وأنه انتهت إليه رياسة العلم بها، وكان يحضر مجلسه أربعمائة طيلسان أخضر، وكان من المتعصبين للشافعي، وصنف مناقبه.
وقال غيره: كان حسن الصلاة كثير الخشوع فيها والتواضع.
قال الازدي ترك حديثه ولم يتابع الازدي على ذلك، ولكن روى عن الامام أحمد أنه تكلم فيه بسبب كلامه في القرآن، وأن لفظه به مخلوق كما نسب ذلك إلى الامام البخاري رحمهما الله.
قلت: وقد كان من الفقهاء المشهورين ولكن حصر نفسه بنفيه للقياس الصحيح فضاق بذلك ذرعه في أماكن كثيرة من الفقه، فلزمه القول بأشياء قطعية صار إليها بسبب اتباعه الظاهر المجرد من غير تفهم لمعنى النص.
وقد اختلف الفقهاء القياسيون بعده في الاعتداد بخلافه هل ينعقد الاجماع بدونه مع خلافه أم لا ؟ على أقوال ليس هذا موضع بسطها.
وفيها توفي الربيع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي وقد ترجمناه في طبقات الشافعية.
والقاضي بكار بن قتيبة الحاكم بالديار المصرية من سنة ست وأربعين ومائتين إلى أن توفي مسجونا بحبس أحمد بن طولون لكونه لم يخلع الموفق في سنة سبعين، وكان عالما عابدا زاهدا كثير التلاوة والمحاسبة لنفسه، وقد شغر منصب القضاء بعده بمصر ثلاث سنين.
وابن قتيبة الدينوري وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضيها، النحوي اللغوي صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة نافعة، اشتغل ببغداد وسمع بها الحديث على إسحاق بن راهويه،
وطبقته، وأخذ اللغة عن أبي حاتم السجستاني وذويه، وصنف وجمع وألف المؤلفات الكثيرة: منها كتاب المعارف، وأدب الكاتب الذي شرحه أبو محمد بن السيد البطليوسي، وكتاب مشكل القرآن والحديث، وغريب القرآن والحديث، وعيون الاخبار.
وإصلاح الغلط، وكتاب الخيل، وكتاب الانوار، وكتاب المسلسل والجوابات، وكتاب الميسر والقداح، وغير ذلك.
كانت وفاته في هذه السنة، وقيل في التي بعدها.
ومولده في سنة ثلاث عشرة ومائتين، ولم يجاوز الستين.
وروى عنه ولده أحمد جميع مصنفاته.
وقد ولي قضاء مصر سنة إحدى وعشرين وثلثمائة.
وتوفي بها بعد سنة رحمهما الله.
ومحمد بن إسحاق بن جعفر الصفار (1).
ومحمد بن مسلم (2) بن وارة.
ومصعب بن أحمد أبو
__________
(1) أبو بكر الصاغاني ثم البغدادي.
وثقه الدار قطني وغيره، قال النسائي: ثقة صاحب حديث.
مات في صفر (*).

(11/56)


أحمد الصوفي كان من أقران الجنيد.
وفيها توفي ملك الروم ابن الصقلبية لعنه الله.
وفيها ابتدأ إسماعيل بن موسى ببناء مدينة لارد (1) من بلاد الاندلس.
ثم دخلت سنة مائتين وإحدى وسبعين فيها عزل الخليفة عمرو بن الليث عن ولاية خراسان وأمر بلعنه على المنابر، وفوض أمر خراسان إلى محمد بن طاهر، وبعث جيشا إلى عمرو بن الليث فهزمه عمرو.
وفيها كانت وقعة بين أبي العباس المعتضد بن الموفق أبي أحمد وبين خمارويه بن أحمد بن طولون، وذلك أن خمارويه لما ملك بعد أبيه بلاد مصر والشام جاءه جيش من جهة الخليفة عليهم إسحاق بن كنداج نائب الجزيرة وابن أبي الساح فقاتلوه بأرض ويترز (2) فامتنع من تسليم الشام إليهم، فاستنجدوا بأبي العباس بن الموفق، فقدم عليهم فكسر خمارويه بن أحمد وتسلم دمشق واحتازها ثم سار خلف خمارويه إلى بلاد الرملة فأدركه عند ماء (3) عليه طواحين فاقتتلوا هنالك، وكانت تسمى وقعة الطواحين، وكانت النصرة أولا لابي العباس على خمارويه فهزمه حتى هرب خمارويه لا يلوي على شئ فلم يرجع حتى دخل الديار المصرية، فأقبل أبو العباس وأصحابه على نهب معسكرهم فبينما هم كذلك إذ أقبل كمين لجيش
خمارويه وهم مشغولون بالنهب فوضعت المصريون فيهم السيوف فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وانهزم الجيش وهرب أبو العباس المعتضد فلم يرجع حتى وصل دمشق، فلم يفتح له أهلها الباب فانصرف حتى وصل إلى طرسوس وبقي الجيشان المصري والعراقي يقتتلان وليس لواحد منهما أمير.
ثم كان الظفر للمصريين لانهم أقاموا أبا العشائر أخا خمارويه عليهم أميرا، فغلبوا بسبب ذلك واستقرت أيديهم على دمشق وسائر الشام، وهذه الوقعة من أعجب الوقعات.
وفيها جرت حروب كثيرة بأرض الاندلس من بلاد المغرب.
وفيها دخل إلى المدينة النبوية محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فقتلا خلقا من أهلها وأخذا أموال جزيلة، وتعطلت الصلوات في المسجد النبوي أربع جمع لم يحضر الناس فيه جمعة ولا جماعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وجرت بمكة فتنة أخرى واقتتل الناس على باب المسجد الحرام أيضا.
وحج بالناس هارون بن موسى المتقدم.
وفيها توفي عباس بن محمد الدوري (4) تلميذ ابن معين وغيره من أئمة الجرح والتعديل.
وعبد
__________
(2) من تقريب التهذيب 2 / 207.
وتمام نسبه فيه: ابن عثمان بن عبد الله الرازي، أبو عبد الله الحافظ المجود.
قال النسائي: ثقة صاحب حديث وكان مع إمامته وعلمه فيه تعظيم لنفسه (1) في ابن الاثير 7 / 411: لاردة.
(2) في الولاة للكندي: شيزر، وهي مدينة قرب المعرة بينها وبين حماه يوم.
(3) في ولاة مصر للكندي: بنهر أبي فطرس من أرض فلسطين ويقال له اليوم الطواحين.
(4) من تقرب التهذيب، وفي الاصل الدينوري.
وهو أبو الفضل البغدادي خوارزمي الاصل (*).

(11/57)


الرحمن بن محمد بن منصور البصري (1).
ومحمد بن حماد الظهراني (2).
ومحمد بن سنان العوفي (3).
ويوسف بن مسلم (4).
وبوران زوجة المأمون زوجة المأمون.
ويقال إن اسمها خديجة وبوران لقب لها، والصحيح الاول.
عقد عليها المأمون
بفم الصلح سنة ست (5) ومائتين، ولها عشر سنين، ونثر عليها أبوها يومئذ وعلى الناس بنادق المسك مكتوب في ورقة وسط كل بندقة اسم قرية أو ملك جارية أو غلام أو فرس، فمن وصل إليه من ذلك شئ ملكه، ونثر ذلك على عامة الناس، ونثر الدنانير ونوافج المسك وبيض العنبر.
وأنفق على المأمون وعسكره مدة إقامته تلك الايام خمسين ألف ألف درهم.
فلما ترحل المأمون عنه أطلق له عشرة آلاف ألف درهم وأقطعه فم الصلح.
وبنى بها في سنة عشر.
فلما جلس المأمون فرشوا له حصرا من ذهب ونثروا على قدميه ألف حبة جوهر، وهناك تور من ذهب فيه شمعة من عنبر زنة أربعين منا من عنبر، فقال: هذا سرف، ونظر إلى ذلك الحب على الحصر يضئ فقال: قاتل الله أبا نواس حيث يقول في صفة الخمر: كأن صغري وكبرى من فقاقعها * حصباء در على أرض من الذهب ثم أمر بالدر فجمع فجعل في حجر العروس وقال: هذا نحلة مني لك، وسلي حاجتك.
فقالت لها جدتها: سلي سيدك فقد استنطقك.
فقالت: أسأل أمير المؤمنين أن يرضى عن إبراهيم بن المهدي فرضي عنه.
ثم أراد الاجتماع بها فإذا هي حائض، وكان ذلك في شهر رمضان، وتأخرت وفاتها إلى هذه السنة ولها ثمانون سنة.
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين ومائتين في جمادى الاولى منها سار نائب قزوين وهو ارلزنكيس (6) في أربعة آلاف مقاتل إلى محمد بن زيد
__________
(1) أبو سعيد صاحب يحيى القطان فيه لين.
مات يوم الاضحى (شذرات 2 / 161).
(2) حدث بمصر والشام والعراق وكان ثقة عارفا نبيلا.
(3) بصري نزيل بغداد.
قال الدار قطني: لا بأس به.
وقال أبو داود: يكذب.
وقال في التقريب: ضعيف.
(4) أبو يعقوب محدث المصيصة.
قال النسائي: ثقة.
وقال ابن ناصر الدين: أحد الحفاظ المعتمدين والايقاظ الصدوقين.
(5) في مروج الذهب 4 / 35: تسع ومائتين.
وفي الطبري 10 / 271: سنة 210 ه.
وقال: 10 / 251: وتزوج المأمون بوران سنة 202: أي عقد الزواج في تلك السنة وبنى بها سنة 210 ه.
(6) في ابن الاثير 7 / 418: أذكوتكين (*).

(11/58)


العلوي صاحب طبرستان بعد أخيه الحسين بن زيد، وهو بالري، في جيش عظيم من الديلم وغيرهم، فاقتتلوا قتالا شديدا فهزمه ارلزنكيس وغنم ما في معسكره، وقتل من أصحابه ستة آلاف، ودخل الري فأخذها وصادر أهلها في مائة ألف دينار وفرق عماله في نواحي الري.
وفيها وقع بين أبي العباس بن الموفق وبين صاحب ثغر طرسوس وهو يا زمان الخادم فثار أهل طرسوس على أبي العباس فأخرجوه عنهم فرجع إلى بغداد.
وفيها دخل حمدان بن حمدون وهارون الشاري مدينة الموصل وصلى بهم الشاري في جامعها الاعظم.
وفيها عاثت بنو شيبان في أرض الموصل فسادا.
وفيها تحركت بقية الزنج في أرض البصرة ونادوا: يا انكلاي يا منصور.
وانكلاي هو ابن صاحب الزنج، وسليمان بن جامع وأبان بن علي المهلبي، وجماعة من وجوههم كانوا في جيش الموفق فبعث إليهم فقتلوا وحملت رؤوسهم إليه، وصلبت أبدانهم ببغداد، وسكنت شرورهم.
وفيها صلح أمر المدينة النبوية وتراجع الناس إليها.
وفيها جرت حروب كثيرة ببلاد الاندلس وأخذت الروم من المسلمين بالاندلس بلدين عظيمين فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها قدم صاعد بن مخلد الكاتب من فارس إلى واسط فأمر الموفق القواد أن يتلقوه فدخل في أبهة عظيمة، ولكن ظهر منه تيه وعجب شديد، فأمر الموفق عما قريب بالقبض عليه وعلى أهله وأمواله، واستكتب مكانه أبا الصقر إسماعيل بن بلبل.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق المتقدم منذ دهر.
وفيها توفي من الاعيان إبراهيم بن الوليد بن الحسحاس (1).
وأحمد بن عبد الجبار بن محمد بن عطارد العطاردي التميمي راوي السيرة عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق بن يسار وغير ذلك.
وأبو عتبة الحجازي (2).
وسليمان بن سيف (3).
وسليمان بن وهب الوزير في حبس الموفق.
وشعبة بن بكار يروي عن أبي عاصم النبيل.
ومحمد بن صالح بن عبد الرحمن الانماطي، ويلقب بمكحلة (4)، وهو من تلاميذ يحيى بن معين.
ومحمد بن عبد الوهاب الفراء (5).
ومحمد بن عبيد المنادي (6).
ومحمد بن عوف الحمصي (7).
وأبو معشر المنجم واسمه جعفر بن محمد البلخي أستاذ عصره في صناعة التنجيم، وله فيه التصانيف المشهورة،
__________
(1) في ابن الاثير: الخشخاش.
(2) واسمه أحمد بن الفرج روى عن بقية وجماعة.
قال ابن عدي: هو وسط ليس بحجة.
(3) الطائي مولاهم الحراني أبو داود.
ثقة.
قال في العبر: محدث حران وشيخها.
(4) في المغني وتقريب التهذيب: كيلجة، وفي ابن الاثير 7 / 421: كنجلة.
(5) النيسابوري الفقيه الاديب أحد أوعية العلم سمع حفص بن عبد الله وجعفر بن عون والكبار، وثقه مسلم.
(6) أبو جعفر، المحدث سمع حفص بن غياث واسحاق الازرق مات في رمضان ببغداد وله مائة سنة.
(7) أبو جعفر الطائي الحافظ، محدث حمص، كان من أئمة الحديث (*).

(11/59)


كالمدخل والزنج والالوف وغيرها.
وتكلم على ما يتعلق بالتيسير والاحكام.
قال ابن خلكان: وله إصابات عجيبة، منها أن بعض الملوك تطلب رجلا وأراد قتله فذهب ذلك الرجل فاختفى وخاف من أبي معشر أن يدل عليه بصنعة التنجيم، فعمد إلى طست فملاه دما ووضع أسفله هاونا وجلس على ذلك الهاون، فاستدعى الملك أبا معشر وأمره أن يظهر هذا الرجل، فضرب رمله وحرره ثم قال: هذا عجيب جدا، هذا الرجل جالس على جبل من ذهب في وسط بحر من دم، وليس هذا في الدنيا.
ثم أعاد الضرب فوجده كذلك، فتعجب الملك من ذلك ونادى في البلد في أمان ذلك الرجل المذكور فلما مثل بين يدي الملك سأله أين أختفى ؟ فأخبره بأمره فتعجب الناس من ذلك.
والظاهر أن الذي نسب إلى جعفر بن محمد الصادق من على الرجز، والطرف واختلاج الاعضاء إنما هو منسوب إلى جعفر بن أبي معشر هذا، وليس بالصادق وإنما يغلطون.
والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين فيها وقع بين إسحاق بن كنداج نائب الموصل وبين صاحبه ابن أبي الساج نائب قنسرين وغيرها بعد ما كانا متفقين، وكاتب ابن أبي الساج خمارويه صاحب مصر، وخطب له ببلاده وقدم خمارويه إلى
الشام فاجتمع به ابن أبي الساج (1) ثم سار إلى إسحاق بن كنداج فتواقعا فانهزم كنداج وهرب إلى قلعة ماردين، فجاء فحاصره بها ثم ظهر أمر ابن أبي الساج واستحوذ على الموصل والجزيرة وغيرها، وخطب بها لخمارويه واستفحل أمره جدا.
وفيها قبض الموفق على لؤلؤ غلام ابن طولون وصادره بأربعمائة ألف دينار، وسجنه فكان يقول ليس لي ذنب إلا كثرة مالي، ثم أخرج بعد ذلك من السجن وهو فقير ذليل، فعاد إلى مصر في أيام هارون بن خمارويه، ومعه غلام واحد فدخلها على برذون.
وهذا جزاء من كفر نعمة سيده.
وفيها عدا أولاد ملك الروم على أبيهم فقتلوه وملكوا أحد أولاده، وفيها كانت وفاة :
محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الاموي صاحب الاندلس عن خمس وستين سنة.
وكانت ولايته أربعا وثلاثين سنة وأحد عشر شهرا، وكان أبيض مشربا بحمرة ربعة أوقص يخضب بالحناء والكتم، وكان عاقلا لبيبا يدرك الاشياء المشتبهة، وخلف ثلاثا وثلاثين ذكرا، وقام بالامر بعده ولده المنذر فأحسن إلى الناس وأحبوه.
وفيها كانت وفاة :
خلف بن أحمد بن خالد الذي كان أمير خراسان في حبس المعتمد، وهذا الرجل هو الذي أخرج البخاري محمد بن
__________
(1) اجتمعا ببالس كما في ابن الاثير 7 / 422 (*).

(11/60)


إسماعيل من بخارى وطرده عنها، فدعا عليه البخاري فلم يفلح بعدها، ولم يبق في الامرة إلا أقل من شهر حتى احتيط عليه وعلى أمواله وأركب حمارا ونودي عليه في بلده ثم سجن من ذلك الحين فمكث في السجن حتى مات في هذه السنة، وهذا جزاء من تعرض لاهل الحديث والسنة.
وممن توفي فيها أيضا إسحاق من يسار (1)، وحنبل بن إسحاق عم الامام أحمد بن حنبل، وهو أحد الرواة المشهورين عنه، على أنه قداتهم في بعض ما يرويه ويحكيه.
وأبو أمية الطرسوسي (2).
وأبو الفتح بن شخرف (3) أحد مشايخ الصوفية، وذي الاحوال والكرامات والكلمات النافعات.
وقد
وهم ابن الاثير في قوله في كامله: إن أبا داود صاحب السنن توفي في هذه السنة، وإنما توفي سنة خمس وسبعين كما سيأتي.
وفيها توفي:
ابن ماجه القزويني صاحب السنن
وهو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه صاحب كتاب السنن المشهورة، وهي دالة على عمله وعلمه وتبحره واطلاعه واتباعه للسنة في الاصول والفروع، ويشتمل على اثنين وثلاثين كتابا، وألف خمسمائة باب، وعلى أربعة آلاف حديث كلها جياد سوى اليسيرة.
وقد حكي عن أبي زرعة الرازي أنه انتقد منها بضعة عشر حديثا.
ربما يقال إنها موضوعة أو منكرة جدا، ولابن ماجه تفسير حافل وتاريخ كامل من لدن الصحابة إلى عصره، وقال أبو يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني: أبو عبد الله بن محمد بن يزيد بن ماجه، ويعرف يزيد بماجه مولى ربيعة، كان عالما بهذا الشأن صاحب تصانيف، منها التاريخ والسنن، ارتحل إلى العراقين ومصر والشام، ثم ذكر طرفا من مشايخه، وقد ترجمناهم في كتابنا التكميل ولله الحمد والمنة.
قال: وقد روى عنه الكبار القدماء: ابن سيبويه ومحمد بن عيسى الصفار، وإسحاق بن محمد وعلي بن إبراهيم بن سلمة القطان، وجدي أحمد بن إبراهيم، وسليمان بن يزيد.
وقال غيره: كانت وفاة ابن ماجه يوم الاثنين ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين عن أربع وستين سنة، وصلى عليه أخوه أبو بكر تولى دفنه مع أخيه الآخر أبي عبد الله وابنه عبد الله بن محمد بن يزيد رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائتين فيها نشبت الحرب بين أبي أحمد الموفق وبين عمرو بن الليث بفارس فقصده أبو أحمد فهرب منه
__________
(1) محدث نصيبين سمع أبا عاصم وطبقته مات في ذي الحجة.
في شذرات الذهب ذكره: ابن سيار.
(2) واسمه محمد بن إبراهيم بن مسلم الحافظ.
سمع عبد الوهاب بن عطاء وشبابة وطبقتهما.
ثقة.
(3) في ابن الاثير: الفتح بن شحرق، أبو داود الكشي، وفي صفة الصفوة: فتح بن شحرف بن داود بن مزاحم أبو نصر الكشي (*).

(11/61)


عمرو من بلد إلى بلد، وتتبعه ولم يقع بينهما قتال ولا مواجهة، وقد تحيز إلى الموفق مقدم جيش عمرو بن الليث، وهو أبو طلحة شركب الجمال، ثم أراد العود فقبض عليه الموفق وأباح ماله لولده أبي العباس المعتضد، وذلك بالقرب من شيراز وفيها غزا يا زمان (1) الخادم نائب طرسوس بلاد الروم فأوغل فيها فقتل وغنم وسلم.
وفيها دخل صديق الفرغاني سامرا فنهب دور التجار بها وكر راجعا، وقد كان هذا الرجل ممن يحرس الطرقات فترك ذلك وأقبل يقطع الطرقات، وضعف الجند بسامرا عن مقاومته.
وفيها توفي من الاعيان إبراهيم بن أحمد بن يحيى أبو إسحاق، قال ابن الجوزي في المنتظم: كان حافظا فاضلا، روى عن حرملة وغيره، توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
إسحاق بن إبراهيم بن زياد أبو يعقوب المقري توفي في ربيع الاول منها.
أيوب بن سليمان بن داود الصغدي يروي عن آدم بن إياس، وعن ابن صاعد وابن السماك، وكان ثقة توفي في رمضان منها: الحسن بن مكرم بن حسان بن علي البزار، يروي عن عفان وأبي النضر ويزيد بن هارون وغيرهم، وعنه المحاملي وابن مخلد والبخاري، وكان ثقة.
توفي في رمضان منها عن ثلاث وسبعين سنة.
خلف بن محمد بن عيسى أبو الحسين الواسطي الملقب بكردوس (2)، يروى عن يزيد بن هارون وغيره، وعنه المحاملي وابن مخلد.
قال ابن أبي حاتم: صدوق، وقال الدار قطني ثقة.
توفي في ذي الحجة منها، وقد نيف عن الثمانين.
عبد الله بن روح بن عبيد الله بن أبي محمد المدائني المعروف بعيدروس، يروي عن شبابة ويزيد بن هارون، وعنه المحاملي وابن السماك وأبو بكر الشافعي، وكان من الثقات.
توفي في جمادى الآخرة منها.
عبد الله بن أبي سعيد أبو محمد الوراق أصله من بلخ وسكن بغداد، وروى الحديث عن شريح بن يونس وعفان وعلي بن الجعد وغيرهم، وعنه ابن أبي الدنيا والبغوي والمحاملي وكان ثقة صاحب أخبار وآداب وملح، توفي بواسط في جمادى الآخرة منها عن سبع وسبعين سنة.
محمد بن إسماعيل بن زياد أبو عبد الله، وقيل أبو بكر الدولابي، سمع أبا النظر وأبا اليمان وأبا مسهر، وعنه أبو الحسين المنادي ومحمد بن مخلد وابن السماك وكان ثقة.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائتين في المحرم منها وقع الخلاف بين ابن أبي الساج وبين خمارويه فاقتتلا عند ثنية العقاب شرقي
دمشق فقهر خمارويه لابن أبي الساج وانهزم، وكانت له حواصل بحمص فبعث خمارويه من سبقه إليها فأخذها ومنع منه حمص فذهب إلى حلب فمنعه خمارويه فسار إلى الرقة فاتبعه، فذهب إلى الموصل ثم انهزم منها خوفا من خمارويه ووصل خمارويه إليها واتخذ بها سريرا طويل القوائم، فكان يجلس عليه في الفرات.
فعند ذلك طمع فيه ابن كنداج فسار وراءه ليظفر بشئ فلم يقدر، وقد التقيا في بعض الايام
__________
(1) في ابن الاثير 7 / 427: بازمار.
(2) في تبصير المنتبه: كردس (*).

(11/62)


فصبر له ابن أبقي الساج صبرا عظيما، فسلم وانصرف إلى الموفق ببغداد فأكرمه وخلع عليه واستصحبه معه إلى الجبل، ورجع إسحاق بن كنداج إلى ديار بكر من الجزيرة.
وفيها في شوال منها سجن أبو أحمد الموفق ولده أبا العباس المعتضد في دار الامارة، وكان سبب ذلك أنه أمره بالمسير إلى بعض الوجوه فامتنع أن يسير إلا إلى الشام التي ولاه إياها عمه المعتضد، وأمر بسجنه فثارت الامراء واختبطت بغداد فركب الموفق إلى بغداد وقال للناس: أتظنون أنكم على ولدي أشفق مني ؟ فسكن الناس عند ذلك ثم أفرج عنه.
وفيها سار رافع (1) إلى محمد بن زيد العلوي فأخذ منه مدينة جرجان فهرب إلى استراباذ فحصره بها سنين فغلا بها السعر حتى بيع الملح بها وزن درهم بدرهمين، فهرب منها ليلا إلى سارية فأخذ منه رافع بلادا كثيرة بعد ذلك في مدة متطاولة.
وفي المحرم منها أو في صفر كانت وفاة المنذر بن محمد بن عبد الرحمن الاموي صاحب الاندلس عن ست وأربعين سنة.
وكانت ولايته سنة وأحد عشر يوما (2)، وكان أسمر طويلا بوجهه أثر جدري، جوادا ممدحا يحب الشعراء ويصلهم بمال كثير، ثم قام بالامر من بعده أخوه محمد فامتلات بلاد الاندلس في أيامه فتنا وشرا حتى هلك كما سيأتي.
وفيها توفي من الاعيان أبو بكر أحمد بن محمد الحجاج المروزي صاحب الامام أحمد، كان من الاذكياء، كان أحمد يقدمه على جميع أصحابه ويأنس به ويبعثه في الحاجة ويقول له: قل ما شئت.
وهو الذي أغمض الامام أحمد وكان فيمن غسله، وقد نقل عن أحمد مسائل كثيرة وحصلت له رفعة عظيمة
مع أحمد حين طلب إلى سامرا ووصل بخمسين ألفا فلم يقبلها.
أحمد بن محمد بن غالب بن خالد بن مرداس أبو عبد الله الباهلي البصري المعروف بغلام خليل، سكن بغداد، روى عن سليمان بن داود الشاذكوني وشيبان بن فروخ وقرة بن حبيب وغيرهم، وعنه ابن السماك وابن مخلد وغيرهما، وقد أنكر عليه أبو حاتم وغيره أحاديث رواها منكرة عن شيوخ مجهولين.
قال أبو حاتم: ولم يكن ممن يفتعل الحديث، كان رجلا صالحا.
وكذبه أبو داود وغير واحد.
وروى ابن عدي عنه أنه اعترف بوضع الحديث ليرقق به قلوب الناس، وكان عابدا زاهدا يقتات الباقلاء الصرف، وحين مات أغلقت أسواق بغداد وحضر الناس جنازته والصلاة عليه ثم جعل في زورق وشيع إلى البصرة فدفن بها في رجب من هذه السنة.
وأحمد بن ملاعب، روى عن يحيى بن معين وغيره، وكان ثقة دينا عالما فاضلا، انتشر به كثير من الحديث.
وأبو سعيد الحسن بن الحسين بن عبد الله بن الكبري (3) النحوي اللغوي، صاحب التصانيف.
إسحاق بن إبراهيم بن هانئ أبو يعقوب النيسابوري، كان من أخصاء أصحاب الامام
__________
(1) وهو رافع بن هرثمة.
(2) في ابن الاثير 7 / 435: سنة وأحد عشر شهرا وعشرة أيام.
(3) من ابن الاثير 7 / 435، وفي الاصل: السكري (*).

(11/63)


أحمد، وعنده اختفى أحمد في زمن المحنة.
وعبد الله بن يعقوب بن إسحاق التميمي العطار الموصلي.
قال ابن الاثير: كان كثير الحديث معدلا عند الحكام.
ويحيى بن أبي طالب.
وأبو داود السجستاني صاحب السنن
اسمه سليمان بن الاشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن يحيى بن عمران أبو داود السجستاني أحد أئمة الحديث الرحالين إلى الآفاق في طلبه، جمع وصنف وخرج وألف وسمع الكثير من مشايخ البلدان في الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان وغير ذلك، وله السنن المشهورة المتداولة بين العلماء، التي قال فيها أبو حامد الغزالي: يكفي المجتهد معرفتها من الاحاديث النبوية.
حدث عنه جماعة منهم ابنه أبو بكر عبد الله وأبو عبد الرحمن النسائي وأحمد بن سليمان النجار، وهو آخر من روى عنه في الدنيا.
سكن أبو داود البصرة وقدم بغداد غير مرة وحدث بكتاب السنن بها، ويقال إنه صنفه بها وعرضه على الامام أحمد فاستجاده واستحسنه وقال الخطيب: حدثني أبو بكر محمد بن علي بن إبراهيم القاري الدينوري من لفظه، قال سمعت أبا الحسين محمد بن عبد الله بن الحسن القرصي قال سمعت أبا بكر بن داسة يقول: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته كتاب السنن، جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الانسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث، قوله عليه السلام " إنما الاعمال بالنيات " (1).
الثاني قوله " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " (2).
الثالث قوله " لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لاخيه ما يرضاه لنفسه " الرابع قوله: " الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات " (3).
وحدثت عن عبد العزيز بن جعفر الحنبلي أن أبا بكر الخلال قال: أبو داود سليمان بن الاشعث السجستاني الامام المقدم في زمانه رجل لم يسبقه إلى معرفة تخريج العلوم وبصره بمواضعها أحد من أهل زمانه، رجل ورع مقدم قد سمع منه أحمد بن حنبل حديثا واحدا كان أبو داود يذكره، وكان أبو بكر الاصبهاني وأبو بكر بن صدقة يرفعان من قدره ويذكرانه بما لا يذكران أحدا في زمانه بمثله.
قلت: الحديث الذي كتبه عنه وسمعه منه الامام أحمد بن حنبل هو ما رواه أبو داود من حديث حماد بن سلمة، عن أبي معشر الدارمي عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن العتيرة فحسنها ".
وقال
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الوحي (1) وفي العتق (6) وفي مناقب الانصار باب (45) وفي الطلاق ومسلم في الامارة ح (155).
وأبو داود في الطلاق باب (11) والنسائي في الطهارة والطلاق والايمان.
وابن ماجه في الزهد.
باب (26).
(2) أخرجه الترمذي في الزهد (11) وابن ماجه في الفتن (12) ومالك في الموطأ في حسن الخلق.
والامام أحمد في المسند 1 / 201.
(3) تقدم تخريجه (*)

(11/64)


إبراهيم الحربي وغيره: ألين لابي داود الحديث كما ألين لداود الحديد.
وقال غيره: كان أحد حفاظ الاسلام للحديث وعلله وسنده.
وكان في أعلا درجة النسك والعفاف والصلاح والورع من فرسان الحديث.
وقال غيره: كان ابن مسعود يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله وسمته، وكان علقمة يشبهه، وكان إبراهيم يشبه علقمة، وكان منصور يشبه إبراهيم، وكان سفيان يشبه منصور، وكان وكيع يشبه سفيان كان أحمد يشبه وكيعا،، وكان أبو داود يشبه أحمد بن حنبل.
وقال محمد بن بكر بن عبد الرزاق: كان لابي داود كم واسع وكم ضيق فقيل له: ما هذا يرحمك الله ؟ فقال: هذا الواسع للكتب والآخر لا يحتاج إليه.
وقد كان مولد أبي داود في سنة ثنتين ومائتين، وتوفي بالبصرة يوم الجمعة لاربع عشرة بقيت من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين عن ثلاث وسبعين سنة، ودفن إلى جانب قبر سفيان الثوري.
وقد ذكرنا ترجمته في التكميل وذكرنا ثناء الائمة عليه.
وفيها توفي محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن العنبس الضميري (1) الشاعر، كان دينا كثير الملح، وكان هجاء، ومن جيد شعره قوله: كم عليل عاش من بعد يأس * بعد موت الطبيب والعواد قد تصاد القطا فتنجو سريعا * ويحل البلاء بالصياد ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائتين في المحرم منها أعيد عمرو بن الليث إلى الشرطة بغداد وكتب اسمه على الفرش والمقاعد والستور ثم أسقط اسمه عن ذلك وعزل وولي عبيد الله بن طاهر (2).
وفيها ولي الموفق لابن أبي الساج نيابة أذربيجان.
وفيها قصد هارون الشاري الخارجي مدينة الموصل فنزل شرقيها فحاصرها فخرج إليه أهلها فأستأمنوه فأمنهم ورجع عنهم.
وفيها حج بالناس هارون بن محمد العباسي أمير الحرمين والطائف، ولما رجع حجاج اليمن نزلوا في بعض الاماكن فجاءهم سيل لم يشعروا به ففرقهم كلهم لم يفلت منهم أحد فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وذكر ابن الجوزي في منتظمه وابن الاثير في كامله أن في هذه
السنة انفرج تل بنهر الصلة في أرض البصرة يعرف بتل بني شقيق عن سبعة أقبر في مثل الحوض، وفيها سبعة أبدان صحيحة أجسادهم وأكفانهم يفوح منهم ريح المسك، أحدهم شاب وله جمة وعلى شفته بلل كأنه قد شرب ماء الآن، وكأن عينيه مكحلتان وبه ضربة في خاصرته، وأراد أحدهم أن
__________
(1) في الاعلام 6 / 28: الصيمري.
(2) في الطبري 11 / 334 وابن الاثير 7 / 436: ولي عبيد الله شرطة بغداد من قبل عمرو بن الليث وذلك في ربيع الاخر.
وبعد ذلك طرح اسم عمرو عن المطارد والاعلام والترسة وكان ذلك في شهر شوال من هذه السنة (*).

(11/65)


يأخذ من شعره شيئا فإذا هو قوي الشعر كأنه حي فتركوا على حالهم.
وممن توفي فيها من الاعيان أحمد بن حازم بن أبي عزرة الحافظ صاحب المسند المشهور له حديث كثير وروايته عالية.
وفيها توفي: بقي بن مخلد أبو عبد الرحمن الاندلسي الحافظ الكبير، له المسند المبوب على الفقه، روى فيه عن ألف وستمائة صحابي، وقد فضله ابن حزم على مسند الامام أحمد بن حنبل، وعندي في ذلك نظر، والظاهر أن مسند أحمد أجود منه وأجمع.
وقد رحل بقي إلى العراقي فسمع من الامام أحمد وغيره من أئمة الحديث بالعراق وغيرها يزيدون على المائتين بأربعة وثلاثين شيخا، وله تصانيف أخر، وكان مع ذلك رجلا صلاحا عابدا زاهدا مجاب الدعوة، جاءته امرأة فقالت: إن ابني قد أسرته الافرنج، وإني لا أنام الليل من شوقي إليه، ولي دويرة أريد أن أبيعها لاستفكه، فإن رأيت أن تشير على أحد يأخذها لا سعى في فكاكه بثمنها، فليس يقر لي ليل ولا نهار، ولا أجد نوما ولا صبرا ولا قرارا ولا راحة.
فقال: نعم انصرفي حتى أنظر في ذلك إن شاء الله.
وأطرق الشيخ وحرك شفتيه يدعو الله عز وجل لولدها بالخلاص من أيدي الفرنج، فذهبت المرأة فما كان إلا قليلا حتى جاءت الشيخ وابنها معها فقالت: اسمع خبره يرحمك الله.
فقال.
كيف كان أمرك ؟ فقال: إني كنت فيمن نخدم الملك ونحن
في القيود، فبينما أنا ذات يوم أمشي إذ سقط القيد من رجلي، فأقبل علي الموكل بي فشتمني وقال لم أزلت القيد من رجليك ؟ فقلت: لا والله ما شعرت به ولكنه سقط ولم أشعر به، فجاؤوا بالحداد فأعادوه وأجادوه وشدوا مسماره وأبدوه، ثم قمت فسقط أيضا فأعادوه وأكدوه فسقط أيضا، فسألوا رهبانهم عن سبب ذلك فقالوا: له والدة ؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنها قد دعت لك وقد استجيب دعاؤها أطلقوه، فأطلقوني وخفروني حتى وصلت إلى بلاد الاسلام.
فسأله بقي بن مخلد عن الساعة التي سقط فيها القيد من رجليه فإذا هي الساعة التي دعا فيها الله له ففرج عنه.
صاعد بن مخلد الكاتب كان كثير الصدقة والصلاة وقد أثنى عليه أبو الفرج بن الجوزي وتكلم فيه ابن الاثير في كامله، وذكر أنه كان فيه تيه وحمق (1)، وقد يمكن الجمع بين القولين والصفتين.
ابن قتيبة وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ثم البغدادي، أحد العلماء والادباء والحفاظ الاذكياء وقد تقدمت ترجمته، وكان ثقة نبيلا، وكان أهل العلم يتهمون من لم يكن في منزله شئ من تصانيفه،
__________
(1) ابن الاثير في حوادث سنة 272.
وذكر المسعودي: انه نمي إلى الموفق ما هو عليه من التجبر فقال القطربلي الكاتب فيه: مروج الذهب 4 / 237: تكفهر لما طغى * ودان بدين العجم وأصبح في خفة * وفي رانة محتجم (*)

(11/66)


وكان سبب وفاته أنه أكل لقمة من هريسة فإذا هي حارة فصاح صيحة شديدة ثم أغمي عليه إلى وقت الظهر ثم أفاق ثم لم يزل يشهد أن لا إله إلا الله إلى أن مات وقت السحر أول ليلة من رجب من هذه السنة، وقيل إنه توفي في سنة سبعين ومائتين، والصحيح في هذه السنة.
عبد الملك بن محمد بن عبد الله أبو قلابة الرقاشي (1)، أحد الحفاظ، كان يكنى بأبي محمد، ولكن غلب عليه لقب أبو قلابة، سمع يزيد بن هارون وروح بن عبادة وأبا داود الطيالسي وغيرهم، وعنه ابن صاعد والمحاملي والبخاري وأبو بكر الشافعي وغيرهم، وكان صدوقا عابدا يصلي في كل يو أربعمائة ركعة، روى من حفظه ستين ألف حديث غلط في بعضها على سبيل العمد، كانت وفاته في
شوال من هذه السنة عن ست وثمانين سنة ومحمد بن أحمد بن أبي العوام ومحمد بن إسماعيل الصايغ (3).
ويزيد بن عبد الصمد (3).
وأبو الرداد المؤذن، وهو عبد الله بن عبد السلام بن عبيد الرداد المؤذن صاحب المقياس بمصر، الذي هو مسلم إليه وإلى ذريته إلى يومنا هذا.
قاله ابن خلكان.
والله أعلم.