البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائتين فيها خطب يا زمان نائب طرسوس لخمارويه، وذلك أنه هاداه بذهب كثير وتحف هائلة (5).
وفيها قدم جماعة من أصحاب خمارويه إلى بغداد.
وفيها ولي المظالم ببغداد يوسف بن يعقوب ونودي في الناس: من كانت له مظلمة ولو عند الامير الناصر لدين الله الموفق، أو عند أحد من الناس فليحضر.
وسار في الناس سيرة حسنة، وأظهر صرامة لم ير مثلها.
وحج بالناس الامير المتقدم ذكره قبل ذلك.
وفيها توفي من الاعيان إبراهيم بن صرا إسحاق بن أبي العينين.
وأبو إسحاق الكوفي قاضي بغداد بعد ابن سماعة، سمع معلى بن عبيد وغيره، وحدث عنه ابن أبي الدنيا وغيره توفي عن ثلاث وتسعين سنة، وكان ثقة فاضلا دينا صالحا.
أحمد بن عيسى أبو سعيد الخراز أحد مشاهير الصوفية بالعبادة والمجاهدة والورع والمراقبة، وله تصانيف في
__________
(1) من تقريب التهذيب 2 / 522.
وفي الاصل الرياشي.
تحريف.
(2) أبو جعفر سمع أبا أسامة وشبابة وطبقتهما.
قارب التسعين.
(3) أبو القاسم، محدث دمشق.
كان ثقة بصيرا بالحديث.
(4) في الطبري 11 / 334 وابن الاثير 7 / 439: وجه إليه خمارويه ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب و 150 دابة و 150 مطرف.
وقال الكندي في ولاة مصر: دعا إليه في شوال سنة 276 (*).

(11/67)


ذلك وله كرامات وأحوال وصبر على الشدائد، وروى عن إبراهيم بن بشار صاحب إبراهيم بن أدهم
وغيره وعنه علي بن محمد المصري وجماعة.
ومن جيد كلامه إذا بكت أعين الخائفين فقد كاتبوا الله بدموعهم.
وقال: العافية تستر البر والفاجر، فإذا نزل البلاء تبين عنده الرجال.
وقال: كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل.
وقال: الاشتغال بوقت ماض تضييع وقت حاضر.
وقال ذنوب المقربين حسنات الابرار.
وقال: الرضا قبل القضاء تفويض، والرضا مع القضاء تسليم.
وقد روى البيهقي بنسده إليه أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها " فقال يا عجبا لمن لم ير محسنا غير الله كيف لا يميل إليه بكليته ؟ قلت: وهذا الحديث ليس بصحيح، ولكن كلامه عليه من أحسن ما يكون.
وقال ابنه سعيد: طلبت من أبي دانق فضة فقال: يا بني اصبر فلو أحب أبوك أن يركب الملوك إلى بابه ما تابوا عليه.
وروى ابن عساكر عنه قال: أصابني مرة جوع شديد فهممت أن أسأل الله طعاما فقلت: هذا ينافي التوكل فهممت أن أسأله صبرا فهتف بي هاتف يقول: ويزعم أنه منا قريب * وأنا لا نضيع من أتانا ويسألنا القرى جهدا وصبرا * كأنا لا نراه ولا يرانا قال فقمت ومشيت فراسخ بلا زاد.
وقال: المحب يتعلل إلى محبوبه بكل شئ، ولا يتسلى عنه بشئ يتبع آثاره ولا يدع استخباره ثم أنشد: أسائلكم عنها فهل من مخبر * فما لي بن عمي بعد مكة لي علم فلو كنت أدري أين خيم أهلها * وأي بلاد الله إذ ظعنوا أموا إذا لسلكنا مسلك الريح خلفها * ولو أصبحت نعمى ومن دونها النجم وكانت وفاته في هذه السنة، وقيل في سنة سبع وأربعين، وقيل في سنة ست وثمانين، والاول أصح وفيها توفي عيسى بن عبد الله بن سنان بن ذكويه بن موسى الطيالسي الحافظ، تلقب رعاب، سمع عفان وأبا نعيم، وعنه أبو بكر الشافعي وغيره، ووثقه الدار قطني.
كانت وفاته في شوال منها عن أربع وثمانين سنة.
وفيها توفي: أبو حاتم الرازي
محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران أبو حاتم الحنظلي الرازي، أحد أئمة الحفاظ الاثبات العارفين بعلل الحديث والجرح والتعديل، وهو قرين أبي زرعة رحمهما الله، سمع الكثير وطاف الاقطار والامصار، وروى عن خلق من الكبار، وعنه خلق منهم الربيع بن سليمان، ويونس بن عبد الاعلى وهما أكبر منه، وقدم بغداد وحدث بها، وروى عنه من أهلها إبراهيم الحربي وابن أبي الدنيا والمحاملي وغيرهم.
قال لابنه عبد الرحمن: يا بني مشيت على قدمي في طلب الحديث.

(11/68)


أكثر من ألف فرسخ، وذكر أنه لم يكن له شئ ينفق عليه في بعض الاعيان، وأنه مكث ثلاثا لا يأكل شيئا حتى استقرض من بعض أصحابه نصف دينار، وقد أثنى عليه غير واحد من العلماء والفقهاء وكان يتحدى من حضر عنده من الحفاظ وغيرهم، ويقول: من أغرب علي بحديث واحد صحيح فله علي درهم أتصدق به.
قال: ومرادي أسمع ما ليس عندي، فلم يأت أحد بشئ من ذلك، وكان في جملة من حضر ذلك أبو زرعة الرازي.
وكانت وفاة ابن أبي حاتم في شعبان من هذه السنة محمد بن الحسن بن موسى بن الحسن أبو جعفر الكوفي الخراز المعروف بالجندي، له مسند كبير، روى عن عبيد الله بن موسى والقعنبي وأبي نعيم وغيرهم، وعنه ابن صاعد والمحاملي وابن السماك، كان ثقة صدوقا.
محمد بن سعدان أبو جعفر الرازي، سمع من أكثر من خمسمائة شيخ، ولكن لم يحدث إلا باليسير، توفي في شعبان منها.
قال ابن الجوزي: هم محمد بن سعدان البزار عن القعنبي وهو غير مشهور.
ومحمد بن سعدان النحوي مشهور.
توفي في سنة إحدى ومائتين.
قال ابن الاثير في كامله: وفيها توفي يعقوب بن سفيان بن حران الامام الفسوي، وكان يتشيع.
ويعقوب بن يوسف بن معقل الاموي مولاهم، والد أبي العباس أحمد بن الاصم.
وفيها ماتت عريب المغنية المأمونية، قيل إنها ابنة جعفر بن يحيى البرمكي.
فأما: يعقوب بن سفيان بن حران فهو أبو يوسف بن أبي معاوية الفارسي الفسوي، سمع الحديث الكثير، وروى عن أكثر من ألف شيخ من الثقات، منهم هشام بن عمار، ودحيم، وأبو المجاهر، وسليمان بن عبد الرحمن
الدمشقيان، وسعيد بن منصور وأبو عاصم، ومكي بن إبراهيم، وسليمان بن حرب، ومحمد بن كثير وعبيد الله بن موسى والقعنبي.
روى عنه النسائي في سننه وأبو بكر بن أبي داود والحسن بن سفيان وابن خراش وابن خزيمة وأبو عوانة الاسفراييني وغيرهم، وصنف كتاب التاريخ والمعرفة وغيره من الكتب المفيدة، وقد رحل في طلب الحديث إلى البلدان النائية، وتغرب عن وطنه نحو ثلاثين سنة وروى ابن عساكر عنه قال: كنت أكتب في الليل على ضوء السراج في زمن الرحلة فبينا أنا ذات ليلة إذ وقع شئ على بصري فلم أبصر معه السراج، فجعلت أبكي على ما فاتني من ذهاب بصري، وما يفوتني بسبب ذلك من كتابة الحديث، وما أنا فيه من الغربة، ثم غلبتني عيني فنمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالك ؟ فشكوت إليه ما أنا فيه من الغربة، وما فاتني من كتابة السنة.
فقال: " أدن مني، فدنوت منه فجعل يده على عيني وجعل كأنه يقرأ شيئا من القرآن ".
ثم استيقظت فأبصرت وجلست أسبح الله.
وقد أثنى عليه أبو زرعة الدمشقي والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، وقال: هو إمام أهل الحديث بفارس، وقدم نيسابور وسمع منه مشايخنا وقد نسبه بعضهم إلى التشيع.
وذكر ابن عساكر أن يعقوب بن الليث صاحب فارس بلغه عنه أنه يتكلم في عثمان بن عفان فأمر بإحضاره فقال له وزيره: أيها الامير إنه لا يتكلم في شيخنا عثمان بن عفان السجزي، إنما يتكلم في عثمان بن عفان الصحابي،

(11/69)


فقال: دعوه ما لي وللصحابي، إني إنما حسبته يتكلم في شيخنا عثمان بن عفان السجزي.
قلت: وما أظن هذا صحيحا عن يعقوب بن سفيان فإنه إمام محدث كبير القدر، وقد كانت وفاته قبل أبي حاتم بشهر في رجب منها بالبصرة رحمه الله.
وقد رآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل بك ربك ؟ فقال: غفر لي وأمرني أن أملي الحديث في السماء كما كنت أمليه في الارض، فجلست للاملاء في السماء الرابعة، وجلس حولي جماعة من الملائكة منهم جبريل يكتبون ما أمليه من الحديث بأقلام الذهب.
عريب المأمونية فقد ترجمها ابن عساكر في تاريخه وحكى عن بعضهم أنها ابنة جعفر البرمكي، سرقت وهي
صغيرة عند ذهاب دولة البرامكة، وبيعت فاشتراها المأمون بن الرشيد، ثم روى عن حماد بن إسحاق عن أبيه أنه قال: ما رأيت قط امرأة أحسن وجها منها، ولا أكثر أدبا ولا أحسن غناء وضربا وشعرا ولعبا بالشطرنج والنرد منها، وما تشاء أن تجد خصلة ظريفة بارعة في امرأة إلا وجدتها فيها.
وقد كانت شاعرة مطيقة بليغة فصيحة، وكان المأمون يتعشقها ثم أحبها بعده المعتصم، وكانت هي تعشق رجلا يقال له محمد بن حماد، وربما أدخلته إليها في دار الخلافة قبحها الله على ما ذكره ابن عساكر عنها، ثم عشقت صالحا المنذري وتزوجته سرا، وكانت تقول فيه الشعر، وربما ذكرته في شعرها بين يدي المتوكل وهو لا يشعر فيمن هو، فتضحك جواريه من ذلك فيقول: يا سحاقات هذا خير من عملكن.
وقد أورد ابن عساكر شيئا كثيرا من شعرها، فمن ذلك قولها لما دخلت على المتوكل تعوده من حمى أصابته فقالت: أتوني فقالوا بالخليفة علة * فقلت ونار الشوق توقد في صدري ألا ليت بي حمى الخليفة جعفر * فكانت بي الحمى وكان له أجري كفى بي حزن إن قيل حم فلم أمت * من الحزن إني بعد هذا لذو صبري جعلت فدا للخليفة جعفر * وذاك قليل للخليفة من شكري ولما عوفي دخلت عليه فغنته من قيلها: شكرا لانعم من عافاك من سقم * دمت المعافا من الآلام والسقم عادت ببرئك للايام بهجتها * واهتز نبت رياض الجود والكرم ما قام للدين بعد اليوم من ملك * أعف منك ولا أرعى إلى الذمم فعمر الله فينا جعفرا ونفى * بنور وجنته عنا دجى الظلم ولها في عافيته أيضا: حمدنا الذي عافى الخليفة جعفرا * على رغم أشياخ الضلالة والكفر

(11/70)


وما كان إلا مثل بدر أصابه * كسوف قليل ثم أجلى عن البدر
سلامته للدين عز وقوة * وعلته للدين قاصم الظهر مرضت فأمرضت البرية كلها * وأظلمت الامصار من شدة الذعر فلما استبان الناس منك إفاقة * أفاقوا وكانوا كالنيام على الجمر سلامة دنيانا سلامة جعفر * فدام معافا سالما آخر الدهر إمام أعم الناس بالفضل والندا * قريبا من التقوى بعيدا من الوزر ولها أشعار كثيرة رائعة ومولدها في سنة إحدى وثمانين ومائة وماتت في سنة سبع وسبعين ومائتين بسر من رأى، ولها ست وتسعون سنة.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين قال ابن الجوزي: في المحرم منها طلع نجم ذو جمة ثم صارت الجمة ذؤابة.
قال: وفي هذه السنة غار ماء النيل وهذا شئ لم يعهد مثله ولا بلغنا في الاخبار السالفة.
فغلت الاسعار بسبب ذلك جدا.
وفيها خلع على عبد الله (1) بن سليمان بالوزارة.
وفي المحرم منها قدم الموفق من الغزو فتلقاه الناس إلى النهروان فدخل بغداد وهو مريض بالنقرس فاستمر في داره في أوائل صفر، ومات بعد أيام.
قال: وفيها تحركت القرامطة وهم فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون نبوة زرادشت ومزدك، وكانا يبيحان المحرمات.
ثم هم بعد ذلك أتباع كل ناعق إلى باطل، وأكثر ما يفسدون من جهة الرافضة ويدخلون إلى الباطل من جهتهم، لانهم أقل الناس عقولا، ويقال لهم الاسماعيلية، لا نتسابهم إلى إسماعيل الاعرج بن جعفر الصادق.
ويقال لهم القرامطة، قيل نسبة إلى قرمط (2) بن الاشعث البقار، وقيل إن رئيسهم كان في أول دعوته يأمر من اتبعه بخمسين صلاة في كل يوم وليلة لشغلهم بذلك عما يريد تدبيره من المكيدة.
ثم اتخذ نقباء اثنى عشر، وأسس لاتباعه دعوة ومسلكا يسلكونه ودعا إلى إمام أهل البيت، ويقال لهم الباطنية لانهم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض، والخرمية والبابكية نسبة إلى بابك الخرمي الذي ظهر في أيام المعتصم وقتل كما تقدم ويقال لهم المحمرة نسبة إلى صبغ الحمرة شعار مضاهاة لبني العباس ومخالفة لهم، لان بني العباس يلبسون السواد.
ويقال لهم التعليمية نسبة إلى التعلم من الامام المعصوم.
وترك الرأي ومقتضى
العقل.
ويقال لهم السبعية نسبة إلى القول بأن الكواكب السبعة المتحيزة السائر مدبرة لهذا العالم فيما يزعمون لعنهم الله.
وهي القمر في الاولى، وعطارد في الثانية، والزهرة في الثالثة، والشمس في
__________
(1) في الفخري ص 254: عبيد الله بن سليمان بن وهب: وكان بارعا في صناعته حاذقا ماهرا لبيبا جليلا.
ومات سنة 228 ه.
(2) في الطبري 11 / 338 وابن الاثير 7 / 447: قرمط لقب رجل اسمه كرمبتة ومعناها بالنبطية أحمر العين وقيل اسمه حمدان (*).

(11/71)


الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشتري في السادسة، وزحل في السابعة.
قال ابن الجوزي: وقد بقي من البابكية جماعة يقال إنهم يجتمعون في كل سنة ليلة هم ونساؤهم ثم يطفئون المصباح وينتهبون النساء فمن وقعت يده في امرأة حلت له.
ويقولون هذا اصطياد مباح لعنهم الله.
وقد ذكر ابن الجوزي تفصيل قولهم وبسطه، وقد سبقه إلى ذلك أبو بكر الباقلاني المتكلم المشهور في كتابه " هتك الاستار وكشف الاسرار " في الرد على الباطنية، ورد على كتابهم الذي جمعه بعض قضاتهم بديار مصر في أيام الفاطميين الذي سماه " البلاغ الاعظم والناموس الاكبر " وجعله ست عشرة درجة أول درجة أن يدعو من يجتمع به أولا إن كان من أهل السنة إلى القول بتفضيل علي على عثمان بن عفان، ثم ينتقل به إذا وافقه على ذلك إلى تفضيل علي على الشيخين أبي بكر وعمر، ثم يترقى به إلى سبهما لانهما ظلما عليا وأهل البيت، ثم يترقى به إلى تجهيل الامة وتخطئتها في موافقة أكثرهم على ذلك، ثم يشرع في القدح في دين الاسلام من حيث هو.
وقد ذكر لمخاطبته لمن يريد أن يخاطبه بذلك شبها وضلالات لا تروج إلا على كل غبي جاهل شقي.
كما قال تعالى (والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك) [ الذاريات: 7 ] أي يضل به من هو ضال.
وقال (فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم) [ الصافات: 162 ] وقال (وكذلك جعلنا لكم نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون.
ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) [ الانعام: 112 ]
إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن أن الباطل والجهل والضلال والمعاصي لا ينقاد لها إلا شرار الناس كما قال بعض الشعراء: إن هو من مستحوذ على أحد * إلاعلى أضعف المجانين ثم بعد هذا كله لهم مقامات في الكفر والزندقة والسخافة مما ينبغي لضعيف العقل والدين أن ينزه نفسه عنه إذا تصوره، وهو مما فتحه إبليس عليهم من أنواع الكفر وأنواع الجهالات، وربما أفاد إبليس بعضهم أشياء لم يكن يعرفها كما قال بعض الشعراء: وكنت امرأ من جند إبليس برهة * من الدهر حتى صار إبليس من جندي والمقصود أن هذه الطائفة تحركت في هذه السنة، ثم استفحل أمرهم وتفاقم الحال بهم كما سنذكره، حتى آل بهم الحال إلى أن دخلوا المسجد الحرام فسفكوا دم الحجيج في وسط المسجد حول الكعبة وكسروا الحجر الاسود واقتلعوه من موضعه، وذهبو به إلى بلادهم في سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ثم لم يزل عندهم إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فمكث غائبا عن موضعه من البيت ثنتين وعشرين سنة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكل ذلك من ضعف الخليفة وتلاعب الترك بمنصب الخلافة واستيلائهم على البلاد وتشتت الامر.
وقد اتفق في هذه السنة شيئان أحدهما ظهور هؤلاء، والثاني موت حسام الاسلام وناصر دين

(11/72)


الله أبو أحمد الموفق رحمه الله، لكن الله أبقى للمسلمين بعده ولده أبا العباس أحمد الملقب بالمعتضد.
وكان شهما شجاعا.
ترجمة أبي أحمد الموفق هو الامير الناصر لدين الله، ويقال له الموفق، ويقال له طلحة بن المتوكل على الله جعفر بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، كان مولده في يوم الاربعاء لليلتين خلتا من ربيع الاول سنة تسع وعشرين ومائتين، وكان أخوه المعتمد حين صارت الخلافة إليه قد عهد إليه بالولاية بعد أخيه جعفر، ولقبه الموفق بالله، ثم لما قتل صاحب الزنج وكسر جيشه تلقب بناصر دين الله، وصار إليه العقد والحل
والولاية والعزل، وإليه يجبى الخراج، وكان يخطب له على المنابر، فيقال: اللهم أصلح الامير الناصر لدين الله أبا أحمد الموفق بالله ولي عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين.
ثم اتفق موته قبل أخيه المعتمد بستة أشهر، وكان غزير العقل حسن التدبير يجلس للمظالم وعنده القضاة فينصف المظلوم من الظالم وكان عالما بالادب والنسب والفقه وسياسة الملك وغير ذلك، وله محاسن ومآثر كثيرة جدا.
وكان سبب موته أنه أصابه مرض النقرس في السفر فقدم إلى بغداد وهو عليل منه فاستقر في داره في أوائل صفر وقد تزايد به المرض وتورمت رجله حتى عظمت جدا، وكان يوضع له الاشياء المبردة كالثلج ونحوه، وكان يحمل على سريره، يحمله أربعون رجلا بالنوبة، كل نوبة عشرون.
فقال ذات يوم: ما أظنكم إلا قد مللتم مني فياليتني كواحد منكم آكل كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، وأرقد كما ترقدون في عافية.
وقال أيضا: في ديواني مائة ألف مرتزق ليس فيهم أحد أسوأ حالا مني.
ثم كانت وفاته في القصر الحسيني ليلة الخميس لثمان بقين (1) من صفر.
قال ابن الجوزي: وله سبع وأربعون سنة تنقص شهرا وأياما (2).
ولما توفي اجتمع الامراء على أخذ البيعة من بعده إلى ولده أبي العباس أحمد، فبايع له المعتمد بولاية العهد من بعد أبيه (3)، وخطب له على المنابر.
وجعل إليه ما كان لابيه من الولاية والعزل والقطع والوصل، ولقب المعتضد بالله.
وفيها توفي إدريس بن سليم الفقعسي الموصلي.
قال ابن الاثير: كان كثير الحديث والصلاح وإسحاق بن كنداج نائب الجزيرة، كان من ذوي الرأي، وقام بما كان إليه ولده محمد.
ويازمان نائب طرسوس جاءه حجر منجنيق من بلدة كان محاصرها ببلاد الروم فمات منه في رجب (4) من هذه السنة
__________
(1) وفي مروج الذهب 4 / 258: لثلاث بقين من صفر.
(2) في مروج الذهب: تسع واربعون سنة.
(3) في الطبري وابن الاثير: بويع بولاية العهد بعد المفوض ابن المعتمد ولقب بالمعتضد بالله (4) في مروج الذهب 4 / 241: في النصف من رجب، ودفن بباب الجهاد بطرسوس (*).

(11/73)


ودفن بطرسوس، فولى نيابة الثغر بعده أحمد الجعيفي (1) بأمر خمارويه بن أحمد بن طولون، ثم عزله عن قريب بابن عمه موسى بن طولون.
وفيها توفي عبدة بن عبد الرحيم قبحه الله.
ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيرا في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلون محاصروا بلدة من بلاد الروم إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن فهويها فراسلها ما السبيل إلى الوصول إليك ؟ فقالت أن تتنصر وتصعد إلي، فأجابها إلى ذلك، فلما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غما شديدا، وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك ؟ ما فعل علمك ؟ ما فعل صيامك ؟ ما فعل جهادك ؟ ما فعلت صلاتك ؟ فقال: اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا قوله (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلهيهم الامل فسوف يعلمون) [ الحجر: 3 ] وقد صار لي فيهم مال وولد.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين في أواخر المحرم منها خلع جعفر المفوض من العهد واستقل بولاية العهد من بعد المعتمد أبو العباس المعتضد بن الموفق، وخطب له بذلك على رؤوس الاشهاد، وفي ذلك يقول يحيى بن علي يهني المعتضد: ليهنيك عقد أنت فيه المقدم * حباك به رب بفضلك أعلم فإن كنت قد أصبحت والي عهدنا * فأنت غدا فينا الامام المعظم ولا زال من والاك فيه مبلغا * مناه ومن عاداك يخزى ويندم (2) وكان عمود الدين فيه تعوج (3) * فعاد بهذا العهد وهو مقوم وأصبح وجه الملك جذلان ضاحكا * يضئ لنا منه الذي كان مظلم (4) فدونك شدد عقد ما قد حويته * فإنك دون الناس فيه المحكم وفيها نودي ببغداد أن لا يمكن أحد من القصاص والطرقية والمنجمين ومن أشبههم من الجلوس في المساجد ولا في الطرقات، وأن لاتباع كتب الكلام والفلسفة والجدل بين الناس، وذلك بهمة أبي
العباس المعتضد سلطان الاسلام.
وفيها وقعت حروب بين هارون الشاري وبين بني شيبان في أرض الموصل وقد بسط ذلك ابن الاثير في كامله.
__________
(1) في ولاة مصر للكندي ص 263: العجيفي.
(2) في ابن الاثير 7 / 452: يشجى ويرغم.
(3) في ابن الاثير: تأود.
(4) في ابن الاثير: يظلم (*).

(11/74)


وفي رجب منها كانت وفاة المعتمد على الله ليلة الاثنين لتسع عشرة ليلة خلت منه.
ترجمة المعتمد على الله
هو أمير المؤمنين المعتمد بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد واسمه أحمد بن جعفر بن محمد بن هارون الرشيد مكث في الخلافة ثلاثا وعشرين سنة وستة أيام (1)، وكان عمره يوم مات خمسين سنة وأشهرا (2)، وكان أسن من أخيه الموفق بستة أشهر، وتأخر بعده أقل من سنة، ولم يكن إليه مع أخيه شئ من الامر حتى أن المعتمد طلب في بعض الايام ثلاثمائة دينار فلم يصل إليها فقال الشاعر في ذلك: ومن العجائب في الخلافة أن * ترى ما قل ممتنعا عليه وتؤخذ الدنا باسمه جميعا * وما ذاك شئ في يديه إليه تحمل الاموال طرا * ويمنع بعض ما يجبى إليه (3) كان المعتمد أول خليفة انتقل من سامرا إلى بغداد ثم لم يعد إليها أحد من الخلفاء، بل جعلوا إقامتهم ببغداد، وكان سبب هلاكه في ما ذكره ابن الاثير أنه شرب في تلك الليلة شرابا كثيرا وتعشى عشاء كثيرا، وكان وقت وفاته في القصر الحسيني من بغداد، وحين مات أحضر المعتضد القضاة والاعيان وأشهدهم أنه مات حتف أنفه، ثم غسل وكفن وصلي عليه ثم حمل فدفن بسامرا.
وفي صبيحة العزاء بويع للمعتضد وفيها توفي:
البلاذري المؤرخ
واسمه أحمد بن يحيى بن جابر بن داود أبو الحسن ويقال أبو جعفر ويقال أبو بكر البغدادي البلاذري صاحب التاريخ المنسوب إليه، سمع هشام بن عمار وأبا عبيد القاسم بن سلام، وأبا الربيع الزهراني وجماعة، وعنه يحيى بن النديم وأحمد بن عمار وأبو يوسف يعقوب بن نعيم بن قرقارة الازدي.
قال ابن عساكر: كان أديبا ظهرت له كتب جياد، ومدح المأمون بمدائح، وجالس المتوكل، وتوفي أيام المعتمد، وحصل له هوس ووسواس في آخر عمره، وروى عنه ابن عساكر قال قال لي محمود الوراق: قل من الشعر ما يبقى لك ذكره، ويزول عنك إثمه فقلت عند ذلك: استعدي يا نفس للموت واسعي * لنجاة فالحازم المستعد
__________
(1) في ابن الاثير: وستة أشهر.
وقال المسعودي: ثلاثا وعشرين سنة.
(2) في مروج الذهب 4 / 226: ثمان وأربعين سنة.
(3) الابيات في كامل ابن الاثير باختلاف 7 / 455 (*).

(11/75)


إنما أنت مستعيرة وسوف * تردين والعواري ترد أنت تسهين والحوادث لا * تسهو وتلهين والمنايا تعد أي ملك في الارض وأي حظ * لامرئ حظه من الارض لحد لا ترجى البقاء في معدن الموت * ودار حتوفها لك ورد كيف يهوى امرؤ لذاذة أيام * أنفاسها عليه فيها تعد
خلافة المعتضد أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن أبي أحمد الموفق بن جعفر المتوكل، كان من خيار خلفاء بني العباس ورجالهم.
بويع له بالخلافة صبيحة موت المعتمد لعشر بقين من رجب منها وقد كان أمر الخلافة داثرا فأحياه الله على يديه بعدله وشهامته وجرأته، واستوزر (1) عبيد الله بن سليمان بن وهب وولى مولاه بدرا الشرطة في بغداد، وجاءته هدايا عمرو بن الليث وسأل منه أن يوليه إمرة خراسان
فأجابه إلى ذلك، وبعث إليه بالخلع واللواء فنصبه عمرو في داره ثلاثة أيام فرحا وسرورا بذلك، وعزل رافع بن هرثمة عن إمرة خراسان ودخلها عمرو بن الليث فلم يزل يتبع رافعا من بلد إلى بلد حتى قتله في سنة ثلاث وثمانين كما سيأتي، وبعث برأسه إلى المعتضد وصفت إمرة خراسان لعمرو.
وفيها قدم الحسين (2) بن عبد الله المعروف بالجصاص من الديار المصرية بهدايا عظيمة من خمارويه إلى المعتضد فتزوج المعتضد بابنة خمارويه فجهزها أبوها بجهاز لم يسمع بمثله، حتى قيل إنه كان في جهازها مائة هاون من ذهب، فحمل ذلك كله من الديار المصرية إلى دار الخلافة ببغداد صحبة العروس، وكان وقتا مشهودا.
وفيها تملك أحمد بن عيسى بن الشيخ قلعة ماردين وكانت قبل ذلك لاسحاق بن كنداج.
وفيها حج بالناس هارون بن محمد العباسي وهي آخر حجة حجها بالناس، وقد كان يحج بالناس من سنة أربع وستين ومائتين إلى هذه السنة.
وفيها توفي من الاعيان أحمد أمير المؤمنين المعتمد.
وأبو بكر بن أبي خيثمة.
و [ هو ] (3): أحمد بن زهير بن أبي خيثمة صاحب التاريخ وغيره.
سمع أبا نعيم.
وعفان وأخذ علم الحديث عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وعلم النسب عن مصعب بن الزبيري، وأيام الناس عن أبي الحسن علي بن محمد المدائني.
وعلم الادب عن محمد بن سلام الجمحي.
وكان ثقة حافظا ضابطا مشهورا، وفي تاريخه فوائد كثيرة وفرائد غزيرة.
روى عنه البغوي وابن صاعد وابن أبي داود بن المنادي.
توفي في جمادى
__________
(1) قال الفخري ص 256: أقر المعتضد عبيد الله على وزارته - وكان قد استوزره المعتمد - (انظر مروج الذهب 4 / 262).
(2) كان بالاصل وابن الاثير والطبري، وفي مروج الذهب: الحسن.
(3) زيادة اقتضاها السياق، لان أبي بكر اسمه أحمد بن زهير (*).

(11/76)


الاولى منها عن أربع وتسعين سنة.
وخاقان أبو عبد الله الصوفي، كانت له أحوال وكرامات.
الترمذي واسمه محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك، وقيل محمد بن عيسى بن يزيد بن
سورة بن السكن، ويقال محمد بن عيسى بن سورة بن شداد بن عيسى السلمي الترمذي الضرير، يقال إنه ولد أكمه، وهو أحد أئمة هذا الشأن في زمانه، وله المصنفات المشهورة، منها الجامع، والشمائل، وأسماء الصحابة وغير ذلك.
وكتاب الجامع أحد الكتب الستة التي يرجع إليها العلماء في سائر الآفاق، وجهالة ابن حزم لابي عيسى الترمذي لا تضره حيث قال في محلاه: ومن محمد بن عيسى بن سورة ؟ فإن جهالته لا تضع من قدره عند أهل العلم، بل وضعت منزلة ابن حزم عند الحفاظ.
وكيف يصح في الاذهان شئ * إذا احتاج النهار إلى دليل وقد ذكرنا مشايخ الترمذي في التكميل.
وروى عنه غير واحد من العلماء منهم محمد بن إسماعيل البخاري في الصحيح، والهيثم بن كليب الشاشي صاحب المسند، ومحمد بن محبوب المحبوبي، راوي الجامع عنه.
ومحمد بن المنذر بن شكر.
قال أبو يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني في كتابه علوم الحديث: محمد بن عيسى بن سورة بن شداد الحافظ متفق عليه، له كتاب في السنن وكتاب في الجرح والتعديل، روى عنه أبو محبوب والاجلاء، وهو مشهور بالامانة والامامة والعلم.
مات بعد الثمانين ومائتين.
كذا قال في تاريخ وفاته.
وقد قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سليمان الغنجار في تاريخ بخارى: محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الترمذي الحافظ، دخل بخارى وحدث بها، وهو صاحب الجامع والتاريخ، توفي بالترمذ ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين.
ذكره الحافظ أبو حاتم بن حيان في الثقات، فقال: كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر.
قال الترمذي: كتب عني البخاري حديث عطية عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي " لا يحل لاحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك " (1).
وروى ابن يقظة في تقييده عن الترمذي أنه قال: صنفت هذا المسند الصحيح وعرضته على علماء الحجاز فرضوا به، وعرضته على علماء العراق فرضوا به، وعرضته على علماء خراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي ينطق.
وفي رواية يتكلم.
قالوا وجملة الجامع.
مائة إحدى وخمسون كتابا، وكتاب العلل صنفه بسمرقند، وكان فراغه منه في يوم عيد الاضحى سنة سبعين ومائتين.
قال
ابن عطية: سمعت محمد بن طاهر المقدسي سمعت أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الانصاري يقول:
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب المناقب باب (20) ح (3727) ص (5 / 640) (*).

(11/77)


كتاب الترمذي عندي أنور من كتاب البخاري ومسلم.
قلت: ولم ؟ قال لانه لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من هو من أهل المعرفة التامة بهذا الفن، وكتاب الترمذي قد شرح أحاديثه وبينها، فيصل إليها كل أحد من الناس من الفقهاء والمحدثين وغيرهم.
قلت: والذي يظهر من حال الترمذي أنه إنما اطرأ عليه العمى بعد أن رحل وسمع وكتب وذاكر وناظر وصنف، ثم اتفق موته في بلده في رجب منها على الصحيح المشهور والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثمانين ومائتين من الهجرة في المحرم منها قتل المعتضد رجلا من أمراء الزنج كان قد لجأ بالامان ويعرف بسلمة (1)، ذكر له أنه يدعو إلى رجل لا يعرف من هو، وقد أفسد جماعة، فاستدعي به فقرره فلم يقر، وقال: لو كان تحت قدمي ما أقررت به، فأمر به فشد على عمود ثم لوحه على النار تى تساقط جلده، ثم أمر بضرب عنقه وصلبه لسبع خلون من المحرم.
وفي أول صفر ركب المعتضد من بغداد قاصدا بني شيبان من أرض الموصل فأوقع بهم بأسا شديدا عند جبل يقال له نوباذ (2).
وكان مع المعتضد حاد جيد الحداء، فقال في تلك الليالي يحدو المعتضد: فأجهشت للنوباذ حين رأيته * وهللت للرحمن حين رآني وقلت له أين الذين عهدتهم * بظلك في أمن ولين زمامي فقال مضوا واستخلفواني مكانهم * ومن ذا الذي يبقى على الحدثان وفيها أسر المعتضد بتسهيل عقبة حلوان فغرم عليها عشرين ألف دينار، وكان الناس يلقون منها شدة عظيمة.
وفيها أمر بتوسيع جامع المنصور بإضافة دار المنصور إليه، وغرم عليه عشرين ألف دينار، وكانت الدار قبلته فبناها مسجدا على حدة وفتح بينهما سبعة عشر بابا وحول المنبر والمحراب إلى المسجد ليكون في قبلة الجامع على عادته.
قال الخطيب: وزاد بدر مولى المعتضد السقفان من قصر
المنصور المعروفة بالبدرية.
بناء دار الخلافة من بغداد
في هذا الوقت أول من بناها المعتضد في هذه السنة.
وهو أول من سكنها من الخلفاء إلى آخر دولتهم، وكانت أولا دار للحسن بن سهل تعرف بالقصر الحسني، ثم صارت بعد ذلك لابنته بوران زوجة المأمون،
__________
(1) في الطبري: شيلمة، وفي ابن الاثير: شميلة.
وانظر مروج الذهب فيه ذكره قال: يعرف بمحمد بن الحسن بن سهل ابن أخي ذي الرياستين يلقب بشميلة.
(2) في مروج الذهب 4 / 275: أوقع بهم مما يلي الجزيرة والزاب في الموضع المعروف بوادي الذئاب (*).

(11/78)


فعمرتها حتى استنزلها المعتضد عنها فأجابته إلى ذلك، ثم أصلحت ما وهى منها ورممت ما كان قد تشعث فيها، وفرشتها بأنواع الفرش في كل موضع منها ما يليق به من المفارش، وأسكنته ما يليق به من الجواري والخدم، وأعدت بها المآكل الشهية وما يحسن ادخاره في ذلك الزمان، ثم أرسلت مفاتيحها إلى المعتضد، فلما دخلها هاله ما رأى من الخيرات، ثم وسعها وزاد فيها وجعل لها سورا حولها، وكانت قدر مدينة شيراز، وبنى الميدان ثم بنى فيها قصرا مشرفا على دجلة، ثم بنى فيها المكتفي التاج، فلما كان أيام المقتدر زاد فيها زيادات أخر كبارا كثيرة جدا، ثم بعد هذا كله خربت حتى كأن لم يكن موضعها عمارة، وتأخرت آثارها إلى أيام التتار الذين خربوها وخربوا بغداد وسبوا من كان بها من الحرائر كما سيأتي بيانه في موضعه من سنة ست وخمسين وستمائة.
قال الخطيب: والذي يشبه أن بوران وهبت دارها للمعتمد لا للمعتضد، فإنها لم تعش إلى أيامه، وقد تقدمت وفاتها.
وفيها زلزلت أردبيل (1) ست مرات فتهدمت دورها ولم يبق منها مائة دار، ومات تحت الردم مائة ألف وخمسون ألفا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها غارت المياه ببلاد الري وطبرستان حتى بيع الماء كل ثلاثة أرطال بدرهم، وغلت الاسعار هنالك جدا.
وفيها غزا إسماعيل بن أحمد الساماني ببلاد الترك ففتح مدينة ملكهم وأسر امرأته الخاتون وأباه (2) ونحوا من عشرة آلاف أسير، وغنم من الدواب والامتعة والاموال شيئا كثيرا، أصاب الفارس
ألف درهم.
وفيها حج بالناس أبو بكر محمد بن هارون بن إسحاق العباسي.
وفيها توفي من الاعيان أحمد بن سيار بن أيوب الفقيه الشافعي المشهور بالعبادة والزهادة.
وأحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى أبو جعفر البغدادي، كان من أكابر الحنفية، تفقه على محمد بن سماعة وهو أستاذ أبي جعفر الطحاوي، وكان ظريرا، سمع الحديث من علي بن الجعد وغيره، وقدم مصر فحدث بها من حفظه، وتوفي بها في المحرم من هذه السنة، وقد وثقه ابن يونس في تاريخ مصر.
وأحمد بن محمد بن عيسى بن الازهر القاضي بواسط، صاحب المسند، روى عن مسلم بن إبراهيم وأبي سلمة التبوذكي، وأبي نعيم وأبي الوليد وخلق، وكان ثقة ثبتا تفقه بأبي سليمان الجوزجاني صاحب محمد بن الحسن وقد حكم بالجانب الشرقي من بغداد في أيام المعتز، فلما كان أيام الموفق طلب منه ومن إسماعيل القاضي أن
__________
(1) في الطبري 11 / 343 وابن الاثير 7 / 465: دبيل.
(2) في الطبري 11 / 343: وأسره إياه وامرأته الخاتون.
وفي مروج الذهب 4 / 276: ويقال ان اسم هذا الملك يقال له: طنكش.
قال: وأراه من الجنسين المعروفين بالخدلجية (*).

(11/79)


يعطياه ما بأيديهما من أموال اليتامى الموقوفة فبادر إلى ذلك إسماعيل القاضي واستنظره إلى ذلك أبو العباس البرقي هذا، ثم بادر إلى كل من أنس منه رشدا من اليتامى فدفع إليه ماله، فلما طولب به قال: ليس عندي منه شئ، دفعته إلى أهله، فعزل عن القضاء ولزم بيته وتعبد إلى أن توفي في ذي الحجة منها.
وقد رآه بعضهم في المنام وقد دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه وصافحه وقبل بين عينيه، وقال: مرحبا بمن عمل بسنتي وأثري.
وفيها توفي جعفر بن المعتضد، وكان يسامر أباه.
وراشد مولى الموفق بمدينة الدينور فحمل إلى بغداد.
وعثمان بن سعيد الدارمي مصنف الرد على بشر المريسي فيما ابتدعه من التأويل لمذهب الجهمية وقد ذكرناه في طبقات الشافعية.
ومسرور الخادم وكان من أكابر الامراء.
ومحمد بن إسماعيل
الترمذي صاحب التصانيف الحسنة في رمضان منها، قاله ابن الاثير، وشيخنا الذهبي.
وهلال بن المعلا المحدث المشهور وقد وقع لنا من حديثه طرف.
وسيبويه أستاذ النحاة وقيل إنه توفي في سنة سبع وسبعين، وقيل ثمان وثمانين، وقيل إحدى وستين، وقيل أربع وسبعين ومائة فالله أعلم.
وهو أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب، قيل: مولى الربيع بن زياد الحارثي البصري.
ولقب سيبويه لجماله وحمرة وجنتيه حتى كانتا كالتفاحتين.
وسيبويه في لغة فارس رائحة التفاح.
وهو الامام العلامة العلم، شيخ النحاة من لدن زمانه إلى زماننا هذا، والناس عيال على كتابه المشهور في هذا الفن.
وقد شرح بشروح كثيرة وقل من يحيط علما به.
أخذ سيبويه العلم عن الخليل بن أحمد ولازمه، وكان إذا قدم يقول الخليل: مرحبا بزائر لا يمل.
وأخذ أيضا عن عيسى بن عمر، ويونس بن حبيب وأبي زيد الانصاري، وأبي الخطاب الاخفش الكبير وغيرهم، قدم من البصرة إلى بغداد أيام كان الكسائي يؤدب الامين بن الرشيد، فجمع بينهما فتناظرا في شئ من مسائل النحو فانتهى الكلام إلى أن قال الكسائي: تقول العرب: كنت أظن الزنبور أشد لسعا من النحلة فإذا هو إياها.
فقال سيبويه: بيني وبين أعرابي لم يشبه شئ من الناس المولد، وكان الامين يحب نصرة أستاذه فسأل رجلا من الاعراب فنطق بما قال سيبويه.
فكره الامين ذلك وقال له: إن الكسائي يقول خلافك.
فقال: إن لساني لا يطاوعني على ما يقول فقال: أحب أن تحضر وأن تصوب كلام الكسائي، فطاوعه على ذلك وانفصل المجلس عن قول الاعرابي إذا الكسائي أصاب.
فحمل سيبويه على نفسه وعرف أنهم تعصبوا عليه ورحل عن بغداد فمات ببلاد شيراز في قرية يقال لها البيضاء، وقيل إنه ولد بهذه وتوفي بمدينة سارة في هذه السنة، وقيل سنة سبع وسبعين، وقيل ثمان وثمانين، وقيل إحدى وتسعين وقيل أربع وتسعين ومائة فالله أعلم، وقد ينف على

(11/80)


الاربعين، وقيل بن إنما عمره ثنتين وثلاثين سنة فالله أعلم.
قرأ بعضهم على قبره هذه الابيات:
ذهب الاحبة بعد طول تزاور * ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا تركوك أوحش ما تكون بقفرة * لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا قضى القضاء وصرت صاب حفرة * عنك الاحبة أعرضوا وتصدعوا (1) ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائتين فيها دخل المسلمون بلاد الروم فغنموا وسلموا.
وفيها تكامل غور المياه ببلاد الري وطبرستان.
وفيها غلت الاسعار جدا وجهد الناس حتى أكل بعضهم بعضا، فكان الرجل يأكل ابنه وابنته فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها حاصر المعتضد قلعة ماردين وكانت بيد حمدان بن حمدون ففتحها قسرا وأخذ ما كان فيها، ثم أمر بتخريبها فهدمت.
وفيها وصلت قطر الندى بنت خمارويه سلطان الديار المصرية إلى بغداد في تجمل عظيم ومعها من الجهاز شئ كثير حتى قيل إنه كان في الجهاز مائة هاون من ذهب غير الفضة وما يتبع ذلك من القماش وغير ذلك مما لا يحصى.
ثم بعد كل حساب أرسل معها أبوها ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار لتشتري بها من العراق ما قد تحتاج إليه مما ليس بمصر مثله.
وفيها خرج المعتضد إلى بلاد الجبل وولى ولده عليا المكتفي نيابة الري وقزوين وأزربيجان (2) وهمدان والدينور، وجعل على كتابته أحمد بن الاصبغ، وولى عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف نيابة أصبهان ونهاوند والكرج (3)، ثم عاد راجعا إلى بغداد.
وحج بالناس محمد بن هارون بن إسحاق، وأصاب الحجاج في الاجفر مطرا عظيم فغرق كثير منهم، كان الرجل يغرق في الرمل فلا يقدر أحد على خلاصه منه.
وفيها توفي من الاعيان إبراهيم بن الحسن بن ديزيل الحافظ صاحب كتاب المصنفات، ومنها في وقعة صفين مجلد كبير.
وأحمد بن محمد الطائي بالكوفة في جمادى منها (4).
وإسحاق بن إبراهيم المعروف بابن الجيلي سمع الحديث وكان يفتي الناس بالحديث، وكان يوصف بالفهم والحفظ.
وفيها توفي:
__________
(1) الابيات في وفيات الاعيان 3 / 464 ونسبها لسليمان بن يزيد العدوي.
(2) في الطبري 11 / 344 وابن الاثير 7 / 467: زنجان وأبهر وقم.
(مروج الذهب 4 / 276).
(3) من الطبري وابن الاثير: وفي الاصل: الكرخ.
وفي مروج الذهب: فكالاصل.
(4) في الطبري: لخمس ليال بقين من جمادى ودفن بالكوفة في موضع يقال له: مسجد السهلة (*).

(11/81)


أبو بكر عبد الله بن أبي الدنيا القرشى مولى بني أمية، وهو عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس أبو بكر بن أبي الدنيا الحافظ المصنف في كل فن، المشهور بالتصانيف الكثيرة النافعة الشائعة الزائعة في الرقاق وعيرها، هي تزيد على مائة مصنف، وقيل إنها نحو الثلثمائة مصنف، وقيل أكثر وقيل أقل، سمع ابن أبي الدنيا إبراهيم بن المندر الخزامي، وخالد بن خراش وعلي بن الجعد وخلقا، وكان مؤدب المعتضد وعلي بن المعتضد الملقب بالمكتفي بالله، وكان له عليه كل يوم خمسة عشر دينارا، وكان صدوقا حافظا ذا مروءة، لكن قال فيه صالح بن محمد حزرة: إلا أنه كان يروي عن رجل يقال له: محمد بن إسحاق البلخي وكان هذا الرجل كذابا يضع لاعلام إسنادا، وللكلام إسنادا، ويروي أحاديث منكرة.
ومن شعر ابن أبي الدنيا أنه جلس أصحاب له ينتظرونه ليخرج إليهم، فجاء المطر فحال بينه، فكتب إليهم رقعة فيها: أنا مشتاق إلى رؤيتكم * يا أخلاي وسمعي والبصر كيف أنساكم وقلبي عندكم * حال فيما بينا هذا المطر توفي ببغداد في جمادى الاولى من هذه السنة عن سبعين سنة، وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي ودفن بالشونيزية رحمه الله.
عبد الرحمن بن عمرو أبو زرعة البصري الدمشقي الحافظ الكبير المشهور بابن المواز الفقيه المالكي، له اختيارات في مذهب مالك، فمن ذلك وجوب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة.