البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وثلثمائة في صفر منها أحضر القاهر رجلا كان يقطع الطريق فضرب بين يديه ألف سوط، ثم ضربت عنقه وقطع أيدي أصحابه وأرجلهم.
وفيها أمر القاهر بإبطال الخمر والمغاني والقيان، وأمر ببيع الجواري المغنيات بسوق النخس، على أنهن سواذج.
قال ابن الاثير: وإنما فعل ذلك لانه كان محبا للغناء فأراد أن يشتريهن برخص الاثمان، نعوذ بالله من هذه الاخلاق.
وفيها أشاعت العامة بينهم بأن الحاجب علي بن بليق يريد أن يلعن معاوية على المنابر.
فلما بلغ الحاجب ذلك بعث إلى رئيس الحنابلة البربهاري أبي محمد الواعظ ليقابله على ذلك، فهرب واختفى، فأمر بجماعة من أصحابه فنفوا إلى البصرة.
وفيها عظم الخليفة وزيره علي بن مقلة وخاطبه بالاحترام والاكرام.
ثم إن الوزير
ومؤنسا الخادم وعلي بن بليق وجماعة من الامراء اشتوروا فيما بينهم على خلع القاهر وتولية أبي أحمد المكتفي، وبايعوه سرا فيما بينهم، وضيقوا على القاهر بالله في رزقه، وعلى من يجتمع به.
وأرادوا القبض عليه سريعا.
فبلغ ذلك القاهر - بلغه طريف اليشكري (2) - فسعى في القبض عليهم
__________
(1) في الكامل 8 / 247: ابن يعقوب بن اسماعيل.
(2) في الكامل 8 / 251: السبكري.
(انظر تاريخ ابي الفداء 2 / 78) (*).

(11/195)


فوقع في مخالبه الامير المظفر مؤنس الخادم، فأمر بحبسه قبل أن يراه والاحتياط على دوره وأملاكه - وكانت في عجلة وجرأة وطيش وهوج وخرق شديد - وجعل في منزلته - أمير الامراء ورياسة الجيش - طريفا اليشكري، وقد كان أحد الاعداء لمؤنس الخادم قبل ذلك.
وقبض على بليق، واختفى ولده علي بن بليق، وهرب الوزير ابن مقلة فاستوزر مكانه أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله، في مستهل شعبان، وخلع عليه وأمر بتحريق دار ابن مقلة، ووقع النهب ببغداد، وهاجت الفتنة، وأمر القاهر بأن يجعل أبو أحمد المكتفي بين حائطين ويسد عليه بالآجر والكلس، وهو حي، فمات وأرسل منادي على المختفين: إن من أخفاهم قتل وخربت داره.
فوقع بعلي بن بليق فذبح بين يديه كما تذبح الشاة، فأخذ رأسه في طست ودخل به القاهر على أبيه بليق بنفسه، فوضع رأس ابنه بين يديه، فلما رآه بكى وأخذ يقبله ويترشفه، فأمر بذبحه أيضا، ثم أخذ الرأسين في طستين فدخل بهما على مؤنس الخادم، فلما رآهما تشهد ولعن قاتلهما، فقال القاهر: جروا برجل الكلب، فأخذ فذبح أيضا وأخذ رأسه فوضع في طست وطيف بالرؤوس في بغداد، ونودي عليهم: هذا جزاء من يخون الامام ويسعى في الدولة فسادا.
ثم أعيدت الرؤس إلى خزائن السلاح.
وفي ذي القعدة منها قبض القاهر على الوزير أبي جعفر محمد بن القاسم وسجنه، وكان مريضا بالقولنج، فبقي ثمانية عشر يوما ومات وكانت وزارته ثلاثة أشهر واثني عشر يوما.
واستوزر مكانه أبا العباس أحمد بن عبيد الله (1) بن سليمان الخصيبي، ثم قبض على طريف اليشكري (2) الذي تعاون على مؤنس وابن بليق وسجنه، ولهذا قيل: من أعان ظالما سلطه الله عليه.
فلم يزل اليشكري (2) في الحبس حتى
خلع القاهر.
وفيها جاء الخبر بموت العامل بديار مصر (3)، وأن ابنه محمدا قد قام مقامه فيها، وسارت الخلع إليه من القاهر بتنفيذ الولاية واستقراره.
ابتداء أمر بني بويه وظهور دولتهم وهم ثلاثة إخوة: عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة أبو علي الحسن، ومعز الدولة أبو الحسين أحمد أولاد أبي شجاع بويه بن قباخسرو (4) بن تمام بن كوهي بن شيرزيل الاصغر بن شيركيده (5) بن شيرزيل الاكبر شيران شاه بن شيرويه بن سيسان شاه بن سيس بن فيروز بن
__________
(1) من ابن الاثير 8 / 262 ومروج الذب 4 / 351، وفي الاصل عبد الله.
(2) في الكامل 8 / 262: السبكري.
(3) وهو تكين وكان أميرا على مصر كما في الكامل لابن الاثير 8 / 273 وفي ولاة مصر للكندي: مات تكين أبو منصور في 16 ربيع الاول سنة 321 وجعل ابنه محمد بن تكين في موضعه.
(4) في ابن الاثير 8 / 265: فنا خسرو.
(5) في ابن الاثير: شيركنده (*).

(11/196)


شيرزيل بن سيسان (1) بن بهرام جور الملك بن يزدجرد الملك (2) بن سابور الملك بن سابور ذي الاكتاف الفارسي.
كذا نسبهم الامير أبو نصر بن ماكولا في كتابه.
وإنما قيل لهم الديالمة لانهم جاوروا الديلم، وكانوا بين أظهرهم مدة، وقد كان أبو هم أبو شجاع بويه فقير مدقعا، يصطاد السملك ويحتطب بنوه الحطب على رؤوسهم، وقد ماتت امرأته وخلفت له هؤلاء الاولاد الثلاثة، فحزن عليها وعليهم، فبينما هو يوما عند بعض أصحابه وهو شهريار بن رستم الديلمي، إذ مر منجم فاستدعاه فقال له: إني رأيت مناما غريبا أحب أن تفسره لي: رأيت كأني أبول فخرج من ذكري نار عظيمة حتى كادت تبلغ عنان السماء، ثم انفرقت ثلاث شعب حتى صارت شعبا كثيرة، فأضاءت الدنيا بتلك النار، ورأيت البلاد والعباد قد خضعت لهذه النار.
فقال له المنجم: هذا منام عظيم لا أفسره لك إلا بمال جزيل.
فقال: والله لا شئ عندي أعطيك، ولا أملك إلا فرسي هذه.
فقال: هذا يدل على أنه يملك من صلبك ثلاثة ملوك، ثم يكون من سلالة كل واحد منهم ملوك عدة.
فقال له: ويحك أتسخر بي ؟ وأمر بنيه فصفعوه ثم أعطاه عشرة دراهم.
فقال لهم المنجم: اذكروا هذا إذا قدمت عليك وأنتم ملوك، وخرج وتركهم.
وهذا من أعجب الاشياء، وذلك أن هؤلاء الاخوة الثلاثة كانوا عند ملك يقال له " ما كان بن كاني " (3) في بلاد طبرستان، فتسلط عليه مرداويج (4) فضعف، فتشاوروا في مفارقته حتى يكون، من أمره ما يكون، فخرجوا عنه ومعهم جماعة من الامراء، فصاروا إلى مرداويج فأكرمهم واستعملهم على الاعمال في البلدان، فأعطى عماد الدولة على بويه نيابة الكرج (5)، فأحسن فيها السيرة والتف عليه الناس وأحبوه، فحسده مرداويج وبعث إليه بعزله عنها، ويستدعيه إليه فامتنع من القدوم عليه، وصار إلى أصبهان فحاربه نائبها فهزمه عماد الدولة هزيمة منكرة، واستولى على أصبهان.
وإنما كان معه سبعمائة فارس، فقهر بها عشرة آلاف فارس، وعظم في أعين الناس.
فلما بلغ ذلك مرداويج قلق منه، فأرسل جيشا فأخرجوه من أصبهان، فقصد أذربيجان فأخذها من نائبها وحصل له من الاموال شئ كثير جدا، ثم أخذ بلدانا كثيرة، واشتهر أمره وبعد صيته وحسنت سيرته.
فقصده الناس محبة وتعظيما، فاجتمع إليه من الجند خلق كثير وجم غفير، فلم يزل يترقى في مراقي الدنيا حتى آل به وبأخويه الحال إلى أن ملكوا بغداد من أيدي الخلفاء العباسيين، وصار لهم فيها القطع والوصل، والولاية والعزل،
__________
(1) في الكامل: سنباد.
(2) في الكامل: ابن هرمز الملك بن سابور.
(3) في الكامل 8 / 277 وتجارب الامم لابن مسكويه 1 / 366 كالي.
(تاريخ ابي الفداء 2 / 78).
(4) من الكامل وتجارب الامم، وفي الاصل: مرداويح، وقد صححت في كل المواضع (5) من الكامل 8 / 267.
والكرج مدينة فارسية تقع بين أصبهان وهمذان (معجم البلدان).
قال ابن مسكويه فكانت هذه الولاية نقطة الانطلاق لاقامة دولة بني بويه (انظر تجارب الامم ص 1 / 277 والكامل 8 / 268 - 269) (*).

(11/197)


وإليهم تجبى الاموال، ويرجع إليهم في سائر الامور والاحوال، على ما سنذكر ذلك مبسوطا والله المستعان: وفيها توفي من الاعيان..أحمد بن محمد بن سلامة ابن سلمة بن عبد الملك أبو جعفر الطحاوي، نسبة إلى قرية بصعيد مصر، الفقيه الحنفي صاحب المصنفات المفيدة، والفوائد الغزيرة: وهو أحد الثقات الاثبات، والحفاظ الجهابذة، وطحا بلدة بدريا بمصر.
وهو ابن أخت المزني.
توفي في مستهل ذي القعدة منها عن ثنتين وثمانين سنة وذكر أبو سعيد السمعاني: أنه ولد في سنة تسع وعشرين ومائتين، فعلى هذا يكون قد جاوز التسعين والله أعلم.
وذكر ابن خلكان في الوفيات أن سبب انتقاله إلى مذهب أبي حنيفة ورجوعه عن مذهب خاله المزني، أن خاله قال له يوما: والله لا يجئ منك شئ.
فغضب وتركه واشتغل على أبي جعفر بن أبي عمران الحنفي، حتى برع وفاق أهل زمانه، وصنف كتابا كثيرة.
منها أحكام القرآن، واختلاف العلماء.
ومعاني الآثار، والتاريخ الكبير.
وله في الشروط كتاب، وكان بارعا فيها.
وقد كتب للقاضي أبي عبد الله محمد بن عبد الله وعدله القاضي أبو عبيد بن حربويه، وكان يقول: رحم الله المزني، لو كان حيا لكفر عن يمينه.
توفي في مستهل ذي القعدة كما تقدم.
ودفن بالقرافة وقبره مشهور بها رحمه الله.
وقد ترجمه ابن عساكر وذكر أنه قد قدم دمشق سنة ثمان وستين ومائتين، وأخذ الفقه عن قاضيها أبي حازم.
أحمد بن محمد بن موسى بن النضر ابن حكيم بن علي بن زربى أبو بكر المعروف بابن أبي حامد صاحب بيت المال.
سمع عباسا الدوري وخلقا، وعنه الدار قطني وغيره.
وكان ثقة صدوقا، جوادا ممدحا، اتفق في أيامه أن رجلا من أهل العلم كانت له جارية يحبها حبا شديدا، فركبته ديون اقتضت بيع تلك الجارية في الدين، فلما أن قبض ثمنها ندم ندامة شديدة على فراقها، وبقي متحيرا في أمره، ثم باعها الذي اشتراها فوصلت إلى ابن أبي حامد هذا، وهو صاحب بيت المال، فتشفع صاحبها الاول - الذي باعها في
الدين - ببعض أصحاب ابن أبي حامد في أن يردها إليه ثمنها، وذكر له أنه يحبها، وأنه من أهل العلم، وإنما باعها في دين ركبه لم يجد له وفاء.
فلما قال له ذلك لم يكن عند ابن أبي حامد شعور بما ذكر له من أمر الجارية، وذلك أن امرأته كانت اشترتها له ولم تعلمه بعد بأمرها حتى تحل من استبرائها، وكان ذلك اليوم آخر الاستبراء، فألبستها الحلي والمصاغ وصنعتها له وهيأتها، حتى صارت كأنها فلقة قمر، وكانت حسناء، فحين شفع صاحبه فيها وذكر أمرها بهت لعدم علمه بها.

(11/198)


ثم دخل على أهله يستكشف خبرها من امرأته، فإذا بها قد هيئت له، فلما رآها على ؟ الصفة فرح فرحا شديدا إذ وجدها كذلك من أجل سيدها الاول، الذي تشفع فيه صاحبه.
فأخرجها معه وهو يظهر السرور، وامرأته تظن أنه إنما أخذها ليطأها، فأتى بها إلى ذلك الرجل بحليها وزينتها، فقال له: هذه جاريتك ؟ فلما رآها على تلك الصفة في ذلك الحلي والزينة مع الحسن الباهر اضطرب كلامه واختلط في عقله مما رأى من حسن منظرها وهيئتها.
فقال: نعم.
فقال: خذها بارك الله لك فيها.
ففرح الفتى بها فرحا شديدا.
وقال سيدي تأمر بمن يحمل ثمنها إليك ؟ فقال: لا حاجة لنا بثمنها، وأنت في حل منه أنفقه عليك وعليها، فإني أخشى أن تفتقر فتبيعها لمن لا يردها عليك.
فقال: يا سيدي وهذا الحلى والمصاغ الذي عليها ؟ فقال: هذا شئ وهبناه لها لا نرجع فيه ولا يعود إلينا أبدا، فدعا له واشتد فرحه بها جدا وأخذها وذهب.
فلما أراد أن يودع ابن أبي حامد قال ابن أبي حامد للجارية: أيما أحب إليك نحن أو سيدك هذا ؟ فقالت: أما أنتم فقد أحسنتم إلى وأعنتموني فجزاكم الله خيرا، وأما سيدي هذا فلو أني ملكت منه ما ملك مني لم أبعه بالاموال الجزيلة ولا فرطت فيه أبدا.
فاستحسن الحاضرون كلامها وأعجبهم ذلك من قولها، مع صغر سنها.
شغب أم أمير المؤمنين المقتدر بالله الملقبة بالسيدة كان دخلها من أملاكها في كل سنة ألف ألف دينار، فكانت تتصدق بأكثر ذلك على الحجيج في أشربة وأزواد وأطباء يكونون معهم، وفي تسهيل الطرقات والموارد.
وكانت في غاية الحشمة والرياسة ونفوذ الكلمة أيام ولدها، فلما قتل كانت مريضة فزادها قتله مرضا إلى مرضها، ولما استقر أمر القاهر
في الخلافة وهو ابن زوجها المعتضد وأخو ابنها المقتدر، وقد كانت حضنته حين توفيت أمه وخلصته من ابنها لما أخذت البيعة بالخلافة له ثم رجع ابنها إلى الخلافة، فشفعت في القاهر وأخذته إلى عندها، فكانت تكرمه وتشتري له الجواري، فلما قتل ابنها وتولى مكانه طلبها وهي مريضة فعاقبها عقوبة عظيمة جدا، حتى كان يعلقها برجليها ورأسها منكوس، فربما بالت فيسيل البول على وجهها، ليقررها على الاموال فلم يجد لها شيئا سوى ثيابها ومصاغها وحليها في صناديقها.
قيمة ذلك مائة ألف دينار، وثلاثون ألف دينار، وكان لها غير ذلك أملاك أمر ببيعها وأتي بالشهود ليشهدوا عليها بالتوكيل في بيعها، فامتنع الشهود من الشهادة حتى ينظروا إليها ويحلوها، فرفع الستر بإذن الخليفة فقالوا لها: أنت شغب جارية المعتضد أم جعفر المقتدر ؟ فبكت بكاء طويلا ثم قالت: نعم، فكتبوا حليتها عجوز سمراء اللون دقيقة الجبين.
وبكى الشهود وتفكروا كيف يتقلب الزمان بأهله، وتنقل الحدثان وأن الدنيا دار بلاء لا يفي مرجوها بمخوفها، ولا يسلم طلوعها من كسوفها، من ركن إليها أحرقته بنارها.
ولم يذكر القاهر شيئا من إحسانها إليه رحمها الله وعفا عنها.
توفيت في جمادى الاولى من هذه السنة، ودفنت بالرصافة.

(11/199)


عبد السلام بن محمد ابن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان، مولى عثمان بن عفان، وهو أبو هاشم بن أبي علي الجبائي المتكلم ابن المتكلم، المعتزلي ؟ المعتزلي، وإليه تنسب الطائفة الهاشمية من المعتزلة، وله مصنفات في الاعتزال كما لابيه من قبله، مولده سنة سبع وأربعين ومائتين، توفي في شعبان منها.
قال ابن خلكان: وكان له ابن يقال له أبو علي، دخل يوما على الصاحب بن عباد فأكرمه وأحترمه وسأله عن شئ من المسائل فقال: لا أعرف نصف العلم.
فقال: صدقت وسبقك أبوك إلى الجهل بالنصف الآخر.
محمد (1) بن الحسن بن دريد بن عتاهية أبو بكر بن دريد الازدي اللغوي النحوي الشاعر صاحب المقصورة، ولد بالبصرة في سنة
ثلاث وعشرين ومائتين وتنقل في البلاد لطلب العلم والادب، وكان أبوه من ذوي اليسار، وقدم بغداد وقد أسن فأقام بها إلى أن توفي في هذه السنة.
روى عن عبد الرحمن ابن أخي الاصمعي، وأبي حاتم والرياشي.
وعنه أبو سعيد السيرافي، وأبو بكر بن شاذان، وأبو عبيد الله بن المرزبان وغيرهم.
ويقال كان أعلم من شعر من العلماء.
وقد كان متهتكا في الشراب منهمكا فيه.
قال أبو منصور الازهري: دخلت عليه فوجدته سكران فلم أعد إليه.
وسئل عنه الدار قطني فقال: تكلموا فيه.
وقال ابن شاهين: كنا ندخل عليه فنستحي مما نراه من العيدان المعلقة وآلات اللهو والشراب المصفى وقد جاوز التسعين وقارب المائة.
توفي يوم الاربعاء لثنتي عشرة بقيت من شعبان.
وفي هذا اليوم توفي أبو هاشم بن أبي علي الجبائي المعتزلي، فصلي عليهما معا، ودفنا في مقبرة الخيزران.
فقال الناس: مات اليوم عالم اللغة، وعالم الكلام.
وكان ذلك يوما مطيرا.
ومن مصنفات ابن دريد الجمهرة في اللغة نحو عشر مجلدات.
وكتاب المطر، والمقصورة، والقصيدة الاخرى في المقصور والممدود، وغير ذلك سامحه الله.
ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وثلثمائة فيها قصد ملك الروم (2) ملطية في خمسين ألفا فحاصرهم ثم أعطاهم الامان حتى تمكن منهم، فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر ما لا يحصون كثرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها وردت الاخبار أن مرداويج قد تسلم أصبهان وانتزعها من علي بن بويه، وأن علي بن بويه توجه إلى أرجان فأخذها،
__________
(1) من الوافي 2 / 329 ووفيات الاعيان 4 / 323 وفي الاصل: أحمد.
(2) وهو الدمستق قرقاش (الكامل 8 / 296 تاريخ أبي الفداء 2 / 81) (*).

(11/200)


وقد أرسل ابن بويه إلى الخليفة بالطاعة والمعونة، وإن أمكن يقبل العتبة الشريفة ويحضر بين يدي الخليفة إن رسم، ويذهب إلى شيراز فيكون مع ابن ياقوت.
ثم اتفق الحال بعد ذلك أن صار إلى شيراز وأخذها من نائبها ابن ياقوت بعد قتال عظيم، ظفر فيه ابن بويه بابن ياقوت وأصحابه، فقتل منهم خلقا وأسر جماعة، فلما تمكن أطلقهم وأحسن إليهم وخلع عليهم، وعدل في الناس.
وكانت
معه أموال كثيرة قد استفادها من أصبهان والكرج (1) وهمذان وغيرها.
وكان كريما جوادا معطيا للجيوش الذين قد التفوا عليه، ثم إنه أملق في بعض الاحيان وهو بشيراز، وطالبه الجند بأرزاقهم وخاف أن ينحل نظام أمره وملكه، فاستلقى على قفاه يوما مفكرا في أمره، وإذا حية قد خرجعت من شق في سقف المكان الذي هو فيه ودخلت في آخر، فأمر بنزع تلك السقوف فوجد هنالك مكانا فيه شئ كثير من الذهب، نحو من خمسمائة ألف دينار.
فأنفق في جيشه ما أراد، وبقي عنده شئ كثير.
وركب ذات يوم يتفرج في واجوانب البلد ونظر إلى ما بنته الاوائل، ويتعظ بمن كان فيه قبله، فانخسفت الارض من تحت قوائم فرسه فأمر فحفر هنالك فوجد من الاموال شيئا كثيرا أيضا.
واستعمل عند رجل خياط قماشا ليلبسه فاستبطأ فأمر بإحضاره، فلما وقف بين يديه تهدده - وكان الخياط أصم لا يسمع جيدا - فقال: والله أيها الملك ما لابن ياقوت عندي سوى اثنا عشر صندوقا لا أدرى ما فيها.
فأمر بإحضارها فإذا فيها أموال عظيمة تقارب ثلثمائة ألف دينار، واطلع على ودائع كانت ليعقوب بن الليث، فيها من الاموال ما لا يحد ولا يوصف كثرة، فقوي أمره وعظم سلطانه جدا.
وهذا كله من الامور المقدرة لما يريد الله بهم من السعادة الدنيوية، بعد الجوع والقلة (وربك يخلق ما يشاء ويختار) [ القصص: 68 ] وكتب إلى الراضي ووزيره ابن مقلة أن يقطع على ما قبله من البلاد على ألف ألف في كل سنة، فأجابه الراضي إلى ذلك، وبعث إليه بالخلع واللواء وأبهة الملك.
وفيها قتل القاهر أميرين كبيرين، وهما إسحاق بن إسماعيل النوبختي، وهو الذي كان قد أشار على الامراء بخلافة القاهر.
وأبا السرايا بن حمدان أصغر ولد أبيه، وكان في نفس القاهر منهما بسبب إنهما زايداه من قبل أن يلي الخلافة في جاريتين مغنيتين.
فاستدعاهما إلى المسامرة فتطيبا وحضرا، فأمر بإلقائهما في جب هنا لك فتضرعا إليه فلم يرحمهما، بل ألقيا فيها وطم عليهما.
ذكر خلع القاهر وسمل عينيه وعذابه وكان سبب ذلك أن الوزير علي بن مقلة كان قد هرب حين قبض على مؤنس كما تقدم، فاختفى في داره، وكان يراسل الجند ويكاتبهم ويغريهم بالقاهر، ويخوفهم سطوته وإقدامه، وسرعة بطشه، ويخبرهم بأن القاهر قد أعد لاكابر الامراء أماكن في دار الخلافة يسجنهم فيها، ومهالك
يلقيهم فيها، كما فعل بفلان وفلان فهيجهم ذلك على القبض على القاهر، فاجتمعوا وأجمعوا رأيهم على
__________
(1) من تجارب الامم 1 / 277 والكامل 8 / 267.
ومعجم البلدان 4 / 446 (*).

(11/201)


مناجزته في هذه الساعة، فركبوا مع الامير المعروف بسيما، وقصدوا دار الخلافة فأحاطوا بها، ثم هجموا عليه من سائر أبوابها وهو مخمور، فاختفى في سطح حمام فظهروا عليه فقبضوا عليه وحبسوه في مكان طريف اليشكري (1)، وأخرجوا طريفا من السجن، وخرج الوزير الخصيبي مستترا في زي امرأة، فذهب.
واضطربت بغداد ونهبت، وذلك يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الاولى فيها، في الشهر الذي ماتت فيه شغب.
فلم يكن بين موتها والقبض عليه وسمل عينيه وعذابه بأنواع العقوبات إلا مقدار سنة واحدة، وانتقم الله منه.
ثم أمروا بإحضاره، فلما حضر سملوا عينيه حتى سالتا على خديه، وارتكب منه أمر عظيم لم يسمع مثله في الاسلام، ثم أرسلوه.
وكان تارة يحبس وتارة يخلى سبيله.
وقد تأخر موته إلى سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة.
وافتقر حتى قام يوما بجامع المنصور فسأل الناس فأعطاه رجل خمسمائة دينار.
ويقال إنما أراد بسؤاله التشنيع عليهم.
وسنذكر ترجمته إذا ذكرنا وفاته.
خلافة الراضي بالله أبي العباس محمد بن المقتدر بالله
لما خلعت الجند القاهر وسملوا عينيه أحضروا أبا العباس محمد بن المقتدر بالله فبايعوه بالخلافة ولقبوه الراضي بالله.
وقد أشار أبو بكر الصولي بأن يلقب بالمرضي بالله فلم يقبلوا، وذلك يوم الاربعاء لست خلون من جمادى الاولى منها.
وجاؤوا بالقاهرة وهو أعمى قد سملت عيناه فأوقف بين يديه فسلم عليه بالخلافة وسلمها إليه، فقام الراضي بأعبائها، وكان من خيار الخلفاء على ما سنذكره.
وأمر بإحضار أبي علي بن مقلة فولاه الوزارة، وجعل علي بن عيسى ناظرا معه، وأطلق كل من كان في حبس القاهر، واستدعى عيسى طبيب القاهر فصادره بمائتي ألف دينار، وتسلم منه الوديعة التي كان القاهر أودعه إياها، وكانت جملة مستكثرة من الذهب والفضة والجواهر النفيسة.
وفيها عظم أمر مرداويج بأصبهان وتحدث الناس أنه يريد أخذ بغداد، وأنه ممالئ لصاحب البحرين
أمير القرامطة، وقد اتفقا على رد الدولة من العرب إلى العجم، وأساء السيرة في رعيته، لا سيما في خواصه.
فتمالؤا عليه فقتلوه، وكان القائم بأعباء قتله أخص مماليكه وهو بجكم (2) بيض الله وجهه، وبجكم هذا هو الذي استنقذ الحجر الاسود من أيدي القرامطة حتى ردوه، اشتراه منهم بخمسين ألف دينار.
ولما قتل الامير بجكم مرداويج عظم أمر علي بن بويه، وارتفع قدره بين الناس، وسيأتي ما آل إليه حاله.
ولما خلع القاهر وولي الراضي، طمع هارون بن غريب في الخلافة، لكونه ابن خال المقتدر، وكان نائبا على ماه والكوفة والدينور وماسبذان، فدعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير من الجند والامراء، وجبى الاموال واستفحل أمره، وقويت شوكته، وقصد بغداد فخرج إليه محمد بن ياقوت
__________
(1) في الكامل 8 / 281: السبكري.
(2) من الكامل 8 / 303 وفي الاصل: بحكم، وقد صحح أينما ورد (*).

(11/202)


رأس الحجبة بجميع جند بغداد، فاقتتلوا فخرج في بعض الايام هارون بن غريب يتقصد لعله يعمل حيلة في أسر محمد بن ياقوت فتقنطر به فرسه فألقاه في نهر، فضربه غلامه حتى قتله وأخذ رأسه حتى جاء به إلى محمد بن ياقوت، وانهزم أصحابه ورجع ابن ياقوت فدخل بغداد ورأس هارون بن غريب يحمل على رمح، ففرح الناس بذلك، وكان يوما مشهودا.
وفيها ظهر ببغداد رجل يعرف بأبي جعفر بن علي الشلمغاني، ويقال له أبن العرافة (1)، فذكروا عنه أنه يدعي ما كان يدعيه الحلاج من الالهية، وكانوا قد قبضوا عليه في دولة المقتدر عند حامد بن العباس، واتهم بأنه يقول بالتناسخ فأنكر ذلك.
ولما كانت هذه المرة أحضره الراضي وادعى عليه بما كان ذكر عنه فأنكر ثم أقر بأشياء، فأفتى قوم أن دمه حلال إلا أن يتوب من هذه المقالة، فأبى أن يتوب، فضرب ثمانين سوطا، ثم ضربت عنقه وألحق بالحلاج، وقتل معه صاحبه ابن أبي عون لعنه الله.
وكان هذا للعين من جملة من أتبعه وصدقه فيما يزعمه من الكفر.
وقد بسط ابن الاثير في كامله مذهب هؤلاء الكفرة بسطا جيدا، وشبه مذهبهم بمذهب النصيرية.
وادعى رجل آخر ببلاد الشاش النبوة وأظهر المخاريق وأشياء كثيرة من الحيل، فجاءته الجيوش فقاتلوه، وانطفأ
أمره.
وفاة المهدي صاحب أفريقية وفيها كان موت المهدي صاحب إفريقية أول خلفاء الفاطميين الادعياء الكذبة، وهو أبو محمد عبيد الله المدعي أنه علوي، وتلقب بالمهدي، وبنى المهدية ومات بها عن ثلاث وستين سنة، وكانت ولايته - منذ دخل رقادة وادعى الامامة - أربعا وعشرين سنة وشهرا وعشرين يوما.
وقد كان شهما شجاعا، ظفر بجماعة ممن خالفه وناوأه وقاتله وعاداه، فلما مات قام بأمر الخلافة من بعده ولده أبو القاسم الملقب بالخليفة القائم بأمر الله.
وحين توفي أبوه كتم موته سنة حتى دبر ما أراده من الامور، ثم أظهر ذلك وعزاه الناس فيه.
وقد كان كأبيه شهما شجاعا: فتح البلاد وأرسل السرايا إلى بلاد الروم، ورام أخذ الديار المصرية فلم يتفق له ذلك، وإنما أخذ الديار المصرية ابن ابنه المعز الفاطمي باني القاهرة المعزية كما سنذكره إن شاء الله.
قال ابن خلكان في الوفيات: وقد اختلف في نسب المهدي هذا اختلافا كثيرا جدا، فقال صاحب تاريخ القيروان: هو عبيد الله بن الحسن بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وقال غيره: هو عبيد الله بن التقي وهو الحسين بن الوفي بن أحمد بن الرضي، وهو عبد الله هذا، وهو ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق.
وقيل غير
__________
(1) في الكامل 8 / 290 ابن أبي القراقر، وفي الفرق بين الفرق 199: ابن أبي العذافر والشلمغاني: نسبة إلى شلمغان قرية بنواحي واسط (*).

(11/203)


لك في نسبه.
قال ابن خلكان: والمحققون ينكرون دعواه في النسب.
قلت: قد كتب غير واحد من الائمة منهم الشيخ أبو حامد الاسفرايينى والقاضي الباقلاني، والقدوري، أن هؤلاء أدعياء ليس لهم نسب صحيح فيما يزعمونه، وأن والد عبيد الله المهدي هذا كان يهوديا صباغا بسلمية، وقيل كان اسمه سعد، وإنما لقب بعبيد الله زوج أمه الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن ميمون القداح، وسمي القداح لانه كان كحالا يقدح العيون.
وكان الذي وطأ له الامر بتلك البلاد أبو عبد الله
الشيعي كما قدمنا ذلك، ثم استدعاه فلما قدم عليه من بلاد المشرق وقع في يد صاحب سجلماسة فسجنه، فلم يزل الشيعي يحتال له حتى استنقذه من يده وسلم إليه الامر، ثم ندم الشيعي على تسليمه الامر وأراد قتله، ففطن عبيد الله لما أراد به، فأرسل إلى الشيعي من قتله وقتل أخاه معه.
ويقال إن الشيعي لما دخل السجن الذي قد حبس فيه عبيد الله هذا وجد صاحب سجلماسة قد قتله، ووجد في السجن رجلا مجهولا محبوسا فأخرجه إلى الناس، لانه كان قد أخبر الناس أن المهدي كان محبوسا في سجلماسة وأنه إنما يقاتل عليه، فقال للناس: هذا هو المهدي - وكان قد أوصاه أن لا يتكلم إلا بما يأمره به وإلا قتله - فراج أمره.
فهذه قصته.
وهؤلاء من سلالته والله أعلم.
وكان مولد المهدي هذا في سنة ستين ومائتين، وقيل قبلها، وقيل بعدها، بسلمية، وقيل بالكوفة والله أعلم.
وأول ما دعي له على منابر رقادة والقيروان يوم الجمعة لسبع بقين من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين، بعد رجوعه من سجلماسة، وكان ظهوره بها في ذي الحجة من السنة الماضية - سنة ست وتسعين ومائتين - فلما ظهر زالت دولة بني العباس عن تلك الناحية من هذا الحين إلى أن ملك العاضد في سنة سبع وستين وخمسمائة.
توفي بالمدينة المهدية التي بناها في أيامه للنصف من ربيع الاول منها، وقد جاوز الستين على المشهور، وسيفصل الله بين الآمر والمأمور يوم البعث والنشور.
وفيها توفي من الاعيان أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي مصر.
حدث عن أبيه بكتبه المشهورة، وتوفي وهو قاض بالديار المصرية في ربيع الاول منها.
محمد بن أحمد بن القاسم أبو علي الروذباري وقيل اسمه أحمد بن محمد، ويقال الحسين بن الهمام، والصحيح الاول.
أصله من بغداد وسكن مصر، وكان من أبناء الرؤساء والوزراء والكتبة، وصحب الجنيد وسمع الحديث وحفظ منه كثيرا، وتفقه بإبراهيم الحربي.
وأخذ النحو عن ثعلب، وكان كثير الصدقة والبر للفقراء، وكان إذا أعطى الفقير شيئا جعله في كفه تحت يد الفقير، ثم يتناوله الفقير، يريد أن لا تكون يد الفقير تحت يده.
قال أبو نعيم: سئل أبو علي الروذباري عمن يسمع الملاهي ويقول إنه وصل إلى منزلة لا يؤثر فيه اختلاف الاحوال.
فقال: نعم وصل، ولكن إلى سقر.
وقال: الاشارة الابانة، لما تضمنه.

(11/204)


الوجد من المشار إليه لا غير، وفي الحقيقة أن الاشارة تصححها العلل، والعلل بعيدة من غير الحقائق.
وقال: من الاغترار أن تسئ فيحسن إليك، فتترك الانابة والتوبة توهما أنك تسامح في الهفوات، وترى أن ذلك من بسط الحق لك.
وقال تشوقت القلوب إلى مشاهدة ذات الحق فألقيت إليها الاسامي، فركنت إليها مشغوفة بها عن الذات إلى أوان التجلي، فذلك قوله (ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها) [ الاعراف: 180 ] فوقفوا معها عن إدراك الحقائق، فأظهر الاسامي وأبداها للخلق، لتسكين شوق المحبين إليه، وتأنيس قلوب العارفين به.
وقال: لا رضى لمن لا يصبر، ولا كمال لمن لا يشكر.
وبالله وصل العارفون إلى محبته وشكروه على نعمته.
وقال: إن المشتاقين إلى الله يجدون حلاوة الشوق عند ورود المكاشف لهم عن روح الوصال إلى قربه أحلى من الشهد.
وقال: من رزق ثلاثة أشياء فقد سلم من الآفات: بطن جائع معه قلب قانع، وفقر دائم معه زهد حاضر، وصبر كامل معه قناعة دائمة.
وقال: في اكتساب الدنيا مذلة النفوس، وفي اكتساب الآخرة عزها، فيا عجبا لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى على العز في طلب ما يبقى.
ومن شعره: لو مضى الكل مني لم يكن عجبا * وإنما عجبي في البعض كيف بقي أدرك بقية روح منك قد تلفت * قبل الفراق فهذا آخر الرمق محمد بن إسماعيل (1) المعروف بخير النساج أبو الحسن الصوفي، من كبار المشايخ ذوي الاحوال الصالحة، والكرامات المشهورة.
أدرك سريا السقطي وغيره من مشايخ القوم، وعاش مائة وعشرين سنة.
ولما حضرته والوفاة نظر إلى زاوية البيت فقال: قف رحمك الله، فإنك عبد مأمور وأنا عبد مأمور، وما أمرت به لا يفوت وما أمرت به يفوت.
ثم قام وتوضأ وصلى وتمدد رحمه الله.
وقد رآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل الله بك ؟ فقال استرحنا من دنياكم الوخيمة (2).
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة فيها أحضر ابن شنبوذ (3) المقري فأنكر عليه جماعة من الفقهاء والقراء حروفا انفرد بها فاعترف
ببعضها وأنكر بعضها، فاستتيب من ذلك واستكتب خطه بالرجوع عما نقم عليه، وضرب سبع درر بإشارة الوزير أبي علي بن مقلة، ونفي إلى البصرة.
فدعا علي الوزير أن تقطع يده ويشتت شمله،
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة 2 / 451: خير بن عبد الله، وقال: كان أسم خير، محمد بن إبراهيم السامري، أصله من سر من رأى لكنه نزل بغداد.
(انظر الكامل 8 / 297).
(2) في صفوة الصفوة: الوضرة.
(3) وهو محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت بن شنبوذ.
انظر ابن خلكان: ترجمته وقصة ومناظرته وضربه (*).

(11/205)


فكان ذلك عما قريب.
وفي جمادى الآخرة نادى ابن الحرسي (1) صاحب الشرطة في الجانبين من بغداد أن لا يجتمع اثنان من أصحاب أبي محمد البربهاري الواعظ الحنبلي.
وحبس من أصحابه جماعة، واستتر ابن البربهاري فلم يظهر مدة.
قال ابن الجوزي في المنتظم: وفي شهر أيار تكاثفت الغيوم واشتد الحر جدا، فلما كان آخر يوم منه - وهو الخامس والعشرين من جمادى الآخرة منها - هاجت ريح شديدة جدا وأظلمت الارض واسودت إلى بعد العصر، ثم خفت ثم عادت إلى بعد عشاء الآخرة.
وفيها استبطأ الاجناد أرزاقهم فقصدوا دار الوزير أبي علي بن مقلة فنقبوها وأخذوا ما فيها.
ووقع حريق عظيم في طريق الموازين، فاحترق للناس شئ كثير، فعوض عليهم الراضي بعض ما كان ذهب لهم.
وفي رمضان اجتمع جماعة من الامراء على بيعة جعفر بن المكتفي، فظهر الوزير على أمرهم فحبس جعفر ونهبت داره، وحبس جماعة ممن كان بايعه، وأنطفأت ناره.
وخرج الحجاج في غفارة الامير لؤلؤ فاعترضهم أبو طاهر القرمطي فقتل أكثرهم ورجع من انهزم منهم إلى بغداد، وبطل الحج في هذه السنة من طريق العراق.
قال ابن الجوزي: وفيها تساقطت كواكب كثيرة ببغداد والكوفة على صورة لم ير مثلها، ولا ما يقاربها، وغلا السعر في هذه السنة حتى بيع الكر من الحنطة بمائة وعشرين دينارا.
وفيها على الصحيح كان مقتل مرداويج بن زياد الديلمي، وكان قبحه الله سئ السيرة والسريرة، يزعم أن روح سليمان بن داود حلت فيه، وله سرير من ذهب يجلس عليه والاتراك بين يديه، ويزعم أنهم الجن الذين سخروا لسليمان بن داود، وكان يسئ المعاملة لجنده
ويحتقرهم غاية الاحتقار، فما زال ذلك دأبه حتى أمكنهم الله منه فقتلوه شر قتلة في حمام، وكان الذي مالا على قتله غلامه بجكم التركي، وكان ركن الدولة بن بويه رهينة عنده فأطلق لما قتل، فذهب إلى أخيه عماد الدولة، وذهبت طائفة من الاتراك معه إلى أخيه، والتفت طائفة منهم على بجكم فسار بهم إلى بغداد بإذن الخليفة له في ذلك، ثم صرفوا إلى البصرة فكانوا بها.
وأما الديلم فإنهم بعثوا إلى أخي مرداويج وهو وشمكير، فلما قدم عليهم تلقوه إلى أثناء الطريق حفاة مشاة فملكوه عليهم لئلا يذهب ملكهم، فانتدب إلى محاربته الملك السعيد نصر بن أحمد الساماني نائب خراسان وما وراء النهر، وما والاها من تلك البلاد والاقاليم، فانتزع منه بلدانا هائلة.
وفيها بعث القائم بأمر الله الفاطمي جيشا من إفريقية في البحر إلى ناحية الفرنج فافتتحوا مدينة جنوه وغنموا غنائم كثيرة وثروة.
ورجعوا سالمين غانمين.
وفيها بعث عماد الدولة إلى أصبهان فاستولى عليها وعلى بلاد الجبل واتسعت مملكته جدا.
وفيها كان غلاء شديد بخراسان، ووقع بها فناء كثير، بحيث كان يهمهم أمر دفن الموتى.
وفيها قتل ناصر الدولة أبو الحسن بن حمدان نائب الموصل عمه أبا العلاء سعيد بن حمدان لانه أراد أن ينتزعها منه، فبعث إليه الخليفة وزيره أبا علي بن مقلة في جيوش، فهرب منه ناصر الدولة، فلما طال مقام ابن مقلة بالموصل ولم يقدر على ناصر الدولة رجع إلى بغداد، فاستقرت يد ناصر الدولة على الموصل.
وبعث به إلى الخليفة أن يضمنه تلك الناحية، فأجيب إلى ذلك، واستمر الحال على ما كان.
وخرج
__________
(1) في الكامل 8 / 307: بدر الخرشني (*).

(11/206)


الحجيج فلقيهم القرمطي فقاتلهم وظفر بهم فسألوه الامان فأمنهم على أن يرجعوا بغداد فرجعوا، وتعطل الحج عامهم ذلك أيضا.
وفيها توفي من الاعيان..نفطويه النحوي واسمه إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الازدي أبو عبد الله العتكي المعروف بنفطويه النحوي.
له مصنفات فيه، وقد سمع الحديث وروى
عن المشايخ وحدث عنه الثقات، وكان صدوقا، وله أشعار حسنة.
وروى الخطيب عن نفطويه أنه مر على بقال فقال له: أيها الشيخ كيف الطريق إلى درب الرآسين - يعني درب الرواسين - فالتفت البقال إلى جاره فقال له: قبح الله غلامي أبطأ علي بالسلق، ولو كان عندي لصفعت هذا بحزمة منه.
فانصرف عنه نفطويه ولم يرد عليه.
توفي نفطويه في شهر صفر من هذه السنة عن ثلاث وثمانين سنة (1) وصلى عليه البربهاري رئيس الحنابلة، ودفن بمقابر دار الكوفة.
ومما أنشده أبو علي القالي في الامالي له: قلبي أرق عليه (2) من خديكا * وفؤادي أوهى من قوى جفنيكا لم لا ترق لمن يعذب نفسه * ظلما ويعطفه هواه عليكا قال ابن خلكان: وفي نفطويه يقول أبو محمد عبد الله بن زيد بن علي بن الحسين الواسطي المتكلم المشهور صاحب " الامامة " و " إعجاز القرآن " وغير ذلك من الكتب: من سره أن لا يرى فاسقا * فليجتهد أن لا يرى نفطويه أحرقه الله بنصف اسمه * وصير الباقي صراخ عليه قال الثعالبي: إنما سمي نفطوية لدمامته.
وقال ابن خالويه: لا يعرف من اسمه إبراهيم وكنيته أبو عبد الله سواه.
عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله الهاشمي العباسي حدث عن بشار بن نصر الحلبي وغيره.
وعنه الدار قطني وغيره، وكان ثقة فاضلا فقيها شافعيا.
__________
(1) ولادته سنة 244 وقيل سنة 250 بواسط وسكن بغداد (الوفيات 1 / 47).
(2) في الامالى 1 / 207: قلبي عليك أرق (*).

(11/207)


عبد الملك بن محمد بن عدي أبو نعيم الاستراباذي المحدث الفقيه الشافعي أيضا، توفي عن ثلاث وثمانين سنة.
علي بن الفضل بن طاهر بن نصر بن محمد أبو الحسن البلخي، كان من الجوالين في طلب الحديث، وكان ثقة حافظا، سمع أبا هاشم الرازي وغيره.
وعنه الدار قطني وغيره.
محمد بن أحمد بن أسد أبو بكر الحافظ، ويعرف بابن البستبنان (1)، سمع الزبير بن بكار وغيره، وعنه الدار قطني وغيره.
جاوز الثمانين.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وثلثمائة فيها جاءت الجند فأحدقوا بدار الخلافة وقالوا: ليخرج إلينا الخليفة الراضي بنفسه فيصلي بالناس.
فخرج فصلى بهم وخطبهم.
وقبض الغلمان على الوزير ابن مقلة وسألوا من الخليفة أن يستوزر غيره فرد الخيرة إليهم فاختاروا علي بن عيسى فلم يقبل، وأشار بأخيه عبد الرحمن بن عيسى فاستوزره، وأحرقت دار ابن مقلة، وسلم هو إلى عبد الرحمن بن عيسى فضرب ضربا عنيفا، وأخذ خطه بألف ألف دينار، ثم عجز عبد الرحمن بن عيسى فعزل بعد خمسين يوما وقلد الوزارة أبو جعفر بن القاسم الكرخي، فصادر علي بن عيسى بمائة ألف دينار، وصادر أخاه عبد الرحمن بن عيسى بسبعين ألف دينار، ثم عزل بعد ثلاثة أشهر ونصف، وقلد سليمان بن الحسن (2)، ثم عزل بأبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، وذلك في السنة الآتية.
وأحرقت داره كما أحرقت دار ابن مقلة في يوم أحرقت تلك فيه، سنة بينهما واحدة.
وهذا كله من تخبيط الاتراك والغلمان.
ولما أحرقت دار ابن مقلة في هذه السنة كتب بعض الناس على بعض جدرانها: أحسنت ظنك بالايام إذ حسنت * ولم تخف يوما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها * وعند صفو الليالي يحدث الكدر وفيها ضعف أمر الخلافة جدا، وبعث الراضي إلى محمد بن رائق - وكان بواسط - يدعوه إليه ليوليه إمرة الامراء بغداد، وأمر الخراج والمغل في جميع البلاد والدواوين، وأمر أن يخطب له على جميع المنابر، وأنفذ إليه بالخلع.
فقدم ابن رائق بغداد على ذلك كله، ومعه الامير بجكم التركي غلام مرداويج، وهو الذي ساعد على قتل مرداويج.
واستحوذ ابن رائق على أموال العراق بكماله، ونقل
__________
(1) نسبة إلى حفظ البستان.
(2) من الكامل 8 / 322 والفخري ص 281 وهو سليمان بن الحسن بن مخلد، وفي الاصل: الحسين.
قال الفخري: وفي أيامه استبد بالامور ابن رائق وولى النظار والعمال ورفعت المطالعات إليه..ولم يبق للوزير سوى الاسم من غير حكم ولا تدبير.
(ص 282) (*).

(11/208)


أموال بيت المال إلى داره، ولم يبق للوزير تصرف في شئ بالكلية، ووهى أمر الخلافة جدا، واستقل نواب الاطراف بالتصرف فيها، ولم يبق للخليفة حكم في غير بغداد ومعاملاتها.
ومع هذا ليس له مع ابن رائق نفوذ في شئ، ولا تفرد بشئ، ولا كلمة تطاع، وإنما يحمل إليه ابن رائق ما يحتاج إليه من الاموال والنفقات وغيرها.
وهكذا صار أمر من جاء بعده من أمراء الاكابر، كانوا لا يرفعون رأسا بالخليفة، وأما بقية الاطراف فالبصرة مع ابن رائق هذا، يولي فيها من شاء.
وخوزستان إلى أبي عبد الله البريدي، وقد غلب ابن ياقوت على ما كان بيده في هذه السنة من مملكة تستر وغيرها واستحوذ على حواصلها وأموالها.
وأمر فارس إلى عماد الدولة بن بويه ينازعه في ذلك وشمكير أخو مرداويج وكرمان بيد أبي علي محمد بن إلياس بن اليسع.
وبلاد الموصل والجزيرة وديار بكر ومضر وربيعة مع بني حمدان.
ومصر والشام في يدي محمد بن ظغج.
وبلاد إفريقية والمغرب في يد القائم بأمر الله ابن المهدي الفاطمي، وقد تلقب بأمير المؤمنين.
والاندلس في يد عبد الرحمن بن محمد، والملقب بالناصر الاموي.
وخراسان وما وراء النهر في يد السعيد نصر بن أحمد الساماني.
وطبرستان وجرجان في يد الديلم.
والبحرين واليمامة وهجر في يد أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي.
وفيها وقع ببغداد غلاء عظيم وفناء كثير بحيث عدم الخبز منها خمسة أيام، ومات من أهلها خلق كثير، وأكثر ذلك كان في الضعفاء، وكان الموتى يلقون في الطريق ليس لهم من يقوم بهم، ويحمل على الجنازة الواحدة الرجلان من الموتى، وربما يوضع بينهم صبي، وربما حفرت الحفرة الواحدة فتوسع حتى يوضع فيها جماعة.
ومات من أهل أصبهان نحو من مائتي ألف إنسان.
وفيها وقع حريق بعمان أحرق فيه من السودان ألف، ومن البيضان خلق كثير، وكان جملة ما أحرق فيه أربعمائة حمل كافور.
وعزل الخليفة أحمد بن كيغلغ عن نيابة الشام، وأضاف ذلك إلى ابن طغج نائب الديار
المصرية.
وفيها ولد عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة بن بويه بأصبهان.
وفيها توفي من الاعيان..ابن مجاهد المقري أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد المقري، أحد أئمة هذا الشأن.
حدث عن خلق كثير، وروى عنه الدار قطني وغيره، وكان ثقة مأمونا، سكن الجانب الشرقي من بغداد، وكان ثعلب يقول: ما بقي في عصرنا أحد أعلم بكتاب الله منه.
توفي يوم الاربعاء وأخرج يوم الخميس لعشر بقين من شعبان من هذه السنة.
وقد رآه بعضهم في المنام وهو يقرأ فقال له: أما مت ؟ فقال: بلى ولكن كنت أدعو الله عقب كل ختمة أن أكون ممن يقرأ في قبره، فأنا ممن يقرأ في قبره.
رحمه الله.
جحظة الشاعر البرمكي أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي، أبو الحسن النديم المعروف

(11/209)


بجحظة الشاعر الماهر الاديب الاخباري، ذو الفنون في العلوم والنوادر الحاضرة، وكان جيد الغناء.
ومن شعره: قد نادت الدنيا على نفسها * لو كان في العالم من يسمع كم آمل خيبت آماله * وجامع بددت ما يجمع وكتب له بعض الملوك رقعة على صيرفي بمال أطلقه له فلم يحصل له، فكتب إلى الملك يذكر له ذلك: إذا كانت صلاتكم رقاعا * تخطط بالانامل والاكف فلا تجد الرقاع علي نفعا * فذا خطي فخذه بألف ألف ومن شعره يهجو صديقا له ويذمه على شدة شحه وبخله وحرصه فقال: لنا صاحب من أبرع الناس في البخل * يسمى بفضل، وهو ليس بذي فضل دعاني كما يدعو الصديق صديقه * فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي
فلما جلسنا للغداء رأيته * يرى أنما من بعض أعضائه أكلي فيغتاظ أحيانا ويشتم عبده * فأعلم أن الغيظ والشتم من أجلي أمد يدي سرا لآكل لقمة * فيلحظني شزرا فأعبث بالبقل إلى أن جنت كفي علي جناية * وذلك أن الجوع أعدمني عقلي فأهوت يميني نحو رجل دجاجة * فجرت رجلها كما جرت يدي رجلي ومن قوي شعره قوله: رحلتم فكم من أنة بعد حنة * مبينة للناس حزني عليكم وقد كنت أعتقت الجفون من البكا * فقد ردها في الرق شوقي إليكم وقد أورد له ابن خلكان من شعره الرائق قوله: فقلت لها: بخلت علي يقظي * فجودي في المنام لمستهام فقالت لي: وصرت تنام أيضا * وتطمع أن أزورك في المنام ؟ قال: وإنما لقبه بجحظة عبد الله بن المعتز، وذلك لسوء منظره بمآقيه.
قال بعض من هجاه (1):
__________
(1) البيتان لابن الرومي قالهما في خلقه المشوه (الوفيات 1 / 134) (*)

(11/210)


بيت جحظة تسعين جحوظة (1) * من فيل شطرنج ومن سرطان وارحمتا لمنادميه تحملوا * ألم العيون للذة الآذان توفي سنة ست وعشرين وقيل أربع وعشرين وثلثمائة بواسط.
ابن المغلس الفقيه الظاهري (2) المشهور.
له المصنفات المفيدة في مذهبه.
أخذ الفقه عن أبي بكر بن داود.
وروى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، وعلي بن داود القنطري، وأبي قلابة الرياشي، وآخرين.
وكان ثقة فقيها
فاضلا وهو الذي نشر علم داود في تلك البلاد.
توفي بالسكتة.
أبو بكر بن زياد النيسابوري عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل بن ميمون، أبو بكر الفقيه الشافعي النيسابوري مولى أبان بن عثمان، رحل إلى العراق والشام ومصر، وسكن بغداد.
حدث عن محمد بن يحيى الذهلي وعباس الدوري، وخلق.
وعنه الدار قطني وغير واحد من الحفاظ.
قال الدار قطني: لم ير في مشايخنا أحفظ منه للاسانيد والمتون وكان أفقه المشايخ، جالس المزني والربيع وقال عبد الله بن بطة: كنا نحصر مجلس ابن زيادة وكان يحرز من يحضره من أصحاب المحابر ثلاثين ألفا.
وقال الخطيب: أخبرنا أبو سعد الماليني أنبأ يوسف بن عمر بن مسرور سمعت أبا بكر ابن زياد النيسابوري يقول: أعرف من قام الليل أربعين سنة لم ينم إلا جاثيا، ويتقوت كل يوم خمس حبات، ويصلي صلاة الغد بطهارة العشاء، ثم يقول: أنا هو كنت أفعل هذا كله قبل أن أعرف أم عبد الرحمن - يعني أم ولده - إيش أقول لمن زوجني.
ثم قال في إثر هذا: ما أراد إلا الخير.
توفي في هذه السنة عن ست وثمانين سنة.
عفان بن سليمان ابن أيوب أبو الحسن التاجر، أقام بمصر وأوقف بها أوقافا دارة على أهل الحديث، وعلى سلالة العشرة رضي الله عنهم.
وكان تاجرا موسعا عليه في الدنيا، مقبول الشهادة عند الحكام، توفي في شعبان منها.
__________
(1) في الوفيات: يستعير جحوظه.
(2) هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس، أبو الحسن البغدادي الداودي (*).

(11/211)


أبو الحسن الاشعري قدم بغداد وأخذ الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي وتفقه بابن سريج.
وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية.
وذكر ابن خلكان: أنه كان يجلس في حلقة الشيخ أبي إسحاق المروزي، وقد كان
الاشعري معتزليا فتاب منه بالبصرة فوق المنبر، ثم أظهر فضائح المعتزلة وقبائحهم، وله من الكتب: الموجز وغيره، وحكي عن ابن حزم أنه قال: للاشعري خمسة وخمسون تصنيفا.
وذكر أن مغله كان في كل سنة سبعة عشر ألف درهم، وأنه كان من أكثر الناس دعابة، وأنه ولد سنة سبعين ومائتين، وقيل سنة ستين ومائتين، ومات في هذه السنة، وقيل في سنة ثلاثين، وقيل في سنة بضع وثلاثين وثلثمائة فالله أعلم.
محمد بن الفضل بن عبد الله، أبو ذر التميمي، كان رئيس جرجان، سمع الكثير، وتفقه بمذهب الشافعي، وكانت داره مجمع العلماء، وله إفضال كثير على طلبة العلم من أهل زمانه.
هارن بن المقتدر أخو الخليفة الراضي، توفي في ربيع الاول منها، فحزن عليه أخوه الراضي.
وأمر بنفي بختيشوع بن يحيى المتطبب إلى الانبار، لانه اتهم في علاجه، ثم شفعت فيه أم الراضي فرده.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلثمائة في المحرم منها خرج الخليفة الراضي وأمير الامراء محمد بن رائق من بغداد قاصدين واسط لقتال أبي عبد الله البريدي نائب الاهواز، الذي قد تجبر بها ومنع الخراج، فلما سار ابن رائق إلى واسط خرج الحجون (1) فقاتلوه فسلط عليهم بجكم فطحنهم (2)، ورجع فلهم إلى بغداد فتلقاهم لؤلؤ أمير الشرطة فاحتاط على أكثرهم ونهبت دورهم، ولم يبق لهم رأس يرتفع، وقطعت أرزاقهم من بيت المال بالكلية.
وبعث الخليفة وابن رائق إلى أبي عبد الله البريدي يتهددانه فأجاب إلى حمل كل سنة ثلثمائة ألف وستين ألف دينار يقوم بها، تحمل كل سنة على حدته، وأنه يجهز جيشا إلى قتال عضد الدولة بن بويه.
فلما رجع الخليفة إلى بغداد لم يحمل شيئا ولم يبعث أحدا.
ثم بعث ابن رائق بجكم وبدرا الحسيني لقتال البريدي، فجرت بينهم حروب وخطوب، وأمور يطول ذكرها.
ثم لجأ البريدي إلى عماد الدولة واستجار به، واستحوذ بجكم على بلاد الاهواز، وجعل إليه ابن رائق خراجها، وكان بجكم هذا شجاعا فاتكا.
وفي ربيع الاول خلع الخليفة على بجكم وعقد له الامارة ببغداد، وولاه نيابة المشرق إلى خراسان.
وفيها من الاعيان أبو حامد بن الشرقي:
__________
(1) في الكامل 8 / 329 الحجرية.
(2) في الكامل: اعترضهم ابن رائق فقاتلهم قتالا شديدا فانهزم الحجرية وقتل منهم جماعة (*).

(11/212)


أحمد بن محمد بن الحسن أبو حامد الشرقي، مولده سنة أربعين ومائتين، وكان حافظا كبير القدر كثير الحفظ، كثير الحج.
رحل إلى الامصار وجاب الاقطار، وسمع من الكبار، نظر إليه ابن خزيمة يوما فقال: حياة أبي حامد تحول بين الناس وبين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عبد الله بن محمد بن سفيان أبو الحسن الخزاز النحوي، حدث عن المبرد وثعلب، وكان ثقة.
له مصنفات في علوم القرآن غزيرة الفوائد: محمد بن إسحاق بن يحيى أبو الطيب النحوي، قال أبو الوفا له مصنفات مليحة في الاخبار، وقد حدث عن الحارث بن أبي المبرد وأسامة وثعلب وغيرهم - محمد بن هارون أبو بكر العسكري الفقيه على مذهب أبي ثور، روى عن الحسن بن عرفة وعباس الدوري وعن الدار قطني والآجري وغيرهما.
والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وثلثمائة فيها ورد كتاب من ملك الروم إلى الراضي مكتوب بالرومية والتفسير بالعربية، فالرومي بالذهب والعربي بالفضة، وحاصله طلب الهدنة بينه وبينه، ووجه مع الكتاب بهدايا وألطاف كثيرة فاخرة (1)، فأجابه الخليفة إلى ذلك، وفودي من المسلمين ستة آلاف أسير (2)، ما بين ذكر وأنثى على نهر البدندون.
وفيها ارتحل الوزير أبو الفتح بن الفرات من بغداد إلى الشام، وترك الوزارة فوليها أبو علي بن مقلة وكانت ولايته ضعيفة جدا، ليس له من الامر شئ مع ابن رائق، وطلب من ابن رائق أن يفرغ له عن أملاكه فجعل يماطله، فكتب إلى بجكم يطمعه في بغداد، وأن يكون عوضا عن ابن رائق.
وكتب ابن مقلة أيضا إلى الخليفة ويطلب منه أن يسلم إليه ابن رائق وابن مقاتل، ويضمنهم بألفي دينار، فبلغ ذلك ابن رائق فأخذه فقطع يده، وقال: هذا أفسد في الارض.
ثم جعل يحسن للراضي أن يستوزره وأن قطع يده لا يمنعه من الكتابة، وأنه يشد القلم على يده اليمنى المقطوعة فيكتب بها، ثم بلغ ابن رائق أنه قد كتب إلى بجكم بما تقدم، وأنه يدعو عليه.
فأخذه فقطع لسانه
وسجنه في مكان ضيق، وليس عنده من يخدمه، فكان يستقي الماء بنفسه يتناول الدلو بيده اليسرى ثم يمسكه بفيه ثم يجذب باليسرى ثم يمسك بفيه إلى أن يستقي، ولقي شدة وعناء، ومات في محبسه هذا وحيدا فدفن فيه.
ثم سأل أهله نقله فدفن في داره، ثم نقل منها إلى غيرها، فاتفق له أشياء
__________
(1) نسخة كتاب ملك الروم في تاريخ الزمان لابن العبري ص 56، ورد الخليفة وفيه: من عبد الله أبي العباس الراضي امام الدين أمير المؤمنين إلى رومانوس وقسطنطين واسطفانس وقسطنطين زعماء الروم سلام.
رحبنا بهداياكم ووجهنا إليكم طبقا لرغبتكم سفيرنا فلانا تكريما لكم وتأييدا لعقد الصلح.
(2) في الكامل 8 / 352: ستة آلاف وثلثمائة أسير (*).

(11/213)


غريبة: منها أنه وزر ثلاث مرات، وعزل ثلاث مرات، وولي لثلاثة من الخلفاء، ودفن ثلاث مرات، وسافر ثلاث سفرات، مرتين منفيا ومرة إلى الموصل كما تقدم.
وفيها دخل بجكم بغداد فقلده الراضي إمرة الامراء مكان ابن رائق، وقد كان بجكم هذا من غلمان أبي علي العارض وزير ما كان بن كالي الديلمي، فاستوهبه ما كان من الوزير فوهبه له، ثم فارق ما كان ولحق بمرداويج، وكان في جملة من قتله في الحمام كما تقدم.
فلما ولاه الخليفة إمرة الامراء أسكن في دار مؤنس الخادم، وعظم أمره جدا وانفصل ابن رائق وكانت أيامه سنة وعشرة أشهر وستة عشر يوما.
وفيها بعث عماد الدولة بن بويه أخاه معز الدولة فأخذ الاهواز لابي عبد الله البريدي، وانتزعها من يد بجكم وأعادها إليه.
وفيها استولى لشكري أحد أمراء وشمكير الديلمي على بلاد أذر بيجان وانتزعها من رستم (1) بن إبراهيم الكردي، أحد أصحاب ابن أبي الساج، بعد قتال طويل.
وفيها اضطرب أمر القرامطة جدا وقتل بعضهم بعضا، وانكفوا بسبب ذلك عن التعرض للفساد في الارض، ولزموا بلدهم هجر لا يرومون منه انتقالا إلى غيره، ولله الحمد والمنة.
وفيها توفي أحمد بن زياد بن عبد الرحمن الاندلسي، كان أبوه من أصحاب مالك، وهذا الرجل هو أول من أدخل فقه مالك إلى الاندلس وقد عرض عليه القضاء بها فلم يقبل.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وثلثمائة
في المحرم منها خرج الراضي أمير المؤمنين إلى الموصل لمحاربة ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان نائبها، وبين يديه بجكم أمير الامراء، وقاضي القضاة أبو الحسين عمر بن محمد بن يوسف، وقد استخلف على بغداد ولده القاضي أبا نصر يوسف بن عمر، في منصب القضاء، عن أمر الخليفة بذلك.
وكان فاضلا عالما، ولما انتهى بجكم إلى الموصل واقع الحسن بن عبد الله بن حمدان فهزم بجكم ابن حمدان، وقرر الخليفة الموصل والجزيرة، وولى فيها.
وأما محمد بن رائق فإنه اغتنم غيبة الخليفة عن بغداد واستجاش بألف من القرامطة وجاء بهم فدخل بغداد فأكثر فيها الفساد، غير أنه لم يتعرض لدار الخلافة، ثم بعث إلى الخليفة يطلب منه المصالحة والعفو عما جنى، فأجابه إلى ذلك، وبعث إليه قاضي القضاة أبا الحسين عمر بن يوسف، وترحل ابن رائق عن بغداد (2) ودخلها الخليفة في جمادى الاولى، ففرح المسلمون بذلك.
ونزل عند غروب الشمس أول ليلة من شهر آذار في جمادى الاولى مطر عظيم، وبرد كبار، كل واحدة نحو أوقيتين، واستمر فسقط بسببه دور كثيرة من بغداد.
وظهر جراد كثير في هذه السنة وكان الحج من جهة درب العراق قد تعطل
__________
(1) في الكامل 8 / 349: ديسم.
(2) في الكامل 8 / 354: قلده طريق الفرات وديار مصر - حران والرها وما جاورها وجند قنسرين والعواصم قال في مختصر تاريخ البشر: فسار ابن رائق واستولى عليها 2 / 86 (*).

(11/214)


من سنة سبع عشرة وثلثمائة إلى هذه السنة، فشفع في الناس الشريف أبو علي محمد بن يحيى العلوي عند القرامطة، وكانوا يحبونه لشجاعته وكرمه، في أن يمكنهم من الحج، وأن يكون لهم على كل جمل خمسة دنانير، وعلى المحمل سبعة دنانير، فاتفقوا معه على ذلك، فخرج الناس في هذه السنة إلى الحج على هذا الشرط، وكان في جملة من خرج الشيخ أبو علي بن أبي هريرة أحد أئمة الشافعية فلما اجتاز بهم طالبوه بالخفارة فثنى رأس راحلته ورجع وقال: ما رجعت شحا ولكن سقط عني الوجوب بطلب هذه الخفارة.
وفيها وقعت فتنة بالاندلس وذلك أن عبد الرحمن الاموي صاحب الاندلس الملقب بالناصر لدين الله، قتل وزيره أحمد فغضب له أخوه أمية بن إسحاق - وكان نائبا على مدينة
شنترين - فارتد ودخل بلاد النصارى واجتمع بملكهم ردمير ودلهم على عورات المسلمين، فسار إليهم في جيش كثيف من الجلالقة فخرج إليهم عبد الرحمن فأوقع بهم بأسا شديدا، وقتل من الجلالقة خلقا كثيرا، ثم كر الفرنج على المسلمين فقتلوا منهم خلقا كثيرا قريبا ممن قتلوا منهم، ثم والى المسلمون الغارات على بلاد الجلالقة فقتلوا منهم أمما لا يحصون كثرة، ثم ندم أمية بن إسحاق على ما صنع، وطلب الامان من عبد الرحمن فبعث إليه بالامان، فلما قدم عليه قبله واحترمه.
وفيها توفي من الاعيان الحسن بن القاسم بن جعفر بن دحيم (1) أبو علي الدمشقي، من أبناء المحدثين كان أخباريا له في ذلك مصنفات، وقد حدث عن العباس بن الوليد البيروتي (2) وغيره.
توفي بمصر في محرم هذه السنة.
وقد أناف على الثمانين سنة.
الحسين بن القاسم بن جعفر بن محمد بن خالد بن بشر أبو علي الكوكبي الكاتب، صاحب الاخبار والآداب، روى عن أحمد بن أبي خيثمة وأبي العيناء وابن أبي الدنيا.
روى عنه الدار قطني وغيره.
عثمان بن الخطاب ابن عبد الله أبو عمرو البلوي، المغربي الاشج، ويعرف بأبي الدنيا.
قدم هذا الرجل بغداد بعد الثلثمائة، وزعم أنه ولد أول خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ببلاد المغرب، وأنه وفد هو وأبوه على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأصابهم في الطريق عطش فذهب يرتاد لابيه ماء فرأى عينا فشرب منها واغتسل، ثم جاء لابيه ليسقيه فوجده قد مات، وقد هو على علي بن أبي طالب فأراد أن يقبل ركبته فصدمه الركاب فشج رأسه، فكان يعرف بالاشج.
وقد زعم صدقه في هذا الذي زعمه طائفة من الناس، ورووا عنه نسخة فيها أحاديث من روايته عن علي، وممن صدقه
__________
(1) في حسن المحاضرة: الحسن بن قاسم بن جعفر بن دحية.
وفي الوافي 12 / 203: الحسن بن القاسم بن دحيم.
(2) كذا بالاصل والمنتظم، والصواب البيروني في الوافي.
وفي حسن لمحاضرة: السدوسي (*).

(11/215)


في ذلك الحافظ محمد بن أحمد بن المفيد، ورواها عنه، ولكن كان المفيد متهما بالتشيع، فمسح له بذلك لانتسابه إلى علي، وأما جمهور المحدثين قديما وحديثا فكذبوه في ذلك، وردوا عليه كذبه، ونصوا على أن النسخة التي رواها موضوعة ومنهم أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي، وأشياخنا الذين أدركناهم: جهبذ الوقت شيخ الاسلام أبو العباس ابن تيمية، والجهبذ أبو الحجاج المزي، الحافظ مؤرح الاسلام أبو عبد الله الذهبي، وقد حررت ذلك في كتابي التكميل ولله الحمد والمنة.
قال المفيد: بلغني أن الاشج هذا مات سنة سبع وعشرين وثلثمائة، وهو راجع إلى بلده والله أعلم.
محمد بن جعفر بن محمد بن سهل أبو بكر الخرائطي، صاحب المصنفات، أصله من أهل سر من رأى، وسكن الشام وحدث بها عن الحسن بن عرفة وغيره.
وممن توفي فيها الحافظ الكبير ابن الحافظ الكبير أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي صاحب كتاب الجرح والتعديل، وهو من أجل الكتب المصنفة في هذا الشأن، وله التفسير الحافل الذي اشتمل على النقل الكامل، الذي يربو فيه على تفسير ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين، إلى زماننا، وله كتاب العلل المصنفة المرتبة على أبواب الفقه، وغير ذلك من المصنفات النافعة، وكان من العبادة والزهادة والورع والحفظ والكرامات الكثيرة المشهورة على جانب كبير، رحمه الله.
وقد صلى مرة فلما سلم قال له رجل من بعض من صلى معه: لقد أطلت بنا، ولقد سبحت في سجودي سبعين مرة.
فقال عبد الرحمن: لكني والله ما سبحت إلا ثلاثا، وقد انهدم سور بلد في بعض بلاد الثغور فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم للناس: أما تبنوه ؟ وقد حثهم على عمارته.
فرأى عندهم تأخرا.
فقال: من يبنيه وأضمن له على الله الجنة ؟ فقام رجل من التجار فقال: اكتب لي خطك بهذا الضمان وهذه ألف دينار لعمارته.
فكتب له رقعة بذلك، فعمر ذلك السور ثم اتفق موت ذلك الرجل التاجر عما قريب، فلما حضر الناس جنازته طارت من كفنه رقعة فإذا هي التي كانت كتبها له ابن أبي حاتم وإذا في ظهرها مكتوب: قد أمضينا لك هذا الضمان ولا تعد إلى ذلك.
والله
سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وثلثمائة قال ابن الجوزي في منتظمه: في غرة المحرم منها ظهرت في الجو حمرة شديدة في ناحية الشمال والمغرب، وفيها أعمدة بيض عظيمة كثيرة العدد.
وفيها وصل الخبر بأن ركن الدولة أبا علي الحسن بن بويه وصل إلى واسط فركب الخليفة وبجكم إلى حربه فخاف فانصرف راجعا إلى الاهواز ورجعا إلى بغداد.
وفيها ملك ركن الدولة بن بويه مدينة أصبهان، أخذها من وشمكير أخي

(11/216)


مرداويج، لقلة جيشه في هذا الحين.
وفي شعبان منها زادت دجلة زيادة عظيمة وانتشرت في الجانب الغربي، وسقطت دور كثيرة، وانبثق بثق من نواحي الانبار فغرق قرى كثيرة، وهلك بسببه حيوان وسباع كثيرة في البرية.
وفيها تزوج بجكم بسارة بنت عبد الله البريدي.
ومحمد بن أحمد بن يعقوب الوزير يومئذ ببغداد، ثم صرف عن الوزارة بسليمان بن الحسن، وضمن البريدي بلاد واسط وأعمالها بستمائة ألف دينار.
وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسن عمر بن محمد بن يوسف، وتولى مكانه ولده أبو نصر يوسف بن عمر بن محمد بن يوسف، وخلع عليه الخليفة الراضي يوم الخميس لخمس بقين من شعبان منها.
ولما خرج أبو عبد الله البريدي إلى واسط كتب إلى بجكم يحثه على الخروج إلى الجبل ليفتحها ويساعده هو على أخذ الاهواز من يد عماد الدولة بن بويه، وإنما كان مقصوده أن يبعده عن بغداد ليأخذها منه.
فلما انفصل بجكم بالجنود بلغه ما يريده البريدي من المكيدة به، فرجع سريعا إلى بغداد، وركب في جيش كثيف إليه وأخذ الطرق عليه من كل جانب، لئلا يشعر به إلا وهو عليه.
فاتفق أن بجكما كان راكبا في زورق وعنده كاتب له إذ سقطت حمامة في ذنبها كتاب فأخذه بجكم فقرأه فإذا فيه كتاب من هذا الكاتب إلى أصحاب البريدي يعلمهم بخبر بجكم، فقال له بجكم: ويحك هذا خطك ؟ قال: نعم ! ولم يقدر أن ينكر، فأمر بقتله فقتل والقي في دجلة.
ولما شعر البريدي بقدوم بجكم هرب إلى البصرة ولم يقم بها أيضا بل هرب منها إلى غيرها.
واستولى
بجكم على بلاد واسط، وتسلط الديلم على جيشه الذين خلفهم بالجبل ففروا سراعا إلى بغداد.
وفيها استولى محمد بن رائق على بلاد الشام فدخل حمص أولا فأخذها، ثم جاء إلى دمشق وعليها بدر بن عبد الله الاخشيد المعروف ببدر (1).
الاخشيد وهو محمد بن طغج، فأخرجه ابن رائق من دمشق قهرا واستولى عليها.
ثم ركب ابن رائق في جيش إلى الرملة فأخذها، ثم إلى عريش مصر فأراد دخولها فلقيه محمد بن طغج الاخشيد فاقتتلا هناك فهزمه ابن رائق واشتغل أصحابه بالنهب ونزلوا بخيام المصريين، فكر عليهم المصريون فقتلوهم قتلا عظيما، وهرب ابن رائق في سبعين رجلا من أصحابه، فدخل دمشق في أسوأ حال وشرها، وأرسل له ابن ظغج أخاه أبا نصر بن طغج في جيش فاقتتلوا عند اللجون في رابع ذي الحجة، فهزم ابن رائق المصريين وقتل أخو الاخشيد فيمن قتل، فغسله ابن رائق وكفنه وبعث به إلى أخيه بمصر وأرسل معه ولده وكتب إليه يحلف أنه ما أراد قتله، ولقد شق عليه، وهذا ولدي فاقتد منه.
فأكرم الاخشيد ولد محمد بن رائق، واصطلحا على أن تكون الرملة وما بعدها إلى ديار مصر للاخشيد، ويحمل إليه الاخشيد في كل سنة مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار، وما بعد الرملة إلى جهة دمشق تكون لابن رائق.
وفيها توفي من الاعيان..
__________
(1) في الكامل 8 / 363 والعبر لابن خلدون 3 / 408: بدير (*).

(11/217)


أبو محمد جعفر (1) المرتعش أحد مشايخ الصوفية، كذا ذكره الخطيب.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي اسمه عبد الله بن محمد أبو محمد النيسابوري، كان من ذوي الاموال فتخلى منها وصحب الجنيد وأبا حفص وأبا عثمان، وأقام ببغداد حتى صار شيخ الصوفية، فكان يقال عجائب بغداد: إشارات الشبلي، ونكت المرتعش، وحكايات جعفر الخواص.
سمعت أبا جعفر (2) الصائغ يقول قال المرتعش: من ظن أن أفعاله تنجيه من النار أو تبلغه الرضوان فقد جعل لنفسه وفعله خطرا، ومن اعتمد على فضل الله بلغه الله أقصى منازل الرضوان وقيل للمرتعش: إن فلانا يمشي على الماء.
فقال: إن مخالفة الهوى أعظم من المشي على الماء، والطيران في الهواء.
ولما حضرته الوفاة بمسجد الشونيزية حسبوا ما
عليه من الدين فإذا عليه سبعة عشر درهما، فقال: بيعوا خريقاتي هذه واقضوا بها ديني، وأرجو من الله تعالى أن يرزقني كفنا.
وقد سألت الله ثلاثا: أن يميتني فقيرا، وأن يجعل وفاتي في هذا المسجد فإني صحبت فيه أقواما، وأن يجعل عندي من آنس به وأحبه.
ثم أغمض عينيه ومات.
أبو سعيد الاصطخري الحسن بن أحمد ابن يزيد بن عيسى بن الفضل بن يسار، أبو سعيد الاصطخري أحد أئمة الشافعية، كان زاهدا ناسكا عابدا، ولي القضاء بقم، ثم حسبة بغداد، فكان يدور بها ويصلي على بغلته، وهو دائر بين الازقة، وكان متقللا جدا.
وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية، وله كتاب القضاء لم يصنف مثله في بابه، توفي وقد قارب التسعين (3) رحمه الله.
علي بن محمد أبو الحسن المزين الصغير أحد مشايخ الصوفية، أصله من بغداد، وصحب الجنيد وسهلا التستري، وجاور بمكة حتى توفي في هذه السنة، وكان يحكي عن نفسه قال: وردت بئرا في أرض تبوك فلما دنوت منها زلقت فسقطت في البئر، وليس أحد يراني.
فلما كنت في أسفله إذا فيه مصطبة فتعلقت بها وقلت: إن مت لم أفسد على الناس الماء، وسكنت نفسي وطابت للموت، فبينا أنا كذلك إذا أفعى قد تدلت علي
__________
(1) كذا بالاصل والكامل لابن الاثير، وفي صفة الصفوة 2 / 462: عبد الله بن محمد النيسابوري.
وانظر شذرات الذهب 2 / 317.
(2) في صفة الصفوة: أبا الفرج.
(3) قال ابن خلكان في ترجمته 2 / 74: كانت ولادته سنة 244 ه وتوفي 12 جمادى الآخرة سنة 328 فعلى هذا يكون له عندما مات 84 سنة (*).

(11/218)


فلفت علي ذنبها ثم رفعتني حتى أخرجتني إلى وجه الارض، وانسابت فلم أدر أين ذهبت، ولا من أين جاءت.
وفي مشايخ الصوفية آخر يقال له أبو جعفر المزين الكبير، جاور بمكة ومات بها أيضا، وكان من العباد.
روى الخطيب عن علي بن أبي علي إبراهيم بن محمد الطبري عن جعفر الخلدي
قال: ودعت في بعض حجاتي المزين الكبير فقلت له: زودني.
فقال لي: إذا فقدت شيئا فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا، فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشئ.
قال: وجئت إلى الكتاني فودعته وسألته أن يرودني، فأعطاني خاتما على فصه نقش فقال: إذا اغتممت فانظر إلى فص هذا الخاتم يزول غمك.
قال: فكنت لا أدعو بذلك الدعاء إلا استجيب لي، ولا أنظر في ذلك الفص إلا زال غمي، فبينا أنا ذات يوم في سمرية إذ هبت ريح شديدة، فأخرجت الخاتم لانظر إليه فلم أدر كيف ذهب، فجعلت أدعو بذلك الدعاء يومي أجمع أن يجمع علي الخاتم، فلما رجعت إلى المنزل فتشت المتاع الذي في المنزل فإذا الخاتم في بعض ثيابي التي كانت بالمنزل.
صاحب كتاب العقد الفريد - أحمد بن عبد ربه ابن حبيب بن جرير (1) بن سالم أبو عمر القرطبي، مولى هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الاموي.
كان من الفضلاء المكثرين، والعلماء بأخبار الاولين والمتأخرين، وكتابه العقد يدل على فضائل جمة، وعلوم كثيرة مهمة، ويدل كثير من كلامه على تشيع فيه، وميل إلى الحط على بني أمية.
وهذا عجيب منه، لانه أحد مواليهم وكان الاولى به أن يكون ممن يواليهم لا ممن يعاديهم.
قال ابن خلكان: وله ديوان شعر حسن، ثم أورد منه أشعارا في التغزل في المردان والنسوان أيضا.
ولد في رمضان سنة ست وأربعين ومائتين وتوفي بقرطبة يوم الاحد ثامن عشر جمادى الاولى من هذه السنة.
عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب ابن حماد بن زيد بن درهم، أبو الحسين الازدي الفقيه المالكي القاضي، ناب عن أبيه وعمره عشرون سنة، وكان حافظا للقرآن والحديث والفقه على مذهب مالك، والفرائض.
والحساب واللغة والنحو والشعر.
وصنف مسندا فرزق قوة الفهم وجودة القريحة، وشرف الاخلاق، وله الشعر الرائق الحسن، وكان مشكور السيرة في القضاء، عدلا ثقة إماما.
قال الخطيب: أخبرنا أبو الطيب الطبري سمعت المعافى بن زكريا الجريري يقول: كنا نجلس في حضرة القاضي أبي الحسين
__________
(1) في الوافي 8 / 10 ووفيات الاعيان 1 / 110: أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حذير (*).

(11/219)


فجئنا يوما ننتظره على العادة فجلسنا عند بابه، وإذا أعرابي جالس كأن له حاجة، إذ وقع غراب على نخلة في الدار، فصرخ ثم طار.
فقال الاعرابي: إن هذا الغراب يخبر أن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام.
قال فزبرناه فقام وانصرف، ثم خرج الاذن من القاضي أن هلموا، فدخلنا فوجدناه متغير اللون مغتما، فقلنا له: ما الخبر ؟ فقال: إني رأيت البارحة في المنام شخصا يقول: منازل آل حماد بن زيد * على أهليك والنعم السلام وقد ضاق لذلك صدري.
قال: فدعونا له وانصرفنا.
فلما كان اليوم السابع من ذلك اليوم دفن ليوم الخميس لسبع عشرة مضت من شعبان من هذه السنة، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وصلى عليه ابنه أبو نصر وولي بعده القضاء.
قال الصولي: بلغ القاضي أبو الحسين من العلم مبلغا عظيما مع حداثة سنة، وحين توفي كان الخليفة الراضي يبكي عليه ويحرضنا ويقول: كنت أضيق بالشئ ذرعا فيوسعه علي، ثم يقول: والله لا بقيت بعده.
فتوفي الراضي بعده في نصف ربيع الاول من هذه السنة الآتية رحمهما الله.
وكان الراضي أيضا حدث السن.
ابن شنبوذ المقري محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت أبو الحسن المقري المعروف بابن شنبوذ.
روى عن أبي مسلم الكجي، وبشر بن موسى وخلق، واختار حروفا في القراءات أنكرت عليه، وصنف أبو بكر الانباري كتابا في الرد عليه، وقد ذكرنا فيما تقدم كيف أنه عقد له مجلس في دار الوزير ابن مقلة، وأنه ضرب حتى رجع عن كثير منها، وكانت قراءات شاذة أنكرها عليه قراء أهل عصره.
توفي في صفر منها، وقد دعا على الوزير ابن مقلة حين أمر بضربه فلم يفلح ابن مقلة بعدها، بل عوقب بأنواع من العقوبات، وقطعت يده ولسانه، وحبس حتى مات في هذه السنة التي مات فيها ابن شنبوذ.
وهذه ترجمة ابن مقلة الوزير أحد الكتاب المشاهير
وهو: محمد بن علي بن الحسن (1) بن عبد الله
أبو علي المعروف بابن مقلة الوزير.
وقد كان في أول عمره ضعيف الحال (2)، قليل المال، ثم آل به الحال إلى أن ولي الوزارة لثلاثة من الخلفاء.
المقتدر، والقاهر، والراضي.
وعزل ثلاث
__________
(1) في وفيات الاعيان 5 / 113: الحسين.
(2) كان في ابتداء امره يخدم في بعض الدواوين في كل شهر بستة دنانير ثم تعلق بابن الفرات واختص به، فرفع من قدره وأعلى من شأنه، فمكث بين يديه يعرض عليه رقاعا في مهمات الناس وينتفع بسبب ذلك.
وقال ابن خلكان: كان يتولى بعض أعمال فارس ويجبي خراجها..(انظر وفيات الاعيان 5 / 113 الوافي 4 / 109 والفخري 270) (*).

(11/220)


مرات، وقطعت يده ولسانه في آخر عمره، وحبس فكان يستقي الماء بيده اليسرى وأسنانه، وكان مع ذلك يكتب بيده اليمنى مع قطعها، كما كان يكتب بها وهي صحيحة.
وقد كان خطه من أقوى الخطوط، كما هو مشهور عنه وقد بنى له دارا في زمان وزارته وجمع عند بنيانها خلقا من المنجمين، فاتفقوا على وضع أساسها في الوقت الفلاني، فأسس جدرانها بين العشاءين كما أشار به المنجمون.
فما لبث بعد استتمامها إلا يسيرا حتى خربت وصارت كوما، كما ذكرنا ذلك، وذكرنا ما كتبوا على جدارانها.
وقد كان له بستان كبير جدا، عدة أجربة - أي فدادين - وكان على جميعه شبكة من إبريسم، وفيه أنواع الطيور من القمارى والهزار والببغ والبلابل والطواويس وغير ذلك شئ كثير، وفي أرضه من الغزلان وبقر الوحش والنعام وغير ذلك شئ كثيرا أيضا.
ثم صار هذا كله عما قريب بعد النضرة والبهجة والبهاء إلى الهلاك والبوار والفناء الزوال.
وهذه سنة الله في المغترين الجاهلين الراكنين إلى دار الفناء الغرور.
وقد أنشد فيه بعض الشعراء حين بنى داره وبستانه وما اتسع فيه من متاع الدنيا: قل لابن مقلة: لا تكن عجلا * واصبر، فإنك في أضغاث أحلام تبني بأحجر دور الناس مجتهدا * دارا ستهدم قنصا بعد أيام ما زلت تختار سعد المشتري لها * فكم نحوس به من نحس بهرام
إن القران وبطليموس ما اجتمعا * في حال نقض ولا في حال ابرام فعزل ابن مقلة عن الوزارة بغداد وخربت داره وانقلعت أشجاره وقطعت يده، ثم قطع لسانه وصودر بألف ألف دينار، ثم سجن وحده ليس معه من يخدمه مع الكبر والضعف والضرورة وانعدام بعض أعضائه، حتى كان يستقي الماء بنفسه من بئر عميق، فكان يدلي الحبل بيده اليسرى ويمسكه بفيه.
وقاسى جهدا جهيدا بعد ما ذاق عيشا رغيدا.
ومن شعره في يده: ما سئمت الحياة، لكن توثقت للحياة (1) * بأيمانهم، فبانت يميني بعت ديني لهم بدنياي حتى * حرموني دنياهم بعد ديني ولقد حفظت ما استطعت بجهدي * حفظ أرواحهم، فما حفظوني ليس بعد اليمين لذة عيش * يا حياتي بانت يميني فبيني وكان يبكي على يده كثيرا ويقول: كتبت بها القرآن مرتين، وخدمت بها ثلاثة من الخلفاء تقطع كما تقطع أيدي اللصوص ثم ينشد: إذا ما مات بعضك فابك بعضا * فإن البعض من بعض قريب وقد مات عفا الله عنه في محبسه هذا ودفن في دار السلطان، ثم سأل ولده أبو الحسين أن يحول
__________
(1) البيت في الوافي 4 / 110 ووفيات الاعيان 5 / 116، وفيهما سقطت " للحياة " (*).

(11/221)


إلى عنده فأجيب فنبشوه ودفنه ولده عنده في داره.
ثم سألت زوجته المعروفة بالدينارية أن يدفن في دارها فأجيبت إلى ذلك فنبش ودفن عندها.
فهذه ثلاث مرات.
توفي وله من العمر ست وخمسون سنة.
أبو بكر بن الانباري محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فروة بن قطن بن دعامة أبو بكر الانباري، صاحب كتاب الوقف والابتداء، وغيره من الكتب النافعة، والمصنفات الكثيرة.
كان من بحور العلم في اللغة والعربية والتفسير والحديث، وغير ذلك.
سمع الكديمي
وإسماعيل القاضي وثعلبا وغيرهم، وكان ثقة صدوقا أديبا، دينا فاضلا من أهل السنة.
كان من أعلم الناس بالنحو والادب، وأكثرهم حفظا له، وكان له من المحافيظ مجلدات كثيرة، أحمال جمال وكان لا يأكل إلا النقالى ولا يشرب ماء إلا قريب العصر، مراعاة لذهنه وحفظه، ويقال: إنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا، وحفظ تعبير الرؤيا في ليلة، وكان يحفظ في كل جمعة عشرة آلاف ورقة، وكانت وفاته ليلة عيد النحر من هذه السنة.
أم عيسى بنت إبراهيم الحربي، كانت عالمة فاضلة، تفتي في الفقه.
توفيت في رجب ودفنت إلى جانب أبيها رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وثلثمائة
في المنتصف (1) من ريبع الاول كانت وفاة الخليفة الراضي بالله أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد العباسي، استخلف بعد عمه القاهر لست (2) خلون من جمادى الاولى سنة ثنتين وعشرين وثلثمائة.
وأمه أم ولد رومية تسمى ظلوم، كان مولده في رجب سنة سبع وتسعين ومائتين، وكانت خلافته ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام (3)، وعمره يوم مات إحدى وثلاثين سنة وعشرة أشهر (4).
وكان أسمر
__________
(1) في تاريخ بغداد 2 / 242: ليلة السبت لست عشرة ليلة خلت من ربيع الاول.
وفي الوافي بالوفيات 2 / 299 ونهاية الارب 23 / 152: منتصف ربيع الآخر.
وفي المنتظم 6 / 324: ليلة السبت 14 بقيت من ربيع الآخر.
(2) في مروج الذهب 4 / 351: لخمس.
(3) يتفق مع ما جاء في المنتظم ونهاية الارب وتاريخ الخلفاء والعيون والحدائق.
وفي مروج الذهب 4 / 364: ست سنين وأحد عشر شهرا وثلاثة أيام.
وفي العقد الفريد والوافي بالوفيات 2 / 299: ست سنين وعشرة أيام.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 409: سبع سنين غير شهر.
(4) في الكامل 8 / 366: اثنتين وثلاثين سنة وشهروا (*)

(11/222)


رقيق السمرة ذري اللون أسود الشعر سبطه، قصير القامة، نحيف الجسم، في وجهه طول، وفي مقدم لحيته تمام، وفي شعرها رقة.
هكذا وصفه من شاهده.
قال الخطيب البغدادي: كان للراضي فضائل كثيرة، وختم الخلفاء في أمور عدة: منها أنه كان آخر خليفة له شعر، وآخرهم انفرد بتدبير الجيوش والاموال، وآخر خليفة خطب على المنبر يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء.
وآخر خليفة كانت نفقته وجوائزه وعطاياه وجراياته وخزائنه ومطابخه ومجالسه وخدمه وأصحابه وأموره كلها تجري على ترتيب المتقدمين من الخلفاء.
وقال غيره: كان فصيحا بليغا كريما جوادا ممدحا، ومن جيد كلامه الذي سمعه منه محمد بن يحيى الصولي: لله أقوام هم مفاتيح الخير، وأقوام هم مفاتيح الشر، فمن أراد الله به خيرا قصده أهل الخير وجعله الوسيلة إلينا فنقضي حاجته وهو الشريك في الثواب والاجر والشكر ومن أراد الله به شرا عدل به إلى غيرنا وهو الشريك في الوزر والاثم والله المستعان على كل حال.
ومن ألطف الاعتذارات ما كتب به الراضي إلى أخيه المتقي وهما في المكتب - وكان المتقي قد اعتدى على الراضي والراضي هو الكبير منهما - فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أنا معترف لك بالعبودية فرضا، وأنت معترف لي بالاخوة فضلا، والعبد يذنب والمولى يعفو.
وقد قال الشاعر: يا ذا الذي يغضب من غير شي * اعتب فعتباك حبيب إلي أنت على أنك لي ظالم * أعز خلق الله طرا علي قال فجاء إليه أخوه المتقي فأكب عليه يقبل يديه وتعانقا واصطلحا.
ومن لطيف شعره قوله فيما ذكره ابن الاثير في كامله: يصفر وجهي إذا تأمله * طرفي ويحمر وجهه خجلا حتى كأن الذي بوجنته * من دم جسمي إليه قد نقلا قال: ومما رثا به أباه المقتدر: ولو أن حيا كان قبرا لميت * لصيرت أحشائي لاعظمه قبرا ولو أن عمري كان طوع مشيئتي * وساعدني المقدور (1) قاسمته العمرا
بنفسي ثرى ضاجعت في تربة (2) البلى * لقد ضم منك الغيث والليث والبدرا ومما أنشده له ابن الجوزي في منتظمه: لا تكثرن لومي (3) على الاسراف * ربح المحامد متجر الاشراف
__________
(1) في الكامل 8 / 366: التقدير.
(2) في الكامل: تربه.
(3) في الوافي 2 / 298: لا تعذلي كرمي (*).

(11/223)


أحوي لما يأتي المكارم سابقا (1) * وأشيد ما قد أسست أسلافي إني من القوم الذين أكفهم * معتادة الاملاق (2) والاتلاف ومن شعره الذي رواه الخطيب عنه من طريق أبي بكر محمد بن يحيى الصولي النديم قوله: كل صفو إلى كدر * كل أمن إلى حذر ومصير الشباب للمو * ت فيه أو الكبر (3) در در المشيب من * واعظ ينذر البشر أيها الآمل الذي * تاه في لجة الغرر أين من كان قبلنا ؟ * درس العين والاثر سيرد المعاد من * عمره كله خطر رب إني ادخرت (4) عن * دك أرجوك مدخر رب إني مؤمن بما * بين الوحي في السور واعترافي بترك نف * عي وإيثاري الضرر رب فاغفر لي الخطي * ئة، ياخير من غفر وقد كانت وفاته بعلة الاستسقاء في ليلة السادس عشر من ربيع الاول منها.
وكان قد أرسل إلى بجكم وهو بواسط أن يعهد إلى ولده الاصغر أبي الفضل، فلم يتفق له ذلك، وبايع الناس أخاه
المتقي لله إبراهيم بن المقتدر، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
[ خلافة المتقي لله ] لما مات أخوه الراضي اجتمع القضاة والاعيان بدار بجكم واشتوروا فيمن يولون عليهم، فاتفق رأيهم كلهم على المتقي، فأحضروه في دار الخلافة وأرادوا بيعته فصلى ركعتين صلاة الاستخارة وهو على الارض، ثم صعد إلى الكرسي بعد الصلاة، ثم صعد إلى السرير وبايعه الناس يوم الاربعاء لعشر بقين من ربيع الاول منها (5)، فلم يغير على أحد شيئا، ولا غدر بأحد حتى ولا على سريته لم يغيرها ولم يتسر عليها.
وكان كاسمه المتقي بالله كثير الصيام والصلاة والتعبد.
وقال: لا أريد
__________
(1) في الوافي: اجري كآبائي الخلايف سابقا.
(2) في الوافي: الاتلاف والاخلاف.
(2) في الكامل 8 / 367: أو الكدر.
(4) في الكامل والوافي 2 / 299: ذخرت.
(5) في الكامل 8 / 368: بويع له في العشرين من ربيع الاول.
وفي مروج الذهب 4 / 383: لعشر خلون من ربيع الاول (*)

(11/224)


جليسا ولا مسامرا، حسبي المصحف نديما، لا أريد نديما غيره.
فانقطع عنه الجلساء والسمار والشعراء والوزراء والتفوا على الامير بجكم، وكان يجالسهم ويحادثونه ويتناشدون عنده الاشعار، وكان بجكم لا يفهم كثير شئ مما يقولون لعجمته، وكان في جملتهم سنان بن ثابت الصابي المتطبب، وكان بجكم يشكو إليه قوة النفس الغضبية فيه، وكان سنان يهذب من أخلاقه ويسكن جأشه، ويروض نفسه حتى يسكن عن بعض ما كان يتعاطاه من سفك الدماء، وكان المتقي بالله حسن الوجه معتدل الخلق قصير الانف أبيض مشربا حمرة، وفي شعره شقرة، وجعودة، كث اللحية، أشهل العينين، أبي النفس.
لم يشرب خمرا ولا نبيذا قط، فالتقى فيه الاسم والفعل ولله الحمد.
ولما استقر المتقي في الخلافة أنفذ الرسل والخلع إلى بجكم وهو بواسط، ونفذت المكاتبات إلى الآفاق بولايته.
وفيها تحارب أبو عبد الله البريدي وبجكم بناحية الاهواز، فقتل بجكم في الحرب واستظهر البريدي عليه وقوي أمره، فاحتاط الخليفة على حواصل بجكم، وكان من جملة ما أخذ من أمواله ألف ألف دينار، ومائة (1) ألف دينار.
وكانت أيام بجكم على بغداد سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام.
ثم إن البريدي حدثته نفسه ببغداد، فأنفق المتقي أموالا جزيلة في الجند ليمنعوه من ذلك، فركب بنفسه، فخرج لاثناء الطريق ليمنعه من دخول بغداد، فخالفه البريدي ودخل بغداد في ثاني (2) رضمان، ونزل بالشفيع، فلما تحقق المتقي ذلك بعث إليه يهنئه وأرسل إليه بالاطعمة، وخوطب بالوزير ولم يخاطبة بإمرة الامراء.
فأرسل البريدي يطلب من المتقي خمسمائة ألف دينار، فامتنع الخليفة من ذلك فبعث إليه يتهدده ويتوعده ويذكره ما حل بالمعز والمستعين والمهتدي والقاهر.
واختلفت الرسل بينهم، ثم كان آخر ذلك أن بعث الخليفة إليه بذلك قهرا، ولم يتفق اجتماع الخليفة والبريدي ببغداد حتى خرج منها البريدي إلى واسط، وذلك أنه ثارت عليه الديالمة والتفوا على كبيرهم كورتكين، وراموا حريق دار البريدي، ونفرت عن البريدي طائفة من جيشه، يقال لهم البجكمية، لانه لما قبض المال من الخليفة لم يعطهم منه شيئا، وكانت البجكمية طائفة أخرى قد اختلفت معه أيضا وهم الديالمة قد صاروا حزبين.
والتفوا مع الديالمة فانهزم البريدي من بغداد يوم سلخ رمضان، واستولى كورتكتين على الامور بغداد، ودخل إلى المتقي فقلده إمرة الامراء، وخلع عليه، واستدعى المتقي علي بن عيسى وأخاه عبد الرحمن ففوض إلى عبد الرحمن تدبير الامور من غير تسمية بوزارة، ثم قبض كورتكين على رئيس الاتراك بكبك (3) غلام بجكم وغرقه.
ثم تظلمت العامة من الديلم، لانهم كانوا يأخذون منهم دورهم، فشكوا ذلك إلى كورتكين فلم يشكهم، فمنعت العامة الخطباء أن يصلوا في الجوامع، واقتتل الديلم والعامة، فقتل من الفريقين خلق كثير وجم غفير.
وكان الخليفة قد كتب إلى أبي بكر محمد بن رائق صاحب الشام يستدعيه إليه ليخلصه من
__________
(1) في الكامل: مائتي ألف دينار.
(2) في الكامل 8 / 373: ثاني عشر.
(3) في الكامل: تكينك.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 410: بكتيك.
(*)

(11/225)


الديلم ومن البريدي، فركب إلى بغداد في العشرين من رمضان ومعه جيش عظيم، وقد صار إليه من الاتراك البجكمية خلق كثير، وحين وصل إلى الموصل حاد عن طريقه ناصر الدولة بن حمدان، فتراسلا ثم اصطلحا، وحمل ابن حمدان مائة ألف دينار، فلما اقترب ابن رائق من بغداد خرج كورتكين في جيشه ليقاتله، فدخل ابن رائق بغداد من غربيها ورجع كورتكين بجيشه فدخل من شرقيها، ثم تصافوا ببغداد للقتال وساعدت العامة ابن رائق على كورتكين فانهزم الديلم وقتل منهم خلق كثير، وهرب كورتكين فاختفى، واستقر أمر ابن رائق وخلع عليه الخليفة وركب هو وإياه في دجلة فظفر ابن رائق بكورتكين فأودعه السجن الذي في دار الخلافة.
قال ابن الجوزي: وفي يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الاولى حضر الناس لصلاة الجمعة بجامع براثى، وقد كان المقتدر أحرق هذا الجامع لانه كبسه فوجد فيه جماعة من الشيعة يجتمعون فيه للسب والشتم، فلم يزل خرابا حتى عمره بجكم في أيام الراضي، ثم أمر المتقي بوضع منبر فيه كان عليه اسم الرشيد وصلى فيه الناس الجمعة.
قال: فلم يزل تقام فيه إلى ما بعد سنة خمسين وأربعمائة.
قال: وفي جمادى الآخرة في ليلة سابعه كانت ليلة برد ورعد وبرق، فسقطت القبة الخضراء من قصر المنصور، وقد كانت هذه القبة تاج بغداد ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم، وكان بين بنيانها وسقوطها مائة وسبع (1) وثمانون سنة.
قال: وخرج عن الناس التشرينان الكانونان (2) منها ولم يمطروا فيها بشئ سوى مطرة واحدة لم ينبل منها التراب، فغلت الاسعار ببغداد حتى بيع الكر بمائة وثلاثين دينارا (3).
ووقع الفناء في الناس حتى كان الجماعة يدفنون في القبر الواحد، من غير غسل ولا صلاة، وبيع العقار والاثاث بأرخص الاسعار، حتى كان يشترى بالدرهم ما يساوي الدينار في غير تلك الايام ورأت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها وهو يأمرها بخروج الناس إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء، فأمر الخليفة بامتثال ذلك فصلى الناس واستسقوا فجاءت الامطار فزادت الفرات شيئا لم ير مثله، وغرقت العباسية، ودخل الماء الشوارع ببغداد، فسقطت القنطرة العتيقة والجديدة، وقطعت الاكراد الطريق على قافلة من خراسان، فأخذوا منهم ما قيمته
ثلاثة آلاف دينار، وكان أكثر ذلك من أموال بجكم التركي.
وخرج الناس للحج ثم رجعوا من أثناء الطريق بسبب رجل من العلويين قد خرج بالمدينة النبوية، ودعا إلى نفسه وخرج عن الطاعة.
وفيها توفي من الاعيان..أحمد بن إبراهيم ابن تزمرد الفقيه أحد أصحاب ابن سريج.
خرج من الحمام إلى خارجه فسقط عليه الحمام فمات من فوره.
__________
(1) في الاصل سبعة وما أثبتناه الصواب.
(2) زيد في الكامل 8 / 377: وشباط.
(3) في مآثر الانافة 1 / 297: مائتي دينار وعشرة دنانير، كر الحنطه (*).

(11/226)


بجكم التركي أمير الامراء ببغداد، قبل بني بويه.
كان عاقلا يفهم بالعربية ولا يتكلم بها.
يقول أخاف أن أخطئ والخطأ من الرئيس قبيح.
وكان مع ذلك يحب العلم وأهله، وكان كثير الاموال والصدقات، ابتدأ يعمل مارستان بغداد فلم يتم، فجدده عضد الدولة بن بويه، وكان بجكم يقول: العدل ربح السلطان في الدنيا والآخرة.
وكان يدفن أموالا كثيرة في الصحراء، فلما مات لم يدر أين هي، وكان ندماء الراضي قد التفوا على بجكم وهو بواسط، وكان قد ضمنها بثمانمائة ألف دينار من الخليفة، وكانوا يسامرونه كالخليفة، وكان لا يفهم أكثر ما يقولون، وراض له مزاجه الطيب سنان بن ثابت الصابي حتى لان خلقه وحسنت سيرته، وقلت سطوته، ولكن لم يعمر إلا قليلا بعد ذلك.
ودخل عليه مرة رجل فوعظه فأبكاه فأمر له بمائة ألف درهم، فلحقه بها الرسول فقال بجكم لجلسائه: ما أظنه يقبلها ولا يريدها، وما يصنع هذا بالدنيا ؟ هذا رجل مشغول بالعبادة، ماذا يصنع بالدراهم ؟ فما كان بأسرع من أن رجع الغلام وليس معه شئ، فقال بجكم: قبلها ؟ قال: نعم ! فقال بجكم: كلنا صيادون ولكن الشباك مختلفة.
توفي لسبع بقين من رجب من هذه السنة.
وسبب موته أنه خرج يتصيد فلقي طائفة من الاكراد فاستهان بهم فقاتلوه فضربه رجل منهم فقتله.
وكانت إمرته على بغداد سنتين وثمانية أشهر وتسعة.
أيام وخلف من الاموال والحواصل ما ينيف على ألفي ألف دينار، أخذها المتقي لله كلها.
أبو محمد البربهاري (1) العالم الزاهد الفقيه الحنبلي الواعظ، صاحب المروزي وسهلا التستري، وتنزه عن ميراث أبيه، - وكان سبعين ألفا (2) - لامر كرهه.
وكان شديد على أهل البدع والمعاصي، وكان كبير القدر تعظمه الخاصة والعامة، وقد عطس يوما وهو يعظ فشمته الحاضرون، ثم شمته من سمعهم حتى شمته أهل بغداد، فانتهت الضجة إلى دار الخلافة، فغار الخليفة من ذلك وتكلم فيه جماعة من أرباب الدولة، فطلب فاختفى عند أخت بوران (3) شهرا، ثم أخذه القيام - داء - فمات عندها، فأمرت خادمها فصلى عليه، فامتلات الدار رجالا عليهم ثياب بياض.
ودفنته عندها ثم أوصت إذا ماتت أن تدفن عنده.
وكان عمره يوم مات ستا وتسعين (4) سنة رحمه الله.
__________
(1) هو الحسن بن علي الفقيه القدوة شيخ الحنابلة بالعراق.
(2) في طبقات الحنابلة تسعين ألفا.
(3) في شذرات الذهب: توزون.
(4) في الكامل 8 / 378 دفن في تربة نصر القشوري، وكان عمره ستا وسبعين وفي الوافي: قال: وفاته سنة 339 ه (*).

(11/227)


يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول أبو بكر الازرق - لانه كان أزرق العينين - التنوخي الكاتب، سمع جده والزبير بن بكار، والحسين بن عرفة وغيرهم، وكان خشن العيش كثير الصدقة.
فيقال إنه تصدق بمائة ألف دينار، وكان أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر، روى عنه الدار قطني وغيره من الحفاظ، وكان ثقة عدلا.
توفي في ذي الحجة منها عن ثنتين وتسعين سنة رحمه الله تعالى.