البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ثلاثين وثلثمائة قال ابن الجوزي: في المحرم منها ظهر كوكب بذنب رأسه إلى المغرب وذنبه إلى المشرق، وكان عظيما جدا، وذنبه منتشر، وبقي ثلاثة عشر يوما إلى أن اضمحل.
قال: وقد نصف ربيع الاول بلغ الكر من الحنطة مائتي دينار، وأكل الضعفاء الميتة، ودام الغلاء وكثر الموت، وتقطعت السبل وشغل الناس بالمرض والفقر، وتركوا دفن الموتى، واشغلوا عن الملاهي واللعب.
قال: ثم جاء مطر كأفواه القرب، وبلغت زيادة دجلة عشرين ذراعا وثلثا.
وذكر ابن الاثير في الكامل: أن محمد بن رائق وقع بينه وبين البريدي وحشة لاجل أن البريدي منع خراج واسط، فركب إليه ابن رائق ليتسلم ما عنده من المال، فوقعت مصالحة ورجع ابن رائق إلى بغداد، فطالبه الجند بأرزاقهم، وضاق عليه حاله، وتحيز جماعة من الاتراك عنه إلى البريدي فضعف جانب ابن رائق وكاتب البريدي بالوزارة ببغداد، ثم قطع اسم الوزارة عنه، فاشتد حنق البريدي عليه، وعزم على أخذ بغداد، فبعث أخاه أبا الحسين في جيش إلى بغداد، فتحصن ابن رائق مع الخليفة بدار الخلافة ونصبت فيها المجانيق والعرادات - العرادة شئ أصغر من المنجنيق - على دجلة أيضا.
فاضطربت أهل بغداد ونهب الناس بعضهم بعضا ليلا ونهارا، وجاء أبو الحسين أخو أبي عبد الله البريدي بمن معه فقاتلهم الناس في البر وفي دجلة، وتفاقم الحال جدا، مع ما الناس فيه من الغلاء والوباء والفناء.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم إن الخليفة وابن رائق انهزما في جمادى الآخرة - ومع الخليفة ابنه [ أبو ] (1) منصور - في عشرين فارسا، فقصدوا نحو الموصل، واستحوذ أبو الحسين على دار الخلافة وقتل من وجد فيها من الحاشية، ونهبوها حتى وصل النهب إلى الحريم، ولم يتعرضوا للقاهر وهو إذ ذاك أعمى مكفوفا، وأخرجوا كورتكين من الحبس، فبعثه أبو الحسين إلى البريدي، فكان آخر العهد به، ونهبوا بغداد جهارا علانية، ونزل أبو الحسين بدار مؤنس الخادم التي كان يسكنها ابن رائق، وكانوا يكبسون الدور ويأخذون ما فيها من الاموال، فكثر الجور وغلت الاسعار جدا، وضرب أبو الحسين المكس على الحنطة والشعير، وذاق أهل بغداد لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
وكان معه طائفة
كبيرة من القرامطة فأفسدوا في البلد فسادا عظيما، ووقع بينهم وبين الاتراك حروب طويلة شديدة،
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(*)

(11/228)


فغلبهم الترك وأخرجوهم من بغداد، فوقعت الحرب بين العامة والديلم جند أبي الحسين.
وفي شعبان منها اشتد الحال أيضا ونهبت المساكن وكبس أهلها ليلا ونهارا، وخرج جند البريدي فنهبوا الغلات من القرى والحيوانات، وجرى ظلم لم يسمع بمثله.
قال ابن الاثير: وإنما ذكرنا هذا ليعلم الظلمة أن أخبارهم الشنيعة تنقل وتبقى بعدهم على وجه الارض (1) وفي الكتب، ليذكروا بها ويذموا ويعابوا، ذلك لهم خزي في الدنيا وأمرهم إلى الله لعلهم يتركوا الظلم لهذا إن لم يتركوه لله.
وقد كان الخليفة أرسل وهو ببغداد إلى ناصر الدولة بن حمدان نائب الموصل يستمده ويستحثه على البريدي، فأرسل ناصر الدولة أخاه سيف الدولة عليا في جيش كثيف، فلما كان بتكريت إذا الخليفة وابن رائق قد هربا فرجع معهما سيف الدولة إلى أخيه، وخدم سيف الدولة الخليفة خدمة كثيرة.
ولما وصلوا إلى الموصل خرج عنها ناصر الدولة فنزل شرقها، وأرسل التحف والضيافات، ولم يجئ إلى الخليفة خوفا من الغائلة من جهة أبن رائق، فأرسل الخليفة ولده أبا منصور ومعه ابن رائق للسلام على ناصر الدولة، فصارا إليه فأمر ناصر الدولة أن ينثر الذهب والفضة على رأس ولد الخليفة، وجلسا عنده ساعة، ثم قاما ورجعا، فركب ابن الخليفة وأراد ابن رائق أن يركب معه، فقال له ناصر الدولة: اجلس اليوم عندي حتى نفكر فيما نصنع في أمرنا هذا، فاعتذر إليه بابن الخليفة واستراب بالامر وخشي، فقبض ابن حمدان بكمه فجبذه ابن رائق منه فانقطع كمه، وركب سريعا فسقط عن فرسه فأمر ناصر الدولة بقتله فقتل، وذلك يوم الاثنين لسبع بقين من رجب منها.
فأرسل الخليفة إلى ابن حمدان فاستحضره وخلع عليه ولقبه ناصر الدولة يومئذ، وجعله أمير الامراء، وخلع على أخيه أبي الحسن ولقبه سيف الدولة يومئذ، ولما قتل ابن رائق وبلغ خبر مقتله إلى صاحب مصر الاخشيد محمد بن طغج ركب إلى دمشق فتسلمها من محمد بن يزداد نائب ابن رائق ولم ينتطح فيها عنزان.
ولما بلغ خبر مقتله إلى بغداد فارق أكثر الاتراك أبا الحسين البريدي لسوء سيرته، وقبح
سريرته قبحه الله، وقصدوا الخليفة وابن حمدان فتقوى بهم، وركب هو والخليفة إلى بغداد، فلما أقتربوا منها هرب عنها أبو الحسين أخو البريدي فدخلها المتقي ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة، وذلك في شوال، ففرح المسلمون فرحا شديدا.
وبعث الخليفة إلى أهله - وقد كان أخرجهم إلى سامرا - فردهم، وتراجع أعيان الناس إلى بغداد بعد ما كانوا قد ترحلوا عنها.
ورد الخليفة أبا إسحاق القراريطي (2) إلى الوزارة وولى توزون (3) شرطة جانبي بغداد، وبعث ناصر الدولة أخاه سيف الدولة في جيش وراء أبي الحسين أخي البريدي، فلحقه عند المدائن فاقتتلوا قتالا شديدا في أيام نحسات، ثم كان آخر الامر أن انهزم أبو الحسين إلى أخيه البريد بواسط، وقد ركب ناصر
__________
(1) في الكامل: وجه الدهر.
(2) من الكامل والعبر والفخري، وهو أبو إسحاق محمد بن إبراهيم الاسكافي، وفي الاصل: الفزاري.
(3) قال أبو الفداء في مختصر تاريخ البشر 2 / 90: تورون وهو اسم تركي مشتق من اسم الباطية.
لان الباطية اسمها بالتركي تروو (*).

(11/229)


الدولة بنفسه فنزل المدائن قوه لاخيه.
وقد انهزم سيف الدولة مرة من أخي البريدي فرده أخوه وزاده جيشا حتى كسر البريدي، وأسر جماعة من أعيان أصحابه، وقتل منهم خلقا كثيرا.
ثم أرسل أخاه سيف الدولة إلى واسط لقتال أبي عبد الله البريدي، فانهزم منه البريدي وأخوه إلى البصرة وتسلم سيف الدولة واسطا، وسيأتي ما كان من خبره في السنة الآتية مع البريدي.
وأما ناصر الدولة فإنه عاد إلى بغداد فدخلها في ثالث عشر ذي الحجة (1) وبين يديه الاسارى على الجمال، ففرح المسلمون واطمأنوا ونظر في المصالح العامة وأصلح معيار الدينار.
وذلك أنه وجده قد غير عما كان عليه، فضرب دنانير سماها الابريزية، فكانت تباع كل دينار بثلاثة عشر درهما، وإنما كان يباع ما قبلها بعشرة.
وعزل الخليفة بدرا الخرشني عن الحجابة وولاه سلامة الطولوني، وجعل بدرا على طريق الفرات، فسار إلى الاخشيد فأكرمه واستنابه على دمشق فمات بها.
وفيها وصلت الروم إلى قريب حلب فقتلوا خلقا وأسروا نحوا من خمسة عشر ألفا، فإنا لله وإنا
إليه راجعون.
وفيها دخل نائب طرسوس إلى بلاد الروم فقتل وسبى وغنم وسلم وأسر من بطارقتهم المشهورين منهم وغيرهم خلقا كثيرا ولله الحمد.
وفيها توفي من الاعيان: إسحاق بن محمد بن يعقوب النهر جوري أحد مشايخ الصوفية، صحب الجنيد بن محمد وغيره، من أئمة الصوفية، وجاور بمكة حتى مات بها.
ومن كلامه الحسن: مفاوز الدنيا تقطع بالاقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب.
الحسين بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان أبو عبد الله الضبي القاضي المحاملي الفقيه الشافعي المحدث، سمع الكثير وأدرك خلقا من أصحابه ابن عينية، نحوا من سبعين رجلا.
وروى عن جماعة من الائمة، وعنه الدار قطني، وخلق، وكان يحضر مجلسه نحو من عشرة آلاف.
وكان صدوقا دينا فقيها محدثا، ولي قضاء الكوفة ستين سنة، وأضيف إليه قضاء فارس وأعمالها، ثم استعفى من ذلك كله ولزم منزله، واقتصر على إسماع الحديث وسماعه.
توفي في ربيع الآخر من هذه السنة عن خمس وتسعين سنة.
وقد تناظر هو وبعض الشيعة بحضرة بعض الاكابر فجعل الشيعي يذكر مواقف علي يوم بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين وشجاعته.
ثم قال للمحاملي.
أنعرفها ؟ قال: نعم، ولكن أتعرف أنت أين كان الصديق يوم بدر ؟ كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش بمنزلة الرئيس الذي يحامي عنه، وعلي رضي الله عنه في المبارزة، ولو فرض أنه انهزم أو قتل لم يخزل الجيش بسببه.
فأفحم الشيعي.
وقال المحاملي وقد قدمه
__________
(1) في العبر لابن خلدون 3 / 413: في منتصف ذي الحجة (*).

(11/230)


الذين رووا لنا الصلاة والزكاة والوضوء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدموه عليه حيث لا مال ولا عبيد ولا عشيرة وقد كان أبو بكر يمنع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاحف عنه، وإنما قدموه لعلمهم أنه خيرهم.
فأفحمه أيضا.
علي بن محمد بن سهل أبو الحسن الصائغ، أحد الزهاد العباد أصحاب الكرامات.
روى عن ممشاد الدينوري أنه
شاهد أبا الحسن هذا يصلي في الصحراء في شدة الحر ونسر قد نشر عليه جناحه يظله من الحر.
قال ابن الاثير: وفيها توفي أبو الحسن علي بن إسماعيل الاشعري المتكلم المشهور، وكان مولده سنة ستين ومائتين، وهو من ولد أبي موسى الاشعري.
قلت: الصحيح أن الاشعري توفي سنة أربع وعشرين ومائتين كما تقدم ذكره هناك.
قال: وفيها توفي محمد بن يوسف بن النضر الهروي الفقيه الشافعي، وكان مولده سنة تسع وعشرين ومائتين، أخذ عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي.
قلت: قد توفي فيها أبو حامد بن بلال (1).
وزكريا بن أحمد البلخي (2).
وعبد الغافر بن سلامة الحافظ (3).
ومحمد بن رائق الامير ببغداد.
وفيها توفي الشيخ: أبو صالح مفلح الحنبلي واقف مسجد أبي صالح ظاهر باب شرقي من دمشق، وكانت له كرامات وأحوال ومقامات، واسمه مفلح بن عبد الله أبو صالح المتعبد، الذي ينسب إليه المسجد خارج باب شرقي من دمشق، صحب الشيخ أبا بكر بن سعيد حمدونه الدمشقي، وتأدب به، وروى عنه الموحد بن إسحاق بن البري، وأبو الحسن علي بن العجه قيم المسجد، وأبو بكر بن داود الدينوري الدقي.
روى الحافظ ابن عساكر من طريق الدقي عن الشيخ أبي صالح.
قال: كنت أطوف بجبل لكام أطلب العباد فمررت برجل وهو جالس على صخرة مطرق راسه فقلت له: ما تصنع ههنا ؟ فقال: أنظر وأرعى.
فقلت له: لا أرى بين يديك شيئا تنظر إليه ولا ترعاه إلا هذه العصاة والحجارة.
فقال: بل أنظر خواطر قلبي وأرعى أوامر ربي، وبالذي أطلعك علي إلا صرفت بصرك عني.
فقلت له: نعم ولكن
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال النيسابوري.
(2) هو أبو يحيى زكريا بن أحمد بن يحيى بن موسى خت البلخي الشافعي، قاضي دمشق، روى عن أبي حاتم الرازي وطائفة.
مات في ربيع الاول.
(شذرات 2 / 327).
(3) أبو هاشم الحمصي روى عن كثير بن عبيد وطائفة مات بالبصرة وله بضع وتسعون سنة (*).

(11/231)


عظني بشئ أنتفع به حتى أمضي عنك.
فقال: من لزم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر ذكر الموت أكثر الندم ومن استغنى بالله أمن العدم، ثم تركني ومضى.
وقال أبو صالح: مكثت ستة أيام أو سبعة لم آكل ولم أشرب، ولحقني عطش عظيم، فجئت إلى النهر الذي وراء المسجد فجلست أنظر إلى الماء، فتذكرت قوله تعالى (وكان عرشه على الماء) [ هود: 7 ] فذهب عني العطش، فمكثت تمام العشرة أيام.
وقال: مكثت أربعين يوما لم أشرب، ثم شربت، وأخذ رجل فضلتي ثم ذهب إلى امرأته فقال: اشربي فضل رجل قد مكث أربعين يوما لم يشرب الماء.
قال أبو صالح: ولم يكن اطلع على ذلك أحد إلا الله عز وجل.
ومن كلام أبي صالح: الدنيا حرام على القلوب حلال على النفوس، لان كل شئ يحل لك أن تنظر بعين رأسك إليه يحرم عليك أن تنظر بعين قلبك إليه.
وكان يقول: البدن لباس القلب والقلب لباس الفؤاد، والفؤاد لباس الضمير، والضمير لباس السر، والسر لباس المعرفة به.
ولابي صالح مناقب كثيرة رحمه الله.
توفي في جمادى الاولى من هذه السنة والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة فيها دخل سيف الدولة إلى واسط وقد انهزم عنها البريدي وأخوه أبو الحسين، ثم اختلف الترك على سيف الدولة، فهرب منها قاصدا بغداد، وبلغ أخاه أمير الامراء خبره فخرج من بغداد إلى الموصل، فنهبت داره.
وكانت دولته على بغداد ثلاثة عشر شهرا وخمسة أيام.
وجاء أخوه سيف الدولة بعد خروجه منها فنزل بباب حرب، فطلب من الخليفة أن يمده بما يتقوى به على حرب توزون، فبعث إليه بأربعمائة ألف درهم، ففرقها بأصحابه.
وحين سمع بقدوم توزون خرج من بغداد ودخلها توزون في الخامس والعشرين من رمضان، فخلع عليه الخليفة وجعله أمير الامراء واستقر أمره ببغداد.
وعند ذلك رجع البريدي إلى واسط وأخرج من كان بها من أصحاب توزون وكان في أسر توزون غلام سيف الدولة، يقال له ثمال، فأرسله إلى مولاه ليخبره حاله ويرفع أمره عند آل حمدان.
وفيها كانت زلزلة عظيمة ببلاد نسا، سقط منها عمارات كثيرة، وهلك بسببها خلق كثير.
قال ابن الجوزي: وكان ببغداد في أيلول وتشرين حر شديد يأخذ بالانفاس.
وفي صفر منها
ورد الخبر بورود الروم إلى أرزن وميا فارقين، وأنهم سبوا.
وفي ربيع الآخر منها عقد أبو منصور إسحاق بن الخليفة المتقي عقده على علوية بنت ناصر الدولة بن حمدان، على صداق مائة ألف دينار وألف ألف درهم، وولى العقد على الجارية المذكورة أبو عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي، ولم يحضر ناصر الدولة، وضرب ناصر الدولة سكة ضرب فيها ناصر الدولة عبد آل محمد.
قال ابن الجوزي: وفيها غلت الاسعار حتى أكل الناس الكلاب ووقع البلاء في الناس، ووافى

(11/232)


من الجراد شئ كثير جدا، حتى بيع منه كل خمسين رطلا بالدرهم.
فارتفق الناس به في الغلاء.
وفيها ورد كتاب ملك الروم إلى الخليفة يطلب منه منديلا بكنيسة الرها كان المسيح قد مسح بها وجهه فصارت صورة وجهه فيه، وأنه متى وصل هذا المنديل يبعث من الاسارى خلقا كثيرا.
فأحضر الخليفة العلماء فاستشارهم في ذلك، فمن قائل نحن أحق بعيسى منهم، وفي بعثه إليهم عضاضة على المسلمين ووهن في الدين.
فقال علي بن عيسى الوزير: يا أمير المؤمنين إنقاذ أسارى المسلمين من أيدي الكفار خير وأنفع للناس من بقاء ذلك المنديل بتلك الكنيسة.
فأمر الخليفة بإرسال ذلك المنديل إليهم وتخليص أسرى المسلمين من أيديهم.
قال الصولي: وفيها وصل الخبر بأن القرمطي ولد له مولود فأهدى إليه أبو عبد الله البريدي هدايا كثيرة، منها مهد من ذهب مرصع بالجواهر، وجلاله منسوج بالذهب محلى باليواقيت، وغير ذلك.
وفيها كثر الرفض ببغداد فنودي بها من ذكر أحدا من الصحابة بسوء فقد برئت منه الذمة.
وبعث الخليفة إلى عماد الدولة بن بويه خلعا فقبلها ولبسها بحضرة القضاة والاعيان.
وفيها كانت وفاة السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني صاحب خراسان وما وراء النهر، وقد مرض قبل موته بالسل سنة وشهرا، واتخذ في داره بيتا سماه بيت العبادة، فكان يلبس ثيابا نظافا ويمشي إليه حافيا ويصلي فيه، ويتضرع ويكثر الصلاة.
وكان يجتنب المنكرات والآثام إلى أن مات رحمه الله، فقام بالامر من بعده ولده نوح بن نصر الساماني، ولقب بالامير الحميد.
وقتل محمد بن أحمد النسفي، وكان قد طعن فيه عنده وصلبه.
وفيها توفي من الاعيان..ثابت بن سنان بن قرة الصابي أبو سعيد الطبيب، أسلم علي يد القاهر بالله ولم يسلم ولده ولا أحد من أهل بيته، وقد كان مقدما في الطب وفي علوم أخر كثيرة.
توفي في ذي القعدة منها بعلة الذرب ولم تغن عنه صناعته شيئا، حتى جاءه الموت.
وما أحسن ما قال بعض الشعراء في ذلك: قل للذي صنع الدواء بكفه * أترد مقدورا [ عليك قد ] جرى مات المداوي والمداوي والذي * صنع الدواء بكفه ومن اشترى وذكر ابن الجوزي في المنتظم وفاة الاشعري فيها وتكلم فيه وحط عليه كما جرت عادة الحنابلة يتكلمون في الاشعرية قديما وحديثا.
وذكر أنه ولد سنة ستين ومائتين، وتوفي في هذه السنة، وأنه صحب الجبائي أربعين سنة ثم رجع عنه، وتوفي ببغداد ودفن بمشرعة السرواني.
محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة ابن الصلت السدوسي مولاهم أبو بكر، سمع جده وعباسا الدوري وغيرهما، وعنه أبو

(11/233)


بكر بن مهدي وكان ثقة.
روى الخطيب أن والد محمد هذا حين ولد أخذ طالع مولده المنجمون فحسبوا عمره وقالوا: إنه يعيش كذا وكذا.
فأرصد أبوه له جبا فكان يلقي فيه عن كل يوم من عمره الذي أخبروه به دينارا، فلما امتلا أرصد له جبار آخر كذلك، ثم آخر كذلك، فكان يضع فيها في كل يوم ثلاثة دنانير على عدد أيام عمر ولده.
ومع هذا ما أفاده ذلك شيئا، بل افتقر هذا الولد حتى صار يستعطي من الناس، وكان يحضر مجلس السماع عليه عباءة بلا إزار، فكان يتصدق عليه أهل المجلس بشئ يقوم بأوده.
والسعيد من أسعده الله عز وجل.
محمد بن مخلد بن جعفر (1) أبو عمر (2) الدوري العطار، كان يسكن الدور - وهي محلة بطرف بغداد - سمع الحسن بن عرفة والزبير بن بكار ومسلم بن الحجاج وغيرهم، وعنه الدار قطني وجماعة، وكان ثقة فهما واسع
الرواية مشكور الديانة مشهورا بالعبادة.
توفي في جمادى الاولى (3) منها، وقد استكمل سبعا وسبعين سنة وثمانية أشهر وإحدى وعشرين ويوما.
المجنون البغدادي روى ابن الجوزي من طريق أبي بكر الشبلي قال: رأيت مجنونا (4) عند جامع الرصافة وهو عريان وهو يقول: أنا مجنون الله، أنا مجنون الله.
فقلت له: مالك ألا تستتر وتدخل الجامع وتصلي ؟ فأنشأ يقول: يقولون زرنا واقض واجب حقنا * وقد اسقطت حالي حقوقهم عني إذا هم رأوا حالي ولم يأنفوا لها * ولم يأنفوا منها أنفت لهم مني ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وثلثمائة فيها خرج المتقي أمير المؤمنين من بغداد إلى الموصل مغاضبا لتورون، وهو إذ ذاك بواسط، وقد زوج ابنته من أبي عبد الله البريدي، وصارا يدا واحدة على الخليفة.
وأرسل ابن شير زاد في ثلثمائة إلى بغداد فأفسد فيها وقطع ووصل، واستقل بالامر من غير مراجعة المتقي.
فغضب المتقي وخرج منها مغاضبا له بأهله وأولاده ووزيره ومن اتبعه من الامراء، قاصدا الموصل إلى بني حمدان، فتلقاه سيف الدولة إلى تكريت، ثم جاءه ناصر الدولة وهو بتكريت أيضا، وحين خرج المتقي من بغداد أكثر ابن شيرزاد فيها الفساد، وظلم أهلها وصادرهم، وأرسل يعلم تورون، فأقبل مسرعا نحو تكريت فتواقع هو وسيف الدولة فهزم توزون سيف الدولة وأخذ معسكره ومعسكر أخيه ناصر الدولة
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 2 / 828: حفص.
(2) في التذكرة: أبو عبد الله.
(3) في التذكرة وشذرات الذهب 2 / 331: جمادى الآخرة.
وقال في الشذرات: وله سبع وتسعون سنة.
(4) في صفوة الصفوة 2 / 519: معتوها (*).

(11/234)


ثم كر إليه سيف الدولة فهزمه تورون أيضا، وانهزم المتقي وناصر الدولة وسيف الدولة من الموصل إلى نصيبين وجاء توزون فدخل الموصل وأرسل إلى الخليفة يطلب رضاه، فأرسل الخليفة يقول: لا سبيل إلى ذلك إلا أن تصالح بني حمدان، فاصطلحوا، وضمن ناصر الدولة بلاد الموصل بثلاثة آلاف
ألف وستمائة ألف، ورجع توزون إلى بغداد وأقام الخليفة عند بني حمدان.
وفي غيبة توزون هذه عن واسط أقبل إليها معز الدولة بن بويه في خلق من الديلم كثيرين، فانحدر توزون مسرعا إلى واسط فاقتتل مع معز الدولة بضعة عشر يوما، وكان آخر الامر أن انهزم معز الدولة ونهبت حواصله، وقتل من جيشه خلق كثير، وأسر جماعة من أشراف أصحابه.
ثم عاود توزون ما كان يعتريه من مرض الصرع فشغل بنفسه فرجع إلى بغداد.
وفيها قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف، وكان سبب ذلك أن البريدي قل ما في يده من الاموال، فكان يستقرض من أخيه أبي يوسف فيقرضه القليل، ثم يشنع عليه ويذم تصرفه بمال الجند، إلى أن مال الجند إلى أبي يوسف وأعرض غالبهم عن البريدي، فخشي أن يبايعوه فأرسل إليه طائفة من غلمانه فقتلوه غيلة، ثم انتقل إلى داره وأخذ جميع حواصله وأمواله، فكان قيمة ما أخذ منه من الاموال ما يقارب ثلثمائة ألف ألف دينار.
ولم يمتع بعده إلا ثمانية أشهر مرض فيها مرضا شديدا بالحمى الحادة، حتى كانت وفاته في شوال من هذه السنة، فقام مقامه أخوه أبو الحسين قبحه الله فأساء السيرة في أصحابه، فثاروا عليه فلجأ إلى القرامطة قبحهم الله فاستجار بهم فقام بالامر من بعده أبو القاسم بن أبي عبد الله البريدي في بلاد واسط والبصرة وتلك النواحي من الاهواز وغيرها.
وأما الخليفة المتقي لله فإنه لما أقام عند أولاد حمدان بالموصل ظهر له منهم تضجر، وأنهم يرغبون في مفارقته.
فكتب إلى توزون في الصلح فاجتمع توزون مع القضاة والاعيان وقرأوا كتاب الخليفة وقابله بالسمع والطاعة، وحلف له ووضع خطه بالاقرار له ولمن معه بالاكرام والاحترام، فكان من الخليفة ودخوله إلى بغداد ما سيأتي في السنة الآتية.
وفيها أقبلت طائفة من الروس في البحر إلى نواحي أذربيجان فقصدوا بردعة فحاصروها، فلما ظفروا بأهلها قتلوهم عن آخرهم، وغنموا أموالهم وسبوا من استحسنوا من نسائهم، ثم مالوا إلى المراغة، فوجدوا بها ثمارا كثيرة، فأكلوا منها فأصابهم وباء شديد فمات أكثرهم، وكان إذا مات أحدهم دفنوا معه ثيابه وسلاحه، فأخذه المسلمون وأقبل إليهم المرزبان بن محمد فقتل منهم.
وفي ربيع الاول منها جاء الدمستق ملك الروم إلى رأس العين في ثمانين ألفا فدخلها ونهب ما فيها وقتل
وسبى منهم نحوا من خمسة عشر ألفا، وأقام بها ثلاثة أيام، فقصدته الاعراب من كل وجه فقاتلوه قتالا عظيما حتى انجلى عنها.
وفي جمادى الاولى منها غلت الاسعار ببغداد جدا وكثرت الامطار حتى تهدم البناء، ومات كثير من الناس تحت الهدم، وتعطلت أكثر الحمامات والمساجد من قلة الناس ونقصت قيمة العقار حتى بيع منه بالدرهم ما كان يساوي الدينار، وخلت الدور.
وكان الدلالون يعطون من يسكنها أجرة ليحفظها من الداخلين إليها ليخربوها.
وكثرت الكبسات من اللصوص

(11/235)


بالليل، حتى كان الناس يتحارسون بالبوقات والطبول، وكثرت الفتن من كل جهة فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
وفي رمضان منها كانت وفاة أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي الهجري القرمطي، رئيس القرامطة، قبحه الله، وهذا هو الذي قتل الحجيج حول الكعبة وفي جوفها، وسلبها كسوتها وأخذ بابها وحليتها، واقتلع الحجر الاسود من موضعه وأخذه معه إلى بلده هجر، فمكث عنده من سنة تسع عشرة وثلثمائة ثم مات قبحه الله وهو عندهم لم يردوه إلى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة كما سيأتي.
ولما مات هذا القرمطي قام بالامر من بعده إخوته الثلاثة، وهم أبو العباس الفضل، وأبو القاسم سعيد، وأبو يعقوب يوسف بنو أبي سعيد الجنابي، وكان أبو العباس ضعيف البدن مقبلا على قراءة الكتب، وكان أبو يعقوب مقبلا على اللهو واللعب، ومع هذا كانت كلمة الثلاثة واحدة لا يختلفون في شئ، وكان لهم سبعة من الوزراء متفقون أيضا.
وفي شوال منها توفي أبو عبد الله البريدي فاستراح المسلمون من هذا كما استراحوا من الآخر.
وفيها توفي من الاعيان أبو العباس بن عقدة الحافظ.
أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن أبو العباس الكوفي المعروف بابن عقدة، لقبوه بذلك من أجل تعقيده في التصريف والنحو، وكان أيضا عقدة في الورع والنسك، وكان من الحفاظ الكبار، سمع الحديث الكثير ورحل فسمع من خلائق من المشايخ، وسمع منه الطبراني والدارقطني وابن الجعابي وابن عدي وابن المظفر وابن
شاهين.
قال الدارقطني: أجمع أهل الكوفة على أنه لم ير من زمن ابن مسعود إلى زمان ابن عقدة أحفظ منه، ويقال إنه كان يحفظ نحوا من ستمائة ألف حديث، منها ثلاثمائة ألف في فضائل أهل البيت، بما فيها من الصحاح والضعاف، وكانت كتبه ستمائة حمل جمل، وكان ينسب مع هذا كله إلى التشيع والمغالاة.
قال الدار قطني: كان رجل سوء.
ونسبه ابن عدي إلى أنه كان يعمل النسخ لاشياخ ويأمرهم بروايتها.
قال الخطيب: حدثني علي بن محمد بن نصر قال: سمعت حمزة بن يوسف، سمعت أبا عمر بن حيويه يقول: كان ابن عقدة يجلس في جامع براثي معدن الرفض يملي مثالب الصحابة - أو قال الشيخين - فتركت حديثه لا أحدث عنه بشئ.
قلت: وقد حررت الكلام فيه في كتابنا التكميل بما فيه كفاية، توفي في ذي القعدة منها.
أحمد بن عامر بن بشر بن حامد المروروذي نسبة إلى مر والروذ، والروذ اسم للنهر، وهو الفقيه الشافعي تلميذ أبي إسحاق المروذي - نسبة إلى مروذ الشاهجان، وهي أعظم من تلك البلاد، له شرح مختصر المزني، وله كتاب الجامع في المذهب، وصنف في أصول الفقه، وكان إماما لا يشق غباره.
توفي في هذه السنة رحمه الله.

(11/236)


ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة
فيها رجع الخليفة المتقي إلى بغداد وخلع من الخلافة وسملت عيناه، وكان - وهو مقيم بالموصل - قد أرسل إلى الاخشيد محمد بن طغج صاحب مصر والبلاد الشامية أن يأتيه، فأقبل إليه في المنتصف من المحرم من هذه السنة، وخضع للخليفة غاية الخضوع، وكان يقوم بين يديه كما تقوم الغلمان، ويمشي والخليفة راكب، ثم عرض عليه أن يصير معه إلى الديار المصرية أو يقوم ببلاد الشام، وليته فعل، بل أبى عليه، فأشار عليه بالمقام مكانه بالموصل، ولا يذهب إلى توزون، وحذره من مكر توزون وخديعته، فلم يقبل ذلك، وكذلك أشار عليه وزيره أبو حسين بن مقلة فلم يسمع.
وأهدى ابن ظغج للخليفة هدايا كثيرة فاخرة، وكذلك أهدى إلى الامراء والوزير، ثم رجع إلى بلاده، واجتاز بحلب فانحاز عنها صاحبها أبو عبد الله بن سعيد بن حمدان.
وكان ابن مقاتل
بها، فأرسله إلى مصر نائبا عنه حتى يعود إليها.
وأما الخليفة فإنه ركب من الرقة في الدجلة إلى بغداد وأرسل إلى توزون فاستوثق منه ما كان حلف له من الايمان فأكدها وقررها، فلما قرب من بغداد (1) خرج إلى توزون ومعه العساكر، فلما رأى الخليفة قبل الارض بين يديه وأظهر له أنه قد وفى له بما كان حلف له عليه وأنزله في منظرته، ثم جاء فاحتاط على من مع الخليفة من الكبراء، وأمر بسمل عيني الخليفة فسملت عيناه، فصاح صيحة عظيمة سمعها الحريم فضجت الاصوات بالبكاء، فأمر توزون بضرب الدبادب حتى لا تسمع أصوات الحريم، ثم انحدر من فوره إلى بغداد فبايع المستكفي.
فكانت خلافة المتقي ثلاثة (2) سنين وخمسة أشهر وعشرين يوما، وقيل وأحد عشر شهرا.
وستأتي ترجمته عند ذكر وفاته.
خلافة المستكفي بالله عبد الله بن المكتفي بن المعتضد
لما رجع توزون إلى بغداد وقد سمل عيني المتقي، استدعى بالمستكفي (3) فبايعه ولقب بالمستكفي بالله، واسمه عبد الله، وذلك في العشر الاواخر من صفر من هذه السنة، وجلس توزون بين يديه وخلع عليه المستكفي، وكان المستكفي مليح الشكل ربعة حسن الجسم والوجه، أبيض اللون مشربا حمرة أقنى الانف، خفيف العارضين، وكان عمره يوم بويع بالخلافة إحدى وأربعين
__________
(1) في مآثر الاناقة: لقيه بالسندية.
(1 / 296).
وانظر الكامل 8 / 420.
(2) في مروج الذهب 4 / 383: وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهرا وثلاثة وعشرين يوما.
وفي التنبيه والاشراف ص 397: ثلاث سنين وعشرة أشهر وعشرين يوما، وفي العقد الفريد: ثلاث سنين وأحد عشر شهرا إلا أياما، وفي فوات الوفيات 1 / 7: سنتان وأحد عشر شهرا.
(3) في الكامل 8 / 240: بويع في السندية.
وفي مروج الذهب 4 / 401: بالسبق على نهر عيسى من أعمال بادوريا بإزاء القرية المعرفة بالسندية (*).

(11/237)


سنه.
وأحضر المتقي بين يديه وبايعه وأخذ منه البردة والقضيب، واستوزر أبا الفرج محمد بن علي السامري (1)، ولم يكن إليه من الامر شئ، وإنما الذي يتولى الامور ابن شيرزاد، وحبس المتقي بالسجن.
وطلب المستكفي أبا القاسم الفضل بن المقتدر، وهو الذي ولي الخلافة بعد ذلك، ولقب
المطيع لله، فاختفى منه ولم يظهر مدة خلافة المستكفي، فأمر المستكفي بهدم داره التي عند دجلة.
وفيها مات القائم الفاطمي وتولى ولده المنصور إسماعيل فكتب موت أبيه مدة حتى أتفق أمره ثم أظهره، والصحيح أن القائم مات في التي بعدها.
وقد حاربهم أبو يزيد الخارجي فيها، وأخذ منهم مدنا كبارا وكسروه مرارا متعددة، ثم يبرز إليهم ويجمع الرجال ويقاتلهم، فانتدب المنصور هذا لقتاله بنفسه وجرت بينهم حروب يطول ذكرها، وقد بسطها ابن الاثير في كامله.
وقد انهزم في بعض الاحيان جيش المنصور ولم يبق إلا في عشرين نفسا.
فقاتل بنفسه قتالا عظيما، فهزمه أبا يزيد بعد ما كاد يقتله، وثبت المنصور ثبتا عظيما، فعظم في أعين الناس وزادت حرمته وهيبته، واسنتقذ بلاد القيروان منه، وما زال يحاربه حتى ظفر به المنصور وقتله.
ولما جئ برأسه سجدا شكرا لله.
وكان أبو يزيد هذا قبيح الشكل أعرج قصيرا خارجيا شديدا يكفر أهل الملة.
وفي ذي الحجة منها قتل أبو الحسين البريدي وصلب ثم أحرق، وذلك أنه قدم بغداد يستنجد بتوزون وأبي جعفر بن شيرزاد على ابن أخيه، فوعده النصر، ثم شرع يفسد ما بين توزون وابن شيرزاد، فعلم بذلك ابن شيرزاد فأمر بسجنه وضربه، ثم أفتاه بعض الفقهاء بإباحة دمه، فأمر بقتله وصلبه ثم أحرقه، وانقضت أيام البريدية، وزالت دولتهم.
وفيها أمر المستكفي بإخراج القاهر الذي كان خليفة وأنزله دار ابن طاهر، وقد افتقر القاهر حتى لم يبق له شئ من اللباس سوى قطعة عباءة يلتف بها، وفي رجله قبقاب من خشب.
وفيها اشتد البرد والحر.
وفيها ركب معز الدولة في رجب منها إلى واسط فبلغ خبره إلى توزون فركب هو والمستكفي، فلما سمع بهما رجع إلى بلاده وتسلمها الخليفة وضمنها أبو القاسم بن أبي عبد الله، ثم رجع توزون والخليفة إلى بغداد في شوال منها.
وفيها ركب سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان إلى حلب فتسلمها من يأنس المؤنسي، ثم سار إلى حمص ليأخذها فجاءته جيوش الاخشيد محمد بن ظغج مع مولاه كافور فاقتتلوا بقنسرين، فلم يظفر أحد منهما بصاحبه، ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة، ثم عاد إلى حلب فاستقر ملكه بها، فقصدته الروم في جحافل عظيمة، فالتقى معهم فظفر بهم فقتل منهم خلقا كثيرا.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وثلثمائة
في المحرم زاد الخليفة في لقبه إمام الحق، وكتب ذلك على السكة المتعامل بها، ودعا له الخطباء على المنابر أيام الجمع.
وفي المحرم منها مات توزون التركي في داره ببغداد، وكانت إمارته سنتين
__________
(1) في الكامل 8 / 447: السرمرائي (*).

(11/238)


وأربعة أشهر وعشرة أيام (1).
وكان ابن شيرزاد كاتبه، وكان غائبا بهيت لتخليص المال، فلما بلغه موته أراد أن يعقد البيعة لناصر الدولة بن حمدان فاضطربت الاجناد وعقدوا الرياسة عليهم لابن شيرزاد فحضر ونزل بباب حرب مستهل صفر، وخرج إليه الاجناد كلهم وحلفوا له وحلف الخليفة والقضاة والاعيان، ودخل على الخليفة فخاطبه بأمير الامراء، وزاد في أرزاق الجند وبعث إلى ناصر الدولة يطالبه بالخراج، فبعث إلى بخمسمائة ألف درهم وبطعام يفرقه في الناس، وأمر ونهى وعزل وولى، وقطع ووصل، وفرح بنفسه ثلاثة أشهر وعشرين يوما (2).
ثم جاءت الاخبار بأن معز الدولة بن بويه قد أقبل في الجيوش قاصدا بغداد، فاختفى ابن شيرزاد والخليفة أيضا، وخرج إليه الاتراك قاصدين الموصل ليكونوا مع ناصر الدولة بن حمدان.
أول دولة بني بويه وحكمهم ببغداد أقبل معز الدولة أحمد بن الحسن بن بويه في جحافل عظيمة من الجيوش قاصدا بغداد، فلما اقترب منها بعث إليه الخليفة المستكفي بالله الهدايا والانزالات، وقال للرسول: أخبره أني مسرور به، وأني إنما اختفيت من شر الاتراك الذين انصرفوا إلى الموصل، وبعث إليه بالخلع والتحف، ودخل معز الدولة بغداد في جمادى الاولى من هذه السنة، فنزل بباب الشماسية، ودخل من الغد إلى الخليفة فبايعه (3)، ودخل عليه المستكفي ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاه أبا الحسن بعماد الدولة، وأخاه أبا علي الحسن بركن الدولة، وكتب ألقابهم على الدراهم والدنانير.
ونزل معز الدولة بدار مؤنس الخادم، ونزل أصحابه من الديلم بدور الناس، فلقي الناس منهم ضائقة شديدة، وأمن معز الدولة ابن شيرزاد، فلما ظهر استكتبه على الخراج، ورتب للخليفة بسبب نفقاته خمسة آلاف درهم في كل يوم، واستقرت الامور على هذا النظام والله أعلم.
القبض على الخليفة المستكفي بالله وخلعه لما كان اليوم الثاني والعشرين من جمادى الآخرة (4) حضر معز الدولة إلى الحضرة فجلس على
__________
(1) في الكامل 8 / 448: وتسعة عشر يوما.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 419: ست سنين وخمسة أشهر.
(2) في مختصر تاريخ البشر 2 / 94: وأياما.
(3) قال الصولي في أخبار الراضي والمتقي ص 263: ان الخليفة المتقي كتب لبني بويه يدعوهم لدخول بغداد اثناء نزاعه مع تورون.
ولهذا كان ابن بويه يعرض هذا الكتاب على الناس ببغداد ليكسب تأييدهم ويضفي على حكمه ببغداد صفة شرعية.
(4) في مروج الذهب 4 / 421: لسبع بقين من شعبان.
وفي المنتظم 6 / 343: في يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الآخرة.
وفي العقد الفريد: خلع في شعبان.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 421: في جمادى الآخرة.
وفي مختصر تاريخ البشر 2 / 94: لثمان بقين من جمادى الآخرة (*).

(11/239)


سرير بين يدي الخليفة، وجاء رجلان من الديلم فمدا أيديهم إلى الخليفة فأنزلاه عن كرسيه، وسحباه فتحربت عمامته في حلقه، ونهض معز الدولة واضطربت دار الخلافة حتى خلص إلى الحريم، وتفاقم الحال، وسيق الخليفة ماشيا إلى دار معز الدولة فاعتقل بها، وأحضر أبو القاسم الفضل بن المقتدر فبويع بالخلافة وسملت عينا المستكفى وأودع السجن فلم يزل به مسجونا حتى كانت وفاته في سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة كما يأتي ذكر ترجمته هناك.
خلافة المطيع لله
لما قدم معز الدولة بغداد وقبض على المستكفي وسمل عينيه.
استدعى بأبي القاسم الفضل بن المقتدر بالله، وقد كان مختفيا من المستكفي وهو يحث على طلبه ويجتهد، فلم يقدر عليه، ويقال إنه اجتمع بمعز الدولة سرا فحرضه على المستكفي حتى كان من أمره ما كان، ثم أحضره وبويع له بالخلافة ولقب بالمطيع لله، وبايعه الامراء والاعيان والعامة، وضعف أمر الخلافة جدا حتى لم يبق للخليفة أمر ولا نهي ولا وزير أيضا، وإنما يكون له كاتب على أقطاعه، وإنما الدولة مورد المملكة
ومصدرها راجع إلى معز الدولة، وذلك لان بني بويه ومن معهم من الديلم كان فيهم تعسف شديد، وكانوا يرون أن بني العباس قد غصبوا الامر من العلويين، حتى عزم معز الدولة على تحويل الخلافة إلى العلويين واستشار أصحابه فكلهم أشار عليه بذلك، إلا رجلا واحدا من أصحابه، كان سديد الرأي فيهم، فقال لا أرى لك ذلك.
قال: ولم ذاك ؟ قال: لان هذا خليفة ترى أنت وأصحابك أنه غير صحيح الامارة حتى لو أمرت بقتله قتله أصحابك، ولو وليت رجلا من العلويين اعتقدت أنت وأصحابك ولايته صحيحة فلو أمرت بقتله لم تطع بذلك، ولو أمر بقتلك لقتلك أصحابك.
فلما فهم ذلك صرفه عن رأيه الاول وترك ما كان عزم عليه للدنيا لا لله عز وجل.
ثم نشبت الحرب بين ناصر الدولة بن حمدان وبين معز الدولة بن بويه، فركب ناصر الدولة بعدما خرج معز الدولة والخليفة إلى عكبرا فدخل بغداد فأخذ الجانب الشرقي ثم الغربي، وضعف أمر معز الدولة والديلم الذين كانوا معه، ثم مكر به معز الدولة وخدعه حتى استظهر عليه وانتصر أصحابه فنهبوا بغداد وما قدروا عليه من أموال التجار وغيرهم، وكان قيمة ما أخذ أصحاب معز الدولة من الناس عشرة آلاف ألف دينار، ثم وقع الصلح بين ناصر الدولة ومعز الدولة، ورجع ابن حمدان إلى بلده الموصل، واستقر أمر معز الدولة ببغداد، ثم شرع في استعمال السعاة ليبلغ أخاه ركن الدولة أخباره، فغوى الناس في ذلك وعلموا أبناءهم سعاة، حتى أن من الناس من كان يقطع نيفا وثلاثين فرسخا في يوم واحد.
وأعجبه المصارعون والملاكمون.
وغيرهم من أرباب هذه الصناعات التي لا ينتفع بها إلا كل قليل العقل فاسد المروءة، وتعلموا السباحة ونحوها، وكانت تضرب الطبول بين يديه ويتصارع الرجال والكوسان تدق حول سور المكان الذي هو فيه، وكل ذلك رعونة وقلة عقل وسخافة منه.
ثم احتاج إلى صرف أموال في أرزاق الجند فأقطعهم البلاد عوضا عن

(11/240)


أرزاقهم، فأدى ذلك إلى خراب البلاد وترك عمارتها إلا الاراضي التي بأيدي أصحاب الجاهات.
وفي هذه السنة وقع غلاء شديد ببغداد حتى أكلوا الميتة والسنانير والكلاب، وكان من الناس من يسرق الاولاد فيشويهم ويأكلهم.
وكثر الوباء في الناس حتى كان لا يدفن أحد أحدا، بل يتركون
على الطرقات فيأكل كثيرا منهم الكلاب، وبيعت الدور والعقار بالخبز، وانتجع الناس إلى البصرة فكان منهم من مات في الطريق ومنهم من وصل إليها بعد مدة مديدة.
وفيها كانت وفاة القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن عبد الله المهدي، وولى الامر من بعده ولده المنصور إسماعيل، وكان حازم الرأي شديدا شجاعا كما ذكرنا ذلك في السنة الماضية، وكانت وفاته في شوال من هذه السنة على الصحيح.
وفيها توفي الاخشيد محمد بن ظغج صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية، كانت وفاته بدمشق وله من العمر بضع وستون سنة، وأقيم ولده أبو القاسم أبو جور (1) - وكان صغيرا - وأقيم كافور الاخشيد أتابكه، وكان يدبر الممالك بالبلاد كلها، واستحوذ على الامور كلها وسار إلى مصر فقصد سيف الدولة بن حمدان دمشق فأخذها من أصحاب الاخشيد، ففرح بها فرحا شديدا، واجتمع بمحمد بن محمد بن نصر الفارابي التركي الفيلسوف بها.
وركب سيف الدولة يوما مع الشريف العقيلي في بعض نواحي دمشق، فنظر سيف الدولة إلى الغوطة فأعجبته وقال: ينبغي أن يكون هذا كله لديوان السلطان - كأنه يعرض بأخذها من ملاكها - فأوغر ذلك صدر العقيلي وأوعاه إلى أهل دمشق، فكتبوا إلى كافور الاخشيدي يستنجدونه، فأقبل إليهم في جيوش كثيرة كثيفة، فأجلى عنهم سيف الدولة وطرده عن حلب أيضا واستناب عليها ثم كر راجعا إلى دمشق فاستناب عليها بدرا الاخشيدي - ويعرف ببدير - فلما صار كافور إلى الديار المصرية رجع سيف الدولة إلى حلب فأخذها كما كانت أولا له، ولم يبق له في دمشق شئ يطمع فيه.
وكافور هذا الذي هجاه المتنبي ومدحه أيضا.
وممن توفي فيها من الاعيان: عمر بن الحسين صاحب المختصر في الفقه على مذهب الامام أحمد، وقد شرحه القاضي أبو يعلى بن الفراء والشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي، وقد كان الخرقي هذا من سادات الفقهاء والعباد، كثير الفضائل والعبادة، خرج من بغداد مهاجرا لما كثر بها الشر والسب للصحابة، وأودع كتبه في بغداد
فاحترقت الدار التي كانت فيها الكتب، وعدمت مصنفاته، وقصد دمشق فأقام بها حتى مات في هذه
__________
(1) في الكامل 8 / 457 ومختصر في أخبار البشر، 2 / 95: أنوجور (وانظر مآثر الانافة 1 / 301) (*).

(11/241)


السنة، وقبره بباب الصغير يزار قريبا من قبور الشهداء.
وذكر في مختصره هذا في الحج: ويأتي الحجر الاسود ويقبله إن كان هناك، وإنما قال ذلك لان تصنيفه لهذا الكتاب كان والحجر الاسود قد أخذته القرامطة وهو في أيديهم في سنة سبع عشرة وثلثمائة كما تقدم، ولم يرد إلى مكانه إلا سنة سبع وثلاثين كما سيأتي بيانه في موضعه.
قال الخطيب البغدادي: قال لي القاضي أبو يعلى: كانت للخرقي مصنفات كثيرة وتخريجات على المذهب ولم تظهر لانه خرج من مدينته لما ظهر بها سبب الصحابة وأودع كتبه فاحترقت الدار التي هي فيها فاحترقت الكتب ولم تكن قد انتشرت لبعده عن البلد.
ثم روى الخطيب من طريقه عن أبي الفضل عبد السميع عن الفتح بن شخرف عن الخرقي قال: رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في المنام فقال لي: ما أحسن تواضع الاغنياء للفقراء ! قال: قلت زدني يا أمير المؤمنين.
قال: وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الاغنياء.
قال ورفع له كفه فإذا فيها مكتوب: قد كنت ميتا فصرت حيا * وعن قريب تعود ميتا فابن بدار البقاء بيتا * ودع بدار الفناء بيتا قال ابن بطة: مات الخرقي بدمشق سنة أربع وثلاثين وثلثمائة وزرت قبره رحمه الله.
محمد بن عيسى أبو عبد الله بن موسى الفقيه الحنفي أحد أئمة العراقيين في زمانه، وقد ولي القضاء ببغداد للمتقي ثم للمستكفي، وكان ثقة فاضلا، كبست اللصوص داره يظنون أنه ذو مال، فضربه بعضهم ضربة أثخنته، فألقى نفسه من شدة الفزع إلى الارض فمات رحمه الله في ربيع الاول من هذه السنة.
(محمد بن محمد بن عبد الله) أبو الفضل السلمي الوزير الفقيه المحدث الشاعر سمع الكثير
وجمع وصنف وكان يصوم الاثنين والخميس، ولا يدع صلاة الليل والتصنيف، وكان يسأل الله تعالى الشهادة كثيرا.
فولي الوزارة للسلطان فقصده الاجناد فطالبوه بأرزاقهم، واجتمع منهم ببابه خلق كثير، فاستدعى بحلاق فحلق رأسه وتنور وتطيب ولبس كفنه وقام يصلي، فدخلوا عليه فقتلوه وهو ساجد، رحمه الله، في ربيع الآخر من هذه السنة.
الاخشيد محمد بن عبد الله بن طغج أبو بكر الملقب بالاخشيد ومعناه ملك الملوك، لقبه بذلك الراضي لانه كان ملك فرغانة، وكل من ملكها كان يسمى الاخشيد، كما أن من ملك اشروسية يسمى الآفشين.
ومن ملك خوارزم يسمى خوارزم شاه، ومن ملك جرجان يسمى صول، ومن ملك أذربيجان يسمى أصبهبذ، ومن

(11/242)


ملك طبرستان يسمى أرسلان.
قاله ابن الجوزي في منتظمه.
قال السهيلي: وكانت العرب تسمي من ملك الشام مع الجزيرة كافرا قيصر، ومن ملك فارس كسرى، ومن ملك اليمن تبع، ومن ملك الحبشة النجاشي، ومن ملك الهند بطليموس، ومن ملك مصر فرعون.
ومن ملك الاسكندرية المقوقس.
ودكر غير ذلك.
توفي بدمشق ونقل إلى بيت المقدس فدفن هنالك رحمه الله.
أبو بكر الشبلي أحد مشايخ الصوفية، اختلفوا في اسمه على أقوال فقيل دلف بن جعفر، ويقال دلف بن جحدر، وقيل جعفر بن يونس، أصله من قرية يقال لها شبلة من بلاد أشر وسنة (1) من خراسان، وولد بسامرا، وكان أبوه حاجب الحجاب للموفق، وكان خاله نائب الاسكندرية، وكانت توبة الشبلي على يدي خير النساج، سمعه يعظ فوقع في قلبه كلامه فتاب من فوره، ثم صحب الفقراء والمشايخ، ثم صار من أئمة القوم.
قال الجنيد: الشبلي تاج هؤلاء.
وقال الخطيب: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمود الزوزني قال: سمعت علي بن المثنى التميمي يقول: دخلت يوما على الشبلي في داره وهو يهيج ويقول: على بعدك لا يصبر * من عادته القرب
ولا يقوى على هجرك * من تيمه الحب فإن لم ترك العين * فقد يبصرك القلب وقد ذكر له أحوال وكرامات، وقد ذكرنا أنه كان ممن اشتبه عليه أمر الحلاج فيما نسب إليه من الاقوال من غير تأمل لما فيها، مما كان الحلاج يحاوله من الالحاد والاتحاد، ولما حضرته الوفاة قال لخادمه: قد كان علي درهم مظلمة فتصدقت عن صاحبه بألوف، ومع هذا ما على قلبي شغل أعظم منه.
ثم أمره بأن يوضئه فوضأه وترك تخليل لحيته.
فرفع الشبلي يده - وقد كان اعتقل لسانه - فجعل يخلل لحيته.
وذكره ابن خلكان في الوفيات، وحكى عنه أنه دخل يوما على الجنيد فوقف بين يديه وصفق بيديه وأنشد: عودوني الوصال والوصل عذب * ورموني بالصد والصد صعب زعموا حين اعتبوا أن جرمي (2) * فرط حبي لهم وما ذاك ذنب
__________
(1) من معجم البلدان، وفي الاصل اشروسية، وأشروسنة بلدة عظيمة وراء سمرقند من بلاد ما وراء النهر.
بين سيحون وسمرقند، وبينها وبين سمرقند 26 فرسخا.
وفي الوفيات: أسروشنة قال ياقوت: والاشهر والاعرف: أشر وسنة.
(2) في الوفيات 2 / 273: حين أزمعوا أن ذنبي (*).

(11/243)


لا وحق الخضوع عند التلاقي * ما جزاء من يحب إلا يحب وذكر عنه قال: رأيت مجنونا (1) على باب جامع الرصافة يوم جمعة عريانا وهو يقول: أنا مجنون الله فقلت ألا تستتر وتدخل إلى الجامع فتصلي الجمعة.
فقال: يقولون زرنا واقض واجب حقنا * وقد أسقطت حالي حقوقهم عني إذا أبصروا حالي ولم يأنفوا لها * ولم يأنفوا مني أنفت لهم مني وذكر الخطيب في تاريخه عنه أنه أنشد لنفسه فقال: مضت الشبيبة والحبيبة فانبرى * دمعان في الاجفان يزدحمان
ما أنصفتني الحادثات رمينني * بمودعين وليس لي قلبان كانت وفاته رحمه الله ليلة الجمعة لليلتين بقيتا (2) من هذه السنة، وله سبع وثمانون سنة، ودفن في مقبرة الخيزران ببغداد والله أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة في هذه السنة استقر أمر الخليفة المطيع لله في دار الخلافة واصطلح معز الدولة بن بويه وناصر الدولة بن حمدان على ذلك، ثم حارب ناصر الدولة تكين التركي فاقتتلا مرات متعددة، ثم ظفر ناصر الدولة بتكين فسمل بين يديه، واستقر أمره بالموصل والجزيرة، واستحوذ ركن الدولة على الري وانتزعها من الخراسانية، واتسعت مملكة بني بويه جدا، فإنه صار بأيديهم أعمال الري والجبل وأصبهان وفارس والاهواز والعراق، ويحمل إليهم ضمان الموصل وديار ربيعة من الجزيرة وغيرها ثم اقتتل جيش معز الدولة وجيش أبي القاسم البريدي فهزم أصحاب البريدي وأسر من أعيانهم جماعة كثيرة.
وفيها وقع الفداء بين الروم والمسلمين على يد نصر المستملي أمير الثغور لسيف الدولة بن حمدان، فكان عدة الاسارى نحوا من ألفين وخمسمائة (3) مسلم ولله الحمد والمنة وممن توفي فيها من الاعيان: الحسن بن حمويه بن الحسين القاضي الاستراباذي.
روى الكثير وحدث، وكان له مجلس للاملاء، وحكم ببلده مدة
__________
(1) في رواية الوفيات وابن الجوزي: معتوها.
(2) زيد في الوفيات: بقيتا من ذي الحجة.
(3) في الكامل 8 / 469: ألفين وأربعمائة وثمانين أسيرا من ذكر وأنثى (*).

(11/244)


طويلة، وكان من المجتهدين في العبادة المتهجدين بالاسحار، ويضرب به المثل في ظرفه وفكاهته.
وقد مات فجأة على صدر جا...؟ عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله
أبو عبد الله الختلي، سمع ابن أبي الدنيا وغيره، وحدث عنه الدار قطني وغيره، وكان ثقة نبيلا حافظا، حدث من حفظه بخمسين ألف حديث.
عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن زيد بن تميم أبو محمد الكلبي الملقب بديك الجن الشاعر الماجن الشيعي.
ويقال: إنه من موالي بني تميم، له أشعار قوية.
خمارية وغير خمارية، وقد استجاد أبو نواس شعره في الخمازيات.
علي بن عيسى بن داود بن الجراح أبو الحسن الوزير للمقتدر والقاهر، ولد سنة خمس وأربعين ومائتين وسمع الكثير، وعنه الطبراني وغيره، وكان ثقة نبيلا فاضلا عفيفا، كثير التلاوة والصيام والصلاة، يحب أهل العلم ويكثر مجالستهم، أصله من الفرس، وكان من أكبر القائمين على الحلاج.
وروي عنه أنه قال: كسبت سبعمائة ألف دينار أنفقت منها في وجوه الخير ستمائة ألف وثمانين ألفا، ولما دخل مكة حين نفي من بغداد طاف بالبيت وبالصفا والمروة في حر شديد، ثم جاء إلى منزله فألقى نفسه وقال: أشتهي على الله شربة ثلج.
فقال له بعض أصحابه: هذا لا يتهيأ ههنا.
فقال: أعرف ولكن سيأتي به الله إذا شاء، وأصبر إلى المساء.
فلما كان في أثناء النهار جاءت سحابة فأمطرت وسقط منا برد شديد كثير فجمع له صاحبه من ذلك البرد شيئا كثيرا وخبأه له، وكان الوزير صائما، فلما أمسى جاء به، فلما جاء المسجد أقبل إليه صاحبه بأنواع الاشربة وكلها بثلج، فجعل الوزير يسقيه لمن حواليه من الصوفية والمجاورين، ولم يشرب هو منه شيئا فلما رجع إلى المنزل جئته بشئ من ذلك الشراب كنا خبأناه له وأقسمت عليه ليشربنه فشربه بعد جهد جهيد، وقال أشتهي لو كنت تمنيت المغفرة.
رحمه الله وغفر له.
ومن شعره قوله: فمن كان عني سائلا بشماتة * لما نابني أو شامتا غير سائل فقد أبرزت مني الخطوب ابن حرة * صبورا على أهوال تلك الزلازل وقد روى أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي عن أبيه عن جماعة أن عطارا من أهل الكرخ كان
مشهورا بالسنة، ركبه ستمائة دينار دينا فأغلق دكانه وانكسر عن كسبه ولزم منزله، وأقبل على الدعاء والتضرع والصلاة ليال كثيرة، فلما كان في بعض تلك الليالي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول له: اذهب إلى علي بن عيسى الوزير فقد أمرته لك بأربعمائة دينار.
فلما أصبح الرجل قصد باب

(11/245)


الوزير فلم يعرفه أحد، فجلس لعل أحدا يستأذن له على الوزير حتى طال عليه المجلس وهم بالانصراف، ثم إنه قال لبعض الحجبة قل للوزير: إني رجل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأنا أريد أن أقصه على الوزير.
فقال له الحاجب: وأنت صاحب الرؤيا ؟ إن الوزير قد أنفذ في طلبك رسلا متعددة.
ثم دخل الحجاب فأخبروا الوزير فقال: أدخله علي سريعا.
فدخل عليه فأقبل عليه الوزير يستعلم عن حاله واسمه وصفته ومنزله، فذكر ذلك له، فقال له الوزير: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأمرني بإعطائك أربعمائة دينار، فأصبحت لا أدري من أسأل عنك، ولا أعرفك ولا أعرف أين أنت، وقد أرسلت في طلبك إلى الآن عدة رسل فجزاك الله خيرا عن قصدك إياي.
ثم أمر الوزير بإحضار ألف دينار فقال: هذه أربعمائة دينار لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وستمائة هبة من عندي.
فقال الرجل: لا والله لا أزيد على ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أرجو الخير والبركة فيه.
ثم أخذ منها أربعمائة دينار، فقال الوزير: هذا هو الصدق واليقين.
فخرج ومعه الاربعمائة دينار فعرض على أرباب الديون أموالهم فقالوا: نحن نصبر عليك ثلاث سنين، وافتح بهذا الذهب دكانك ودم على كسبك.
فأبى إلا أن يعطيهم من أموالهم الثلث، فدفع إليهم مائتي دينار، وفتح حانوته بالمائتي دينار الباقية، فما حال عليه الحول حتى ربح ألف دينار.
ولعلي بن عيسى الوزير أخبار كثيرة صالحة.
كانت وفاته في هذه السنة عن تسعين سنة.
ويقال في التي قبلها والله أعلم.
محمد بن إسماعيل ابن إسحاق بن بحر (1) أبو عبد الله الفارسي الفقيه الشافعي، كان ثقة ثبتا فاضلا، سمع أبا زرعة الدمشقي وغيره، وعنه الدارقطني وغيره وآخر من حدث عنه أبو عمر بن مهدي، توفي في شوال من هذه السنة.
هارون بن محمد ابن هارون بن علي بن موسى بن عمرو بن جابر بن يزيد بن جابر بن عامر بن أسيد بن تميم بن صبح بن ذهل بن مالك بن سعيد بن حبنة أبو جعفر، والد القاضي أبي عبد الله الحسن بن هارون.
كان أسلافه ملوك عمان في قديم الزمان، وجده يزيد بن جابر أدرك الاسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان هارون هذا أول من انتقل من أهله من عمان فنزل بغداد وحدث بها، وروى عن أبيه، وكان فاضلا متضلعا من كل فن، وكانت داره مجمع العلماء في سائر الايام، ونفقاته دارة عليهم، وكان له منزلة عالية، ومهابة ببغداد، وقد أثنى عليه الدار قطني ثناء كثيرا، وقال: كان مبرزا في النحو واللغة والشعر، ومعاني القرآن، وعلم الكلام.
__________
(1) في الكامل 8 / 468: نجر (*).

(11/246)


قال ابن الاثير: وفيها توفي أبو بكر محمد بن عبد الله بن العباس بن صول الصولي، وكان عالما بفنون الآداب والاخبار، وإنما ذكره ابن الجوزي في التي بعدها كما سيأتي.
أبو العباس بن القاص (1) أحمد بن أبي أحمد الطبري الفقيه الشافعي، تلميذ ابن سريج، له كتاب التلخيص وكتاب المفتاح، وهو مختصر شرحه أبو عبد الله الحسين (2)، وأبو عبد الله (3) السنجي أيضا، وكان أبوه يقص على الناس الاخبار والآثار، وأما هو فتولى قضاء طرسوس وكان يعظ الناس أيضا، فحصل له مرة خشوع فسقط مغشيا عليه فمات في هذه السنة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وثلثمائة فيها خرج معز الدولة والخليفة المطيع لله من بغداد إلى البصرة فاستنقذاها من يد أبي القاسم بن البريدي، وهرب هو وأكثر أصحابه، واستولى معز الدولة على البصرة وبعث يتهدد القرامطة ويتوعدهم بأخذ بلادهم، وزاد في إقطاع الخليفة ضياعا تعمل في كل سنة مائتي ألف دينار، ثم سار معز الدولة لتلقي أخيه عماد الدولة بالاهواز فقبل الارض بين يدي أخيه وقام بين يديه مقاما طويلا
فأمره بالجلوس فلم يفعل.
ثم عاد إلى بغداد صحبة الخليفة فتمهدت الامور جيدا.
وفي هذه السنة استحوذ ركن الدولة على بلاد طبرستان وجرجان من يد وشمكير أخي مرداويج ملك الديلم، فذهب وشمكير إلى خراسان يستنجد بصاحبها كما سيأتي.
وممن توفي فيها من الاعيان: أبو الحسين بن المنادي أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن يزيد، سمع جده وعباسا الدوري ومحمد بن إسحاق الصاغاني.
وكان ثقة أمينا حجة صادقا، صنف كثيرا وجمع علوما جمة، ولم يسمع الناس منها إلا اليسير، وذلك لشراسة أخلاقه.
وآخر من روى عنه محمد بن فارس اللغوي، ونقل ابن الجوزي
__________
(1) من ابن خلكان 1 / 68 وفي الاصل " القاضي " وعرف والده بالقاص لانه كان يقص الاخبار والآثار.
وجعله أبو سعد السمعاني نفسه القاص وقال: سمي بذلك لدخوله ديار الديلم ووعظه بها وتذكيره فسمي القاص...(2) في الوفيات: الختن.
(3) في الوفيات: أبو علي (*).

(11/247)


عن أبي يوسف القدسي أنه قال: صنف أبو الحسن بن المنادي في علوم القرآن أربعمائة كتاب، ونيفا وأربعين كتابا ولا يوجد في كلامه حشو، بل هو نقي الكلام جمع بين الرواية والدراية.
وقال ابن الجوزي: ومن وقف على مصنفاته علم فضله واطلاعه ووقف على فوائد لا توجد في غير كتبه.
توفي في محرم من هذه السنة عن ثمانين سنة (1).
الصولي محمد بن عبد الله بن العباس ابن محمد صول أبو بكر الصولي، كان أحد العلماء بفنون الادب وحسن المعرفة بأخبار الملوك.
وأيام الخلفاء ومآثر الاشراف وطبقات الشعراء.
روى عن أبي داود السجستاني والمبرد وثعلب وأبي العيناء وغيرهم.
وكان واسع الرواية جيد الحفظ حاذقا بتصنيف الكتب.
وله كتب كثيرة هائلة،
ونادم جماعة من الخلفاء، وحظي عندهم، وكان جده صول وأهله ملوكا بجرجان، ثم كان أولاده من كبار الكتاب، وكان الصولي هذا جيد الاعتقاد حسن الطريقة، وله شعر حسن، وقد روى عنه الدارقطني وغيره من الحفاظ ومن شعره قوله: أحببت من أجله من كان يشبهه * وكل شئ من المعشوق معشوق حتى حكيت بجسمي ماء مقلته * كأن سقمي من عينيه مسروق خرج الصولي من بغداد إلى البصرة لحاجة لحقته فمات بها في هذه السنة.
وفيها كانت وفاة أبنة الشيخ أبي الزاهد المكي، وكانت من العابدات الناسكات المقيمات بمكة، وكانت تقتات من كسب أبيها من عمل الخوص، في كل سنة ثلاثين درهما يرسلها إليها، فاتفق أنه أرسلها مرة مع بعض أصحابه فزاد عليها ذلك الرجل عشرين درهما - يريد بذلك برها وزيادة في نفقتها - فلما اختبرتها قالت: هل وضعت في هذه الدراهم شيئا من مالك ؟ أصدقني بحق الذي حججت له.
فقال: نعم عشرين درهما.
فقالت: ارجع بها لا حاجة لي فيها، ولولا أنك قصدت الخير لدعوت الله عليك، فإنك قد أجعتني عامي هذا، ولم يبق لي رزق إلا من المزابل إلى قابل.
فقال: خذي منها الثلاثين التي أرسل بها أبوك إليك ودعي العشرين.
فقالت: لا، إنها اختلطت بمالك ولا أدري ما هو.
قال الرجل: فرجعت بها إلى أبيها فأبى أن يقبلها وقال: شققت يا هذا علي وضيقت عليها، ولكن اذهب فتصدق بها.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وثلثمائة فيها ركب معز الدولة من بغداد إلى الموصل فانهزم منه ناصر الدولة إلى نصيبين، فتملك معز
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 2 / 850: ثمانون سنة إلا سنة (*).

(11/248)


الدولة بن بويه في رمضان فعسف أهلها وأخذ أموالهم، وكثر الدعاء عليه.
ثم عزم على أخذ البلاد كلها من ناصر الدولة بن حمدان، فجاء خبر من أخيه ركن الدولة يستنجده على من قبله من الخراسانية، فاحتاج إلى مصالحة ناصر الدولة على أن يحمل ما تحت يده من بلاد الجزيرة والشام في كل
سنة ثمانية آلاف ألف درهم، وأن يخطب له ولاخويه عماد الدولة وركن الدولة على منابر بلاده كلها ففعل.
وعاد معز الدولة إلى بغداد وبعث إلى أخيه بجيش هائل، وأخذ له عهد الخليفة بولاية خراسان.
وفيها دخل سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب إلى بلاد الروم، فلقيه جمع كثيف من الروم فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم سيف الدولة وأخذت الروم ما كان معهم، وأوقعوا بأهل طرسوس بأسا شديدا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن الجوزي: وفي رمضان انتهت زيادة دجلة أحد وعشرين ذراعا وثلثا.
وممن توفي فيها من الاعيان: عبد الله بن محمد بن حمدويه ابن نعيم بن الحكم أبو محمد البيع، وهو والد الحاكم أبي عبد الله النيسابوري، أذن ثلاثا وستين سنة وغزا اثنتين وعشرين غزوة، وأنفق على العلماء مائة ألف، وكان يقوم الليل كثيرا، وكان كثير الصدقة، أدرك عبد الله بن أحمد بن حنبل ومسلم بن الحجاج، وروى عن أبن خزيمة وغيره، وتوفي عن ثلاث وتسعين سنة.
قدامة الكاتب المشهور هو قدامة بن جعفر بن قدامة أبو الفرج الكاتب، له مصنف في الخراج وصناعة الكتابة، وبه يقتدي علماء هذا الشأن، وقد سأل ثعلبا عن أشياء.
محمد بن علي بن عمر أبو علي المذكر الواعظ بنيسابور، كان كثير التدليس عن المشايخ الذين لم بلقهم.
توفي في هذه السنة عن مائة وسبع سنين سامحه الله.
محمد بن مطهر بن عبد الله أبو المنجا الفقيه الفرضي المالكي، له كتاب في الفقه على مذهب مالك، وله مصنفات في الفرائض قليلة النظير، وكان أديبا إماما فاضلا صادقا، رحمه الله.

(11/249)


ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة
في ربيع الاول منها وقعت فتنة بين الشيعة وأهل السنة، ونهبت الكرخ.
في جمادى الآخرة تقلد أبو السائب عتبة بن عبيد الله (1) الهمداني قضاء القضاة.
وفيها خرج رجل يقال له عمران بن شاهين كان قد استوجب بعض العقوبات فهرب من السلطان إلى ناحية البطائح، وكان يقتات مما يصيده من السمك والطيور، والتف عليه خلق من الصيادين وقطاع الطريق، فقويت شوكته واستعمله أبو القاسم بن البريدي على بعض تلك النواحي، وأرسل إليه معز الدولة بن بويه جيشا مع وزيره أبي جعفر بن بويه الضميري (2)، فهزم ذلك الصياد الوزير، واستحوذ على ما معه من الاموال، فقويت شوكة ذلك الصياد، ودهم الوزير وفاة عماد الدولة بن بويه وهو: أبو الحسن علي بن بويه وهو أكبر أولاد بويه وأول من تملك منهم، وكان عاقلا حاذقا حميد السيرة رئيسا في نفسه.
كان أو ظهوره في سنة ثنتين وعشرين وثلثمائة كما ذكرنا.
فلما كان في هذا العام قويت عليه الاسقام وتواترت عليه الآلام فأحس من نفسه بالهلاك، ولم يفاده ولا دفع عنه أمر الله ما هو فيه من الاموال والملك وكثرة الرجال والاموال، ولا رد عنه جيشه من الديالم والاتراك والاعجام، مع كثرة العدد والعدد، بل تخلوا عنه أحوج ما كان إليهم، فسبحان الله الملك القادر القاهر العلام.
ولم يكن له ولد ذكر، فأرسل إلى أخيه ركن الدولة يستدعيه إليه وولده عضد الدولة، ليجعله ولي عهده من بعده، فلما قدم عليه فرح به فرحا شديدا، وخرج بنفسه في جميع جيشه يتلقاه، فلما دخل به إلى دار المملكة أجلسه على السرير وقام بين يديه كأحد الامراء، ليرفع من شأنه عند أمرائه ووزرائه وأعوانه.
ثم عقد له البيعة على ما يملكه من البلدان والاموال، وتدبير المملكة والرجال.
وفيهم من بعض رؤوس الامراء كراهة لذلك، فشرع في القبض عليهم وقتل من شاء منهم وسجن آخرين، حتى تمهدت الامور لعضد الدولة.
ثم كانت وفاة عماد الدولة بشيراز في هذه السنة، عن سبع وخمسين سنة وكانت مدة ملكه ست عشرة سنة، وكان من خيار الملوك في زمانه، وكان ممن حاز قصب السبق دون أقرانه، وكان هو أمير الامراء، وبذلك كان يكاتبه الخلفاء، ولكن أخوه معز الدولة كان يونب عنه في العراق والسواد.
ولما مات عماد الدولة اشتغل الوزير أبو جعفر الضميري (3) عن محاربة عمران بن
شاهين الصياد - وكان قد كتب إليه معز الدولة أن يسير إلى شيراز ويضبط أمرها - فقوي أمر عمران
__________
(1) في الكامل 8 / 485: عبد الله (2) في الكامل 8 / 481: الصيمري، وفي العبر لابن خلدون 3 / 424: محمد بن أحمد الصهيري أبو جعفر.
(3) انظر الحاشية السابقة (*).

(11/250)


بعد ضعفه، وكان من أمره ما سيأتي في موضعه.
وممن توفي فيها من الاعيان أبو جعفر النحاس النحوي.
أحمد بن محمد إسماعيل بن يونس أبو جعفر المرادي المصري النحوي، المعروف بالنحاس، اللغوي المفسر الاديب، له مصنفات كثيرة في التفسير وغيره، وقد سمع الحديث ولقي أصحاب المبرد، وكانت وفاته في ذي الحجة من هذه السنة.
قال ابن خلكان: لخمس خلون منها يوم السبت.
وكان سبب وفاته أنه جلس عند المقياس يقطع شيئا من العروض فظنه بعض العامة يسحر النيل فرفسه برجله فسقط فغرق، ولم يدر أين ذهب.
وقد كان أخذ النحو عن علي بن سليمان الاحوص وأبي بكر الانباري وأبي إسحاق الزجاج ونفطويه وغيرهم، وله مصنفات كثيرة مفيدة، منها تفسير القرآن والناسخ والمنسوخ، وشرح أبيات سيبويه، ولم يصنف مثله، وشرح المعلقات والدواوين العشرة، وغير ذلك.
وروى الحديث عن النسائي وكان بخيلا جدا، وانتفع الناس به.
وفيها كانت وفاة الخليفة المستكفي بالله عبد الله بن علي المكتفي بالله، وقد ولي الخلافة سنة وأربعة أشهر ويومين (1)، ثم خلع وسملت عيناه كما تقدم ذكره.
توفي في هذه السنة وهو معتقل في داره، وله من العمر ست وأربعون سنة وشهران.
علي بن حمشاد بن سحنون (2) بن نصر أبو المعدل (3)، محدث عصره بنيسابور، رحل إلى البلدان وسمع الكثير وحدث وصنف مسندا
أربعمائة جزء، وله غير ذلك مع شدة الاتقان والحفظ، وكثرة العبادة والصيانة والخشية لله عز وجل قال بعضهم: صحبته في السفر والحضر فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة.
وله تفسير في مائتي جزء ونيف، ودخل الحمام من غير مرض فتوفي فيه فجأة، وذلك يوم الجمعة الرابع عشر من شوال من هذه السنة رحمه الله.
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 401: سنة وأربعة أشهر إلا أياما.
وفي العقد الفريد 5 / 130: سنة واحدة وستة أشهر وأياما.
وفي الكامل 8 / 451: سنة واحدة وأربعة أشهر.
(2) في التذكرة 3 / 876 علي بن خمشاذ، وفي شذرات الذهب 2 / 348: علي بن محمد بن سختونة بن خمشاد.
(3) في التذكرة وشذرات الذهب: أبو الحسن (*).

(11/251)


علي بن محمد بن أحمد بن الحسن أبو الحسن الواعظ البغدادي، ارتحل إلى مصر فأقام بها حتى عرف بالمصري، سمع الكثير وروى عنه الدار قطني وغيره، وكان له مجلس وعظ يحضر فيه الرجل والنساء وكان يتكلم وهو مبرقع لئلا يرى النساء حسن وجهه، وقد حضر مجلسه أبو بكر النقاش مستخفيا فلما سمع كلامه قام قائما وشهر نفسه وقال له: القصص بعدك حرام.
قال الخطيب: كان ثقة أمينا عارفا، جمع حديث الليث وابن لهيعة وله كتب كثيرة في الزهد.
توفي في ذي القعدة منها، وله سبع وثمانون سنة والله أعلم.