البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين وثلثمائة في عاشر المحرم من هذه السنة أمر معز الدولة بن بويه قبحه الله أن تغلق الاسواق وأن يلبس النساء المسوح من الشعر وأن يخرجن في الاسواق حاسرات عن وجوههن، ناشرات شعورهن يلطمن وجوههن ينحن على الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يمكن أهل السنة منع ذلك لكثرة الشيعة وظهورهم، وكون السلطان معهم.
وفي عشر (1) ذي الحجة منها أمر معز الدولة بن بويه بإظهار الزينة في بغداد وأن تفتح الاسواق بالليل كما في الاعياد، وأن تضرب الدبادب والبوقات، وأن تعشل
النيران في أبواب الامراء وعند الشرط، فرحا بعيد الغدير - غدير خم - فكان وقتا عجيبا مشهودا، وبدعة شنيعة ظاهرة منكرة.
وفيها أغارت الروم على الرها، فقتلوا وأسروا ورجعوا موقرين، ثم ثارت الروم بملكهم فقتلوه وولوا غيره، ومات الدمستق أيضا ملك الارمن واسمه النقفور، وهو الذي أخذ حلب وعمل فيها ما عمل، وولوا غيره.
__________
(1) في الكامل 8 / 549: ثامن عشر.
وفي تاريخ ابي الفداء 2 / 104: ثامن ذي الحجة (*).

(11/276)


ترجمة النقفور ملك الارمن
واسمه الدمستق الذي توفي في سنة ثنتين - وقيل خمس وقيل ست - وخمسين وثلثمائة لا رحمه الله.
كان هذا الملعون من أغلظ الملوك قلبا، وأشدهم كفرا، وأقواهم بأسا، وأحدهم شوكة، وأكثرهم قتلا وقتالا للمسلمين في زمانه، استحوذ في أيامه لعنه الله على كثير من السواحل، وأكثرها انتزعها من أيدي المسلمين قسرا، واستمرت في يده قهرا، وأضيفت إلى مملكة الروم قدرا.
وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان، وظهور البدع الشنيعة فيهم وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم، وفشوا البدع فيهم، وكثرة الرفض والتشيع منهم، وقهر أهل السنة بينهم، فلهذا أديل عليهم أعداء الاسلام، فانتزعوا ما بأيديهم من البلاد مع الخوف الشديد ونكد العيش والفرار من بلاد إلى بلاد، فلا يبيتون ليلة إلا في خوف من قوارع الاعداء وطوارق الشرور المترادفة، فالله المستقان.
وقد ورد حلب في مائتي ألف مقاتل بغتة في سنة إحدى وخمسين، وجال فيها جولة.
ففر من بين يديه صاحبها سيف الدولة ففتحها اللعين عنوة، وقتل من أهلها من الرجال والنساء ما لا يعلمه إلا الله.
وخرب دار سيف الدولة التي كانت ظاهر حلب، وأخذ أموالها وحواصلها وعددها وبدد شملها، وفرق عددها، واستفحل أمر الملعون بها فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبالغ في الاجتهاد في قتال الاسلام وأهله، وجد في التشمير، فالحكم لله العلي الكبير.
وقد كان لعنه الله لا يدخل في بلد إلا قتل المقاتلة وبقية الرجال، وسبى النساء والاطفال، وجعل جامعها اصطبلا لخيوله، وكسر منبرها، واستنكث مأذنتها بخيله ورجله وطبوله.
ولم يزل ذلك دأبه وديدنه حتى سلط الله عليه زوجته فقتلته بجواريها في
وسط مسكنه.
وأراح الله منه الاسلام وأهله، وأزاح عنهم قيام ذلك الغمام ومزق شمله، فلله النعمة والافضال، وله الحمد على كل حال.
واتفق في سنة وفاته موت صاحب القسطنطينية.
فتكاملت المسرات وخلصت الامنية، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتذهب السيئات، وبرحمته تغفر الزلات.
والمقصود أن هذا اللعين - أعني النقفور الملقب بالدمستق ملك الارمن كان قد أرسل قصيده إلى الخليفة المطيع لله، نظمها له بعض كتابه ممن كان قد خذله الله وأذله، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، وصرفه عن الاسلام وأصله.
يفتخر فيها بهذا اللعين، ويتعرض لسب الاسلام والمسلمين، ويتوعد فيها أهل حوزة الاسلام بأنه سيملكها كلها حتى الحرمين الشريفين، عما قريب من الاعوام، وهو أقل وأذل وأخس وأضل من الانعام، ويزعم أنه ينتصر لدين المسيح عليه السلام ابن البتول.
وربما يعرض فيها بجناب الرسول عليه من ربه التحية والاكرام، ودوام الصلاة مدى الايام.
ولم يبلغني عن أحد من أهل ذلك العصر أنه رد عليه جوابه، إما لانها لم تشتهر، وإما لانه أقل من أن يردوا خطابه لانه كالمعاند الجاحد.
ونفس نظمها تدل على أنه شيطان مارد وقد انتخى للجواب عنها بعد ذلك أبو محمد بن حزم الظاهري: فأفاد وأجاد، وأجاب عن كل فصل باطل بالصواب والسداد، فبل الله بالرحمة ثراه.
وجعل الجنة متقله ومثواه.

(11/277)


وها أنا أذكر القصيدة الارمنية المخذولة الملعونة، وأتبعها بالفريدة الاسلامية المنصورة الميمونة قال المرتد الكافر الارمني على لسان ملكه لعنهما الله وأهل ملتهم أجمعين أكتعين أبتعين أبصعين آمين يا رب العالمين.
ومن خط ابن عساكر كتبتها، وقد نقلوها من كتاب صلة الصلة للفرغاني: من الملك الطهر المسيحي مالك * إلى خلف الاملاك من آل هاشم إلى الملك الفضيل المطيع أخي العلا * ومن يرتجى للمعضلات العظائم أما سمعت أذناك ما أنا صانع * ولكن دهاك الوهن عن فعل حازم فإن تك عما قد تقلدت نائما * فإني عما همني غير نائم
ثغوركم لم يبق فيها - لوهنكم * وضعفكم - إلا رسوم المعالم فتحنا الثغور الارمنية كلها * بفتيان صدق كالليوث الضراغم ونحن صلبنا الخيل تعلك لجمها * وتبلغ منها قضمها للشكائم (1) إلى كل ثغر بالجزيرة آهل * إلى جند قنسريتكم فالعواصم ملطية مع سميساط من بعد كركر * وفي البحر أضعاف الفتوح التواخم وبالحدث الحمراء جالت عساكري * وكيسوم بعد الجعفري للمعالم وكم قد ذللنا من أعزة أهلها * فصاروا لنا من بين عبد وخادم وسد سروج إذ خربنا بجمعنا * لنا رتبة تعلوا على كل قائم وأهل الرها لاذوا بنا وتحزبوا * بمنديل مولى علا عن وصف آدمي وصبح رأس العين منا بطارق * ببيض غزوناها بضرب الجماجم ودارا وميا فارقين وأزرنا * أذقناهم بالخيل طعم العلاقم واقريطش قد جازت إليها مراكبي * على ظهر بحر مزبد متلاطم فحزتهم أسرى وسيقت نساؤهم * ذوات الشعور المسبلات النواعم هناك فتحنا عين زربة عنوة * نعم وأبدنا كل طاغ وظالم إلى حلب حتى استبحنا حريمها * وهدم منها سورها كل هادم أخذنا النسا ثم البنات نسوقهم * وصبيانهم مثل المماليك خادم وقد فر عنها سيف دولة دينكم * وناصركم منا على رغم راغم وملنا على طرسوس ميلة حازم * أذقنا لمن فيها لحز الحلاقم فكم ذات عز حرة علوية * منعمة الاطراف ريا المعاصم سبينا فسقنا خاضعات حواسرا * بغير مهور، لا ولا حكم حاكم وكم من قتيل قد تركنا مجندلا * يصب دما بين اللها واللهازم
__________
(1) الشكائم: جمع شكيمة، وهي الحديدة توضع في فم الخيل (*).

(11/278)


وكم وقعة في الدرب أفنت كماتكم * وسقناهم قسرا كسوق البهائم وملنا على أرياحكم وحريمها * مدوخة تحت العجاج السواهم فأهوت أعاليها وبدل رسمها * من الانس وحشا بعد بيض نواعم إذا صاح فيهم البوم جاوبه الصدى * وأتبعه في الربع نوح الحمائم وإنطاك لم تبعد علي وإنني * سأفتحها يوما بهتك المحارم ومسكن آبائي دمشق فإنني * سأرجع فيها ملكنا تحت خاتمي ومصر سأفتحها بسيفي عنوة * وآخذ أموالا بها وبهائمي وأجزي كافورا بما يستحقه * بمشط ومقراض وقص محاجم الا شمروا يا أهل حمدان شمروا * أتتكم جيوش الروم مثل الغمائم فأن تهربوا تنجوا كراما وتسلموا * من الملك الصادي بقتل المسالم (1) كذاك نصيبين وموصلها إلى * جزيرة آبائي وملك الاقادم سأفتح سامرا وكوثا وعكبرا * وتكريتها مع ماردين العواصم وأقتل أهليها الرجال بأسرها * وأغنم أموالا بها وحرائم ألا شمروا يا أهل بغداد ويلكم * فكلكم مستضعف غير رائم رضيتم بحكم الديلمي ورفضه * فصرتم عبيدا للعبيد الديالم ويا قاطني الرملات ويلكم ارجعوا * إلى أرض صنعا راعيين البهائم وعودوا إلى أرض الحجاز أذلة * وخلوا بلاد الروم أهل المكارم سألقي جيوشا نحو بغداد سائرا * إلى باب طاق حيث دار القماقم وأحرق أعلاها وأهدم سورها * وأسبي دراريها على رغم راغم وأحرز أموالا بها وأسرة * وأقتل من فيها بسيف النقائم وأسري بجيشي نحو الاهواز مسرعا * لاحراز ديباج وخز السواسم
وأشعلها نهبا وأهدم قصورها * وأسبي ذراريها كفعل الاقادم ومنها إلى شيراز والري فاعلموا * خراسان قصري والجيوش بحارم إلى شاس بلخ بعدها وخواتها * وفرغانة مع مروها والمخازم وسابور أهدمها وأهدم حصونها * وأوردها يوما كيوم السمائم (2) وكرمان لا أنسى سجستان كلها * وكابلها النائي وملك الاعاجم أسير بجندي نحو بصرتها التي * لها بحر عجاج رائع متلازم إلى واسط وسط العراق وكوفة * كما كان يوما جندنا ذو العزائم
__________
(1) الصادي: المتعطش يريد ارواء ظمأه.
هنا المتعطش للقتال واهراق الدماء.
(3) يوم السمائم: يوم الرياح الحارة التي تشوي الوجوه شيا (*)

(11/279)


واخرج منها نحو مكة مسرعا * أجر جيوشا كالليالي السواجم (1) فأملكها دهرا عزيزا مسلما * أقيم بها للحق كرسي عالم وأحوي نجدا كلها وتهامها * وسرا واتهام مدحج وقحاطم وأغزو يمانا كلها وزبيدها * وصنعاء هنا مع صعدة والتهائم فاتركها أيضا خرابا بلاقعا * خلاء من الاهلين أهل نعائم وأحوي أموال اليمانين كلها * وما جمع القرماط يوم محارم أعود إلى القدس التي شرفت بنا * بعز مكين ثابت الاصل قائم وأعلو سريري للسجود معظما * وتبقى ملوك الارض مثل الخوادم هنالك تخلوا الارض من كل مسلم * لكل نقي الدين أغلف زاعم نصرنا عليكم حين جارت ولاتكم * وأعلنتمو بالمنكرات العظائم قضاتكم باعوا القضاء بدينهم * كبيع ابن يعقوب ببخس الدراهم عدولكم بالزور يشهد ظاهرا * وبالافك والبرطيل مع كل قائم
سأفتح أرض الله شرقا ومغربا * وأنشر دينا للصليب بصارمي فعيسى علا فوق السموات عرشه * يفوز الذي والاه يوم التخاصم وصاحبكم بالترب أودى به الثرى * فصار رفاتا بين تلك الرمائم تناولتم أصحابه بعد موته * بسب وقذف وانتهاك المحارم هذا آخرها لعن الله ناظمها وأسكنه النار، (يوم لا تنفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) [ غافر: 52 ] يوم يدعو ناظمها ثبورا ويصلى نارا سعيرا (يوم يعض الظالم على يديه، يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا) [ الفرقان: 27 - 29 ].
إن كان مات كافرا.
وهذا جوابها لابي محمد بن حزم الفقيه الظاهري الاندلسي قالها ارتجالا حين بلغته هذه الملعونة عضبا لله ولرسوله ولدينه كما ذكر ذلك من رآه، فرحمه الله وأكرم مثواه وغفر له خطاياه.
من المحتمي بالله رب العوالم * ودين رسول الله من آل هاشم محمد الهادي إلى الله بالتقى * وبالرشد والاسلام أفضل قائم عليه من الله السلام مرددا * إلى أن يوافي الحشر كل العوالم إلى قائل بالافك جهلا وضلة * عن النقفور المفتري في الاعاجم دعوت إماما ليس من أمرائه * بكفيه إلا كالرسوم الطواسم (2)
__________
* (هامش *
(1) السواجم: الكثيفة.
وسجم الدمع والمطر: إذا سال وانصب غزيرا.
(2) الطواسم: التي طمسها الغبار واخفى معالمها ورسومها (*).

(11/280)


دهته الدواهي في خلافته كما * دهت قبله الاملاك دهم الدواهم ولا عجب من نكبة أو ملمة * تصيب الكريم الجدود الاكارم ولو أنه في حال ماضي جدوده * لجرعتم منه سموم الاراقم عسى عطفة لله في أهل دينه * تجدد منه دارسات المعالم
فخرتم بما لو كان فيكم حقيقة * لكان بفضل الله أحكم حاكم إذن لا عترتكم خجلة عند ذكره * وأخرس منكم كل فاه مخاصم سلبناكم كرا ففزتم بغرة * من الكر أفعال الضعاف العزائم فطرتم سرورا عند ذاك ونشوة * كفعل المهين الناقص المتعالم وما ذاك إلا في تضاعيف عقله * عريقا وصرف الدهر جم الملاحم ولما تنازعنا الامور تخاذلا * ودانت لاهل الجهل دولة ظالم وقد شعلت فينا الخلائف فتنة * لعبدانهم مع تركهم والدلائم بكفر أياديهم وجحد حقوقهم * بمن رفعوه من حضيض البهائم وثبتم على أطرافنا عند ذاكم * وثوب لصوص عند غفلة نائم ألم تنتزع منك بأعظم قوة * جميع بلاد الشام ضربة لازم ومصرا وأرض القيروان بأسرها * وأندلسا قسرا بضرب الجماجم ألم ننتزع منكم على ضعف حالنا * صقلية في بحرها المتلاطم مشاهد تقد يساتكم وبيوتها * لنا وبأيدينا على رغم راغم أما بيت لحم والقمامة بعدها * بأيدي رجال المسلمين الاعاظم وسركيسكم في أرض اسكندرية * وكرسيكم في القدس في أدرثاكم ضممناكم قسرا برغم أنوفكم * وكرسي قسطنطينية في المعادم ولا بد من عود الجميع بأسره * إلينا بعز قاهر متعاظم أليس يزيد حل وسط دياركم * على باب قسطنطينية بالصوارم ومسلمة قد داسها بعد ذاكم * بجيش تهام قد دوى بالضراغم وأخدمكم بالذل مسجدنا الذي * بنى فيكم في عصره المتقادم إلى جنب قصر الملك من دار ملككم * ألا هذه حق صرامة صارم وأدى لهارون الرشيد مليككم * رفادة مغلوب وجزية غارم
سلبناكم مصر شهود بقوة * حبانا بها الرحمن أرحم راحم إلى بيت يعقوب وأرباب دومة * إلى لجة البحر المحيط المحاوم فهل سرتم في أرضنا قط جمعة * أبى لله ذا كم يا بقايا الهزائم فما لكم إلا الاماني وحدها * بضائع نوكي تلك أحلام نائم

(11/281)


رويدا بعد نحو الخلافة نورها * وسفر مغير وجوه الهواشم وحينئذ تدرون كيف قراركم * إذا صدمتكم خيل جيش مصادم على سالف العادات منا ومنكم * ليالي بهم في عداد الغنائم سبيتم سبايا يحصر العد دونها * وسبيكم فينا كقطر الغمائم فلو رام خلق عدها رام معجزا * وأني بتعداد لرش الحمائم بأبناء بني حمدان وكافور صلتم * أراذل أنجاس قصار المعاصم دعي وحجام سطوتم عليهما * وما قدر مصاص دماء المحاجم فهلا على دميانة قبل ذاك أو * على محل أربا رماة الضراغم ليالي قادوكم كما اقتادكم * أقيال جرجان بحز الحلاقم وساقوا على رسل بنات ملوككم * سبايا كما سيقت ظباء الصرائم ولكن سلوا عنا هرقلا ومن خلى * لكم من ملوك مكرمين قماقم (1) يخبركم عنا التنوخ وقيصر * وكم قد سبينا من نساء كرائم وعما فتحنا من منيع بلادكم * وعما أقمنا فيكم من مآتم ودع كل نذل مفتر لا تعده * إماما ولا الدعوى له بالتقادم فهيهات سامرا وتكريت منكم * إلى جبل تلكم أماني هائم منى يتمناها الضعيف ودونها * نظائرها..وحز الغلاصم تريدون بغداد سوقا جديدة * مسيرة شهر للفنيق القواصم (2)
محلة أهل الزهد والعلم والتقى * ومنزلة يختارها كل عالم دعوا الرملة الصهباء عنكم فدونها * من المسلمين الغر كل مقاوم ودون دمشق جمع جيش كأنه * سحائب طير ينتحي بالقوادم وضرب يلقي الكفر كل مذلة * كما ضرب السكي بيض الدراهم ومن دون أكناف الحجاز جحافل * كقطر الغيوم الهلائلات السواحم بها من بني عدنان كل سميدع * ومن حي قحطان كرام العمائم ولو قد لقيتم من قضاعة كبة * لقيتم ضراما في يبيس الهشائم إذا أصبحوكم ذكروكم بما خلا * لهم معكم من صادق متلاحم زمان يقودون الصوافن نحوكم * فجئتم ضمانا أنكم في الغنائم سيأتيكم منهم قريبا عصائب * تنسيكم تذكار أخذ العواصم وأموالكم حل لهم ودماؤكم * بها يشتفي حر الصدور الحوايم
__________
(1) القماقم: السادة الكرام الذين يكثرون في أعطياتهم.
(2) الفنيق: الفحل من الابل.
والقواصم: هنا: القوية والشديدة (*)

(11/282)


وأرضيكم حقا سيقتسمونها * كما فعلوا دهرا بعدل المقاسم ولو طرقتكم من خراسان عصبة * وشيراز والري الملاح القوائم لما كان منكم عند ذلك غير ما * عهدنا لكم: ذل وعض الاباهم فقد طالما زاروكم في دياركم * مسيرة عام بالخيول الصوادم فأما سجستان وكرمان بال * أولى وكابل حلوان بلاد المراهم وفي فارس والسوس جمع عرمرم * وفي أصبهان كل أروع عارم فلو قد أتاكم جمعهم لغدوتم * فرائس كالاساد فوق البهائم وبالبصرة الغراء والكوفة التي * سمت وبآدي واسط بالعظائم
جموع تسامي الرمل عدا وكثرة * فما أحد عادوه منه بسالم ومن دون بيت الله في مكة التي * حباها بمجد للبرايا مراحم محل جميع الارض منها تيقنا * محلة سفل الخف من فص خاتم دفاع من الرحمن عنها بحقها * فما هو عنها رد طرف برائم بها وقع الاحبوش هلكى وفيلهم * بحصباء طير في ذرى الجو حائم وجمع كجمع البحر ماض عرمرم * حمى بنية البطحاء ذات المحارم ومن دون قبر المصطفى وسط طيبة * جموع كمسود من الليل فاحم يقودهم جيش الملائكة العلى * دفاعا ودفعا عن مصل وصائم فلو قد لقيناكم لعدتم رمائما * كما فرق الاعصار عظم البهائم وباليمن الممنوع فتيان غارة * إذا ما لقوكم كنتم كالمطاعم وفي جانبي أرض اليمامة عصبة * معاذر أمجاد طوال البراجم نستفينكم والقرمطيين دولة * تقووا بميمون التقية حازم خليفة حق ينصر الدين حكمه * ولا يتقي في الله لومة لائم إلى ولد العباس تنمي جدوده * بفخر عميم مزبد الموج فاعم ملوك جرى بالنصر طائر سعدهم * فأهلا بماض منهم وبقادم محلهم في مسجد القدس أو لدى * منازل بغداد محل المكارم وإن كان من عليا عدي وتيمها * ومن أسد هذا الصلاح الحضارم فأهلا وسهلا ثم نعمى ومرحبا * بهم من خيار سالفين أقادم هم نصروا الاسلام نصرا مؤزرا * وهم فتحوا البلدان فتح المراغم رويدا فوعد الله بالصدق وارد * بتجريع أهل الكفر طعم العلاقم سنفتح قسطنطينية وذواتها * ونجعلكم فوق النسور القعاشم ونفتح أرض الصين والهند عنوة * بجيش الارض الترك والخزر حاطم

(11/283)


مواعيد للرحمن فينا صحيحة * وليست كآمال العقول السواقم ونملك أقصى أرضكم وبلادكم * ونلزمكم ذل الحر أو الغارم إلى أن ترى الاسلام قد عم حكمه * جميع الاراضي بالجيوش الصوارم أتقرن يا مخذول دينا مثلثا * بعيدا عن المعقول بادي المآثم تدين لمخلوق يدين لغيره * فيا لك سحقا ليس يخفى لعالم أنا جيلكم مصنوعة قد تشابهت * كلام الاولى فيها أتوا بالعظائم وعود صليب ما تزالون سجدا * له يا عقول الهاملات السوائم تدينون تضلالا بصلب إلهكم * بأيدي يهود أذلين لآئم إلى ملة الاسلام توحيد ربنا * فما دين ذي دين لها بمقاوم وصدق رسالات الذي جاء بالهدى * محمد الآتي برفع المظالم وأذعنت الاملاك طوعا لدينه * ببرهان صدق طاهر في المواسم كما دان في صنعاء مالك دولة * وأهل عمان حيث رهط الجهاضم (1) وسائر أملاك اليمانين أسلموا * ومن بلد البحرين قوم اللهازم أجابوا لدين الله لا من مخافة * ولا رغبة يحضى بها كف عادم فحلوا عرى التيجان طوعا ورغبة * بحق يقين بالبراهين فاحم وحاباه بالنصر المكين إلهه * وصير من عاداه تحت المناسم (2) فقير وحيد لم تعنه عشيرة * ولا دفعوا عنه شتيمة شاتم ولا عنده ما عتيد لناصر ولا دفع مرهوب ولا لمسالم ولا وعد الانصار مالا يخصهم * بلى كان معصوما لاقدر عاصم ولم تنهنهه قط قوة آسر * ولا مكنت من جسمه يد ظالم كما يفترى إفكا وزورا وضلة * على وجه عيسى منكم كل لاطم
على أنكم قد قلتموا هو ربكم * فيا لضلال في القيامة عائم أبى لله أن يدعى له ابن وصاحب * ستلقى دعاة الكفر حالة نادم ولكنه عبد نبي رسول مكرم * من الناس مخلوق ولا قول زاعم أيلطم وجه الرب ؟ تبا لدينكم * لقد فقتم في قولكم كل ظالم وكم آية أبدى النبي محمد * وكم علم أبداه للشرك حاطم تساوى جميع الناس في نصر حقه * بل لكل في إعطائه حال خادم
__________
(1) الجهاضم: جمع جهضم، وهو الضخم الهامة والمستدير الوجه، رحب الجبين، واسع الصدر، كناية عن الرجال الاقوياء الاشداء.
(2) المناسم: جمع منسم، وهو عند الجمال كالظفر عند الانسان، أي طرف خف الجمل (*).

(11/284)


معرب واحبوش وفرس وبربر * وكرديهم قد فاز قدح المراحم وقبط وأنباط وخزر وديلم * وروم رموكم دونه بالقواصم أبو كفر أسلاف لهم فتمنعوا * فآبوا بحظ في السعادة لازم به دخلوا في ملة الحق كلهم * ودانوا لاحكام الاله اللوازم به صح تفسير المنام الذي أتى * به دانيال قبله حتم حاتم وهند وسند أسلموا وتدينوا * بدين الهدى رفض لدين الاعاجم وشق له بدر السموات آية * وأشبع من صاع له كل طاعم وسالت عيون الماء في وسط كفه * فأروى به جيشا كثيرا هماهم وجاء بما تقضى العقول بصدقه * ولا كدعاء غير ذات قوائم عليه سلام الله ما ذر شارق * تعقبه ظلماء أسحم قاتم براهينه كالشمس لا مثل قولكم * وتخليطكم في جوهر وأقانم لنا كل علم من قديم ومحدث * وأنتم حمير داميات المحازم أتيتم بشعر بارد متخاذل * ضعيف معاني النظم جم البلاعم
فدونكها كالعقد فيه زمرد * ودر وياقوت بأحكام حاكم وفيها عزل ابن أبي الشوارب عن القضاء ونقضت سجلاته وأبطلت وأحكامه مدة أيامه، وولي القضاء عوضه أبو بشر عمر بن أكتم (1) بن رزق، ورفع عنه ما كان يحمله ابن أبي الشوارب في كل سنة.
وفي ذي الحجة منها استسقى الناس لتأخر المطر - وذلك في كانون الثاني - فلم يسقوا.
وحكى ابن الجوزي في المنتظم عن ثابت بن سنان المؤرخ قال: حدثني جماعة ممن أثق بهم أن بعض بطارقة الارمن أنفذ في سنة ثنتين وخمسين وثلثمائة إلى ناصر الدولة بن حمدان رجلين من الارمن ملتصقين سنهما خمس وعشرون سنة، ملتحمين ومعهما أبوهما، ولهما سرتان وبطنان ومعدتان وجوعهما وريهما يختلفان، وكان أحدهما يميل إلى النساء والآخر يميل إلى الغلمان، وكان يقع بينهما خصومة وتشاجر، وربما يحلف الآخر لا يكلم الآخر فيمكث كذلك أياما ثم يصطلحان، وهبهما ناصر الدولة ألفي درهم وخلع عليهما ودعاهما إلى الاسلام فيقال إنهما أسلما.
وأراد أن يبعثهما إلى بغداد ليراهما الناس ثم رجع عن ذلك، ثم إنهما رجعا إلى بلدهما مع أبيهما فاعتل أحدهما ومات وأنتن ريحه وبقي الآخر لا يمكنه التخلص منه، وقد كان اتصال ما بينهما من الخاصرتين، وقد كان ناصر الدولة أراد فصل أحدهما عن الآخر وجمع الاطباء لذلك فلم يمكن، فلما مات أحدهما حار أبوهما في فصله عن أخيه فاتفق اعتلال الآخر من غمه ونتن أخيه فمات غما فدفنا جميعا في قبر واحد.
وممن توفي فيها من الاعيان عمر بن أكثم بن أحمد بن حيان بن بشر أبو بشر الاسدي، ولد سنة
__________
(1) في الكامل 8 / 549: عمرو بن أكثم (*).

(11/285)


أربع وثمانين ومائتين، وولي القضاء في زمن المطيع نيابة عن أبي السائب عتبة بن عبيد الله، ثم ولي قضاء القضاة، وهو أول من ولي قضاء القضاة من الشافعية سوى أبي السائب، وكان جيد السيرة في القضاء.
توفي في ربيع الاول منها.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة
في عاشر المحرم منها عملت الرافضة عزاء الحسين كما تقدم في السنة الماضية اقتتل الروافض وأهل السنة في هذا اليوم قتالا شديدا، وانتهبت الاموال.
وفيها عصى نجا غلام سيف الدولة عليه، وذلك أنه كان في العام الماضي قد صادر أهل حران وأخذ منهم أموالا جزيلة فتمرد بها وذهب إلى أذربيجان (1) وأخذ طائفة منها من يد رجل من الاعراب يقال له أبو الورد، فقتله وأخذ من أمواله شيئا كثيرا، وقويت شوكته بسبب ذلك، فسار إليه سيف الدولة فأخذه وأمر بقتله (2) فقتل بين يديه، وألقيت جثته في الاقذار.
وفيها جاء الدمستق إلى المصيصة فحاصرها وثقب سورها، فدافعه أهلها فأحرق رستاقها وقتل ممن حولها خمسة عشر ألفا وعاثوا فسادا في بلاد أذنة وطرسوس، وكر راجعا إلى بلاده.
وفيها قصد معز الدولة الموصل وجزيرة ابن عمر فأخذ الموصل وأقام بها، فراسله في الصلح صاحبها فاصطلحا على أن يكون الحمل في كل سنة (3)، وأن يكون أبو تغلب بن ناصر الدولة ولي عهد أبيه من بعده، فأجاب معز الدولة إلى ذلك، وكر راجعا إلى بغداد بعد ما جرت له خطوب كثيرة استقصاها ابن الاثير.
وفيها ظهر رجل ببلاد الديلم وهو أبو عبد الله محمد بن الحسين من أولاد الحسين بن علي، ويعرف بابن الداعي، فالتف عليه خلق كثير، ودعا إلى نفسه وتسمى بالمهدي، وكان أصله من بغداد وعظم شأنه بتلك البلاد، وهرب منه ابن الناصر العلوي.
وفيها قصد ملك الروم وفي صحبته الدمستق ملك الارمن بلاد طرسوس فحاصرها مدة ثم غلت عليهم الاسعار وأخذهم الوباء فمات كثير منهم فكروا راجعين (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) [ الاحزاب: 25 ] وكان من عزمهم يريدون أن يستحوذوا على البلاد الاسلامية كلها، وذلك لسوء حكامها وفساد عقائدهم في الصحابة فسلم الله ورجعوا خائبين.
وفيها كانت وقعة المختار (4) ببلاد صقلية، وذلك أنه أقبل من الروم خلق كثير، ومن الفرنج ما يقارب مائة ألف، فبعث أهل صقلية إلى المعز الفاطمي يستنجدونه، فبعث إليهم جيوشا
__________
(1) في الكامل 8 / 551: سار إلى ميافارقين، وقصد أرمينية (انظر العبر 4 / 240).
(2) في الكامل والعبر: حضر نجا عنده (عند سيف الدولة) فأمنه هو وأخاه وأعاده إلى مرتبته ثم وثب عليه غلمان سيف الدولة فقتلوه - قال في العبر في ربيع ثلاث وخمسين، وقال ابن الاثير في ربيع الاولى سنة
354 ه.
(3) وهو ألف ألف درهم يحملها ناصر الدولة كل سنة (الكامل 8 / 553).
(4) في الكامل: 8 / 558: وهذه الوقعة معروفة بوقعة المجاز (*).

(11/286)


كثيرة في الاسطول، وكانت بين المسلمين والمشركين وقعة عظيمة صبر فيها الفريقان من أول النهار إلى العصر، ثم قتل أمير الروم منويل، وفرت الروم وانهزموا هزيمة قبيحة فقتل المسلمون منهم خلقا كثيرا وسقط الفرنج في واد من الماء عميق فغرق أكثرهم وركب الباقون في المراكب، فبعث الامير أحمد صاحب صقلية في آثارهم مراكب أخر فقتلوا أكثرهم في البحر أيضا، وغنموا في هذه الغزوة كثيرا من الاموال والحيوانات والامتعة والاسلحة، فكان في جملة ذلك سيف مكتوب عليه: هذا سيف هندي زنته مائة وسبعون مثقالا، طالما قوتل به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا به في جملة تحف إلى المعز الفاطمي إلى إفريقية.
وفيها قصدت القرامطة مدينة طبرية ليأخذوها من يد الاخشيد صاحب مصر والشام، وطلبوا من سيف الدولة أن يمدهم بحديد يتخذون منه سلاحا، فقلع لهم أبواب الرقة - وكانت من حديد صامت - وأخذ لهم من حديد الناس حتى أخذ أواقي الباعة والاسواق، وأرسل بذلك كله إليهم، فأرسلوا إليه يقولون اكتفينا وفيها طلب معز الدولة من الخليفة أن يأذن له في دخول دار الخلافة ليتفرج فيها فأذن له فدخلها، فبعث الخليفة خادمه وصاحبه معه فطافوا بها وهو مسرع خائف، ثم خرج منها وقد خاف من غائلة ذلك وخشي أن يقتل في دهاليزها، فتصدق بعشرة آلاف لما خرج شكرا لله على سلامته، وازداد حبا في الخليفة المطيع من يومئذ، وكان في جملة ما رأى فيها من العجائب صنم من نحاس على صورة امرأة حسناء جدا، وحولها أصنام صغار في هيئة الخدم لها كان قد أتي بها في زمن المقتدر فأقيمت هناك ليتفرج عليها الجواري والنساء، فهم معز الدولة أن يطلبه من الخليفة ثم ارتأى فترك ذلك.
وفي ذي الحجة منها خرج رجل بالكوفة فادعى أنه علوي، وكان يتبرقع فسمي المتبرقع وغلظت فتنته وبعد صيته، وذلك في غيبة معز الدولة عن بغداد واشتغاله بأمر الموصل كما تقدم، فا
رجع إلى بغداد اختفى المتبرقع وذهب في البلاد فلم ينتج له أمر بعد ذلك.
وممن توفي فيها من الاعيان..بكار بن أحمد ابن بكار بن بيان بن بكار بن درستويه بن عيسى المقري، روى الحديث عن عبد الله بن أحمد وعنه أبو الحسن الحماني، وكان ثقة أقرأ القرآن أزيد من ستين سنة رحمه الله.
توفي في ربيع الاول منها وقد جاوز السبعين وقارب الثمانين، ودفن بمقبرة الخيزران عند قبر أبي حنيفة.
أبو إسحاق الجهمي ولد سنة خمسين ومائتين، وسمع الحديث وكان إذا سئل أن يحدث يقسم أن لا يحدث حتى يجاوز المائة فأبر الله قسمه وجاوزها فأسمع.
توفي عن مائة سنة وثلاثين سنة رحمه الله.

(11/287)


ثم دخلت سنة أربع وخمسين وثلثمائة في عاشر المحرم منها عملت الشيعة مآتمهم وبدعتهم على ما تقدم قبل، وغلقت الاسواق وعلقت المسوح، وخرجت النساء سافرات ناشرات شعورهن، ينحن ويلطمن وجوههن في الاسواق والازقة على الحسين، وهذا تكلف لا حاجة إليه في الاسلام، ولو كان هذا امرا محمودا لفعله خير القرون وصدر هذه الامة وخيرتها وهم أولى به (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) [ الاحقاف: 11 ] وأهل السنة يقتدون ولا يبتدعون، ثم تسلطت أهل السنة على الروافض فكبسوا مسجدهم مسجد براثا الذي هو عش الروافض وقتلوا بعض من كان فيه من القومة.
وفيها في رجب منها جاء ملك الروم بجيش كثيف إلى المصيصة فأخذها قسرا وقتلا من أهلها خلقا، واستاق بقيتهم معه أسارى، وكانوا قريبا من مائتي ألف إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم جاء إلى طرسوس فسأل أهلها منه الامان فأمنهم وأمرهم بالجلاء عنها والانتقال منها، واتخذ مسجدها الاعظم اسطبلا لخيوله وحرق المنبر ونقل قناديله إلى كنائس بلده، وتنصر أهلها معه لعنه الله.
وكان أهل طرسوس والمصيصة قد أصابهم قبل ذلك بلاء وغلاء عظيم، ووباء شديد، بحيث كان يموت منهم في اليوم الواحد ثمانمائة نفر، ثم
دهمهم هذا الامر الشديد فانتقلوا من شهادة إلى شهادة أعظم منها.
وعزم ملك الروم على المقام بطرسوس ليكون أقرب إلى بلاد المسلمين، ثم عن له فسار إلى القسطنطينية، وفي خدمته الدمستق ملك الارمن لعنه الله.
وفيها جعل أمر تسفير الحجيج إلى نقيب الطالبيين وهو أبو أحمد الحسن (1) بن موسى الموسوي، وهو والد الرضى والمرتضى، وكتب له منشور بالنقابة والحجيج.
وفيها توفيت أخت معز الدولة فركب الخليفة في طيارة وجاء لعزائه فقبل معز الدولة الارض بين يديه وشكر سعيه إليه، وصدقاته عليه.
وفي ثاني عشر ذي الحجة منها عملت الروافض عيد غدير خم على العادة الجارية كما تقدم.
وفيها تغلب على إنطاكية رجل يقال له رشيق النسيمي بمساعدة رجل يقال له ابن الاهوازي، وكان يضمن الطواحين، فأعطاه أموالا عظيمة وأطمعه في أخذ انطاكية، وأخبره أن سيف الدولة قد اشتغل عنه بميا فارقين وعجز عن الرجوع إلى حلب، ثم تم لهما ما راماه من أخذ إنطاكية، ثم ركبا منها في جيوش إلى حلب فجرت بينهما وبن نائب سيف الدولة حروب عظيمة، ثم أخذ البلد وتحصن النائب بالقلعة وجائته نجدة من سيف الدولة مع غلام له اسمه بشارة، فانهزم رشيق فسقط عن فرسه فابتدره بعض الاعراب فقتله وأخذ رأسه وجاء به إلى حلب، واستقل ابن الاهوازي سائرا إلى إنطاكية، فأقام رجلا من الروم اسمه دزبر (2) فسماه الامير، وأقام آخر من العلويين ليجعله خليفة وسماه الاستاذ.
فقصده نائب حلب وهو قرعويه (3)
__________
(1) في الكامل 8 / 565.
الحسين.
(2) في العبر لابن خلدون 4 / 241: وزيرا.
وفي تاريخ ابن الوردي 1 / 434: دزير.
(3) في الكامل 8 / 566: قرغويه، وفي مختصر أخبار البشر 2 / 105: قرعوبه.
العبر 4 / 241: عرقوبة (*).

(11/288)


فاقتتلا قتالا شديدا فهزمه ابن الاهوازي واستقر بإنطاكية، فلما عاد سيف الدولة إلى حلب لم يبت بها إلا ليلة واحدة حتى سار إلى إنطاكية فالتقاه ابن الاهوازي فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزم دزبر وابن الاهوازي وأسر فقتلهما سيف الدولة (1).
وفيها ثار رجل من القرامطة اسمه مروان كان يحفظ الطرقات لسيف الدولة.
ثار بحمص
فملكها وما حولها، فقصده جيش من حلب مع الامير بدر فاقتتلوا معه فرماه بدر بسهم مسموم فأصابه، واتفق أن أسر أصحاب مروان بدرا فقتله مروان بين يديه صبرا ومات مروان بعد أيام وتفرق عنه أصحابه.
وفيها عصى أهل سجستان أميرهم خلف بن أحمد، وذلك أنه حج في سنة ثلاث وخمسين واستخلف عليهم طاهر بن الحسين، فطمع في الملك بعده واستمال أهل البلد، فلما رجع من الحج لم يسلمه البلد وعصي عليه، فذهب إلى بخارى إلى الامير منصور بن نوح الساماني فاستنجده، فبعث معه جيشا فاستنقذ البلد من طاهر وسلمها إلى الامير خلف بن أحمد - وقد كان خلف عالما محبا للعلماء - فذهب طاهر فجمع جموعا ثم جاء فحاصر خلفا وأخذ منه البلد.
فرجع خلف إلى الامير منصور الساماني فبعث معه من استرجع له البلد ثانية وسلمها إليه، فلما استقر خلف بها وتمكن منها منع ماكان ان يحمله من الهدايا والتحف والخلع إلى الامير منصور الساماني ببخارا، فبعث إليه جيشا فتحصن خلف في حصن يقال له حصن إراك (2)، فنازله الجيش فيه تسع سنين (3) لم يقدروا عليه، وذلك لمناعة هذا الحصن وصعوبته وعمق خندقه وارتفاعه، وسيأتي ما آل إليه أمر خلف بعد ذلك.
وفيها قصدت طائفة في الترك بلاد الخزر فاستنجد أهل الخزر بأهل خوارزم فقالوا لهم: لو أسلمتم لنصرناكم.
فأسلموا إلا ملكهم، فقاتلوا معهم الترك فأجلوهم عنها ثم أسلم الملك بعد ذلك ولله الحمد والمنة.
وممن توفي من الاعيان...المتنبي الشاعر المشهور أحمد بن الحسين بن عبد الصمد أبو الطيب الجعفي الشاعر المعروف بالمتنبي، كان أبوه يعرف بعيدان السقا وكان يسقي الماء لاهل الكوفة على بعير له، وكان شيخا كبيرا.
وعيدان هذا قال ابن ماكولا والخطيب: هو بكسر العين المهملة وبعدها ياء مثناة من تحت، وقيل بفتح العين لا كسرها، فالله أعلم كان مولد المتنبي بالكوفة سنة ست (4) وثلثمائة ونشأ بالشام بالبادية فطلب الادب ففاق أهل
__________
(1) في الكامل والعبر: قتل دزبر (وزيرا) وحبس ابن الاهوازي مدة (في العبر: أياما) ثم قتله.
(2) في الكامل 8 / 564: أرك.
وفي معجم البلدان أرك بالفتح ثم سكون.
اسم لابنية عظيمة بزرنج مدينة
سجستان، وكانت خزانة بناها عمرو بن الليث ثم صارت دار الامارة والقلعة، 1 / 153.
(3) في الكامل: سبع سنين.
(4) في الوافي 6 / 336 ووفيات الاعيان 1 / 123 والنجوم الزاهرة 3 / 340: ثلاث (*).

(11/289)


زمانه فيه، ولزم جناب سيف الدولة بن حمدان وامتدحه وحظي عنده، ثم صار إلى مصر وامتدح الاخشيد ثم هجاه وهرب منه، وورد بغداد فامتدح بعض أهلها، وقدم الكوفة ومدح ابن العميد فوصله من جهته ثلاثون ألف دينار، ثم سار إلى فارس فامتدح عضد الدولة بن بويه فأطلق له أموالا جزيلة تقارب مائتي ألف درهم، وقيل بل حصل هل منه نحو من ثلاثين ألف دينار، ثم دس إليه من يسأله أيما أحسن عطايا عضد الدولة بن بويه أو عطايا سيف الدولة بن حمدان ؟ فقال: هذا أجزل وفيها تكلف، وتلك أقل ولكن عن طيب نفس من معطيها، لانها عن طبيعة وهذه عن تكلف.
فذكر ذلك لعضد الدولة فتغيظ عليه ودس عليه طائفة من الاعراب فوقفوا له في أثناء الطريق وهو راجع إلى بغداد، ويقال إنه كان قد هجى مقدمهم ابن فاتك الاسدي - وقد كانوا يقطعون الطريق - فلهذا أوعز إليهم عضد الدولة أن يتعرضوا له فيقتلوه ويأخذوا له ما معه من الاموال، فانتهوا إليه ستون راكبا في يوم الاربعاء وقد بقي من رمضان ثلاثة أيام، وقيل بل قتل في يوم الاربعاء لخمس بقين من رمضان، وقيل بل كان ذلك في شعبان، وقد نزل عند عين تحت شجرة أنجاص، وقد وضعت سفرته ليتغدى، ومعه ولده محسن وخمسة عشر غلاما له، فلما رآهم قال.
هلموا يا وجوه العرب إلى الغداء، فلما لم يكلموه أحس بالشر فنهض إلى سلاحه وخيله فتواقفوا ساعة فقتل ابنه محسن وبعض غلمانه وأراد وهو أن ينهزم.
فقال له مولى له: أين تذهب وأنت القائل: فالخيل والليل والبيداء تعرفني * والطعن والضرب والقرطاس والقلم فقال له: ويحك قتلتني، ثم كر راجعا فطعنه زعيم القوم برمح في عنقه فقتله.
ثم اجتمعوا عليه فطعنوه بالرماح حتى قتلوه وأخذوا جميع ما معه، وذلك بالقرب من النعمانية (1)، وهو آيب إلى بغداد، ودفن هناك وله من العمر ثمان وأربعون سنة (2).
وذكر ابن عساكر أنه لما نزل تلك المنزلة التي
كانت قبل منزلته التي قتل بها، سأله بعض الاعراب أن يعطيهم خمسين درهما ويخفرونه، فمنعه الشح والكبر ودعوى الشجاعة من ذلك.
وقد كان المتنبي جعفي النسب صلبيبة منهم، وقد ادعى حين كان مع بني كلب (3) بأرض السماوة قريبا من حمص أنه علوي، ثم ادعى أنه نبي يوحى إليه، فاتبعه جماعة من جهلتهم وسفلتهم، وزعم أنه أنزل عليه قرآن فمن ذلك قوله: " والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي خسار، امض على سنتك واقف أثر من كان قبلك من
__________
(1) النعمانية: بليدة بين واسط وبغداد في نصف الطريق على ضفة دجلة معدودة من أعمال الزاب الاعلى (معجم البلدان) (2) إحدى وخمسون سنة على اعتبار ولادته كانت سنة 303 ه.
(النجوم الزاهرة 3 / 343.
تاريخ الاسلام).
(3) بطن من قضاعة.
قال ابن سعيد: وبقية كلب الآن في خلق عظيم على خليج القسطنطينية منهم المسلمون وفيهم نصارى (سبائك الذهب ص 26) (*).

(11/290)


المرسلين، فإن الله قامع بك من ألحد في دينه، وضل عن سبيله " وهذا من خذلانه وكثرة هذيانه وفشاره، ولو لزم قافية مدحه النافق بالنفاق، والهجاء بالكذب والشقاق، لكن أشعر الشعراء، وأفصح الفصحاء ولكن أراد بجهله وقلة عقله أن يقول ما يشبه كلام رب العالمين الذي لو اجتمعت الجن والانس والخلائق أجمعون على أن يأتوا بسورة مثل سورة من أقصر سوره لما استطاعوا.
ولما اشتهر خبره بأرض السماوة وأنه قد التف عليه جماعة من أهل الغباوة، خرج إليه نائب حمص من جهة بني الاخشيد وهو الامير لؤلؤ بيض الله وجهه، فقاتله وشرد شمله، وأسر مذموما مدحورا، وسجن دهرا طويلا، فمرض في السجن وأشرف على التلف، فاستحضره واستتابه وكتب عليه كتابا اعترف فيه ببطلان ما ادعاه من النبوة، وأنه قد تاب من ذلك ورجع إلى دين الاسلام، فأطلق الامير سراحه فكان بعد ذلك إذا ذكر له هذا يجحده إن أمكنه وإلا اعتذر منه واستحيا، وقد اشتهر بلفظة تدل على كذبه فيما كان ادعاه من الافك والبهتان، وهي لفظة المتنبي، الدالة على الكذب ولله الحمد والمنة وقد
قال بعضهم يهجوه: أي فضل لشاعر يطلب ال * فضل من الناس بكرة وعشيا عاش حينا يبيع في الكوفة الما * ء وحينا يبيع ماء المحيا وللمتنبي ديوان شعر مشهور، فيه أشعار رائقة ومعان ليست بمسبوقة، بل مبتكرة شائقة.
وهو في الشعراء المحدثين كامرئ القيس في المتقدمين، وهو عندي كما ذكر من له خبرة بهذه الاشياء مع تقدم أمره.
وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي في منتظمه قطعا رائقة استحسنها من شعره، وكذلك الحافظ ابن عساكر شيخ إقليمه، فمما استحسنه ابن الجوزي قوله: عزيزا سبى من داؤه الحدق النجل * عياء به مات المحبون من قبل فمن شاء فلينظر إلى فمنظري * نذير إلى من ظن أن الهوى سهل جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي * فأصبح لي عن كل شغل بها شغل ومن جسدي لم يترك السقم شعرة * فما فوقها إلا وفا له فعل كأن رقيبا منك سد مسامعي * عن العذل حتى ليس يدخلها العذل كأن سهاد الليل يعشق مقلتي * فبينهما في كل هجر لنا وصل ومن ذلك قوله: كشفت ثلاث ذوائب من شعرها * في ليلة فأرت ليالي أربعا واستقبلت قمر السماء بوجهها * فأرتني القمرين في وقت معا ومن ذلك قوله:

(11/291)


ما نال أهل الجاهلية كلهم * شعري ولا سمعت بسحري بابل وإذا أتتك مذمتي من ناقص * فهي الشهادة لي بأني كامل (1) من لي بفهم أهيل عصر يدعي * أن يحسب الهندي منهم باقل ومن ذلك قوله:
ومن نكد الدينا على الحر أن يرى * عدوا له ما من صداقته بد (2) وله: وإذا كانت النفوس كبارا * تعبت في مرادها الاجسام وله: ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت * على عينيه يرى صدقها كدبا وله: خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به * في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل وله في مدح بعض الملوك: تمضي الكواكب والابصار شاخصة * منها إلى الملك الميمون طائره قد حزن في بشر في تاجه قمر * في درعه أسد تدمى أظافره حلو خلائقة شوس حقائقه * يحصى الحصى قبل أن تحصى ماثره ومنها قوله: يا من ألوذ به فيما أؤمله * ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره * ولا يهيضون عظما أنت جابره وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله أنه كان يكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول: إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالى.
وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم رحمه الله أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود أدعو لله بما تضمناه من الذل والخضوع.
ومما أورده ابن عساكر للمتنبي في ترجمته قوله: أبعين مفتقر إليك رأيتني (3) * فأهنتني وقذفتني من حالقي * (هامش * (1) في النجوم الزاهرة 3 / 341: فاضل.
(2) يرى سيبويه ان هذا المعنى لا يستقيم من حيث المنطق، فالصداقة والعداوة ضدان لا يجتمعان فكان يرى أن المعنى لا يصح إلا إذا جاءت صياغته:...* عدوا له ما من مداجاته بد
(3) في الوافي 6 / 337 ووفيات الاعيان 1 / 121: نظرتني (*).

(11/292)


لست الملوم، أنا الملوم، لانني * أنزلت آمالي بغير الخالق قال ابن خلكان: وهذان البيتان ليسا في ديوانه، وقد عزاهما الحافظ الكندي إليه بسند صحيح (1).
ومن ذلك قوله: إذا ما كنت في شرف مروم * فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير * كطعم الموت في أمر عظيم وله قوله: وما أنا بالباغي على الحب رشوة * قبيح هوى يرجى عليه ثواب (2) إذا نلت منك الود فالكل هين (3) * وكل الذي فوق التراب تراب وقد تقدم أنه ولد بالكوفة سنة ست (4) وثلثمائة، وأنه قتل في رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة.
قال ابن خلكان: وقد فارق سيف الدولة بن حمدان سنة أربع وخمسين (5) لما كان من ابن خالويه إليه ما كان من ضربه إياه بمفتاح في وجهه فأدماه، فصار إلى مصر فامتدح كافور الاخشيد وأقام عنده أربع سنين، وكان المتنبي يركب في جماعة من مماليكه فتوهم منه كافور فجأة، فخاف المتنبي فهرب، فأرسل في طلبه فأعجزه، فقيل لكافور: ما هذا حتى تخافه ؟ فقال: هذا رجل أراد أن يكون نبيا بعد محمد، أفلا يروم أن يكون ملكا بديار مصر ؟ والملك أقل وأذل من النبوة.
ثم صار المتنبي إلى عضد الدولة فامتدحه فأعطاه مالا كثيرا ثم رجع من عنده فعرض له فاتك بن أبي الجهل الاسدي فقتله وابنه محسن وغلامه مفلح يوم الاربعاء لست بقين من رمضان وقيل لليلتين، بسواد بغداد، وقد رثاه الشعراء، وقد شرح ديوانه العلماء بالشعر واللغة نحوا من ستين شرحا وجيزا وبسيطا.
وممن توفي فيها من الاعيان أبو حاتم البستي صاحب الصحيح.
محمد بن حبان ابن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد أبو حاتم البستي صاحب الانواع والتقاسيم، وأحد
__________
(1) قال في الوافي: والصحيح انهما لابي الفرج صاحب الاغاني.
(2) في الديوان ويتيمة الدهر 1 / 237: ضعيف هوى يبغي.
(3) في النجوم الزاهرة 3 / 341 ويتيمة الدهر 1 / 237: فالمال هين.
(4) انظر حاشية 4 صفحة 289 (5) في ابن خلكان المطبوع لا يذكر تاريخ مفارقته سيف الدولة قال ثم فارقه ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلاثمائة (انظر الوافي 6 / 336) (*)

(11/293)


الحفاظ الكبار المصنفين المجتهدين، رحل إلى البلدان وسمع الكثير من المشايخ، ثم ولي قضاء بلده ومات بها في هذه السنة وقد حاول بعضهم الكلام فيه من جهة معتقده ونسبه إلى القول بأن النبوة مكتسبة، وهي نزعة فلسفية والله أعلم بصحة عزوها إليه ونقلها عنه.
وقد ذكرته في طبقات الشافعية.
محمد بن الحسن بن يعقوب ابن الحسن بن الحسين بن مقسم أبو بكر بن مقسم المقري، ولد سنة خمس ومائتين، وسمع الكثير من المشايخ، روى عنه الدار قطني وغيره، وكان من أعرف الناس بالقراءات، وله كتاب في النحو على طريقة الكوفيين، سماه كتاب الانوار.
قال ابن الجوزي: ما رأيت مثله، وله تصانيف غيره، ولكن تكلم الناس فيه بسبب تفرده بقراءات لا تجوز عند الجميع، وكان يذهب إلى أن كل ما لا يخالف الرسم ويسوغ من حيث المعنى تجوز القراءة به كقوله تعالى: (فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا) [ يوسف: 80 ] أي يتناجون.
قال: لو قرئ نجيبا من النجابة لكان قويا.
وقد ادعي عليه وكتب عليه مكتوب أنه قد رجع عن مثل ذلك، ومع هذا لم ينته عما كان يذهب إليه حتى مات.
قاله ابن الجوزي.
محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد ربه ابن موسى أبو بكر الشافعي، ولد بجبلان سنة ستين ومائتين، وسمع الكثير، وسكن بغداد،
وكان ثقة ثبتا كثير الرواية، سمع منه الدار قطني وغيره من الحفاظ، وكان يحدث بفضائل الصحابة حين منعت الديالم من ذلك جهرا بالجامع بمدينة المنصور مخالفة لهم، وكذلك بمسجده بباب الشام.
توفي في هذه السنة عن أربع (1) وتسعين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وثلثمائة في عاشر المحرم عملت الروافض بدعتهم الشنعاء وضلالتهم الصلعاء على عادتهم ببغداد.
وفيها أجلى القرامطة الهجريين من عمان.
وفيها قصدت الروم آمد فحاصروها فلم يقدروا عليها، ولكن قتلوا من أهلها ثلثمائة وأسروا منهم أربعمائة، ثم ساروا إلى نصيبين، وفيها سيف الدولة فهم بالهرب مع العرب، ثم تأخر مجئ الروم فثبت مكانه وقد كادت تزلزل أركانه.
وفيها وردت طائفة من جيش خراسان - وكانوا بضعة عشر ألفا (2) - يظهرون أنهم يريدون * غزو الروم، فأكرمهم ركن
__________
(1) في النجوم الزاهرة 3 / 343: في ذي الحجة وعمره خمس وتسعون سنة.
(شذرات - الكامل).
(2) في الكامل 8 / 569: عشرين ألفا (*).

(11/294)


الدولة بن بويه وأمنوا إليهم فنهضوا إليهم وأخذوا الديلم على غرة فقاتلهم ركن الدولة فظفر بهم لان البغي له مصرع وخيم وهرب أكثرهم.
وفيها خرج معز الدولة من بغداد إلى واسط لقتال عمران بن شاهين حين تفاقم الحال بشأنه، واشتهر أمره في تلك النواحي، فقوي المرض بمعز الدولة فاستناب على الحرب ورجع إلى بغداد فكانت وفاته في السنة الآتية كما سنذكره - إلى حيث ألقت.
وفيها قوي أمر أبي عبد الله بن الداعي ببلاد الديلم وأظهر النسك والعبادة، ولبس الصوف وكتب إلى الآفاق حتى إلى بغداد يدعو إلى الجهاد في سبيل الله لمن (1) سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
وفي جمادى الآخرة نودي برفع المواريث الحشرية وأن ترد إلى ذوي الارحام.
وفيها وقع الفداء بين سيف الدولة وبين الروم فاستنقذ منهم أسارى كثيرة، منهم ابن عمه أبو فراس بن سعيد بن حمدان، وأبو الهيثم بن حصن القاضي، وذلك في رجب منها (2).
وفيها ابتدأ معز الدولة بن بويه في بناء مارستان وأرصد له أوقافا جزيلة.
وفيها قطعت بنو سليم السابلة على الحجيج من أهل الشام ومصر والمغرب،
وأخذوا منهم عشرين ألف جمل بأحمالها، وكان عليها من الاموال والامتعة ما لا يقدر كثرة، وكان لرجل يقال له ابن الخواتيمي قاضي طرسوس مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار عينا، وذلك أنه أراد التحول من بلاد الشام إلى العراق بعد الحج، وكذلك أراد كثير من الناس، وحين أخذوا جمالهم تركوهم على يرد الديار لا شئ لهم، فقل منهم من سلم والاكثر عطب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وحج بالناس الشريف أبو أحمد نقيب الطالبيين من جهة العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...
الحسن بن داود ابن علي بن عيسى بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو عبد الله العلوي الحسني.
قال الحاكم: أبو عبد الله كان شيخ آل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره بخراسان وسيد العلوم في زمانه، وكان من أكثر الناس صلاة وصدقة ومحبة للصحابة، وصحبته مدة فما سمعته ذكر عثمان إلا قال: الشهيد، ويبكي.
وما سمعته ذكر عائشة إلا قال: الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، ويبكي.
وقد سمع الحديث من ابن خزيمة وطبقته، وكان آباؤه بخراسان وفي سائر بلدانهم سادات نجباء حيث كانوا:
__________
(1 - 1) سقطت من ابن الاثير.
(2) قال ابن الوردي 1 / 436:..ولما لم يبق معه (أي مع سيف الدولة) من أسرى الروم أحد اشترى الباقين (ما بقي من أسارى المسلمين) كل نفس باثنين وسبعين دينار حتى نفذ ما معه من المال فاشترى الباقين ورهن عليهم بدنته الجوهر المعدومة المثل.
وقال الذهبي في تاريخ الاسلام: أنفق في سنة وثلاثة أشهر نيفا وعشرين ألف ألف درهم ومائتين وستين ألف دينار وتم الفداء في رجب.
فخلص من الاسر ما بين أمير إلى راجل ثلاثة آلاف ومئتان وسبعون نفسا (*).

(11/295)


من آل بيت رسول الله منهم * لهم دانت رقاب بني معد محمد بن الحسين بن علي بن الحسن
ابن يحيى بن حسان بن الوضاح، أبو عبد الله الانباري الشاعر المعروف بالوضاحي، كان يذكر أنه سمع الحديث من المحاملي وابن مخلد وأبي روق.
روى عنه الحاكم شيئا من شعره كان أشعر من في وقته، ومن شعره: سقى الله باب الكرخ ربعا ومنزلا * ومن حله صوب السحاب المجلل فلو أن باكي دمنة الدار بالكوى * وجارتها أم الرباب بمأسل رأى عرصات الكرخ أوحل أرضها * لامسك عن ذكر الدخول فحومل أبو بكر بن الجعابي محمد بن عمر (1) بن سلم بن البراء بن سبرة بن سيار، أبو بكر الجعابي، قاضي الموصل، ولد في صفر سنة أربع وثمانين ومائتين، سمع الكثير وتخرج بأبي العباس بن عقدة، وأخذ عنه علم الحديث وشيئا من التشيع أيضا، وكان حافظا مكثرا، يقال إنه كان يحفظ أربعمائة ألف حديث بأسانيدها ومتونها، ويذاكر بستمائة ألف حديث ويحفظ من المراسيل والمقاطيع والحكايات قريبا من ذلك، ويحفظ أسماء الرجال وجرحهم وتعديلهم، وأوقات وفياتهم ومذاهبهم، حتى تقدم على أهل زمانه، وفاق سائر أقرانه.
وكان يجلس للاملاء فيزدحم الناس عند منزله، وإنما كان يملي من حفظه إسناد الحديث ومتنه جيدا محررا صحيحا، وقد نسب إلى التشيع كأستاذه ابن عقدة، وكان يسكن بباب البصرة عندهم، وقد سئل عنه الدار قطني فقال: خلط.
وقال أبو بكر البرقاني: صاحب غرائب، ومذهبه معروف في التشيع، وقد حكى عنه قلة دين وشرب خمر فالله أعلم.
ولما احتضر أوصى أن تحرق كتبه فحرقت، وقد أحرق معها كتب كثيرة كانت عنده للناس، فبئس ما عمل.
ولما أخرجت جنازته كانت سكينة نائحة الرافضة تنوح عليه في جنازته.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وثلثمائة استهلت هذه السنة والخليفة المطيع لله، والسلطان معز الدولة بن بويه الديلمي، وفيها عملت الروافض في يوم عاشوراء عزاء الحسين على عادة ما ابتدعوه من النوح وغيره كما تقدم.
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 3 / 925: محمد بن عمر بن محمد بن سلم.
وفي الشذرات: محمد بن عمر بن أحمد (*).

(11/296)


وفاة معز الدولة بن بويه ولما كان ثالث عشر ربيع الاول منها توفي أبو الحسن بن بويه الديلمي الذي أظهر الرفض ويقال له معز الدولة، بعلة الذرب، فصار لا يثبت في معدته شئ بالكلية، فلما أحس بالموت أظهر التوبة (1) وأناب إلى الله عز وجل، ورد كثيرا من المظالم، وتصدق بكثير من ماله، وأعتق طائفة كثيرة من مماليكه، وعهد بالامر إلى ولده بختيار عز الدولة، وقد اجتمع ببعض العلماء فكلمه في السنة وأخبره أن عليا زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب، فقال: والله ما سمعت بهذا قط، ورجع إلى السنة ومتابعتها، ولما حضر وقت الصلاة خرج عنه ذلك الرجل العالم فقال له معز الدولة: إلى أين تذهب ؟ فقال: إلى الصلاة فقال له ألا تصلي ههنا ؟ قال: لا، قال: ولم ؟ قال: لان دارك مغصوبة.
فاستحسن منه ذلك.
وكان معز الدولة حليما كريما عاقلا، وكانت إحدى يديه مقوطعة وهو أول من أجرى السعاة بين يديه ليبعث بأخباره إلى أخيه ركن الدولة سريعا إلى شيراز، وحضي عنده أهل هذه الصناعة وكان عنده في بغداد ساعيان ماهران، وهما فضل، وبرغوش، يتعصب لهذا عوام أهل السنة، ولهذا عوام أهل الشيعة، وجرت لهما مناصف ومواقف.
ولما مات معز الدولة دفن بباب التبن في مقابر قريش، وجلس ابنه للعزاء.
وأصاب الناس مطر ثلاثة أيام تباعا، وبعث عز الدولة إلى رؤس الامراء في هذه الايام بمال جزيل لئلا تجتمع الدولة على مخالفته قبل استحكام مبايعته، وهذا من دهائه، وكان عمر معز الدولة ثلاثا وخمسين سنة، ومدة ولايته إحدى وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا ويومين (2)، وقد كان نادى في أيامه برد المواريث إلى ذوي الارحام قبل بيت المال وقد سمع بعض الناس ليلة توفي معز الدولة هاتفا يقول: لما بلغت أبا الحسين * مراد نفسك بالطلب وأمنت من حدث الليا * لي واحتجبت عن النوب مدت إليك يد الردى * وأخذت من بين الرتب (3) ولما مات قام بالامر بعده ولده عز الدولة فأقبل على اللعب واللهو والاشتغال بأمر النساء فتفرق
شمله واختلفت الكلمة عليه، وطمع الامير منصور بن نوح الساماني صاحب خراسان في ملك بني بويه، وأرسل الجيوش الكثيرة صحبة وشمكير، فلما علم بذلك ركن الدولة بن بويه أرسل إلى ابنه عضد الدولة وابن أخيه عز الدولة يستنجدهما، فأرسلا إليه بجنود كثيرة، فركب فيها ركن الدولة
__________
(1) قال ابن مسكويه في تجارب الامم: واظهر التوبة واحضره وجوه المتكلمين والفقهاء وسألهم عن حقيقة التوبة وهل تصح له فأفتوه بصحتها ولقنوه ما يجب أن يفعل ويقول.
وجاء في التكملة: أنه أحضر أبا عبد الله البصري وتاب على يده.
(2) في العبر لابن خلدون 3 / 426: اثنتين وعشرين سنة.
(3) في الوفيات 1 / 176: من بيت الذهب (*).

(11/297)


وبعث إليه وشمكير يتهدده ويتوعده، ويقول لئن قدرت عليك لافعلن بك ولافعلن، فبعث إليه ركن الدولة يقول: لكني إن قدرت عليك لاحسنن إليك ولاصفحن عنك.
فكانت الغلبة لهذا، فدفع الله عنه شره، وذلك أن وشمكير ركب فرسا صعبا يتصيد عليها فحمل عليه خنزير فنفرت منه الفرس فألقته على الارض فخرج الدم من أذنيه فمات من ساعته وتفرقت العساكر.
وبعث ابن وشمكير (1) يطلب الامان من ركن الدولة فأرسل إليه بالمال والرجال، ووفى بما قال من الاحسان، وصرف الله عنه كيد السامانية، وذلك بصدق النية وحسن الطوية والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان أبو الفرج الاصبهاني صاحب كتاب الاغاني.
واسمه علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الاموي، صاحب كتاب الاغاني وكتاب أيام العرب، ذكر فيه ألفا وسبعمائة يوم من أيامهم، وكان شاعرا أديبا كاتبا، عالما بأخبار الناس وأيامهم، وكان فيه تشيع.
قال ابن الجوزي: ومثله لا يوثق به، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب العشق ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب الاغاني رأى فيه كل قبيح ومنكر، وقد روى
الحديث عن محمد بن عبد الله بن بطين وخلق، وروى عنه الدار قطني وغيره، توفي في ذي الحجة من هذه السنة، وكان مولده في سنة أربع وثمانين ومائتين، التي توفي فيها البحتري الشاعر، وقد ذكر له ابن خلكان مصنفات عديدة منها الاغاني والمزارات وأيام العرب.
وفيها توفي: سيف الدولة أحد الامراء الشجعان، والملوك الكثيري الاحسان، على ما كان فيه من تشيع، وقد ملك دمشق في بعض السنين، واتفق له أشياء غريبة، منها أن خطيبه كان مصنف الخطب النباتية أحد الفصحاء البلغاء.
ومنها أن شاعره كان المتنبي، ومنها أن مطربه كان أبو نصر الفارابي.
وكان سيف الدولة كريما جوادا معطيا للجزيل.
ومن شعره في أخيه ناصر الدولة صاحب الموصل: رضيت (2) لك العليا، وقد كنت أهلها * وقلت لهم: بيني وبين أخي فرق ومان كان لي عنها نكول، وإنما * تجاوزت عن حقي فتم لك السبق (3)
__________
(1) وهو: بيستون.
(2) في الكامل 8 / 580 وتاريخ أبي الفداء 2 / 107: وهبت.
(3) في الكامل وأبي الفداء: وما كان بي..الحق (*).

(11/298)


أما كنت ترضى أن أكون مصليا * إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق وله: قد جرن في دمعه دمه * قال لي كم أنت تظلمه رد عنه الطرف منك * فقد جرحته منك أسهمه كيف تستطيع التجلد * من خطرات الوهم تؤلمه وكان سبب موته الفالج، وقيل عسر البول.
توفي بحلب وحمل تابوته إلى ميافارقين فدفن بها، وعمره ثلاث وخمسون سنة، ثم أقام في ملك حلب بعده ولده سعد (1) الدولة أبو المعالي الشريف، ثم تغلب عليه مولى أبيه قرعويه فأخرجه من حلب إلى أمه بميافارقين، ثم عاد إليها كما
سيأتي.
وذكر ابن خلكان أشياء كثيرة مما قاله سيف الدولة، وقيل فيه، قال ولم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من الشعراء، وقد أجاز لجماعة منهم، وقال: إنه ولد سنة ثلاث، وقيل إحدى وثلثمائة وأنه ملك حلب بعد الثلاثين (2) والثلثمائة، وقبل ذلك ملك واسطا ونواحيها، ثم تقلبت به الاحوال حتى ملك حلب.
انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الاخشيد وقد قال يوما: أيكم يجيز قولي وما أضن أحدا منكم يجيز ذلك: لك جسمي تعله فدمي لم تحله ؟.
فقال أبو فراس أخوه بديهة: إن كنت مالكا الامر كله.
وقد كان هؤلاء الملوك رفضة وهذا من أقبح القول.
وفيها توفي: كافور الاخشيد مولى محمد بن طغج الاخشيدي، وقد قام بالامر بعده مولاه لصغر ولده.
تملك كافور مصر ودمشق وقاده لسيف الدولة وغيره.
وقد كتب على قبره: أنظر إلى غير الايام ما صنعت * أفنت قرونا بها كانوا وما فنيت (3) دنياهم ضحكت أيام دولتهم * حتى إذا فنيت (4) ناحت لهم وبكت أبو علي القالي صاحب الامالي، إسماعيل بن القاسم بن عبدون (5) بن هارون بن عيسى بن محمد بن
__________
(1) من وفيات الاعيان 3 / 406 ومختصر أخبار البشر 2 / 108، وفي الاصل: سيف تحريف.
(2) في الوفيات: سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
(3) في الكامل 8 / 581:..أفنت أناسا بها كانوا وقد فنيت.
(4) في الكامل: حتى إذا انقرضوا.
(5) في الوفيات 1 / 226: عيذون (*).

(11/299)


سليمان (1)، أبو علي القاضي القالي اللغوي الاموي مولاهم، لان سليمان هذا كان مولى لعبد الملك بن مروان، والقالي نسبة إلى قالي قلا.
ويقال إنها أردن (2) الروم فالله أعلم.
وكان مولده
بميا فارقين، جزء من أرض الجزيرة من ديار بكر، وسمع الحديث من أبي يعلى الموصلي وغيره، وأخذ النحو واللغة عن ابن دريد وأبي بكر الانباري ونفطويه وغيرهم، وصنف الامالي وهو مشهور، وله كتاب التاريخ على حروف المعجم في خسمة آلاف ورقة، وغير ذلك من المصنفات في اللغة، ودخل بغداد وسمع بها ثم ارتحل إلى قرطبة فدخلها في سنة ثلاثين وثلثمائة واستوطنها، وصنف بها كتبا كثيرة إلى أن توفي بها في هذه السنة عن ثمان وستين سنة قاله ابن خلكان.
وفيها توفي أبو علي محمد بن إلياس صاحب بلاد كرمان ومعاملاتها، فأخذ عضد الدولة بن ركن الدولة بلاد كرمان، من أولاد محمد بن إلياس - وهم ثلاثة - اليسع، وإلياس، وسليمان، والملك الكبير وشمكير، كما قدمنا.
وفيها توفي من الملوك أيضا الحسن بن الفيرزان.
فكانت هذه السنة محل موت الملوك مات فيها معز الدولة، وكافور، وسيف الدولة، قال ابن الاثير: وفيها هلك نقفور ملك الارمن وبلاد الروم - يعني الدمستق كما تقدم -.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلثمائة فيها شاع الخبر ببغداد وغيرها من البلاد أن رجلا ظهر يقال له محمد بن عبد الله وتلقب بالمهدي وزعم أنه الموعود به، وأنه يدعو إلى الخير وينهى عن الشر، ودعا إليه ناس من الشيعة، وقالوا: هذا علوي من شيعتنا، وكان هذا الرجل إذ ذاك مقيما بمصر عن كافور الاخشيدي قبل أن يموت وكان يكرمه، وكان من جملة المستحسنين له سبكتكين الحاجب، وكان شيعيا فظنه علويا، وكتب إليه أن يقدم إلى بغداد ليأخذ له البلاد، فترحل عن مصر قاصدا العراق فتلقاه سبكتكين الحاجب إلى قريب الانبار، فلما رآه عرفه وإذا هو محمد بن المستكفي بالله العباسي، فلما تحقق أنه عباسي وليس بعلوي انثتى رأيه فيه، فتفرق شمله وتمزق أمره، وذهب أصحابه كل مذهب، وحمل إلى معز الدولة فأمنه وسلمه إلى المطيع لله فجدع أنفه واختفى أمره، فلم يظهر له خبر بالكلية بعد ذلك.
وفيها وردت طائفة من الروم إلى بلاد إنطاكية فقتلوا خلقا من حواضرها وسبوا اثني عشر ألفا من أهلها ورجعوا إلى بلادهم، ولم يعرض لهم أحد.
وفيها عملت الروافض في يوم عاشوراء منها المأتم على الحسين، وفي
يوم غدير خم الهناء والسرور.
وفيها في تشرين عرض للناس داء الماشري فمات به خلق كثير وفيها
__________
(1) في الوفيات: سلمان.
(2) في الوفيات: أرزن، قال ياقوت: وهي بلدة من بلاد إرمينية (وهي غير أرزن المدينة القريبة من خلاط والتي كانت من أعمر نواحي إرمينية) (*).

(11/300)


مات أكثر جمال الحجيج في الطريق من العطش، ولم يصل منهم إلى مكة إلا القليل، بل مات أكثر من وصل منهم بعد الحج.
وفيها اقتتل أبو المعالي شريف بن سيف الدولة هو وخاله وابن عم أبيه أبو فراس في المعركة.
قال ابن الاثير: ولقد صدق من قال: إن الملك عقيم.
وفيها توفي من الاعيان أيضا إبراهيم المتقي لله، وكان قد ولي الخلافة ثم ألجئ أن خلع من سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة إلى هذه السنة، وألزم بيته فمات في هذه السنة ودفن بداره عن ستين سنة.
عمر بن جعفر بن عبد الله ابن أبي السري: أبو جعفر البصري الحافظ ولد سنة ثمانين ومائتين، حدث عن أبي الفضل ابن الحباب وغيره، وقد انتقد عليه مائة حديث وضعها.
قال الدار قطني فنظرت فيها فإذا الصواب مع عمر بن جعفر.
محمد بن أحمد بن علي بن مخلد أبو عبد الله الجوهري المحتسب، ويعرف بابن المخرم، كان أحد أصحاب ابن جرير الطبري، وقد روى عن الكديمي وغيره، وقد اتفق له أنه تزوج امرأة فلما دخلت عليه جلس يكتب الحديث فجاءت أمها فأخذت الدواة فرمت بها وقالت: هذه أضر على ابنتي من مائة ضرة.
توفي في هذه السنة عن ثلاث وتسعين سنة، وكان يضعف في الحديث.
كافور بن عبد الله الاخشيدي كان مولى السلطان محمد بن طغج، اشتراه من بعض أهل مصر بثمانية عشر دينارا، ثم قربه
وأدناه، وخصه من بين الموالي واصطفاه، ثم جعله أتابكا حين ملك ولداه، ثم استقل بالامور بعد موتهما في سنة خمس وخمسين، واستقرت المملكة باسمه فدعي له على المنابر بالديار المصرية والشامية والحجازية، وكان شهما شجاعا ذكيا جيد السيرة، مدحه الشعراء، منهم المتنبي، وحصل له منه مال، ثم غضب عليه فهجاه ورحل عنه إلى عضد الدولة، ودفن كافور بتربته المشهورة به، وقام في الملك بعده أبو الحسن علي بن الاخشيد، ومنه أخذ الفاطميون الادعياء بلاد مصر كما يسأتي.
ملك كافور سنتين وثلاثة أشهر.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة في عاشوراء منها عملت الروافض بدعتهم وفي يوم خم عملوا الفرح والسرور المبتدع على

(11/301)


عادتهم.
وفيها حصل الغلاء العظيم حتى كاد أن يعدم الخبز بالكلية، وكاد الناس أن يهلكوا.
وفيها عاث الروم في الارض فسادا وحرقوا حمص وأفسدوا فيها فسادا عريضا، وسبوا من المسلمين نحوا من مائة ألف إنسانا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها دخل أبو الحسين جوهر القائد الرومي في جيش كثيف من جهة المعز الفاطمي إلى ديار مصر يوم الثلاثاء لثلاث عشر بقيت من شعبان فلما كان يوم الجمعة خطبوا للمعز الفاطمي على منابر الديار المصرية وسائر أعمالها، وأمر جوهر المؤذنين بالجوامع أن يؤذنوا بحي على خير العمل، وأن يجهر الائمة بالتسليمة الاولى، وذلك أنه لما مات كافور لم يبق بمصر من تجتمع القلوب عليه، وأصابهم غلاء شديد أضعفهم، فلما بلغ ذلك المعز بعث جوهر هذا - وهو مولى أبيه المنصور - في جيش إلى مصر.
فلما بلغ ذلك أصحاب كافور هربوا منها قبل دخول جوهر إليها، فدخلها بلا ضربة ولا طعنة ولا ممانعة، ففعل ما ذكرنا، واستقرت أيدي الفاطميين على تلك البلاد.
وفيها شرع جوهر القائد في بناء القاهرة المعزية، وبناء القصرين عندها على ما نذكره.
وفيها شرع في الامامات إلى مولاه المعز الفاطمي.
وفيها أرسل جوهر جعفر بن فلاح في جيش كثيف إلى الشام فاقتتلوا قتالا شديدا، وكان بدمشق الشريف أبو القاسم بن يعلى الهاشمي، وكان مطاعا في أهل الشام فجاحف عن العباسيين مدة طويلة، ثم آل الحال إلى أن يخطبوا للمعز
بدمشق، وحمل الشريف أبو القاسم هذا إلى الديار المصرية، وأسر الحسن بن طغج وجماعة من الامراء وحملوا إلى الديار المصرية، فحملهم جوهر القائد إلى المعز بإفريقية، واستقرت يد الفاطميين على دمشق في سنة ستين كما سيأتي وأذن فيها وفي نواحيها بحي على خير العمل أكثر من مائة سنة، وكتب لعنة الشيخين على أبواب الجوامع بها، وأبواب المساجد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولم يزل ذلك كذلك حتى أزالت ذلك دولة الاتراك والاكراد نور الدين الشهيد وصلاح الدين بن أيوب على ما سيأتي بيانه.
وفيها دخلت الروم إلى حمص فوجدوا أكثر أهلها قد انجلوا عنها وذهبوا، فحرقوها وأسروا ممن بقي فيها ومن حولها نحوا من مائة ألف إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي ذي الحجة منها نقل عز الدولة والده معز الدولة بن بويه من داره إلى تربته بمقابر قريش.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وثلثمائة في عاشر المحرم منها عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء فغلقت الاسواق وتعطلت المعايش ودارت النساء سافرات عن وجوههن ينحن على الحسين بن علي ويلطمن وجوههن، والمسوح معلقة في الاسواق والتبن مدرور فيها.
وفيها دخلت الروم إنطاكية فقتلوا من أهلها الشيوخ والعجائز وسبوا الصبايا والاطفال نحوا من عشرين ألفا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وذلك كله بتدبير ملك الارمن نقفور لعنه الله، وكل هذا في ذمة ملوك الارض أهل الرفض الذين قد استحودوا على البلاد وأظهروا فيها الفساد قبحهم الله.
قال ابن الجوزي: وكان قد تمرد وطغا، وكان هذا الخبيث قد تزوج بامرأة الملك الذي كان قبله، ولهذا الملك المتقدم ابنان، فأراد أن يخصبهما ويجعلهما في الكنيسة لئلا يصلحا بعد

(11/302)


ذلك للملك، فلما فهمت ذلك أمهما علمت عليه وسلطت عليه الامراء فقتلوه وهو نائم وملكوا عليهم أكبر ولديها.
وفي ربيع الاول صرف عن القضاء أبو بكر أحمد بن سيار وأعيد إليه أبو محمد بن معروف.
قال ابن الجوزي: وفيها نقصت دجلة حتى غارت الآبار.
وحج بالناس الشريف أبو أحمد النقيب، وانقض كوكب في ذي الحجة فأضاءت له الارض حتى بقي له شعاع كالشمس، ثم سمع له صوت كالرعد.
قال ابن الاثير: وفي المحرم منها خطب للمعز الفاطمي بدمشق عن أمر جعفر بن
فلاح الذي أرسله جوهر القائد بعد أخذه مصر، فقاتله أبو محمد الحسن بن عبد الله بن طغج بالرملة فغلبه ابن فلاح وأسره وأرسله إلى جوهر فأرسله إلى المعز وهو بإفريقية.
وفيها وقعت المنافرة بين ناصر الدولة بن حمدان وبين ابنه أبي تغلب، وسببه أنه لما مات معز الدولة بن بويه عزم أبو تغلب ومن وافقه من أهل بيته على أخذ بغداد، فقال لهم أبوهم: إن معز الدولة قد ترك لولده عز الدولة أموالا جزيلة فلا تقدرون عليه ما دامت في يده، فاصبروا حتى ينفقها فإنه مبذر، فإذا أفلس فسيروا إليه فإنكم تغلبونه، فحقد عليه ولده أبو تغلب بسبب هذا القول ولم يزل بأبيه حتى سجنه بالقلعة، فاختلف أولاده بينهم وصاروا أحزابا، وضعفوا عما في أيديهم، فبعث أبو تغلب إلى عز الدولة يضمن منه بلاد الموصل بألف ألف كل سنة، واتفق موت أبيه ناصر الدولة في هذه السنة، واستقر أبو تغلب بالموصل وملكها، إلا أنهم فيما بينهم مختلفين متحاربين.
وفيها دخل ملك الروم إلى طرابلس فأحرق كثيرا منها وقتل خلقا، وكان صاحب طرابلس قد أخرجه أهلها منها لشدة ظلمه، فأسرته الروم واستحوذوا على جميع أمواله وحواصله، وكانت كثيرة جدا، ثم مالوا على السواحل فملكوا ثمانية عشر بلدا سوى القرى، وتنصر خلق كثير على أيديهم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وجاؤوا إلى حمص فأجرقوا ونهبوا وسبوا، ومكث ملك الروم شهرين يأخذ ما أراد من البلاد ويأسر من قدر عليه، وصارت له مهابة في قلوب الناس، ثم عاد إلي بلده ومعه من السبي نحو من مائة ألف ما بين صبي وصبية، وكان سبب عوده إلى بلاده كثرة الامراض في جيشه واشتياقهم إلى أولادهم، وبعث سرية إلى الجزيرة فنهبوا وسبوا، وكان قرعويه غلام سيف الدولة قد استحوذ على حلب وأخرج منها ابن أستاذه شريف، فسار إلى طرف وهي تحت حكمه فأبوا أن يمكنوه من الدخول إليهم، فذهب إلى أمه بميا فارقين، وهي ابنة سعيد بن حمدان فمكث عندها حينا ثم سار إلى حماه فملكها، ثم عاد إلى حلب بعد سنتين كما سيأتي، ولما عاثت الروم في هذه السنة بالشام صانعهم قرعويه عن حلب، وبعث إليهم بأموال وتحف ثم عادوا إلى إنطاكية فملكوها وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها، وسبوا عامة أهلها وركبوا إلى حلب وأبو المعالي شريف محاصر قرعويه بها، فخافهم فهرب عنها فحاصرها الروم فأخذوا البلد، وامتنعت القلعة عليهم ثم اصطلحوا مع قرعويه على هدية ومال يحمله إليهم كل سنة، وسلموا إليه البلد
ورجعوا عنه.
وفيها خرج على المعز الفاطمي وهو بإفريقية رجل يقال له أبو خزر فنهض إليه بنفسه وجنوده، وطرده ثم عاد فاستأمنه فقبل منه وصفح عنه وجاءه الرسول من جوهر يبشره بفتح مصر وإقامة الدعوة له بها، ويطلبه إليها، ففرح بذلك وامتدحه الشعراء من جملتهم شاعره محمد بن هانئ قصيدة له أولها:

(11/303)


يقول بنو العباس قد فتحت مصر * فقل لبني العباس قد قضي الامر وفيها رام عز الدولة صاحب بغداد محاصرة عمران بن شاهين الصياد فلم يقدر عليه، فصالحه ورجع إلى بغداد.
وفيها اصطلح قرعويه وأبو المعالي شريف، فخطب له قرعويه بحلب وجميع معاملاتها تخطب للمعز الفاطمي، وكذلك حمص ودمشق، ويخطب بمكة للمطيع بالله وللقرامطة، وبالمدينة للمعز الفاطمي.
وخطب أبو أحمد الموسوي بظاهرها للمطيع.
وذكر ابن الاثير: ان نقفور توفي في هذه السنة ثم صار ملك الروم إلى ابن الملك الذي قبله، قال وكان يقال له الدمستق، وكان من أبناء المسلمين كان أبوه من أهل طرسوس من خيار المسلمين يعرف بابن الفقاس، فتنصر ولده هذا وحظي عند النصارى حتى صار من أمره ما صار، وقد كان من أشد الناس على المسلمين، أخذ منهم بلادا كثيرة عنوة، من ذلك طرسوس والاذنة وعين زربة والمصيصة وغير ذلك، وقتل من المسلمين خلقا لا يعلمهم إلا الله، وسبى منهم ما لا يعلم عدتهم إلا الله، وتنصروا أو غالبهم، وهو الذي بعث تلك القصيدة إلى المطيع كما تقدم.
وممن توفي فيها من الاعيان..محمد بن أحمد بن الحسين ابن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله أبو علي الصواف، روى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وطبقته، وعنه خلق منهم الدار قطني.
وقال ما رأت عيناي مثله في تحريره ودينه، وقد بلغ تسعا وثمانين سنة رحمه الله.
محارب بن محمد بن محارب
أبو العلاء الفقيه الشافعي من ذرية محارب بن دثار، كان ثقة عالما، روى عن جعفر الفريابي وغيره.
أبو الحسين أحمد بن محمد المعروف بابن القطان أحد أئمة الشافعية، تفقه على ابن سريج، ثم الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وتفرد برياسة المذهب بعد موت أبي القاسم الداراني (1)، وصنف في أصوله الفقه وفروعه، وكانت الرحلة إليه ببغداد، ودرس بها وكتب شيئا كثيرا.
توفي في جمادى الاولى منها.
__________
(1) في الوفيات 1 / 70: الداركي (*).

(11/304)


ثم دخلت سنة ستين وثلثمائة في عاشر محرمها عملت الرافضة بدعتهم المحرمة على عادتهم المتقدمة.
وفي ذي القعدة منها أخذت القرامطة دمشق وقتلوا نائبها جعفر بن فلاح، وكان رئيس القرامطة وأميرهم الحسين بن أحمد بن بهرام وقد أمده عز الدولة من بغداد بسلاح وعدد كثيرة، ثم ساروا إلى الرملة فأخذوها وتحصن بها من كان بها من المغاربة نوابا.
ثم إن القرامطة تركوا عليهم من يحاصرها ثم ساروا نحو القاهرة في جمع كثير من الاعراب والاخشيدية والكافورية، فوصلوا عين شمس فاقتتلوا هم وجنود جوهر القائد قتالا شديدا، والظفر للقرامطة وحصروا المغاربة حصرا عظيما، ثم حملت المغاربة في بعض الايام على ميمنة القرامطة فهزمتها ورجعت القرامطة إلى الشام فجدوا في حصار باقي المغاربة فأرسل جوهر إلى أصحابه خمسة عشر مركبا ميرة لاصحابه، فأخذتها القرامطة سوى مركبين أخذتها الافرنج.
وجرت خطوب كثيرة.
ومن شعر الحسين بن أحمد بن بهرام أمير القرامطة في ذلك: زعمت رجال الغرب أني هبتها * فدمي إذن ما بينهم مطلول يا مصر إن لم أسق أرضك من دم * يروي ثراك فلا سقاني النيل وفيها تزوج أبو تغلب بن حمدان بنت بختيار عز الدولة وعمرها ثلاث سنين على صداقة مائة ألف دينار، ووقع العقد في صفر منها.
وفيها استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة الصاحب أبا
القاسم بن عباد فأصلح أموره وساس دولته جيدا.
وفيها أذن بدمشق وسائر الشام بحي على خير العمل.
قال ابن عساكر في ترجمة جعفر بن فلاح نائب دمشق: وهو أول من تأمر بها عن الفاطميين، أخبرنا أبو محمد الاكفاني قال: قال أبو بكر أحمد بن محمد بن شرام: وفي يوم الخميس لخمس خلون من صفر من سنة ستين وثلثمائة أعلن المؤذنون في الجامع بدمشق وسائر مآذن البلد، وسائر المساجد بحي على خير العمل بعد حي على الفلاح، أمرهم بذلك جعفر بن فلاح، ولم يقدروا على مخالفته، ولا وجدوا من المسارعة إلى طاعته بدا.
وفي يوم الجمعة الثامن من جمادى الآخرة أمر المؤذنون أن يثنوا الاذان والتكبير في الاقامة مثنى مثنى.
وأن يقولوا في الاقامة حي على خير العمل، فاستعظم الناس ذلك وصبروا على حكم الله تعالى: وفيها توفي من الاعيان..سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني الحافظ الكبير صاحب المعاجم الثلاثة: الكبير، والاوسط، والصغير.
وله كتاب السنة وكتاب مسند الشاميين، وغير ذلك من المصنفات المفيدة، عمر مائة سنة.
توفي بأصبهان ودفن على بابها عند قبر حممة الصحابي.
قاله أبو الفرج بن الجوزي.
قال ابن خلكان: سمع من ألف شيخ، قال: وكانت وفاته في يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة من هذه السنة

(11/305)


وقيل في شوال منها، وكان مولده في سنة ستين ومائتين فمات وله من العمر مائة سنة.
الرفا الشاعر أحمد (1) بن السري أبو الحسن الكندي الرفا الشاعر الموصلي، أرخ وفاته ابن الاثير في هذه السنة، توفي في بغداد.
وذكر ابن الجوزي أنه توفي سنة ثنتين وستين وثلثمائة كما سيأتي.
محمد بن جعفر ابن محمد بن الهيثم بن عمران بن يزيد أبو بكر بن المنذر أصله أنباري.
سمع من أحمد بن الخليل بن البرجلاني، ومحمد بن العوام الرياحي، وجعفر بن محمد الصائغ، وأبي إسماعيل
الترمذي.
قال ابن الجوزي وهو آخر من روى عنهم.
قالوا: وكانت أصوله جيادا بخط أبيه، وسماعه صحيحا، وقد انتقى عنه أبو عمرو البصري.
توفي فجأة يوم عاشرواء وقد جاوز التسعين.
محمد بن الحسن (2) بن عبد الله أبو بكر الآجري سمع جعفر الفريابي، وأبا شعيب الحراني، وأبا مسلم الكجي وخلقا، وكان ثقة صادقا دينا، وله مصنفات كثيرة مفيدة، منها الاربعون الآجرية، وقد حدث ببغداد قبل سنة ثلاثين وثلثمائة، ثم انتقل إلى مكة فأقام بها حتى مات بعد إقامته بها ثلاثين سنة رحمه الله.
محمد بن جعفر بن محمد أبو عمرو الزاهد، سمع الكثير ورحل إلى الآفاق المتباعدة، وسمع منه الحفاظ الكبار، وكان فقرا متقللا يضرب اللبن بقبور الفقراء، ويتقوت برغيف وجزرة أو بصلة، ويقوم الليل كله.
توفي في جمادى الآخرة منها عن خمس وتسعين سنة.
محمد بن داود أبو بكر الصوفي ويعرف بالدقي أصله من الدينور أقام ببغداد، ثم ارتحل وانتقل إلى دمشق، وقد قرأ على ابن مجاهد وسمع الحديث من محمد بن جعفر الخرائطي، صاحب ابن الجلاء، والدقاق.
توفي في هذه السنة وقد جاوز المائة.
__________
(1) في الوفيات 2 / 359: السري بن أحمد بن السري.
وترجمته في اليتيمة 2 / 117 ومعجم الادباء 11 / 182 وتاريخ بغداد 9 / 194.
(2) في تذكرة الحفاظ 3 / 936: الحسين (انظر وفيات الاعيان 4 / 292) (*).

(11/306)


محمد بن الفرحاني ابن زرويه المروزي الطبيب، دخل بغداد وحدث بها عن أبيه بأحاديث منكرة، روى عن الجنيد وابن مرزوق، قال ابن الجوزي: وكان فيه ظرف ولباقة، غير أنهم كانوا يتهمونه بوضع الحديث.
أحمد بن الفتح ويقال ابن أبي الفتح الخاقاني، أبو العباس النجاد، إمام جامع دمشق.
قال ابن عساكر: كان عابدا صالحا، وذكر أن جماعة جاؤوا لزيارته فسمعوه يتأوه من وجع كان به، فأنكروا عليه ذلك.
فلما خرج إليهم قال لهم: إن آه اسم من تستروح إليه الاعلى، قال: فزاد في أعينهم وعظموه.
قلت: لكن هذا الذي قاله لا يؤخذ عنه مسلما إليه فيه، بل يحتاج إلى نقل صحيح عن المعصوم، فإن أسماء الله تعالى توقيفية على الصحيح.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلثمائة في عاشر المحرم منها عملت الروافض بدعتهم كما تقدم، وفي المحرم منها أغارت الروم على الجزيرة وديار بكر فقتلوا خلقا من أهل الرها، وساروا في البلاد كذلك يقتلون ويأسرون ويغنمون إلى أن وصلوا نصيبين ففعلوا ذلك، ولم يغن عن تلك النوحي أبو تغلب بن حمدان متوليها شيئا، ولا دافع عنهم ولا له قوة، فعند ذلك ذهب أهل الجزيرة إلى بغداد وأرادوا أن يدخلوا على الخليفة المطيع لله وغيره يستنصرونه ويستصرخون، فرثا لهم أهل بغداد وجاؤوا معهم إلى الخليفة فلم يمكنهم ذلك، وكان بختيار بن معز الدولة مشغولا بالصيد فذهبت الرسل وراءه فبعث الحاجب سبكتكين يستنفر الناس، فتجهز خلق كثير من العامة، وكتب إلى تغلب أن يعد الميرة والاقامة، فأظهر السرور والفرح، ولما تجهزت العامة للغزاة وقعت بينهم فتنة شديدة بين الروافض وأهل السنة، وأحرق أهل السنة دور الروافض في الكرخ وقالوا: الشر كله منكم، وثار العيارون ببغداد يأخذون أموال الناس، وتناقض النقيب أبو أحمد الموسوي والوزير أبو الفضل الشيرازي، وأرسل بختيار بن معز الدولة إلى الخليفة يطلب منه أموالا يستعين بها على هذه الغزوة، فبعث إليه يقول: لو كان الخراج يجئ إلى لدفعت منه ما يحتاج المسلمون إليه، ولكن أنت تصرف منه في وجوه ليس بالمسلمين إليها ضرورة، وأما أنا فليس عندي شئ أرسله إليك.
فترددت الرسل بينهم وأغلظ بختيار للخليفة في الكلام وتهدده فاحتاج الخليفة أن يحصل له شيئا فباع بعض ثياب بدنه وشيئا من أثاث بيته، ونقض بعض سقوف داره وحصل له أربعمائة ألف درهم فصرفها بختيار في مصالح نفسه وأبطل تلك
الغزاة، فنقم الناس للخليفة وساءهم ما فعل به ابن بويه الرافضي من أخذه مال الخليفة وترك

(11/307)


الجهاد، فلا جزاه الله خيرا عن المسلمين.
وفيها تسلم أبو تغلب بن حمدان قلعة ماردين فنقل حواصلها وما فيها إلى الموصل.
وفيها اصطلح الامير منصور بن نوح الساماني صاحب خراسان وركن الدولة بن بويه وابنه عضد الدولة على أن يحملا إليه في كل سنة مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار، وتزوج بابنة ركن (1) الدولة، فحمل إليه من الهدايا والتحف ما لا يعد ولا يحصى.
وفي شوال منها خرج المعز الفاطمي بأهله وحاشيته وجنوده من المدينة المنصورة من بلاد المغرب قاصدا البلاد المصرية، بعد ما مهد له مولاه جوهر أمرها وبنى له بها القصرين، واستخلف المعز على بلاد المغرب ونواحيها وصقلية وأعمالها نوابا من جهته وحزبه وأنصاره من أهل تلك البلاد، واستصحب معه شاعره محمد بن هانئ الاندلسي، فتوفي (2) في أثناء الطريق، وكان قدوم المعز إلى القاهرة في رمضان من السنة الآتية على ما سيأتي.
وفيها حج بالناس الشريف أبو أحمد الموسوي النقيب على الطالبيين كلهم.
وفيها توفى من الاعيان...سعيد بن أبي سعيد الجنابي أبو القاسم القرمطي الهجري، وقام بالامر من بعده أخوه أبو يعقوب يوسف، ولم يبق من سلالة أبي سعيد سواه.
عثمان بن عمر بن خفيف أبو عمر المقري المعروف بالدارج، روى عن أبي بكر بن أبي داود وعنه ابن زرقويه، وكان من أهل القراءات والفقه والدراية والديانة والسيرة الجميلة، وكان يعد من الابدال.
توفي يوم الجمعة في رمضان منها...علي بن إسحاق بن خلف أبو الحسين القطان الشاعر المعروف بالزاهي (3).
ومن شعره:
__________
(1) في ابن الاثير 8 / 626: عضد الدولة.
(تاريخ أبي الفداء 2 / 112).
(2) قال ابن الاثير 8 / 621: قتل غيلة، رئي ملقى على جانب البحر قتيلا لا يدرى من قتله.
وفي العبر لابن خلدون 4 / 49: قتل غيلة في برقة.
وانظر تاريخ ابن الوردي 1 / 444.
(3) من ابن خلكان 3 / 371 ويتيمة الدهر - بيروت 1 / 289، وفي الاصل: المراهي تحريف والزاهي نسبة إلى قرية من قرى نيسابور - قال السمعاني في الانساب..، وهي قرية أزاه ويقال لها الزاه أيضا (*).

(11/308)


قم فهن عاشقين * أصبحا مصطحبين جمعا بعد فراق * فجعا منه ببين ثم عادا في سرور * من صدود آمنين بهما روح ولكن * ركبت في بدنين أحمد بن سهل ابن شداد أبو بكر المخرمي، سمع أبا خليفة وجعفر الفريابي، وابن أبي الفوارس وابن جرير وغيرهم، وعنه الدار قطني وابن زرقويه وأبو نعيم.
وقد ضعفه البرقاني وابن الجوزي وغيرهم.
ثم دخلت سنة ثنتين وستين وثلثمائة في عاشر محرمها عملت الروافض من النياحة وتعليق المسوح وغلق الاسواق ما تقدم قبلها.
وفيها اجتمع الفقيه أبو بكر الرازي الحنفي وأبو الحسن علي بن عيسى الرماني وابن الدقاق الحنبلي بعز الدولة بختيار بن بويه وحرضوه على غزو الروم فبعث جيشا لقتالهم فأظفر الله بهم، وقتلوا منهم خلقا كثيرا وبعثوا برؤوسهم إلى بغداد فسكنت أنفس الناس.
وفيها سارت الروم مع ملكهم لحصار آمد وعليها هزر (1) مرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان، فكتب إلى أبي تغلب يستنصره فبعث إليه أخاه أبا القاسم هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان، فاجتعما لقتاله فلقياه في آخر يوم من رمضان في مكان ضيق لا مجال للخيل فيه، فاقتتلوا مع الروم قتالا شديدا فعزمت الروم على الفرار فلم يقدروا فاستحر
فيهم القتل وأخذ الدمستق أسيرا فأودع السجن فلم يزل فيه حتى مرض ومات في السنة القابلة، وقد جمع أبو تغلب الاطباء له فلم ينفعه شئ.
وفيها أحرق الكرخ ببغداد وكان سببه أن صاحب المعونة ضرب رجلا من العامة فمات فثارت عليه العامة وجماعة من الاتراك، فهرب منهم فدخل دارا فأخرجوه مسجونا وقتلوه وحرقوه، فركب الوزير أبو الفضل الشيرازي - وكان شديد التعصب للنسة - وبعث حاجبه إلى أهل الكرخ فألقى في دورهم النار فاحترقت طائفة كثيرة من الدور والاموال من ذلك ثلثمائة دكان وثلاثة وثلاثون مسجدا، وسبعة عشر ألف إنسان.
فعند ذلك عزله بختيار عن الوزارة وولاها محمد بن بقية، فتعجب الناس من ذلك، وذلك أن هذا الرجل كان وضيعا عند الناس لا حرمة له، كان أبوه فلاحا بقرية كوثا (2)، وكان هو ممن يخدم عز الدولة، كان يقدم له الطعام ويحمل منديل الزفر على كتفه، إلى أن ولى الوزارة، ومع هذا كان أشد ظلما للرعية من الذي
__________
(1) في الكامل 8 / 628: هزار (2) في الكامل 8 / 628 وأبي الفداء 2 / 113: أو انا (*)

(11/309)


قبله، وكثر في زمانه العيارون ببغداد، وفسدت الامور.
وفيها وقع الخلاف بين عز الدولة وبين حاجبه سبكتكين ثم اصطلحا على دخن.
وفيها كان دخول المعز الفاطمي الديار المصرية وصحبته توابيت آبائه، فوصل إلى اسكندرية في شعبان، وقد تلقاه أعيان مصر إليها، فخطب الناس هنالك خطبة بليغة ارتجالا، ذكر فيها فضلهم وشرفهم، وقد كذب فقال فيها: إن الله أغاث الرعايا بهم وبدولتهم.
وحكى قاضي بلاد مصر وكان جالسا إلى جنبه فسأله: هل رأيت خليفة أفضل مني ؟ فقال له لم أر أحدا من الخلفاء سوى أمير المؤمنين.
فقال له: أحججت ؟ قال: نعم.
قال: وزرت قبر الرسول ؟ قال: نعم.
قال: وقبر أبي بكر وعمر ؟ قال فتحيرت ما أقول فإذا ابنه العزيز مع كبار الامراء فقلت: شغلني عنهما رسول الله كما شغلني أمير المؤمنين عن السلام على ولي العهد من بعده، ونهضت إليه وسلمت عليه ورجعت فانفسح المجلس إلى غيره.
ثم سار من الاسكندرية إلى مصر فدخلها في الخامس من رمضان من هذه السنة فنزل القصرين، فقيل إنه أول ما دخل إلى محل ملكه
خر ساجدا شكرا لله عز وجل، ثم كان أول حكومة انتهت إليه أن امرأة كافور الاخشيدي ذكرت أنها كانت أودعت رجلا من اليهود الصواغ قباء من لؤلؤ منسوخ بالذهب، وأنه جحدها ذلك، فاستحضره وقرره فجحد ذلك وأنكره.
فأمر أن تحفر داره ويستخرج منها ما فيها، فوجدوا القباء بعينه قد جعله في جرة ودفنه في بعض المواضع من داره، فسلمه المعز إليها ووفره عليها، ولم يتعرض إلى القباء فقدمته إليه فأبى أن يقبله منها فاستحسن الناس منه ذلك.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " (1).
وفيها توفي من الاعيان السري بن أحمد بن أبي السري أبو الحسن الكندي الموصلي، الرفا الشاعر، له مدائح في سيف الدولة بن حمدان وغيره من الملوك والامراء، وقد قدم بغداد فمات بها في هذه السنة، وقيل في سنة أربع وقيل خمس وقيل ست وأربعين.
وقد كان بينه وبين محمذ بن سعيد معاداة، وادعى عليه أنه سرق شعره، وكان مغنيا ينسج على ديوان كشاجم الشاعر، وربما زاد فيه من شعر الخالديين ليكثر حجمه.
قال ابن خلكان: وللسري الرفا هذا ديوان كبير جدا وأنشد من شعره: يلقى الندى برقيق وجه مسفر * فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا رحب المنازل ما أقام، فإن سرى * في جحفل ترك الفضاء مضيقا (2) محمد بن هاني الاندلسي الشاعر استصحبه المعز الفاطمي من بلاد القيروان حين توجه إلى مصر، فمات
__________
(1) رواه البخاري معلقا.
فتح الباري 7 / 471 وقال البخاري عقبه: تابعه معمر عن الزهري عن سعيد.
(2) البيتان من قصيدة - في ديوانه ص 185 - قالها في مدح سيف الدولة (*).

(11/310)


ببعض الطريق، وجد مقتولا على حافة البحر في رجب منها، وقد كان قوي النظم إلا أنه كفره غير واحد من العلماء في مبالغته في مدحه الخلق، فمن ذلك قوله يمدح المعز: ما شئت لا ما شاءت الاقدار * فاحكم فأنت الواحد القهار
وهذا من أكبر الكفر.
وقال أيضا قبحه اله وأخزاه: * ولطالما زاحمت تحت ركابه جبريلا * ومن ذلك قوله - قال ابن الاثير ولم أرها في شعره ولا في ديوانه -: جل بزيادة جل المسيح * بها وجل آدم ونوح جل (1) بها الله ذو المعالي * فكل شئ سواه ريح وقد اعتذر عنه بعض المتعصبين له.
قلت: هذا الكلام إن صح عنه فليس عنه اعتذار، لا في الدار الآخرة ولا في هذه الدار.
وفيها توفي: إبراهيم بن محمد ابن شجنونة بن عبد الله المزكي أحد الحفاظ أنفق على الحديث وأهله أموالا جزيلة، وأسمع الناس بتخريجه، وعقد له مجلس للاملاء بنيسابور، ورحل وسمع من المشايخ غربا وشرقا، ومن مشايخه ابن جرير وابن أبي حاتم، وكان يحضر مجلسه خلق كثير من كبار المحدثين، منهم أبو العباس الاصم وأضرابه، توفي عن سبع وستين سنة سعيد بن القاسم بن خالد أبو عمر البردعي (2) أحد الحفاظ، روى عنه الدار قطني وغيره.
محمد بن الحسن بن كوثر بن علي أبو بحر البربهاري، روى عن إبراهيم الحربي وتمام والباغندي والكديمي وغيرهم، وقد روى عنه ابن زرقويه وأبو نعيم وانتخب عليه الدار قطني، وقال: اقتصروا على ما خرجته له فقد اختلط
__________
(1) في الكامل 8 / 621: حل، في البيتين.
(2) البردعي: نسبة إلى بردعة بلد بأذربيجان (*).

(11/311)


صحيح سماعه بفاسده.
وقد تكلم فيه غير واحد من حفاظ زمانه بسبب تخليطه وغفلته واتهمه بعضهم بالكذب أيضا (1).