البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلثمائة
فبها في عاشوراء عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض، ووقعت فتنة
عظيمة ببغداد بين أهل السنة والرافصة، وكلا الفريقين قليل عقل أو
عديمه، بعيد عن السداد، وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأه
وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقالوا: نقاتل أصحاب
علي، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير، وعاث العيارون في البلد
فسادا، ونهبت الاموال، ثم أخذ جماعة منهم فقتلوا وصلبوا فسكنت الفتنة.
وفيها أخذ بختيار بن معز الدولة الموصل، وزوج ابنته بابن (2) أبي تغلب
بن حمدان.
وفيها وقعت الفتنة بالبصرة بين الديالم والاتراك، فقويت الديلم على
الترك بسبب أن الملك فيهم فقتلوا خلقا كثيرا، وحبسوا رؤسهم ونهبوا
كثيرا من أموالهم.
وكتب عز الدولة إلى أهله إني سأكتب إليكم أني قد مت فإذا وصل إليكم
الكتاب فأظهروا النوح واجلسوا للعزاء، فإذا جاء سبكتكين للعزاء فاقبضوا
عليه فإنه ركن الاتراك ورأسهم، فلما جاء الكتاب إلى بغداد بذلك أظهروا
النوح وجلسوا للعزاء ففهم سبكتكين أن هذه مكيدة فلم يقربهم، وتحقق
العداوة بينه وبين عز الدولة، وركب من فوره في الاتراك فحاصر دار عز
الدولة يومين، ثم أنزل أهله منها ونهب ما فيها وأحدرهم إلى دجلة وإلى
واسط منفيين، وكان قد عزم على إرسال الخليفة المطيع معهم، فتوسل إليه
الخليفة فعفا عنه وأقره بداره، وقويت شوكته سبكتكين والاتراك ببغداد،
ونهبت الاتراك دور الديلم، وخلع سبكتكين على رؤس العامة، لانهم كانوا
معه على الديلم، وقويت السنة على الشيعة وأحرقوا الكرخ - لانه محل
الرافضة - ثانيا، وظهرت السنة على يدي الاتراك، وخلع المطيع وولي ولده
على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
خلافة الطائع وخلع المطيع
ذكر ابن الاثير أنه لما كان الثالث عشر من ذي القعدة، وقال ابن الجوزي:
كان ذلك يوم الثلاثاء التاسع عشر (3) من ذي القعدة من هذه السنة خلع
المطيع لله وذلك لفالج أصابه فثقل
__________
(1) ذكرت وفاته في الوافي بالوفيات 2 / 338 سنة 332.
وانظر ترجمة له في تاريخ بغداد 2 / 209 ميزان الاعتدال 3 / 45 الانساب
للسمعاني ص 71.
(2) سقطت " ابن " من ابن الاثير، وقد تقدم ان بختيار زوج ابنته من أبي
تغلب (وفي العبر: أبي ثعلب).
(3) في العقد الفريد 5 / 131: لسبع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة.
وفي العبر 3 / 428: منتصف ذي القعدة (*).
(11/312)
لسانه (1)،
فسأله سبكتكين أن يخلع نفسه ويولي من بعده ولده الطائع، فأجاب إلى ذلك
فعقدت البيعة للطائع بدار الخلافة على يدي الحاجب سبكتكين، وخلع أبو ه
المطيع بعد تسع وعشرين سنة (2) كانت له في الخلافة، ولكن تعوض بولاية
ولده.
واسم الطائع أبو بكر عبد الكريم بن المطيع أبي القاسم، ولم يل الخلافة
من اسمه عبد الكريم سواه، ولا من أبوه حي سواه، ولا من كنيته أبو بكر
سواه وسوى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولم يل الخلافة، من بني العباس
أسن منه، كان عمره لما تولى ثمانيا وأربعين سنة، وكانت أمه أم ولد
اسمها غيث (3)، تعيش يوم ولي.
ولما بويع ركب وعليه البردة وبين يديه سبكتكين والجيش، ثم خلع من الغد
على سبكتكين خلع الملوك ولقبه ناصر الدولة، وعقد له الامارة.
ولما كان يوم الاضحى ركب الطائع وعليه السواد، فخطب الناس بعد الصلاة
خطبة خفيفة حسنة.
وحكى ابن الجوزي في منتظمه أن المطيع لله كان يسمى بعد خلعه بالشيخ
الفاضل.
الحرب بين المعز الفاطمي والحسين (4) لما استقر المعز الفاطمي بالديار
المصرية وابتنى فيها القاهرة والقصرين وتأكد ملكه، سار إليه الحسين بن
أحمد القرمطي من الاحساء في جمع كثيف من أصحابه، والتف معه أمير العرب
ببلاد الشام وهو حسان بن الجراح الطائي، في عرب الشام بكمالهم، فلما
سمع بهم المعز الفاطمي أسقط في يده لكثرتهم، وكتب إلى القرمطي يستميله
ويقول: إنما دعوة آبائك كانت إلى آبائي قديما، فدعوتنا واحدة، ويذكر
فيه فضله وفضل آبائه، فرد عليه الجواب: وصل كتابك الذي كثر تفضيله وقل
تحصيله ونحن سائرون إليه على إثره والسلام.
فلما انتهوا إلى ديار مصر عاثوا فيها قتلا ونهبا
وفسادا وحار لمعز فيما يصنع وضعف جيشه عن مقاومتهم، فعدل إلى المكيدة
والخديعة، فراسل حسان بن الجراح أمير العرب ووعده بمائة ألف دينار إن
هو خذل بين الناس، فبعث إليه حسان يقول أن ابعث إلى بما التزمت وتعالى
بمن معك، فإذا لقيتنا انهزمت بمن معي فلا يبقى للقرمطي قوة فتأخذه كيف
شئت.
فأرسل إليه بمائة ألف دينار في أكياسها، ولكن أكثرها زغل ضرب النحاس
وألبسه ذهبا وجعله في أسفل الاكياس، وجعل في رؤوسها الدنانير الخالصة،
ولما بعثها إليه ركب في إثرها في جيشه
__________
(1) قال في دول الاسلام 1 / 222: كان انفلاج المطيع وثقل لسانه سنة
ستين وثلاثمائة.
(2) في الكامل 8 / 637: تسعا وعشرين سنة وخمسة أشهر غير أيام.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 428: ست وعشرين سنة ونصف.
وفي المنتظم 7 / 66 ونهاية الارب 23 / 201: 29 سنة وأربعة أشهر وعشرين
يوما.
وفي العقد الفريد 5 / 131:..وثلاثة أشهر وعشرين يوما.
(3) في مآثر الخلافة 1 / 311: هزار.
(4) في ابن الاثير 8 / 638 ذكره في هذا الخبر باسم الحسن، وقد تقدم
عنده في حوادث سنة 360 ه باسم: الحسين (*).
(11/313)
فالتقى الناس
فانهزم حسان بن معه، فضعف جانب القرمطي وقوي عليه الفاطمي فكسره،
وانهزمت القرامطة ورجعوا إلى أذرعات في أذل حال وأرذله، وبعث المعز في
آثارهم القائد أبا محمود بن إبراهيم في عشرة آلاف فارس، ليحسم مادة
القرامطة ويطفئ نارهم عنه.
المعز الفاطمي ينتزع دمشق من القرامطة لما انهزم القرمطي بعث المعز
سرية وأمر عليهم ظالم بن موهوب العقيلي، فجاؤوا إلى دمشق فتسلمها من
القرامطة بعد حصار شديد واعتقل متوليها أبا الهيجاء (1) القرمطي وابنه،
واعتقل رجلا يقال له أبو بكر من أهل نابلس، كان يتكلم في الفاطميين
ويقول: لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بواحد ورميت الفاطميين بتسعة.
فأمر به فسلخ بين يدي المعز وحشي جلده تبنا وصلب بعد ذلك.
ولما تفرغ أبو محمود القائد من قتال القرامطة أقبل نحو دمشق فخرج إليه
ظالم بن موهوب فتلقاه
إلى ظاهر البلد وأكرمه وأنزله ظاهر دمشق، فأفسد أصحابه في الغوطة
ونهبوا الفلاحين وقطعوا الطرقات، فتحول أهل الغوطة إلى البلد من كثرة
النهب، وجئ بجماعة من القتلى فألقوا فكثر الضجيج، وغلقت الاسواق،
واجتمعت العامة للقتال، والتقوا مع المغاربة فقتل من الفريقين جماعة
وانهزمت العامة غير مرة، وأحرقت المغاربة ناحية باب الفراديس، فاحترق
شئ كثير من الاموال والدور، وطال القتال بينهم إلى سنة أربع وستين
وأحرقت البلد مرة أخرى بعد عزل ظالم بن موهوب وتولية جيش بن صمصامة ابن
أخت أبي محمود قبحه الله، وقطعت القنوات وسائر المياه عن البلد، ومات
كثير من الفقراء في الطرقات من الجوع والعطش، ولم يزل الحال كذلك حتى
ولي عليهم الطواشي ريان الخادم من جهة المعز الفاطمي، فسكنت النفوس
ولله الحمد فصل ولما قويت الاتراك ببغداد تحير بختيار بن معز الدولة في
أمره وهو مقيم بالاهواز لا يستطيع الدخول إلى بغداد، فأرسل إلى عمه ركن
الدولة يستنجده فأرسل إليه بعسكر مع وزيره أبي الفتح بن العميد، وأرسل
إلى ابن عمه عضد الدولة بن ركن الدولة فأبطأ عليه وأرسل إلى عمران بن
شاهين فلم يجبه، وأرسل إلى أبي تغلب بن حمدان فأظهر نصره وإنما يريد في
الباطن أخذ بغداد، وخرجت الاتراك من بغداد في جحفل عظيم ومعهم الخليفة
المطيع وأبوه، فلما انتهوا إلى واسط توفي المطيع وبعد أيام توفي
سبكتكين، فحملا إلى بغداد والتف الاتراك على أمير يقال له افتكين،
فاجتمع شملهم والتقوا مع بختيار فضعف أمره جدا وقوي عليه ابن عمه عضد
الدولة فأخذ منه ملك العراق وتمزق شمله، وتفرق أمره.
وفيها خطب للمعز الفاطمي بالحرمين مكة والمدينة النبوية.
وفيها خرج
__________
(1) في الكامل 8 / 640: أبا المنجا، وفي تاريخ أخبار القرامطة ص 61:
ابن أبي المنجى.
(*)
(11/314)
طائفة من بني
هلال وطائفة من العرب على الحجاج فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وعطلوا على
من بقي منهم الحج في هذا العام.
وفيها انتهى تاريخ ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة وأوله من سنة خمس
وتسعين ومائتين، وهي أول دولة المقتدر.
وفيها كانت زلزلة شديدة بواسط، وحج بالناس فيها
الشريف أبو أحمد الموسوي، ولم يحصل لاحد حج في هذه السنة سوى من كان
معه على درب العراق، وقد أخذ بالناس على طريق المدينة فتم حجهم.
وفيها توفي من الاعيان...العباس بن
الحسين أبو الفضل السراجي الوزير لعز الدولة بختيار بن معز الدولة بن
بويه، وكان من الناصرين للسنة المتعصبين لها، عكس مخدومه، فعزله وولى
محمد بن بقية البابا كما تقدم، وحبس هذا فقتل في محبسه في ربيع الآخر
منها، عن تسع وخمسين سنة، وكان فيه ظلم وحيف فالله أعلم.
وأبو بكر عبد العزيز بن جعفر الفقيه الحنبلي المعروف بغلام، أحد مشاهير
الحنابلة الاعيان، وممن صنف وجمع وناظر، وسمع الحديث من ابي القاسم
البغوي وطبقته، ومات وقد عدا الثمانين.
قال ابن الجوزي: وله المقنع في مائة جزء، والشافي في ثمانين جزء، وزاد
المسافر والخلاف مع الشافعي وكتاب القولين ومختصر السنة، وغير ذلك في
التفسير والاصول.
علي بن محمد أبو الفتح السبتي الشاعر المشهور، له ديوان جيد قوي، وله
في المطابقة والمجانسة اليد الطولى، ومبتكرات أولى.
وقد ذكر أبن الجوزي له في منتظمه من ذلك قطعة كبيرة مرتبة على حروف
المعجم، من ذلك قوله: إذا قنعت بميسور من القوت * بقيت في الناس حرا
غير ممقوت ياقوت يومي إذا ما در خلفك لي * فلست آسي على در وياقوت
وقوله يا أيها السائل عن مذهبي * ليقتدى فيه بمنهاجي منهاجي الحق وقمع
الهوى * فهل لمنهاجي من هاجي
(11/315)
وقوله: افد
طبعك المكدود بالجد راحة * تجم، وعلله بشئ من المزح
ولكن إذا أعطيت ذلك فليكن * بمقدار ما تعطي الطعام من الملح أبو فراس
بن حمدان الشاعر له ديوان مشهور.
استنابه أخوه سيف الدولة على حران ومنبج، فقاتل مرة الروم فأسروه ثم
ستنقذه سيف الدولة، واتفق موته في هذه السنة عن ثمان وأربعين سنة، وله
شعر رائق ومعان حسنة، وقد رثاه أخوه سيف الدولة فقال: المرء رهن (1)
مصائب لا تنقضي * حتى يوارى جسمه في رمسه فمؤجل يلقى الردى في أهله *
ومعجل يلقى الاذى في نفسه فلما قالهما كان عنده رجل من العرب فقال قل
في معناهما فقال الاعرابي من يتمنى العمر فليتخذ * صبرا على فقد أحبابه
ومن يعمر يلق في نفسه * ما يتمناه لاعدائه كذا ذكر ابن الساعي هذين
البيتين من شعر سيف الدولة في أخيه (2) أبي فراس، وذكرها ابن الجوزي من
شعر أبي فراس نفسه، وأن الاعرابي أجازهما بالبيتين المذكورين بعدهما.
ومن شعر أبي فراس: سيفقدني قومي إذا جد جدهم * وفي الليلة الظلماء
يفتقد البدر ولو سد غيري ما سددت اكتفوا * به وما فعل النسر الرفيق مع
الصقر وقوله من قصيدة: إلى الله أشكو إننا بمنازل * تحكم في آسادهن
كلاب فليتك تحلو والحياة مريرة * وليتك ترضى والانام غضاب وليت الذي
بيني وبينك عامر * وبيني وبين العالمين خراب ثم دخلت سنة أربع وستين
وثلثمائة فيها جاء عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه إلى واسط ومعه
وزير أبيه أبو الفتح بن العميد،
__________
(1) في الوفيات 2 / 63 واليتيمة: نصب.
وفي اليتيمة 1 / 84 نسب البيتين إلى أبي فراس.
(2) كذا بالاصل، والمعروف ان أبا فراس هو ابن عم سيف الدولة (*).
(11/316)
فهرب منه
الفتكين في الاتراك إلى بغداد، فسار خلفهم فنزل في الجانب الشرقي منها،
وأمر بختيار أن ينزل على الجانب الغربي، وحصر الترك حصرا شديدا، وأمر
أمراء الاعراب أن يغيروا على الاطراف ويقطعوا عن بغداد الميرة الواصلة
إليها، فغلت الاسعار وامتنع الناس من المعاش من كثرة العيارين والنهوب،
وكبس الفتكين البيوت لطلب الطعام واشتد الحال، ثم التقت الاتراك وعضد
الدولة فكسرهم وهربوا إلى تكريت واستحوذ عضد الدولة على بغداد وما
والاها من البلاد، وكانت الترك قد اخرجوا معهم الخليفة فرده عضد الدولة
إلى دار الخلافة مكرما، ونزل هو بدار الملك وضعف أمر بختيار جدا، ولم
يبق معه شئ بالكلية، فأغلق بابه وطرد الحجبة والكتاب عن بابه واستعفى
عن الامارة، وكان ذلك بمشورة عضد الدولة، فاستعطفه عضد الدولة في
الظاهر، وقد أشار عليه في الباطن أن لا يقبل فلم يقبل.
وترددت الرسل بينهما فصمم بختيار على الامتناع ظاهرا، فألزم عضد الدولة
بذلك وأظهر للناس أنه إنما يفعل هذا عجزا منه عن القيام بأعباء الملك
فأمر بالقبض على بختيار وعلى أهله وإخوته، ففرح بذلك الخليفة الطائع،
وأظهر عضد الدولة من تعظيم الخلافة ما كان دارسا، وجدد دار الخلافة حتى
صار كل محل منها آنسا، وأرسل إلى الخليفة بالاموال والامتعة الحسنة
العزيزة وقتل المفسدين من مردة الترك وشطار العيارين.
قال ابن الجوزي: وفي هذه السنة عظم البلاء بالعيارين ببغداد، وأحرقوا
سوق باب الشعير، وأخذوا أموالا كثيرة، وركبوا الخيول وتلقبوا بالقواد،
وأخذوا الخفر من الاسواق والدروب، وعظمت المحنة بهم جدا واستفحل أمرهم،
حتى أن رجلا منهم أسود كان مستضعفا نجم فيهم وكثر ماله حتى اشترى جارية
بألف دينار، فلما حصلت عنده حاولها عن نفسها فأبت عليه فقال لها: ماذا
تكرهين مني ؟ قال: أكرهك كلك.
فقال: فما تحبين ؟ فقالت: تبيعني.
فقال: أو خير من ذلك ؟ فحملها إلى القاضي فأعتقها وأعطاها ألف دينار
وأطلقها، فتعجب الناس من حلمه وكرمه مع فسقه وقوته.
قال: وورد الخبر في المحرم بأنه خطب للمعز الفاطمي بمكة والمدينة في
الموسم، ولم
يخطب للطائع.
قال: وفي رجب منها غلت الاسعار ببغداد حتى بيع الكر الدقيق الحواري
بمائة ونيف وسبعين دينارا.
قال: وفيها اضمحل أمر عضد الدولة بن بويه وتفرق جنده عنه ولم يبق معه
سوى بغداد وحدها، فأرسل إلى أبيه يشكو له ذلك، فأرسل يلومه على الغدر
بابن عمه بختيار، فلما بلغه ذلك خرج من بغداد إلى فارس بعد أن أخرج ابن
عمه من السجن وخلع عليه وأعاده إلى ما كان عليه، وشرط عليه أن يكون
نائبا له بالعراق يخطب له بها، وجعل معه أخاه أبا إسحاق أمير الجيوش
لضعف بختيار عن تدبير الامور، واستمر ذاهبا إلى بلاده، وذلك كله عن أمر
أبيه له بذلك، وغضبه عليه بسبب غدره بابن عمه وتكرار مكاتباته فيه
إليه.
ولما سار ترك بعده وزير أبيه أبا الفتح بن العميد، ولما استقر عز
الدولة بختيار ببغداد وملك العراق لم يف لابن عمه عضد الدولة بشئ مما
قال، ولا ما كان التزم، بل تمادى على ضلاله القديم، واستمر على مشيه
الذي هو غير مستقيم من الرفض وغيره.
(11/317)
قال وفي يوم
الخميس لعشر خلون من ذي القعدة تزوج الخليفة الطائع شاه باز بنت عز
الدولة على صداق مائة ألف دينار، وفي سلخ ذي القعدة عز القاضي أبو
الحسن محمد بن صالح بن أم شيبان وقلده أبو محمد معروف.
وإمام الحج فيها أصحاب الفاطمي، وخطب له بالحرمين دون الطائع والله
سبحانه أعلم.
ذكر أخذ دمشق من أيدي الفاطميين ذكر
ابن الاثير في كامله: أن الفتكين (1) غلام معز الدولة الذي كان قد خرج
عن طاعته كما تقدم، والتف عليه عساكر وجيوش من الديلم والترك والاعراب،
نزل في هذه السنة على دمشق، وكان عليها من جهة الفاطميين ريان الخادم،
فلما نزل بظاهرها خرج إليه كبراء أهلها وشيوخها فذكروا له ما هم فيه من
الظلم والغشم ومخالفة الاعتقاد بسبب الفاطميين، وسألوه أن يصمم على
أخذها ليستنقذها منهم، فعند ذلك صمم على أخذها ولم يزل حتى أخذها وأخرج
منها ريان (2) الخادم وكسر أهل الشر بها، ورفع أهل الخير، ووضع في
أهلها العدل وقمع أهل اللعب واللهو، وكف
أيدي الاعراب الذين كانوا قد عاثوا في الارض فسادا، وأخذوا عامة المرج
والغوطة، ونهبوا أهلها.
ولما استقامت الامور على يديه وصلح أمر أهل الشام كتب إليه المعز
الفاطمي (3) يشكر سعيه ويطلبه إليه ليخلع عليه ويجعله نائبا من جهته،
فلم يجبه إلى ذلك، بل قطع خطبته من الشام وخطب للطائع العباسي، ثم قصد
صيدا وبها خلق من المغاربة عليهم ابن الشيخ، وفيهم ظالم بن موهب
العقيلي الذي كان نائبا على دمشق للمعز الفاطمي، فأساء بهم السيرة،
فحاصرهم ولم يزل حتى أخذ البلد منهم وقتل منهم نحو من أربعة آلاف من
سراتهم، ثم قصد طبرية ففعل بأهلها مثل ذلك، فعند ذلك عزم المعز الفاطمي
على المسير إليه، فبينما هو يجمع له العساكر إذ توفي المعز في سنة خمس
وستين كما سيأتي، وقام بعده ولده العزيز، فأطمأن عند ذلك الفتكين
بالشام، واستفحل أمره وقويت شوكته، ثم اتفق أمر المصريين على أن يبعثوا
جوهرا القائد لقتاله وأخذ الشام من يده، فعند ذلك حلف أهل الشام
لافتكين أنهم معه على الفاطميين، وأنهم ناصحون له غير تاركيه وجاء جوهر
فحصر دمشق سبعة أشهر (4) حصرا شديدا ورأى من شجاعة الفتكين ما بهره،
فلما طال الحال أشار من أشار من الدماشقة على الفتكين أن يكتب إلى
الحسين (5) بن أحمد القرمطي وهو بالاحساء (6)، ليجئ
__________
(1) في العبر والنجوم الزاهر وتاريخ أبي الفداء وابن الوردي: أفتكين.
(2) في العبر 4 / 51: زياد وفي رواية أخرى 3 / 430: ريان كالاصل.
وفي ابن الورد 1 / 448: زبان.
(3) في الكامل 8 / 657: وكاتب (أي افتكين) المعز يداريه، ويظهر له
الانقياد، فشكره، وطلب منه ان يحضره عنده ليخلع عليه.
(انظر العبر / 431).
(4) في العبر 4 / 52: شهرين.
(5) في الكامل 8 / 658: الحسن.
وفي العبر لابن خلدون 4 / 52: الاعصم.
(6) من الكامل والعبر، وفي الاصل: الحساء (*).
(11/318)
إليه، فلما كتب
إليه أقبل لنصره، فلما سمع به جوهر لم يمكنه ان يبقى بين عدوين من داخل
البلد وخارجها، فارتحل قاصدا الرملة فتبعه الفتكين والقرمطي في نحو من
خمسين ألفا، فتواقعوا عند نهر
الطواحين على ثلاث فراسخ من الرملة، وحصروا جوهرا بالرملة فضاق حاله
جدا من قلة الطعام والشراب، حتى أشرف هو ومن معه على الهلاك، فسأل من
الفتكين على أن يجتمع هو وهو على ظهور الخيل، فأجابه إلى ذلك، فلم يزل
يترفق له أن يطلقه حتى يذهب بمن معه من أصحابه إلى أستاذه شاكرا له
مثنيا عليه الخير، ولا يسمع من القرمطي فيه - وكان جوهر داهية - فأجابه
إلى ذلك فندمه القرمطي وقال: الرأي أنا كنا نحصرهم حتى يموتوا عن آخرهم
فإنه يذهب إلى أستاذه ثم يجمع العساكر ويأتينا، ولا طاقة لنا به.
وكان الامر كما قال، فإنه لما أطلقه الفتكين من الحصر لم يكن له دأب
إلا أنه حث العزيز على الخروج إلى الفتكين بنفسه، فأقبل في جحافل أمثال
الجبال، وفي كثرة من الرجال والعدد والاثقال والاموال، وعلى مقدمته
جوهر القائد.
وجمع الفتكين والقرمطي الجيوش والاعراب وساروا إلى الرملة فاقتتلوا في
محرم سنة سبع وستين، ولما تواجهوا رأى العزيز من شجاعة الفتكين ما
بهره، فأرسل إليه يعرض عليه إن أطاعه ورجع إليه أن يجعله مقدم عساكره،
وأن يحسن إليه غاية الاحسان.
فترجل افتكين عن فرسه بين الصفين وقبل الارض نحو العزيز، وأرسل إليه
يقول: لو كان هذا القول سبق قبل هذا الحال لامكنني وسارعت وأطعت، وأما
الآن فلا.
ثم ركب فرسه وحمل على ميسرة العزيز ففرق شملها وبدد حيلها ورجلها.
فبرز عند ذلك العزيز من القلب وأمر الميمنة فحملت حملة صادقة فانهزم
القرمطي وتبعه بقية الشاميين وركبت المغاربة أقفيتهم يقتلون ويأسرون من
شاؤوا، وتحول العزيز فنزل خيام الشاميين بمن معه، وأرسل السرايا
وراءهم، وجعل لا يؤتى بأسير إلا خلع على من جاء به، وجعل لمن جاءه
الفتكين مائة ألف دينار، فاتفق أن الفتكين عطش عطشا شديدا، فاجتاز
بمفرج بن دغفل، وكان صاحبه، فاستسقاه فسقاه وأنزله عنده في بيوته،
وأرسل إلى العزيز يخبره بأن طلبته عنده، فليحمل المال إلي وليأخذ
غريمه، فأرسل إليه بمائة ألف دينار وجاء من تسلمه منه، فلما أحيط
بالفتكين لم يشك أنه مقتول، فما هو إلا أن حضر عند العزيز أكرمه غاية
الاكرام، ورد إليه حواصله وأمواله لم يفقد منها شيئا، وجعله من أخص
أصحابه وأمرائه، وأنزله إلى جانب منزله، ورجع به إلى الديار المصرية
مكرما معظما، وأقطعه هنالك إقطاعات جزيلة، وأرسل إلى القرمطي أن، يقدم
عليه ويكرمه كما أكرم الفتكين، فامتنع عليه وخاف
منه، فأرسل إليه بعشرين ألف دينار، وجعلها له عليه في كل سنة، يكف بها
شره، ولم يزل الفتكين مكرما عند العزيز حتى وقع بينه وبين الوزير ابن
كلس، فعمل عليه حتى سقاه سما فمات، وحين علم العزيز بذلك غضب على
الوزير وحبسه بضعا وأربعين يوما، وأخذ منه خمسمائة ألف دينار ثم رأى أن
لا غنى به عنه فأعاده إلى الوزارة.
وهذا ملخص ما ذكره ابن الاثير.
وفيها توفي من الاعيان...
(11/319)
سبكتكين الحاجب
التركي مولى المعز الديلمي وحاجبه، وقد ترقى في المراتب حتى آل به
الامر إلى أن قلده الطائع الامارة وخلع عليه وأعطاه اللواء، ولقبه بنور
الدولة، وكانت مدة أيامه في هذه المقام شهرين وثلاثة عشر يوما، ودفن
ببغداد وداره هي دار الملك ببغداد، وهي دار عظيمة جدا، وقد اتفق له أنه
سقط مرة عن فرسه فانكسر صلبه فداواه الطبيب حتى استقام ظهره وقدر على
الصلاة إلا أنه لا يستطيع الركوع، فأعطاه شيئا كثيرا من الاموال، وكان
يقول للطبيب: إذا ذكرت وجعي ومداواتك لي لا أقدر على مكافأتك، لكن إذا
تذكرت وضعك قدميك على ظهري اشتد غضبي منك.
توفي ليلة الثلاثاء لسبع بقين من المحرم منها، وقد ترك من الاموال شيئا
كثيرا جدا، من ذلك ألف ألف دينار وعشر آلاف ألف درهم، وصندوقان من
جوهر، وخمسة عشر صندوقا من البلور، وخمسة وأربعين صندوقا من آنية
الذهب، ومائة وثلاثون كوكبا من ذهب، منها خمسون وزن كل واحد ألف دينار،
وستمائة مركب من فضة وأربعة آلاف ثوب من ديباج، وعشرة آلاف ديبقي
وعتابي، وثلثمائة عدل معكومة من الفرش، وثلاثة آلاف فرس وألف جمل
وثلثمائة غلام وأربعون خادما وذلك غير ما أودع عند أبي بكر البزار.
وكان صاحبه.
ثم دخلت سنة خمس وستين وثلثمائة فيها قسم
ركن الدولة بن بويه ممالكه بين أولاده عندما كبرت سنه، فجعل لولده عضد
الدولة بلاد فارس وكرمان وأرجان، ولولده مؤيد الدولة الري وأصبهان،
ولفخر الدولة همدان والدينور،
وجعل ولده أبا العباس في كنف عضد الدولة وأوصاه به.
وفيها جلس قاضي القضاة ببغداد أبو محمد بن معروف في دار عز الدولة لفصل
الحكومات عن أمره له بذلك، فحكم بين يديه بين الناس وفيها حج بالناس
أمير المصريين من جهة العزيز الفاطمي بعد ما حاصر أهل مكة ولقوا شدة
عظيمة، وغلت الاسعار بها جدا.
وفيها ذكر ابن الاثير: أن يوسف بلكين (1) نائب المعز الفاطمي على بلاد
إفريقية ذهب إلى سبتة فأشرف عليها من جبل فطل عليها فجعل يتأمل من أين
يحاصرها، فحاصرها نصف يوم فخافه أهلها خوفا شديدا، ثم انصرف عنها إلى
مدينة هنالك يقال لها بصرة في المغرب، فأمر بهدمها ونهبها، ثم سار إلى
مدينة برغواطة وبها رجل يقال له عيسى (2) بن أم الانصار، وهو ملكها،
وقد اشتدت المحنة به لسحره وشعبذته وادعى أنه نبي فأطاعوه، ووضع لهم
شريعة يقتدون بها، فقاتلهم بلكين فهزمهم وقتل هذا الفاجر ونهب أموالهم
وسبى ذراريهم فلم ير سبي أحسن أشكالا منهم فيما ذكره أهل تلك البلاد في
ذلك الزمان.
__________
(1) في البيان المغرب لابن عذارى 1 / 231: أبو الفتوح، وذكر وصوله إلى
سبتة سنة 367 ه.
(2) في الكامل 8 / 666: عبس (*).
(11/320)
وممن توفي فيها
من الاعيان...أحمد بن جعفر بن محمد بن مسلم أبو بكر الختلي (1)، له
مسند كبير، روى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وأبي محمد الكجي وخلق،
وروى عنه الدار قطني وغيره، وكان ثقة وقد قارب التسعين.
ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الصابي المؤرخ فيما ذكره ابن الاثير في
الكامل.
الحسين بن محمد بن أحمد أبو علي الماسرجسي الحافظ، رحل وسمع الكثير
وصنف مسندا في ألف وثلثمائة جزء، بطرقه وعلله، وله المغازي والقبائل،
وخرج على الصحيح وغيره، قال ابن الجوزي: وفي بيته وسلفه تسعة عشر
محدثا، توفي في رجب منها.
أبو أحمد (2) بن عدي الحافظ أبو عبد الله بن محمد بن أبي أحمد الجرجاني
- أبو أحمد بن عدي - الحافظ الكبير المفيد الامام العالم الجوال النقال
الرحال، له كتاب الكامل في الجرح والتعديل، لم يسبق إلى مثله ولم يلحق
في شكله قال حمزة عن الدار قطني: فيه كفاية لا يزاد عليه.
ولد أبو أحمد بن عدي في سنة سبع وسبعين ومائتين وهي السنة التي توفي
فيها أبو حاتم الرازي، وتوفي ابن عدي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
المعز الفاطمي باني القاهرة معد بن إسماعيل بن سعيد بن عبد الله أبو
تميم المدعي أنه فاطمي، صاحب الديار المصرية، وهو أول من ملكها من
الفاطميين، وكان أولا ملكا ببلاد إفريقية وما والاهامن بلاد المغرب،
فلما كان في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، بعث بين يديه جوهرا القائد فأخذ
له بلاد مصر من كافور الاخشيدي بعد حروب تقدم ذكرها، واستقرت أيدي
الفاطميين عليها، فبنى بها القاهرة وبنى منزل الملك وهما القصران، ثم
أقام جوهر الخطبة للمعز الفاطمي في سنة ثنتين وستين وثلثمائة، ثم
__________
(1) في الوافي 6 / 290 وتاريخ بغداد 4 / 71 والمنتظم 7 / 80 وفي الاصل:
الحنبلي وهو تحريف.
(2) واسمه عبد الله، ويعرف أيضا بابن القطان.
(تذكرة الحفاظ 3 / 940) (*).
(11/321)
قدم المعز بعد
ذلك ومعه جحافل من الجيوش، وأمراء من المغاربة والاكابر، وحين نزل
الاسكندرية تلقاه وجوه الناس فخطبهم بها خطبة بليغة ادعى فيها أنه ينصف
المظلوم من الظالم، وافتخر فيها بنسبه وأن الله قد رحم الامة بهم، وهو
مع ذلك متلبس بالرفض ظاهرا وباطنا كما قاله القاضي الباقلاني إن مذهبهم
الكفر المحض، واعتقادهم الرفض، وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره
ووالاه، قبحهم الله وإياه.
وقد أحضر إلى بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر
النابلسي، فقال له المعز: بلغني عنك أنك قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت
الروم بتسعة ورميت المصريين بسهم، فقال: ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن
قوله فقال: كيف قلت ؟ قال: قلت
ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر.
قال: ولم ؟ قال: لانكم غيرتم دين الامة وقتلتم الصالحين وأطفأتم نور
الالهية، وادعيتم ما ليس لكم.
فأمر بإشهاره في أول يوم ثم ضرب في اليوم الثاني بالسياط ضربا شديدا
مبرحا ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث، فجئ بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ
القرآن قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته
بالسكين فمات رحمه الله.
فكان يقال له الشهيد، وإليه ينسب بنو الشهيد من أهل نابلس إلى اليوم،
ولم تزل فيهم بقايا خير، وقد كان المعز قبحه الله فيه شهامة وقوة حزم
وشدة عزم، وله سياسة، وكان يظهر أنه يعدل وينصر الحق ولكنه كان مع ذلك
منجما يعتمد على حركات النجوم، قال له منجمه: إن عليك قطعا - أي خوفا -
في هذه السنة فتوار عن وجه الارض حتى تنقضي هذه المدة.
فعمل له سردابا وأحضر الامراء وأوصاهم بولده نزار ولقبه العزيز وفوض
إليه الامر حتى يعود إليهم، فبايعوه على ذلك، ودخل المعز ذلك السرداب
فتوارى فيه سنة فكانت المغاربة إذا رأوا سحابا ترجل الفارس منهم له عن
فرسه وأومأ إليه بالسلام ظانين أن المعز في ذلك الغمام، (فاستخف قومه
فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين) [ الزخرف: 54 ] ثم برز إليهم بعد سنة
وجلس في مقام الملك وحكم على عادته أياما، ولم تطل مدته بل عاجله
القضاء المحتوم، ونال رزقه المقسوم، فكانت وفاته في هذه السنة، وكانت
أيامه في الملك قبل أن يملك مصر وبعد ما ملكها ثلاثا وعشرين سنة وخمسة
أشهر وعشرة أيام (1)، منها بمصر سنتان وتسعة أشهر والباقي ببلاد
المغرب، وجملة عمره كلها خمسة وأربعون سنة وستة أشهر، لانه ولد
بإفريقية (2) في عاشر رمضان سنة تسع عشرة وثلثمائة وكانت وفاته بمصر في
اليوم السابع عشر (3) من ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلثمائة وهي هذه
السنة.
ثم دخلت سنة ست وستين وثلثمائة فيها توفي
ركن الدولة بن علي بن بويه وقد جاوز التسعين (4) سنة، وكانت أيام
ولايته نيفا
__________
(1) في العبر 4 / 51: ثلاث وعشرين وسنة.
(2) في الكامل 8 / 663 ووفيات الاعيان 5 / 228: بالمهدية من افريقيا في
حادي عشر رمضان.
(3) في العبر 4 / 51: في منتصف ربيع الآخر.
(4) في الكامل 8 / 670 وابي الفداء 2 / 116: السبعين (*).
(11/322)
وأربعين (1)
سنة، وقبل موته بسنة قسم ملكه بين أولاده كما ذكرنا، وقد عمل ابن
العميد مرة ضيافة في داره وكانت حافلة حضرها ركن الدولة وبنوه وأعيان
الدولة، فعهد ركن الدولة في هذا اليوم إلى ابنه عضد الدولة وخلع عضد
الدولة على إخوته وسائر الامراء الاقبية والاكسية على عادة الديلم،
وحفوه بالريحان على عادتهم أيضا، وكان يوما مشهودا.
وقد كان ركن الدولة قد أسن وكبر وتوفي بعد هذه الوليمة بقليل في هذه
السنة، وكان حليما وقورا كثير الصدقات محبا للعلماء فيه بر وكرم
وإيثار، وحسن عشرة ورياسة، وحنو على الرعية وعلى أقاربه.
وحين تمكن ابنه عضد الدولة قصد العراق ليأخذها من ابن عمه بختيار لسوء
سيرته ورداءة سريرته، فالتقوا في هذه السنة بالاهواز فهزمه عضد الدولة
وأخذ أثقاله وأمواله، وبعث إلى البصرة فأخذها وأصلح بين أهلها حيي
ربيعة ومضر، وكان بينهما خلف متقادم من نحو مائة وعشرين سنة، وكانت مضر
تميل إليه وربيعة عليه، ثم اتفق الحيان عليه وقويت شوكته، وأذل بختيار
وقبض على وزيره ابن بقية لانه استحوذ على الامور دونه، وجبى الاموال
إلى خزائنه، فاستظهر عضد الدولة بما وجده في الخزائن والحواصل لابن
بقية ولم يبق له منها بقية.
وكذلك أمر عضد (2) الدولة بالقبض على وزير أبيه أبي الفتح بن العميد
لموجدة تقدمت منه إليه، وقد سلف ذكرها.
ولم يبق لا بن العميد أيضا في الارض بقية، وقد كانت الاكابر تتقيه.
وقد كان ابن العميد من الفسوق والعصيان بأوفر مكان، فخانته المقادير
ونزل به غضب السلطان، ونحن نعوذ بالله من غضب الرحمن.
وفي منتصف شوال منها توفي الامير منصور بن نوح الساماني صاحب بلاد
خراسان وبخاري وغيرها، وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وقام بالامر من بعده
ولده أبو القاسم نوح، وكان عمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة، ولقب بالمنصور.
وفيها توفي الحاكم وهو المستنصر
بالله بن الناصر لدين الله عبد الرحمن الاموي، وقد كان هذا من خيار
الملوك وعلمائهم، وكان عالما بالفقه والخلاف والتواريخ محبا للعلماء
محسنا إليهم.
توفي وله
من العمر ثلاث وستون سنة وسبعة أشهر، ومدة خلافته منها خمس عشرة (3)
سنة وخمسة أشهر، وقام بالامر من بعده ولده هشام وله عشر سنين ولقب
بالمؤيد بالله، وقد اختلف عليه في أيامه واضطربت الرعايا عليه وحبس مدة
ثم أخرج وأعيد إلى الخلافة، وقام بأعباء أمره حاجبه المنصور أبو عامر
محمد بن أبي عامر المغافري، وابناه المظفر والناصر، فساسوا الرعاية
جيدا وعدلا فيهم وغزوا الاعداء واستمر لهم الحال كذلك نحوا من ست
وعشرين سنة.
وقد ساق ابن الاثير هنا قطعة من أخبارهم وأطال.
__________
(1) في الكامل وابي الفداء: أربعا وأربعين.
(2) من الكامل 8 / 675 والعبر 3 / 431 وفي الاصل: ركن الدولة وهو
تحريف.
(3) من الكامل: وفي الاصل خمسة عشر وهو خطأ.
وفي العبر 4 / 146: ست عشرة سنة (*).
(11/323)
وفيها رجع ملك
حلب إلى أبي المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان، وذلك أنه لما مات
أبوه وقام هو من بعده تغلب قرعويه مولاهم واستولى عليهم سار إليه
فأخرجه منها خائفا يترقب، ثم جاء فنزل حماه وكانت الروم قد خربت حمص
فسعى في عمارتها وترميمها وسكنها، ثم لما اختلفت الامور على قرعويه كتب
أهل حلب إلى أبي المعالي هذا وهو بحمص أن يأتيهم، فسار إليهم فحاصر حلب
أربعة أشهر فافتتحها وامتنعت منه القلعة وقد تحصن بها نكجور (1)، ثم
اصطلح مع أبي المعالي على أن يؤمنه على نفسه ويستنيبه بحمص، ثم انتقل
إلى نيابة دمشق وإليه تنسب هذه المرزعة ظاهر دمشق التي تعرف بالقصر
النكجوري..ابتداء ملك بني سبكتكين (2) والد محمود صاحب غزنة.
وقد كان سبكتكين مولى الامير أبي إسحاق بن البتكين صاحب جيش غزنة
وأعمالها للسامانية، وليس هذا بحاجب معز الدولة، ذاك توفي قبل هذه
السنة كما تقدم، وأما هذا فإنه لما مات مولاه لم يترك أحدا يصلح للملك
من بعده لا من ولده ولا من قومه فاصطلح الجيش على مبايعة سبكتكين هذا
لصلاحه فيهم وخيره وحسن سيرته، وكمال عقله وشجاعته وديانته، فاستقر
الملك في يده واستمر من بعده في ولده السعيد محمود بن سبكتكين، وقد
غزا هذا بلاد الهند وفتح شيئا كثيرا من حصونهم، وغنم أموالا كثيرة،
وكسر من أصنامهم ونذروهم أمرا هائلا، وباشر من معه من الجيوش حربا
عظيمة هائلة، وقد قصده جيبال ملك الهند الاعظم بنفسه وجنوده التي تعم
السهول والجبال، فكسره مرتين وردهم إلى بلادهم في أسوأ حال وأردأ بال.
وذكر ابن الاثير في كامله: أن سبكتكين لما التقى مع جيبال ملك الهند في
بعض الغزوات كان بالقرب منهم عين في عقبة باغورك (3) وكان من عادتهم
أنها إذا وضعت فيها نجاسة أو قذر اكفهرت السماء وأرعدت وأبرقت وأمطرت،
ولا تزال كذلك حتى تطهر تلك العين من ذلك الشئ الذي ألقي فيها، فأمر
سبكتكين بإلقاء نجاسة فيها - وكانت قريبة من نحو العدو - فلم يزالوا في
رعود وبروق وأمطار وصواعق حتى ألجأهم ذلك إلى الهرب والرجوع إلى بلادهم
خائبين هاربين، وأرسل ملك الهند يطلب من سبكتكين الصلح فأجابه بعد
امتناع من ولده محمود، على مال جزيل يحمله إليه، وبلاد كثيرة يسلمها
إليه، وخمسين فيلا ورهائن من رؤس قومه يتركها عنده حتى يقوم بما التزمه
من ذلك.
__________
(1) في الكامل 8 / 682 والعبر 4 / 247 وتاريخ أبي الفداء 2 / 118:
بكجور.
(2) قال ابن خلدون في العبر 4 / 360: هذه الدولة من فروع دولة بني
سامان وناشئة عنها وبلغت من الاستطالة والعز المبالغ العظيمة واستولت
على ما كانت دولة بني سامان عليه في عدوتي جيحون وما وراء النهر
وخراسان وعراق العجم وبلاد الترك.
(3) في الكامل المطبوع 8 / 686: غورك (*).
(11/324)
وفيها توفي...أبو
يعقوب يوسف ابن الحسين (1) الجنابي، صاحب هجر ومقدم القرامطة، وقام
بالامر من عبده ستة من قومه وكانوا يسمون بالسادة، وقد اتفقوا على
تدبير الامر من بعده ولم يختلفوا فمشى حالهم.
وفيها كانت وفاة :
الحسين (2) بن أحمد
ابن أبي سعيد الجنابي أبو محمد القرمطي.
قال ابن عساكر: واسم أبي سعيد الحسين بن بهرام، ويقال ابن أحمد، يقال
أصلهم من الفرس، وقد تغلب هذا على الشام في سنة سبع وخمسين وثلثمائة ثم
عاد إلى الاحساء بعد سنة ثم عاد إلى دمشق في سنة ستين، وكسر جيش جعفر
بن فلاح، أول من ناب بالشام عن المعز الفاطمي وقتله، ثم توجه إلى مصر
فحاصرها في مستهل ربيع الاول من سنة إحدى وستين، واستمر محاصرها شهورا،
وقد كان استخلف على دمشق ظالم بن موهب ثم عاد إلى الاحساء ثم رجع إلى
الرملة فتوفي بها في هذه السنة، وقد جاوز التسعين، وهو يظهر طاعة عبد
الكريم الطائع لله العباسي، وقد أورد له ابن عساكر أشعارا رائقة، من
ذلك ما كتب به إلى جعفر بن فلاح قبل وقوع الحرب بينهما وهي من أفحل
الشعر: الكتب معذرة والرسل مخبرة * والحق متبع والخير محمود والحرب
ساكنة والخيل صافنة * والسلم مبتذل والضل ممدود فإن أنبتم فمقبول
إنابتكم * وإن أبيتم فهذا الكور مشدود على ظهور المنايا (3) أو يردن
بنا * دمشق والباب مسدود ومردود إني امرؤ ليس من شأني ولا أربي * طبل
يرن ولا ناي ولا عود ولا اعتكاف على خمر ومخمرة * وذات دل لها غنج (4)
وتفنيد ولا أبيت بطين البطن من شبع * ولي رفيق خميص البطن مجهود
__________
(1) في الكامل وتاريخ أخبار القرامطة: الحسن.
(2) في تاريخ أخبار القرامطة: الحسن، قال: وهو الحسن الاعصم بن أحمد بن
الحسن بن بهرام بن أبي منصور بن أبي سعيد الجنابي.
وبهامشه قال: الاعصم من الظباء الذي في ذراعه بياض وغراب أعصم في أحد
جناحيه ريشة بيضاء.
(3) في أخبار القرامطة ص 111: المطايا.
(4) في أخبار القرامطة لابن العديم: دل (*).
(11/325)
ولا تسامت بي
الدنيا إلى طمع * يوما ولا غرني فيها المواعيد ومن شعره أيضا: يا ساكن
البلد المنيف تعززا * بقلاعه وحصونه وكهوفه لا عز إلا للعزيز بنفسه *
وبخيله وبرجله وسيوفه وبقية بيضاء قد ضربت على * شرف الخيام بجاره (1)
وضيوفه قوم (2) إذا اشتد الوغا أردى العدا * وشفى النفوس بضربه وزحوفه
لم يجعل الشرف التليد لنفسه * حتى أفاد تليده بطريفه وفيها تملك قابوس
بن وشمكير بلاد جرجان وطبرستان وتلك النواحي.
وفيها دخل الخليفة الطائع بشاه بار بنت عز الدولة بن بويه، وكان عرسا
حافلا.
وفيها حجت جميلة بنت ناصر الدولة بن حمدان في تجمل عظيم، حتى كان يضرب
المثل بحجها، وذلك أنها عملت أربعمائة محمل كان لا يدرى في أيها هي،
ولما وصلت إلى الكعبة نثرت عشرة آلاف دينار على الفقراء المجاورين،
وكست المجاورين بالحرمين كلهم، وأنفقت أموالا جزيلة في ذهابها وإيابها.
وحج بالناس من العراق الشريف أحمد بن الحسين بن محمد العلوي، وكذلك حج
بالناس إلى سنة ثمانين وثلثمائة، وكانت الخطبة بالحرمين في هذه السنة
للفاطميين أصحاب مصر دون العباسيين.
وممن توفي فيها من
الاعيان...إسماعيل بن نجيد ابن أحمد بن يوسف أبو عمرو السلمي، صحب
الجنيد وغيره، وروى الحديث وكان ثقة، ومن جيد كلامه قوله: من لم تهدك
رؤيته فليس بمهذب.
وقد احتاج شيخه أبو عثمان مرة إلى شئ فسأله أصحابه فيه فجاءه ابن نجيد
بكيس فيه ألفا درهم فقبضه منه وجعل يشكره إلى أصحابه، فقال له ابن نجيد
بين أصحابه: يا سيدي إن المال الذي دفعته إليك كان من مال أمي أخذته
وهي كارهة فأنا أحب أن ترده إلي حتى أرده إليها.
فأعطاه إياه، فلما كان الليل جاء به وقال أحب أن تصرفها في أمرك ولا
تذكرها لاحد.
فكان أبو عثمان يقول: أنا أجتني من همة أبي عمرو بن نجيد رحمهم الله
تعالى.
الحسن بن بويه أبو علي ركن الدولة عرض له قولنج فمات في ليلة السبت
الثامن والعشرين من المحرم منها،
__________
(1) في أخبار القرامطة: لجاره.
(2) في أخبار القرامطة: قرم.
(*)
(11/326)
وكانت مدة
ولايته أربعا وأربعين سنة وشهرا وتسعة أيام، ومدة عمره ثمان وسبعون
سنة، وكان حليما كريما.
محمد بن إسحاق ابن إبراهيم بن أفلح بن رافع بن رافع بن إبراهيم بن أفلح
بن عبد الرحمن بن رفاعة بن رافع أبو الحسن الانصاري الزرقي، كان نقيب
الانصار، وقد سمع الحديث من أبي القاسم البغوي وغيره، وكان ثقة يعرف
أيام الانصار ومناقبهم، وكانت وفاته في جمادى الآخرة منها.
محمد بن الحسن ابن أحمد بن إسماعيل أبو الحسن السراج، سمع يوسف بن
يعقوب القاضي وغيره، وكان شديد الاجتهاد في العبادة.
صلى حتى أقعد، وبكى حتى عمي، توفي يوم عاشوراء منها.
القاضي منذر البلوطي رحمه الله قاضي قضاة الاندلس، كان إماما عالما
فصيحا خطيبا شاعرا أديبا، كثير الفضل، جامعا لصنوف من الخير والتقوى
والزهد، وله مصنفات واختيارات، منها أن الجنة التي سكنها آدم وأهبط
منها كانت في الارض وليسة بالجنة التي أعدها الله لعباده في الآخرة،
وله في ذلك مصنف مفرد، له وقع في النفوس وعليه حلاوة وطلاوة، دخل يوما
على الناصر لدين الله عبد الرحمن الاموي وقد فرغ من بناء المدينة
الزهراء وقصورها، وقد بنى له فيها قصر عظيم منيف، وقد زخرف بأنواع
الدهانات وكسي الستور، وجلس عنده رؤس دولته وأمراؤه، فجاءه القاضي فجلس
إلى جانبه
وجعل الحاضرون يثنون على ذلك البناء ويمدحونه، والقاضي ساكت لا يتكلم،
فالتفت إليه الملك وقال: ما تقول أنت يا أبا الحكم ؟ فبكى القاضي
وانحدرت دموعه على لحيته وقال: ما كنت أظن أن الشيطان أخزاه الله يبلغ
منك هذا المبلغ المفضح المهتك، المهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة، ولا
أنك تمكنه من قيادك مع ما آتاك الله وفضلك به على كثير من الناس، حتى
أنزلك منازل الكافرين والفاسقين.
قال الله تعالى (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر
بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبوابا
وسررا عليها يتكئون وزخرفا) الآية [ الزخرف: 33 ].
قال: فوجم الملك عند ذلك وبكى وقال: جزاك الله خيرا، وأكثر في المسلمين
مثلك.
وقد قحط في بعض السنين فأمره الملك أن يستسقي للناس، فلما جاءته
الرسالة مع البريد قال للرسول: كيف تركت الملك ؟ فقال تركته أخشع ما
يكون وأكثره دعاء وتضرعا.
فقال القاضي: سقيم والله، إذا خشع جبار الارض رحم جبار السماء.
ثم قال لغلامه: ناد في الناس
(11/327)
الصلاة.
فجاء الناس إلى محل الاستسقاء وجاء القاضي منذر فصعد المنبر والناس
ينظرون إليه ويسمعون ما يقول، فلما أقبل عليهم كان أول ما خاطبهم به
قال: (سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا
بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم) [ الانعام: 54 ] ثم
أعادها مرارا فأخذ الناس في البكاء والنحيب والتوبة والانابة، فلم
يزالوا كذلك حتى سقوا ورجعوا يخوضون الماء.
أبو الحسن علي بن أحمد ابن المرزبان الفقيه الشافعي، تفقه بأبي الحسين
بن القطان وأخذ عنه الشيخ أبو حامد الاسفراييني.
قال ابن خلكان: كان ورعا زاهدا ليس لاحد عنده مظلمة، وله في المذهب
وجه، وكان له درس ببغداد.
توفي في رجب منها.
ثم دخلت سنة سبع وستين وثلثمائة فيها دخل
عضد الدولة إلى بغداد وخرج منها عز الدولة بختيار واتبعه عضد الدولة
وأخذ معه
الخليفة فاستعفاه فأعفاه، وسار عضد الدولة وراه فأخذه أسيرا، ثم قتل
سريعا وتصرمت دولته واستقر أمر عضد الدولة ببغداد، وخلع عليه الخليفة
الخلع السنية والاسورة والطوق، وأعطاه لواءين أحدهما ذهب والآخر فضة،
ولم يكن هذا لغيره إلا لاولياء العهد، وأرسل إليه الخليفة بتحف سنية،
وبعث عضد الدولة إلى الخليفة أموالا جزيلة من الذهب والفضة واستقرت يده
على بغداد وما والاها من البلاد، وزلزلت بغداد مرارا في هذه السنة،
وزادت دجلة زيادة كثيرة غرق بسببها خلق كثير، وقيل لعضد الدولة إن أهل
بغداد قد قلوا كثيرا بسبب الطاعون وما وقع بينهم من الفتن بسبب الرفض
والسنة وأصابهم حريق وغرق، فقال: إنما يهيج الشر بين الناس هؤلاء
القصاص والوعاظ، ثم رسم أن أحدا لا يقص ولا يعظ في سائر بغداد ولا يسأل
سائل باسم أحد من الصحابة، وإنما يقرأ القرآن فمن أعطاه أخذ منه.
فعمل بذلك في البلد، ثم بلغه أن أبا الحسين بن سمعون الواعظ - وكان من
الصالحين - لم يترك الوعظ بل استمر على عادته، فأرسل إليه من جاء به،
وتحول عضد الدولة من مجلسه وجلس وحده لئلا يبدر من ابن مسعون إليه بين
الدولة كلام يكرهه، وقيل لابن سمعون: إذا دخلت على الملك فتواضع في
الخطاب وقبل التراب.
فلما دخل دار الملك وجده قد جلس وحده لئلا يبدر من ابن سمعون في حقه
كلام بحضرة الناس يؤثر عنه.
ودخل الحاجب بين يديه يستأذن له عليه ودخل ابن سمعون وراءه، ثم استفتح
القراءة بقوله (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة) الآية [ هود:
102 ].
ثم التفت بوجهه نحو دار عز الدولة ثم قرأ (ثم جعلناكم خلائف في الارض
من بعدهم لننظرهم كيف تعملون) [ يونس: 14 ] ثم أخذ في مخاطبة الملك
ووعظه فبكى عضد الدولة بكاء كثيرا، وجزاه خيرا.
فلما خرج من عنده قال للحاجب:
(11/328)
اذهب فخذ ثلاثة
آلاف درهم وعشرة أثواب وادفعها له فإن قبلها جئني برأسه، قال الحاجب:
فجئته فقلت: هذا أرسل به الملك إليك.
فقال: لا حاجة لي به، هذه ثيابي من عهد أبي منذ أربعين سنة كلما خرجت
إلى الناس لبستها، فإذا رجعت طويتها، ولي دار آكل من أجرتها تركها لي
أبي، فأنا في غنية عما أرسل به الملك.
فقلت: فرقها في فقراء أهلك.
فقال: فقراء أهله أحق بها من فقراء
أهلي، وأفقر إليها منهم.
فرجعت إلى الملك لاشاوره وأخبره بما قال، فسكت ساعة ثم قال: الحمد لله
الذي سلمه منا وسلمنا منه.
ثم إن عضد الدولة أخذ ابن بقية الوزير لعز الدولة فأمر به فوضع بين
قوائم الفيل فتخبطته بأرجلها حتى هلك، ثم صلب على رأس الجسر في شوال
منها، فرثها أبو الحسين بن الانباري بأبيات يقول فيها: علو في الحياة
وفي الممات * بحق أنت (1) إحدى المعجزات كأن الناس حولك حين قاموا *
وفود نداك أيام الصلات كأنك واقف (2) فيهم خطيبا * وكلهم وقوف (2)
للصلاة مددت يديك نحوهم احتفاء * كمدهما إليهم بالهباء (3) وهي قصيدة
طويلة أورد كثيرا منها ابن الاثير في كامله.
مقتل عز الدين بختيار
لما دخل عضد الدولة بغداد وتسلمها خرج منها بختيار ذليلا طريدا في فل
من الناس، ومن عزمه أن يذهب إلى الشام فيأخذها، وكان عضد الدولة قد
حلفه أن لا يتعرض لابي تغلب لمودة كانت بينهما ومراسلات، فحلف له على
ذلك، وحين خرج من بغداد كان معه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان فحسن
لعز الدولة أخذ بلاد الموصل من أبي تغلب، لانها أطيب وأكثر مالا من
الشام وأقرب إليه، وكان عز الدولة ضعيف العقل قليل الدين، فلما بلغ ذلك
أبا تغلب أرسل إلى عز الدولة يقول له: لئن أرسلت إلى ابن أخي حمدان بن
ناصر الدولة أغنيتك بنفسي وجيشي حتى آخذ لك ملك بغداد من عضد الدولة،
وأردك إليها.
فعند ذلك أمسك حمدان وأرسله إلى عمه أبي تغلب فسجنه في بعض القلاع وبلغ
ذلك عضد الدولة وأنهما قد اتفقا على حربه فركب إليهما بجيشه وأراد
إخراج الخليفة الطائع معه فاستعفاه فأعفاه، فذهب إليهما فالتقى معهما
فكسرهما وهزمهما (4)، وأخذ عز
__________
(1) في الكامل المطبوع 6 / 690: لحق تلك.
(2) كأنك قائم..وكلهم قيام (كذا في الكامل).
(3) في الكامل: نحوهم اقتفاء...في الهبات.
(4) وكان ذلك في ثامن عشر شوال بقصر الجص بنواحي تكريت.
فأسر بختيار ثم قتل وكان عمره ستا وثلاثين سنة وملك إحدى عشرة سنة
وشهورا (الكامل 8 / 691 وانظر العبر 3 / 431) (*).
(11/329)
الدولة أسيرا
وقتله من فوره، وأخذ الموصل ومعاملتها، وكان قد حمل معه ميرة كثيرة،
وشرد أبا تغلب في البلاد وبعث وراءه السرايا في كل وجه، وأقام بالموصل
إلى أواخر سنة ثمان وستين، وفتح ميافارقين وآمد وغيرهما من بلاد بكر
وربيعة، وتسلم بلاد مضر من أيدي نواب أبي تغلب، وأخذ منهم الرحبة ورد
بقيتها على صاحب حلب سعد الدولة بن سيف الدولة، وتسلط على سعد الدولة،
وحين رجع من الموصل استناب عليها أبا الوفا، وعاد إلى بغداد فتلقاه
الخليفة ورؤس الناس إلى ظاهر البلد، وكان يوما مشهودا.
مما وقع من الحوادث فيها الوقعة التي كانت بين العزيز بن المعز الفاطمي
وبين الفتكين غلام معز الدولة صاحب دمشق فهزمه وأسره وأخذه معه إلى
الديار المصرية مكرما معظما كما تقدم، وتسلم العزيز دمشق وأعمالها، وقد
تقدم بسط ذلك في سنة أربع وستين.
وفيها خلع على القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي بقضاء قضاة الري وما
تحت حكم مؤيد الدولة بن ركن الدولة، وله مصنفات حسنة، منها دلائل
النبوة وعمد الادلة وغيرها.
وحج بالناس فيها نائب المصريين وهو الامير باديس بن زيري أخو يوسف بن
بلكين.
ولما دخل مكة اجتمع إليه اللصوص وسألوا منه أن يضمنهم الموسم هذا العام
بما شاء من الاموال.
فأظهر لهم الاجابة إلى ما سألوا وقال لهم: اجتمعوا كلكم حتى أضمنكم
كلكم، فاجتمع عنده بضع وثلاثون حراميا، فقال: هل بقي منكم أحد ؟ فحلفوا
له إنه لم يبق منهم أحد.
فأخذ عند ذلك بالقبض عليهم وبقطع أيديهم كلهم، ونعما ما فعل.
وكانت الخطبة في الحجاز للفاطميين دون العباسيين،
وممن توفي فيها من الاعيان الملك عز
الدولة بخيتار بن بويه الديلمي ملك بعد أبيه وعمره فوق العشرين سنة
بقليل، وكان حسن الجسم شديد البطش قوي
القلب، يقال إنه كان يأخذ بقوائم الثور الشديد فيلقيه في الارض من غير
أعوان، ويقصد الاسود في أماكنها، ولكنه كان كثير اللهو واللعب والاقبال
على اللذات، ولما كسره ابن عمه ببلاد الاهواز كان في جملة ما أخذ منه
أمرد كان يحبه حبا شديدا لا يهنأ بالعيش إلا معه، فبعث يترفق له في رده
إليه، وأرسل إليه بتحف كثيرة وأموال جزيلة وجاريتين عوادتين لا قيمة
لهما، فرد عليه الغلام المذكور فكثر تعنيف الناس له عند ذلك وسقط من
أعين الملوك، فإنه كان يقول: ذهاب هذا الغلام مني أشد علي
__________
= وذكر ابن مسكويه في تجارب الامم، أن عضد الدولة دهش عندما أشار عليه
أبو الوفاء بقتله، فألح عليه، وخوفه من الابقاء عليه، وقال له: " ما
تنظر به، أن يعود ثانيا، وإلى متى يثير علينا الفتن التي لعلنا نكون من
صرعاه في بعضها.
افرغ منه " فرفع عضد الدولة يده إلى عينه يمسحها من الدموع وقال: أنتم
أعلم.
فبادر الحاجب إلى بختيار واحتز رأسه (*).
(11/330)
من أخذ بغداد من يدي، بل وأرض العراق كلها، ثم كان من أمره بعد ذلك أن
ابن عمه أسره كما ذكرنا وقتله سريعا فكانت مدة حياته ستا وثلاثين سنة،
ومدة دولته منها إحدى وعشرين (1) سنة وشهور، وهو الذي أظهر الرفض
ببغداد وجرى بسبب ذلك شرور كما تقدم.
محمد بن عبد الرحمن أبو بكر القاضي المعروف بابن قريعة، ولي القضاء
بالسندية، وكان فصيحا يأتي بالكلام المسجوع من غير تكلف ولا تردد، وكان
جميل المعاشرة ومن شعره: لي حيلة في من ينم * م وليس في الكذاب حيلة من
كان يخلق ما يقو * ل فحيلتي فيه قليله وكان يقول للرجل من أصحابه إذا
تماشيا: إذا تقدمت بين يديك فإني حاجب وإن تأخرت فواجب.
توفي يوم السبت لعشر بقين من جمادى الآخرة منها. |