البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ثمانين وثلثمائة من الهجرة فيها قلد الشريف أبو أحمد الحسن بن موسى الموسوي نقابة الاشراف الطالبيين والنظر في المظالم وإمرة الحاج، وكتب عهده بذلك واستخلف ولداه المرتضى أبو القاسم والرضي أبو الحسين على النقابة وخلع عليهما.
وفيها تفاقم الامر بالعيارين ببغداد وصار الناس أحزابا في كل محلة أمير مقدم، واقتتل الناس وأخذت الاموال واتصلت الكبسات وأحرقت دور كبار، ووقع حريق بالنهار في نهر الدجاج، فاحترق بسببه شئ كثير للناس والله أعلم.
وفيها توفي من الاعيان...يعقوب بن يوسف أبو الفتوح بن كلس، وزير العزيز صاحب مصر، وكان شهما فهما ذا همة وتدبير وكلمة نافذة عند مخدومه، وقد فوض إليه أموره في سائر مملكته، ولما مرض عاده العزيز ووصاه الوزير بأمر مملكته ولما مات دفنه في قصره وتولى دفنه بيده وحزن عليه كثيرا، وأغلق الديوان أياما من شدة حزنه عليه.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وثلثمائة فيها كان القبض على الخليفة الطائع لله وخلافة القادر بالله أبي العباس أحمد بن الامير إسحاق بن المقتدر بالله، وكان ذلك في يوم السبت التاسع عشر من شعبان منها، وذلك أنه جلس الخليفة على عادته في الرواق وقعد الملك بهاء الدولة على السرير، ثم أرسل من اجتذب الخليفة
__________
(2) من تذكرة الحفاظ 3 / 980: المظفر (والوافي بالوفيات 5 / 34 وتاريخ بغداد 3 / 262) وفي الاصل المطرف وهو تحريف.
(3) في التذكرة: ست وثمانين ومائتين (*).

(11/352)


بحمائل عن السرير ولفوه في كساء وحملوه إلى الخزانة بدار المملكة، وتشاغل الناس بالنهب ولم يدر أكثر الناس ما الخطب وما الخبر، حتى أن كبير المملكة بهاء الدولة ظن الناس أنه هو الذي مسك، فنهبت الخزائن والحواصل وأشياء من أثاث دار الخلافة، حتى أخذ ثياب الاعيان والقضاة
والشهود وجرت كائنة عظيمة جدا، ورجع بهاء الدولة إلى داره وكتب على الطائع كتابا بالخلع من الخلافة (1)، وأشهد عليه الاشراف وغيرهم أنه قد خلع نفسه من الخلافة وسلمها إلى القادر بالله، ونودي بذلك في الاسواق، وسبقت الديلم والاتراك وطالبوا برسم البيعة، وراسلوا بهاء الدولة في ذلك وتطاول الامر في يوم الجمعة، ولم يمكنوا من الدعاء له على المنبر بصريح اسمه، بل قالوا اللهم أصلح عبدك وخليفتك القادر بالله، ثم أرضوا وجوههم وأكابرهم وأخذت البيعة له واتفقت الكلمة، وأمر بهاء الدولة بتحويل جميع ما في دار الخلافة من الاواني والاثاث وغيره إلى داره، وأبيحت للعامة والخاصة، فقلعوا وشعثوا أبنيتها، هذا والخليفة القادر قد هرب إلى أرض البطيحة من الطائع حين كان يطلبه، ولما رجع إلى بغداد مانعته الديم من الدخول إليها حتى يعطيهم رسم البيعة، وجرت بنهم خطوب طويلة، ثم رضوا عنه ودخل بغداد، وكانت مدة هربه إلى أرض البطيحة ثلاث سنين.
ولما دخل بغداد جلس في اليوم الثاني جلوسا عاما إلى التهنئة وسماع المدائح والقصائد فيه، وذلك في العشر الاخير من شوال، ثم خلع على بهاء الدولة وفوض إليه ما وراء بابه، وكان الخليفة القادر بالله من خيار الخلفاء وسادات العلماء في ذلك الزمان، وكان كثير الصدقة حسن الاعتقاد، وصنف قصيدة فيها فضائل الصحابة وغير ذلك، فكانت تقرأ في حلق أصحاب الحديث كل جمعة في جامع المهدي، وتجتمع الناس لسماعها مدة خلافته، وكان ينشد هذه الابيات يترنم بها وهي لسابق البربري: سبق القضاء بكل ما هو كائن * والله يا هذا لرزقك ضامن تعنى بما تكفي وتترك ما به * تعنى كأنك للحواث آمن أو ما ترى الدنيا ومصرع أهلها * فاعمل ليوم فراقها يا خائن واعلم بأنك لا أبا لك في الذي * أصبحت تجمعه لغير خازن يا عامر الدنيا أتعمر منزلا * لم يبق فيه مع المنية ساكن الموت شئ أنت تعلم أنه * حق وأنت بذكره متهاون إن المنية لا تؤامر من أتت * في نفسه يوما ولا تستأذن
__________
(1) في الكامل 9 / 79 والعبر 3 / 436: كان السبب في خلعه: أن بهاء الدولة قلت عنده الاموال، فكثر شغب الجند فقبض على وزيره سابور فلم يغن عنه ذلك شيئا وانظر أبي شجاع: ذيل تجارب الامم ص 201، وقال ابن دقماق في الجوهر الثمين 1 / 188 إن سبب خلعه أنه استوزر وزيرين استخفا بالشريعة ومالا إلى النجامة والقول بالطبيعة فقبض على ابن المعلم وهو من خواص بهاء الدولة.
(انظر دول الاسلام 1 / 232 تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 164) (*).

(11/353)


وفي اليوم الثالث عشر من ذي الحجة - وهو يوم غدير خم - جرت فتنة بين الروافض والسنة واقتتلوا فقتل منهم خلق كثير، واستظهر أهل باب البصرة وحرقوا أعلام السلطان، فقتل جماعة اتهموا بفعل ذلك.
وصلبوا على القناطر ليرتدع أمثالهم.
وفيها ظهر أبو الفتوح الحسين بن جعفر العلوي أمير مكة، وادعى أنه خليفة، وسمى نفسه الراشد بالله، فمالاه أهل مكة وحصل له أموال من رجل أوصى له بها، فانتظم أمره بها، وتقلد سيفا وزعم أنه ذو الفقار، وأخذ بيده قضيبا زعم أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قصد بلاد الرملة ليستعين بعرب الشام، فتلقوه بالرحب وقبلوا له الارض، وسلموا عليه بأمير المؤمنين، وأظهر الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود.
ثم أن الحاكم صاحب مصر - وكان قد قام بالامر من بعد أبيه العزيز في هذه السنة - بعث إلى عرب الشام بملطفات ووعدهم من الذهب بألوف ومئات، وكذلك إلى عرب الحجاز، واستناب على مكة أميرا وبعث إليه بخمسين ألف دينار، فانتظم أمر الحاكم وتمزق أمر الراشد، وانسحب إلى بلاده كما بدأ منها، وعاد إليها كما خرج عنها، واضمحل حاله وانتقضت حباله، وتفرق عنه رجاله.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن الحسين بن مهران أبو بكر المقري، توفي في شوال منها عن ست وثمانين سنة، واتفق له أنه مات في يوم وفاته أبو الحسن العامري الفيلسوف، فرأى بعض الصالحين أحمد بن الحسين بن مهران هذا في المنام فقيل له: ما فعل الله بك ؟ فقال: أقام أبا الحسن العامري بجانبي، وقال: هذا فداؤك من النار.
عبد الله بن أحمد بن معروف أبو محمد قاضي قضاة بغداد روى عن ابن صاعد وعنه الخلال والازهري وغيرهما، وكان من العلماء الثقات العقلاء الفطناء، حسن الشكل جميل اللبس، عفيفا عن الاموال، توفي عن خمس وسبعين سنة، وصلى عليه أبو أحمد الموسوي، فكبر عليه خمسا، ثم صلى عليه ابنه بجامع المنصور فكبر عليه أربعا، ثم دفن في داره سامحه الله.
جوهر بن عبد الله القائد باني القاهرة، أصله أرمني ويعرف بالكاتب، أخذ مصر بعد موت كافور الاخشيدي، أرسله مولاه العزيز الفاطمي إليها في ربيع الاول سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، فوصل إليها في شعبان منها في مائة ألف مقاتل، ومائتي صندوق لينفقه في عمارة القاهرة، فبرزوا لقتاله فكسرهم وجدد الامان لاهلها، ودخلها يوم الثلاثاء لثمان عشرة خلت من شعبان، فشق مصر ونزل في مكان القاهرة

(11/354)


اليوم، وأسس من ليلته القصرين وخطب يوم الجمعة الآتية لمولاه، وقطع خطبة بني العباس، وذكر في خطبته الائمة الاثني عشر، وأمر فأذن بحي على خير العمل، وكان يظهر الاحسان إلى الناس، ويجلس كل يوم سبت مع الوزير ابن الفرات والقاضي، واجتهد في تكميل القاهرة وفرغ من جامعها الازهر سريعا، وخطب به في سنة إحدى وستين، وهو الذي يقال له الجامع الازهر، ثم أرسل جعفر بن فلاح إلى الشام فأخذها، ثم قدم مولاه المعز في سنة اثنتين وستين كما تقدم، فنزل بالقصرين ولم تزل منزلته عالية عنده إلى أن مات في هذه السنة، وقام مكانه الحسين (1) الذي كان يقال له قائد القواد، وهو أكبر أمراء الحاكم، ثم كان قتله على يديه في سنة إحدى وأربعمائة، وقتل معه صهره زوج أخته القاضي عبد العزيز بن النعمان، وأظن هذا القاضي هو الذي صنف البلاغ الاكبر، والناموس الاعظم، الذي فيه من الكفر ما لم يصل إبليس إلى مثله، وقد رد على هذا الكتاب أبو بكر الباقلاني رحمه الله.
ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين وثلثمائة
في عاشر محرمها أمر الوزير أبو الحسن علي بن محمد الكوكبي - ويعرف بابن المعلم وكان قد استحوذ على السلطان - أهل الكرخ وباب الطاق من الرافضة بأن لا يفعلوا شيئا من تلك البدع التي كانوا يتعاطونها في عاشوراء: من تعليق المسوح وتغليق الاسواق والنياحة على الحسين، فلم يفعلوا شيئا من ذلك ولله الحمد.
وقد كان هذا الرجل من أهل السنة إلا أنه كان طماعا، رسم أن لا يقبل أحدا من الشهود ممن أحدثت عدالته بعد ابن معروف، وكان كثير منهم قد بذل أموالا جزيلة في ذلك، فاحتاجوا إلى أن جمعوا له شيئا فوقع لهم بالاستمرار، ولما كان في جمادى الآخرة سعت الديلم والترك على ابن المعلم هذا وخرجوا بخيامهم إلى باب الشماسية وراسلوا بهاء الدولة ليسلمه إليهم، لسوء معاملته لهم، فدافع عنه مدافعة عظيمة في أيام متعددة، ولم يزالوا يراسلونه في أمره حتى خنقه في حبل ومات ودفن بالمحرم.
وفي رجب منها سلم الخليفة الطائع الذي خلع إلى الخليفة القادر فأمر بوضعه في حجرة من دار الخلافة وأمر أن تجري عليه الارزاق والتحف والالطاف، مما يستعمله الخليفة القادر من مأكل وملبس وطيب وغيره ووكل به من يحفظه ويخدمه، وكان يتعنت على القادر في تقلله في المأكل والملبس، فرتب من يحضر له من سائر الانواع، ولم يزالوا كذلك حتى توفي وهو في السجن.
وفي شوال منها ولد للخليفة القادر ولد وذكر، وهو أبو الفضل محمد بن القادر بالله، وقد ولاه العهد من بعده وسماه الغالب بالله، فلم يتم له الامر.
وفي هذا الوقت غلت الاسعار ببغداد حتى بيع رطل الخبز بأربعين درهما، والجزر بدرهم.
وفي ذي القعدة قام صاحب الصفراء الاعرابي والتزم بحراسة
__________
(1) وهو الحسين بن جوهر، وكان قد خاف على نفسه من الحاكم فهرب هو وولده وصهره فأرسل الحاكم من ردهم وطيب قلوبهم وآنسهم مدة مديدة ثم قتلهم.
(الوفيات 1 / 380) (*).

(11/355)


الحجاج في ذهابهم وإيابهم، وأن يخطب للقادر من اليمامية والبحرين إلى الكوفة، فأجيب إلى ذلك، وأطلقت له الخلع والاموال والاواني وغيرها.
وممن توفي فيها من الاعيان...محمد بن العباس
ابن محمد بن محمد بن زكريا بن يحيى بن معاذ أبو عمر الخزاز (1) المعروف بابن حيوة (2)، سمع البغوي والباغندي وابن صاعد وخلقا كثيرا، وانتقد عليه الدار قطني وسمع منه الاعيان، وكان ثقة دينا متيقظا ذا مروءة، وكتب من الكتب الكبار كثيرا بيده، وكانت وفاته في ربيع الآخر منها وقد قارب التسعين.
أبو أحمد العسكري الحسن بن عبد الله بن سعيد أحد الائمة في اللغة والادب والنحو والنوادر، وله في ذلك تصانيف مفيدة، منها التصحيف وغيره، وكان الصاحب بن عباد يود الاجتماع به فسافر إلى عسكر خلفه حتى اجتمع به فأكرمه وارسله بالاشعار.
توفي فيها وله تسعون سنة.
كذا ذكره ابن خلكان.
وذكره ابن الجوزي فيمن توفي في سنة سبع وثمانين كما سيأتي.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة فيها أمر القادر بالله بعمارة مسجد الحربية وكسوته، وأن يجري مجرى الجوامع في الخطب وغيرها وذلك بعد أن استفتى العلماء في جواز ذلك.
قال الخطيب البغدادي: أدركت الجمعة تقام ببغداد في مسجد المدينة، ومسجد الرصافة، ومسجد دار الخلافة، ومسجد براثا، ومسجد قطيعة أم جعفر، ومسجد الحربية.
قال: ولم يزل الامر على هذا إلى سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، فتعطلت في مسجد براثا.
وفي جمادى الاولى فرغ من الجسر الذي بناه بهاء الدولة في مشرعة القطانين، واجتاز عليه هو بنفسه، وقد زين المكان.
وفي جمادى الآخرة شعثت الديالم والاتراك في نواحي البلد لتأخر العطاء عنهم، وغلت الاسعار وراسلوا بهاء الدولة فأزيحت عللهم.
وفي يوم الخميس الثاني من ذي القعدة تزوج الخليفة سكينة بنت بهاء الدولة على صداق مائة
__________
(1) من الوافي 3 / 199 وابن الاثير 9 / 95: الخزاز، وفي الاصل القزاز.
(2) في ابن الاثير: حسنويه، وفي الوافي حيويه.
وفيه ذكره: محمد بن العباس بن محمد بن زكريا بن يحيى بن معاذ (*).

(11/356)


ألف دينار وكان وكيل بهاء الدولة الشريف أبو أحمد الموسوي، ثم توفيت هذه المرأة قبل دخول الخليفة
بها.
وفيها ابتاع الوزير أبو نصر سابور بن أزدشير دارا بالكرخ وجدد عمارتها، ونقل إليها كتبا كثيرة، ووقفها على الفقهاء، وسماها دار العلم.
وأظن أن هذه أول مدرسة وقفت على الفقهاء، وكانت قبل النظامية بمدة طويلة.
وفيها في أواخرها ارتفعت الاسعار وضاق الحال وجاع العيال (1).
وفيها توفي من الاعيان..أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن شاذان بن حرب بن مهران، أبو بكر البزار، سمع الكثير من البغوي وابن صاعد وابن أبي داود وابن دريد، وعنه الدار قطني والبرقاني والازهري وغيرهم، وكان ثبتا صحيح السماع، كثير الحديث، متحريا ورعا.
توفي عن خمس وثمانين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وثلثمائة فيها عظم الخطب بأمر العيارين، عاثوا ببغداد فسادا وأخذوا الاموال والعملات الثقال ليلا ونهارا، وحرقوا مواضع كثيرة، وأخذوا من الاسواق الجبايات، وتطلبهم الشرط فلم يفد ذلك شيئا ولا فكروا في الدولة، بل استمروا على ما هم عليه من أخذ الاموال، وقتل الرجال، وإرعاب النساء والاطفال، في سائر المحال.
فلما تفاقم الحال بهم تطلبهم السلطان بهاء الدولة وألح في طلبهم فهربوا بين يديه واستراح الناس من شرهم.
وأظن هذه الحكايات التي يذكرها بعض الناس عن أحمد الدنف عنهم، أو كان منهم والله أعلم.
وفي ذي القعدة عزل الشريف الموسوي وولداه عن نقابة الطالبيين (2).
وفيها رجع ركب العراق من أثناء الطريق بعد ما فاتهم الحج، وذلك أن الاصيفر الاعرابي الذي كان قد تكفل بحراستهم اعترض لهم في الطريق وذكر لهم أن الدنانير التي أقطعت له من دار الخلافة كانت دارهم مطلية، وأنه يريد من الحجيج بدلها وإلا لا يدعهم يتجاوزوا هذا المكان، فمانعوه وراجعوه، فحبسهم عن السير حتى ضاق الوقت ولم يبق فيه ما يدركوا فيه الحج فرجعوا إلى بلادهم، ولم يحج منهم أحد، وكذلك ركب الشام وأهل اليمن لم يحج منهم أحد، وإنما حج أهل مصر والمغرب خاصة.
وفي يوم عرفة قلد الشريف أبو الحسين (3) الزينبي محمد بن علي بن أبي تمام الزينبي نقابة
__________
(1) بيعت كارة الدقيق بمائتين وستين درهما، وكر الحنطة بستة آلاف وستمائة درهم.
(2) وولى مكانه نقابة الطالبيين أبا الحسن النهر سابسي.
(الكامل 9 / 105).
(3) في الكامل: أبو الحسن.
وقد تولاها بعد وفاة والده أبي القاسم (*).

(11/357)


العباسيين، وقرئ عهده بين يدي الخليفة بحضرة القضاة والاعيان.
وفيها توفي من الاعيان الصابئي الكاتب المشهور صاحب التصانيف، وهو: إبراهيم بن هلال ابن إبراهيم بن زهرون بن حبون أبو إسحاق الحراني كاتب الرسائل للخليفة ولمعز الدولة بن بويه، كان على دين الصابئة إلى أن مات عليه، وكان مع هذا يصوم رمضان ويقرأ القرآن من حفظه، وكان يحفظه حفظا حسنا، ويستعمل منه في الرسائل، وكانوا يحرضون عليه أن يسلم فلم يفعل، وله شعر جيد قوي.
توفي في شوال منها وقد تجاوز السبعين، وقد جاوز السبعين، وقد رثاه الشريف الرضي وقال: إنما رثيت فضائله (1)، وليس له فضائل ولا هو أهل لها ولا كرامة.
عبد الله بن محمد ابن نافع بن مكرم أبو العباس البستي الزاهد، ورث من آبائه أموالا كثيرة فأنفقها كلها في وجوه الخير والقرب، وكان كثير العبادة، يقال إنه مكث سبعين سنة لم يستند إلى حائط ولا إلى شئ، ولا اتكأ على وسادة، وحج من نيسابور ماشيا حافيا، ودخل الشام وأقام بيت المقدس شهورا، ثم دخل مصر وبلاد المغرب، وحج من هناك ثم رجع إلى بلاده بست، وكان له بها بقية أموال وأملاك فتصدق بها كلها، ولما حضرته الوفاة جعل يتألم ويتوجع، فقيل له في ذلك فقال: أرى بين يدي أمورا هائلة، ولا أدري كيف أنجو منها.
توفي في الحرم من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة، وليلة موته رأت امرأة أمها بعد موتها وعليها ثياب حسان وزينة فقالت: يا أمه ما هذه الزينة ؟ فقالت: نحن في عيد لاجل قدوم عبد الله بن محمد الزاهد البستي علينا رحمه الله تعالى.
علي بن عيسى بن عبيد الله (2)
أبو الحسن النحوي المعروف بالرماني، روى عن ابن دريد، وكانت له يد طولى في النحو واللغة والمنطق والكلام، وله تفسير كبير وشهد عند ابن معروف فقبله، وروى عنه التنوخي والجوهري، قال ابن خلكان: والرماني نسبة إلى بيع الرمان أو إلى قصر الرمان بواسط، توفي عن ثمان وثمانين سنة ودفن في الشونيزية عند قبر أبي علي الفارسي.
__________
(1) ومنها في ديوانه 1 / 381: جبل هوى لو خر في البحر اغتدى * من وقعه متتابع الازباد ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى * أن الثرى يعلو على الاطواد (2) في الكامل 9 / 106 والوفيات 3 / 299: علي بن عيسى بن علي بن عبد الله (*).

(11/358)


محمد بن العباس بن أحمد بن القزاز أبو الحسن الكاتب المحدث الثقة المأمون.
قال الخطيب: كان ثقة، كتب الكثير وجمع ما لم يجمعه أحد في وقته، بلغني أنه كتب مائة تفسير ومائة تاريخ، وخلف ثمانية عشر صندوقا مملوءة كتبا أكثرها بخطه سوى ما سرق له، وكان حفظه في غاية الصحة، ومع هذا كان له جارية تعارض معه - أي تقابل ما يكتبه - رحمه الله تعالى.
محمد بن عمران بن موسى بن (1) عبيد الله أبو عبد الله (2) الكاتب المعروف بابن المرزبان، روى عن البغوي وابن دريد وغيرهما، وكان صاحب اختيار وآداب، وصنف كتبا كثيرة في فنون مستحسنة، وهو مصنف كتاب تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، وكان مشايخه وغيرهم يحضرون عنده ويبيتون في داره على فرش وأطعمة وغير ذلك، وكان عضد الدولة إذا اجتاز بداره لا يجوز حتى يسلم عليه، وكان يقف حتى يخرج إليه، وكان أبو علي الفارسي يقول عنه: هو من محاسن الدنيا.
وقال العقيقي: كان ثقة.
وقال الازهري: ما كان ثقة.
وقال ابن الجوزي: ما كان من الكذابين وإنما كان فيه تشيع واعتزال.
ويخلط السماع بالاجازة، وبلغ الثمانين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وثلثمائة فيها استوزر ابن ركن الدولة بن بويه أبا العباس أحمد بن إبراهيم الضبي، الملقب بالكافي، وذلك بعد وفاة الصاحب إسماعيل بن عباد، وكان من مشاهير الوزراء.
وفيها قبض بهاء الدولة على القاضي عبد الجبار وصادره بأموال جزيلة، فكان من جملة ما بيع له في المصادرة ألف طيلسان وألف ثوب معدني، ولم يحج في هذه السنة وما قبلها وما بعدها ركب العراق، والخطبة في الحرمين للفاطميين.
وممن توفي فيها من الاعيان...الصاحب بن عباد وهو إسماعيل بن عباد بن عباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني (3)، أبو القاسم الوزير
__________
(1) في الوفيات 4 / 354: ابن سعيد بن عبيد الله.
(2) في الكامل 9 / 106 والوفيات: أبو عبيد الله.
(3) الطالقاني: نسبة إلى الطالقان بلدة بين قزوين وأبهر.
وهناك طالقان أخرى في خراسان فالصاحب من طالقان قزوين (*).

(11/359)


المشهور بكافي الكفاة، وزر لمؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بويه، وقد كان من العلم والفضيلة والبراعة والكرم والاحسان إلى العلماء والفقراء على جانب عظيم، كان يبعث في كل سنة إلى بغداد بخمسة آلاف دينار لتصرف على أهل العلم، وله اليد الطولى في الادب، وله مصنفات في فنون العلم واقتنى كتبا كثيرة، وكانت تحمل على أربعمائة بعير، ولم يكن في وزراء بني بويه مثله ولا قريب منه في مجموع فضائله، وقد كانت دولة بني بويه مائة وعشرين سنة وأشهرا، وفتح خمسين قلعة لمخدومه مؤيد الدولة، وابنه فخر الدولة، بصرامته وحسن تدبيره وجودة رأيه، وكان يحب العلوم الشرعية، ويبغض الفلسفة وما شابهها من علم الكلام والآراء البدعية، وقد مرض مرة بالاسهال فكان كلما قام عن المطهرة وضع عندها عشر دنانير لئلا يتبرم به الفراشون، فكانوا يتمنون لو طالت
علته، ولما عوفي أباح للفقراء نهب داره، وكان فيها ما يساوي نحوا من خمسين ألف دينار من الذهب، وقد سمع الحديث من المشايخ الجياد العوالي الاسناد، وعقد له في وقت مجلس للاملاء فاحتفل الناس لحضوره، وحضره وجوه الامراء، فلما خرج إليه لبس زي الفقهاء وأشهد على نفسه بالتوبة والانابة مما يعانيه من أمور السلطان، وذكر للناس أنه كان يأكل من حين نشأ إلى يومه هذا من أموال أبيه وجده مما ورثه منهم، ولكن كان يخالط السلطان وهو تائب مما يمارسونه، واتخذ بناء في داره سماه بيت التوبة، ووضع العلماء خطوطهم بصحة توبته، وحين حدث استملى عليه جماعة لكثرة مجلسه، فكان في جملة من يكتب عنه ذلك اليوم القاضي عبد الجبار الهمداني وأضرابه من رؤس الفضلاء وسادات الفقهاء والمحدثين، وقد بعث إليه قاضي قزوين بهدية كتب سنية، وكتب معها: العميدي (1) عبد كافي الكفاة وأنه * أعقل في وجوه القضاة خدم المجلس الرفيع، بكتب * منعمات (2)، من حسنها مترعات فلما وصلت إليه أخذ منها كتابا واحدا ورد باقيها وكتب تحت البيتين: قد قبلنا من الجميع كتابا * ورددنا لوقتها الباقيات لست أستغنم الكثير وطبعي * قول: خذ ليس مذهبي قول هات وجلس مرة في مجلس شراب فناوله الباقي كأسا، فلما أراد شربها قال له بعض خدمه: إن هذا الذي في يدك مسموم.
قال: وما الشاهد على صحة قولك ؟ قال تجربه، قال: فيمن ؟ قال في الساقي.
قال ويحك لا أستحل ذلك، قال ففي دجاجة، قال: إن التمثيل بالحيوان لا يجوز، ثم أمر بصب ما في ذلك القدح وقال للساقي: لا تدخل بعد اليوم داري، ولم يقطع عنه معلومه.
وقد عمل عليه الوزير أبو الفتح ابن ذي الكفايتين حتى عزله عن وزارة مؤيد الدولة في وقت وباشرها
__________
(1) في اليتيمة 3 / 231: العميري، وهو قاضي قزوين، صاحب البيتين (2) في اليتيمة: مفعمات (*).

(11/360)


عوضه واستمر فيها مدة فبينما هو ذات ليلة قد اجتماع عنده أصحابه وهو في أتم السرور، قد هيئ
له في مجلس حافل بأنواع اللذات، وقد نظم أبياتا والمغنون يغنونه بها وهو في غاية الطرب والسرور والفرح، وهي هذه الابيات: دعوت الهنا ودعوت العلا (1) * فلما أجابا دعوت القدح وقلت لايام شرخ الشبا * ب إلي.
فهذا أوان الفرح إذا بلغ المرء آماله * فليس له بعدها منتزح (2) ثم قال لاصحابه: باكروني غدا إلى الصبوح، ونهض إلى بيت منامه فما أصبح حتى قبض عليه مؤيد الدولة وأخذ جميع ما في داره من الحواصل والاموال، وجعله مثلة في العباد، وأعاد إلى وزارته ابن عباد.
وقد ذكر ابن الجوزي: أن ابن عباد هذا حين حضرته الوفاة جاءه الملك فخر الدولة بن مؤيد الدولة يعوده ليوصيه في أموره فقال له: إني موصيك أن تستمر في الامور على ما تركتها عليه، ولا تغيرها، فإنك إن استمريت بها نسبت إليك من أول الامر إلى آخره، وإن غيرتها وسلكت غيرها نسب الخير المتقدم إلى لا إليك، وأنا أحب أن تكون نسبة الخير إليك وإن كنت أنا المشير بها عليك.
فأعجبه ذلك منه واستمر بما أوصاه به من الخير، وكانت وفاته في عشية يوم الجمعة لست بقين من صفر منها.
قال ابن خلكان: وهو أول من تسمى من الوزراء بالصاحب، ثم استعمل بعده منهم، وإنما سمي بذلك لكثرة صحبته الوزير أبا الفضل بن العميد، ثم أطلق عليه أيام وزارته.
وقال الصابئ في كتابه الناجي: إنما سماه الصاحب مؤيد الدولة لانه كان صحابه من الصغر، وكان إذ ذاك يسميه الصاحب، فلما ملك واستوزره سماه به واستمر فاشتهر به، وسمي به الوزراء بعده، ثم ذكر ابن خلكان قطعة صالحة من مكارمه وفضائله وثناء الناس عليه، وعدد له مصنفات كثيرة، منها كتابه المحيط في اللغة في سبع مجلدات، يحتوي على أكثر اللغة وأورد من شعره أشياء منها في الخمر: رق الزجاج وراقت (3) الخمر * وتشابها فتشاكل الامر فكأنما خمر ولا قدح * وكأنما قدح ولا خمر قال ابن خلكان: توفي بالري في هذه السنة وله نحو ستين سنة ونقل إلى أصبهان رحمه الله.
الحسن بن حامد أبو محمد الاديب، كان شاعرا متجولا كثير المكارم، روى عن علي بن محمد بن سعيد الموصلي
__________
(1) في اليتيمة 3 / 218: المنى.
(2) في اليتيمة: مقترح.
(3) في الوفيات 1 / 230: رقت (*).

(11/361)


عنه الصوري، وكان صدوقا.
وهو الذي أنزل المتنبي داره حين قدم بغداد وأحسن إليه حتى قال له لمتنبي: لو كنت مادحا تاجرا لمدحتك، وقد كان أبو محمد هذا شاعرا ماهرا، فمن شعره الجيد قوله: شربت المعالي غير منتظر بها * كسادا ولا سوقا يقام لها أحرى وما أنا من أهل المكاسب كلما * توفرت الاثمان كنت لها أشرى ابن شاهين الواعظ عمر بن أحمد بن عثمان بن محمد بن أيوب بن زذان، أبو حفص المشهور، سمع الكثير وحدث عن الباغندي وأبي بكر بن أبي داود والبغوي، وابن صاعد، وخلق.
وكان ثقة أمينا، يسكن الجانب الشرقي من بغداد، وكانت له المصنفات العديدة.
ذكر عنه أنه صنف ثلثمائة وثلاثين مصنفا منها التفسير في ألف جزء، والمسند في ألف وخمسمائة جزء، والتاريخ في مائة وخمسين جزءا، والزاهد في مائة جزء.
توفي في ذي الحجة منها وقد قارب التسعين رحمه الله.
الحافظ الدار قطني علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن دينار بن عبد الله الحافظ الكبير، أستاذ هذه الصناعة، وقبله بمدة وبعده إلى زماننا هذا، سمع الكثير، وجمع وصنف وألف وأجاد وأفاد، وأحسن النظر والتعليل والانتقاد والاعتقاد، وكان فريد عصره، ونسيج وحده، وإمام دهره في أسماء الرجال وصناعة التعليل، والجرح والتعديل، وحسن التصنيف والتأليف، وأتساع الرواية،
والاطلاع التام في الدراية، له كتابه المشهور من أحسن المصنفات في بابه، لم يسبق إلى مثله ولا يلحق في شكله إلا من استمد من بحره وعمل كعمله، وله كتاب العلل بين فيه الصواب من الدخل، والمتصل من المرسل والمنقطع والمعضل، وكتاب الافراد الذي لا يفهمه، فضلا عن أن ينظمه، إلا من هو من الحفاظ الافراد، والائمة النقاد، والجهابذة الجياد، وله غير ذلك من المصنفات التي هي كالعقود في الاجياد، وكان من صغره موصوفا بالحفظ الباهر، والفهم الثاقب، والبحر الزاخر، جلس مرة في مجلس إسماعيل الصفار وهو يملي على الناس الاحاديث، والدار قطني ينسخ في جزء حديث، فقال له بعض المحدثين في أثناء المجلس: إن سماعك لا يصح وأنت تنسخ، فقال الدار قطني: فهمي للاملاء أحسن من فهمك وأحضر، ثم قال له ذلك الرجل: أتحفظ كم أملى حديثا ؟ فقال: إنه أملى ثمانية عشر حديثا إلى الآن، والحديث الاول منها عن فلان عن فلان، ثم ساقها كلها بأسانيدها وألفاظها لم يخرم منها شيئا، فتعجب الناس منه.
وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: لم ير الدار قطني مثل نفسه.
وقال ابن الجوزي: وقد اجتمع له مع معرفة الحديث والعلم بالقراءات والنحو والفقه والشعر مع الامامة والعدالة، وصحة العقيدة، وقد كانت وفاته في

(11/362)


يوم الثلاثاء السابع (1) من ذي القعدة منها، وله من العمر سبع وسبعون سنة ويومان، ودفن من الغد بمقبرة معروف الكرخي رحمه الله.
قال ابن خلكان: وقد رحل إلى الديار المصرية فأكرمه الوزير أبو الفضل جعفر بن خنزابة وزير كافور الاخشيدي، وساعده هو والحافظ عبد الغني على إكمال مسنده، وحصل للدار قطني منه مال جزيل.
قال: والدار قطني نسبة إلى دار القطن وهي محلة كبيرة ببغداد، وقال عبد الغني بن سعيد الضرير: لم يتكلم على الاحاديث مثل علي بن المديني (2) في زمانه، وموسى بن هارون (3) في زمانه، والدار قطني في زمانه.
وسئل الدار قطني: هل رأى مثل نفسه ؟ قال: أما في فن واحد فربما رأيت من هو أفضل مني، وأما فيما اجتمع لي من الفنون فلا.
وقد روى الخطيب البغدادي عن الامير أبي نصر هبة الله بن ماكولا قال: رأيت في المنام كأني أسأل عن حال أبي الحسن الدار قطني وما آل أمره إليه في
الآخرة، فقيل لي ذاك يدعى في الجنة الامام.
عباد بن عباس بن عباد أبو الحسن الطالقاني، والد الوزير إسماعيل بن عباد المتقدم ذكره، سمع أبا خليفة الفضل بن الحباب وغيره من البغداديين والاصفهانيين والرازيين وغيرهم، وحدث عنه ابنه الوزير أبو الفضل القاسم، وأبو بكر بن مردويه، ولعباد هذا كتاب في أحكام القرآن، وقد اتفق موته وموت ابنه في هذه السنة رحمهما الله.
عقيل بن محمد بن عبد الواحد أبو الحسن الاحنف العكبري الشاعر المشهور، له ديوان مفرد، ومن مستجاد شعره ما ذكره ابن الجوزي في منتظمه قوله: أقضى علي من الاجل * عذل العذول إذا عذل وأشد من عذل العذو * ل صدود إلف قد وصل وأشد من هذا وذا * طلب النوال من السفل وقوله: من أراد العز والرا * حة من هم طويل
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 3 / 995 ووفيات الاعيان 3 / 298: ثامن.
(2) علي بن عبد الله بن جعفر المديني ولد سنة 161 وتوفي بسامرا سنة 234 ه.
وقد تقدم.
(3) موسى بن هارون الحمال الحجة البغدادي محدث العراق توفي سنة 294.
وقد تقدم (*).

(11/363)


فليكن فردا في النا * س ويرضى بالقليل ويرى أن سيري * كافيا عما قليل ويرى بالحزم أن الحز * م في ترك الفضول ويداوي مرض الوح * دة بالصبر الجميل
لا يماري أحدا ما * عاش في قال وقيل يلزم الصمت فإن الصم * ت تهذيب العقول يذر الكبر لاهل الكب * ر ويرضى بالخمول أي عيش لا مرئ * يصبح في حال ذليل بين قصد من عدو * ومداراة جهول واعتلال من صدي * ق وتجنى من ملول واحتراس من ظنون السو * ء مع عذل العذول ومقاسات بغيض ومداناة ثقيل أف من معرفة النا * س على كل سبيل وتمام الامر لا يع * رف سمحا من بخيل فإذا أكمل هذا كا * ن في ضل ظليل محمد بن عبد الله بن سكرة أبو الحسين الهاشمي، من ولد علي بن المهدي، كان شاعرا خليعا ظريفا، وكان ينوب في نقابة الهاشميين.
فترافع إليه رجل اسمه علي وامرأة اسمها عائشة يتحاكمان في جمل فقال هذه قضية لا أحكم فيها بشئ لئلا يعود الحال خدعة.
ومن مستجاد شعره ولطيف قوله: في وجه إنسانة كلفت بها * أربعة ما اجتمعن في أحد الوجه بدر (1)، والصدغ غالية * والريق خمر، والثغر من برد وله في قوله وقد دخل حمام فسرق نعليه فعاد إلى منزله حافيا فقال: إليك أذم حمام ابن موسى * وإن فاق المنى طيبا وحرا تكاثرت اللصوص عليه حتى * ليحفى من يطيف به ويعرى ولم أفقد به ثوبا ولكن * دخلت محمدا وخرجت بشرا
__________
(1) في اليتيمة 3 / 8: الخد ورد (*)

(11/364)


يوسف بن عمر بن مسرور أبو الفتح القواس، سمع البغوي وابن أبي داود وابن صاعد وغيرهم، وعنه الخلال والعشاري والبغدادي والتنوخي وغيرهم، وكان ثقة ثبتا، يعد من الابدال، قال الدار قطني: كنا نتبرك به وهو صغير.
توفي لثلاث (1) بقين من ربيع الآخر عن خمس وثمانين سنة، ودفن بباب حرب.
يوسف بن أبي سعيد السيرافي أبو محمد النحوي، وهو الذي تمم شرح أبيه لكتاب سيبويه، وكان يرجع إلى علم ودين وكانت وفاته في ربيع الاول منها عن خمس وخمسين سنة.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلثمائة في محرمها كشف أهل البصرة عن قبر عتيق فإذا هم بميت طري عليه ثيابه وسيفه، فطنوه الزبير بن العوام، فأخرجوه وكفنوه ودفنوه واتخذوا عند قبره مسجدا، ووقف عليه أوقاف كثيرة، وجعل عنده خدام وقوام وفرش وتنوير.
وفيها ملك الحاكم العبيدي بلاد مصر بعد أبيه العزيز بن المعز الفاطمي، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة وستة أشهر، وقام بتدبير المملكة أرجوان الخادم، وأمين الدولة الحسن بن عمار، فلما تمكن الحاكم قتلهما وأقام غيرهما، ثم قتل خلقا حتى استقام له الامر على ما سنذكره.
وحج بالناس الامير الذي من جهة المصريين والخطبة لهم.
وفيها توفي من الاعيان...أحمد بن إبراهيم ابن محمد بن يحيى بن سحنويه أبو حامد بن إسحاق المزكي النيسابوري، سمع الاصم وطبقته وكان كثير العبادة من صغره إلى كبره، وصام في عمره سردا تسعا وعشرين سنة، وقال الحاكم: وعندي أن الملائكة لم تكتب عليه خطيئة، توفي في شعبان منها عن ثلاث وستين سنة.
أبو طالب المكي
صاحب قوت القلوب، محمد بن علي بن عطية أبو طالب المكي الواعظ المذكر، الزاهد
__________
(1) في صفوة الصفوة 2 / 471: يوم الجمعة لسبع بقين، وفي الكامل ذكره: ابن عمر بن مسروق وانه توفي في ربيع الاول وله خمس وخمسون سنة (*).

(11/365)


المتعبد، الرجل الصالح، سمع الحديث وروى عن غير واحد.
قال العتيقي: كان رجلا صالحا مجتهدا في العبادة وصنف كتابا سماه قوت القلوب، وذكر فيه أحاديث لا أصل لها، وكان يعظ الناس في جامع بغداد، وحكى ابن الجوزي أن أصله من الجبل، وأنه نشأ بمكة، وأنه دخل البصرة بعد وفاة أبي الحسن بن سالم، فانتمى إلى مقالته، ودخل بغداد فاجتمع عليه الناس وعقد له مجلس الوعظ بها، فغلط في كلام وحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوقين أضر من الخالق، فبدعه الناس وهجروه، وامتنع من الكلام على الناس: وقد كان أبو طالب هذا يبيح السماع، فدعا عليه عبد الصمد بن علي ودخل عليه فعاتبه على ذلك فأنشد أبو طالب فيا ليل كم فيك من متغب * ويا صبح ليتك لم تقرب فخرج عبد الصمد مغضبا.
وقال أبو القاسم بن سرات: دخلت على شيخنا أبي طالب المكي وهو يموت فقلت له: أوص، فقال: إذا ختم لي بخير فانثر على جنازتي لوزا وسكرا فقلت: كيف أعلم بذلك ؟ فقال: اجلس عندي ويدك في يدي، فإن قبضت على يدك فاعلم أنه قد ختم لي بخير.
قال ففعلت فلما حان فراقه قبض على يدي قبضا شديدا، فلما رفع على جنازته نثرت اللوز والسكر على نعشه.
قال ابن الجوزي: توفي في جمادى الآخرة منها وقبره ظاهر في جامع الرصافة.
العزيز صاحب مصر نزار بن المعز معد أبي تميم، ويكنى نزار بأبي منصور، ويلقب بالعزيز، توفي عن اثنين وأربعين سنة (1) منها، وكانت ولايته بعد أبيه إحدى وعشرين سنة، وخمسة أشهر وعشرة أيام (2)، وقام بالامر من بعده ولده الحاكم قبحه الله، والحاكم هذا هو الذي ينسب إليه الفرقة الضالة المضلة الزنادقة الحاكمية وإليه ينسب أهل وادي التيم من الدرزية أتباع هستكر غلام الحاكم الذي بعثه إليهم
يدعوهم إلى الكفر المحض فأجابوه، لعنه الله وإياهم أجمعين، أما العزيز هذا فإنه كان قد استوزر رجلا نصرانيا يقال له عيسى بن نسطورس، وآخر يهوديا اسمه ميشا، فعز بسببهما أهل هذين الملتين في ذلك الزمان على المسلمين، حتى كتبت إليه امرأة قصة في حاجة لها تقول فيها: بالذي أعز النصارى بعيسى بن نسطورس، واليهود بميشا وأذل المسلمين بهما لما كشفت ظلامتي، فعند ذلك أمر بالقبض على هذين الرجلين وأخذ من النصارى ثلاثمائة ألف دينار.
وفيها توفيت بنت عضد الدولة امرأة الطائع فحملت تركتها إلى ابن أخيها بهاء الدولة، وكان فيها جوهر كثير والله أعلم.
__________
(1) في الكامل 9 / 116 زيد: وثمانية أشهر ونصف.
(2) في الكامل 9 / 116: ونصف.
وفي العبر 4 / 56: احدى عشرة سنة ونصف (*).

(11/366)


ثم دخلت سنة سبع وثمانين وثلثمائة فيها توفي فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة بن بويه، وأقيم ولده رستم في الملك مكانه، وكان عمره أربع سنين، وقام خواص أبيه بتدبير الملك في الرعايا.
وممن توفي فيها من الاعيان أبو أحمد العسكري اللغوي.
الحسن بن عبد الله ابن سعيد بن أحمد العسكري اللغوي، العلامة في فنه وتصانيفه، المفيدة في اللغة وغيرها، يقال إنه كان يميل إلى الاعتزال، ولما قدم الصاحب بن عباد هو وفخر الدولة البلدة التي كان فيها أبو أحمد العسكري - وكان قد كبر وأسن - بعث إليه الحاحب رقة فيها هذه الابيات: ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم * ضعفنا فما نقوى على الوحدان أتيناكم من بعد أرض نزوركم * فكم من منزل بكر لنا وعوان نناشدكم هل من قرى لنزيلكم * بطول جوار لا يمل جفان تضمنت بنت ابن الرشيد كأنما * تعمد تشبيهي به وعناني
أهم بأمر الحزم لا أستطيعه * وقد حيل بين العير والنزوان (1) ثم ركب بغلته تحاملا وصار إلى الصاحب فوجده مشغولا في خيمته بأبهة الوزارة فصعد أكمه ثم نادى بأعلى صوته: مالي أرى القبة الفيحاء مقفلة * دوني وقد طال ما استفتحت مقفلها كأنها جنة الفردوس معرضة * وليس لي عمل زاك فأدخلها فلما سمع الصاحب صوته ناداه: ادخلها يا أبا أحمد فلك السابقة الاولى، فلما صار إليه أحسن إليه.
توفي في يوم التروية منها.
قال ابن خلكان: وكانت ولادته يوم الخميس لست عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلاث (2) وتسعين ومائتين، وتوفي يوم الجمعة لسبع خلون من ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة.
__________
(1) قال ابن خلكان إن هذا البيت كان من أجوبة أبي أحمد على الابيات المتقدمة للصاحب وهو لصخر بن عمرو بن الشريد أخو الخنساء قاله من جملة أبيات مشهورة في مرضه وقد ضجرت امرأته سلمى من تمريضه ودقة حالته قالت: فهو لا حي فيرجى، ولا ميت فينعى فسمعها فقال: انظر الخبر في الاغاني 15 / 78 - 79.
(2) في الاصل ثلاثة: وهو خطأ (*).

(11/367)


عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن إبراهيم بن عبيد الله بن زياد بن مهران، أبو القاسم الشاعر المعروف بابن الثلاج، لان جده أهدى لبعض الخلفاء ثلجا، فوقع منه موقعا، فعرف عند الخليفة بالثلاج، وقد سمع أبو القاسم هذا من البغوي وابن صاعد وأبي داود، وحدث عن التنوخي والازهري والعقيقي وغيرهم من الحفاظ.
قال ابن الجوزي: وقد اتهمه المحدثون منهم الدار قطني ونسبوه إلى أنه كان يركب الاسناد ويضع الحديث على الرجال.
توفي في ربيع الاول فجأة ابن زولاق
الحسن بن إبراهيم بن الحسين بن الحسن بن علي بن خلد (1) بن راشد بن عبيد الله بن سليمان ابن زولاق، أبو محمد المصري الحافظ، صنف كتابا في قضاة مصر ذيل به كتاب أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي، إلى سنة ست وأربعين ومائتين، وذيل ابن زولاق من القاضي بكار إلى سنة ست وثمانين وثلثمائة، وهي أيام محمد بن النعمان قاضي الفاطميين، الذي صنف البلاغ الذي انتصب فيه للرد على القاضي الباقلاني، وهو أخو عبد العزيز بن النعمان والله أعلم.
وكانت وفاته في أواخر ذي القعدة من هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة.
ابن بطة عبيد الله بن محمد ابن حمران، أبو عبد الله العكبري (2)، المعروف بابن بطة، أحد علماء الحنابلة، وله التصانيف الكثيرة الحافلة في فنون من العلوم، سمع الحديث من البغوي وأبي بكر النيسابوري وابن صاعد وخلق في أقاليم متعددة، وعنه جماعة من الحفاظ، منهم أبو الفتح بن أبي الفوارس، والازجي والبرمكي، وأثنى عليه غير واحد من الائمة، وكان ممن يأمر بالعروف وينهى عن المنكر، وقد رأى بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد اختلفت علي المذاهب.
فقال: عليك بأبي عبد الله بن بطة، فلما أصبح ذهب إليه ليبشره بالمنام فحين رآه ابن بطة تبسم إليه وقال له - قبل أن يخاطبه - صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.
وقد تصدى الخطيب البغدادي للكلام في ابن بطة والطعن عليه وفيه بسبب بعض الجرح في ابن بطة الذي أسنده إلى شيخه عبد الواحد بن علي الاسدي المعروف بابن برهان اللغوي، فانتدب ابن الجوزي للرد على الخطيب والطعن عليه أيضا بسبب بعض مشايخه والانتصار لابن بطة، فحكى عن أبي الوفا بن عقيل أن ابن برهان كان يرى مذهب
__________
(1) في الوفيات 2 / 91: خالد.
(2) العكبري: نسبة إلى عكبرا بلد تبعد عن بغداد عشرة فراسخ (*).

(11/368)


مرجئة المعتزلة، في أن الكفار لا يخلدون في النار، وإنما قالوا ذلك لان دوام ذلك إنما هو للتشفي ولا معنى له هنا مع أنه قد وصف نفسه بأنه غفور رحيم، وأنه أرحم الراحمين.
ثم شرع ابن عقيل يرد
على ابن برهان.
قال ابن الجوزي: فكيف يقبل الجرح مثل هذا ! ؟.
ثم روى ابن الجوزي بسنده عن ابن بطة أنه سمع المعجم من البغوي، قال: والمثبت مقدم على النافي.
قال الخطيب: وحدثني عبد الواحد بن برهان قال: ثنا محمد بن أبي الفوارس روى عن ابن بطة عن البغوي عن أبي مصعب، عن مالك، عن الزهري، عن أنس.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طلب العلم فريضة على كل مسلم " (1).
قال الخطيب: وهذا باطل من حديث مالك، والحمل فيه على ابن بطة.
قال ابن الجوزي: والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما أنه وجد بخط ابن برهان: ما حكاه الخطيب في القدح في ابن بطة وهو شيخي أخذت عنه العلم في البداية، الثاني أن ابن برهان قد تقدم القدح فيه بما خالف فيه الاجماع، فكيف قبلت القول في رجل قد حكيت عن مشايخ العلماء أنه رجل صالح مجاب الدعوة، نعوذ بالله من الهوى.
علي بن عبد العزيز بن مدرك أبو الحسن البردعي، روى عن أبي حاتم وغيره، وكان كثير المال فترك الدنيا وأقبل على الآخرة، فاعتكف في المسجد، وكان كثير الصلاة والعبادة.
فخر الدولة بن بويه علي بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه الديلمي، ملك بلاد الري ونواحيها، وحين مات أخوه مؤيد الدولة كتب إليه الوزير ابن عباد بالاسراع إليه فولاه الملك بعده، واستوزر ابن عباد على ما كان عليه.
توفي عن ست وأربعين سنة، منها مدة ملكه ثلاث عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة عشر يوما، وترك من الاموال شيئا كثيرا، من الذهب ما يقارب ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن الجواهر نحوا من خمسة عشر ألف قطعة، يقارب قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار ذهبا.
وغير ذلك من أواني الذهب زنته ألف ألف دينار، ومن الفضة زنته ثلاثة آلاف ألف درهم، كلها آنية، ومن الثياب ثلاثة آلاف حمل، وخزانة السلاح ألف حمل، ومن الفرش ألف وخمسمائة حمل، ومن الامتعة مما يليق بالملوك شيئا كثيرا لا يحصر، ومع هذا لم يصلوا ليلة موته إلى شئ من المال ولم يحصل له كفن إلا ثوب من المجاورين في المسجد، واشتغلوا عنه بالملك حتى تم لولده رستم من بعده، فأنتن الملك ولم يتمكن
أحد من الوصول إليه فربطوه في حبال وجروه على درج القلعة من نتن ريحه، فتقطع، جزاء وفاقا.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في المقدمة باب (17) (*).

(11/369)


ابن سمعون الواعظ محمد بن أحمد بن إسماعيل أبو الحسين بن سمعون الواعظ، أحد الصلحاء والعلماء، كان يقال له الناطق بالحكمة، روى عن أبي بكر بن داود وطبقته، وكان له يد طولى في الوعظ والتدقيق في المعاملات، وكانت له كرامات ومكاشفات، كان يوما يعظ على المنبر وتحته أبو الفتح بن القواس، وكان من الصالحين المشهورين، فنعس ابن القواس فأمسك ابن سمعون عن الوعظ حتى استيقظ، فحين استيقظ قال ابن سمعون: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامك هذا ؟ قال: نعم ! قال: فلهذا أمسكت عن الوعظ حتى لا أزعجك عما كنت فيه.
وكان لرجل ابنة مريضة مدنفة فرأى أبوها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول له: اذهب إلى ابن سمعون ليأتي منزلك فيدعو لابتنك تبرأ بإذن الله.
فلما أصبح اذهب إليه فلما رآه نهض ولبس ثيابه وخرج مع الرجل، فظن الرجل أنه يذهب إلى مجلس وعظه، فقال في نفسه أقول له في أثناء الطريق، فلما مر بدار الرجل دخل إليها فأحضر إليه ابنته فدعا لها وانصرف، فبرأت من ساعتها، وبعث إليه الخليفة الطائع لله من أحضره إليه وهو مغضب عليه، فخيف على ابن سمعون منه، فلما جلس بين يديه أخذ في الوعظ، وكان أكثر ما أورده من كلام علي بن أبي طالب، فبكى الخليفة حتى سمع نشيجه، ثم خرج من بين يديه وهو مكرم، فقيل للخليفة: رأيناك طلبته وأنت غضبان، فقال: بلغني أنه ينتقص عليا فأردت أن أعاقبه، فلما حضر أكثر من ذكر علي فعلمت أنه موفق، فذكرني وشفى ما كان في خاطري عليه.
ورأى بعضهم في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جانبه عيسى بن مريم عليه السلام، وهو يقول: أليس من أمتي الاحبار أليس من أمتي أصحاب الصوامع.
فبينما هو يقول ذلك إذ دخل ابن سمعون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيسى عليه السلام: أفي أمتك مثل هذا ؟ فسكت عيسى.
ولد ابن سمعون في سنة ثلثمائة، وتوفي يوم الخميس الرابع عشر من ذي القعدة في هذه السنة، ودفن بداره.
قال ابن الجوزي: ثم أخرج بعد سنتين إلى
مقبرة أحمد بن حنبل وأكفانه لم تبل رحمه الله.
اخر ملوك السامانية نوح بن منصور ابن نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل، أبو القاسم الساماني، ملك خراسان وغزنة وما وراء النهر، ولي الملك وعمره ثلاث عشرة سنة، واستمر في الملك إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر، ثم قبض عليه خواصه وأجلسوا مكانه أخاه عبد الملك، فقصدهم محمود بن سبكتكين فانتزع الملك من أيديهم، وقد كان لهم الملك مائة وستين سنة فباد ملكهم في هذا العام، ولله الامر من قبل ومن بعد.
أبو الطبيب سهل بن محمد ابن سليمان بن محمد بن سليمان الصعلوكي الفقيه الشافعي إمام أهل نيسابور، وشيخ تلك

(11/370)


الناحية، كان يحضر مجلسه خمسمائة محبرة، وكانت وفاته في هذه السنة على المشهور.
وقال الحافظ أبو يعلى الخليلي في الارشاد: مات في سنة ستين وأربعمائة فالله أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وثلثمائة قال ابن الجوزي: في ذي الحجة منها سقط في بغداد برد عظيم، بحيث جمد الماء في الحمامات، وبول الدواب في الطرقات.
وفيها جاءت رسل أبي طالب بن فخر الدولة في البيعة له فبايعه الخليفة وأمره على بلاد الري ولقبه مجد الدولة كهف الامة، وبعث إليه بالخلع والالوية، وكذلك فعل ببدر بن حسنويه ولقبه ناصر الدين والدولة، وكان كثير الصدقات.
وفيها هرب أبو عبد الله بن جعفر المعروف بابن الوثاب، المنتسب إلى جده الطائع، من السجن بدار الخلافة إلى البطيحة، فآواه صاحبها مهذب الدولة، ثم أرسل القادر بالله في أمره فجئ به مضيقا عليه فاعتقله، ثم هرب من الاعتقال أيضا فذهب إلى بلاد كيلان فادعى أنه الطائع لله، فصدقوه وبايعوه وأدوا إليه العشر، وغير ذلك من الحقوق، ثم اتفق مجئ بعضهم إلى بغداد فسألوا عن الامر فإذا ليس له أصل ولا حقيقة، فرجعوا عنه واضمحل أمره وفسد حاله، فانهزم عنهم.
وحج بالناس فيها
أمير المصريين، والخطبة بالحرمين للحاكم العبيدي قبحه الله.
وممن توفي فيها من الاعيان...الخطابي أبو سليمان حمد ويقال أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي، أحد المشاهير الاعيان، والفقهاء المجتهدين المكثرين، له من المصنفات معالم السنن وشرح البخاري، وغير ذلك.
وله شعر حسن.
فمنه قوله: ما دمت حيا فدار الناس كلهم * فإنما أنت في دار المداراة من يدر دارى ومن لم يدر سوف يرى * عما قليل نديما للندامات توفي بمدينة بست في ربيع الاول من هذه السنة، قاله ابن خلكان.
الحسين بن أحمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن بكير (1) بن عبد الله الصيرفي الحافظ المطبق سمع إسماعيل الصفار وابن
__________
(1) من تذكرة الحفاظ 3 / 1017 وفي الاصل: بكر (*).

(11/371)


السماك والنجاد والخلدي وأبا بكر الشاشي.
وعنه ابن شاهين والازهري والتنوخي، وحكى الازهري: أنه دخل عليه وبين يديه أجزاء كبار فجعل إذا ساق إسنادا أورد متنه من حفظه وإذا سرد متنا ساق إسناده من حفظه.
قال: وفعلت هذا معه مرارا، كل ذلك يورد الحديث إسنادا ومتنا كما في كتابه.
قال: وكان ثقه فحسدوه وتكلموا فيه.
وحكى الخطيب: أن ابن أبي الفوارس اتهمه بأنه يزيد في سماع الشيوخ، ويلحق رجالا في الاحاديث ويصل المقاطيع.
توفي في ربيع الاول (1) منها عن إحدى وسبعين (2) سنة.
صمصامة الدولة ابن عضد الدولة صاحب بلاد فارس، خرج عليه ابن عمه أبو نصر بن بختيار فهرب منه ونجا في جماعة من الاكراد، فلما وغلوا به أخذوا ما في خزائنه وحواصله، ولحقه أصحاب ابن بختيار فقتلوه
وحملوا رأسه إليه، فلما وضع بين يدي ابن بختيار قال: هذه سنة سنها أبوك.
وكان ذلك في ذي الحجة من هذه السنة، وكان عمره يوم قتل خمسا وثلاثين سنة (3)، ومدة ملكه منها تسع سنين وأشهر (4).
عبد العزيز بن يوسف الحطان أبو القاسم، كاتب الانشاء لعضد الدولة، ثم وزر لابنه بهاء الدولة خمسة أشهر، وكان يقول الشعر.
توفي في شعبان منها...محمد بن أحمد ابن إبراهيم أبو الفتح (5) المعروف بغلام الشنبوذي، كان عالما بالقراءات وتفسيرها، يقال إنه كان يحفظ خمسين ألف بيت من الشعر، شواهد للقرآن، ومع هذا تكلموا في روايته عن أبي الحسين بن شنبوذ، وأساء الدار قطني القول فيه.
توفي في صفر منها، وولد سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة.
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 3 / 1017: توفي في ربيع الآخر.
309 (2) في تذكرة الحفاظ، والوافي بالوفيات 12 / 340: احدى وستين سنة.
(3) زيد في الكامل 9 / 143: وسبعة أشهر.
389 (4) في الكامل 9 / 143: تسع سنين وثمانية أشهر.
وفي العبر 4 / 467: تسع سنين.
277 (5) في الوافي 2 / 39: أبو الفرج (*).

(11/372)


ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلثمائة فيها قصد محمود بن سبكتكين بلاد خراسان فاستلب ملكها من أيدي السامانية، وواقعهم مرات متعددة في هذه السنة وما قبلها، حتى أزال اسمهم ورسمهم عن البلاد بالكلية، وانقرضت دولتهم بالكلية، ثم صمد لقتال ملك الترك بما وراء النهر، وذلك بعد موت الخاقان الكبير الذي يقال له فائق، وجرت له معهم حروب وخطوب.
وفيها استولى بهاء الدولة على بلاد فارس وخوزستان،
وفيها أرادت الشيعة أن يصنعوا ما كانوا يصنعونه من الزينة يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة فيما يزعمونه، فقاتلهم جهلة آخرون في المنتسبين إلى السنة فادعوا أن في مثل هذا اليوم حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار فامتنعوا من ذلك، وهذا أيضا جهل من هؤلاء، فإن هذا إنما كان في أوائل ربيع الاول من أول سني الهجرة، فإنهما أقاما فيه ثلاثا، وحين خرجا منه قصدا المدينة فدخلاها بعد ثمانية أيام أو نحوها، وكان دخولهما المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الاول، وهذا أمر معلوم مقرر محرر.
ولما كانت الشيعة يصنعون في يوم عاشوراء مأتما يظهرون فيه الحزن على الحسين بن علي، قابلتهم طائفة أخرى من جهلة أهل السنة فادعوا أن في اليوم الثاني عشر من المحرم قتل مصعب بن الزبير، فعملوا له مأتما كما تعمل الشيعة للحسين، وزاروا قبره كما زاروا قبر الحسين، وهذا من باب مقابلة البدعة ببدعة مثلها، ولا يرفع البدعة إلا السنة الصحيحة.
وفيها وقع برد شديد مع غيم مطبق، وريح قوية، بحيث أتلفت شيئا كثيرا من النخيل ببغداد، فلم يتراجع حملها إلى عادتها إلا بعد سنتين.
وفيها حج بركب العراق الشريفان الرضى والمرتضى فاعتقلهما أمير الاعراب ابن الجراح فافتديا أنفسهما منه بتسعة آلاف دينار من أموالهما فأطلقهما.
وممن توفي فيها من الاعيان...زاهر بن عبد الله ابن أحمد بن محمد بن عيسى السرخسي المقرئ الفقيه المحدث، شيخ عصره بخراسان، قرأ على ابن مجاهد، وتفقه بأبي إسحاق المروزي إمام الشافعية، وأخذ اللغة والادب والنحو عن أبي بكر بن الانباري.
توفي في ربيع الآخر عن ست وتسعين (1) سنة.
عبد الله بن محمد بن إسحاق ابن سليمان بن مخلد بن إبراهيم بن مروز أبو القاسم المعروف بابن حبابة، روى عن البغوي وأبي بكر بن أبي داود وطبقتهما، وكان ثقة مأمونا مسندا، ولد ببغداد سنة تسع وتسعين ومائتين،
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 3 / 1021 وسبعون (*).

(11/373)


ومات في جمادى الاولى من هذه السنة عن تسعين سنة.
وصلى عليه الشيخ أبو حامد الاسفراييني شيخ الشافعية، ودفن في مقابر جامع المنصور.
ثم دخلت سنة تسعين وثلثمائة من الهجرة النبوية فيها ظهر بأرض سجستان معدن من ذهب كانوا يحفرون فيه مثل الآبار، ويخرجون منه ذهبا أحمر.
وفيها قتل الامير أبو نصر بن بختيار صاحب بلاد فارس واستولى عليها بهاء الدولة.
وفيها قلد القادر بالله القضاء بواسط وأعمالها أبا حازم محمد بن الحسن الواسطي، وقرئ عهده بدار الخلافة، وكتب له القادر وصية حسنة طويلة أوردها ابن الجوزي في منتظمه، وفيها مواعظ وأوامر ونواهي حسنة جيدة.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن محمد ابن أبي موسى أبو بكر الهاشمي الفقيه المالكي القاضي بالمدائن وغيرها، وخطب بجامع المنصور، وسمع الكثير، وروى عنه الجم الغفير، وعنه الدار قطني الكبير، وكان عفيفا نزها ثقة دينا.
توفي في محرم هذه السنة عن خمس وسبعين سنة.
عبيد الله بن عثمان بن يحيى أبو القاسم الدقاق، ويعرف بابن حنيفا قال القاضي العلامة أبو يعلى بن الفراء - وهذا جده - وروي باللام لا بالنون - حليفا - وقد سمى سماعا صحيحا، وروى عنه الازهري وكان ثقة مأمونا حسن الخلق، ما رأينا مثله في معناه.
الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء والد القاضي أبي يعلى، وكان صالحا فقيها على مذهب أبي حنيفة، أسند الحديث وروى عنه ابنه أبو حازم محمد بن الحسين.
عبد الله بن أحمد ابن علي بن أبي طالب البغدادي، نزيل مصر، وحدث بها فسمع منه الحافظ عبد الغني بن
سعيد المصري.

(11/374)


عمر بن إبراهيم ابن أحمد أبو نصر (1) المعروف بالكتاني المقري، ولد سنة ثلثمائة، روى عن البغوي وابن مجاهد وابن صاعد، وعنه الازهري وغيره، وكان ثقة صالحا.
محمد بن عبد الله بن الحسين ابن عبد الله بن هارون، أبو الحسين الدقاق، المعروف بابن أخي ميمي، سمع البغوي وغيره، وعنه جماعة، ولم يزل على كبر سنه يكتب الحديث إلى أن توفي وله تسعون سنة، وكان ثقة مأمونا دينا فاضلا حسن الاخلاق، توفي ليلة الجمعة لثمان وعشرين من شعبان منها.
محمد بن عمر بن يحيى ابن الحسين (2) بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الشريف أبو الحسين العلوي، الكوفي، ولد سنة خمس عشرة، وسمع من أبي العباس بن عقدة وغيره، وسكن بغداد، وكانت له أموال كثيرة وضياع، ودخل عظيم وحشمة وافرة، وهمة عالية، وكان مقدما على الطالبيين في قته، وقد صادره عضد الدولة في وقت واستحوذ على جمهور أمواله وسجنه، ثم أطلقه شرف الدولة بن عضد الدولة، ثم صادره بهاء الدولة بألف ألف دينار ثم سجنه، ثم أطلقه واستنابه على بغداد.
ويقال إن غلاته كانت تساوي في كل سنة بألفي ألف دينار، وله وجاهة كبيرة جدا.
ورياسة باذخة.
الاستاذ أبو الفتوح برجوان الناظر في الامور بالديار المصرية في الدولة الحاكمية، وإليه تنسب حارة برجوان بالقاهرة، كان أولا من غلمان العزيز بن المعز، ثم صار عند الحاكم نافذ الامر مطاعا كبيرا في الدولة، ثم أمر بقتله في القصر فضربه الامير ريدان - الذي تنسب إليه الريدانية خارج باب الفتوح - بسكين في بطنه فقتله.
وقد ترك شيئا كثيرا من الاثاث والثياب، من ذلك ألف سراويل بيدقي بألف تكة من حرير،
قاله ابن خلكان.
وولى الحاكم بعده في منصبه الامير حسين بن القائد جوهر.
__________
(1) في تذكرة الحفاظ / 1011: أبو حفص.
(2) في الوافي 4 / 244: ابن أحمد بن يحيى بن الحسين بن زيد (*).

(11/375)


الجريري المعروف بابن طرار (1) المعافى بن زكريا بن يحيى بن حميد بن حماد بن داود أبو الفرج النهرواني القاضي - لانه ناب في الحكم - المعروف بابن طرار الجريري، لانه اشتغل على ابن جرير الطبري، وسلك وراءه في مذهبه، فنسب إليه.
سمع الحديث من البغوي وابن صاعد وخلق، وروى عنه جماعة، وكان ثقة مأمونا عالما فاضلا كثير الآداب والتمكن في أصناف العلوم، وله المصنفات الكثيرة منها كتابه المسمى بالجليس والانيس، فيه فوائد كثيرة جمة، وكان الشيخ أبو محمد الباقلاني أحد أئمة الشافعية يقول: إذا حپضر المعافي حضرت العلوم كلها، ولو أوصى رجل بثلث ماله لاعلم الناس لوجب أن يصرف إليه.
وقال غيره: اجتمع جماعة من الفضلاء في دار بعض الرؤساء وفيهم المعافى فقالوا: هل نتذاكر في فن من العلوم ؟ فقال المعافى لصاحب المنزل - وكان عنده كتب كثيرة في خزانة عظيمة - مر غلامك أن يأتي بكتاب من هذه الكتب، أي كتاب كان نتذاكر فيه.
فتعجب الحاضرون من تمكنه وتبحره في سائر العلوم، وقال الخطيب البغدادي: أنشدنا الشيخ أبو الطيب الطبري أنشدنا المعافى بن زكريا لنفسه: ألا قل لمن كان لي حاسدا * أتدري على من أسأت الادب أسأت على الله سبحانه * لانك لا ترضى لي ما وهب فجازاك عني بأن زادني (2) * وسد عليك وجوه الطلب توفي في ذي الحجة من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة، رحمه الله.
ابن فارس صاحب المجمل، وقيل إنه توفي في سنة خمس وتسعين كما سيأتي.
أم السلامة بنت القاضي أبي بكر أحمد بن كامل بن خلف بن شنخرة، أم الفتح، سمعت من محمد بن إسماعيل النصلاني وغيره، وعنها الازهري والتنوخي وأبو يعلى بن الفراء وغيرهم، وأثنى عليها غير واحد في دينها وفضلها وسيادتها، وكان مولدها في رجب من سنة ثمان وتسعين، وتوفيت في رجب أيضا من هذه السنة عن ثنتين وتسعين سنة، رحمها الله تعالى.
__________
(1) في الوفيات 5 / 224: طرارا، وتكتب بالهاء بدل الالف.
(2) في الوفيات: فجازاك عنه بأن زادني.
(*)

(11/376)


ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وثلثمائة
فيها بايع الخليفة القادر بالله لولده أبي الفضل بولاية العهد من بعده، وخطب له على المنابر بعد أبيه، ولقب بالغالب بالله، وكان عمره حينئذ ثماني سنين وشهورا، ولم يتم له ذلك وكان سبب ذلك أن رجلا يقال له عبد الله بن عثمان الواقفي ذهب إلى بعض الاطراف من بلاد الترك، وادعى أن القادر بالله جعله ولي العهد من بعده، فخطبوا له هنالك، فلما بلغ القادر أمره بعث يتطلبه فهرب في البلاد وتمزق، ثم أخذه بعض الملوك (1) فسجنه في قلعة إلى أن مات، فلهذا بادر القادر إلى هذه البيعة.
وفي يوم الخميس الثامن عشر من ذي القعدة ولد الامير أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله، وهذا هو الذي صارت إليه الخلافة، وهو القائم بأمر الله.
وفيها قتل الامير حسام الدولة المقلد بن المسيب العقيلي غيلة ببلاد الانبار، وكان قد عظم شأنه بتلك البلاد، ورام المملكة فجاءه القدر المحتوم فقتله بعض غلمانه الاتراك، وقام بالامر من بعده ولده قرواش.
وحج بالناس المصريون.
وفيها توفي من الاعيان..جعفر بن الفضل بن جعفر ابن محمد بن الفرات أبو الفضل، المعروف بابن حنزابة الوزير، ولد سنة ثمان وثلثمائة ببغداد، ونزل الديار المصرية ووزر بها للامير كافور الاخشيدي، وكان أبوه وزيرا للمقتدر، وقد
سمع الحديث من محمد بن هارون الحضرمي وطبقته من البغداديين، وكان قد سمع مجلسا من البغوي، ولم يكن عنده، وكان يقول: من جاءني به أغنيته، وكان له مجلس للاملاء بمصر، وبسببه رحل الدار قطني إلى مصر فنزل عنده وخرج له مسندا، وحصل له منه مال جزيل، وحدث عنه الدار قطني وغيره من الاكابر.
ومن مستجاد شعره قوله: من أخمل النفس أحياها وروحها * ولم يبت طاويا منها على ضجر إن الرياح إذا اشتدت عواصفها * فليس ترمي سوى العالي من الشجر (2) قال ابن خلكان: كانت وفاته في صفر، وقيل في ربيع الاول منها، عن ثنتين وثمانين سنة ودفن بالقرافة، وقيل بداره، وقيل إنه كان قد اشترى بالمدينة النبوية دارا فجعل له فيها تربة، فلما نقل إليها تلقته الاشراف لاحسانه إليهم، فحملوه وحجوا به ووقفوا به بعرفات، ثم أعادوه إلى المدينة فدفنونه بتربته.
__________
(1) وهو محمود بن سبكتكين (الكامل 9 / 166).
(2) في الفوات 1 / 293: فليس تقصف إلا عالي الشجر (*).

(11/377)


ابن الحجاج الشاعر (1) الحسين بن أحمد بن الحجاج أبو عبد الله الشاعر الماجن المقذع في نظمه، يستنكف اللسان عن التلفظ بها والاذنان عن الاستماع لها، وقد كان أبوه من كبار العمال، وولي وهو حسبة بغداد في أيام عز الدولة، فاستخلف عليها نوابا ستة، وتشاغل هو بالشعر السخيف والرأي الضعيف، إلا أن شعره جيد من حيث اللفظ، وفيه قوة تدل على تمكين واقتدار على سبك المعاني القبيحة التي هي في غاية الفضيحة، في الالفاظ الفصيحة وله غير ذلك من الاشعار المستجادة، وقد امتدح مرة صاحب مصر فبعث إليه بألف دينار.
وقول ابن خلكان بأنه عزل عن حسبة بغداد بأبي سعيد الاصطخري قول ضعيف لا يسامح بمثله، فإن أبا سعيد توفي في سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، فكيف يعزل به ابن الحجاج وهو لا يمكن ادعاء أن يلي الحسبة بعده أبو سعيد الاصطخري، وابن خلكان قد أرخ وفاة هذا
الشاعر بهذه السنة.
ووفاة الاصطخري بما تقدم.
وقد جمع الشريف الرضي أشعاره الجيدة على حدة في ديوان مفرد ورثاه حين توفي هو وغيره من الشعراء.
عبد العزيز بن أحمد بن الحسن الجزري القاضي بالحرم وحريم دار الخلافة وغير ذلك من الجهات، وكان ظاهريا على مذهب داود، وكان لطيفا، تحاكم إليه وكيلان فبكى أحدهما في أثناء الخصومة فقال له القاضي: أرني وكالتك، فناوله فقرأها ثم قاله له: لم يجعل إليك أن تبكي عنه.
فاستضحك الناس ونهض الوكيل خجلا.
عيسى بن الوزير علي بن عيسى ابن داود بن الجراح، أبو القاسم البغدادي، وكان أبوه من كبار الوزراء، وكتب هو للطائع أيضا، وسمع الحديث الكثير، وكان صحيح السماع كثير العلوم، وكان عارفا بالمنطق وعلم الاوائل فاتهموه بشئ من مذهب الفلاسفة، ومن جيد شعره قوله: رب ميت قد صار بالعلم حيا * ومبقي قد مات جهلا وغيا فاقتنوا العلم كي تنالوا خلودا * لا تعدوا الحياة في الجهل شيا ولد في سنة ثنتين وثلثمائة وتوفي في هذه السنة عن تسع وثمانين سنة، ودفن في داره ببغداد.
__________
(1) ترجمته في يتيمة الدهر 3 / 136 تاريخ بغداد 8 / 148 معجم الادباء 9 / 206 مطالع البدور 1 / 39 الامتاع والمؤانسة 1 / 137 (*).

(11/378)


ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وثلثمائة في محرمها غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند فقصده ملكها جيبال في جيش عظيم فاقتتلوا قتالا شديدا، ففتح الله على المسلمين، وانهزمت الهنود، وأسر ملكهم جيبال، وأخذوا من عنقه قلادة قيمتها ثمانون (1) ألف دينار، وغنم المسلمون منهم أموالا عظيمة، وفتحوا بلادا كثيرة، ثم إن محمودا سلطان المسلمين أطلق ملك الهند احتقارا له واستهانة به (2)، ليراه أهل مملكته والناس في المذلة فحين وصل جيبال إلى بلاده ألقى نفسه في النار التي يعبدونها من دون الله فاحترق، لعنه الله.
وفي ربيع الاول منها ثارت العوام على النصارى ببغداد فنهبوا كنيستهم التي بقطيعة الدقيق وأحرقوها، فسقطت على خلق فماتوا، وفيهم جماعة من المسلمين رجال ونساء وصبيان.
وفي رمضان منها قوي أمر العيارين وكثرت العملات ونهبت بغداد وانتشرت الفتنة.
قال ابن الجوزي: وفي ليلة الاثنين منها ثالث القعدة انقض كوكب أضاء كضوء القمر ليلة التمام، ومضى الشعاع وبقي جرمه يتموج نحو ذراعين في ذراعين في رأى العين ثم توارى بعد ساعة.
وفي هذا الشهر قدم الحجاج من خراسان إلى بغداد ليسيروا إلى الحجاز فبلغهم عيث الاعراب في الارض بالفساد، وأنه لا ناصر لهم ولا ناظر ينظر في أمرهم، فرجعوا إلى بلادهم، ولم يحج من بلاد المشرق أحد في هذه السنة.
وفي يوم عرفة منها ولد لبهاء الدولة ابنان توأمان فمات أحدهما بعد سبع سنين، وأقام الآخر حتى قام بالامر من بعد أبيه، ولقب شرف الدولة، وحج المصريون فيها بالناس.
وممن توفي فيها من الاعيان..ابن جني أبو الفتح [ عثمان بن جني ] الموصلي النحوي اللغوي، صاحب التصانيف الفائقة المتداولة في النحو واللغة، وكان جني عبدا روميا مملوكا لسليمان بن فهد بن أحمد الازدي الموصلي، ومن شعره في ذلك قوله: فإن أصبح بلا نسب * فعلمي في الورى نسبي على أني أؤول إلى * قروم سادة نجب قياصرة إذا نطقوا * أرمو الدهر ذا الخطب أولاك دعا النبي لهم * كفى شرفا دعاء نبي
__________
(1) في الكامل 9 / 169: قومت بمائتي ألف دينار.
وفي العبر 4 / 365: مائة ألف دينار.
(2) في العبر 4 / 365: ارتهن فيها ابنه وحافده (*).

(11/379)


وقد أقام ببغداد ودرس بها العلم إن أن توفي ليلة الجمعة لليلتين خلتا (1) من صفر منها، قال
ابن خلكان: ويقال إنه كان أعور وله في ذلك: صدودك عني ولا ذنب لي * يدل على نية فاسده فقد - وحياتك - مما بكيت * خشيت على عيني الواحدة ولولا مخافة أن لا أرا * ك لما كان في تركها فائده ويقال: إن هذه الابيات لغيره (2)، وكان قائلها أعور.
وله في مملوك حسن الصورة أعور قوله: له عين أصابت كل عين * وعين قد أصابتها العيون أبو الحسن الجرجاني الشاعر الماهر: علي بن عبد العزيز القاضي بالري، سمع الحديث وترقى في العلوم حتى أقر له الناس بالتفرد، وله أشعار حسان من ذلك قوله: يقولون لي فيك انقباض وإنما * رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم * ومن أكرمته عزة النفس أكرما ولم أقض حق العلم إن كان كلما * بدا طمع صيرته لي سلما إذا قيل لي هذا مطمع قلت قد أرى * ولكن نفس الحر تحتمل الظما (3) ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي * لاخدم من لاقيت ولكن لا خدما أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة * إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم * ولو عظموه في النفوس عظما ولكن أهانوه، فهان، ودنسوا * محياه بالاطماع حتى تجهما ومن مستجاد شعره أيضا: ما تطمعت لذة العيش حتى * صرت للبيت والكتاب جليسا
__________
(1) في الوفيات المطبوع 3 / 248: بقيتا.
(2) في الوفيات قيل هي لابي منصور الديلمي.
(3) البيت في اليتيمة 4 / 25: إذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى * ولكن نفس الحر لا تحمل الظما (*)

(11/380)


ليس عندي شئ ألذ من ال * علم فما أبتغي سواه أنيسا ومن شعره أيضا: إذا شئت أن تستقرض المال منفقا * على شهوات النفس في زمن العسر فسل نفسك الانفاق من كنز صبرها * عليك وإنظارا إلى زمن اليسر فإن فعلت كنت الغني وإن أبت * فكل منوع بعدها واسع العذر توفي رحمه الله في هذه السنة، وحمل تابوته إلى جرجان فدفن بها.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة وفيها كانت وفاة الطائع لله على ما سنذكره وفيها منع عميد الجيوش الشيعة من النحو على الحسين في يوم عاشوراء، ومنع جهلة السنة بباب البصرة وباب الشعير من النوح على مصعب بن الزبير بعد ذلك بثمانية أيام، فامتنع الفريقان ولله الحمد والمنة.
وفي أواخر المحرم خلع بهاء الدولة وزيره أبا غالب محمد بن خلف عن الوزارة وصادره بمائة ألف دينار قاشانية، وفي أوائل صفر منها غلت الاسعار ببغداد جدا، وعدمت الحنطة حتى بيع الكر بمائة وعشرين دينارا.
وفيها برز عميد الجيوش إلى سر من رأى واستدعى سيد الدولة أبا الحسن، علي بن مزيد، وقرر عليه في كل سنة أربعين ألف دينار، فالتزم بذلك فقرره على بلاده.
وفيها هرب أبو العباس الضبي وزير مجد الدولة بن فخر الدولة من الري إلى بدر بن حسنويه، فأكرمه، وولى بعد ذلك وزارة مجد الدولة أبو علي الخطير.
وفيها استناب الحاكم على دمشق وجيوش الشام أبا محمد الاسود ثم بلغه أنه عزر رجلا مغربيا سب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وطاف به في البلد، فخاف من معرة ذلك فبعث إليه فعزله مكرا وخديعة.
وأنقطع الحج فيها من العراق بسبب الاعراب.
وممن توفي فيها الاعيان: إبراهيم بن أحمد بن محمد أبو إسحاق الطبري الفقيه المالكي، مقدم المعدلين ببغداد، وشيخ القراءات، وقد سمع الكثير من الحديث، وخرج له الدار قطني خمسمائة جزء حديث، وكان كريما مفضلا على أهل العلم.
الطائع لله عبد الكريم بن المطيع تقدم خلعه وذكر ما جرى له، توفي ليلة عيد الفطر منها عن خمس أو ست وسبعين سنة (1)،
__________
(1) في المنتظم 7 / 224: ستا وسبعين، وفي دول الاسلام 1 / 237: ثلاثا وسبعين.
وفي الجوهر الثمين 1 / 188: سبع وسبعين (*).

(11/381)


منها سبع عشرة سنة وستة أشهر وخمسة أيام خليفة، وصلى عليه الخليفة القادر فكبر عليه خمسا، وشهد جنازته الاكابر، ودفن بالرصافة.
محمد بن عبد الرحمن بن العباس بن زكريا أبو طاهر المخلص، شيخ كبير الرواية، سمع البغوي وابن صاعد وخلقا، وعنه البرقاني الازهري والخلال والتنوخي، وكان ثقة من الصالحين.
توفي في رمضان منها عن ثمان وثمانين سنة رحمه الله.
محمد بن عبد الله (1) أبو الحسن السلامي الشاعر المجيد، له شعر مشهور، ومدائح في عضد الدولة وغيره.
ميمونة بنت شاقولة والواعظة التي هي للقرآن حافظة، ذكرت يوما في وعظها أن ثوبها الذي عليها - وأشارت إليه - له في صحبتها تلبسه منذ سبع وأربعين سنة وما تغير، وأنه كان من غزل أمها.
قالت والثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرق سريعا، وقال ابنها عبد الصمد: كان في دارنا حائط يريد أن
ينقض فقلت لامي: ألا ندعو البناء ليصلح هذا الجدار ؟ فأخذت رقعة فكتبت فيها شيئا ثم أمرتني أن أضعها في موضع من الجدار، فوضعتها فمكث على ذلك عشرين سنة، فلما توفيت أردت أن أستعلم ما كتبت في الرقعة، فحين أخذتها من الجدار سقط، وإذا في الرقعة (إن الله يمسك السموات والارض أن تزولا) [ فاطر: 41 ] اللهم ممسك السموات الارض أمسكه.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلثمائة وفيها ولى بهاء الدولة الشريف أبا أحمد الحسين بن أحمد بن موسى الموسوي، قضاء القضاة والحج والمظالم، ونقابة الطالبيين، ولقب بالطاهر الاوحد، ذوي المناقب، وكان التقليد له بسيراج، فلما وصل الكتاب إلى بغداد لم يأذن له الخليفة القادر في قضاء القضاة، فتوقف حاله بسبب ذلك.
وفيها ملك أبو العباس بن واصل بلاد البطيحة وأخرج منها مهذب الدولة، فقصده زعيم الجيوش ليأخذها منه، فهزمه ابن واصل ونهب أمواله وحواصله، وكان في جملة ما أصاب في خيمة الخزانة ثلاثون ألف دينار، وخمسون ألف درهم.
وفيها خرج الركب العراقي إلى الحجاز في جحفل
__________
(1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 2 / 335 الوافي بالوفيات 3 / 317 الامتاع 1 / 134 المنتظم 7 / 225 (*)

(11/382)


عظيم كبير وتجمل كثير، فاعترضهم الاصيفر أمير الاعراب، فبعثوا إليه بشابين قارئين مجيدين كانا معهم، يقال لهما أبو الحسن الرفا وأبو عبد الله بن الزجاجي (1)، وكان من أحسن الناس قراءة، ليكلماه في شئ يأخذه من الحجيج، ويطلق سراحهم ليدركوا الحج، فلما جلسا بين يديه قرآ جميعا عشرا بأصوات هائلة مطربة مطبوعة، فأدهشه ذلك وأعجبه جدا، وقال لهما: كيف عيشكما ببغداد ؟ فقالا: بخير لا يزال الناس يكرموننا ويبعثون إلينا بالذهب والفضة والتحف.
فقال لهما.
هل أطلق لكما أحد منهم بألف ألف دينار في يوم واحد ؟ فقال: لا، ولا ألف درهم في يوم واحد.
قال: فإني أطلق لكما ألف ألف دينار في هذه اللحظة، أطلق لكما الحجيج كله، ولولا كما لما قنعت منهم بألف ألف دينار.
فأطلق الحجيج كله بسببهما، فلم يتعرض أحد من الاعراب لهم، وذهب الناس إلى الحج سالمون شاكرون لذينك الرجلين المقرئين.
ولما وقف الناس بعرفات قرأ هذان
الرجلان قراءة عظيمة على جبل الرحمة فضج الناس بالبكاء من سائر الركوب لقراءتهما، وقالوا لاهل العراق: ما كان ينبغي لكم أن تخرجوا معكم بهذين الرجلين في سفرة واحدة، لا حتمال أن يصابا جميعا، بل كان ينبغي أن تخرجوا بأحدهما وتدعوا الآخر، فإذا أصيب سلم الآخر.
وكانت الحجة والخطبة للمصريين كماهي لهم من سنين متقدمة، وقد كان أمير العراق عزم على العود سريعا إلى بغداد على طريقهم التي جاؤوا منها، وأن لا يسيروا إلى المدينة النبوية خوفا من الاعراب، وكثرة الخفارات، فشق ذلك على الناس، فوقف هذان الرجلان القارئان على جادة الطريق التي منها يعدل إلى المدينة النبوية، وقرآ (ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) الآيات [ التوبة: 120 ] فضج الناس بالبكاء وأمالت النوق أعناقها نحوهما، فمال الناس بأجمعهم والامير إلى المدينة النبوية فزاروا وعادوا سالمين إلى بلادهم ولله الحمد والمنة.
ولما رجع هذا القارئان رتبهما ولي الامر مع أبي بكر بن البهلول - وكان مقرئا مجيدا أيضا - ليصلوا بالناس صلاة التراويح في رمضان، فكثر الجمع وراءهم لحسن تلاوتهم، وكانوا يطيلون الصلاة جدا ويتناوبون في الامامة، يقرأون في كل ركعة بقدر ثلاثين آية، والناس لا ينصرفون من التراويح إلا في الثلث الاول من الليل، أو قريب النصف منه.
وقد قرأ ابن البهلول يوم في جامع المنصور قول تعالى (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) [ الحديد: 16 ] فنهض إليه رجل صوفي وهو يتمايل فقال: كيف قلت ؟ فأعاد الآية، فقال الصوفي: بلى والله، وسقط ميتا رحمه الله.
قال ابن الجوزي: وكذلك وقع لابي الحسن بن الخشاب شيخ ابن الرفا، وكان تلميذا لابي بكر بن الادمي المتقدم ذكره، وكان جيد القراءة حسن الصوت أيضا، قرأ ابن الخشاب هذا في جامع الرصافة في الاحياء هذه الآية (ألم يأن للذين آمنوا) فتواجد رجل صوفي وقال: بلى والله قد آن، وجلس وبكى بكاء طويلا، ثم سكت سكتة فإذا هو ميت رحمه الله.
__________
(1) في الكامل 9 / 182: الدجاجي (*).

(11/383)


وممن توفي فيها من الاعيان...أبو علي الاسكافي ويلقب بالموفق، وكان مقدما عند بهاء الدولة، فولاه بغداد فأخذ أموالا كثيرة من اليهود ثم هرب إلى البطيحة، فأقام بها سنتين ثم قدم بغداد فولاه بهاء الدولة الوزارة، وكان شهما منصورا في الحرب ثم عاقبه بعد ذلك وقتله في هذه السنة، عن تسع وأربعين سنة.