والنهروان.
وفي هذا الشهر كثرت العملات جهرة وخفية، حتى من المساجد والمشاهد
ثم ظفر أصحاب الشرطة بكثير منهم فقطعوا أيديهم وكحلوهم.
قصة مصحف ابن مسعود وتحريقه " على فتيا الشيخ أبي حامد الاسفراييني
فيما ذكره ابن الجوزي في منتظمه " وفي عاشر رجب جرت فتنة بين السنة
والرافضة، سببها أن بعض الهاشمين قصد أبا عبد الله محمد بن النعمان
المعروف بابن المعلم - وكان فقيه الشيعة - في مسجده بدرب رباح،
فعرض له بالسب فثار أصحابه له واستنفر أصحاب الكرخ وصاروا إلى دار
القاضي أبي محمد الاكفاني والشيخ أبي حامد الاسفراييني، وجرت فتنة
عظيمة طويلة، وأحضرت الشيعة مصحفا ذكروا أنه مصحف عبد الله بن
مسعود، وهو مخالف للمصاحف كلها، فجمع الاشراف والقضاة والفقهاء في
يوم جمعة لليلة بقيت من رجب، وعرض المصحف عليهم فأشار الشيخ أبو
حامد الاسفراييني والفقهاء بتحريقه، ففعل ذلك بمحضر منهم، فغضب
الشيعة من ذلك غظبا شديدا، وجعلوا يدعون ليلة النصف من شعبان على
من فعل ذلك ويسبونه، وقصد جماعة من أحداثهم دار الشيخ أبي حامد
ليؤذوه فانتقل منها إلى دار القطن، وصاحوا يا حاكم يا منصور، وبلغ
ذلك الخليفة فغضب وبعث أعوانه لنصرة أهل السنة، فحرقت دور كثيرة من
دور الشيعة، وجرت خطوب شديدة، وبعث عميد الجيوش إلى بغداد لينفي
عنها ابن المعلم فقيه الشيعة، فأخرج منها ثم شفع فيه، ومنعت القصاص
من التعرض للذكر والسؤال باسم الشيخين، وعلي رضي الله عنهم، وعاد
الشيخ أبو حامد إلى داره على عادته.
وفي شعبان منها زلزلت الدينور زلزالا شديدا، وسقطت منها دور كثيرة،
وهلك للناس شئ كثير من الاثاث والامتعة، وهبت ريح سوداء بدقوقي
وتكريت وشيراز، فأتلفت كثيرا من المنازل والنخيل والزيتون، وقتلت
خلقا كثيرا، وسقط بعض شيراز ووقعت رجفة بشيراز غرق بسببها مراكب
كثيرة في البحر.
ووقع بواسط برد زنة الواحدة مائة درهم وستة دراهم، ووقع
ببغداد في رمضان - وذلك في أيار - مطر عظيم سالت منه المزاريب.
تخريب قمامة في هذه السنة وفيها أمر الحاكم بتخريب قمامة وهي كنيسة
النصارى ببيت المقدس، وأباح للعامة ما فيها من الاموال والامتعة
وغير ذلك (1)، وكان سبب ذلك البهتان الذي يتعاطاه النصارى في يوم
الفصح من
__________
(2) في الكامل: بقي في الطرق نحو عشرين يوما.
(1) تقول الرواية الكنسية المعاصرة للحادث إن هذا السجل الشهير صيغ
في تلك العبارة الموجزة " خرج أمر الامامة إليك بهدم قمامة، فاجعل
سماءها أرضا، وطولها عرضا " وكان كاتب هذا السجل نصرانيا يسمى =
(*)
(11/389)
النار التي
يحتالون بها، وهي التي يوهمون جهلتهم أنها نزلت من السماء، وإنما
هي مصنوعة بدهن البلسان في خيوط الابريسم، والرقاع المدهونة
بالكبريت وغيره، بالصنعة اللطيفة التي تروج على الطغام منهم
والعوام، وهم إلى الآن يستعملونها في ذلك المكان بعينه.
وكذلك هدم في هذه السنة عدة كنائس ببلاد مصر، ونودي في النصارى: من
أحب الدخول في دين الاسلام دخل ومن لا يدخل فليرجع إلى بلاد الروم
آمنا، ومن أقام منهم على دينه فليلتزم بما يشرط عليهم من الشروط
التي زادها الحاكم على العمرية، من تعليق الصلبان على صدورهم، وأن
يكون الصليب من خشب زنته أربعة أرطال، وعلى اليهود تعليق رأس العجل
زنته ستة أرطال.
وفي الحمام يكون في عنق الواحد منهم قربة زنة خمسة أرطال، بأجراس،
وأن لا يركبوا خيلا.
ثم بعد هذا كله أمر بإعادة بناء الكنائس التي هدمها وأذن لمن أسلم
منهم في الارتداد إلى دينه.
وقال ننزه مساجدنا أن يدخلها من لا نية له، ولا يعرف باطنه، قبحه
الله.
وممن توفي فيها من الاعيان..أبو
محمد الباجي سبق ذكره، اسمه عبد الله بن محمد الباجي البخاري
الخوارزمي، أحد أئمة الشافعية، تفقه على أبي القاسم الداركي ودرس
مكانه، وله معرفة جيدة بالادب والفصاحة والشعر، جاء مرة ليزور
بعض أصحابه فلم يجده في المنزل فكتب هذه الابيات: قد حضرنا وليس
نقضي التلاقي * نسأل الله خير هذا الفراق إن تغب لم أغب وإن لم تغب
* غبت كأن افتراقنا باتفاق توفي في محرم هذه السنة، وقد ذكرنا
ترجمته في طبقات الشافعية.
عبد الله بن أحمد ابن علي بن الحسين، أبو القاسم المعروف
بالصيدلاني (1)، وهو آخر من حدث عن ابن صاعد من الثقات، وروى عنه
الازهري، وكان ثقة مأمونا صالحا.
توفي في رجب من هذه السنة وقد جاوز التسعين.
الببغاء الشاعر عبد الواحد بن نصر بن محمد، أبو الفرج المخزومي،
الملقب بالببغاء، توفي في شعبان من
__________
= ابن شترين، توفي بعد أيام من كتابته.
(تاريخ الانطاكي ص 196).
(1) الصيدلاني: نسبة إلى بيع الادوية والعقاقير (*).
(11/390)
هذه السنة،
وكان أديبا فاضلا مترسلا شاعرا مطبقا، فمن ذلك قوله: يامن تشابه
منه الخلق والخلق * فما تسافر إلا نحوه الحدق فورد (1) دمعي من
خديك مختلس * وسقم جسمي من جفنيك مسترق لم يبق لي رمق أشكو هواك به
* وإنما يتشكى من به رمق محمد بن يحيى أبو عبد الله الجرجاني، أحد
العلماء الزهاد العباد، المناظرين لابي بكر الرازي، وكان يدرس في
قطيعة الربيع، وقد فلج في آخر عمره، وحين مات دفن مع أبي حينفة.
بديع الزمان صاحب المقامات، أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد.
أبو الفضل الهمذاني، الحافظ
المعروف ببديع الزمان، صاحب الرسائل الرائقة، والمقامات الفائقة،
وعلى منواله نسج الحريري، واقتفى أثره وشكر تقدمه، واعترف بفضله،
وقد كان أخذ اللغة عن ابن فارس، ثم برز، وكان أحد الفضلاء الفصحاء،
ويقال إنه سم وأخذه سكتة، فدفن سريعا.
ثم عاش في قبره وسمعوا صراخه فنبشوا عنه فإذا هو قد مات وهو آخذ
على لحيته من هول القبر، وذلك يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى
الآخرة منها، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثلثمائة
فيها قتل علي بن ثمال نائب الرحبة
من طرف الحاكم العبيدي، قتله عيسى بن خلاط العقيلي، وملكها، فأخرجه
منها عباس (2) بن مرداس صاحب حلب وملكها، وفيها صرف عمرو بن عبد
الواحد عن قضاء البصرة ووليه أبو الحسن بن أبي الشوارب، فذهب الناس
يهنون هذا ويعزون هذا، فقال في ذلك العصفري: عندي حديث ظريف *
بمثله يتغنى من قاضيين يعزى * هذا وهذا يهنا فذا يقول أكرهوني *
وذا يقول استرحنا
__________
(1) في اليتيمة 1 / 316: توريد.
(2) في الكامل 9 / 210: صالح بن مرداس الكلابي (*).
(11/391)
ويكذبان جميعا
* ومن يصدق منا ؟ وفي شعبان من هذه السنة عصفت ريح شديدة فألقت
وحلا أحمر في طرقات بغداد.
فيها هبت على الحجاج ريح سوداء مظلمة واعترضهم الاعراب فصدوهم عن
السبيل، واعتاقوهم حتى فاتهم الحج فرجعوا، وأخذت بنو هلال طائفة من
حجاج البصرة نحوا من ستمائة واحد، وأخذوا منهم نحوا من ألف ألف
دينار، وكانت الخطبة فيها للمصريين.
وممن توفي فيها من
الاعيان...عبد الله بن بكر بن محمد بن الحسين أبو أحمد الطبراني،
سمع بمكة وبغداد وغيرهما من البلاد، وكان مكرما، سمع منه الدار
قطني وعبد الغني بن سعيد ثم أقام بالشام بالقرب من جبل عند بانياس
يعبد الله تعالى إلى أن مات في ربيع الاول منها.
محمد بن علي بن الحسين أبو مسلم كاتب الوزير بن خنزابة، روى عن
البغوي وابن صاعد وابن دريد وابن أبي داود وابن عرفة وابن مجاهد
وغيرهم، وكان آخر من بقي من أصحاب البغوي، وكان من أهل العلم
والحديث والمعرفة والفهم، وقد تكلم بعضهم في روايته عن البغوي لان
أصله كان غالبا مفسودا.
وذكر الصوري أنه خلط في آخر عمره.
أبو الحسن علي بن أبي سعيد عبد الواحد (1) بن أحمد بن يونس بن عبد
الاعلى الصدفي المصري، صاحب كتاب الزيج الحاكمي في أربع مجلدات،
كان أبوه من كبار المحدثين الحفاظ، وقد وضع لمصر تاريخا نافعا يرجع
العلماء إليه فيه، وأما هذا فإنه اشتغل في علم النجوم فنال من شأنه
منالا جيدا، وكان شديد الاعتناء بعلم الرصد وكان مع هذا مغفلا سئ
الحال، رث الثياب، طويلا يتعمم على طرطور طويل ويتطيلس فوقه، ويركب
حمارا فمن رآه ضحك منه، وكان يدخل عل الحاكم فيكرمه ويذكر من تغفله
ما يدل على اعتنائه بأمر نفسه، وكان شاهدا معدلا، وله شعر جيد،
فمنه ما ذكره ابن خلكان:
__________
(1) في ابن خلكان 3 / 429: وشذرات الذهب 3 / 156: عبد الرحمن (*).
(11/392)
أحمل نشر الريح
عند هبوبه * رسالة مشتاق إلى (3) حبيبه بنفسي من تحيا النفوس بريقه
* ومن طابت الدنيا وبطيبه يجدد وجدي طائف منه في الكرا * سرى موهنا
في جفنه من رقيبه
لعمري لقد عطلت كأسي بعده * وغيبتها عني لطول مغيبه تمني أم أمير
المؤمنين القادر بالله مولاة عبد الواحد بن المقتدر، كانت من
العابدات الصالحات، ومن أهل الفضل والدين توفيت ليلة الخميس الثاني
والعشرين من شعبان منها، وصلى عليها ابنها القادر، وحملت بعد
العشاء إلى الرصافة.
ثم دخلت سنة أربعمائة من الهجرة في
ربيع الآخر نقصت دجلة نقصا كثيرا، حتى ظهرت جزائر لم تغرق، وامتنع
سير السفن في أعاليها من أذنة (2) والراشدية، فأمر بكرى تلك
الاماكن، وفيها كمل السور على مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام
الذي بناه أبو إسحاق الارجاني، وذلك أن أبا محمد بن سهلان مرض فنذر
إن عوفي ليبنينه فعوفي،.
وفي رمضان أرجف الناس بالخلفية القادر بالله بأنه مات فجلس للناس
يوم جمعة بعد الصلاة وعليه البردة وبيده القضيب، وجاء الشيخ أبو
حامد الاسفراييني فقبل الارض بين يديه وقرأ (لئن لم ينته المنافقون
والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم) الآيات [
الاحزاب: 60 ] فتباكى الناس ودعوا وانصرفوا وهم فراحا.
وفيها ورد الخبر بأن الحاكم أنفذ إلى دار جعفر بن محمد الصادق
بالمدينة فأخذ منها مصحفا وآلات كانت بها، وهذه الدار لم تفتح بعد
موت صاحبها إلى هذا الآن، وكان مع المصحف قعب خشب مطوق بحديد ودرقة
خيزران وحربة وسرير، حمل ذلك كله جماعة من العلويين إلى الديار
المصرية، فأطلق لهم الحاكم أنعاما كثيرة ونفقات زائدة، ورد السرير
وأخذ الباقي، وقال: أنا أحق به.
فردوا وهم ذاموا له داعون عليه وبنى الحاكم فيها دارا للعلم وأجلس
فيها الفقهاء، ثم بعد ثلاث سنين هدمها وقتل خلقا كثيرا ممن كان
فيها من الفقهاء والمحدثين وأهل الخير.
وفيها عمر الجامع المنسوب إليه بمصر وهو جامع الحاكم، وتأنق في
بنائه.
وفي ذي الحجة منها أعيد المؤيد هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الاموي
إلى ملكه بعد خلعه وحبسه مدة طويلة، وكانت الخطبة بالحرمين للحاكم
صاحب مصر والشام.
وممن توفي فيها من الاعيان...
__________
(1) في الوفيات: لوجه.
(2) في الكامل 9 / 219: ما بين أوانا وقريب بغداد (*).
(11/393)
أبو أحمد
الموسوي النقيب الحسين (1) بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن
جعفر الموسوي، والد الرضي والمرتضى، ولي نقابة الطالبيين مرات نحوا
من خمس مرات، يعزل ويعاد، ثم أخر في آخر عمره، وتوفي عن سبع وتسعين
سنة، وصلى عليه ابنه المرتضى، ودفن في مشهد الحسين.
وقد رثاه ابنه المرتضى في قصيدة حسنة قوية المنزع والمطلع فمنها:
سلام الله تنقله الليالي * وتهديه الغدو إلى الرواح على جدث حسيب
من لؤي * لينبوع العبادة والصلاح فتى لم يرو إلا من حلال * ولم يك
زاده إلا المباح ولا دنست له أزر لزور * ولا علقت له راح براح خفيف
الظهر من ثقل الخطايا * وعريان الجوارح من جناح مشوق في الامور إلى
علاها * ومدلول على باب النجاح من القوم الذين لهم قلوب * بذكر
الله عامرة النواحي بأجسام من التقوى مراض * لنصرتها وأديان صحاح
الحجاج بن هرمز أبو جعفر نائبها بهاء الدولة على العراق، وكان
تليده لقتال الاعراب والاكراد، وكان من المقدمين في أيام عضد
الدولة، وكانت له خبرة تامة بالحرب، وحزمة شديدة، وشجاعة تامة
وافرة، وهمة عالية وآراء سديدة، ولما خرج من بغداد في سنة ثنتين
وسبعين وثلثمائة كثرت بها الفتن.
توفي بالاهواز عن مائة سنة وخمس سنين.
رحمه الله.
أبو عبد الله القمي المصري التاجر
كان ذا مال جزيل جدا، اشتملت تركته على أزيد من ألف ألف دينار، من
سائر أنواع المال.
توفي بأرضي الحجاز ودفن بالمدينة النبوية عند قبر الحسن بن علي،
رضي الله عنهم.
أبو الحسين بن الرفا المقري تقدم ذكره وقراءته على كبير الاعراب في
سنة أربع وتسعين وثلثمائة، كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن وأحلاهم
أداء رحمه الله.
__________
(1) من ابن الاثير والاعلام.
وفي الاصل: الحسن وهو تحريف (*)
(11/394)
ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة في يوم الجمعة الرابع من المحرم منها
خطب بالموصل للحاكم العبيدي عن أمر صاحبها قرواش بن مقلد أبي منيع،
وذلك لقهره رعيته، وقد سرد ابن الجوزي صفة الخطبة بحروفها.
وفي آخر الخطبة صلوا على آبائه المهدي ثم ابنه القائم ثم المنصور،
ثم ابنه المعز، ثم ابنه العزيز، ثم ابنه الحاكم صاحب الوقت،
وبالغوا في الدعاء لهم، ولا سيما للحاكم، وكذلك تبعته أعمالها من
الانبار والمدائن وغيرها.
وكان سبب ذلك أن الحاكم ترددت مكاتباته ورسله وهداياه إلى قرواش
يستمليه إليه، وليقبل بوجهه عليه، حتى فعل ما فعل من الخطبة
وغيرها، فلما بلغ الخبر القادر بالله العباسي كتب يعاتب قرواش على
ما صنع، ونفذ بهاء الدولة إلى عميد الجيوش بمائة ألف دينار لمحاربة
قرواش.
فلما بلغ قرواشا رجع عن رأيه وندم على ما كان منه، وأمر بقطع
الخطبة للحاكم من بلاده، وخطب للقادر على عادته.
قال ابن الجوزي: ولخمس بقين من رجب زادت دجلة زيادة كثيرة واستمرت
الزيادت إلى رمضان، وبلغت أحدا وعشرين ذراعا وثلثا (1)، ودخل إلى
أكثر دور بغداد.
وفيها رجع الوزير أبو خلف إلى بغداد ولقب فخر الملك بعميد الجيوش.
وفيها عصى أبو الفتح الحسن بن جعفر العلوي ودعا إلى نفسه وتلقب
بالراشد بالله.
ولم يحج فيها أحد من أهل العراق والخطبة للحاكم.
وممن توفي فيها من الاعيان أبو
مسعود صاحب الاطراف.
إبراهيم بن محمد بن عبيد أبو مسعود الدمشقي الحافظ الكبير، مصنف
كتاب الاطراف على الصحيحين، رحل إلى بلاد شتى كبغداد والبصرة
والكوفة وواسط وأصبهان وخراسان، وكان من الحفاظ الصادقين، والامناء
الضابطين، ولم يرو إلا اليسير، روى عنه أبو القاسم وأبو ذر الهروي،
وحمزة السهمي، وغيرهم.
توفي ببغداد في رجب وأوصى إلى أبي حامد الاسفراييني فصلى عليه،
ودفن في مقبرة جامع المنصور قريبا من السكك.
وقد ترجمه ابن عساكر وأثنى عليه.
عميد الجيوش الوزير الحسن بن أبي جعفر أستاذ هرمز، ولد سنة خمسين
وثلثمائة، وكان أبوه من حجاب عضد الدولة، وولاه بهاء الدولة وزارته
سنة ثنتين وتسعين، والشرور كثيرة منتشرة، فمهد البلاد وأخاف
العيارين واستقامت به الامور، وأمر بعض غلمانه أن يحمل صينية فيها
دراهم مكشوفة من أول بغداد
__________
(1) في الكامل 9 / 226: إحدى وعشرين ذراعا (*).
(11/395)
إلى آخرها وأن
يدخل بها في جميع الازقة، فإن اعترضه أحد فليدفعها إليه وليعرف ذلك
المكان، فذهب الغلام فلم يعترضه أحد، فحمد الله وأثنى عليه، ومنع
الروافض النياحة في يوم عاشوراء، وما يتعاطونه من الفرح في يوم
ثامن عشر ذي الحجة الذي يقال له عيد غدير خم، وكان عادلا مصنفا.
خلف الواسطي صاحب الاطراف أيضا، خلف بن محمد بن علي بن حمدون، أبو
محمد الواسطي، رحل إلى البلاد وسمع الكثير ثم عاد إلى بغداد، ثم
رحل إلى الشام ومصر، وكتب الناس عنه بانتخابه، وصنف أطرافا على
الصحيحين، وكانت له معرفة تامة، وحفظ جيد، ثم عاد إلى بغداد واشتغل
بالتجارة وترك النظر في العلم حتى توفي في هذه السنة سامحه الله.
روى عنه الازهري.
أبو عبيد الهروي (1)
صاحب الغريبين، أحمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي أبو عبيد الهروي
اللغوي البارع، كان من علماء الناس في الادب واللغة، وكتاب
الغريبين، في معرفة غريب القرآن والحديث، يدل على اطلاعه وتبحره في
هذا الشأن، وكان من تلامذة أبي منصور الازهري.
قال ابن خلكان: وقيل كان يحب التنزه (2) ويتناول في خلوته ما لا
يجوز، ويعاشر أهل الادب في مجلس اللذة والطرب، والله أعلم.
سامحه الله.
قال: وكانت وفاته في رجب سنة إحدى وأربعمائة، وذكر أبن خلكان أن في
هذه السنة أو التي قبلها كان وفاة البستي الشاعر وهو: علي بن محمد
بن الحسين بن يوسف الكاتب صاحب الطريقة الانيقة والتجنيس الانيس،
البديع التأسيس، والحذاقة والنظم والنثر، وقد ذكرناه، ومما أورد له
ابن خلكان قوله: من أصلح فاسده أرغم حاسده، ومن أطاع غظبه أضاع
أدبه.
من سعادة جدك وقوفك عند حدك.
المنية تضحك من الامنية.
الرشوة رشا الحاجات، حد العفاف الرضى بالكفاف ومن شعره: إن هز
أقلامه يوما لعملها * أنساك كل كمي هز عامله
__________
(1) الهروي: نسبة إلى هراة وهي إحدى مدن خراسان الكبار، وقد فتحها
الاحنف بن قيس صلحا من قبل عبد الله بن عامر.
(2) في ابن خلكان المطبوع 1 / 96: البذلة (*).
(11/396)
وإن أمر على رق
أنامله * أقر بالرق كتاب الانام له وله: إذا تحدثت في قوم لتؤنسهم
* بما تحدث من ماض ومن آت فلا تعد لحديث إن طبعهم * موكل بمعاداة
المعادات ثم دخلت سنة ثنتين وأربعمائة في المحرم منها أذن فخر
الملك الوزير للروافض أن يعلموا بدعتهم الشنعاء، والفضيحة
الصلعاء، من الانتحاب والنوح والبكاء، وتعليق المسوح وأن تغلق
الاسواق من الصباح إلى المساء، وأن تدور النساء حاسرات عن وجوههن
ورؤوسهن، يلطمن خدودهن، كفعل الجاهلية الجهلاء، على الحسين بن علي،
فلا جزاه الله خيرا، وسود الله وجهه يوم الجزاء، إنه سميع الدعاء.
وفي ربيع الآخر أمر القادر بعمارة مسجد الكف بقطيعة الدقيق، وأن
يعاد إلى أحسن ما كان، ففعل ذلك وزخرف زخرفة عظيمة جدا، فإنا لله
وإنا إليه راجعون.
الطعن من أئمة بغداد وعلمائهم في نسب الفاطميين وفي ربيع الآخر
منها كتب هؤلاء ببغداد محاضر تتضمن الطعن والقدح في نسب الفاطميين
وهم ملوك مصر وليسوا كذلك، وإنما نسبهم إلى عبيد بن سعد الجرمي،
وكتب في ذلك جماعة من العلماء والقضاة والاشراف والعدول، والصالحين
والفقهاء، والمحدثين، وشهدوا جميعا أن الحاكم بمصر هو منصور بن
نزار الملقب بالحاكم، حكم الله عليه بالبوار والخزي والدمار، ابن
معد بن إسماعيل بن عبد الله (1) بن سعيد، لا أسعده الله، فإن لما
صار إلى بلاد المغرب تسمى بعبيد الله، وتلقب بالمهدي، وأن من تقدم
من سلفه أدعياء خوارج، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، ولا
يتعلقون بسبب وأنه منزه عن باطلهم، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور،
وأنهم لا يعلمون أحدا من أهل بيوتات علي بن أبي طالب توقف عن إطلاق
القول في أنهم خوارج كذبة، وقد كان هذا الانكار لباطلهم شائعا في
الحرمين، وفي أول أمرهم بالمغرب منتشرا انتشارا يمنع أن يدلس أمرهم
على أحد، أو يذهب وهم إلى تصديقهم فيما ادعوه، وأن هذا الحاكم بمصر
هو وسلفه كفار فساق فجار، ملحدون زنادقة، معطلون، وللاسلام جاحدون،
ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون، قد عطلوا الحدود وأباحوا
الفروج، وأحلوا الخمر وسفكوا الدماء، وسبوا الانبياء، ولعنوا
السلف، وادعوا الربوبية.
وكتب في سنة اثنتين وأربعمائة، وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير،
فمن العلويين: المرتضى والرضي وابن الازرق الموسوي، وأبو طاهر بن
أبي الطيب، ومحمد بن محمد بن عمرو بن
__________
(1) في مختصر أخبار البشر 2 / 143: عبد الرحمن (*).
(11/397)
أبي يعلى.
ومن القضاة أبو محمد بن الاكفاني وأبو القاسم الجزري (1)، وأبو
العباس بن الشيوري (2).
ومن الفقهاء أبو حامد الاسفراييني وأبو محمد بن الكسفلي (3)، وأبو
الحسن القدوري، وأبو عبد الله الصيمري، وأبو عبد الله البيضاوي،
وأبو علي بن حمكان.
ومن الشهود أبو القاسم التنوخي في كثير منهم، وكتب فيه خلق كثير.
هذه عبارة أبي الفرج بن الجوزي.
قلت: ومما يدل على أن هؤلاء أدعياء كذبة، كما ذكر هؤلاء السادة
العلماء، والائمة الفضلاء، وأنهم لا نسب لهم إلى علي بن أبي طالب،
ولا إلى فاطمة كما يزعمون، قول ابن عمر للحسين بن علي حين أراد
الذهاب إلى العراق، وذلك حين كتب عوام أهل الكوفة بالبيعة إليه
فقال له ابن عمر: لا تذهب إليهم فإني أخاف عليك أن تقتل، وإن جدك
قد خير بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة على الدنيا، وأنت بضعة
منه، وإنه والله لا تنالها لا أنت ولا أحد من خلفك ولا من أهل
بيتك.
فهذا الكلام الحسن الصحيح المتوجه المعقول، من هذا الصحابي الجليل،
يقتضي أنه لا يلي الخلافة أحد من أهل البيت إلا محمد بن عبد الله
المهدي الذي يكون في آخر الزمان عند نزول عيسى بن مريم، رغبة بهم
عن الدنيا، وأن لا يدنسوا بها.
ومعلوم أن هؤلاء قد ملكوا ديار مصر مدة طويلة، فدل ذلك دلالة قوية
ظاهرة على أنهم ليسوا من أهل البيت، كما نص عليه سادة الفقهاء.
وقد صنف القاضي الباقلاني كتابا في الرد على هؤلاء وسماه " كشف
الاسرار وهتك الاستار " بين فيه فضائحهم وقبائحهم، ووضح أمرهم لكل
أحد، ووضوح أمرهم ينبئ عن مطاوي أفعالهم، وأقوالهم، وقد كان
الباقلاني يقول في عبارته عنهم، هم قوم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر
المحض.
والله سبحانه أعلم.
وفي رجب وشعبان ورمضان أجرى الوزير فخر الملك صدقات كثيرة على
الفقراء والمساكين والمقيمين بالمشاهد والمساجد وغير ذلك، وزار
بنفسه المساجد والمشاهد، وأخرج خلقا من المحبوسين وأظهر نسكا
كثيرا، وعمر دارا عظيمة عند سوق الدقيق.
وفي شوال عصفت ريح شديدة فقصفت كثيرا من النخل وغيره، أكثر من عشرة
الآف نخلة، وورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سبكتكين صاحب غزنة
بأنه ركب بجيشه إلى أرض العدو فجازوا بمفازة فأعوزهم الماء حتى
كادوا يهلكون عن
آخرهم عطشا، فبعث الله لهم سحابة فأمطرت عليهم حتى شربوا وسقوا
واستقوا، ثم تواقفوا هم وعدوهم، ومع عدوهم نحو من ستمائة قيل،
فهزموا العدول وغنموا شيئا كثيرا من الاموال ولله الحمد.
وفيها عملت الشيعة بدعتهم التي كانوا يعملونها يوم غدير خم، وهو
اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وزينت الحوانيت وتمكنوا بسبب الوزير
وكثير من الاتراك تمكنا كثيرا.
__________
(1) في الكامل 9 / 236: الخرزي.
(2) في الكامل: الابيوردي.
(3) في الكامل: الكشفلي (*).
(11/398)
وفيها توفي
من الاعيان..الحسن بن الحسن بن علي بن العباس ابن نوبخت أبو محمد
النوبختي، ولد سنة عشرين وثلثمائة، وروى عن المحاملي وغيره، وعنه
البرقاني وقال كان شيعيا معتزليا، إلا أنه تبين لي أنه كان صدوقا،
وروى عنه الازهري وقال: كان رافضيا، ردئ المذهب.
وقال العقيقي: كان فقيرا في الحديث، ويذهب إلى الاعتزال والله
أعلم.
عثمان بن عيسى: أبو عمرو الباقلاني (1) أحد الزهاد الكبار
المشهورين، كانت له نخلات يأكل منها ويعمل بيده في البواري، ويأكل
من ذلك، وكان في غاية الزهادة والعبادة الكثيرة، وكان لا يخرج من
مسجده إلا من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة، لاجل صلاة الجمعة ثم يعود
إلى مسجده، وكان لا يجد شيئا يشعله في مسجده، فسأله بعض الامراء أن
يقبل شيئا ولو زيتا يشعله في قناديل مسجده، فأبى الشيخ ذلك، ولهذا
وأمثاله لما مات رأى بعضهم بعض الاموات من جيرانه في القبور فسأله
عن جواره فقال: وأين هو، لما مات ووضع في قبره سمعنا قائلا يقول:
إلى الفردوس الاعلى، إلى الفردوس الاعلى.
أو كما قال.
توفي في رجب (2) منها عن ست (3) وثمانين سنة.
محمد بن جعفر بن محمد ابن هارون بن فروة بن ناجية، أبو الحسن (4)
النحوي، المعروف بابن النجار التميمي الكوفي، قدم بغداد وروى عن
ابن دريد والصولي ونفطويه وغيرهم، توفي في جمادى الاولى منها عن
سبع وسبعين سنة.
أبو الطيب سهل بن محمد الصعلوكي النيسابوري، قال أبو يعلى الخليلي:
توفي فيها، وقد ترجمناه في سنة سبع وثمانين وثلثمائة.
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 482: أبو عمر الباقلاوي.
وقيل الباقلاني نسبة إلى بيع الباقلاء (شذرات الذهب 3 / 163).
قال أبو الفداء: وهذه نسبة شاذة مثل: صنعاني.
(3) كذا بالاصل، وفي الكامل 9 / 237: توفي في شهر رمضان، وفي صفة
الصفوة 2 / 484: توفي في يوم (3) في الاصل ستة.
وهو خطأ.
الجمعة لسبع بقين من رمضان.
ودفن في مقبرة جامع المنصور.
(4) في الوافي 2 / 305 وبغية الوعاة: أبو الحسين.
(*)
(11/399)
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمائة في سادس عشر محرمها قلد الشريف الرضي
أبو الحسن الموسوي نقابة الطالبيين في سائر الممالك وقرئ تقليده في
دار الوزير فخر الملك، بمحضر الاعيان، وخلع عليه السواد، وهو أول
طالبي خلع عليه السواد.
وفيها جئ بأمير بني خفاجة (1) أبو قلنبة قبحه الله وجماعة من رؤس
قومه أسارى، وكانوا قد اعترضوا للحجاج في السنة التي قبلها وهم
راجعون، وغوروا المناهل التي يردها الحجاج، ووضعوا فيها الحنظل
بحيث إنه مات من الحجاج من العطش نحو من خمسة عشرألفا، وأخذوا
بقيتهم فجعلوهم رعاة لدوابهم في أسوأ حال، وأخذوا جميع ما كان
معهم، فحين حضروا عند دار الوزير سجنهم ومنعهم الماء، ثم صلبهم
يرون صفاء الماء ولا يقدرون على شئ منه، حتى ماتوا عطشا جزاء
وفاقا، وقد أحسن في هذا الصنع اقتداء بحديث أنس في الصحيحين.
ثم بعث إلى
أولئك الذين اعتقلوا في بلاد بني خفاجة من الحجاج فجئ بهم، وقد
تزوجت نساؤهم وقسمت أموالهم، فردوا إلى أهاليهم وأموالهم.
قال ابن الجوزي: وفي رمضان منها انقض كوكب من المشرق إلى المغرب
عليه ضوء على ضوء القمر، وتقطع قطعا وبفي ساعة طويلة.
قال: وفي شوال توفيت زوجة بعض رؤساء النصارى، فخرجت النوائح
والصلبان معها جهارا، فأنكر ذلك بعض الهاشميين فضربه بعض غلمان ذلك
الرئيس النصراني بدبوس في رأسه فشجه، فثار المسلمون بهم فانهزموا
حتى لجأوا إلى كنيسة لهم هناك، فدخلت العامة إليها فنهبوا ما فيها،
وما قرب منها من دور النصارى، وتتبعوا النصارى في البلد، وقصدوا
الناصح وابن أبي إسرائيل فقاتلهم غلمانهم، وانتشرت الفتنة ببغداد،
ورفع المسلمون المصاحف في الاسواق، وعطلت الجمع في بعض الايام،
واستعانوا بالخليفة، فأمر بإحضار ابن أبي إسرائيل فامتنع، فعزم
الخليفة على الخروج من بغداد، وقويت الفتنة جدا ونهبت دور كثير من
النصارى، ثم أحضر ابن أبي إسرائيل فبذل أموالا جزيلة، فعفى عنه
وسكنت الفتنة.
وفي ذي القعدة ورد كتاب يمين الدولة محمود إلى الخليفة يذكر أنه
ورد إليه رسول من الحاكم صاحب مصر ومعه كتاب يدعوه إلى طاعته فبصق
فيه وأمر بتحريقه، وأسمع رسوله غليظ ما يقال.
وفيها ما قلد أبو نصر بن مروان الكردي آمد وميا فارقين وديار بكر،
وخلع عليه طوق وسواران، ولقب بناصر الدولة، ولم يتمكن ركب العراق
وخراسان من الذهاب إلى الحج لفساد الطريق، وغيبة فخر الملك في
إصلاح الاراضي.
وفيها عادت مملكة الامويين ببلاد الاندلس فتولى فيها سليمان بن
الحكم (2) بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الاموي، ولقب بالمستعين
بالله، وبايعه الناس بقرطبة.
وفيها مات بهاء الدولة بن بويه الديلمي صاحب بغداد وغيرها، وقام
بالامر من بعده ولده سلطان الدولة أبو شجاع.
وفيها
__________
(1) بنو خفاجة: بطن من بني عقيل بن كعب بن عامر بن صعصعة من
العدنانية.
(نهاية الارب للقلقشندي ص 230).
(2) في الكامل 9 / 241: الحاكم (*).
(11/400)
مات ملك الترك
الاعظم واسمه إيلك الخان، وتولى مكانه أخوه طغان خان.
وفيها هلك شمس المعالي قابوس بن وشمكير، أدخل بيتا باردا في الشتاء
وليس عليه ثياب حتى مات كذلك، وولي الامر من بعده منوجهر، ولقب فلك
المعالي، وخطب لمحمود بن سبكتكين، وقد كان شمس المعالي قابوس عالما
فاضلا أديبا شاعرا، فمن شعره قوله: قل للذي بصروف الدهر عيرنا * عل
عاند الدهر إلا من له خطر أما ترى البحر يطوف فوقه جيف * ويستقر
بأقصى قعره الدرر فإن تكن نشبت أيدي الخطوب بنا * ومسنا من توالي
صرفها ضرر ففي السماء نجوم غير ذي عدد (1) * وليس يكسف الا الشمس
والقمر ومن مستجاد شعره قوله: خطرات ذكرك تستثير مودتي * فأحس منها
في الفؤاد دبيبا لا عضو لي إلا وفيه صبابة * وكأن أعضائي خلقن
قلوبا وفيها توفي من
الاعيان..أحمد بن علي أبو الحسن الليثي كان يكتب للقادر وهو
بالبطيحة، ثم كتب له على ديوان الخراج والبريد، وكان يحفظ القرآن
حفظا حسنا، مليح الصوت والتلاوة، حسن المجالسة، ظريف المعاني، كثير
الضحك والمجانة، خرج في بعض الايام هو والشريفان الرضي والمرتضى
وجماعة من الاكابر لتلقي بعض الملوك، فخرج بعض اللصوص فجعلوا
يرمونهم بالحراقات ويقولون: يا أزواج القحاب.
فقال الليثي: ما خرج هؤلاء علينا إلا بعين، فقالوا: ومن أين علمت
هذا ؟ فقال: وإلا من أين علموا أنا أزواج قحاب.
الحسن بن حامد بن علي بن مروان الوراق الحنبلي، كان مدرس أصحاب
أحمد وفقيههم في زمانه، وله المصنفات المشهورة، منها كتاب الجامع
في اختلاف العلماء في أربعمائة جزء، وله في أصول الفقه والدين،
وعليه اشتغل أبو يعلى بن الفراء، وكان معظما في النفوس، مقدما عند
السلطان، وكان لا يأكل إلا من كسب يديه من
النسج، وروى الحديث عن أبي بكر الشافعي، وابن مالك القطيعي،
وغيرهما، وخرج في هذه السنة إلى الحج فلما عطش الناس في الطريق
استند هو إلى حجر في الحر الشديد، فجاءه رجل
__________
(1) في الكامل 9 / 240: ففي السماء نجوم لا عداد لها...(*)
(11/401)
بقليل من ماء
فقال له ابن حامد: من أين لك ؟ فقال: ما هذا وقت سؤالك اشرب، فقال:
بلى هذا وقته عند لقاء الله عز وجل، فلم يشرب ومات من فوره رحمه
الله.
الحسين بن الحسن ابن محمد بن حليم، أبو عبد الله الحليمي، صاحب
المنهاج في أصول الديانة، كان أحد مشايخ الشافعية، ولد بجرجان وحمل
إلى بخارى، وسمع الحديث الكثير حتى انتهت إليه رياسة المحدثين في
عصره، وولي القضاء ببخارى.
قال ابن خلكان: انتهت إليه الرياسة فيما وراء النهر، وله وجوه حسنة
في المذهب، وروى عنه الحاكم أبو عبد الله.
فيروز أبو نصر الملقب ببهاء الدولة بن عضد الدولة الديلمي، صاحب
بغداد وغيرها، وهو الذي قبض على الطائع وولى القادر، وكان يحب
المصادرات فجمع من الاموال ما لم يجمعه أحد قبله من بني بويه، وكان
بخيلا جدا - توفي بأرجان في جمادى الآخرة منها عن ثنتين وأربعين
سنة وثلاث أشهر (1)، وكان مرضه بالصرع، ودفن بالمشهد إلى جانب
أبيه.
قابوس بن وشمكير كان أهل دولته قد تغيروا عليه فبايعوا ابنه منوجهر
وقتلوه كما ذكرنا، وكان قد نظر في النجوم فرأى أن ولده يقتله، وكان
يتوهم أنه ولده دارا، لما يرى من مخالفته له، ولا يخطر بباله
منوجهر لما يرى من طاعته له، فكان هلاكه على يد منوجهر، وقد قدمنا
شيئا من شعره في الحوادث.
القاضي أبو بكر الباقلاني محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني، رأس
المتكلمين على مذهب الشافعي، وهو من أكثر الناس
كلاما وتصنيفا في الكلام، يقال إنه كان لا ينام كل ليلة حتى يكتب
عشرين ورقة من مدة طويلة من عمره، فانتشرت عنه تصانيف كثيرة، منها
التبصرة، ودقائق الحقائق، والتمهيد في أصوله الفقه، وشرح الابانة،
وغير ذلك من المجاميع الكبار والصغار، ومن أحسنها كتابه في الرد
على الباطنية، الذي سماه: " كشف الاسرار وهتك الاستار "، وقد
اختلفوا في مذهبه في الفروع: فقيل شافعي وقيل مالكي، حكى ذلك عنه
أبو ذر الهروي، وقيل إنه كان يكتب على الفتاوى: كتبه محمد بن
__________
(1) في الكامل 9 / 241: وتسعة أشهر ونصفا (*).
(11/402)
الطيب الحنبلي،
وهذا غريب جدا، وقد كان في غاية الذكاء والفطنة، ذكر الخطيب وغيره
عنه أن عضد الدولة بعثه في رسالة إلى ملك الروم، فلما انتهى إليه
إذا هو لا يدخل عليه أحد إلا من باب قصيرة كهية الراكع، ففهم
الباقلاني أن مراده أن ينحني الداخل عليه له كهيئة الراكع لله عز
وجل، فدار إسته إلى الملك ودخل الباب بظهره يمشي إليه القهقرا،
فلما وصل إليه انفتل فسلم عليه، فعرف الملك ذكاءه ومكانه من العلم
والفهم، فعظمه ويقال إن الملك أحضر بين يديه آلة الطرب المسماة
بالارغل، ليستفز عقله بها، فلما سمعها الباقلاني خاف على نفسه أن
يظهر منه حركة ناقصة بحضرة الملك، فجعل لا يألوا جهدا أن جرح رجله
حتى خرج منها الدم الكثير، فاشتغل بالالم عن الطرب، ولم يظهر عليه
شئ من النقص والخفة، فعجب الملك من ذلك، ثم إن الملك استكشف الامر
فإذا هو قد جرح نفسه بما أشغله عن الطرب، فتحقق الملك وفور همته
وعلو عزيمته، فإن هذه الآلة لا يسمعها أحد إلا طرب شاء أم أبى.
وقد سأله بعض الاساقفة بحضرة ملكهم فقال: ما فعلت زوجة نبيكم ؟ وما
كان من أمرها بما رميت به من الافك ؟ فقال الباقلاني مجيبا له على
البديهة: هما امرأتان ذكرتا بسوء: مريم وعائشة، فبرأهما الله عز
وجل، وكانت عائشة ذات زوج ولم يأت بولد، وأتت مريم بولد ولم يكن
لها زوج - يعني أن عائشة أولى بالبراءة من مريم - وكلاهما بريئة
مما قيل فيها، فإن تطرق في الذهن الفاسد احتمال ريبة إلى هذه فهو
إلى تلك أسرع، وهما بحمد الله منزهتان مبرأتان من السماء بوحي الله
عز وجل، عليهما السلام.
وقد سمع الباقلاني الحديث من أبي بكر بن مالك القطيعي وأبي محمد بن
ماسي وغيرهما، وقد قبله الدار قطني يوما وقال: هذا يرد على أهل
الاهواء باطلهم، ودعا له.
وكانت وفاته يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة، ودفن بداره ثم نقل
إلى مقبرة باب حرب.
محمد بن موسى بن محمد أبو بكر الخوارزمي شيخ الحنفية وفقيههم، أخذ
العلم عن أحمد بن علي الرازي، وأنتهت إليه رياسة الحنفية ببغداد،
وكان معظما عند الملوك، ومن تلامذة الرضي والصيمري، قد سمع الحديث
من أبي بكر الشافعي وغيره، وكان ثقة دينا حسن الصلاة على طريقة
السلف، ويقول في الاعتقاد: ديننا دين العجائز، لسنا من الكلام في
شئ، وكان فصيحا حسن التدريس، دعي إلى ولاية القضاء غير مرة فلم
يقبل، توفي ليلة الجمعة الثامن عشر من جمادى الاولى سنة ثلاث
وأربعمائة، ودفن بداره من درب عبده.
الحافظ أبو الحسن علي بن محمد بن خلف العامري (1) القابسي مصنف
التلخيص، أصله قرويني (2) وإنما غلب عليه القابسي لان عمه
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 1079: المعافري (*).
(11/403)
كان يتعمم
قابسية (1)، فقيل لهم ذلك، وقد كان حافظا بارعا في علم الحديث،
رجلا صالحا جليل القدر، ولما توفي في ربع الآخر من هذه السنة عكف
الناس على قبره ليالي يقرأون القرآن ويدعون له، وجاء الشعراء من كل
أوب يرثون ويترحمون، ولما أجلس للمناظرة أنشد لغيره: لعمر أبيك ما
نسب المعلى * إلى كرم وفي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اقشعرت *
وصوح نبتها رعي الهشيم ثم بكى وأبكى، وجعل يقول: أنا الهشيم أنا
الهشيم.
رحمه الله.
الحافظ ابن الفرضي أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر
الازدي الفرضي، قاضي بلنسية (2) سمع الكثير
وجمع وصنف التاريخ، وفي المؤتلف والمختلف، ومشتبه النسبة وغير ذلك،
وكان علامة زمانه، قتل شهيدا على يد البربر فسمعوه وهو جريح طريح
يقرأ على نفسه الحديث الذي في الصحيح " ما يكلم أحد في سبيل الله،
والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي،
الون لون الدم، والريح ريح المسك " (3).
وقد كان سأل الله الشهادة عند أستار الكعبة فأعطاه إياها، ومن شعره
قوله: أسير الخطايا عند بابك واقف * على وجل مما به أنت عارف يخاف
ذنوبا لم يغب عنك غيها * ويرجوك فيها وهو راج وخائف ومن ذا الذي
يرجى سواك ويتقي * ومالك في فصل القضاء مخالف فيا سيدي لا تخزني في
صحيفتي * إذا نشرت يوم الحساب الصحائف وكن مؤنسي في ظلمة القبر
عندما * يصد ذوو القربى ويجفوا الموالف لئن ضاق عني عفوك الواسع
الذي * أرجى لاسرافي فإني تالف (4) ثم دخلت سنة أربع واربعمائة في
يوم الخميس غرة ربيع الاول منها جلس الخليفة القادر في أبهة
الخلافة وأحضر بين يديه
__________
(2) في الوفيات 3 / 321: القروي، وفي تذكرة الحفاظ: الفروي.
(1) قال في تذكرة الحفاظ: أي أن عمه كان يشد عمامته شدة أهل قابس.
(2) من تذكرة الحفاظ / 1077 وفيات الاعيان 3 / 106 وفي الاصل
بكنسية.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه 2 / 95.
(4) في تذكرة الحفاظ والوفيات: لتالف (*)
(11/404)
سلطان الدولة
والحجبة، فخلع عليه سبع خلع على العادة، وعممه بعمامة سوداء، وقلد
سيفا وتاجا مرصعا، وسوارين وطوقا، وعقد له لواءين بيده، ثم أعطاه
سيفا وقال للخادم: قلده به، فهو شرف له ولعقبه، يفتح شرق الارض
وغربها، وكان ذلك يوما مشهودا، حضره القضاة
والامراء والوزراء.
وفيها غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند ففتح وقتل وسبى وغنم، وسلم،
وكتب إلى الخليفة أن يوليه ما بيده من مملكة خراسان وغيرها من
البلاد، فأجابه إلى ما سأل وفيها عاثت بنو خفاجة ببلاد الكوفة فبرز
إليهم نائبها أبو الحسن بن مزيد فقتل منهم خلفا وأسر محمد بن يمان
(1) وجماعة من رؤسهم، وانهزم الباقون، فأرسل الله عليهم ريحا حارة
فأهلك منهم خمسمائة إنسان.
وحج بالناس أبو الحسن محمد بن الحسن الافساسي.
وفيها توفي من الاعيان...الحسن
بن أحمد ابن جعفر بن عبد الله المعروف بابن البغدادي، سمع الحديث،
وكان زاهدا عابدا كثير المجاهدة، لا ينام إلا عن غلبة، وكان لا
يدخل الحمام ولا يغسل ثيابه إلا بماء، وجده الحسين بن عثمان بن علي
أبو عبد الله المقري الضرير المجاهدي، قرأ على ابن مجاهد القرآن
وهو صغير، وكان آخر من بقي من أصحابه، توفي في جمادى الاولى منها،
وقد جاوز المائة سنة، ودفن في مقابر لزرادين.
علي بن سعيد بن الاصطخري أحد شيوخ المعتزلة، صنف للقادر بالله الرد
على الباطنية فأجرى عليه جراية سنية، وكان يسكن درب رباح، توفي في
شوال وقد جاوز الثمانين.
ثم دخت سنة خمس وأربعمائة فيها (2) منع الحاكم صاحب مصر النساء من
الخروج من منازلهم، أو أن يطلعن من الاسطحة
__________
(1) في الكامل 9 / 245: ثمال.
(2) أصدر الحاكم مرسومه الشهير سنة 404 ه، وفي سنة 405 ه.
كرر أوامره القاسية الواردة في المرسوم السابق الذكر وشدد في
تنفيذها نسخة المرسوم في تاريخ الانطاكي ص 208 والمقريزي في الخطط
3 / 73 وأشار إليه ابن خلكان ج 2 / 167 وابن الاثير ج 9 / 109
واتعاظ الحنفاء.
وانظر كتاب الحاكم بأمر الله تأليف الدكتور محمد عبد الله عنان ص
133 - 134 - 135 (*).
(11/405)
أو من الطاقات
ومنع الخفافين من عمل الخفاف لهن، ومنعهن من الخروج إلى الحمامات،
وقتل خلقا من النساء على مخالفته في ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن،
وجهز نساء عجائز كثيرة يستعلمن أحوال النساء لمن يعشقن أو يعشقهن،
بأسمائهن وأسماء من يتعرض لهن، فمن وجد منهن كذلك أطفأها وأهلكها،
ثم إنه أكثر من الدوران بنفسه ليلا ونهارا في البلد، في طلب ذلك،
وغرق خلقا من الرجال والنساء والصبيان ممن يطلع على فسقهم، فضاق
الحال واشتد على النساء، وعلى الفساق ذلك، ولم يتمكن أحد منهن أن
يصل إلى أحد إلا نادرا، حتى أن امرأة كانت عاشقة لرجل عشقا قويا
كادت أن تهلك بسببه، لما حيل بينها وبينه، فوقفت لقاضي القضاة وهو
مالك بن سعد الفارقي وحلفته بحق الحاكم لما وقف لها واستمع كلامها،
فرحمها فوقف لها فبكت إليه بكاء شديدا مكرا وحيلة وخداعا، وقالت
له: أيها القاضي إن لي أخا ليس لي غيره، وهو في السياق وإني أسألك
بحق الحاكم عليك لما أوصلتني إلى منزله، لانظر إليه قبل أن يفارق
الدنيا، وأجرك على الله.
فرق لها القاضي رقة شديدة وأمر رجلين كانا معه يكونان معها حتى
يبلغانها إلى المنزل الذي تريده، فأغلقت بابها وأعطت المفتاح
لجارتها، وذهبت معهما حتى وصلت إلى منزل معشوقها، فطرقت الباب
ودخلت وقالت لهما: اذهبا هذا منزله فإذا رجل كانت تهواه وتحبه
ويهواها ويحبها، فقال لها: كيف قدرت على الوصول إلي ؟ فأخبرته بما
احتالت به من الحيلة على القاضي، فأعجبه ذلك من مكرها وحيلتها،
وجاء زوجها من آخر النهار فوجد بابه مغلقا وليس في بيته أحد، فسأل
الجيران عن أمرها فذكرت له جارتها ما صنعت فاستغاث على القاضي وذهب
إليه وقال له: ما أريد امرأتي إلا منك الساعة، وإلا عرفت الحاكم،
فإن امرأتي ليس لها أخ بالكلية، وإنما ذهبت إلى معشوقها، فخاف
القاضي من معرة هذا الامر، فركب إلى الحاكم وبكى بين يديه، فسأله
عن شأنه فأخبره بما اتفق له من الامر مع المرأة، فأرسل الحاكم مع
ذنيك الرجلين من يحضر المرأة والرجل جميعا، على أي حال كانا عليه،
فوجدهما متعانقين سكارى، فسألهما الحاكم من أمرهما فأخذ يعتذران
بما لا يجدي شيئا، فأمر بتحريق المرأة في بادية وضرب الرجل ضربا
مبرحا حتى أتلفه، ثم ازداد احتياطا وشدة على النساء حتى
جعلهن في أضيق من جحر ضب، ولا زال هذا دأبه حتى مات.
ذكره ابن الجوزي.
وفي رجب منها ولي أبو الحسن أحمد بن أبي الشوارب قضاء الحضرة بعد
موت أبي محمد الاكفاني.
وفيها عمر فخر الدولة مسجد الشرقية ونصب عليه الشبابيك من الحديد.
وممن توفي فيها من
الاعيان...بكر بن شاذان بن بكر أبو القاسم المقري الواعظ، سمع أبا
بكر الشافعي، وجعفر الخلدي، وعنه الازهري والخلال، وكان ثقة أمينا
صالحا عابدا زاهدا، له قيام ليل، وكريم أخلاق.
مات فيها عن نيف وثمانين سنة، ودفن بباب حرب.
(11/406)
بدر بن حسنويه
بن الحسين أبو النجم الكردي، كان من خيار الملوك بناحية الدينور
وهمدان، وله سياسة وصدقة كثيرة، كناه القادر بابي النجم، ولقبه
ناصر الدولة، وعقد له لواء وأنفذه إليه، وكانت معاملاته وبلاده في
غاية الامن والطيبة، بحيث إذا أعيى جمل أحد من المسافرين أو دابته
عن حمله يتركها بما عليها في البرية فيرد عليه، ولو بعد حين لا
ينقص منه شئ، ولما عاثت أمراؤه في الارض فسادا عمل لهم ضيافة حسنة،
فقدمها إليهم ولم يأتهم بخبز، فجلسوا ينتظرون الخبز، فلما استبطاؤه
سألوا عنه فقال لهم: إذا كنتم تهلكون الحرث وتظلمون الزراع، فمن
أين تؤتون بخبز ؟ ثم قال لهم: لا أسمع بأحد أفسد في الارض بعد
اليوم إلا أرقت دمه.
واجتاز مرة في بعض أسفاره برجل قد حمل حزمة حطب وهو يبكي فقال له:
مالك تبكي ؟ فقال: إني كان معي رغيفان أريد أن أتقوتهما فأخذهما
مني بعض الجند، فقال له: أتعرفه إذا رأيته ؟ قال: نعم فوقف به في
موضع مضيق حتى مر عليه ذلك الرجل الذي أخذ رغيفيه، قال: هذا هو،
فأمر به أن ينزل عن فرسه وأن يحمل حزمته التي احتطبها حتى يبلغ بها
إلى المدينة، فأراد أن يفتدي من ذلك بمال جزيل فلم يقبل منه، حتى
تأدب به الجيش كلهم وكان يصرف كل جمعة عشرين ألف درهم على الفقراء
والارامل، وفي كل شهر عشرين ألف
درهم في تكفين الموتى، ويصرف في كل سنة ألف دينار إلى عشرين نفسا
يحجون عن والدته، وعن عضد الدولة، لانه كان السبب في تمليكه،
وثلاثة الألف دينار في كل سنة إلى الحدادين والحذائين لاجل
المنقطعين من همذان وبغداد، يصلحون الاحذية ونعال دوابهم، ويصرف في
كل سنة مائة ألف دينار إلى الحرمين صدقة على المجاورين، وعمارة
المصانع، وإصلاح المياه في طريق الحجاز، وحفر الآبار.
وما أجتاز في طريقه وأسفاره بماء إلا بنى عنده قرية، وعمر في أيامه
من المساجد والخانات ما ينيف على ألفي مسجد وخان، هذا كله خارجا
عما يصرف من ديوانه من الجرايات، والنفقات والصدقات، والبر
والصلات، وعلى أصناف الناس، من الفقهاء والقضاة، والمؤذنين
والاشراف، والشهود والفقراء، والمساكين والايتام والارامل.
وكان مع هذا كثير الصلاة والذكر وكان له من الدواب المربوطة في
سبيل الله وفي الحشر ما ينيف على عشرين ألف دابة.
توفي في هذه السنة رحمه الله عن نيف وثمانين سنة، ودفن في مشهد
علي، وترك من الاموال أربعة عشر ألف بدرة، ونيفا وأربعين بدرة،
البدرة عشر آلاف، رحمه الله.
الحسن بن الحسين حمكان أبو علي الهمداني، أحد الفقهاء الشافعية
ببغداد، عني أولا بالحديث فسمع منه أبو حامد المروزي وروى عنه
الازهري، وقال: كان ضعيفا ليس بشئ في الحديث.
(11/407)
عبد الله بن
محمد بن عبد الله بن إبراهيم أبو محمد الاسدي المعروف بابن
الاكفاني، قاضي قضاة بغداد، ولد سنة ست عشرة وثلثمائة وروى عن
القاضي المحاملي، ومحمد بن خلف، وابن عقدة وغيرهم، وعنه البرقاني
والتنوخي، يقال إنه أنفق على طلب العلم مائة ألف دينار، وكان عفيفا
نزها، صين العرض.
توفي في هذه السنة عن خمس (1) وثمانين سنة، ولي الحكم منها أربعين
سنة نيابة واستقلالا، رحمه الله.
عبد الرحمن بن محمد ابن محمد بن عبد الله بن إدريس بن سعد، الحافظ
الاستراباذي المعروف بالادريسي، رحل
في طلب العلم والحديث، وعني به وسمع الاصم وغيره، وسكن سمرقند،
وصنف لها تاريخا وعرضه على الدار قطني فاستحسنه، وحدث ببغداد فسمع
منه الازهري والتنوخي، وكان ثقة حافظا.
أبو نصر عبد العزيز بن عمر ابن أحمد بن نباتة الشاعر المشهور،
امتدح سيف الدولة بن حمدان، أظنه أخو الخطيب ابن نباتة أو غيره،
وهو القائل البيت المطروق المشهور: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره *
تنوعت الاسباب والموت واحد عبد العزيز بن عمر بن محمد بن نباتة أبو
نصر السعدي الشاعر وشعره موقوف ومن شعره قوله: وإذا عجزت عن العدو
فداره * وامزج له إن المزاج وفاق كالماء بالنار الذي هو ضدها *
يعطي النضاج وطبعها الاحراق توفي فيها عبد الغفار بن عبد الرحمن
أبو بكر الدينوري الفقيه السفياني، وهو آخر من كان يفتي بمذهب
سفيان الثوري ببغداد، في جامع المنصور، وكان إليه النظر في الجامع
والقيام بأمره.
توفي فيها ودفن خلف جامع الحاكم.
__________
(1) قال الذهبي في تذكرة الحفاظ ص 1063: تسعا وثمانين سنة (*).
(11/408)
الحاكم
النيسابوري صاحب المستدرك، محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، بن
نعيم بن الحكم، أبو عبد الله الحاكم الضبي الحافظ ويعرف بابن
البيع، من أهل نيسابور، وكان من أهل العلم والحفظ والحديث، ولد سنة
إحدى وعشرين وثلثمائة، وأول سماعه من سنة ثلاثين وثلثمائة، سمع
الكثير وطاف الآفاق، وصنف الكتب الكبار والصغار، فمنها المستدرك
على الصحيحين، وعلوم الحديث والاكليل وتاريخ نيسابور، وقد روى عن
خلق، ومن مشايخه الدار قطني وابن أبي الفوارس
صاحب المستدرك، محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، بن نعيم بن
الحكم، أبو عبد الله الحاكم الضبي الحافظ ويعرف بابن البيع، من أهل
نيسابور، وكان من أهل العلم والحفظ والحديث، ولد سنة إحدى وعشرين
وثلثمائة، وأول سماعه من سنة ثلاثين وثلثمائة، سمع الكثير وطاف
الآفاق، وصنف الكتب الكبار والصغار، فمنها المستدرك على الصحيحين،
وعلوم الحديث والاكليل وتاريخ نيسابور، وقد روى عن خلق، ومن مشايخه
الدار قطني وابن أبي الفوارس وغيرهما، وقد كان من أهل الدين
والامانة والصيانة، والضبط، والتجرد، والورع، لكن قال الخطيب
البغدادي: كان ابن البيع يميل إلى التشيع، فحدثني أبو إسحاق
إبراهيم بن محمد الارموي، قال: جمع الحاكم أبو عبد الله أحاديث زعم
أنها صحاح على شرط البخاري ومسلم، يلزمهما إخراجها في صحيحيهما،
فمنها حديث الطير، " ومن كنت مولاه فعلي مولاه "، فأنكر عليه أصحاب
الحديث ذلك ولم يلتفتوا إلى قوله ولاموه في فعله.
وقال محمد بن طاهر المقدسي: قال الحاكم: حديث الطير لم يخرج في
الصحيح وهو صحيح، قال ابن طاهر: بل موضوع لا يروى إلا عن إسقاط أهل
الكوفة من المجاهيل، عن أنس، فأن كان الحاكم لا يعرف هذا فهو جاهل،
وإلا فهو معاند كذاب.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: دخلت على الحاكم وهو مختف من الكرامية
لا يستطيع يخرج منهم، فقلت له: لو خرجت حديثا في فضائل معاوية لا
سترحت مما أنت فيه فقال: لا يجئ من قبلي، لا يجئ من قبلي.
توفي فيها عن أربع وثمانين سنة.
ابن كج (1) هو يوسف بن أحمد بن كج أبو القاسم القاضي، أحد أئمة
الشافعية، وله في المذهب وجوه عريبة وكانت له نعمة عظيمة جدا، وولي
القضاء بالدينور لبدر بن حسنويه فلما تغيرت البلاد بعد موت بدر وثب
عليه جماعة من العيارين فقتلوه ليلة سبع وعشرين من رمضان من هذه
السنة.
تم الجزء الحادي عشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الثاني عشر
وأوله سنة ست وأربعمائة وبالله التوفيق.
__________
(1) كج: بفتح الكاف وتشديد الجيم، وهو في اللغة اسم للجص الذي يبيض
به الحيطان (*)
(11/409)