البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

البداية والنهاية - ابن كثير ج 12
البداية والنهاية
ابن كثير ج 12

(12/)


البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفي سنة 774 ه.
حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الثاني عشر دار إحياء التراث العربي

(12/1)


بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة ست وأربعمائة في يوم الثلاثاء مستهل المحرم منها وقعت فتنة بين أهل السنة والروافض، ثم سكن الفتنة الوزير فخر الملك على أن تعمل الروافض بدعتهم يوم عاشوراء من تعليق المسوح والنوح.
وفي هذا الشهر ورد الخبر بوقوع وباء شديد في البصرة أعجز الحفارين، والناس عن دفن موتاهم، وأنه أظلت البلد سحابة في حزيران.
فأمطرتهم مطرا شديدا.
وفي يوم السبت ثالث صفر تولى المرتضى نقابة الطالبيين والمظالم والحج، وجميع ما كان يتولاه أخوه الرضي، وقرئ تقليده بحضرة الاعيان، وكان يوما مشهودا.
وفيها ورد الخبر عن الحجاج بأنه هلك منهم بسبب العطش أربعة عشر ألفا، وسلم ستة آلاف، وأنهم شربوا بول الابل من العطش.
وفيها غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند فأخذه الادلاء فسلكوا به على بلاد غريبة فانتهوا إلى أرض قد غمرها الماء من البحر فخاض بنفسه الماء أياما وخاض الجيش حتى خلصوا بعد ما غرق كثير من جيشه، وعاد إلى خراسان بعد جهد جهيد.
ولم يحج فيها من العراق ركب لفساد البلاد من الاعراب.
وفيها توفي من الاعيان...الشيخ أبو حامد الاسفرايني إمام الشافعية، أحمد بن محمد بن أحمد إمام الشافعية في زمانه، ولد في سنة أربع وأربعين وثلثمائة وقدم بغداد وهو صغير سنة ثلاث أو أربع وستين وثلثمائة، فدرس الفقه على أبي الحسن بن المزبان، ثم على أبي القاسم الداركي، ولم يزل تترقى به الاحوال حتى صارت إليه رياسة الشافعية، وعظم جاهه عند السلطان والعوام، وكان فقيها إماما، جليلا نبيلا، شرح المزني في تعليقه حافلة نحوا من خمسين مجلدا، وله تعليقة أخرى في أصول الفقه، وروى عن الاسماعيلي وغيره.
قال الخطيب: ورأيته غير مرة وحضرت تدريسه بمسجد عبد الله بن المبارك، في صدر قطيعة الربيع،

(12/3)


وحدثنا عنه الازجي والخلال، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر تدريسه سبعمائة (1) متفقه، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به.
وقال أبو الحسن (2) القدوري: ما رأيت في الشافعية أفقه من أبي حامد، وقد ذكرت ترجمته مستقصاة في طبقات الشافعية: وذكر ابن خلكان أن القدوري قال: هو أفقه وأنظر من الشافعي.
قال الشيخ أبو إسحاق: ليس هذا مسلما إلى القدوري فإن أبا حامد وأمثاله بالنسبة إلى الشافعي كما قال الشاعر: نزلوا بمكة في قبائل نوفل * ونزلت بالبيداء أبعد منزل قال ابن خلكان: وله مصنفات: التعليقة الكبرى، وله كتاب البستان، وهو صغير فيه غرائب قال وقد اعترض عليه بعض الفقهاء في بعض المناظرات فأنشأ الشيخ أبو حامد يقول.
جفاء جرى جهرا لدى الناس وانبسط * وعذر أتى سرا فأكد ما فرط ومن ظن أن يمحو جلي جفائه * خفي اعتذار فهو في أعظم الغلط توفي ليلة السبت لاحدى عشرة بقيت من شوال منها، ودفن بداره بعدما صلي عليه بالصحراء وكان الجمع كثير والبكاء غزيرا، ثم نقل إلى مقبرة باب حرب في سنة عشر وأربعمائة.
قال ابن الجوزي: وبلغ من العمر إحدى وستين سنة وأشهرا (3).
أبو أحمد الفرضي
عبد الرحمن (4) بن محمد بن أحمد بن علي بن مهران، أبو مسلم الفرضي المقري.
سمع المحاملي ويوسف بن يعقوب، وحضر مجلس أبي بكر بن الانباري، وكان إماما ثقة، ورعا وقورا، كثير الخير، يقرأ القرآن كثيرا، ثم سمع الحديث، وكان إذا قدم على الشيخ أبي حامد الاسفراييني، نهض إليه حافيا فتلقاه إلى باب المسجد، توفي وقد جاوز الثمانين.
الشريف الرضي محمد بن الطاهر أبو أحمد الحسين بن موسى أبو الحسن العلوي لقبه بهاء الدولة بالرضي، ذي الحسبتين، ولقب أخاه المرتضى ذي المجدين، ولي نقابة الطالبيين ببغداد بعد أبيه، وكان شاعرا
__________
(1) في الكامل 9 / 262: أربعمائة، وفي ابن خلكان 1 / 73: أكثر من ثلثمائة.
(2) في ابن خلكان: أبو الحسين.
(3) في تذكرة الحفاظ / 1064 اثنتين وستين سنة.
(4) في الكامل 9 / 262: عبد السلام، وفي تذكرة الحافظ / 1064: عبد الرحمن.
(*)

(12/4)


مطبقا، سخيا جوادا.
وقال بعضهم: كان الشريف في كثرة أشعاره أشعر قريش فمن شعره المستجاد قوله: اشتر العز بما شئ * ت فما العز بغال بالقصار إن شئ * ت أو بالسمر الطوال ليس بالمغبون عقلا * من شرى عزا بمال إنما يذخر الما * ل لحاجات الرجال والفتى من جعل الاموا * ل أثمان المعالي وله أيضا: يا طائر البان غريدا على فنن * ما هاج نوحك لي يا طائر البان هل أنت مبلغ من هام الفؤاد به * إن الطليق يؤدي حاجة العاني
جناية ما جناها غير متلفنا * يوم الوداع ووا شوقي إلى الجاني لولا تذكر أيام بذي سلم * وعند رامة أو طاري وأوطاني لما قدحت بنار الوجد في كبدي * ولا بللت بماء الدمع أجفاني وقد نسب إلى الرضي قصيدة يتمنى فيها أن يكون عند الحاكم العبيدي، ويذكر فيها أباه ويا ليته كان عنده، حين يرى حاله ومنزلته عنده، وأن الخليفة لما بلغه ذلك أراد أن يسيره إليه ليقضي أربه ويعلم الناس كيف حاله.
قال في هذه القصيدة: ألبس الذل في بلاد الاعاد * ي وبمصر الخليفة العلوي ! وأبوه أبي ومولاه مولا * ي إذا ضامني البعيد القصي إلى آخرها، فلما سمع الخليفة القادر بأمر هذه القصيدة انزعج وبعث إلى أبيه الموسوي يعاتبه، فأرسل إلى ابنه الرضي فأنكر أن يكون قالها بالمرة، والروافض من شأنهم التزوير.
فقال له أبوه: فإذا لم تكن قلتها فقل أبياتا تذكر فيها أن الحاكم بمصر دعي لا نسب له، فقال: إني أخاف غائلة ذلك، وأصر على أن لا يقول ما أمره به أبوه، وترددت الرسائل من الخليفة إليهم في ذلك، وهم ينكرون ذلك حتى بعث الشيخ أبا حامد الاسفراييني والقاضي أبا بكر إليهما، فحلف لهما بالايمان المؤكدة أنه ما قالها والله أعلم بحقيقة الحال.
توفي في خامس (1) المحرم منها عن سبع وأربعين سنة،
__________
(1) في الوافي 2 / 378: بكرة الخميس سادس المحرم وقيل صفر.
وفي الوفيات 4 / 419: بكرة يوم الاحد سادس المحرم وقيل صفر.
(*)

(12/5)


وحضر جنازته الوزير والقضاة، وصلى عليه الوزير ودفن بداره بمسجد الانباري، وولي أخوه المرتضى ما كان يليه، وزيد على ذلك أشياء ومناصب أخرى، وقد رثى الرضي أخاه بمرثاة حسنة.
باديس بن منصور الحميري أبو المعز مناذر بن باديس (1) نائب الحاكم على بلاد إفريقية وابن نائبها، لقبه الحاكم بنصير الدولة، كان ذا همة وسطوة وحرمة وافرة، كان إذا هز رمحاه كسره، توفي فجأة ليلة الاربعاء سلخ ذي
القعدة منها، ويقال إن بعض الصالحين دعى عليه تلك الليلة، وقام في الامر بعده ولده المعز مناذر.
ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة في ربيع الاول منها، احترق مشهد الحسين بن علي [ بكربلاء ] وأروقته، وكان سبب ذلك أن القومة أشعلوا شمعتين كبيرتين فمالتا في الليل على التازير، ونفذت النار منه إلى غيره حتى كان ما كان.
وفي هذا الشهر أيضا احترقت دار القطن ببغداد وأماكن كثيرة بباب البصرة، واحترق جامع سامرا.
وفيها ورد الخبر بتشعيث الركن اليماني من المسجد الحرام، وسقوط جدار بين يدي قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأنه سقطت القبة الكبيرة على صخرة بيت المقدس، وهذا من أغرب الاتفاقات وأعجبها.
وفي هذه السنة قتلت الشيعة الذين ببلاد إفريقية ونهبت أموالهم، ولم يترك منهم إلا من لا يعرف، وفيها كان ابتداء دولة العلويين ببلاد الاندلس، وليها علي بن حمود بن أبي العيس (2) العلوي، فدخل قرطبة في المحرم منها، وقتل سليمان بن الحكم الاموي، وقتل أباه أيضا، وكان شيخا صالحا، وبايعه الناس وتلقب بالمتوكل على الله، ثم قتل في الحمام في ثامن ذي القعدة منها (3) عن ثمان وأربعين سنة، وقام بالامر من بعده أخوه القاسم بن حمود، وتلقب بالمأمون، فأقام في الملك ست سنين، ثم قام ابن أخيه يحيى بن علي (4)، ثم ملك الامويون حتى ملك أمر المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين.
وفيها ملك محمود بن سبكتكين بلاد خوارزم بعد ملكها خوارزم شاه مأمون بن مأمون وفيها استوزر سلطان الدولة أبا الحسن علي بن الفضل الرامهرمزي، عوضا عن فخر الملك.
وخلع عليه.
ولم يحج أحد في هذه السنة من بلاد المغرب لفساد البلاد والطرقات.
__________
(1) في الكامل 9 / 256: باديس بن منصور بن يوسف بلكين (البيان المغرب 1 / 266 مختصر أخبار البشر 2 / 144 تاريخ ابن الوردي 1 / 493).
(2) في الكامل 9 / 269: ابن أبي العيش.
(مختصر أخبار البشر 2 / 146).
(3) في الكامل 9 / 272 والعبر 4 / 153 ومختصر أخبار البشر 2 / 146: ثمان وأربعمائة.
(4) من المصادر السابقة.
وفي الاصل إدريس وهو تحريف.
(*)

(12/6)


وفيها توفي من الاعيان.
أحمد بن يوسف بن دوست أبو عبد الله البزار، أحد حفاظ الحديث، وأحد الفقهاء على مذهب مالك، كان يذكر بحضرة الدارقطني ويتكلم على عالم الحديث، فيقال أن الدارقطني تلكم فيه لذلك السبب، وقد تكلم في غيره بما لا يقدح فيه كبير شئ.
قال الازهري: رأيت كتبه طرية، وكان يذكر أن أصوله العتق غرقت، وقد أملى الحديث من حفظه، والمخلص وابن شاهين حيان موجودان.
توفي في رمضان، عن أربع وثمانين سنة.
الوزير فخر الملك محمد بن علي بن خلف أبو غالب الوزير، كان من أهل واسط، وكان أبوه صيرفيا، فتنقلت به الاحوال إلى أن وزر لبهاء الدولة، وقد اقتنى أموالا جزيلة، وبنى دارا عظيمة، تعرف بالفخرية، وكانت أولا للخليفة المتقي لله، فأنفق عليها أموالا كثيرة، وكان كريما جوادا، كثير الصدقة، كسى في يوم واحد ألف فقير، وكان كثير الصلاة أيضا، وهو أول من فرق الحلاوة ليلة النصف من شعبان، وكان فيه ميل إلى التشيع، وقد صادره سلطان الدولة بالاهواز، وأخذ منه شيئا أزيد من ستمائة ألف دينار، خارجا عن الاملاك والجواهر والمتاع، قتله سلطان الدولة، وكان عمره يوم قتل ثنتين وخمسين سنة وأشهر وقيل إن سبب هلاكه أن رجلا قتله بعض غلمانه، فاستعدت امرأة الرجل على الوزير هذا، ورفعت إليه قصصتها، وكل ذلك لا يلتفت إليها، فقالت له ذات يوم: أيها الوزير أرأيت القصص التي رفعتها إليك، فلم تلتفت إليها قد رفعتها إلى الله عز وجل، وأنا أنتظر التوقيع عليها، فلما مسك قال: قد والله خرج توقيع المرأة، فكان من أمره ما كان.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعمائة فيها وقعت فتنة عظيمة بين أهل السنة والروافض ببغداد، قتل فيها خلق كثير من الفريقين.
وفيها ملك أبو المظفر بن خاقان بلاد ما وراء النهر وغيرها، وتلقب بشرف الدولة، وذلك بعد وفاة
أخيه طغان خان، وقد كان طغان خان هذا دينا فاضلا، يحب أهل العلم والدين، وقد غزا الترك مرة فقتل منهم مائتي ألف مقاتل، وأسر منهم مائة ألف، وغنم من أواني الذهب والفضة، وأواني الصين شيئا لا يعهد لاحد مثله، فلما مات ظهرت ملوك الترك على البلاد الشرقية.
وفي جمادى الاولى

(12/7)


منها ولى أبو الحسين أحمد بن مهذب الدولة علي بن نصر بلاد البطائح بعد أبيه، فقاتله ابن عمه (1) فغلبه وقتله، ثم لم تطل مدته فيها (2) حتى قتل، ثم آلت تلك البلاد بعد ذلك إلى سلطان الدولة صاحب بغداد، وطمع فيهم العامة، فنزلوا إلى واسط فقاتلوهم مع الترك.
وفيها ولى نور الدولة أبو الاغردبيس بن أبي الحسن علي بن مزيد بعد وفاة أبيه.
وفيها قدم سلطان الدولة إلى بغداد، وضرب الطبل في أوقات الصلوات، ولم تجر بذلك عادة، وعقد عقده على بنت قرواش على صداق خمسين ألف دينار.
ولم يحج أحد من أهل العراق لفساد البلاد، وعيث الاعراب وضعف الدولة.
قال ابن الجوزي في المنتظم: أخبرنا سعد الله بن علي البزار أنبأ أبو بكر الطريثيثي، أنبأ هبة الله بن الحسن الطبري.
قال: وفي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة، فأظهروا الرجوع وتبرأوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للاسلام، وأخذت خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوا أحل فيهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها، في قتل المعتزلة والرافضة والاسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة، وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم على المنابر، وأبعد جميع طوائف أهل البدع، ونفاهم عن ديارهم، وصار ذلك سنة في الاسلام.
وفيها توفي من الاعيان الحاجب الكبير...شباشي أبو نصر مولى شرف الدولة، ولقبه بهاء الدولة بالسعيد، وكان كثير الصدقة والاوقاف على وجوه القربات فمن ذلك أنه وقف دباها على المارستان وكانت تغل شيئا كثيرا من الزروع والثمار والخراج وبنى قنطرة الخندق والمارستان والناصرية وغير ذلك، ولما مات دفن بمقبرة الامام أحمد وأوصى أن لا
يبنى عليه فخالفوه، فعقدوا قبة عليه فسقطت بعد موته بنحو من سبعين سنة واجتمع نسوة عند قبره ينحن يبكين، فلما رجعن رأت عجوز منهن - كانت هي المقدمة فيهن - في المنام كأن تركيا خرج إليهن من قبره ومعه دبوس فحمل عليهن وزجرهن عن ذلك، وإذا هو الحاجب السعيد، فانتبهت مذعورة ثم دخلت سنة تسع وأربعمائة في يوم الخميس السابع عشر من المحرم قرئ بدار الخلافة في الموكب كتاب في مذهب أهل
__________
(1) في الكامل 9 / 303 ومختصر أخبار البشر 2 / 150: ابن أخت مهذب الدولة عبد الله بن يني (عند أبي الفداء بني) (2) كان ملكه أقل من ثلاثة أشهر (الكامل).
(*)

(12/8)


السنة وفيه أن من قال القرآن مخلوق فهو كافر حلال الدم.
وفي النصف من جمادى الاولى منها فاض البحر المالح وتدانى إلى الابلة، ودخل البصرة بعد يومين.
وفيها غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند وتواقع هو وملك الهند فاقتتل الناس قتالا عظيما، ثم انجلت عن هزيمة عظيمة على الهند، وأخذ المسلمون يقتلون فيهم كيف شاؤوا، وأخذوا منهم أموالا عظيمة من الجواهر والذهب والفضة، وأخذوا منهم مائتي فيل، واقتصوا آثار المنهزمين منهم، وهدموا معامل كثيرة.
ثم عاد إلى غزنة مؤيدا منصورا.
ولم يحج أحد من درب العراق فيها لفساد البلاد وعيث الاعراب.
وفيها توفي من الاعيان...رجاء بن عيسى بن محمد أبو العباس الانصناوي، نسبة إلى قرية من قرى مصر يقال لها أنصنا.
قدم بغداد فحدث بها وسمع منه الحافظ، وكان ثقة فقيها مالكيا عدلا عند الحكام، مرضيا.
ثم عاد إلى بلده وتوفي فيها، وقد جاوز الثمانين.
عبد الله بن محمد بن أبي علان
أبو أحمد قاضي الاهواز، كان ذا مال، وله مصنفات منها كتاب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، جمع فيه ألف معجزة، وكان من كبار شيوخ المعتزلة، توفي فيها عن تسع وثمانين سنة.
علي بن نصر ابن أبي الحسن، مهذب الدولة، صاحب بلاد البطيحة، له مكارم كثيرة، وكان الناس يلجأون إلى بلاده في الشدائد فيؤويهم، ويحسن إليهم، ومن أكبر مناقبه إحسانه إلى أمير المؤمنين القادر لما استجار به ونزل عنده بالبطائح فارا من الطائع، فآواه وأحسن إليه، وكان في خدمته حتى ولي إمرة المؤمنين، وكان له بذلك عنده اليد البيضاء، وقد ولي البطائح ثنتين وثلاثين سنة وشهورا، وتوفي فيها عن ثنتين وسبعين سنة، وكان سبب موته أنه افتصد فانتفخ ذراعه فمات (1).
عبد الغني بن سعيد ابن علي بن بشر بن مروان بن عبد العزيز، أبو محمد الازدي المصري، الحافظ، كان عالما
__________
(1) ذكر وفاته ابن الاثير في الكامل 9 / 302 في سنة 408 قال: وكان مولده سنة 335 ه.
(*)

(12/9)


بالحديث وفنونه، وله فيه المصنفات الكثيرة الشهيرة.
قال أبو عبد الله الصوري الحافظ: ما رأت عيناي مثله في معناه، وقال الدارقطني: ما رأيت بمصر مثل شاب يقال له عبد الغني، كأنه شعلة نار، وجعل يفخم أمره ويرفع ذكره.
وقد صنف الحافظ عبد الغني هذا كتابا فيه أوهام الحاكم، فلما وقف الحاكم عليه جعل يقرأه على الناس ويعترف لعبد الغني بالفضل، ويشكره ويرجع فيه إلى ما أصاب فيه من الرد عليه، رحمهما الله، ولد عبد الغني لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ثنتين [ وثلاثين ] (1) وثلثمائة وتوفي في (2) صفر من هذه السنة رحمه الله.
محمد بن أمير المؤمنين ويكنى بأبي الفضل، كان قد جعله ولي عهده من بعده، وضربت السكة باسمه وخطب له الخطباء على المنابر، ولقب بالغالب بالله، فلم يقدر ذلك.
توفي فيها عن سبع وعشرين سنة.
محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد
أبو الفتح البزار الطرسوسي، ويعرف بابن البصري، سمع الكثير من المشايخ، وسمع منه الصوري ببيت المقدس، حين أقام بها، وكان ثقة مأمونا.
ثم دخلت سنة عشر وأربعمائة فيها ورد كتاب يمين الدولة محمود بن سبكتكين، يذكر فيه ما افتتحه من بلاد الهند في السنة الخالية، وفيه أنه دخل مدينة فيها ألف قصر مشيد، وألف بيت للاصنام.
وفيها من الاصنام شئ كثير، ومبلغ ما على الصنم من الذهب ما يقارب مائة ألف دينار، ومبلغ الاصنام الفضة زيادة على ألف صنم، وعندهم صنم معظم، يؤرخون له وبه بجهالتهم ثلثمائة ألف عام، وقد سلبنا ذلك كله وغيره مما لا يحصى ولا يعد، وقد غنم المجاهدون في هذه الغزوة شيئا كثيرا، وقد عمموا المدينة بالاحراق، فلم يتركوا منها إلا الرسوم، وبلغ عدد القتلى من الهنود خمسين ألفا، وأسلم منهم نحو من عشرين ألفا، وأفرد خمس الرقيق فبلغ ثلاثا وخمسين ألفا، واعترض من الافيال ثلثمائة وست وخمسين فيلا، وحصل من الاموال عشرون ألف ألف درهم، ومن الذهب شئ كثير.
وفي ربيع الآخر منها قرئ عهد أبي الفوارس ولقب قوام الدولة، وخلع عليه خلعا حملت إليه بولاية كرمان، ولم يحج في هذه السنة أحد من العراق.
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في تذكرة الحفاظ / 1049: في سابع صفر.
(*)

(12/10)


وممن توفي فيها من الاعيان الاصيفر الذي كان يخفر الحجاج.
أحمد بن موسى بن مردويه ابن فورك، أبو بكر الحافظ الاصبهاني، توفي في رمضان منها.
هبة الله بن سلامة أبو القاسم الضرير المقرئ المفسر، كان من أعلم الناس وأحفظهم للتفسير، وكانت له حلقة في جامع المنصور، روى ابن الجوزي بسنده إليه قال: كان لنا شيخ نقرأ عليه فمات بعض أصحابه
فرآه في المنام فقال له: ما فعل الله بك ؟ قال: غفر لي.
قال: فما كان حالك مع منكر ونكير ؟ قال: لما أجلساني وسألاني ألهمني الله أن قلت: بحق أبي بكر وعمر دعاني، فقال أحدهما للآخر: قد أقسم بعظيمين فدعه، فتركاني وذهبا.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة فيها عدم الحاكم بمصر، وذلك أنه لما كان ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوال فقد الحاكم بن المعز الفاطمي صاحب مصر، فاستبشر المؤمنون والمسلمون بذلك، وذلك لانه كان جبارا عنيدا، وشيطانا مريدا.
ولنذكر شيئا من صفاته القبيحة، وسيرته الملعونة، أخزاه الله.
كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه وأقواله، جائرا، وقد كان يروم أن يدعي الالوهية كما ادعاها فرعون، فكان قد أمر الرعية إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفا، إعظاما لذكره واحتراما لاسمه، فعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجدا له، حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الاسواق من الرعاع وغيرهم، ممن كان لا يصلي الجمعة، وكانوا يتركون السجود لله في يوم الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم، وأمر في وقت لاهل الكتابين بالدخول في دين لاسلام كرها، ثم أذن لهم في العود إلى دينهم، وخرب كنائسهم ثم عمرها، وخرب القمامة ثم أعادها، وابتنى المدارس.
وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، ثم قتلهم وأخربها، وألزم الناس بغلق الاسواق نهارا، وفتحها ليلا، فامتثلوا ذلك دهرا طويلا، حتى اجتاز مرة برجل يعمل النجارة في أثناء النهار.
فوقف عليه فقال: ألم أنهكم ؟ فقال: يا سيدي لما كان الناس يتعيشون بالنهار كانوا يسهرون بالليل، ولما كانوا يتعيشون بالليل سهروا بالنهار فهذا من جملة السهر، فتبسم وتركه.
وأعاد الناس إلى أمرهم الاول، وكل هذا تغيير للرسوم، واختبار لطاعة العامة له، ليرقى في ذلك إلى ما هو أشر وأعظم منه.
وقد كان يعمل

(12/11)


الحسبة بنفسه فكان يدور بنفسه في الاسواق على حمار له - وكان لا يركب إلا حمارا - فمن وجده قد غش في معيشة أمر عبدا أسود معه يقال له مسعود، أن يفعل به الفاحشة العظمى، وهذا أمر منكر
ملعون، لم يسبق إليه، وكان قد منع النساء من الخروج من منازلهن (1) وقطع شجر الاعناب حتى لا يتخذ الناس منها خمرا (2)، ومنعهم من طبخ الملوخية (3)، وأشياء من الرعونات التي من أحسنها منع النساء من الخروج، وكراهة الخمر، وكانت العامة تبغضه كثيرا، ويكتبون له الاوراق بالشتيمة البالغة له ولاسلافه، في صورة قصص، فإذا قرأها ازداد غيظا وحنقا عليهم، حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق بخفيها وإزارها.
وفي يدها قصة من الشتم واللعن والمخالفة شئ كثير، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها فرأى ما فيها، فأغضبه ذلك جدا، فأمر بقتل المرأة، فلما تحققها من ورق ازداد غيظا إلى غيظه، ثم لما وصل إلى القاهرة أمر السودان أن يذهبوا إلى مصر فيحرقوها وينهبوا ما فيها من الاموال والمتاع والحريم، فذهبوا فامتثلوا ما أمر هم به، فقاتلهم أهل مصر قتالا شديدا، ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحريم، وهو في كل يوم قبحه الله، يخرج فيقف من بعيد وينظر ويبكي ويقول: من أمر هؤلاء العبيد بهذا ؟ ثم اجتمع الناس في الجوامع ورفعوا المصاحف وصاروا إلى الله عزوجل، واستغاثوا به، فرق لهم الترك والمشارقة وانحازوا إليهم، وقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم، وتفاقم الحال جدا، ثم ركب الحاكم لعنه الله ففصل بين الفريقين، وكف العبيد عنهم، وكان يظهر التنصل مما فعله العبيد وأنهم ارتكبوا ذلك من غير علمه وإذنه، وكان ينفذ إليهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن، وما انجلى الامر حتى احترق من مصر نحو ثلثها، ونهب قريب من نصفها، وسبيت نساء وبنات كثيرة وفعل معهن الفواحش والمنكرات، حتى أن منهن من قتلت نفسها خوفا من العار والفضيحة، واشترى الرجال منهم من سبي لهم من النساء والحريم، قال ابن الجوزي: ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عن له أن يدعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد يا أحد يا محيي يا مميت قبحهم الله جميعا.
صفة مقتله لعنه الله كان قد تعدى شره إلى الناس كلهم حتى إلى أخته (4)، وكان يتهمها بالفاحشة، ويسمعها
__________
(1) أصدر مرسومه الشهير هذا في شعبان سنة 404 ه.
(2) صدر مرسوم في ربيع الاول سنة 399 ه وصدر مرسوم في محرم 402 وأتبعه بمرسوم جديد في جمادى الآخرة سنة 403 بشأن الخمر وتحريم المسكرات والفقاع والزبيب وجميع الاعناب، وهكذا خصت الخمر ومصادرها طوال عهد الحاكم بأقسى المطاردات وأعنفها (انظر الخطط للمقريزي 4 / 72 وابن خلكان 2 / 166).
(3) صدر مرسوم منع أكل الملوخية في المحرم سنة 395.
(4) واسمها ست الملك (الكامل - العبر).
(*)

(12/12)


اغلظ الكلام، فنبرمت منه، وعملت على قتله، فراسلت أكبر الامراء، أمير يقال له ابن داوس، فتوافقت هي وهو على قتله ودماره، وتواطآ على ذلك، فجهز من عنده عبدين، أسودين شهمين، وقال لهما: إذا كانت الليلة الفلانية فكونا في جبل المقطم، ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل لينظر في النجوم، وليس معه أحد إلا ركابي وصبي، فاقتلاه واقتلاهما معه، واتفق الحال على ذلك.
فلما كانت تلك الليلة قال الحاكم لامه: علي في هذه الليلة قطع عظيم، فإن نجوت منه عمرت نحوا من ثمانين سنة، ومع هذا فانقلي حواصلي إليك، فإن أخوف ما أخاف عليك من أختي، وأخوف ما أخاف على نفسي منها، فنقل حواصله إلى أمه، وكان له في صناديق قريب من ثلثمائة ألف دينار، وجواهر آخر.
فقالت له أمه: يا مولانا إذا كان الامر كما تقول فارحمني ولا تركب في ليلتك هذه إلى موضع وكان يحبها.
فقال: أفعل، وكان من عادته أن يدور حول القصر كل ليلة، فدار ثم عاد إلى القصر، فنام إلى قريب من ثلث الليل الاخير، فاستيقظ وقال: إن لم أركب الليلة، فاضت نفسي، فثار فركب فرسا وصحبه صبي وركابي، وصعد الجبل المقطم فاستقبله ذانك العبدان فأنزلاه عن مركوبه، وقطعا يديه ورجليه، وبقرا بطنه، فأتيا به مولاهما ابن دواس، فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها، واستدعت الامراء والاكابر والوزير وقد أطلعته على الجلية، فبايعوا لولد الحاكم أبي الحسن علي، ولقب بالظاهر لاعزاز دين الله، وكان بدمشق، فاستدعت به وجعلت تقول للناس: إن الحاكم قال لي: إن يغيب عنكم سبعة أيام ثم يعود، فاطمأن الناس، وجعلت ترسل ركابيين إلى الجبل فيصعدونه، ثم يرجعون فيقولون تركناه في الموضع الفلاني، ويقول الذين
بعدهم لامه: تركناه في موضع كذا وكذا.
حتى اطمأن الناس وقدم ابن أخيها واستصحب معه من دمشق ألف ألف دينار، وألفي ألف درهم، فحين وصل ألبسته تاج جد أبيه المعز، وحلة عظيمة، وأجلسته على السرير، وبايعه الامراء والرؤساء، وأطلق لهم الاموال، وخلعت على ابن دواس خلعة سنية هائلة، وعملت عزاء أخيها الحاكم ثلاثة أيام، ثم أرسلت إلى ابن دواس طائفة من الجند ليكونوا بين يديه بسيوفهم وقوفا في خدمته، ثم يقولوا له في بعض الايام: أنت قاتل مولانا، ثم يهبرونه بسيوفهم، ففعلوا ذلك، وقتلت كل من اطلع على سرها في قتل أخيها، فعظمت هيبتها وقويت حرمتها وثبتت دولتها.
وقد كان عمر الحاكم يوم قتل سبعا (1) وثلاثين سنة، ومدة ملكه من ذلك خمسا وعشرين سنة (2).
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة فيها تولى القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد السمناني لحسبة والمواريث ببغداد، وخلع عليه
__________
(1) في الكامل 9 / 316 ستا وفي مختصر أخبار البشر 2 / 151: ستا وثلاثين سنة وتسعة أشهر.
(2) في الكامل 9 / 316: وعشرين يوما.
وفي مختصر أخبار البشر 2 / 151: وأياما (*)

(12/13)


السواد وفيها قالت جماعة من العلماء والمسلمين للملك الكبير يمين الدولة، محمود بن سبكتكين: أنت أكبر ملوك الارض، وفي كل سنة تفتح طائفة من بلاد الكفر، وهذه طريق الحج، قد تعطلت من مدة ستين وفتحك لها أوجب من غيرها.
فتقدم إلى قاضي القضاة أبي محمد الناصحي أن يكون أمير الحج في هذه السنة، وبعث معه بثلاثين ألف دينار للاعراب، غير ما جهز من الصدقات، فسار الناس بصحبته، فلما كانوا بفيد اعترضهم الاعراب فصالحهم القاضي أبو محمد الناصحي بخمسة آلاف دينار، فامتنعوا وصمم كبيرهم - وهو جماز (1) بن عدي - على أخذ الحجيج، وركب فرسه وجال جولة واستنهض شياطين العرب، فتقدم إليه غلام من سمرقند فرماه بسهم فوصل إلى قلبه فسقط ميتا، وانهزمت الاعراب، وسلك الناس الطريق فحجوا ورجعوا سالمين ولله الحمد والمنة.
وممن توفي فيها من الاعيان...أبو سعد الماليني أحمد بن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن حفص، أبو سعد الماليني، ومالين قرية من قرى هراة، كان من الحفاظ المكثرين الراحلين في طلب الحديث إلى الآفاق، وكتب كثيرا، وكان ثقة صدوقا صالحا، مات بمصر في شوال منها.
الحسن بن الحسين ابن محمد بن الحسين بن رامين القاضي، أبو محمد الاستراباذي، نزل بغداد وحدث بها عن الاسماعيلي وغيره، كان شافعيا كبيرا، فاضلا صالحا.
الحسن بن منصور بن غالب الوزير الملقب ذا السعادتين، ولد بسيراف سنة ثلاث (2) وخمسين وثلثمائة، ثم صار وزيرا ببغداد ثم قتل وصودر أبوه على ثمانين ألف دينار.
الحسين بن عمرو أبو عبد الله الغزال، سمع النجاد والخلدي وابن السماك وغيرهم.
قال الخطيب: كتبت عنه وكان ثقة صالحا كثير البكاء عند الذكر.
__________
(1) في ابن الاثير 9 / 325: حمار.
(2) في الكامل 9 / 310: اثنتين وخمسين.
(*)

(12/14)


محمد بن عمر أبو بكر العنبري الشاعر، كان أديبا ظريفا، حسن الشعر، فمن ذلك قوله: إني نظرت إلى الزما * ن وأهله نظرا كفاني فعرفته وعرفتهم * وعرفت عزي من هواني فلذاك أطرح الصد * يق فلا أراه ولا يراني وزهدت فيما في يدي * - ه ودونه نيل الاماني
فتعجبوا لمغالب * وهب الاقاصي للاداني وانسل من بين الزحا * م فما له في الغلب ثاني قال ابن الجوزي: وكان متصوفا ثم خرج عنهم وذمهم بقصائد ذكرتها في تلبيس إبليس توفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الاولى منها.
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن روق (1) بن عبد الله بن يزيد بن خالد، أبو الحسن البزار (2)، المعروف بابن رزقويه.
قال الخطيب: هو أول شيخ كتبت عنه في سنة ثلاث وأربعمائة، وكان يذكر أنه درس القرآن ودرس الفقه على مذهب الشافعي، وكان ثقة صدوقا كثير السماع والكتابة، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، مديما لتلاوة القرآن، شديد على أهل البدع، واكب دهرا على الحديث، وكان يقول: لا أحب الدنيا إلا لذكر الله وتلاوة القرآن، وقراءتي عليكم الحديث، وقد بعث بعض الامراء إلى العلماء بذهب فقبلوا كلهم غيره، فإنه لم يقبل شيئا، وكانت وفاته يوم الاثنين السادس عشر من جمادى الاولى منها، عن سبع وثمانين سنة، ودفن بالقرب من مقبرة معروف الكرخي.
أبو عبد الرحمن السلمي محمد بن الحسين بن محمد بن موسى، أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري، روى عن الاصم وغيره، وعنه مشايخ البغداديين، كالازهري والعشاري وغيرهما، وروى عنه البيهقي وغيره.
قال ابن الجوزي: كانت له عناية بأخبار الصوفية، فصنف لهم تفسيرا على طريقتهم، وسننا وتاريخا، وجمع شيوخا وتراجم وأبوابا، له بنيسابور دار معروفة، وفيها صوفية وبها قبره، ثم ذكر كلام الناس
__________
(1) في الكامل 9 / 325: رزق.
(2) في تذكرة الحفاظ 1052 والكامل 9 / 325: البزاز.
(*)

(12/15)


في تضعيفه في الرواية، فحكى عن الخطيب عن محمد بن يوسف القطان أنه قال: لم يكن بثقة، ولم يكن سمع من الاصم شيئا كثيرا، فلما مات الحاكم روى عنه أشياء كثيرة جدا، وكان يضع للصوفية
الاحاديث.
قال ابن الجوزي: وكانت وفاته في ثالث شعبان منها.
أبو علي الحسن بن علي الدقاق النيسابوري كان يعظ الناس ويتكلم على الاحوال والمعرفة، فمن كلامه: من تواضع لاحد لاجل دنياه ذهب ثلثا دينه، لانه خضع له بلسانه وأركانه، فإن اعتقد تعظيمه بقلبه أو خضع له به ذهب دينه كله.
وقال في قوله تعالى (اذكروني أذكركم) [ البقرة: 152 ] اذكروني وأنتم أحياء أذكركم وأنتم أموات تحت التراب، وقد تخلى عنكم الاقارب والاصحاب والاحباب.
وقال: البلاء الاكبر أن تريد ولا تراد، وتدنو فترد إلى الطرد والابعاد، وأنشد عند قوله تعالى (فتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف) [ يوسف: 84 ] جننا بليلى وهي جنت بغيرنا * وأخرى بنا مجنونة لا نريدها وقال في قول صلى الله عليه وسلم " حفت الجنة بالمكاره " (1): إذا كان هذا المخلوق لا وصول إليه إلا بتحمل المشاق فما الظن بمن لم يزل ؟ وقال في قوله عليه السلام " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ".
يا عجبا لمن لم ير محسنا غير الله كيف لا يميل بكليته إليه ؟ قلت: كلامه على هذا الحديث جيد والحديث لا يصح بالكلية.
صريع الدلال الشاعر أبو الحسن علي بن عبيد الواحد (2)، الفقيه البغدادي، الشاعر الماجن، المعروف بصريع الدلال، قتيل الغواني (3) ذي الرقاعتين، له قصيدة مقصورة عارض بها مقصورة ابن دريد يقول فيها:
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق باب (28) ومسلم في الجنة ج (1) وأبو داود في السنة باب (22) والترمذي في صفة الجنه باب (21) والنسائي في الايمان (3).
والدارمي في الرقاق باب (117) وأحمد في المسند 2 / 260، 333، 354، 373، 3 / 158، 254، 284.
(2) في الوفيات 3 / 383: عبد الواحد.
وفي ابن الوردي 1 / 504: عبد الرحمن.
وفي عبر الذهبي 3 / 110 ذكر باسم: محمد.
وسماه في تتمة اليتيمة 5 / 22: محمد بن عبد الواحد.
وقال: بصري المولد والمنشأ إلا أنه استوطن
بغداد.
(3) في الوفيات وابن الوردي ومختصر أخبار البشر: الغواشي.
(*)

(12/16)


وألف حمل من متاع تستر * أنفع للمسكين من لقط النوى من طبخ الديك ولا يذبحه * طار من القدر إلى حيث انتهى من دخلت في عينه مسلة * فسله من ساعته كيف العمى والذقن شعر في الوجوه طالع * كذلك العقصة من خلف القفى إلى أن ختمها بالبيت الذي حسد عليه وهو قوله: من فاته العلم وأخطاه الغنى * فذاك والكلب على حد سوى قدم مصر في سنة ثنتي عشرة وأربعمائة وامتدح فيها خليفتها الظاهر لاعزاز دين الله ابن الحاكم واتفقت وفاته بها في رجبها.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة فيها جرت كائنة غريبة عظيمة، ومصيبة عامة، وهي أن رجلا من المصريين من أصحاب الحاكم اتفق مع جماعة من الحجاج المصريين على أمر سوء، وذلك أنه لما كان يوم النفر الاول طاف هذا الرجل بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الاسود جاء ليقبله فضربه بدبوس كان معه ثلاث ضربات متواليات، وقال: إلى متى نعبد هذا الحجر ؟ ولا محمد ولا علي يمنعني مما أفعله، فإني أهدم اليوم هذا البيت، وجعل يرتعد، فاتقاه أكثر الحاضرين وتأخروا عنه، وذلك لانه كان رجلا طوالا جسيما أحمر اللون أشقر الشعر، وعلى باب الجامع جماعة من الفرسان، وقوف ليمنعوه ممن يريد منعه من هذا الفعل، وأراده بسوء، فتقدم إليه رجل من أهل اليمن معه خنجر فوجأه بها، وتكاثر الناس عليه فقتلوه وقطعوه قطعا، وحرقوه بالنار، وتتبعوا أصحابه فقتلوا منهم جماعة، ونهبت أهل مكة الركب المصري، وتعدى النهب إلى غيرهم، وجرت خبطة عظيمة، وفتنة كبيرة جدا، ثم سكن الحال بعد
أن تتبع أولئك النفر الذين تمالاوا على الالحاد في أشرف البلاد غير أنه قد سقط من الحجر ثلاث فلق مثل الاظفار، وبدا ما تحتها أسمر يضرب إلى صفرة، محببا مثل الخشخاش، فأخذ بنو شيبة تلك الفلق فعجنوها بالمسك والك وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت، فاستمسك الحجر واستمر على ما هو عليه الآن، وهو ظاهر لمن تأمله.
وفيها فتح المارستان الذي بناه الوزير مؤيد الملك، أبو علي الحسن، وزير شرف الملك بواسط، ورتب له الخزان والاشربة والادوية والعقاقير، وغير ذلك مما يحتاج إليه.
وفيها توفي من الاعيان...ابن البواب الكاتب صاحب الخط المنسوب، علي بن هلال أبو الحسن بن البواب، صاحب أبي الحسين بن

(12/17)


سمعون الواعظ، وقد أثنى على ابن البواب غير واحد من دينه وأمانته، وأما خطه وطريقته فيه فأشهر من أن ننبه عليها، وخطه أوضح تعريبا من خط أبي علي بن مقلة، ولم يكن بعد ابن مقلة أكتب منه، وعلى طريقته الناس اليوم في سائر الاقاليم إلا القليل.
قال ابن الجوزي: توفي يوم السبت ثاني جمادى الآخرة منها، ودفن بمقبرة باب حرب، وقد رثاه بعضهم بأبيات منها قوله: فللقلوب التي أبهجتها حرق * وللعيون التي أقررتها سهر فما لعيش وقد ودعته أرج * وما لليل وقد فارقته سحر قال ابن خلكان: ويقال له الستري، لان أباه كان ملازما لستر الباب، ويقال له ابن البواب وكان قد أخذ الخط عن عبد الله بن محمد بن أسد بن علي بن سعيد البزاز، وقد سمع أسد هذا على النجاد وغيره، وتوفي سنة عشر وأربعمائة، وأما ابن البواب فإنه توفي في جمادى الاولى من هذه السنة، وقبل في سنة ثلاث وعشرين (1) وأربعمائة، وقد رثاه بعضهم فقال: استشعرت (2) الكتاب فقدك سالفا * وقضت بصحة ذلك الايام فلذاك سودت الدوي كآبة * أسفا عليك وشقت الاقلام ثم ذكر ابن خلكان أول من كتب بالعربية، فقيل إسماعيل عليه السلام، وقيل أول من كتب
بالعربية من قريش حرب بن أمية بن عبد شمس، أخذها من بلاد الحيرة عن رجل يقال له أسلم بن سدرة، وسأله ممن اقتبستها ؟ فقال: من واضعها رجل يقال له مرامر بن مروة، وهو رجل من أهل الانبار.
فأصل الكتابة في العرب من الانبار.
وقال الهيثم بن عدي: وقد كان لحمير كتابة يسمونها المسند، وهي حروف متصلة غير منفصلة (3)، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها، وجميع كتابات الناس تنتهي إلى اثنى عشر صنفا وهي العربية، والحميرية، واليونانية، والفارسية، والرومانية (4)، والعبرانية، والرومية، والقبطية، والبربرية، والهندية، والاندلسية، والصينية.
وقد اندرس كثير منها فقل من يعرف شيئا منها.
وفيها توفي من الاعيان...علي بن عيسى ابن سليمان بن محمد بن أبان، أبو الحسن الفارسي المعروف بالسكري الشاعر، وكان يحفظ
__________
(1) في الوفيات 3 / 343 والكامل 9 / 325: ثلاث عشرة.
(2) في الوفيات: استشعر.
(3) في الوفيات 3 / 344: منفصلة غير متصلة.
(4) في الوفيات: السريانية.
(*)

(12/18)


القرآن ويعرف القراءات، وصحب أبا بكر الباقلاني، وأكثر شعره في مديح الصحابة وذم الرافضة.
وكانت وفاته في شوال من هذه السنة ودفن بالقرب من قبر معروف، وقد كان أوصى أن يكتب على قبره هذه الابيات التي عملها وهي قوله: نفس، يا نفس كم تمادين في تلفي * وتمشين في الفعال المعيب راقبي الله واحذري موقف العر * ض وخافي يوم الحساب العصيب لا تغرنك السلامة في العي * ش فإن السليم رهن الخطوب كل حي فللمنون ولا يد * فع كأس المنون كيد الاديب
واعلمي أن للمنية وقتا * سوف يأتي عجلان غير هيوب إن حب الصديق في موقف ال * حشر أمان للخائف المطلوب محمد بن أحمد بن محمد بن منصور أبو جعفر البيع، ويعرف بالعتيقي، ولد سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة، وأقام بطرسوس مدة، وسمع بها وبغيرها، وحدث بشئ يسير.
ابن النعمان (1) شيخ الامامية الروافض، والمصنف لهم، والمحامي عن حوزتهم، كانت له وجاهة عند ملوك الاطراف، لميل كثير من أهل ذلك الزمان إلى التشيع، وكان مجلسه يحضره خلق كثير من العلماء من سائر الطوائف، وكان من جملة تلاميذه الشريف الرضي والمرتضى، وقد رثاه بقصيدة بعد وفاته في هذه السنة، منها قوله: من لعضل أخرجت منه حساما * ومعان فضضت عنها ختاما ؟ من يثير العقول من بعدما * كن همودا ويفتح الافهاما ؟ من يعير الصديق رأيا * إذا ما سل في الخطوب حساما ؟ ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمائة فيها قدم الملك شرف الدولة إلى بغداد فخرج الخليفة في الطيارة لتلقيه، وصحبته الامراء والقضاة والفقهاء والوزراء والرؤساء، فلما واجهه شرف الدولة قبل الارض بين يديه مرات والجيش
__________
(1) وهو أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان البغدادي الكرخي ويعرف أيضا بابن المعلم.
(*)

(12/19)


واقف برمته، والعامة في الجانبين.
وفيها ورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سبكتكين إلى الخليفة يذكر أنه دخل بلاد الهند أيضا، وأنه فتح بلادا، وقتل خلقا منهم، وأنه صالحه بعض ملوكهم وحمل إليه هدايا سنية، منها فيول كثيرة، ومنها طائر على هيئة القمري، إذا وضع عند الخوان وفيه سم دمعت عيناه وجرى منهما ماء، ومنها حجر يحك ويؤخذ منه ما تحصل منه فيطلى بها الجراحات ذات
الافواه الواسعة فيلحمها، وغير ذلك.
وحج الناس من أهل العراق ولكن رجعوا على طريق الشام لاحتياجهم إلى ذلك.
وفيها توفي من الاعيان...الحسن بن الفضل بن سهلان أبو محمد الرامهرمزي، وزير سلطان الدولة، وهو الذي بنى سور الحائر عند مشهد الحسين، قتل في شعبان منها (1).
الحسن بن محمد بن عبد الله أبو عبد الله الكشغلي (2) الطبري، الفقيه الشافعي، تفقه على أبي القاسم الداركي، وكان فهما فاضلا صالحا زاهدا، وهو الذي درس بعد الشيخ أبي حامد الاسفرائيني في مسجده، مسجد عبد الله بن المبارك في قطيعة الربيع، وكان الطلبة عنده مكرمين، اشتكى بعضهم إليه حاجة وأنه قد تأخرت عنه نفقته التي ترد إليه من أبيه، فأخذه بيده وذهب إلى بعض التجار فاستقرض له منه خمسين دينارا.
فقال التاجر: حتى تأكل شيئا، فمد السماط فأكلوا وقال: يا جارية هاتي المال، فأحضرت شيئا من المال فوزن منها خمسين دينارا ودفعها إلى الشيخ، فلما قام إذا بوجه ذلك الطالب قد تغير، فقال له الكشغلي: مالك ؟ فقال: يا سيدي قد سكن قلبي حب هذه الجارية، فرجع به إلى التاجر، فقال له: قد وقعنا في فتنة أخرى، فقال: وما هي ؟ فقال: إن هذا الفقيه قد هوى الجارية فأمر التاجر الجارية أن تخرج فتسلمها الفقيه، وقال ربما أن يكون قد وقع في قلبها منه مثل الذي قد وقع في قلبه منها، فلما كان عن قريب قدم على ذلك الطالب نفقته من أبيه ستمائة دينار، فوفى ذلك التاجر ما كان له عليه من ثمن الجارية والقرض، وذلك بسفارة الشيخ.
توفي في ربيع الآخر منها ودفن بباب حرب
__________
(1) وفي النجوم الزاهرة 4 / 259: توفي في السجن.
(2) في الكامل 9 / 334: الكشفلي.
(*)

(12/20)


علي بن عبد الله بن جهضم أبو الحسن الجهضمي الصوفي المكي، صاحب بهجة الاسرار، كان شيخ الصوفية بمكة، وبها توفي قال ابن الجوزي: وقد ذكر أنه كان كذابا، ويقال إنه الذي وضع حديث صلاة الرغائب.
القاسم بن جعفر بن عبد الواحد أبو عمر الهاشمي البصري، قاضيها، سمع الكثير، وكان ثقة أمينا، وهو راوي سنن أبي داود عن أبي علي اللؤلؤي، توفي فيها وقد جاوز التسعين (1).
محمد بن أحمد بن الحسن بن يحيى بن عبد الجبار أبو الفرج القاضي الشافعي، يعرف بابن سميكة، روى عن النجاد وغيره، وكان ثقة، توفي في ربيع الاول منها ودفن بباب حرب.
محمد بن أحمد أبو جعفر النسفي، عالم الحنفية في زمانه، وله طريقة في الخلاف، وكان فقير متزهدا، بات ليلة قلقا لما عنده من الفقر والحاجة، فعرض له فكر في فرع من الفروع كان أشكل عليه، فانفتح له فقام يرقص ويقول: أين الملوك ؟ فسألته امرأته عن خبره فأعلمها بما حصل له، فتعجبت من شأنه رحمه الله.
وكانت وفاته في شعبان منها.
هلال بن محمد ابن جعفر بن سعدان، أبو الفتح الحفار، سمع إسماعيل الصفار والنجاد وابن الصواف وكان ثقة توفي في صفر منها عن اثنتين وتسعين سنة.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة فيها ألزم الوزير جماعة الاتراك والمولدين والشريف المرتضى ونظام الحضرة أبا الحسن الزينبي وقاضي القضاة أبا الحسن بن أبي الشوارب، والشهود، بالحضور لتجديد البيعة لشرف الدولة، فلما
__________
(1) في تذكرة الحفاظ / 1057: توفي في ذي القعدة عن اثنتين وتسعين سنة.
(*)

(12/21)


بلغ ذلك الخليفة توهم أن تكون هذه البيعة لنية فاسدة من أجله، فبعث إلى القاضي والرؤساء ينهاهم عن الحضور، فاختلفت الكلمة بين الخليفة وشرف الدولة، واصطلحا وتصافيا، وجددت البيعة لكل منهما من الآخر، ولم يحج فيها من ركب العراق ولا خراسان أحد، واتفق أن بعض الامراء (1) من جهة محمود بن سبكتكين شهد الموسم في هذه السنة، فبعث إليه صاحب مصر بخلع عظيمة ليحملها للملك محمود، فلما رجع بها إلى الملك أرسل بها إلى بغداد إلى الخليفة القادر فحرقت بالنار.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن محمد بن عمر بن الحسن أبو الفرج المعدل المعروف بابن المسلمة، ولد سنة سبع وثلاثين وثلثمائة، وسمع أباه وأحمد بن كامل والنجاد والجهضمي ودعلج وغيرهم، وكان ثقة.
سكن الجانب الشرقي من بغداد، وكان يملي في أول كل سنة مجلسا في المحرم، وكان عاقلا فاضلا، كثير المعروف، داره مألف لاهل العلم، وتفقه بأبي بكر الرازي، وكان يصوم الدهر، ويقرأ في كل يوم سبعا، ويعيده بعينه في التهجد، توفي في ذي القعدة منها.
أحمد بن محمد بن أحمد ابن القاسم بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان الضبي، أبو الحسن المحاملي، نسبة إلى المحامل التي يحمل عليها الناس في السفر، تفقه على أبي حامد الاسفراييني، وبرع فيه، حتى إن الشيخ كان يقول: هو أحفظ للفقه مني، وله المصنفات المشهورة، منها اللباب، والاوسط والمقنع وله في الخلاف، وعلق على أبي حامد تعليقة كبيرة.
قال ابن خلكان: ولد سنة ثمان وستين وثلثمائة، وتوفي في يوم الاربعاء لتسع بقين من ربيع الآخر منها، وهو شاب.
عبيد الله بن عبد الله ابن الحسين أبو القاسم الخفاف، المعروف بابن النقيب، كان من أئمة السنة، وحين بلغه موت ابن المعلم فقيه الشيعة سجد لله شكرا.
وجلس للتهنئة وقال: ما أبالي أي وقت مت بعد أن شاهدت موت ابن المعلم، ومكث دهرا طويلا يصلي الفجر بوضوء العشاء.
قال الخطيب: وسألته
عن مولده فقال في سنة خمس وثلاثمائة، وأذكر من الخلفاء المقتدر والقاهر والرضي والمتقي لله
__________
(1) وهو حسنك نائب يمين الدولة وكان على حجاج خراسان.
(*)

(12/22)


والمستكفي والمطيع والطائع والقادر والغالب بالله، الذي خطب له بولاية العهد، توفي في سلخ شعبان منها عن مائة وعشر سنين.
عمر بن عبد الله بن عمر أبو حفص الدلال، قال سمعت الشبلي ينشد قوله: وقد كان شئ سمى السرور * قديما سمعنا به ما فعل خليلي، إن دام هم النفو * س قليلا على ما نراه قتل يؤمل دنيا لتبقى له * فمات المؤمل قبل الامل محمد بن الحسن أبو الحسن الاقساسي العلوي، نائب الشريف المرتضى في إمرة الحجيج، حج بالناس سنين متعددة، وله فصاحة وشعر، وهو من سلالة زيد بن علي بن الحسين.
ثم دخلت سنة ست عشرة وأربعمائة فيها قوي أمر العيارين ببغداد ونهبوا الدور جهرة، وستهانوا بأمر السلطان، وفي ربيع الاول منها توفي شرف (1) الدولة بن بويه الديلمي صاحب بغداد والعراق وغير ذلك، فكثرت الشرور ببغداد ونهبت الخزائن، ثم سكن الامر على تولية جلال الدولة أبي الطاهر، وخطب له على المنابر، وهو إذ ذاك على البصرة، وخلع على شرف الملك أبي سعيد (2) بن ماكولا وزيره، ولقب علم الدين سعد الدولة أمين الملة شرف الملك، وهو أول من لقب بالالقاب الكثيرة، ثم طلب من الخليفة أن يبايع لابي كاليجار ولي عهد أبيه سلطان الدولة، الذي استخلفه بهاء الدولة عليهم، فتوقف في الجواب ثم وافقهم على ما أرادوا، وأقيمت الخطبة للملك أبي كاليجار يوم الجمعة سادس عشر شوال منها، ثم تفاقم الامر ببغداد من جهة العيارين، وكبسوا الدور ليلا ونهار وضربوا أهلها كما يضرب
المصادرون ويستغيث أحدهم فلا يغاث، واشتد حال وهربت الشرطة من بغداد ولم تغن الاتراك شيئا، وعملت السرايج على أفواه السكك فلم يفد ذلك شيئا، وأحرقت دار الشريف المرتضى فانتقل منها، وغلت الاسعار جدا.
ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان.
__________
(1) في الكامل 9 / 346 ومختصر أخبار البشر 2 / 155: مشرف.
(وانظر العبر 4 / 474).
(2) في الكامل 9 / 349: أبي سعد.
(*)

(12/23)


وممن توفي فيها من الاعيان...سابور بن أزدشير (1) وزر لبهاء الدولة ثلاث مرات، ووزر لشرف الدولة، وكان كاتبا سديدا عفيفا عن الاموال، كثير الخير، سليم الخاطر، وكان إذا سمع المؤذن لا يشغله شئ عن الصلاة، وقد وقف دارا للعلم في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وجعل فيها كتبا كثيرة جدا، ووقف عليها غلة كبيرة فبقيت سبعين سنة ثم أحرقت عند مجئ الملك طغرلبك في سنة خمسين وأربعمائة، وكانت محلتها بين السورين، وقد كان حسن المعاشرة إلا أنه كان يعزل عماله سريعا خوفا عليهم من الاشر والبطر، توفي فيها وقد قارب التسعين (2).
عثمان النيسابوري الجداوي الواعظ.
قال ابن الجوزي: صنف كتبا في الوعظ من أبرد الاشياء، وفيه أحاديث كثيرة موضوعة، وكلمات مرذولة، إلا أنه كان خيرا صالحا، وكانت له وجاهة عند الخلفاء والملوك، وكان الملك محمود بن سبكتكين إذا رآه قام له، وكانت محلته حمى يحتمي بها من الظلمة، وقد وقع في بلده نيسابور موت، وكان يغسل الموتى محتسبا، فغسل نحوا من عشرة آلاف ميتا رحمه الله.
محمد بن الحسن بن صالحان أبو منصور الوزير لشرف الدولة ولبهاء الدولة، كان وزير صدق جيد المباشرة حسن الصلاة، محافظا على أوقاتها، وكان محسنا إلى الشعراء والعلماء، توفي فيها عن ست وسبعين سنة.
الملك شرف (3) الدولة أبو علي بن بهاء الدولة، أبي نصر بن عضد الدولة بن بويه، أصابه مرض حار فتوفي لثمان بقين من ربيع الآخر (4) عن ثلاث وعشرين سنة، وثلاثة أشهر وعشرين يوما.
__________
(1) في الكامل والمنتظم ووفيات الاعيان: أردشير.
(2) في الوفيات والمنتظم قارب الثمانين.
قال في الوفيات 2 / 356: مولده بشيراز سنة 336 ه.
(3) انظر حاشية (1) من صفحة (23).
(4) تقدم أنه توفي في ربيع الاول، وانظر الكامل 9 / 346 والعبر 4 / 474.
وذكر ابن الاثير أن عمره كان ثلاثا وعشرين سنة وثلاثة وأشهر.
وفي مختصر أخبار البشر 2 / 155: ثلاثا وعشرين وأشهرا.
وعند ابن الوردي في تاريخه: وستة أشهر.
(*)

(12/24)


التهامي الشاعر علي بن محمد التهامي أبو الحسن، له ديوان، مشهور وله مرثاة في ولده وكان قد مات صغيرا أولها: حكم المنية في البرية جاري * ما هذه الدنيا بدار قرار ومنها: إني لارحم حاسدي لحرما * ضمت صدورهم من الاوغار نظروا صنيع الله بي فعيونهم * في جنة وقلوبهم في نار ومنها في ذم الدنيا: جبلت على كدر وأنت ترومها (1) * صفوا من الاقذار والاكدار ومكلف الايام ضد طباعها * متطلب في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما * تبني الرجاء على شفير هار ومنها قوله في ولده بعد موته:
جاورت أعدائي وجاور ربه * شتان بين جواره وجواري وقد ذكر ابن خلكان أنه رآه بعضهم في المنام هيئة حسنة فقال له بعض أصحابه: بم نلت هذا ؟ فقال: بهذا البيت * شتان بين جواره وجواري * ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة في العشرين من محرمها وقعت فتنة بين الاسفهلارية وبين العيارين، وركبت لهم الاتراك بالدبابات، كما يفعل في الحرب، وأحرقت دور كثيرة من الدور التي احتمى فيها العيارون، وأحرق من الكرخ جانب كبير، ونهب أهله، وتعدى بالنهب إلى غيرهم، وقامت فتنة عظيمة ثم خمدت الفتنة في اليوم الثاني، وقرر على أهل الكرخ مائة ألف دينار مصادرة، لاثارتهم الفتن والشرور.
وفي شهر ربيع الآخر منها شهد أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري عند قاضي القضاة ابن أبي الشوارب بعد ما كان استتابه عما ذكر عنه من الاعتزال.
وفي رمضان منها انقض كوكب سمع له دوي كدوي الرعد، ووقع في سلخ شوال برد لم يعهد مثله، واستمر ذلك إلى العشرين من ذي الحجة، وجمد الماء طول هذه المدة، وقاسى الناس شدة عظيمة، وتأخر المطر وزيادة دجلة، وقلت الزراعة، وامتنع كثير من الناس عن التصرف.
ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان في هذه السنة لفساد البلاد وضعف الدولة.
__________
(1) في الوفيات 3 / 380: طبعت على كدر وأنت تريدها.
(*)

(12/25)


وفيها توفي من الاعيان قاضي القضاة ابن أبي الشوارب.
أحمد بن محمد بن عبد الله ابن العباس بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، أبو الحسن القرشي الاموي، قاضي قضاة بغداد بعد ابن الاكفاني بثنتي عشرة سنة، وكان عفيفا نزها، وقد سمع الحديث من أبي عمر الزاهد وعبد الباقي بن قانع، إلا أنه لم يحدث.
قاله ابن الجوزي: وحكى الخطيب عن شيخه أبي العلاء الواسطي: أن أبا الحسن هذا آخر من ولي الحكم ببغداد، من سلالة محمد بن عبد اللمك بن
أبي الشوارب وقد ولي الحكم من سلالته أربعة وعشرون، منهم ولوا قضاء قضاة بغداد (1) قال أبو العلاء: ما رأينا مثل أبي الحسن هذا، جلالة ونزاهة وصيانة وشرفا.
وقد ذكر القاضي الماوردي: أنه كان له صديقا وصاحبا، وأن رجلا من خيار الناس أوصى له بمائتي دينار، فحملها إليه الماوردي فأبى القاضي أن يقبلها، وجهد عليه كل الجهد فلم يفعل، وقال له: سألتك بالله لا تذكرن هذا لاحد ما دمت حيا، ففعل الماوردي، فلم يخبر عنه إلا بعد موته، وكان ابن أبي الشوارب فقيرا إليها، وإلى ما هو دونها فلم يقبلها رحمه الله.
توفي في شوال منها.
جعفر بن أبان أبو مسلم الختلي سمع ابن بطة ودرس فقه الشافعي على الشيخ أبي حامد الاسفراييني، وكان ثقة دينا، توفي في رمضان منها.
عمر بن أحمد بن عبدويه أبو حازم الهذلي النيسابوري، سمع ابن نجيد والاسماعيلي، وخلقا، وسمع منه الخطيب وغيره، وكان الناس ينتفعون بإفادته وانتخابه، توفي يوم عيد الفطر منها.
علي بن أحمد بن عمر بن حفص أبو الحسن المقري المعروف بالحمامي، سمع النجاد والخلدي وابن السماك و غيرهم، وكان صدوقا فاضلا، حسن الاعتقاد، وتفرد بأسانيد القراءات وعلوها، توفي في شعبان منها عن تسع وثمانين سنة.
__________
(1) في الوافي 8 / 35: ثمانية منهم تقلدوا (قضاء القضاة) ببغداد.
(*)

(12/26)


صاعد بن الحسن ابن عيسى الربعي البغدادي، صاحب كتاب الفصوص في اللغة على طريقة القالي في الامالي، صنفه للمنصور بن أبي عامر، فأجازه عليه خمسة آلاف دينار، ثم قيل له إنه كذاب متهم، فقال في ذلك بعض الشعراء:
قد غاص في الماء كتاب الفصوص * وهكذا كل ثقيل يغوص فلما بلغ صاعدا هذا البيت أنشد: عاد إلى عنصره إنما * يخرج من قعر البحور الفصوص قلت: كأنه سمى هذا الكتاب بهذا الاسم ليشاكل به الصحاح للجوهري، لكنه كان مع فصاحته وبلاغته وعلمه متهما بالكذب، فلهذا رفض الناس كتابه، ولم يشتهر، وكان ظريفا ماجنا سريع الجواب، سأله رجل أعمى على سبيل التهكم فقال له: ما الحر تقل (1) ؟ فأطرق ساعة وعرف أنه افتعل هذا من عند نفسه ثم رفع رأسه إليه فقال: هو الذي يأتي نساء العميان، ولا يتعداهن إلى غيرهن، فاستحى ذلك الاعمى وضحك الحاضرون.
توفي في هذه السنة سامحه الله.
القفال المروزي (2) أحد أئمة الشافعية الكبار، علما وزهدا وحفظا وتصنيفا، وإليه تنسب الطريقة الخراسانية، ومن أصحابه الشيخ أبو محمد الجويني، والقاضي حسين، وأبو علي السبخي (3)، قال ابن خلكان: وأخذ عنه إمام الحرمين (4)، وفيما قاله نظر.
لان سن إمام الحرمين لا يتحمل ذلك، فإن القفال هذا مات في هذه السنة وله تسعون سنة، ودفن بسجستان، وإمام الحرمين ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة كما سيأتي، وإنما قيل له القفال لانه كان أولا يعمل الاقفال، ولم يشتغل إلا وهو ابن ثلاثين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وأربعمائة في ربيع الاول منها وقع برد أهلك شيئا كثيرا من الزروع والثمار، وقتل خلقا كثيرا من
__________
(1) في الوفيات 2 / 489: ما الجرنفل ؟ (2) وهو عبد الله بن أحمد أبو بكر القفال.
(3) في الوفيات 3 / 46: السنجي.
(4) في الوفيات المطبوع: واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا منهم...والشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين..وقد تخرج إمام الحرمين على والده الشيخ أبو محمد في نيسابور.
(*)

(12/27)


الدواب.
قال ابن الجوزي: وقد قيل إنه كان في برده كل بردة رطلان وأكثر، وفي واسط بلغت البردة أرطالا، وفي بغداد بلغت قدر البيض.
وفي ربيع الآخر سألت الاسفهلارية الغلمان الخليفة أن يعزل عنهم أبا كاليجار، لتهاونه بأمرهم، وفساده وفساد الامور في أيامه، ويولي عليهم جلال الدولة، الذي كانوا قد عزلوه عنهم، فماطلهم الخليفة في ذلك وكتب إلى أبي كاليجار أن يتدارك أمره، وأن يسرع الاوبة إلى بغداد، قبل أن يفوت الامر.
وألح أولئك على الخليفة في تولية جلال الدولة، وأقاموا له الخطبة ببغداد، وتفاقم الحال، وفسد النظام.
وفيها ورد كتاب من محمود بن سبكتكين يذكر أنه دخل بلاد الهند أيضا، وأنه كسر الصنم الاعظم الذي لهم المسمى بسومنات، وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق، كما يفد الناس إلى الكعبة البيت الحرام وأعظم، وينفقون عنده النفقات والاموال الكثيرة، التي لا توصف ولا تعد، وكان عليه من الاوقاف عشرة آلاف قرية، ومدينة مشهورة، وقد امتلات خزائنه أموالا، وعنده ألف رجل يخدمونه، وثلثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، لما يضرب على بابه الطبول والبوقات، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم، وكان يعوقه طول المفاوز وكثرة الموانع والآفات، ثم استخار الله السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم وعباده، وكثرة الهنود في طريقه، والمفاوز المهلكة، والارض الخطرة، في تجشم ذلك في جيشه، وأن يقطع تلك الاهوال إليه، فندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون ألفا من المقاتلة، ممن أختارهم لذلك، سوى المتطوعة، فسلمهم الله حتى انتهوا إلى بلد هذا الوثن، ونزلوا بساحة عباده، فإذا هو بمكان بقدر المدينة العظيمة، قال: فما كان بأسرع من أن ملكناه وقتلنا من أهله خمسين ألفا وقلعنا هذا الوثن وأوقدنا تحته النار.
وقد ذكر غير واحد أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالا جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الاعظم، فأشار من أشار من الامراء على السلطان محمود بأخذ الاموال وإبقاء هذا الصنم لهم، فقال: حتى أستخير الله عزوجل، فلما أصبح قال: إني فكرت في الامر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة أين محمود الذي كسر الصنم ؟ أحب إلى من أن يقال
الذي ترك الصنم لاجل ما يناله من الدنيا، ثم عزم فكسره رحمه الله، فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والجواهر النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة، ونرجو من الله له في الآخرة الثواب الجزيل الذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها، مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي، فرحمه الله وأكرم مثواه.
وفي يوم السبت ثالث رمضان دخل جلال الدولة إلى بغداد فتلقاه الخليفة في دجلة في طيارة، ومعه الاكابر والامراء، فلما واجه جلال الدولة الخليفة قبل الارض دفعات، ثم سار إلى دار الملك، وعاد الخليفة إلى داره، وأمر جلال الدولة أن يضرب له الطبل في أوقات الصلوات الثلاث، كما كان الامر في زمن عضد الدولة، وصمصامها وشرفها وبهائها، وكان الخليفة يضرب له الطبل في أوقات الخمس، فأراد جلال الدولة ذلك فقيل له يحمل هذه المساواة خليفة في ذلك، ثم صمم على ذلك في أوقات الخمس.
قال ابن الجوزي: وفيها وقع برد شديد

(12/28)


حتى جمد الماء والنبيذ وأبوال الدواب والمياه الكبار، وحافات دجلة، ولم يحج أحد من أهل العراق.
وفيها توفي من الاعيان...أحمد بن محمد بن عبد الله ابن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو عبد الله الشاهد، خطب له في جامع المنصور في سنة ست وثمانين وثلثمائة، ولم يخطب له إلا بخطبة واحدة جمعات كثيرة متعددة، فكان إذا سمعها الناس منه ضجوا بالبكاء وخشعوا لصوته.
الحسين بن علي بن الحسين أبو القاسم المغربي الوزير، ولد بمصر في ذي الحجة سنة سبعين (1) وثلثمائة، وهرب منها حين قتل صاحبها الحاكم أباه وعمه محمدا، وقصد مكة ثم الشام، ووزر في عدة أماكن، وكان يقول الشعر الحسن، وقد تذاكر هو وبعض الصالحين فأنشده ذلك الصالح شعرا: إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن * على حالة إلا رضيت بدونها فاعتزل المناصب والسلطان، فقال له بعض أصحابه: تركت المنازل والسلطان في عنفوان
شبابك ؟ فأنشأ يقول: كنت في سفر الجهل والبطالة * حينا (2) فحان مني القدوم تبت من كل مأثم فعسى * يمحي بهذا الحديث ذاك القديم بعد خمس وأربعين (3) تعدت * ألا إن الآله القديم كريم توفي بميا فارقين في رمضان منها عن خمس (4) وأربعين سنة، ودفن بمشهد علي.
محمد بن الحسن بن إبراهيم أبو بكر الوراق، المعروف بابن الخفاف، روى عن القطيعي وغيره، وقد اتهموه بوضع الحديث والاسانيد، قاله الخطيب وغيره.
__________
(1) من الوافي 12 / 441، وفي الاصل: تسعين تحريف.
(2) في الوافي، ووفيات الاعيان 2 / 176: في سفرة الغواية والجهل مقيما.
(3) في الوافي والوفيات: لقد ماطلت ألا أن الغريم كريم.
(4) في الكامل 9 / 362: ستا، وفي شذرات الذهب والعبر: عاش ثماني وأربعين سنة.
(*)

(12/29)


أبو القاسم اللالكائي هبة الله بن الحسن بن منصور: الرازي، وهو طبري الاصل، أحد تلامذة الشيخ أبي حامد الاسفراييني، كان يفهم ويحفظ، وعني بالحديث فصنف فيه أشياء كثيرة، ولكن عاجلته المنية قبل أن تشتهر كتبه، وله كتاب في السنة وشرفها، وذكر طريقة السلف الصالح في ذلك، وقع لنا سماعه على الحجار عاليا عنه، توفي بالدينور في رمضان منها، ورآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك ؟ قال: غفر لي، قال بم ؟ قال بشئ قليل من السنة أحييته.
أبو القاسم بن أمير المؤمنين القادر توفي ليلة الاحد في جمادى الآخرة، وصلي عليه غير مرة، ومشى الناس في جنازته، وحزن عليه أبوه حزنا شديدا، وقطع الطبل أياما.
ابن طباطبا الشريف (1) كان شاعرا، وله شعر حسن.
أبو إسحاق وهو الاستاذ أبو إسحاق الاسفراييني إبراهيم بن محمد بن مهران.
الشيخ أبو إسحاق الامام العلامة، ركن الدين الفقيه الشافعي، المتكلم الاصولي، صاحب التصانيف في الاصلين جامع الحلى في مجلدات، والتعليقة النافعة في أصول الفقه، وغير ذلك، وقد سمع الكثير من الحديث من أبي بكر الاسماعيلي ودعلج وغيرهما، وأخذ عنه البيهقي والشيخ أبو الطيب الطبري، والحاكم النيسابوري، وأثنى عليه، توفي يوم عاشوراء منها بنيسابور، ثم نقل إلى بلده (2) ودفن بمشهده.
القدوري صاحب الكتاب المشهور في مذهب أبي حنيفة، أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان،
__________
(1) وهو أحمد بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (رض) نقيب الطالبيين بمصر وكان من أكابر رؤسائها.
(مختصر أخبار البشر 2 / 156).
(2) أي إلى إسفراين، والاسفرايني نسبة إلى البلدة المذكورة وهي بلدة بخراسان بنواحي نيسابور على منتصف الطريق إلى جرجان (وفيات الاعيان 1 / 28 و 74).
(*)

(12/30)


أبو الحسن (1) القدوري الحنفي، صاحب المصنف المختصر، الذي يحفظ، كان إماما بارعا عالما، وثبتا مناظرا، وهو الذي تولى مناظرة الشيخ أبي حامد الاسفراييني من الحنفية، وكان القدوري يطريه ويقول: هو أعلم من الشافعي، وأنظر منه، توفي يوم الاحد الخامس من رجب منها (2)، عن ست وخمسين سنة، ودفن إلى جانب الفقيه أبي بكر الخوارزمي الحنفي.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وأربعمائة فيها وقع بين الجيش وبين جلال الدولة ونهبوا دار وزيره، وجرت له أمور طويلة، آل الحال فيها إلى اتفاقهم على إخراجه من البلد، فهئ له برذون رث، فخرج وفي يده طبر نهارا، فجعلوا لا
يلتفتون إليه ولا يفكرون فيه، فلما عزم على الركوب على ذلك البرذون الرث رثوا له ورقوا له ولهيئته وقبلوا الارض بين يديه، وانصلحت قضيته بعد فسادها.
وفيها قل الرطب جدا بسبب هلاك النخل في السنة الماضية بالبرد، فبيع الرطب كل ثلاثة أرطال بدينار جلالي، ووقع برد شديد أيضا فأهلك شيئا كثيرا من النخيل أيضا.
ولم يحج أحد من أهل المشرق ولا من أهل الديار المصرية فيها، إلا أن قوما من خراسان ركبوا في البحر من مدينة كرمان فانتهوا إلى جدة فحجوا.
وممن توفي فيها من الاعيان...حمزة بن إبراهيم بن عبد الله أبو الخطاب المنجم، حظي عند بهاء الدولة وعلماء النجوم، وكان له بذلك وجاهة عنده، حتى أن الوزراء كانوا يخافونه ويتوسلون به إليه، ثم صار أمره طريدا بعيد حتى مات يوم مات بالكرخ من سامرا غريبا، فقير مفلوجا، قد ذهب ماله وجاهه وعقله (3).
محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد أبو الحسن التاجر، سمع الكثير على المشايخ المتقدمين، وتفرد بعلو إلاسناد، وكان ذا مال جزيل فخاف من المصادرة ببغداد فانتقل إلى مصر فأقام بها سنة، ثم عاد إلى بغداد فاتفق مصارة أهل
__________
(1) في تذكرة الحفاظ / 1086 ووفيات الاعيان 1 / 78: أبو الحسين (وانظر الكامل 9 / 452 ومختصر أخبار البشر 2 / 161).
(2) في الوفيات وتذكرة الحفاظ: توفي سنة 428 ه.
وكان مولده سنة 362 وانظر الكامل 9 / 452.
والمختصر في أخبار البشر 2 / 161 وشذرات الذهب 3 / 233).
(3) ذكر ابن الاثير وفاته في سنة 418 ه (الكامل 9 / 363).
(*)

(12/31)


محلته فقسط عليه ما أفقره، ومات حين مات ولم يوجد له كفن ولم يترك شيئا فأرسل له القادر بالله ما كفن فيه.
مبارك الانماطي
كان ذا مال جزيل نحو ثلثمائة ألف دينار، مات ولم يترك وارثا سوى ابنة واحدة ببغداد، وتوفي هو بمصر.
أبو الفوارس بن بهاء الدولة كان ظالما، وكان إذا سكر يضرب الرجل من أصحابه أو وزيره مائتي مقرعة، بعد أن يحلفه بالطلاق أنه لا يتأوه، ولا يخبر بذلك أحدا.
فيقال إن حاشيته سموه، فلما مات نادوا بشعار أخيه كاليجار.
أبو محمد بن الساد وزير كاليجار، ولقبه معز الدولة، فلك الدولة، رشيد الامة، وزير الوزراء، عماد الملك، ثم سلم بعد ذلك إلى جلال الدولة فاعتقله ومات فيها.
أبو عبد الله المتكلم توفي فيها، هكذا رأيت ابن الجوزي ترجمه مختصرا.
ابن غلبون الشاعر عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب أبو محمد الشامي ثم الصوري، الشاعر المطبق، له ديوان مليح، كان قد نظم قصيدة بليغة في بعض الرؤساء (1)، ثم أنشدها لرئيس آخر يقال له ذو النعمتين (2)، وزاد فيها بيتا واحدا يقول فيه:
__________
(1) وهو علي بن الحسين والد أبي القاسم بن المغربي ومنها:...متكسبا بالشعر يا * بئس الصناعة في اليدين كانت كذلك قبل أن * يأتي علي بن الحسين (2) في وفيات الاعيان 3 / 233: ذو المنقبتين، وكان رئيس بعسقلان جاءه شاعر آخر غير عبد المحسن وأنشده القصيدة كلها وزاد فيها البيت الآتي وهو ليس من القصيدة وليس من نظم عبد المحسن.
(*)

(12/32)


ولك المناقب كلها * فلم اقتصرت على اثنتين
فأجازه جائزة سنية، فقيل له: إنه لم يقلها فيك، فقال: إن هذا البيت وحده بقصيدة، وله أيضا في بخيل نزل عنده: وأخ مسه نزولي بقرح * مثل ما مسني منه جرح (1) بت ضيفا له كما حكم الده * ر وفي حكمه على الحر فتح (2) فابتداني يقول وهو من ال * سكر بالهم (3) طافح ليس يصحو لم تغربت ؟ قلت قال رسول الل * - ه والقول منه نصح ونجح: " سافروا تغنموا " فقال وقد * قال تمام الحديث " صوموا تصحوا " ثم دخلت سنة عشرين وأربعمائة فيها سقط بناحية المشرق مطر شديد، معه برد كبار.
قال ابن الجوزي: حزرت البردة الواحدة منه مائة وخمسون رطلا، وغاصت في الارض نحوا من ذراع.
وفيها ورد كتاب من محمود بن سبكتكين أنه أحل بطائفة من أهل الري من الباطنية والروافض قتلا ذريعا، وصلبا شنيعا، وأنه انتهب أموال رئيسهم رستم بن علي الديلمي، فحصل منها ما يقارب ألف ألف دينار، وقد كان في حيازته نحو من خمسين امرأة حرة، وقد ولدن له ثلاثا وثلاثين ولدا بين ذكر وأنثى، وكانوا يرون إباحة ذلك.
وفي رجب منها انقض كواكب كثيرة شديدة الضوء شديدة الصوت.
وفي شعبان منها كثرة العملات وضعفت رجال المعونة عن مقاومة العيارين وفي يوم الاثنين منها ثامن عشر رجب غار ماء دجلة حتى لم يبق منه إلا القليل، ووقفت الارحاء عن الطحن، وتعذر ذلك.
وفي هذا اليوم جمع القضاة والعلماء في دار الخلافة، وقرئ عليهم كتاب جمعه القادر بالله، فيه مواعظ وتفاصيل مذاهب أهل البصرة، وفيه الرد على أهل البدع، وتفسيق من قال بخلق القرآن، وصفة ما وقع بين بشر المريسي وعبد العزيز بن يحيى الكتاني من المناظرة، ثم ختم القول بالمواعظ، والقول بالمعروف، والنهى عن المنكر.
وأخذ خطوط الحاضرين بالموافقة على ما سمعوه.
وفي يوم الاثنين غرة ذي القعدة جمعوا أيضا كلهم وقرئ عليهم كتاب آخر طويل يتضمن بيان السنة والرد على أهل البدع ومناظرة بشر المرسي والكتاني أيضا، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفضل الصحابة، وذكر فضائل أبي
بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولم يفرغوا منه إلا بعد العتمة، وأخذت خطوطهم
__________
(1) في يتيمة الدهر 1 / 368 وابن خلكان: قرح.
(2) في اليتيمة وابن خلكان: قبح.
(3) في اليتيمة: قال لي إذ نزلت وهو من السكرة والهم.
(*)

(12/33)


بموافقة ما سمعوه.
وعزل خطباء الشيعة، وولى خطباء السنة ولله الحمد والمنة على ذلك وغيره.
وجرت فتنة بمسجد براثا، وضربوا الخطيب السني بالآجر، حتى كسروا أنفه وخلعوا كتفه، فانتصر لهم الخليفة وأهان الشيعة وأذلهم، حتى جاؤوا يعتذرون مما صنعوا، وأن ذلك إنما تعاطاه السفهاء منهم.
ولم يتمكن أحد من أهل العراق وخراسان في هذه السنة من الحج.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسن بن أبي القين أبو علي الزاهد، أحد العباد والزهاد وأصحاب الاحوال، دخل عليه بعض الوزراء فقبل يده، فعوتب الوزير بذلك فقال: كيف لا أقبل يدا ما امتدت إلى إلى الله عزوجل.
علي بن عيسى بن الفرج بن صالح أبو الحسن الربعي النحوي، أخذ العربية أولا عن أبي سعيد السيرافي، ثم عن أبي علي الفارسي ولازمه عشرين سنة حتى كان يقول: قولوا له لو سار من المشرق إلى المغرب لم يجد أحدا أنحى منه، كان يوما يمشي على شاطئ دجلة إذ نظر إلى الشريفين الرضي والمرتضى في سفينة، ومعهما عثمان بن جني، فقال لهما: من أعجب الاشياء عثمان معكما، وعلي بعيد عنكما، يمشى على شاطئ الفرات.
(فضحكا وقالا: باسم الله).
توفي في المحرم منها عن ثنتين وتسعين سنة.
ودفن بباب الدير، ويقال إنه لم يتبع جنازته إلا ثلاثة أنفس.
أسد الدولة أبو علي صالح بن مرداس بن إدريس الكلابي، أول ملوك بني مرداس (1) بحلب، انتزعها من
يدي نائبها (2) عن الظاهر بن الحاكم العبيدي، في ذي الحجة سنة سبع عشرة وأربعمائة، ثم جاءه جيش كثيف من مصر فاقتتلوا فقتل أسد الدولة هذا في سنة تسع عشرة، وقام حفيده (3) نصر.
__________
(1) قال في العبر 4 / 271: وهو من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ومجالاتهم بضواحي حلب.
قال ابن حزم في جمهرة أنساب العرب ص 287: من بني عمرو بن كلاب.
(2) وهو: أنوشتكين (انظر العبر 4 / 272 والكامل 9 / 392).
(3) في الكامل والعبر: نصر بن صالح، وهو ابن صالح الاكبر وليس حفيده وكان لقبه شبل الدولة.
(*)

(12/34)


ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وأربعمائة فيها توفي الملك الكبير المجاهد المغازي، فاتح بلاد الهند محمود بن سبكتكين رحمه الله، لما كان في ربيع الاول (1) من هذه السنة توفي الملك العادل الكبير الثاغر المرابط، المؤيد المنصور، يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين، صاحب بلاد غزنة ومالك تلك الممالك الكبار، وفاتح أكثر بلاد الهند قهرا، وكاسر أصنامهم وندودهم وأوثانهم وهنودهم، وسلطانهم الاعظم قهرا، وقد مرض رحمه الله نحوا من سنتين لم يضطجع فيهما على فراش، ولا توسد وسادا، بل كان يتكئ جالسا حتى مات وهو كذلك، وذلك لشهامته وصرامته، وقوة عزمه، وله من العمر ستون سنة رحمه الله.
وقد عهد بالامر من بعده لولده محمد، فلم يتم أمره حتى عافصه أخوه مسعود بن محمود المذكور، فاستحوذ على ممالك أبيه، مع ما كان يليه مما فتحه هو بنفسه من بلاد الكفار، من الرساتيق الكبار والصغار، فاستقرت له الممالك شرقا وغربا في تلك النواحي، وفي أواخر هذا العام، وجاءته الرسل بالسلام من كل ناحية ومن كل ملك همام، وبالتحية والاكرام، وبالخضوع التام، وسيأتي ذكر أبيه في الوفيات وفيها استحوذت السرية التي كان بعثها الملك المذكور محمود إلى بلاد الهند على أكثر مدائن الهنود وأكبرها مدينة، وهي المدينة المسماة نرسي، دخلوها في نحو من مائة ألف مقاتل، ما بين فارس وراجل، فنهبوا سوق العطر والجوهر بها نهارا كاملا، ولم يستطيعوا أن يحولوا ما فيه من أنواع الطيب والمسك والجواهر واللآلي واليواقيت، ومع هذا لم يدر أكثر أهل البلد بشئ من ذلك
لا تساعها، وذلك أنها كانت في غاية الكبر: طولها مسيرة منزلة من منازل الهند، وعرضها كذلك، وأخذوا منها من الاموال والتحف والاثاث ما لا يحد ولا يوصف، حتى قيل إنهم اقتسموا الذهب والفضة بالكيل، ولم يصل جيش من جيوش المسلمين إلى هذه المدينة قط، لا قبل هذه السنة ولا بعدها، وهذه المدينة من أكثر بلاد الهند خيرا ومالا، بل قيل إنه لا يوجد مدينة أكثر منها مالا ورزقا، مع كفر أهلها وعبادتهم الاصنام، فليسلم المؤمن على الدنيا سلام.
وقد كانت محل الملك، وأخذوا منها من الرقيق من الصبيان والبنات ما لا يحصى كثرة.
وفيها عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء، وحادثتهم الصلعاء في يوم عاشوراء، من تعليق المسوح، وتغليق الاسواق، والنوح والبكاء في الازقة، فأقبل أهل السنة إليهم في الحديد فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من الفريقين طوائف كثيرة، وجرت بينهم فتن وشرور مستطيرة.
وفيها مرض أمير المؤمنين القادر بالله وعهد بولاية العهد من بعده إلى ولده أبي جعفر القائم بأمر الله، بمحضر من القضاة والوزراء والامراء، وخطب له بذلك، وضرب اسمه على السكة المتعامل بها.
وفيها أقبل ملك الروم من قسطنطينية في مائة (2) ألف مقاتل،
__________
(1) في الكامل 9 / 398: ربيع الآخر.
(2) في الكامل 9 / 404: في ثلاثمائة.
(*)

(12/35)


فسار حتى بلغ بلاد حلب، وعليها شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، فنزلوا على مسيرة يوم منها، ومن عزم ملك الروم أن يستحوذ على بلاد الشام كلها، وأن يستردها إلى دين النصرانية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده " (1) وقيصر هو من ملك الشام من الروم مع بلاد الروم فلا سبيل لملك الروم إلى هذا.
فلما نزل من حلب كما ذكرنا أرسل الله عليهم عطشا شديدا، وخالف بين كلمتهم، وذلك أنه كان معه الدمستق، فعامل طائفة من الجيش على قتله ليستقل هو بالامر من بعده، ففهم الملك ذلك فكر من فوره راجعا، فاتبعهم الاعراب ينهبونهم ليلا ونهارا، وكان من جملة ما أخذوا منهم أربعمائة فحل محجل محملة أموالا وثيابا للملك، وهلك أكثرهم جوعا وعطشا، ونهبوا من كل جانب ولله الحمد والمنة.
وفيها ملك جلال
الدولة واسطا واستناب عليها ولده وبعث وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح ففتحها، وسار في الماء إلى البصرة وعليها نائب لابي كاليجار، فهزمهم البصريون فسار إليهم جلال الدولة بنفسه فدخلها في شعبان منها.
وفيها جاء سيل عظيم بغزنة فأهلك شيئا كثيرا من الزروع والاشجار.
وفي رمضان منها تصدق مسعود بن محمود بن سبكتكين بألف ألف درهم، وأدر أرزاقا كثيرة للفقهاء والعلماء ببلاده، على عادة أبيه من قبله، وفتح بلادا كثيرة، واتسعت ممالكه جدا، وعظم شأنه، وقويت أركانه، وكثرت جنوده وأعوانه.
وفيها دخل خلق كثير من الاكراد إلى بغداد يسرقون خيل الاتراك ليلا، فتحصن الناس منهم فأخذوا الخيول كلها حتى خيل السلطان.
وفيها سقط جسر بغداد على نهر عيسى.
وفيها وقعت فتنة بين الاتراك النازلين بباب البصرة، وبين الهاشميين، فرفعوا المصاحف ورمتهم الاتراك بالنشاب، وجرت خبطة عظيمة ثم أصلح بين الفريقين.
وفيها كثرت العملات، وأخذت الدور جهرة، وكثر العيارون ولصوص الاكراد.
وفيها تعطل الحج أيضا سوى شرذمة من أهل العراق ركبوا من جمال البادية مع الاعراب، ففازوا بالحج.
ذكر من توفي فيها من الاعيان...أحمد بن عبد الله بن أحمد أبو الحسن الواعظ، المعروف بابن اكرات، صاحب كرامات ومعاملات، كان من أهل الجزيرة فسكن دمشق، وكان يعظ الناس بالرفادة القيلية، حيث كان يجلس القصاص.
قاله ابن عساكر.
قال: وصنف كتبا في الوعظ، وحكى حكايات كثيرة، ثم قال: سمعت أبا الحسن أحمد بن عبد الله اكرات الواعظ ينشد أبياتا: أنا ما أصنع باللذا * ت شغلي بالذنوب
__________
(1) تقدم تخريج الحديث.
(*)

(12/36)


إنما العيد لمن فا * ز بوصل من حبيب أصبح الناس على رو * ح وريحان وطيب
ثم أصبحت على نوح * وحزن ونحيب فرحوا حين أهلوا * شهرهم بعد المغيب وهلالي متوار * من ورا حجب الغيوب فلهذا قلت للذا * ت غيبي ثم غيبي وجعلت الهم والحز * ن من الدنيا نصيبي يا حياتي ومماتي * وشقائي وطبيبي جد لنفس تتلظى * منك بالرحب الرحيب الحسين بن محمد الخليع (1) الشاعر، له ديوان شعر حسن، عمر طويلا، وتوفي في هذه السنة الملك الكبير العادل محمود بن سبكتكين، أبو القاسم الملقب يمين الدولة، وأمين الملة، وصاحب بلاد غزنة، وما والاها، وجيشه يقال لهم السامانية، لان أباه كان قد تملك عليهم، وتوفي سنة سبع وثلاثين وثلثمائة فتملك عليهم بعده ولده محمود هذا، فسار فيهم وفي سائر رعاياه سيرة عادلة، وقام في نصر الاسلام قياما تاما، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها، وعظم شأنه، واتسعت مملكته، وامتدت رعاياه، وطالت أيامه لعدله وجهاده، وما أعطاه الله إياه، وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة القادر بالله، وكانت رسل الفاطميين من مصر تفد إليه بالكتب والهدايا لاجل أن يكون من جهتهم، فيحرق بهم ويحرق كتبهم وهداياهم، وفتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة، لم يتفق لغيره من الملوك، لا قبله ولا بعده، وغنم مغانم منهم كثيرة لا تنحصر ولا تنضبط، من الذهب والآلي، والسبي، وكسر من أصنامهم شيئا كثيرا، وأخذ من حليتها.
وقد تقدم ذلك مفصلا متفرقا في السنين المتقدمة من أيامه، ومن جملة ما كسر من أصنامهم صنم يقال له سومنان، بلغ ما تحصل من حليته من الذهب عشرين ألف ألف دينار، وكسر ملك الهند الاكبر الذي يقال له صينال، وقهر ملك الترك الاعظم الذي يقال له إيلك الخان، وأباد ملك السامانية، وقد ملكوا العالم في بلاد سمرقند وما
حولها، ثم هلكوا.
وبنى على جيحون جسرا تعجز الملوك والخلفاء عنه غرم عليه ألفي ألف دينار،
__________
(1) الخليع الشاعر هو الحسين بن الضحاك بن ياسر، أبو علي، وكانت وفاته سنة 250 ه انظر ترجمته في الاغاني 7 / 143 طبقات ابن المعتز، تاريخ بغداد 8 / 54 معجم الادباء 9 / 5.
ولم أصل فيما بين يدي من مراجع إلى الخليع الذي ذكره المؤلف.
(*)

(12/37)


وهذا شئ لم يتفق لغيره، وكان في جيشه أربعمائة فيل تقاتل، وهذا شئ عظيم هائل، وجرت له فصول يطول تفصيلها، وكان مع هذا في غاية الديانة والصيانة وكراهة المعاصي وأهلها، لا يحب منها شيئا، ولا يألفه، ولا أن يسمع بها، ولا يجسر أحد أن يظهر معصية ولا خمرا في مملكته، ولا غير ذلك، ولا يحب الملاهي ولا أهلها، وكان يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم، ويحب أهل الخير والدين والصلاح، ويحسن إليهم، وكان حنفيا ثم صار شافعيا على يدي أبي بكر القفال الصغير على ما ذكره إمام الحرمين وغيره، وكان على مذهب الكرامية في الاعتقاد، وكان من جملة من يجالسه منهم محمد بن الهيضم، وقد جرى بينه وبين أبي بكر بن فورك مناظرات بين يدي السلطان محمود في مسألة العرش، ذكرها ابن الهيضم في مصنف له، فمال السلطان محمود إلى قول ابن الهيضم، ونقم على ابن فورك كلامه، وأمر بطرده وإخراجه، لموافقته لرأي الجهمية، وكان عادلا جيدا، اشتكى إليه رجل أن ابن أخت الملك يهجم عليه في داره وعلى أهله في كل وقت، فيخرجه من البيت ويختلي بامرأته، وقد حار في أمره، وكلما اشتكاه لاحد من أولي الامر لا يجسر أحد عليه خوفا وهيبة للملك.
فلما سمع الملك ذلك غضب غضبا شديدا وقال للرجل، ويحك متى جاءك فائتني فأعلمني، ولا تسمعن من أحد منعك من الوصول إلى، ولو جاءك في الليل فائتني فأعلمني، ثم إن الملك تقدم إلى الحجبة وقال لهم: إن هذا الرجل متى جاءني لا يمنعه أحد من الوصول إلى من ليل أو نهار، فذهب الرجل مسرورا داعيا، فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه من البيت واختلى بأهله، فذهب باكيا إلى دار الملك فقيل له إن الملك نائم، فقال: قد تقدم إليكم أن لا أمنع منه ليلا ولا نهارا، فنبهوا الملك فخرج معه بنفسه وليس معه أحد، حتى جاء إلى منزل الرجل فنظر
إلى الغلام وهو مع المرأة في فراش واحد، وعندهما شمعة تقد، فتقدم الملك فأطفأ الضوء ثم جاء فاحتز رأس الغلام وقال للرجل: ويحك الحقني بشربة ماء، فأتاه بها فشرب ثم انطلق الملك ليذهب فقال له الرجل: بالله لم أطفأت الشمعة ؟ قال: ويحك إنه ابن أختي، وإني كرهت أن أشاهده حالة الذبح، فقال: ولم طلبت الماء سريعا ؟ فقال الملك: إني آليت على نفسي منذ أخبرتني أن لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أنصرك، وأقوم بحقك، فكنت عطشانا هذه الايام كلها، حتى كان ما كان مما رأيت.
فدعا له الرجل وانصرف الملك راجعا إلى منزله، ولم يشعر بذلك أحد.
وكان مرض الملك محمود هذا بسوء المزاج، اعتراه مع انطلاق البطن سنتين، فكان فيهما لا يضطجع على فراش، ولا يتكئ على شئ، لقوة بأسه وسوء مزاجه، وكان يستند على مخاد توضع له ويحضر مجلس الملك، ويفصل على عادته بين الناس، حتى مات كذلك في يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة عن ثلاث وستين سنة (1)، ملكه منها ثلاث وثلاثون سنة، وخلف من الاموال
__________
(1) في ابن الاثير 9 / 398 كان مولده سنة 360 ه وفي وفيات الاعيان 5 / 181: سنة 361 ه.
يعني أنه لم يتجاوز الستين من عمره.
(*)

(12/38)


شيئا كثيرا، من ذلك سبعون رطلا من جوهر، الجوهرة منه لها قيمة عظيمة سامحه الله.
وقام بالامر من بعده ولده محمد، ثم صار الملك إلى ولده الآخر مسعود بن محمود فأشبه أباه، وقد صنف بعض العلماء مصنفا في سيرته وأيامه وفتوحاته وممالكه.