البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة
فيها كانت وفاة القادر بالله الخليفة،
وخلافة ابنه القائم بأمر الله على ما سيأتي تفصيله وبيانه.
وفيها وقعت فتنة عظيمة بين السنة والروافض، فقويت عليهم السنة وقتلوا
خلقا منهم، ونهبوا الكرخ ودار الشريف المرتضى، ونهبت العامة دور اليهود
لانهم نسبوا إلى معاونة الروافض، وتعدى النهب إلى دور كثيرة، وانتشرت
الفتنة جدا، ثم سكنت بعد ذلك.
وفيها كثرت العملات وانتشرت المحنة بأمر العيارين في أرجاء البلد،
وتجاسروا على أمور كثيرة، ونهبوا دورا وأماكن سرا وجهرا،
ليلا ونهارا، والله سبحانه أعلم.
خلافة القائم بالله أبي جعفر عبد الله بن
القادر بالله،
بويع له بالخلافة لما توفي أبوه العباس أحمد بن المقتدر بن المعتضد بن
الامين أبو أحمد الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن
المنصور، في ليلة الاثنين الحادي عشر (1) من ذي الحجة من هذه السنة، عن
ست وثمانين سنة، وعشرة أشهر وإحدى عشر يوما (2)، ولم يعمر أحد من
الخلفاء قبله هذا العمر ولا بعده، مكث من ذلك خليفة إحدى وأربعين سنة
وثلاثة أشهر (3)، وهذا أيضا شئ لم يسبقه أحد إليه، وأمه أم ولد اسمها
يمنى، مولاة عبد الواحد بن المقتدر، وقد كان حليما كريما، محبا لاهل
العلم والدين والصلاح، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان على طريقة
السلف في الاعتقاد، وله في ذلك مصنفات كانت تقرأ على الناس، وكان أبيض
حسن الجسم طويل اللحية عريضها يخضبها، وكان يقوم الليل كثير الصدقة،
محبا للسنة وأهلها، مبغضا للبدعة وأهلها، وكان يكثر الصوم ويبر الفقراء
من أقطاعه، يبعث منه
__________
(1) كذا بالاصل والمنتظم والوافي والعبر، وفي نهاية الارب 23 / 217: في
الحادي والعشرين.
(2) في الكامل 9 / 414: ست وثمانون وعشرة أشهر.
وفي العبر 3 / 148: وله سبع وثمانون.
وفي الوافي بالوفيات 6 / 240: سبع وثمانون سنة إلا شهرا وثمانية أيام.
وفي نهاية الارب 23 / 217: ست وثمانون وعشرة أشهر.
وفي دول الاسلام 1 / 252 والجوهر الثمين 1 / 191: ثلاث وتسعون.
(3) في الكامل 9 / 415 زيد: وعشرون يوما.
وفي نهاية الارب 23 / 217: إحدى وأربعين سنة وأربعة أشهر.
وفي الجوهر الثمين لابن دقماق 1 / 191: ثلاث وأربعين سنة وثلاثة أشهر.
(*)
(12/39)
إلى المجاورين
بالحرمين وجامع المنصور، وجامع الرصافة، وكان يخرج من داره في زي
العامة فيزور قبور الصالحين، وقد ذكرنا طرفا صالحا من سيرته عند ذكر
ولايته في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وجلسوا في عزائه سبعة أيام لعظم
المصيبة به، ولتوطيد البيعة لولده المذكور، وأمه يقال لها قطر الندى
(1)، أرمنية أدركت خلافته في هذه السنة، وكان مولده يوم الجمعة الثامن
عشر من ذي القعدة
سنة إحدى وتسعين (2) وثلثمائة، ثم بويع له بحضرة القضاة والامراء
والكبراء في هذه السنة، وكان أول من بايعه المرتضى وأنشده أبياتا: فأما
مضى جبل وانقضى * فمنك لنا جبل قد رسى وأما فجعنا ببدر التمام * فقد
بقيت منه شمس الضحى لنا حزن في محل السرور * فكم ضحك في محل البكا فيا
صارما أغمدته يد * لنا بعدك الصارم المنتضى ولما حضرنا لعقد البياع *
عرفنا بهديك طرق الهدى فقابلتنا بوقار المشيب * كمالا وسنك سن الفتى
فطالبته الاتراك برسم البيعة فلم يكن مع الخليفة شئ يعطيهم، لان أباه
لم يترك شيئا، وكادت الفتنة تقع بين الناس بسبب ذلك، حتى دفع عنه الملك
جلال الدولة مالا جزيلا لهم، نحوا من ثلاثة آلاف دينار، واستوزر
الخليفة أبا طالب محمد بن أيوب، واستقضى ابن ماكولا.
ولم يحج أحد من أهل المشرق سوى شرذمة خرجوا من الكوفة مع العرب فحجوا.
وفيها توفي من الاعيان غير الخليفة:
الحسن بن جعفر أبو علي بن ماكولا الوزير لجلال الدولة، قتله غلام له
وجارية تعاملا عليه فقتلاه، عن ست وخمسين سنة.
عبد الوهاب بن علي ابن نصر بن أحمد بن الحسن بن هارون بن مالك بن طوق،
صاحب الرحبة، التغلبي
__________
(1) في مآثر الانافة 1 / 334: بدر الدجى.
وفي تاريخ الخلفاء ص 167: اسمها بدر الدجى وقيل قطر الندى.
وفي ابن الاثير 10 / 35 قطر الندى أو اسمها علم.
(2) في مآثر الانافة 1 / 334: سبع وثمانين وثلاثمائة.
(*)
(12/40)
البغدادي أحد
أئمة المالكية، ومصنفيهم، له كتاب التلقين يحفظه الطلبة، وله غيره في
الفروع والاصول، وقد أقام ببغداد دهرا، وولي قضاء داريا وماكسايا (1)،
ثم خرج من بغداد لضيق حاله، فدخل مصر فأكرمه المغاربة وأعطوه ذهبا
كثيرا، فتمول جدا، فأنشأ يقول متشوقا إلى بغداد: سلام على بغداد في كل
موقف * وحق لها مني السلام مضاعف فو الله ما فارقتها عن ملالة * وإني
بشطي جانبيها لعارف ولكنها ضاقت علي بأسرها * ولم تكن الارزاق فيها
تساعف فكانت كخل كنت أهوى دنوه * وأخلاقه تنأى به وتخالف قال الخطيب:
سمع القاضي عبد الوهاب من ابن السماك، وكتبت عنه، وكان ثقة، ولم تر
المالكية أحدا أفقه منه.
قال ابن خلكان: وعند وصوله إلى مصر حصل له شئ من المال، وحسن حاله، مرض
من أكلة اشتهاها فذكر عنه أنه كان يتقلب ويقول: لا إله إلا الله، عند
ما عشنا متنا.
قال: وله أشعار رائقة فمنها قوله: ونائمة قبلتها فتنبهت * فقالت تعالوا
واطلبوا اللص بالحد فقلت لها إني فديتك غاصب * وما حكموا في غاصب بسوى
الرد خذيها وكفي عن أثيم طلابة (3) * وإن أنت لم ترضي فألفا على العد
فقالت قصاص يشهد العقل أنه * على كبد الجاني ألذ من الشهد فباتت يميني
وهي هميان خصرها * وباتت يساري وهي واسطة العقد فقالت ألم تخبر بأنك
زاهد * فقلت بلى، ما زلت أزهد في الزهد ومما أنشده ابن خلكان للقاضي
عبد الوهاب: بغداد دار لاهل المال طيبة * وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها * كأنني مصحف في بيت زنديق
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة
في سادس المحرم منها استسقى أهل بغداد لتأخر المطر عن أوانه، فلم
يسقوا، وكثر الموت في
الناس، ولما كان يوم عاشوراء عملت الروافض بدعتهم، وكثر النوح والبكاء،
وامتلات بذلك الطرقات والاسواق.
وفي صفر منها أمر الناس بالخروج إلى الاستسقاء فلم يخرج من أهل بغداد
مع
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 222.
بادرايا وباكسايا.
(2) في الوفيات: ظلامة.
(*)
(12/41)
اتساعها وكثرة
أهلها مائة واحد.
وفيها وقع بين الجيش وبين جلال الدولة فاتفق على خروجه إلى البصرة
منفيا، ورد كثيرا من جواريه، واستبقى بعضهن معه، وخرج من بغداد ليلة
الاثنين سادس ربيع الاول منها.
وكتب الغلمان الاسفهلارية إلى الملك أبي كاليجار ليقدم عليهم، فلما قدم
تمهدت البلاد ولم يبق أحد من أهل العناد والالحاد، ونهبوا دار جلال
الدولة وغيرها، وتأخر مجئ أبي كاليجار، وذلك أن وزيره أشار عليه بعدم
القدوم إلى بغداد.
فأطاعه في ذلك، فكثر العيارون وتفاقم الحال، وفسد البلد، وافتقر جلال
الدولة بحيث أن احتاج إلى أن باع بعض ثيابه في الاسواق، وجعل أبو
كاليجار يتوهم من الاتراك ويطلب منهم رهائن، فلم يتفق ذلك، وطال الفصل
فرجعوا إلى مكاتبة جلال الدولة، وأن يرجع إلى بلده، وشرعوا يعتذرون
إليه، وخطبوا له في البلد على عادته، وأرسل الخليفة الرسل إلى الملك
كاليجار، وكان فيمن بعث إليه القاضي أبو الحسن الماوردي، فسلم عليه
مستوحشا منه، وقد تحمل أمرا عظيما، فسأل من القضاة أن يلقب بالسلطان
الاعظم مالك الامم، فقال الماوردي: هذا ما لا سبيل إليه، لان السلطان
المعظم هو الخليفة، وكذلك مالك الامم، ثم اتفقوا على تلقيبه بملك
الدولة، فأرسل مع الماوردي تحفا عظيمة منها ألف ألف دينار سابورية،
وغير ذلك من الدراهم آلاف مؤلفة، والتحف والالطاف، واجتمع الجند على
طلب من الخليفة فتعذر ذلك فراموا أن يقطعوا خطبته، فلم تصل الجمعة، ثم
خطب له من الجمعة القابلة، وتخبط البلد جدا، وكثر العيارون.
ثم في ربيع الآخر منها حلف الخليفة لجلال الدولة بخلوص النية وصفائها،
وأنه على ما يحب من الصدق وصلاح السريرة.
ثم وقع بينهما بسبب جلال الدولة وشربه النبيذ وسكره.
ثم اعتذر إلى الخليفة واصطلحا على فساد.
وفي رجب علت
الاسعار جدا ببغداد وغيرها، من أرض العراق.
ولم يحج أحد منهم.
وفيها وقع موتان عظيم ببلاد الهند وغزنة وخراسان وجرجان والري وأصبهان،
وخرج منها في أدنى مدة أربعون ألف جنازة.
وفي نواحي الموصل والجبل وبغداد طرف قوي من ذلك بالجدري، بحيث لم تخل
دار من مصاب به، واستمر ذلك في حزيران وتموز وآذار وأيلول وتشرين الاول
والثاني، وكان في الصيف أكثر منه في الخريف.
قاله ابن الجوزي في المنتظم.
وقد رأى رجل في منامه من أهل أصبهان في هذه السنة مناديا ينادي بصوت
جهوري: يا أهل أصبهان سكت، نطق سكت، نطق، فانتبه الرجل مذعورا فلم يدر
أحد تأويلها ما هو، حتى قال رجل بيت أبي العتاهية فقال: احذروا يا أهل
أصبهان فإني قرأت في شعر أبي العتاهية قوله: سكت الدهر زمانا عنهم * ثم
أبكاهم دما حين نطق فما كان إلا قليل حتى جاء الملك مسعود بن محمود
فقتل منهم خلقا كثيرا، حتى قتل الناس في الجوامع.
وفي هذه السنة ظفر الملك أبو كاليجار بالخادم جندل (1) فقتله، وكان قد
استحوذ على
__________
(1) في الكامل 9 / 427: صندل.
(*)
(12/42)
مملكته ولم يبق
معه سوى الاسم، فاستراح منه.
وفيها مات ملك الترك الكبير صاحب بلاد ما وراء النهر، واسمه قدرخان
(1).
وفيها توفي من الاعيان...روح بن
محمد بن أحمد أبو زرعة الرازي.
قال الخطيب: سمع جماعة، وفد علينا حاجا فكتبت عنه، وكان صدوقا فهما
أديبا، يتفقه على مذهب الشافعي، وولي قضاء أصبهان.
قال: وبلغني أنه مات بالكرخ سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة.
علي بن محمد (2) بن الحسن ابن محمد بن نعيم بن الحسن البصري، المعروف
بالنعيمي، الحافظ الشاعر، المتكلم الفقيه
الشافعي.
قال البرقاني: وهو كامل في كل شئ لولا بادرة فيه، وقد سمع على جماعة،
ومن شعره قوله: إذا أضمأتك أكف اللئام * كفتك القناعة شبعا وريا فكن
رجلا رجله في الثرى * وهامته همه في الثريا أبيا لنائل ذي نعمة * تراه
بما في يديه أبيا فإن إراقة ماء الحيا * ة دون إراقة ماء المحيا محمد
بن الطيب ابن سعد بن موسى أبو بكر الصباغ، حدث عن النجاد وأبي بكر
الشافعي، وكان صدوقا، حكى الخطيب أنه تزوج تسعمائة امرأة، وتوفي عن خمس
وتسعين سنة.
علي بن هلال الكاتب المشهور، ذكر ابن خلكان أنه توفي في هذه السنة،
وقيل في سنة ثلاث عشرة كما تقدم.
__________
(1) وهو قدرخان يوسف بن بغراجان هرون بن سليمان ولما مات ملك بعده ابنه
عمر بن قدرخان (المختصر في أخبار البشر 2 / 158).
(2) في الكامل 9 / 427 وتذكرة الحفاظ / 1112: أحمد.
(*)
(12/43)
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة فيها تفاقم الحال بأمر العيارين،
وتزايد أمرهم، وأخذوا العملات الكثيرة، وقوي أمر مقدمهم البرجمي،
وقتل صاحب الشرطة غيلة، وتواترت العملات في الليل والنهار، وحرس الناس
دورهم، حتى دار الخليفة منه، وكذلك سور البلد، وعظم الخطب بهم جدا،
وكان من شأن هذا البرجمي أنه لا يؤذي امرأة ولا يأخذ مما عليها شيئا،
وهذه مروءة في الظلم، وهذا كما قيل * حنانيك بعض الشر أهون من بعض *
وفيها أخذ جلال الدولة البصرة وأرسل إليها ولده العزيز، فأقام بها
الخطبة لابيه، وقطع منها خطبة أبي كاليجار في هذه السنة والتي بعدها،
ثم استرجعت، وأخرج منها ولده.
وفيها ثارت الاتراك بالملك جلال الدولة ليأخذوا أرزاقهم، وأخرجوه من
داره، ورسموا عليه في المسجد، وأخرجت حريمه، فذهب في الليل إلى دار
الشريف المرتضى فنزلها، ثم اصطلحت الاتراك عليه وحلفوا له بالسمع
والطاعة، وردوه إلى داره، وكثر العيارون واستطالوا على الناس جدا.
ولم يحج أحدا من أهل العراق وخراسان لفساد البلاد.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد
بن الحسين بن أحمد أبو الحسين (1) الواعظ المعروف بابن السماك، ولد سنة
ثلاثين وثلثمائة، وسمع جعفر الخلدي وغيره وكان يعظ بجامع المنصور وجامع
المهدي، ويتكلم على طريق الصوفية، وقد تكلم بعض الائمة فيه، ونسب إليه
الكذب.
توفي فيها عن أربع وتسعين سنة ودفن بباب حرب.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة فيها غزا
السلطان مسعود بن محمود بلاد الهند، وفتح حصونا كثيرة، وكان من جملتها
أنه حاصر قلعة حصينة (2) فخرجت من السور عجوز كبيرة ساحرة، فأخذت مكنسة
فبلتها ورشتها من ناحية جيش المسلمين، فمرض السلطان تلك الليلة مرضا
شديدا، فارتحل عن تلك القلعة، فلما استقل ذاهبا عنها عوفي عافية كاملة،
فرجع إلى غزنة سالما.
وفيها ولي البساسيري حماية الجانب الشرقي (3) من بغداد، لما تفاقم أمر
العيارين.
وفيها ولي سنان بن سيف الدولة بعد وفاة أبيه،
__________
(1) كذا بالاصل والوافي والمنتظم.
وفي الكامل 9 / 432: أبو الحسن.
وفي تاريخ أبي الفداء 2 / 158: القاضي ابن السماك، وورد في تاريخ ابن
الوردي 1 / 514: القاضي ابن السمال.
(2) وهي قلعة " نغسى " كما في الكامل 9 / 434.
(3) في الكامل 9 / 437: الغربي.
(*)
(12/44)
فقصد عمه
قرواشا فأقره وساعده على أموره.
وفيها هلك ملك الروم أرمانوس، فملكهم رجل ليس
من بيت ملكهم، قد كان صيرفيا في بعض الاحيان، إلا أنه كان من سلالة
الملك قسطنطين.
وفيها كثرت الزلازل بمصر والشام فهدمت شيئا كثيرا، ومات تحت الردم خلق
كثير، وانهدم من الرملة ثلثها، وتقطع جامعها تقطيعا، وخرج أهلها منها
هاربين، فأقاموا بظاهرها ثمانية أيام، ثم سكن الحال فعادوا إليها، وسقط
بعض حائط بيت المقدس، ووقع من محراب داود قطعة كبيرة، ومن مسجد إبراهيم
قطعة، وسلمت الحجرة، وسقطت منارة عسقلان، ورأس منارة غزة، وسقط نصف
بنيان نابلس، وخسف بقرية البارزاد وبأهلها وبقرها وغنمها، وساخت في
الارض.
وكذلك قرى كثيرة هنالك، وذكر ذلك ابن الجوزي.
ووقع غلاء شديد ببلاد إفريقية، وعصفت ريح سوداء بنصيبين فألقت شيئا
كثيرا من الاشجار كالتوت والجوز والعناب، واقتلعت قصرا مشيدا بحجارة
وآجر وكلس فألقته وأهله فهلكوا، ثم سقط مع ذلك مطر أمثال الاكف،
والزنود والاصابع، وجزر البحر من تلك الناحية ثلاث فراسخ، فذهب الناس
خلف السمك فرجع البحر عليهم فهلكوا.
وفيها كثر الموت بالخوانيق حتى كان يغلق الباب على من في الدار كلهم
موتى، وأكثر ذلك كان ببغداد، فمات من أهلها في شهر ذي الحجة سبعون
ألفا.
وفيها وقعت الفتنة بين السنة والروافض حتى بين العيارين من الفريقين من
ابنا الاصفهاني وهما مقدمي عيارين أهل السنة، منعا أهل الكرخ من ورود
ماء دجلة فضاق عليهم الحال، وقتل ابن البرجمي وأخوه في هذه السنة.
ولم يحج أحد من أهل العراق.
وفيها توفي من الاعيان...أحمد بن
محمد بن أحمد بن غالب الحافظ أبو بكر المعروف بالبرقاني (1)، ولد سنة
ثلاث (2) وثلاثين وثلثمائة، وسمع الكثير، ورحل إلى البلاد، وجمع كتبا
كثيرة جدا، وكان عالما بالقرآن والحديث والفقه والنحو، وله مصنفات في
الحديث حسنة نافعة.
قال الازهري، إذا مات البرقاني ذهب هذا الشأن، وما رأيت أتقن منه.
وقال غيره: ما رأيت أعبد منه في أهل الحديث.
توفي يوم الخميس مستهل رجب، وصلى عليه أبو علي بن أبي موسى الهاشمي،
ودفن في مقبرة الجامع ببغداد، وقد أورد له ابن عساكر من شعره:
أعلل نفسي بكتب الحديث * وأجمل فيه لها الموعدا وأشغل نفسي بتصنيفه *
وتخريجه دائما سرمدا
__________
(1) البرقاني: نسبة إلى برقان قرية بخوارزم.
(2) في تذكرة الحفاظ / 1074: ست.
(*)
(12/45)
فطورا أصنفه في
الشيو * خ وطورا أصنفه مسندا وأقفو البخاري فيماحوا * ه وصنفه جاهدا
مجهدا ومسلم إذ كان زين الانام * بتصنيفه مسلما مرشدا وما لي فيه سوى
أنني * أراه هوى صادف المقصدا وأرجوا الثواب بكتب الصلا * ة على السيد
المصطفى أحمدا أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد أبو العباس
الابيوردي، أحد أئمة الشافعية، من تلاميذ الشيخ أبي حامد الاسفراييني،
كانت له حلقة في جامع المنصور للفتيا، وكان يدرس في قطيعة الربيع، وولي
الحكم ببغداد نيابة عن ابن الاكفاني، وقد سمع الحديث، وكان حسن
الاعتقاد جميل الطريقة، فصيح اللسان، صبورا على الفقر، كاتما له، وكان
يقول الشعر الجيد، وكان كما قال تعالى (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف
تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) [ البقرة: 373 ] توفي في جمادى
الآخرة، ودفن بمقبرة باب حرب: أبو علي البندنبجي الحسن (1) بن عبد الله
بن يحيى، الشيخ أبو علي البندنيجي، أحد أئمة الشافعية، من تلاميذ أبي
حامد أيضا، ولم يكن في أصحابه مثله، تفقه ودرس وأفتى وحكم ببغداد، وكان
دينا ورعا.
توفي في جمادى الآخرة منها أيضا.
عبد الوهاب بن عبد العزيز
الحارث بن أسد، أبو الصباح (2) التميمي، الفقيه الحنبلي الواعظ، سمع من
أبيه أثرا مسلسلا عن علي: " الحنان: الذي يقبل على من أعرض عنه،
والمنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال " توفي في ربيع الاول ودفن في
مقبرة أحمد بن حنبل.
غريب بن محمد ابن مفتي سيف الدولة أبو سنان، كان قد ضرب السكة باسمه،
وكان ملكا متمكنا في
__________
(1) في الكامل 9 / 439: الحسين.
(2) في الكامل 9 / 439: أبو الفرج.
(*)
(12/46)
الدولة، وخلف
خمسمائة ألف دينار، وقام ابنه سنان بعده، وتقوى بعمه قرواش، واستقامت
أموره، توفي بالكرخ سابور عن سبعين سنة.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وأربعمائة في محرمها
كثر تردد الاعراب في قطع الطرقات إلى حواشي بغداد وما حولها، بحيث
كانوا يسلبون النساء ما عليهن، ومن أسروه أخذوا ما معه وطالبوه بفداء
نفسه، واستفحل أمر العيارين وكثرت شرورهم، وفي مستهل صفر زادت دجلة
بحيث ارتفع الماء على الضياع ذراعين، وسقط من البصرة في مدة ثلاثة نحو
من ألفي دار.
وفي شعبان منها ورد كتاب من مسعود بن محمود بأنه قد فتح فتحا عظيما في
الهند، وقتل منهم خمسين ألفا وأسر تسعين ألفا، وغنم شيئا كثيرا، ووقعت
فتنة بين أهل بغداد والعيارين، ووقع حريق في أماكن من بغداد، واتسع
الخرق على الراقع، ولم يحج أحد من هؤلاء ولا من أهل خراسان.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد
بن كليب الشاعر وهو أحد من هلك بالعشق، روى ابن الجوزي في المنتظم
بسنده أن أحمد بن كليب هذا المسكين المغتر عشق غلاما يقال له أسلم بن
أبي الجعد، من بني خلد (1) وكان فيهم وزارة، أي كانوا
وزراء للملوك وحجابا، فأنشد فيه أشعارا تحدث الناس بها، وكان هذا الشاب
أسلم يطلب العلم في مجالس المشايخ فلما بلغه عن ابن كليب ما قال فيه
استحى من الناس وانقطع في دارهم، وكان لا يجتمع بأحد من الناس، فازداد
غرام ابن كليب به حتى مرضا شديدا، بحيث عاده منه الناس، ولا يدرون ما
به، وكان في جملة من عاده بعض المشايخ من العلماء، فسأله عن مرضه فقال:
أنتم تعلمون ذلك، ومن أي شئ مرضي، وفي أي شئ دوائي، لو زارني أسلم ونظر
إلى نظرة ونظرته نظرة واحدة لبرأت، فرأى ذلك العالم من المصلحة أن لو
دخل على أسلم وسأله أن يزوره ولو مرة واحدة مختفيا، ولم يزل ذلك الرجل
العالم بأسلم حتى أجابه إلى زيارته، فانطلقا إليه فلما دخلا دربه
ومحلته تجبن الغلام واستحى من الدخول عليه، وقال للرجل العالم: لا أدخل
عليه، وقد ذكرني ونوه باسمي، وهذا مكان ريبة وتهمة، وأنا لا أحب أن
أدخل مداخل التهم، فحرص به الرجل كل الحرص ليدخل عليه فأبى عليه، فقال
له: إنه ميت لا محالة، فإذا دخلت عليه أحييته.
__________
(1) في الكامل 9 / 444 ومختصر أخبار البشر 2 / 159: أسلم بن أحمد بن
سعيد.
(*)
(12/47)
فقال: يموت
وأنا لا أدخل مدخلا يسخط الله علي ويغضبه، وأبى أن يدخل، وانصرف راجعا
إلى دارهم، فدخل الرجل على ابن كليب فذكر له ما كان من أمر أسلم معه،
وقد كان غلام ابن كليب دخل عليه قبل ذلك وبشره بقدوم معشوقه عليه، ففرح
بذلك جدا، فلما تحقق رجوعه عنه اختلط كلامه واضطرب في نفسه، وقال لذلك
الرجل الساعي بينهما: اسمع يا أبا عبد الله واحفظ عني ما أقول، ثم
أنشده: أسلم يا راحة العليل * رفقا على الهائم النحيل وصلك أشهى إلى
فؤادي * من رحمة الخالق الجليل فقال له الرجل: ويحك اتق الله تعالى، ما
هذه العظيمة ؟ فقال: قد كان ما سمعت، أو قال القول ما سمعت.
قال فخرج الرجل من عنده فما توسط الدار حتى سمع الصراخ عليه، وسمع صيحة
الموت وقد فارق الدنيا على ذلك.
وهذه زلة شنعاء، وعظيمة صلعاء، وداهية دهياء، ولولا
أن هؤلاء الائمة ذكروها ما ذكرتها، ولكن فيها عبرة لاولي الالباب،
وتنبيه لذوي البصائر والعقول، أن يسألوا الله رحمته وعافيته، وأن
يستعيذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقهم حسن الخاتمة
عند الممات إنه كريم جواد.
قال الحميدي: وأنشدني أبو علي بن أحمد قال: أنشدني محمد بن عبد الرحمن
لاحمد بن كليب وقد أهدى إلى أسلم كتاب الفصيح لثعلب: هذا كتاب الفصيح *
بكل لفظ مليح وهبته لك طوعا * كما وهبتك روحي الحسن (1) بن أحمد ابن
إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان بن حرب بن مهران البزاز، أحد مشايخ
الحديث، سمع الكثير، وكان ثقة صدوقا، جاء يوما شاب غريب فقال له: إني
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: اذهب إلى أبي
علي بن شاذان فسلم عليه وأقره مني السلام.
ثم انصرف الشاب فبكى الشيخ وقال: ما أعلم لي عملا استحق به هذا غير
صبري على سماع الحديث، وصلاتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما
ذكر.
ثم توفي بعد شهرين أو ثلاثة من هذه الرؤيا في محرمها، عن سبع وثمانين
سنة ودفن بباب الدير.
__________
(1) في الكامل 9 / 445 الحسين، قال: وكان مولده سنة سبع وثلاثين
وثلاثمائة ببغداد.
(*)
(12/48)
الحسن بن عثمان
ابن أحمد بن الحسين بن سورة، أبو عمر الواعظ المعروف بابن الغلو، سمع
الحديث عن جماعة.
قال ابن الجوزي: وكان يعظ، وله بلاغة، وفيه كرم، وأمر بمعروف ونهي عن
منكر، ومن شعره قوله: دخلت على السلطان في دار عزه * بفقر ولم أجلب
بخيل ولا رجل وقلت: انظروا ما بين فقري وملككم * بمقدار ما بين الولاية
والعزل
توفي في صفر منها وقد قارب الثمانين، ودفن بمقبرة حرب إلى جانب ابن
السماك رحمهما الله.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وأربعمائة في
المحرم منها تكاملت قنطرة عيسى التي كانت سقطت، وكان الذي ولي مشارفة
الانفاق عليها الشيخ أبو الحسين القدوري الحنفي، وفي المحرم وما بعده
تفاقم أمر العيارين، وكبسوا الدور وتزايد شرهم جدا.
وفيها توفي صاحب مصر الظاهر أبو
الحسن علي بن الحاكم الفاطمي، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، وقام
بالامر من بعده ولده المستنصر وعمره سبع سنين (1)، واسمه معد، وكنيته
أبو تميم، وتكفل بأعباء المملكة بين يديه الافضل أمير الجيوش، واسمه
بدر بن عبد الله الجمالي، وكان الظاهر هذا قد استوزر الصاحب أبا القاسم
علي بن أحمد الجرجرائي، وكان مقطوع اليدين من المرفقين، في سنة ثماني
عشرة، فاستمر في الوزارة مدة ولاية الظاهر، ثم لولده المستنصر، حتى
توفي الوزير الجرجرائي المذكور في سنة ست وثلاثين، وكان قد سلك في
وزارته العفة العظيمة، وكان الذي يعلم عنه القاضي أبو عبد الله القضاعي
صاحب كتاب الشهاب، وكانت علامته الحمد لله شكرا لنعمه، وكان الذي قطع
يديه من المرفقين الحاكم، لجناية ظهرت منه في سنة أربع وأربعمائة، ثم
استعمله في بعض الاعمال سنة تسع، فلما فقد الحاكم في السابع والعشرين
من شوال، سنة إحدى عشرة، تنقلت بالجر جرائي المذكور الاحوال حتى استوزر
سنة ثماني عشرة كما ذكرنا، وقد هجاه بعض الشعراء فقال: يا أجمعا اسمع
وقل * ودع الرقاعة والتحامق أأقمت نفسك في الثقا * ت وهبك فيما قلت
صادق
__________
(1) في الكامل 9 / 447: ومولده بالقاهرة سنة عشر وأربعمائة.
وفي مختصر أخبار البشر 2 / 159: مولده سنة عشرين وأربعمائة.
(*)
(12/49)
أمن الامانة
والتقى * قطعت يداك من المرافق
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد
بن محمد بن إبراهيم الثعالبي ويقال الثعلبي أيضا - وهو لقب أيضا وليس -
بنسبة، النيسابوري المفسر المشهور، له التفسير الكبير، وله كتاب
العرايس في قصص الانبياء عليهم السلام، وغير ذلك، وكان كثير الحديث
واسع السماع، ولهذا يوجد في كتبه من الغرائب شئ كثير، ذكره عبد الغافر
بن إسماعيل الفارسي في تاريخ نيسابور، وأثنى عليه، وقال: هو صحيح النقل
موثوق به، توفي في سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وقال غيره: توفي يوم
الاربعاء لسبع بقين من المحرم منها، ورئيت له منامات صالحة رحمه الله.
وقال السمعاني: ونيسابور كانت مقصبة (1) فأمر سابور الثاني ببنائها
مدينة.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمائة فيها
خلع الخليفة على أبي تمام محمد بن محمد بن علي الزينبي، وقلده ما كان
إلى أبيه من نقابة العباسيين والصلاة.
وفيها وقعت الفرقة بين الجند وبين جلال الدولة وقطعوا خطبته وخطبة
الملك أبي كاليجار، ثم أعادوا الخطبة، واستوزر أبا المعالي بن عبد
الرحيم، وكان جلال الدولة قد جمع خلقا كثيرا معه، منهم البساسيري،
وديبس بن علي بن مرثد (2)، وقرواش بن مقلد، ونازل بغداد من جانبها
الغربي حتى أخذها قهرا، واصطلح هو وأبو كاليجار نائب جلال الدولة على
يدي قاضي القضاة الماوردي، وتزوج أبو منصور بن أبي كاليجار بابنة جلال
الدولة على صداق خمسين ألف دينار واتفقت كلمتهما وحسن حال الرعية.
وفيها نزل مطر ببلاد قم الصلح ومعه سمك وزن السمكة رطل ورطلان، وفيها
بعث ملك مصر بمال لاصلاح نهر بالكوفة إن أذن الخليفة العباسي في ذلك،
فجمع الخليفة الفقهاء وسألهم عن هذا المال فأفتوا بأن هذا المال فئ
للمسلمين، يصرف في مصالحهم.
فأذن في صرفه في مصالح المسلمين.
وفيها ثار العيارون ببغداد وفتحوا السجن بالجانب الشرقي، وأخذوا منه
رجالا وقتلوا من رجال الشرط سبعة عشر رجلا، وانتشرت الشرور في البلد
جدا.
ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان لاختلاف الكلمة.
__________
(1) من وفيات الاعيان 1 / 79 وفي الاصل مغصبة: والمقصبة الكثيرة القصب
فأمر سابور بقطع القصب وبنى المدينة
فسميت نيسابور.
قال السمعاني: ني: القصب بالاعجمي.
(2) في الكامل 9 / 454: مزيد.
(*)
(12/50)
وممن توفي فيها
من الاعيان...القدوري أحمد بن محمد ابن أحمد بن جعفر، أبو الحسن (1)
القدوري الحنفي البغدادي، سمع الحديث ولم يحدث إلا بشئ يسير.
قال الخطيب: كتبت عنه.
وقد تقدمت وفاته، ودفن بداره في درب خلف (2).
الحسن بن شهاب ابن الحسن بن علي، أبو علي العكبري، الفقيه الحنبلي
الشاعر، ولد سنة خمس وثلاثين وثلثمائة سمع من أبي بكر بن مالك وغيره،
وكان كما قال البرقاني ثقة أمينا، وكان يسترزق من الوراقة - وهو النسخ
- يقال إنه كان يكتب ديوان المتنبي في ثلاث ليال فيبيعه بمائتي درهم،
ولما توفي أخذ السلطان من تركته ألف دينار سوى الاملاك، وكان قد أوصى
بثلث ماله في متفقهة الحنابلة، فلم تصرف.
لطف الله أحمد بن عيسى أبو الفضل الهاشمي، ولي القضاء والخطابة بدرب
ريحان، وكان ذا لسان، وقد أضر في آخر عمره، وكان يروي حكايات وأناشيد
من حفظه، توفي في صفر منها.
محمد بن أحمد ابن علي بن موسى بن عبد المطلب، أبو علي الهاشمي، أحد
أئمة الحنابلة وفضلائهم.
محمد بن الحسن ابن أحمد بن علي أبو الحسن الاهوازي، ويعرف بابن أبي علي
الاصبهاني، ولد سنة خمس وأربعين وثلثمائة، وقدم بغداد وخرج له أبو
الحسن النعيمي أجزاء من حديثه، فسمعها منه البرقاني، إلا أنه بان كذبه،
حتى كان بعضهم يسميه جراب الكذب، أقام ببغداد سبع سنين، ثم
عاد إلى الاهواز فمات بها.
__________
(1) راجع حاشية (1) ص (31).
(2) راجع وفيات سنة 418 وقد تقدمت قريبا.
(*)
(12/51)
مهيار الديلمي
الشاعر مهيار بن مرزويه أبو الحسين الكاتب الفارسي، ويقال له الديلمي،
كان مجوسيا فأسلم (1)، إلا أنه سلك سبيل الرافضة، وكان ينظم الشعر
القوي الفحل في مذاهبهم، من سب الصحابة وغيرهم، حتى قال له أبو القاسم
بن برهان: يامهيار انتقلت من زاوية في النار إلى زاوية أخرى في النار،
كنت مجوسيا فأسلمت فصرت تسب الصحابة، وقد كان منزله بدرب رباح من
الكرخ، وله ديوان شعر مشهور، فمن مستجاد قوله: أستنجد الصبر فيكم وهو
مغلوب * وأسأل النوم عنكم وهو مسلوب وأبتغي عندكم قلبا سمحت به * وكيف
يرجع شئ وهو موهوب ماكنت أعرف مقدار حبكم * حتى هجرت وبعض الهجر تأديب
ولمهيار أيضا: أجارتنا بالغور والركب منهم * أيعلم خال كيف بات المتيم
رحلتم وجمر القلب فينا وفيكم * سواء ولكن ساهرون ونوم فبنتم عنا ظاعنين
وخلفوا * قلوبا أبت أن اعرف الصبر عنهم ولما خلى التوديع عما حذرته *
ولم يبق إلا نظرة لي تغنم بكيت على الوادي وحرمت ماءه * وكيف به ماء
وأكثره دم قال ابن الجوزي: ولما كان شعره اكثره جيدا اقتصرت على هذا
القدر.
توفي في جمادى الآخرة.
هبة الله بن الحسن (2)
أبو الحسين المعروف بالحاجب، كان من أهل الفضل والادب والدين، وله شعر
حسن، فمنه قوله: يا ليلة سلك الزما * ن في طيبها كل مسلك إذ ترتقي روحي
المسر * ة مدركا ما ليس يدرك والبدر قد فضح الزما * ن وسره فيه مهتك
وكأنما زهر النجو * م بلمعها شعل تحرك
__________
(1) قال ابن الاثير في الكامل 9 / 456: أسلم في سنة 394 على يد الشريف
الرضي.
(2) في الكامل 9 / 456: الحسين، والمعروف بابن أخت الفاضل.
(*)
(12/52)
والغيب أحيانا
يلو * ح كأنه ثوب ممسك وكأن تجعيد الريا * ح لدجلة ثوب مفرك وكأن نشر
المسك * ينفخ في النسيم إذا تحرك وكأنما المنثور مصفر * الذرى ذهب مسبك
والنور يبسم في الريا * ض فإن نظرت إليه سرك شارطت نفسي أن أقو * م
بحقها والشرط أملك حتى تولى الليل من * هزما وجاء الصبح يضحك وذا الفتى
لو أنه * في طيب العيش يترك والدهر يحسب عمره * فإذا أتاه الشيب فذلك
أبو علي بن سينا الطبيب الفيلسوف، الحسين (1) بن عبد الله بن سينا
الرئيس، كان بارعا في الطب في زمانه، كان أبوه من أهل بلخ، وانتقل إلى
بخارى، واشتغل بها فقرأ القرآن وأتقنه، وهو ابن عشر سنين، وأتقن الحساب
والجبر والمقابلة وإقليدس والمجسطي، ثم اشتغل على أبي عبد الله الناتلي
الحكيم، فبرع فيه وفاق أهل زمانه في ذلك، وتردد الناس إليه واشتغلوا
عليه، وهو ابن ست عشرة سنة،
وعالج بعض الملوك السامانية، وهو الامير نوح بن نصر، فأعطاه جائزة
سنية، وحكمه في خزانة كتبه، فرأى فيها من العجائب والمحاسن مالا يوجد
في غيرها، فيقال إنه عزا بعض تلك الكتب إلى نفسه، وله في الالهيات
والطبيعيات كتب كثيرة، قال ابن خلكان: له نحو من مائة مصنف، صغار
وكبار، منها القانون، والشفا، والنجاة، والاشارات، وسلامان، وإنسان،
وحي بن يقظان، وغير ذلك.
قال وكان من فلاسفة الاسلام، وأورد له من الاشعار قصيدته في نفسه (2)
التي يقول فيها: هبطت إليك من المقام (3) الا رفع * ورقاء ذات تعزز
وتمنع محجوبة عن كل مقلة عارف * وهي التي سفرت ولم تتبرقع وصلت على كره
إليك وربما * كرهت فراقك وهي ذات تفجع وهي قصيدة طويلة وله:
__________
(1) من الوافي ووفيات الاعيان ومختصر أخبار البشر، وفي الاصل والجواهر
المضية: " الحسن " تحريف.
(2) في الوافي والوفيات: في النفس.
(3) في الوافي 12 / 407 والوفيات 2 / 160: من المحل.
(*)
(12/53)
اجعل غذاءك كل
يوم مرة * واحذر طعاما قبل هضم طعام واحفظ منيك ما استطعت فإنه * ماء
الحياة يراق في الارحام وذكر أنه مات بالقولنج في همذان، وقيل بأصبهان،
والاول أصح، يوم الجمعة في شهر رمضان منها، عن ثمان وخمسين سنة.
قلت: قد حصر الغزالي كلامه في مقاصد الفلاسفة، ثم رد عليه في تهافت
الفلاسفة في عشرين مجلسا له، كفره في ثلاث منها، وهي قوله بقدم العالم،
وعدم المعاد الجثماني، وأن الله لا يعلم الجزئيات، وبدعه في البواقي،
ويقال إنه تاب عند الموت فالله أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وأربعمائة
فيها كان بدو ملك السلاجقة، وفيها استولى ركن الدولة أبو طالب طغرلبك
محمد بن ميكائيل بن سلجوق، على نيسابور (1)، وجلس على سرير ملكها، وبعث
أخاه داود إلى بلاد خراسان فملكها وانتزعها من نواب الملك مسعود بن
محمود بن سبكتكين.
وفيها قتل جيش المصريين لصاحب حلب وهو شبل الدولة نصر بن صالح بن
مرداس، واستولوا على حلب وأعمالها.
وفيها سأل جلال الدولة الخليفة أن يلقب ملك الدولة، فأجابه إلى ذلك بعد
تمنع.
وفيها استدعى الخليفة بالقضاة والفقهاء وأحضر جاثليق النصارى ورأى
جالوت اليهود، وألزموا بالغيار.
وفي رمضان منها لقب جلال الدولة شاهنشاه الاعظم ملك الملوك، بأمر
الخليفة، وخطب له بذلك على المنابر، فنفرت العامة من ذلك ورموا الخطباء
بالآجر، ووقعت فتنة شديدة بسبب ذلك، واستفتوا القضاة والفقهاء في ذلك
فأفتى أبو عبد الله الصيمري أن هذه الاسماء يعتبر فيها القصد والنية،
وقد قال تعالى (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) [ البقرة: 247 ] وقال
(وكان وراءهم ملك) [ الكهف: 79 ] وإذا كان في الارض ملوك جاز أن يكون
بعضهم فوق بعض، وأعظم من بعض، وليس في ذلك ما يوجب النكير والمماثلة
بين الخالق والمخلوقين.
وكتب القاضي أبو الطيب الطبري: أن إطلاق ملك الملوك جائز، ويكون معناه
ملك ملوك الارض، وإذا جاز أن يقال كافي الكفاة وقاضي القضاة، جاز أن
يقال ملك الملوك، وإذا كان في اللفظ ما يدل على أن المراد به ملوك
الارض، زالت الشبهة، ومنه قولهم: اللهم أصلح الملك، فيصرف الكلام إلى
المخلوقين.
وكتب التميمي الحنبلي نحو ذلك، وأما الماوردي صاحب الحاوي الكبير فقد
نقل عنه أنه أجاز ذلك أيضا، والمشهور عنه ما نقله ابن الجوزي والشيخ
أبو منصور بن الصلاح في أدب المفتي أنه منع من ذلك وأصر على المنع من
ذلك، مع صحبته للملك جلال الدولة، وكثرة ترداده إليه، ووجاهته عنده،
وأنه
__________
(1) في العبر لابن خلدون 4 / 452: سنة إحدى وثلاثين.
(*)
(12/54)
امتنع من
الحضور عن مجلسه حتى استدعاه جلال الدولة في يوم عيد، فلما دخل عليه،
دخل وهو وجل خائف أن يوقع به مكروها، فلما واجهه قال له جلال الدولة:
قد علمت أنه إنما منعك من
موافقة الذين جوزوا ذلك مع صحبتك إياي ووجاهتك عندي، دينك واتباعك
الحق، وإن الحق آثر عندك من كل أحد، ولو حابيت أحدا من الناس لحابيتني،
وقد زادك ذلك عندي صحبة ومحبة، وعلو مكانة.
قلت: والذي حمل القاضي الماوردي على المنع هو السنة التي وردت بها
الاحاديث الصحيحة من غير وجه.
قال الامام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن
أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أخنع اسم عند الله
يوم القيامة رجل تسمى بملك الاملاك " (1).
قال الزهري: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع أسم قال: أوضع.
وقد رواه البخاري عن علي بن المديني عن ابن عيينة، وأخرجه مسلم من طريق
همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أغيظ رجل
على الله يوم القيامة وأخبثه رجل تسمى ملك الاملاك لا ملك إلا الله
عزوجل ".
وقال الامام أحمد: حدثني محمد بن جعفر حدثنا عوف عن جلاس عن أبي هريرة،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشتد غضب الله على من قتله
نبي، واشتد غضب الله على رجل تسمى بملك الاملاك، لا ملك إلا الله عزوجل
".
وممن توفي فيها من
الاعيان...الثعالبي صاحب يتيمة الدهر أبو منصور عبد الملك بن محمد بن
إسماعيل الثعالبي النيسابوري، كان إماما في اللغة والاخبار وأيام
الناس، بارعا مفيدا، له التصانيف الكبار في النظم والنثر والبلاغة
والفصاحة، وأكبر كتبه يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر.
وفيها يقول بعضهم (2): أبيات أشعار اليتيمة * أبكار أفكار قديمة ماتوا
وعاشت بعدهم * فلذاك سميت اليتيمة وإنما سمي الثعالبي لانه كان رفاء
يخيط جلود الثعالب، وله أشعار كثيرة مليحة، ولد سنة خمسين وثلثمائة،
ومات في هذه السنة.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) وهو أبو الفتوح نصر الله بن قلاقس الاسكندري (وفيات الاعيان 3 /
180).
(*)
(12/55)
الاستاذ أبو
منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد، البغدادي الفقيه الشافعي، أحد
الائمة في الاصول والفروع، وكان ماهرا في فنون كثيرة من العلوم، منها
علم الحساب والفرائض، وكان ذا مال وثروة أنفقه كله على أهل العلم، وصنف
ودرس في سبعة عشر علما، وكان اشتغاله على أبي إسحاق الاسفرائيني، وأخذ
عنه ناصر المروزي وغيره.
ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمائة فيها التقى
الملك مسعود بن محمود، والملك طغرلبك السلجوقي، ومعه أخوه داود، في
شعبان، فهزمهما مسعود، وقتل من أصحابهما خلقا كثيرا.
وفيها خطب شبيب بن ريان للقائم العباسي بحران والرحبة وقطع خطبة
الفاطمي العبيدي.
وفيها خوطب أبو منصور بن جلال الدولة بالملك العزيز، وهو مقيم بواسط،
وهذا العزيز آخر من ملك بغداد من بني بويه، لما طغوا وتمردوا وبغوا
وتسموا بملك الاملاك، فسلبهم الله ما كان أنعم به عليهم، وجعل الملك في
غيرهم، كما قال الله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم) الآية [ الرعد: 11 ].
وفيها خلع الخليفة على القاضي أبي عبد الله بن ماكولا خلعة تشريف.
وفيها وقع ثلج عظيم ببغداد مقدار شبر.
قال ابن الجوزي: وفي جمادى الآخرة تملك بنو سلجوق بلاد خراسان والحبل،
وتقسموا الاطراف، وهو أول ملك السلجوقية ولم يحج أحد فيها من العراق
وخراسان، ولا من أهل الشام ولا مصر إلا القليل.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحافظ
أبو نعيم الاصبهاني أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن
مهران، أبو نعيم الاصبهاني، الحافظ الكبير ذو التصانيف المفيدة الكثيرة
الشهيرة، منها حلية الاولياء في مجلدات كثيرة، دلت على استاع روايته،
وكثرة مشايخه، وقوة اطلاعه على مخارج الحديث، وشعب طرقه، وله معجم
الصحابة، وهو عندي بخطه، وله صفة الجنة ودلائل النبوة، وكتاب في الطب
النبوي، وغير ذلك من المصنفات المفيدة.
وقد قال الخطيب البغدادي: كان أبو نعيم يخلط المسموع له بالمجاز، ولا
يوضح أحدهما من الآخر.
وقال عبد العزيز النخشبي: لم يسمع أبو نعيم مسند الحارث بن أبي أسامة
من أبي بكر بن خلاد بتمامه، فحدث به كله، وقال ابن الجوزي: سمع الكثير
وصنف الكثير، وكان يميل إلى مذهب الاشعري في الاعتقاد ميلا كثيرا، توفي
أبو نعيم في الثامن والعشرين من المحرم منها عن أربع وتسعين
(12/56)
سنة رحمه الله،
لانه ولد فيما ذكره ابن خلكان في سنة ست وثلاثين وثلثمائة.
قال: وله تاريخ أصبهان.
وذكر أبو نعيم في ترجمة والده أن مهران أسلم، وأن ولاءهم لعبد الله بن
معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
وذكر أن معنى أصبهان وأصله بالفارسية شاهان (1)، أي مجمع العساكر، وأن
الاسكندر بناها.
الحسن بن حفص (2) أبو الفتوح العلوي أمير مكة الحسن بن الحسين، أبو علي
البرجمي، وزر لشرف الدولة سنتين ثم عزل، وكان عظيم الجاه في زمانه، وهو
الذي بنى مارستان واسط، ورتب فيه الاشربة والاطباء والادوية، ووقف عليه
كفايته.
توفي في هذه السنة وقد قارب الثمانين رحمه الله.
الحسين بن محمد بن الحسن ابن علي بن عبد الله المؤدب، وهو أبو محمد
الخلال، سمع صحيح البخاري من إسماعيل بن محمد الكشميهني، وسمع غيره،
توفي في جمادى الاولى ودفن بباب حرب.
عبد الملك بن محمد ابن عبد الله بن محمد بن بشر بن مهران، أبو القاسم
الواعظ، سمع النجاد ودعلج بن أحمد والآجري وغيرهم، وكان ثقة صدوقا،
وكان يشهد عند الحكام فترك ذلك رغبة عنه ورهبة من الله، ومات في ربيع
الآخر منها، وقد جاوز التسعين، وصلي عليه في جامع الرصافة، وكان الجمع
كثيرا
حافلا، ودفن إلى جانب أبي طالب المكي، وكان قد أوصى بذلك.
محمد بن الحسين (3) بن خلف ابن الفراء، أبو حازم (4) القاضي أبو يعلى
الحنبلي، سمع الدارقطني وابن شاهين، قال
__________
(1) في وفيات الاعيان 1 / 92: سباهان.
وسبا: العسكر، وهان: الجمع.
وفي معجم البلدان 1 / 207: أصبهان: اسم مركب لان الاصب: البلد بلسان
الفرس.
وهان: اسم الفارس، فكأنه يقال: بلاد الفرسان.
(2) في الكامل 9 / 466 ومختصر أخبار البشر 2 / 162: الحسن بن جعفر.
(3) في الوافي 3 / 7: الحسين بن محمد بن خلف.
(4) في الوافي: أبو خازم وهو أخو القاضي أبي يعلى.
قال: والقاضي أبي يعلى توفي في رمضان سنة 458 ه.
(*)
(12/57)
الخطيب: كان لا
بأس به، ورأيت له أصولا سماعه فيها، ثم إنه بلغنا أنه خلط في الحديث
بمصر واشترى من الوراقين صحفا فروى منها، وكان يذهب إلى الاعتزال.
توفي بتنيس (1) من بلاد مصر.
محمد بن عبد الله أبو بكر الدينوري الزاهد، كان حسن العيش، وكان ابن
القزويني يثني عليه، وكان جلال الدولة صاحب بغداد يزوره، وقد سأله مرة
أن يطلق للناس مكث الملح، وكان مبلغه ألفي دينار فتركه من أجله، ولما
توفي اجتمع أهل بغداد لجنازته وصلي عليه مرات، ودفن بباب حرب رحمه الله
تعالى.
الفضل بن منصور أبو الرضى، ويعرف بابن الظريف، وكان شاعرا ظريفا ومن
شعره قوله: يا قالة الشعر قد نصحت لكم * ولست أدهى إلا من النصح قد ذهب
الدهر بالكرام * وفي ذاك أمور طويلة الشرح أتطلبون النوال من رجل * قد
طبعت نفسه على الشح وأنتم تمدحون بالحسن والظرف * وجوها في غاية القبح
من أجل ذا تحرمون رزقكم * لانكم تكذبون في المدح صونوا القوافي فما أرى
* أحدا يغتر فيه بالنجح فإن شككتم فيما أقول لكم * فكذبوني بواحد سمح
هبة الله بن علي بن جعفر أبو القاسم بن ماكولا، وزر لجلال الدولة
مرارا، وكان حافظا للقرآن، عارفا بالشعر والاخبار، خنق بهيت في جمادى
الآخرة منها.
أبو زيد الدبوسي عبد الله بن عمر بن عيسى الفقيه الحنفي، أول من وضع
علم الخلاف وأبرزه إلى الوجود.
__________
(1) توفي في سابع عشر المحرم وحمل إلى دمياط فدفن (الوافي).
(*)
(12/58)
قاله ابن
خلكان، وكان يضرب به المثل، والدبوس نسبة إلى قرية (1) من أعمال بخارى،
قال: وله كتاب الاسرار والتقويم للادلة، وغير ذلك من التصانيف
والتعاليق، قال وروي أنه ناظر فقيها فبقي كلما ألزمه أبو زيد إلزاما
تبسم أو ضحك، فأنشد أبو زيد في ذلك: ما لي إذا ألزمته حجة * قابلني
بالضحك والقهقهة إن ضحك المرء من فقهه * فالدب بالصحراء ما أفقهه
الحوفي صاحب إعراب القرآن أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سعيد بن يوسف
الحوفي النحوي، له كتاب في النحو كبير، وإعراب القرآن في عشر مجلدات،
وله تفسير القرآن أيضا، وكان إماما في العربية والنحو والادب وله
تصانيف كثيرة، انتفع بها الناس.
قال ابن خلكان: والحوفي نسبة لناحية بمصر يقال لها الشرقية، وقصبتها
مدينة بلبيس، فجميع ريفها يسمون حوف، واحدهم حوفي وهو من قرية يقال لها
شبرا النخلة من أعمال الشرقية المذكورة رحمه الله.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة
فيها زادت دجلة زيادة عظيمة بحيث حملت الجسر ومن عليه فألقتهم بأسفل
البلد وسلموا، وفيها وقع بين الجند وبين جلال الدولة شغب، وقتل من
الفريقين خلق، وجرت شرور يطول ذكرها.
ووقع فساد عريض واتسع الخرق على الراقع، ونهبت دور كثيرة جدا، ولم يبق
للملك عندهم حرمة، وغلت الاسعار.
وفيها زار الملك أبو طاهر مشهد الحسين، ومشى حافيا في بعض تلك الازوار.
ولم يحج أحد من أهل العراق.
وفيها بعث الملك أبو كاليجار وزيره العادل إلى البصرة فملكها له.
وممن توفي فيها من
الاعيان...إسماعيل بن أحمد ابن عبد الله أبو عبد الرحمن الضرير الخيري
(2)، من أهل نيسابور، كان من أعيان الفضلاء
__________
(1) وهي دبوسية: بلد بين بخارى وسمرقند.
وفي معجم البلدان: بليد من أعمال الصفد من ما وراء النهر، منها أبو زيد
الدبوسي وهو عبيد الله بن عمر بن عيسى صاحب كتاب الاسرار وتقويم
الادلة.
مات ببخارى سنة 403 ه.
(2) في تذكرة الحفاظ / 1097 والوافي 9 / 84: الحيري.
قال في الوافي: والحيرة محلة بنيسابور وقال ياقوت هي اليوم خراب.
(*)
(12/59)
الاذكياء،
والثقات الامناء، قدم بغداد حاجا في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، فقرأ
عليه الخطيب جميع صحيح البخاري في ثلاث مجالس بروايته له عن أبي الهيثم
الكشميهني، عن الفربري عن البخاري، توفي فيها وقد جاوز التسعين (1).
بشرى الفاتني وهو بشرى بن مسيس من سبي الروم، أهداه أمراء بني حمدان
الفاتن غلام المطيع، فأدبه وسمع الحديث عن جماعة من المشايخ، وروى عنه
الخطيب.
وقال: كان صدوقا صالحا دينا، توفي يوم عيد الفطر منها رحمه الله.
محمد بن علي
ابن أحمد بن يعقوب بن مروان أبو العلاء الواسطي، وأصله من فم الصلح،
سمع الحديث وقرأ القراءات ورواها، وقد تكلموا في روايته في القراءات
والحديث فالله أعلم.
توفي في جمادى الآخرة منها وقد جاوز الثمانين.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فيها
عظم شأن السلجوقية، وارتفع شأن ملكهم طغرلبك، وأخيه داود، وهما
ابنا ميكائيل بن سلجوق بن بغاق (2)، وقد كان جدهم بغاق هذا من مشايخ
الترك القدماء، الذين لهم رأي ومكيدة ومكانة عند ملكهم الاعظم، ونشأ
ولده سلجوق نجيبا شهما، فقدمه الملك ولقبه شباسي (3)، فأطاعته الجيوش
وانقاد له الناس بحيث تخوف منه الملك وأراد قتله، فهرب منه إلى بلاد
المسلمين، فأسلم فازداد عزا وعلوا، ثم توفي عن مائة وسبع سنين (4)،
وخلف أرسلان وميكائيل وموسى، فأما ميكائيل فإنه اعتنى بقتال الكفار من
الاتراك، حتى قتل شهيدا، وخلف ولديه طغرلبك محمد، وجعفر بك داود، فعظم
شأنهما في بني عمهما، واجتمع عليهما الترك من المؤمنين، وهم ترك
الايمان الذين يقول لهم الناس تركمان، وهم السلاجقة بنو سلجوق جدهم
هذا، فأخذوا بلاد خراسان بكمالها بعد موت محمود بن سبكتكين، وقد كان
يتخوف منهم محمود بعض التخوف،
__________
(1) في الوافي: مولده سنة إحدى وستين وثلاثمائة ومات بعد الثلاثين
والاربعمائة.
(2) في الكامل 9 / 473: تقاق، وفي مختصر أخبار البشر 2 / 163: دقاق.
(3) في الكامل: سباشي، ومعناه قائد الجيش: وفي الفخري ص 292: شباشي.
(4) في الفخري ص 293: مائة سنة.
(*)
(12/60)
فلما مات وقام
ولده مسعود بعده قاتلهم وقاتلوه مرارا، فكانوا يهزمونه في أكثر
المواقف، واستكمل لهم ملك خراسان بأسرها، ثم قصدهم مسعود في جنود يضيق
بهم الفضاء فكسروه، وكبسه مرة داود فانهزم مسعود فاستحوذ على حواصله
وخيامه، وجلس على سريره، وفرق الغنائم على جيشه، ومكث جيشه على خيولهم
لا ينزلون عنها ثلاثة أيام، خوفا من دهمة العدو، وبمثل هذا تم لهم ما
راموه، وكمل لهم جميع ما أملوه، ثم كان من سعادتهم أن الملك مسعود توجه
نحو بلاد الهند لسبي بها وترك مع ولده مودود جيشا كثيفا بسبب قتال
السلاجقة، فلما عبر الجسر الذي على سيحون نهبت جنوده حواصله، واجتمعوا
على أخيه محمد بن محمود، وخلعوا مسعودا فرجع إليهم مسعود فقاتلهم
فهزموه وأسروه، فقال له أخوه: والله لست بقاتلك على شر صنيعك إلي، ولكن
اختر لنفسك أي بلد تكون فيه أنت وعيالك، فاختار قلعة كبرى، وكان بها،
ثم إن الملك محمدا أخا مسعود جعل لولده الامر من بعده، وبايع الجيش له،
وكان ولده اسمه أحمد، وكان فيه هرج، فاتفق هو ويوسف بن سبكتكين على قتل
مسعود ليصفو لهم الامر، ويتم لهم الملك، فسار إليه أحمد من غير علم
أبيه فقتله، فلما علم أبوه بذلك غاظه وعتب على ابنه عتبا شديدا، وبعث
إلى ابن أخيه يعتذر إليه ويقسم له أنه لم يعلم بذلك، حتى كان ما كان.
فكتب إليه مودود بن مسعود: رزق الله ولدك المعتوه عقلا يعيش به، فقد
ارتكب أمرا عظيما، وقدم على إراقة دم مثل والدي الذي لقبه أمير
المؤمنين بسيد الملوك والسلاطين، وستعلمون أي حيف تورطتم، وأي شر
تأبطتم (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) [ الشعراء: 227 ] ثم سار
إليهم في جنود فقاتلهم فقهرهم وأسرهم، فقتل عمه محمدا وابنه أحمد وبني
عمه كلهم، إلا عبد الرحمن وخلقا من رؤس أمرائهم، وابتنى قرية هنالك
وسماها فتحا أباذا، ثم سار إلى غزنة فدخلها في شعبان، فأظهر العدل وسلك
سيرة جده محمود، فأطاعه الناس، وكتب إليه أصحاب الاطراف بالانقياد
والاتباع والطاعة، غير أنه أهلك قومه بيده، وهذا من جملة سعادة
السلاجقة.
وفيها اختلف أولاد حماد على العزيز (1) باديس صاحب إفريقية، فسار إليهم
فحاصرهم قريب من سنتين، ووقع بإفريقية في هذه السنة غلاء شديد بسبب
تأخر المطر، ووقع ببغداد فتنة عظيمة بين الروافض والسنة من أهل الكرخ،
وأهل باب البصرة، فقتل بينهم خلق كثير من الفريقين.
ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان.
وممن توفي فيها من الاعيان...محمد
بن الحسين ابن الفضل بن العباس، أبو يعلى البصري الصوفي، أذهب عمره في
الاسفار والتغريب
__________
(1) في الكامل 9 / 492: المعزبن باديس.
(*)
(12/61)
وقدم بغداد في
سنة ثنتين وثلاثين، فحدث بها عن أبي بكر بن أبي الحديد الدمشقي، وأبي
الحسين بن جميع الغساني، وكان ثقة صدوقا دينا حسن الشعر.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة فيها
ملك طغرلبك جرجان وطبرستان، ثم عاد إلى نيسابور مؤيدا منصورا.
وفيها ولي ظهير الدولة بن جلال الدولة أبي جعفر بن كالويه (1) بعد وفاة
أبيه، فوقع الخلف بينه وبين أخويه أبي كاليجار وكرسانيف (2).
وفيها دخل أبو كاليجار همذان ودفع الغز عنها.
وفيها شعثت الاكراد ببغداد لسبب تأخر العطاء عنهم.
وفيها سقطت قنطرة بني زريق على نهر عيسى، وكذا القنطرة الكثيفة التي
تقابلها.
وفيها دخل بغداد رجل من البلغار يريد الحج، وذكر أنه من كبارهم، فأنزل
بدار الخلافة وأجرى عليه الارزاق، وذكر أنهم مولدون من الترك
والصقالبة، وأنهم في أقصى بلاد الترك، وأن النهار يقصر عندهم حتى يكون
ست ساعات، وكذلك الليل، وعندهم عيون وزروع وثمار، على غير مطر ولا سقي.
وفيها قرئ الاعتقاد القادري الذي جمعه الخليفة القادر، وأخذت خطوط
العلماء والزهاد عليه بأنه اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فسق وكفر، وكان
أول من كتب عليه الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني، ثم كتب بعده
العلماء، وقد سرده الشيخ أبو الفرج بن الجوزي بتمامه في منتظمه، وفيه
جملة جيدة من اعتقاد السلف.
وممن توفي فيها من الاعيان...بهرام
بن منافيه (3) أبو منصور الوزير لابي كاليجار، كان عفيفا نزها صينا،
عادلا في سيرته، وقد وقف خزانة كتب في مدينة فيروزباذ، تشتمل على سبعة
آلاف مجلد، من ذلك أربعة آلاف ورقة بخط أبي علي وأبي
عبد الله بن مقلة (4).
__________
(1) في الكامل 9 / 495 ومختصر أخبار البشر 2 / 195: كاكويه، وإنما قيل
له كاكويه لانه ابن خال مجد الدولة بن بويه، والخال بلغتهم كاكويه.
(2) في الكامل وتاريخ أبي الفداء: كرشاسف.
(3) في الكامل 9 / 502: ما فنة.
(4) في هامش المطبوعة: كذا بالاصل، وابن مقلة هو أبو علي محمد بن علي.
(*)
(12/62)
محمد بن جعفر
بن الحسين المعروف بالجهرمي (1)، قال الخطيب: هو أحد الشعراء الذين
لقيناهم وسمعنا منهم، وكان يجيد القول، ومن شعره: يا ويح قلبي من تقلبه
* أبدا نحن إلى معذبه قالوا: كتمت هواه عن جلد * لو أن لي جلد (2) لبحت
به ما بي جننت غير مكترث * عني ولكن من تغيبه (3) حسبي رضاه من الحياة
وما * يلقى (4) وموتي من تغضبه مسعود الملك بن الملك محمود ابن الملك
سبكتيكن، صاحب غزنة وابن صاحبها، قتله ابن عمه أحمد بن محمد بن محمود،
فانتقم له ابنه مودود بن مسعود، فقتل قاتل أبيه وعمه وابن عمه وأهل
بيته، من أجل أبيه، واستتب له الامر وحده من غير منازع من قومه كما
تقدم.
بنت أمير المؤمنين المتقي بالله تأخرت مدتها حتى توفيت في هذه السنة في
رجب منها عن إحدى وتسعين سنة، بالحريم الظاهر، ودفنت بالرصافة.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة فيها
أمر الملك جلال الدولة أبا طاهر بجباية أموال الجوالي، ومنع أصحاب
الخليفة من قبضها فانزعج لذلك الخليفة القائم بالله، وعزم على الخروج
من بغداد.
وفيها كانت زلزلة عظيمة
بمدينة تبريز، فهدمت قلعتها وسورها ودورها، ومن دار الامارة عامة
قصورها، ومات تحت الهدم خمسون ألفا، ولبس أهلها المسوح لشدة مصابهم.
وفيها استولى السلطان طغرلبك على أكثر البلاد الشرقية من ذلك مدينة
خوارزم ودهستان وطيس والري وبلاد الجبل وكرمان وأعمالها، وقزوين.
وخطب له في تلك النواحي كلها، وعظم شأنه جدا، واتسع صيته.
وفيها ملك سماك بن صالح بن مرداس حلب، أخذها من الفاطميين، فبعث إليه
المصريون من حاربه.
ولم يحج أحد من هل العراق وغيرها، ولا في اللواتي قبلها.
__________
(1) الجهرمي نسبة إلى جهرم مدينة بفارس يعمل فيها بسط فاخرة.
(معجم البلدان).
(2) في الكامل 9 / 503: رمقا.
(3) في الكامل: بأبي حبيبا...ويكثر من تعتبه.
(4) في الكامل: قلقي.
(*)
(12/63)
وممن توفي فيها
من الاعيان...أبو ذر الهروي عبد الله بن أحمد بن محمد الحافظ المالكي،
سمع الكثير ورحل إلى الاقاليم، وسكن مكة، ثم تزوج في العرب، وكان يحج
كل سنة ويقيم بمكة أيام الموسم ويسمع الناس، ومنه أخذ المغاربة مذهب
الاشعري عنه، وكان يقول إنه أخذ مذهب مالك عن الباقلاني، كان حافظا،
توفي في ذي القعدة.
محمد بن الحسين ابن محمد بن جعفر، أبو الفتح الشيباني العطار، ويعرف
بقطيط، سافر الكثير إلى البلاد، وسمع الكثير، وكان شيخا ظريفا، سلك
طريق التصوف، وكان يقول: لما ولدت سميت قطيطا على أسماء البادية، ثم
سماني بعض أهلي محمدا. |