البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
البداية
والنهاية - ابن كثير ج 13
البداية والنهاية
ابن كثير ج 13
(13/)
البداية
والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى
سنة 774 ه.
حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الثالث عشر دار إحياء
التراث العربي
(13/3)
طبعة جديدة
محققة الطبعة الاولى 1408 ه.
1988 م
(13/4)
بسم الله
الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة
فيها كانت وفاة السلطان الملك الناصر صلاح
الدين يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى.
استهلت هذه السنة وهو في غاية الصحة والسلامة، وخرج هو وأخوه العادل
إلى الصيد شرقي دمشق، وقد اتفق الحال بينه وبين أخيه أنه بعد ما يفرغ
من أمر الفرنج يسير هو إلى بلاد الروم، ويبعث أخاه إلى بغداد، فإذا
فرغا من شأنهما سارا جميعا إلى بلاد آذربيجان، بلاد العجم، فإنه ليس
دونها أحد يمانع عنها، فلما قدم الحجيج في يوم الاثنين حادي عشر صفر
خرج السلطان لتلقيهم، وكان معه ابن أخيه سيف الاسلام، صاحب اليمن،
فأكرمه والتزمه، وعاد إلى القلعة فدخلها من باب الجديد، فكان ذلك آخر
ما ركب في هذه الدنيا، ثم إنه اعتراه حمى
صفراوية ليلة السبت سادس عشر صفر، فلما أصبح دخل عليه القاضي الفاضل
وابن شداد وابنه الافضل، فأخذ يشكو إليهم كثرة قلقه البارحة، وطاب له
الحديث، وطال مجلسهم عنده، ثم تزايد به المرض واستمر، وقصده الاطباء في
اليوم الرابع، ثم اعتراه يبس وحصل له عرق شديد بحيث نفذ إلى الارض، ثم
قوي اليبس فأحضر الامراء الاكابر فبويع لولده الافضل نور الدين علي،
وكان نائبا على دمشق، وذلك عندما ظهرت مخايل الضعف الشديد، وغيبوبة
الذهن في بعض الاوقات، وكان الذين يدخلون عليه في هذه الحال الفاضل
وابن شداد وقاضي البلد ابن الزكي، ثم اشتد به الحال ليلة الاربعاء
السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخ أبا جعفر إمام الكلاسة ليبيت
عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا جد به الامر، فذكر أنه كان يقرأ
عنده وهو في الغمرات فقرأ (هو الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة)
[ الحشر: 22 ] فقال: وهو كذلك صحيح.
فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق، فلما قرأ
القارئ (لا إله إلا هو عليه توكلت) [ التوبة: 129 ] تبسم وتهلل وجهه
وأسلم روحه إلى ربه
(13/5)
سبحانه، ومات
رحمه الله، واكرم مثواه، وجعل جنات الفردوس مأواه، وكان له من العمر
سبع وخمسون سنه، لانه ولد بتكريت في شهور سنة، سنه ثنتين وثلاثين
وخمسمائه، رحمه الله، فقد كان ردءا للاسلام وحرزا وكهفا من كيد الكفرة
اللئام، وذلك بتوفيق الله له، وكان أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه، وود
كل منهم لو فداه بأولاده وأحبائه وأصحابه، وقد غلقت الاسواق واحتفظ على
الحواصل، ثم أخذوا في تجهيزه، وحضر جميع أولاده وأهله، وكان الذي تولى
غسله خطيب البلد الفقيه الدولعي (1)، وكان الذي أحضر الكفن ومؤنه
التجهيز القاضي الفاضل من صلب ماله الحلال، هذا وأولاده الكبار والصغار
يتباكون وينادون، وأخذ الناس في العويل والانتحاب والدعاء له
والابتهال، ثم أبرز جسمه في نعشه في تابوت بعد صلاة الظهر، وأم الناس
عليه القاضي ابن الزكي ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة، ثم شرع ابنه
في بناء تربة له ومدرسة للشافعية بالقرب من مسجد القدم، لوصيته بذلك
قديما، فلم يكمل بناؤها، وذلك حين قدم
ولده العزيز وكان محاصرا لاخيه الافضل كما سيأتي بيانه، في سنة تسعين
وخمسمائة، ثم اشترى له الافضل دارا شمالي الكلاسة في وزان ما زاده
القاضي الفاضل في الكلاسة، فجعلها تربة، هطلت سحائب الرحمة عليها،
ووصلت ألطاف الرأفة إليها.
وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين، وصلى عليه تحت
النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرابي ابن الزكي، عن إذن الافضل، ودخل
في لحده ولده الافضل فدفنه بنفسه، وهو يومئذ سلطان الشام، ويقال إنه
دفن معه سيفه الذي كان يحضر به الجهاد، وذلك عن أمر القاضي الفاضل،
وتفاءلوا بأنه يكون معه يوم القيامة يتوكأ عليه، حتى يدخل الجنة إن شاء
الله.
ثم عمل عزاؤه بالجامع الاموي ثلاثة أيام، يحضره الخاص والعام، والرعية
والحكام، وقد عمل الشعراء فيه مراثي كثيرة من أحسنها ما عمله العماد
الكاتب في آخر كتابه البرق السامي، وهي مائتا بيت واثنان، وقد سردها
الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين، منها قوله: شمل الهدى والملك
عم شتاته * والدهر ساء واقلعت حسناته اين الذى مذ لم يزل مخشية * مرجوة
رهباته وهباته ؟ اين الذي كانت له طاعاتنا * مبذولة ولربه طاعاته ؟
بالله اين الناصر الملك الذي * لله خالصة صفت نياته ؟ اين الذي ما زال
سلطانا لنا * يرجى نداه وتتقى سطواته ؟ اين الذي شرف الزمان بفضله *
وسمت على الفضلاء تشريفاته ؟ اين الذي عنت الفرنج لبأسه * ذلا، ومنها
أدركت ثاراته ؟ أغلال أعناق العدا أسيافه * أطواق أجياد الورى مناته
__________
(1) الدولعي هو ضياء الدين أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين بن
زيد بن قائد بن جميل الارقمي الدولعي الشافعي، خطيب دمشق توفي في ربيع
الاول سنة 598 ه وله إحدى وتسعين سنة.
(*)
(13/6)
من للعلى من
للذري من للهدى * يحميه ؟ من للبأس من للنائل ؟
طلب البقاء لملكه في آجل * إذ لم يثق ببقاء ملك عاجل بحر أعاد البر
بحرا بره * وبسيفه فتحت بلاد الساحل من كان أهل الحق في أيامه * وبعزه
يردون أهل الباطل وفتوحه والقدس من أبكارها * أبقت له فضلا بغير مساجل
ما كنت أستسقي لقبرك وابلا * ورأيت جودك مخجلا للوابل فسقاك رضوان
الاله لانني * لا أرتضي سقيا الغمام الهاطل تركته وشئ من ترجمته قال
العماد وغيره: لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرم واحد - أي دينار
واحد - صوريا وستة وثلاثين درهما.
وقال غيره: سبعة وأربعين درهما (1)، ولم يترك دارا ولا عقارا ولا مزرعة
ولا بستانا، ولا شيئا من أنواع الاملاك.
هذا وله من الاولاد سبعة عشر ذكرا وابنة واحدة، وتوفي له في حياته
غيرهم، والذين تأخروا بعده ستة عشر ذكرا أكبرهم الملك الافضل نور الدين
علي، ولد بمصر سنة خمس وستين ليلة عيد الفطر، ثم العزيز عماد الدين أبو
الفتح عثمان ولد بمصر أيضا في جمادى الاولى سنة سبع وستين، ثم الظافر
مظفر الدين أبو العباس الخضر، ولد بمصر في شعبان سنة ثمان وستين، وهو
شقيق الافضل، ثم الظاهر غياث الدين أبو منصور غازي، ولد بمصر في نصف
رمضان سنة ثمان وستين، ثم العزيز فتح الدين أبو يعقوب إسحاق، ولد بدمشق
في ربيع الاول سنة سبعين.
ثم نجم الدين أبو الفتح مسعود، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين وهو شقيق
العزيز، ثم الاغر شرف الدين أبو يوسف يعقوب، ولد بمصر سنة ثنتين
وسبعين، وهو شقيق العزيز أيضا، ثم الزاهر مجير الدين أبو سليمان داود،
ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين وهو شقيق الظاهر، ثم أبو الفضل قطب الدين
موسى، وهو شقيق الافضل، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين أيضا، ثم لقب بالمظفر
أيضا، ثم الاشرف معز الدين أبو عبد الله محمد، ولد بالشام سنة خمس
وسبعين، ثم المحسن ظهير الدين أبو العباس أحمد ولد بمصر سنة سبع
وسبعين، وهو شقيق الذي قبله، ثم المعظم فخر الدين أبو منصور توران شاه
ولد بمصر في ربيع الاول سنة سبع وسبعين،
وتأخرت وفاته إلى سنة ثمان وخمسين وستمائة، ثم الجوال ركن الدين أبو
سعيد أيوب ولد سنة ثمان وسبعين، وهو شقيق للمعز، ثم الغالب نصير الدين
أبو الفتح ملك شاه، ولد في رجب سنة ثمان وسبعين وهو شقيق المعظم، ثم
المنصور أبو بكر أخو المعظم لابويه، ولد بحران بعد وفاة
__________
(1) في ابن الاثير 12 / 96 أربعين درهما ناصرية.
(*)
(13/7)
السلطان، ثم
عماد الدين شادي لام ولد، ونصير الدين مروان لام ولد أيضا.
وأما البنت فهي مؤنسة خاتون تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن
العادل أبي بكر بن أيوب رحمهم الله تعالى.
وإنما لم يخلف أموالا ولا أملاكا لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه
وغيرهم، حتى إلى أعدائه، وقد تقدم من ذلك ما يكفي، وقد كان متقللا في
ملبسه، ومأكله ومركبه، وكان لا يلبس إلا القطن والكتان والصوف، ولا
يعرف أنه تخطى إلى مكروه، ولا سيما بعد أن أنعم الله عليه بالملك، بل
كان همه الاكبر ومقصده الاعظم نصرة الاسلام، وكسر أعدائه اللئام، وكان
يعمل رأيه في ذلك وحده، ومع من يثق به ليلا ونهارا، وهذا مع ما لديه من
الفضائل والفواضل، والفوائد الفرائد، في اللغة والادب وأيام الناس، حتى
قيل إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها، وكان مواظبا على الصلوات في أوقاتها
في الجماعة، يقال إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل،
حتى ولا في مرض موته، كان يدخل الامام فيصلي به، فكان يتجشم القيام مع
ضعفه، وكان يفهم ما يقال بين يديه من البحث والمناظرة، ويشارك في ذلك
مشاركة قريبة حسنة، وإن لم يكن بالعبارة المصطلح عليها، وكان قد جمع له
القطب النيسابوري عقيدة فكان يحفظها ويحفظها من عقل من أولاده، وكان
يحب سماع القرآن والحديث والعلم، ويواظب على سماع الحديث، حتى أنه يسمع
في بعض مصافه جزء وهو بين الصفين فكان يتبجح بذلك ويقول هذا موقف لم
يسمع أحد في مثله حديثا، وكان ذلك بإشارة العماد الكاتب.
وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث، وكان كثير التعظيم
لشرائع الدين.
كان قد صحب ولده الظاهر وهو بحلب شاب يقال له الشهاب السهروردي، وكان
يعرف الكيميا وشيئا من الشعبذة والابواب
النيرنجيات، فافتتن به ولد السلطان الظاهر، وقربه وأحبه، وخالف فيه
حملة الشرع، فكتب إليه أن يقتله لا محالة، فصلبه عن أمر والده وشهره،
ويقال بل حبسه بين حيطين حتى مات كمدا، وذلك في سنة ست وثمانين
وخمسمائة، وكان من أشجع الناس وأقواهم بدنا وقلبا، مع ما كان يعتري
جسمه من الامراض والاسقام، ولا سيما في حصار عكا، فإنه كان مع كثرة
جموعهم وأمدادهم لا يزيده ذلك إلا قوة وشجاعة، وقد بلغت جموعهم خمسمائه
ألف مقاتل، ويقال ستمائة ألف، فقتل منهم مائة ألف مقاتل.
ولما انفصل الحرب وتسلموا عكا وقتلوا من كان بها من المسلمين وساروا
برمتهم إلى القدس جعل يسايرهم منزلة منزلة، وجيوشهم أضعاف أضعاف من
معه، ومع هذا نصره الله وخذلهم، وسبقهم إلى القدس فصانه وحماه منهم،
ولم يزل بجيشه مقيما به يرهبهم ويرعبهم ويغلبهم ويسلبهم حتى تضرعوا
إليه وخضعوا لديه، ودخلوا عليه في الصلح، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم
وبينه، فأجابهم إلى ما سألوا على الوجه الذى أراده، لا على ما يريدونه،
وكان ذلك من جملة الرحمة التي رحم الله بها المؤمنين، فإنه ما انقضت
تلك السنون حتى ملك البلاد أخوه العادل فعز به المسلمون وذل به
الكافرون، وكان سخيا جبيا ضحوك الوجه كثير البشر، لا يتضجر من خير
(13/8)
يفعله، شديد
المصابرة على الخيرات والطاعات، فرحمه الله وقد ذكر الشيخ شهاب الدين
أبو شامة طرفا صالحا من سيرته وأيامه، وعدله في سريرته وعلانيته،
وأحكامه.
فصل وكان قد قسم البلاد بين أولاده،
فالديار المصرية لولده العزيز عماد الدين أبي الفتح، ودمشق وما حولها
لولده الافضل نور الدين علي، وهم أكبر أولاده، والمملكة الحلبية لولده
الظاهر غازي غياث الدين، ولاخيه العادل الكرك والشوبك وبلاد جعبر
وبلدان كثيرة قاطع الفرات، وحماه ومعاملة أخرى (1) معها للملك المنصور
محمد بن تقي الدين عمر بن أخي السلطان، وحمص والرحبة وغيرها لاسد الدين
بن شيركوه بن ناصر الدين بن محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير،
نجم الدين أخي أبيه نجم الدين أيوب.
واليمن بمعاقله ومخاليفه جميعه في قبضة السلطان ظهير الدين سيف الاسلام
طغتكين بن أيوب، أخي السلطان صلاح الدين، وبعلبك وأعمالها للامجد بهرام
شاه بن فروخ شاه، وبصرى وأعمالها للظافر بن الناصر.
ثم شرعت الامور بعد موت صلاح الدين تضطرب وتختلف في جميع هذه الممالك،
حتى آل الامر واستقرت الممالك واجتمعت الكلمة على الملك العادل أبي بكر
صلاح الدين، وصارت المملكة في أولاده كما سيأتي قريبا إن شاء الله
تعالى.
وفيها جدد الخليفة الناصر لدين الله خزانة كتب المدرسة النظامية
ببغداد، ونقل إليها ألوفا من الكتب الحسنة المثمنة وفي المحرم منها جرت
ببغداد كائنة غريبة وهي أن ابنة لرجل من التجار في الطحين عشقت غلام
أبيها فلما علم أبوها بأمرها طرد الغلام من داره فواعدته البنت ذات
ليلة أن يأتيها فجاء إليها مختفيا فتركته في بعض الدار، فلما جاء أبوها
في أثناء الليل أمرته فنزل فقلته، وأمرته بقتل أمها وهي حبلى، وأعطته
الجارية حليا بقيمة ألفي دينار، فأصبح أمره عند الشرطة فمسك وقتل قبحه
الله، وقد كان سيده من خيار الناس وأكثرهم صدقة وبرا، وكان شابا وضئ
الوجه رحمه الله.
وفيها درس بالمدرسة الجديدة عند قبر معروف الكرخي الشيخ أبو علي
التويابي وحضر عنده القضاة والاعيان، وعمل بها دعوة حافلة.
وممن توفي فيها من
الاعيان...السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ابن شاذي، وقد تقدمت وفاته
مبسوطة.
__________
(1) قال في تاريخ أبي الفداء 3 / 87: حماه وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة
نجم.
(*)
(13/9)
الامير بكتمر
صاحب خلاط قتل في هذه السنة (1)، وكان من خيار الملوك وأشجعهم وأحسنهم
سيرة رحمه الله.
الاتابك عز الدين مسعود
ابن مودود بن زنكي، صاحب الموصل نحوا من ثلاث عشرة سنة، من خيار
الملوك، كان بنسبه نور الدين الشهيد عمه، ودفن بتربته عند مدرسة أنشأها
بالموصل أثابه الله.
جعفر بن محمد بن فطيرا أبو الحسن أحد الكتاب بالعراق، كان ينسب إلى
التشيع، وهذا كثير في أهل تلك البلاد لا أكثر الله منهم، جاءه رجل ذات
يوم فقال له رأيت البارحة أمير المؤمنين عليا في المنام، فقال لي: اذهب
إلى ابن فطيرا فقل له يعطيك عشر دنانير، فقال له ابن فطيرا.
متى رأيته ؟ قال: أول الليل، فقال ابن فطيرا وأنا رأيته آخر الليل فقال
لي: إذا جاءك رجل من صفته كذا وكذا فطلب منك شيئا فلا تعطه، فأدبر
الرجل موليا فاستدعاه ووهبه شيئا، ومن شعره فيما أورده ابن الساعي وقد
تقدم ذلك لغيره: ولما سبرت الناس أطلب منهم * أخا ثقة عند اعتراض
الشدائد وفكرت في يومي سروري وشدتي * وناديت في الاحياء هل من مساعد ؟
فلم أر فيما ساءني غير شامت * ولم أر فيما سرني غير حاسد يحيي بن سعيد
بن غازي أبو العباس البصري النجراني صاحب المقامات، كان شاعرا أديبا
فاضلا بليغا، له اليد الطولى في اللغة والنظم، ومن شعره قوله: غناء خود
ينساب لطفا * بلا عناء في كل أذن ما رده قط باب سمع * ولا أتى زائرا
بإذن السيدة زبيدة بنت الامام المقتفي لامر الله، أخت المستنجد وعمة
المستضئ، كانت قد عمرت طويلا
__________
(1) قتل في أول جمادى الاولى، وكان سبب قتله أن هزار ديناري وهو من
مماليك شاه أرمن ظهير الدين تزوج بابنة بكتمر وقوي أمره واشتد، فمطع في
الملك، فعمل على قتل بكتمر وملك بلاد خلاط وأعمالها وبقي في ملكها إلى
وفاته سنة 594 ه.
(الكامل 12 / 103 تاريخ أبي الفداء 3 / 89) وقال الذهبي في العبر: قتله
بعض الاسماعيلية.
(*)
(13/10)
ولها صدقات
كثيرة دارة، وقد تزوجها في وقت السلطان مسعود على صداق مائة ألف دينار،
فتوفي قبل أن يدخل بها، وقد كانت كارهة لذلك، فحصل مقصودها وطلبتها.
الشيخة الصالحة فاطمة خاتون بنت محمد بن الحسن العميد، كانت عابدة
زاهدة، عمرت مائة سنة وست سنين، كان قد تزوجها في وقت أمير الجيوش مطر
وهي بكر، فبقيت عنده إلى أن توفي ولم تتزوج بعده، بل اشتغلت بذكر الله
عزوجل والعبادة، رحمها الله.
وفيها أنفذ الخليفة الناصر العباسي إلى الشيخ أبي الفرج بن الجوزي يطلب
منه أن يزيد على أبيات عدي بن زيد المشهورة ما يناسبها من الشعر، ولو
بلغ ذلك عشر مجلدات، وهي هذه الابيات: أيها الشامت المعير بالده * ر
أأنت المبرأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من ال * أيام، بل أنت جاهل
مغرور من رأيت المنون خلدت أم من * ذا عليه من أن يضام خفير أين كسرى
كسر الملوك أبو * ساسان أم أين قبله سابور ؟ وبنو الاصفر الملوك ملوك
الر * وم لم يبق منهم مذكور وأخو الحضر إذ بناه وإذ * دجلة تجبى إليه
والخابور شاده مرمرا وجلله كلسا * فللطير في ذراه وكور لم تهبه ريب
المنون فزا * ل الملك عنه فبابه مهجور وتذكر رب الخورنق إذ * أشرف يوما
وللهندي (1) تكفير سره حاله وكثرة ما * يملك والبحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه وقال وما * غبطة حي إلى الممات يصير ثم بعد النعيم والملك
والنهي وال * أمر وارتهم هناك قبور
ثم أضحوا كأنهم أورق (2) جف * ت فألوت بها الصبا والدبور غير أن الايام
تختص بالمرء * وفيها لعمري العظات والتفكير
__________
(1) في معجم البلدان (خورنق): وتبين..وللهدى تفكير.
قيل والخورنق قصر بناه النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن مرة
كان من أشد الملوك بأسا، أشرف يوما على النجف وما يليه من البساتين
والنخل والجنان فقال لوزيره: أرأيت مثل هذا المنظر وحسنه.
فقال: لو كان يدوم.
فقال: ما الذي يدوم.
قال: ما عند الله في الآخرة وينال ذلك بترك الدنيا وعبادة الله.
فترك ملكه في ليلته واختفى هاربا...فقال عدي بن زيد هذه الابيات.
(2) في معجم البلدان: ثم صاروا كأنهم ورق..(*)
(13/11)
ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة لما استقر الملك الافضل بن صلاح الدين مكان
أبيه بدمشق، بعث بهدايا سنية إلى باب الخليفة الناصر،
من ذلك سلاح أبيه وحصانه الذي كان يحضر عليه الغزوات، ومنها صليب
الصلبوت الذي استلبه أبوه من الفرنج يوم حطين، وفيه من الذهب ما ينيف
على عشرين رطلا مرصعا بالجواهر النفيسة، وأربع جواري من بنات ملوك
الفرنج، وأنشأ له العماد الكاتب كتابا حافلا يذكر فيه التعزية بأبيه،
والسؤال من الخليفة أن يكون في الملك من بعده، فأجيب إلى ذلك.
ولما كان شهر جمادى الاولى قدم العزيز صاحب مصر إلى دمشق ليأخذها من
أخيه الافضل فخيم على الكسوة يوم السبت سادس جمادى، وحاصر البلد،
فمانعه أخوه ودافعه عنها، فقطع الانهار ونهبت الثمار، واشتد الحال، ولم
يزل الامر كذلك حتى قدم العادل عمهما فأصلح بينهما، ورد الامر للالفة
بعد اليمين على أن يكون للعزيز القدس وما جاور فلسطين من ناحيته أيضا،
وعلى أن يكون جبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب، وأن يكون لعمهما العادل
أقطاعه الاول ببلاد مصر مضافا إلى ما بيده من الشام والجزيرة كحران
والرها وجعبر وما جاور ذلك، فاتفقوا على
ذلك، وتزوج العزيز بابنة عمه العادل، ومرض ثم عوفي وهو مخيم بمرج
الصفر، وخرجت الملوك لتهنئته بالعافية والتزويج والصلح، ثم كر راجعا
إلى مصر لطول شوقه إلى أهله وأولاده، وكان الافضل بعد موت أبيه قد أساء
التدبير فأبعد أمراء أبيه وخواصه، وقرب الاجانب وأقبل على شرب المسكر
واللهو واللعب، واستحوذ عليه وزيره ضياء الدين بن الاثير الجزري، وهو
الذي كان يحدوه إلى ذلك، فتلف وأتلفه، وأضل وأضله، وزالت النعمة عنهما
كما سيأتي.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين شهاب الدين ملك غزنة وبين كفار الهند،
أقبلوا إليه في ألف ألف مقاتل، ومعهم سبعمائة فيل منها فيل أبيض لم ير
مثله، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا لم ير مثله، فهزمهم شهاب الدين عند
نهر عظيم يقال له الملاحون (1)، وقتل ملكهم واستحوذ على حواصله وحواصل
بلاده وغنم فيلتهم ودخل بلد الملك الكبرى، فحمل من خزانته ذهبا وغيره
على ألف وأربعمائة جمل، ثم عاد إلى بلاده سالما منصورا.
وفيها ملك السلطان خوارزم شاه تكش - يقال له ابن الاصباعي - بلاد الري
وغيرها، واصطلح مع السلطان طغرلبك السلجوقي وكان قد تسلم بلاد الري
وسائر مملكة أخيه سلطان شاه وخزائنه، وعظم شأنه، ثم التقى هو والسلطان
طغرلبك في ربيع الاول من هذه السنة.
فقتل
__________
(1) في الكامل 12 / 105: ماجون، وهو نهر كبير يقارب دجلة بالموصل.
وفي معجم البلدان: ماجان: نهر يشق مدينة مرو.
(*)
(13/12)
السلطان
طغرلبك، وأرسل رأسه إلى الخليفة، فعلق على باب النوبة عدة أيام، وأرسل
الخليفة الخلع والتقاليد إلى السلطان خوارزم شاه، وملك همدان وغيرها من
البلاد المتسعة.
وفيها نقم الخليفة على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي وغضب عليه، ونفاه إلى
واسط، فمكث بها خمسة أيام لم يأكل طعاما، وأقام بها خمسة أعوام يخدم
نفسه ويستقي لنفسه الماء، وكان شيخا كبيرا قد بلغ ثمانين سنة، وكان
يتلو في كل يوم وليلة ختمة.
قال: ولم أقرأ يوسف لوجدي على ولدي يوسف، إلى أن فرج الله كما سيأتي إن
شاء الله.
وفيها توفي من الاعيان: أحمد بن
إسماعيل بن يوسف أبو الخير القزويني الشافعي المفسر، قد بغداد ووعظ
بالنظامية، وكان يذهب إلى قول الاشعري في الاصول، وجلس في يوم عاشوراء
فقيل له: العن يزيد بن معاوية، فقال: ذاك إمام مجتهد، فرماه الناس
بالآجر فاختفى ثم هرب إلى قزوين.
ابن الشاطبي ناظم لشاطبية أبو [ محمد ] (1) القاسم بن فيرة (2) بن أبي
القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، مصنف الشاطبية في القراءات
السبع، فلم يسبق إليها ولا يلحق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي
إليها إلا كل ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير ولد سنة ثمان وثلاثين
وخمسمائة، وبلده شاطبة - قرية شرقي الاندلس - كان فقيرا، وقد أريد إن
يلي خطابة بلدة فامتنع من ذلك لاجل مبالغة الخطباء على المنابر في وصف
الملوك، خرج الشاطبي إلى الحج فقدم الاسكندرية سنة ثنتين وسبعين
وخمسمائة، وسمع على السلفي وولاة القاضي الفاضل مشيخة الاقراء بمدرسته،
وزار القدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، فكانت وفاته بها في
جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضلية،
وكان دينا خاشعا ناسكا كثير الوقار، لا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان
يتمثل كثيرا بهذه الابيات، وهي لغز في النعش، وهي لغيره: (3).
أتعرف شيئا في السماء يطير * إذا سار هاج الناس حيث يسير فتلقاه مركوبا
وتلقاه راكبا * وكل أمير يعتليه أسير
__________
(1) من وفيات الاعيان 4 / 71.
وغاية النهاية 2 / 20.
(2) من غاية النهاية، وفي الاصل: قسيرة، والفيرة بكسر الفاء ومعناه
بلغة عجم الاندلس: الحديد.
(3) وهو لابي زكريا يحيى بن سلامة الحصكفي.
(*)
(13/13)
يحث على التقوى
ويكره قربه * وتنفر منه النفس وهو نذير
ولم يستزر عن رغبة في زيارة * ولكن على رغم المزور يزور ثم دخلت سنة
إحدى وتسعين وخمسمائة فيها كانت وقعة الزلاقة ببلاد الاندلس شمالى
قرطبة، بمرج الحديد، كانت وقعة عظيمة نصر الله فيها الاسلام وخذل فيها
عبدة الصلبان، وذل ك أن القيش (1) ملك الفرنج ببلاد الاندلس، ومقر ملكه
بمدينة طليطلة، كتب إلى الامير يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب
يستنخيه ويستدعيه ويستحثه إليه، ليكون من بعض من يخضع له في مثالبه وفي
قتاله، في كلام طويل فيه تأنيب وتهديد ووعيد شديد، فكتب السلطان يعقوب
بن يوسف في رأس كتابه فوق خطه: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم
بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) [ النمل: 37 ] ثم نهض من فوره في
جنوده وعساكره، حتى قطع الزقاق إلى الاندلس، فالتقوا في المحل المذكور،
فكانت الدائرة أولا على المسلمين، فقتل منهم عشرون ألفا، ثم كانت أخيرا
على الكافرين فهزمهم الله وكسرهم وخذلهم أقبح كسرة، وشر هزيمة وأشنعها،
فقتل منهم مائة ألف وثلاثة (2) وأربعون ألفا، وأسر منهم ثلاثة عشر
ألفا، وغنم المسلمون منهم شيئا كثيرا، من ذلك مائة ألف خيمة وثلاث (3)
وأربعون خيمة، ومن الخيل ستة وأربعون ألف فرس، ومن البغال مائة ألف
بغل، ومن الحمر مثلها، ومن السلاح التام سبعون ألفا، ومن العدد شئ
كثير، وملك عليهم من حصونهم شيئا كثيرا، وحاصر مدينتهم طليطلة مدة، ثم
لم يفتحها فانفصل عنها راجعا إلى بلاده.
ولما حصل للقيش (1) ما حصل حلق لحيته ورأسه ونكس صليبه وركب حمارا وحلف
لا يركب فرسا ولا يتلذذ بطعام ولا ينام مع امرأة حتى تنصره النصرانية،
ثم طاف على ملوك الفرنج فجمع من الجنود ما لا يعلمه إلا الله عزوجل،
فاستعد له السلطان يعقوب فالتقيا فاقتتلا قتالا عظيما لم يسمع بمثله،
فانهزم الفرنج أقبح من هزيمتهم الاولى، وغنموا منهم نظير ما تقدم أو
أكثر، واستحوذ السلطان على كثير من معاملهم وقلاعهم، ولله الحمد
والمنة، حتى قيل إنه بيع الاسير بدرهم، والحصان بخمسة دراهم، والخيمة
بدرهم، والسيف بدون ذلك ثم قسم السلطان هذه الغنائم على الوجه الشرعي،
فاستغنى المجاهدون إلى الابد، ثم طلبت الفرنج من السلطان الامان
فهادنهم على وضع الحرب خمس سنين، وإنما حمله على ذلك أن رجلا يقال له
علي بن إسحاق التوزي الذي يقال له المكلثم، ظهر ببلاد إفريقية فأحدث
أمورا فظيعة في غيبة السلطان واشرف به بقتال الفرنج مدة ثلاث سنين،
فأحدث هذا المارق التوزي بالبادية حوادث، وعاث في الارض
__________
(1) في الكامل 12 / 113 ألفنش.
(2) في الكامل: وستة.
(3) في الاصل وثلاثة وهو خطأ.
(*)
(13/14)
فسادا، وقتل
خلقا كثيرا، وتملك بلادا.
وفي هذه السنة والتي قبلها استحوذ جيش الخليفة على بلاد الري وأصبهان
وهمدان وخوزستان وغيرها من البلاد، وقوي جانب الخلافة على الملوك
والممالك.
وفيها خرج العزيز من مصر قاصدا دمشق ليأخذها من يد أخيه الافضل، وكان
الافضل قد تاب وأناب وأقلع عما كان فيه من الشراب واللهو واللعب، وأقبل
على الصيام والصلاة، وشرع بكتابة مصحف بيده، وحسنت طريقته، غير أن
وزيره الضيا الجزري يفسد عليه دولته، ويكدر عليه صفوته، فلما بلغ
الافضل إقبال أخيه نحوه سار سريعا إلى عمه العادل وهو بجعبر فاستنجده
فسار معه وسبقه إلى دمشق، وراح الافضل أيضا إلى أخيه الظاهر بحلب،
فسارا جميعا نحو دمشق، فلما سمع العزيز بذلك وقد اقترب من دمشق، كر
راجعا سريعا إلى مصر، وركب وراءه العادل والافضل ليأخذا منه مصر، وقد
اتفقا على أن يكون ثلث مصر للعادل وثلثاها للافضل، ثم بدا للعادل في
ذلك فأرسل للعزيز يثبته، وأقبل على الافضل يثبطه، وأقاما على بلبيس
أياما حتى خرج إليهما القاضي الفاضل من جهة العزيز، فوقع الصلح على أن
يرجع القدس ومعاملتها للافضل، ويستقر العادل مقيما بمصر على إقطاعه
القديم، فأقام العادل بها طمعا فيها ورجع العادل إلى دمشق بعد ما خرج
العزيز لتوديعه، وهي هدنة على قذا، وصلح على دخن.
وفيها توفي من الاعيان:
علي بن حسان بن سافر أبو الحسن الكاتب البغدادي، كان أديبا شاعرا.
من شعره قوله: نفى رقادي ومضى * برق بسلع ومضا لاح كما سلت يد ال *
أسود عضبا أبيضا كأنه الاشهب في * النقع إذا ما ركضا يبدو كما تختلف
الر * يح على جمر الغضا فتحسب الريح أب * دا نظرا وغمضا (1) أو شعلة
النار علا * لهيبها وانخفضا آه له من بارق * ضاء على ذات الاضا أذكرني
عهدا مضى * على الغوير وانقضى فقال لى قلبي أتو * صي حاجة وأعرضا يطلب
من أمرضه * فديت ذاك الممرضا
__________
(1) كذا بالاصل، وفي البيت اضطراب واضح.
(*)
(13/15)
يا غرض القلب
لقد * غادرت قلبي غرضا لاسهم كأنما * يرسلها صرف القضا فبت لا أرتاب في
* أن رقادي قد قضى حتى قفا الليل وكاد * الليل أن ينقرضا وأقبل الصبح
لاط * راف الدجا مبيضا وسل في الشرق على الغ * رب ضياء وانقضى ثم دخلت
سنة ثنتين وتسعين وخمسمائة في رجب منها أقبل العزيز من مصر ومعه عمه
العادل في عساكر، ودخلا دمشق قهرا،
وأخرجا منها الافضل ووزيره الذي أساء تدبيره، وصلى العزيز عند تربة
والده صلاح، وخطب له بدمشق، ودخل القلعة المنصورة في يوم وجلس في دار
العدل للحكم والفصل، وكل هذا وأخوه الافضل حاضر عنده في الخدمة، وأمر
القاضي محيي الدين بن الزكي بتأسيس المدرسة العزيزية إلى جانب تربة
أبيه وكانت دارا للامير عز الدين شامة، ثم استناب على دمشق عمه الملك
العادل ورجع إلى مصر يوم الاثنين تاسع شوال، والسكة والخطبة بدمشق له،
وصولح الافضل على صرخد، وهرب وزيره ابن الاثير الجزري إلى جزيرته، وقد
أتلف نفسه وملكه، وملكه بجريرته، وانتقل الافضل إلى صرخد بأهله
وأولاده، وأخيه قطب الدين.
وفي هذه السنة هبت ريح شديدة سوداء مدلهمة بأرض العراق ومعها رمل أحمر،
حتى احتاج الناس إلى السرج بالنهار.
وفيها ولى قوام الدين أبو طالب يحيى بن سعد (1) بن زيادة كتاب الانشاء
ببغداد، وكان بليغا، وليس هو كالفاضل.
وفيها درس مجير الدين أبو القاسم محمود بن المبارك بالنظامية، وكان
فاضلا مناظرا.
وفيها قتل رئيس الشافعية بأصبهان محمود بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت
الخجندي قتله ملك الدين سنقر الطويل، وكان ذلك سبب زوال ملك أصبهان عن
الديوان.
وفيها مات الوزير وزير الخلافة: مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن علي بن
القصاب، وكان أبوه يبيع اللحم في بعض أسواق بغداد.
فتقدم ابنه وساد أهل زمانه.
توفي بهمدان وقد أعاد رساتيق كثيرة من بلاد العراق وخراسان وغيرها، إلى
ديوان الخلافة، وكان ناهضا ذا همة وله صرامة وشعر جيد.
وفيها توفي:
__________
(1) في ابن الاثير: سعيد.
(*)
(13/16)
الفخر محمود بن
علي التوقاني (1) الشافعي، عائدا من الحج.
والشاعر:
أبو الغنائم محمد بن علي ابن المعلم الهرثي من قرى واسط، عن إحدى
وتسعين سنة، وكان شاعرا فصيحا، وكان ابن الجوزي في مجالسه يستشهد بشئ
من لطائف أشعاره، وقد أورد ابن الساعي قطعة جيدة من شعره الحسن المليح.
وفيها توفي: الفقيه أبو الحسن علي
بن سعيد ابن الحسن البغدادي المعروف بابن العريف، ويلقب بالبيع الفاسد،
كان حنبليا ثم اشتغل شافعيا على أبي القاسم بن فضلان، وهو الذي لقبه
بذلك لكثرة تكراره على هذه المسألة بين الشافعية والحنفية، ويقال إنه
صار بعد هذا كله إلى مذهب الامامية فالله أعلم.
وفيها توفي: الشيخ أبو شجاع محمد بن علي بن مغيث بن الدهان الفرضي
الحاسب المؤرخ البغدادي، قدم دمشق وامتدح الكندي أبو اليمن زيد بن
الحسن فقال: يا زيد زادك ربي من مواهبه * نعما يقصر عن إدراكها الامل
لا بدل الله حالا قد حباك بها * ما دار بين النحاة الحال والبدل النحو
أنت أحق العالمين به * أليس باسمك فيه يضرب المثل ثم دخلت سنة ثلاث
وتسعين وخمسمائة فيها ورد كتاب من القاضي الفاضل إلى ابن الزكي يخبره
فيه " أن في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض فيه ظلمات
متكاثفة، وبروق خاطفة، ورياح عاصفة، فقوي الجو بها واشتد هبوبها قد
أثبت لها أعنة مطلقات، وارتفعت لها صفقات، فرجفت لها الجدران واصطفقت،
وتلاقت على بعدها واعتنقت، وثار السماء والارض عجاجا، حتى قيل إن هذه
على هذه قد انطبقت، ولا يحسب إلا أن جهنم قد سال منها واد، وعدا منها
عاد، وزاد عصف الريح
__________
(1) في ابن الاثير 12 / 124: القوفاني.
(*)
(13/17)
إلى أن أطفأ
سرج النجوم، ومزقت أديم السماء، ومحت ما فوقه من الرقوم، فكنا كما قال
تعالى (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق) [ البقرة: 19 ] ويردون
أيديهم على أعينهم من البوارق، لا عاصم لخطف الابصار، ولا ملجأ من
الخطب إلا معاقل الاستغفار.
وفر الناس نساء ورجالا وأطفالا، ونفروا من دورهم خفافا وثقالا، لا
يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فاعتصموا بالمساجد الجامعة، وأذعنوا
للنازلة بأعناق خاضعة، بوجوه عانية، ونفوس عن الاهل والمال سالية،
ينظرون من طرف خفي، ويتوقعون أي خطب جلي، قد انقطعت من الحياة علقهم،
وعميت عن النجاة طرقهم، ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادمون، وقاموا على
صلاتهم وودوا لو كانوا من الذين عليها دائمون، إلى أن أذن بالركود،
وأسعف الهاجدون بالهجود، فأصبح كل مسلم على رفيقه، ويهنيه بسلامة
طريقه، ويرى أنه قد بعث بعد النفخة، وأفاق بعد الصيحة والصرخة، وأن
الله قد رد له الكرة، وأحياه بعد أن كان يأخذه على غرة، ووردت الاخبار
بأنها قد كسرت المراكب في البحار، والاشجار في القفار، وأتلفت خلقا
كثيرا من السفار، ومنهم من فر فلا ينفعه الفرار.
إلى أن قال " ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم محرفا والعلم مجوفا،
فالامر أعظم، ولكن الله سلم، ونرجو أن الله قد أيقظنا بما به وعظنا،
ونبهنا بما فيه ولهنا، فما من عباده إلا من رأى القيامة عيانا، ولم
يلتمس عليها من بعد ذلك برهانا، إلا أهل بلدنا فما قص الاولون مثلها في
المثلات، ولا سبقت لها سابقة في المعضلات، والحمد لله الذي من فضله قد
جعلنا نخبر عنها، ولا يخبر عنا، ونسأل الله أن يصرف عنا عارض الحرص
والغرور، ولا يجعلنا من أهل الهلاك والثبور ".
وفيها كتب القاضي الفاضل من مصر إلى الملك العادل بدمشق يحثه على قتال
الفرنج، ويشكره على ما هو بصدده من محاربتهم، وحفظ حوزة الاسلام، فمن
ذلك قوله في بعض تلك الكتب " هذه الاوقات التي أنتم فيها عرائس
الاعمار، وهذه النفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار،
وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه، فتلك نعم الله عليه، وتوفيقه
الذي ما كل من طلبه وصل إليه، وسواد العجاج في هذه المواقف بباطن ما
سودته الذنوب من الصحائف،
فما أسعد تلك الوقفات وما أعود بالطمأنينة تلك الرجعات ".
وكتب أيضا " أدام الله ذلك الاسم تاجا على مفارق المنابر والطروس،
وحياه للدنيا وما فيها من الاجساد والنفوس، وعرف المملوك من الامر الذي
اقتضته المشاهدة، وجرت به العافية في سرور، ولا يزيد على سيبه الحال
بقوله: ألم تر أن المرء تدوي يمينه * فيقطعها عمدا ليسلم سائره ولو كان
فيها تدبير لكان مولانا سبق إليه، ومن قلم من الاصبع ظفرا فقد جلب إلى
الجسد بفعله نفعا، ودفع عنه ضررا، وتجشم المكروه ليس بضائر إذا كان ما
جلبه سببا إلى المحمود، وآخر سنوه أول كل غزوه، فلا يسأم مولانا نية
الرباط وفعلها، وتجشم الكلف وحملها، فهو إذا صرف
(13/18)
وجهه إلى وجه
واحد وهو وجه الله، صرف الوجوه إليه كلها (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم
سبلنا وإن الله لمع المحسنين الله) [ العنكبوت: 69 ].
وفي هذه السنة انقضت مدة الهدنة التي كان عقدها الملك صلاح الدين
للفرنج (1) فأقبلوا بحدهم وحديدهم، فتلقاهم الملك العادل بمرج عكا
فكسرهم وغنمهم، وفتح يافا عنوة ولله الحمد والمنة.
وقد كانوا كتبوا إلى ملك الالمان يستنهضونه لفتح بيت المقدس فقدر الله
هلاكه سريعا، وأخذت الفرنج في هذه السنة بيروت من نائبها عز الدين شامة
(2) من غير قتال ولا نزال، ولهذا قال بعض الشعراء في الامير شامة (1):
سلم الحصن ما عليك ملامة * ما يلام الذي يروم السلامة فتعطى الحصون من
غير حرب * سنة سنها ببيروت شامة ومات فيها ملك الفرنج كندهري، سقط من
شاهق فمات، فبقيت الفرنج كالغنم بلا راع، حتى ملكوا عليهم صاحب قبرس
(3) وزوجوه بالملكة امرأة كندهري، وجرت خطوب كثيرة بينهم وبين العادل،
ففي كلها يستظهر عليهم ويكسرهم، ويقتل خلقا من مقاتلتهم، ولم يزالوا
كذلك معه حتى طلبوا الصلح والمهادنة، فعاقدهم على ذلك في السنة الآتية.
وفيها توفي ملك اليمن:
سيف الاسلام طغتكين أخو السلطان صلاح الدين، وكان قد جمع أموالا جزيلة
جدا، وكان يسبك الذهب مثل الطواحين ويدخره كذلك، وقام في الملك بعده
ولده إسماعيل، وكان أهوج قليل التدبير، فحمله جهله على أن ادعى أنه
قرشي أموي، وتلقب بالهادي، فكتب إليه عمه العادل ينهاه عن ذلك ويتهدده
بسبب ذلك، فلم يقبل منه ولا التفت إليه، بل تمادى وأساء التدبير إلى
الامراء والرعية، فقتل وتولى بعده مملوك من مماليك أبيه.
وفيها توفي:
__________
(1) كذا بالاصل، والواقع أن هدنة صلاح الدين على ما ذكرنا ثلاث سنين
وثمانية أشهر على ما ذكره بعضهم اعتبارا من أواخر شعبان 588 ه.
وبعد وفاته جدد العزيز الهدنة مع كندهري ملك الفرنج وزاد في مدة الهدنة
فبقي ذلك إلى الآن.
(انظر الكامل 12 / 126، ابن خلدون 5 / 333) (2) في الكامل وابن خلدون
وتاريخ الحروب الصليبية: أسامة.
(3) صاحب قبرص واسمه املريك وقد تزوج بإيزابيللا أرملة هنري كونت
شامبانيا وقد مات بسقوطه من نافذة قصره وهو يستعرض عساكره بعكا (الكامل
12 / 130 - الروضتين 2 / 116 - تاريخ الحروب الصليبية 3 / 172).
(*)
(13/19)
الامير الكبير
أبو الهيجاء السمين الكردي كان من أكابر أمراء صلاح الدين، وهو الذي
كان نائبا على عكا، وخرج منها قبل أخذ الافرنج، ثم دخلها بعد المشطوب،
فأخذت منه، واستنابه صلاح الدين على القدس، ثم لما أخذها العزيز عزل
عنها فطلب إلى بغداد فأكرم إكراما زائدا، وأرسله الخليفة مقدما على
العساكر إلى همدان، فمات هناك.
وفيها توفي: قاضي بغداد أبو طالب
علي بن علي بن هبة الله بن محمد البخاري، سمع الحديث على أبي الوقت
وغيره، وتفقه على أبي القاسم بن فضلان، وتولى نيابة الحكم ببغداد، ثم
استقل بالمنصب وأضيف إليه في وقت نيابة الوزارة، ثم عزل عن القضاء
ثم أعيد ومات وهو حاكم، نسأل الله العافية، وكان فاضلا بارعا من بيت
فقه وعدالة وله شعر: تنح عن القبيح ولا ترده * ومن أوليته حسنا فزده
كفا بك من عدوك كل كيد * إذا كاد العدو ولم تكده وفيها توفي: السيد
الشريف نقيب الطالبيين ببغداد أبو محمد الحسن بن علي بن حمزة بن محمد
بن الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن علي ابن يحيى بن الحسين بن زيد
(1) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العلوي الحسيني المعروف بابن
الاقساسي، الكوفي مولدا ومنشأ، كان شاعرا مطبقا، امتدح الخلفاء
والوزراء، وهو من بيت مشهور بالادب والرياسة والمروءة، قدم بغداد
فامتدح المقتفي والمستنجد وابنه المستضئ وابنه الناصر، فولاه النقابة
كان شيخا مهيبا، جاوز الثمانين (2)، وقد أورد له ابن الساعي قصائد
كثيرة منها: اصبر على كيد الزما * ن فما يدوم على طريقة سبق القضاء فكن
به * راض ولا تطلب حقيقة كم قد تغلب مرة * وأراك من سعة وضيقة ما زال
في أولاده * يجري على هذي الطريقة
__________
(1) في الاصل يزيد تحريف.
انظر الوافي 12 / 128.
(2) في المختصر المحتاج إليه 2 / 19: وهو في عشر السبعين.
(*)
(13/20)
وفيها توفيت: الست عذراء بنت شاهنشاه ابن أيوب،
ودفنت بمدرستها داخل باب النصر، والست خاتون والدة الملك العادل، ودفنت
بدارها بدمشق المجاورة لدار أسد الدين شيركوه.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وخمسمائة فيها
جمعت الفرنج جموعها وأقبلوا فحاصروا تبنين، فاستدعى العادل بني
أخيه لقتالهم، فجاءه العزيز من مصر، والافضل من صرخند (1)، فأقلعت
الفرنج عن الحصن وبلغهم موت ملك الالمان فطلبوا من العادل الهدنة
والامان، فهادنهم ورجعت الملوك إلى أماكنها، وقد عظم المعظم عيسى بن
العادل في هذه المرة، واستنابه أبوه على دمشق، وسار إلى ملكه بالجزيرة،
فأحسن فيهم السيرة، وكان قد توفي في هذه السنة السلطان صاحب سنجار
وغيرها من المدائن الكبار، وهو عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي
الاتابكي، كان من خيار الملوك وأحسنهم شكلا وسيرة، وأجودهم طوية
وسريرة، غير أنه كان يبخل، وكان شديد المحبة للعلماء، ولا سيما
الحنفية، وقد ابتنى لهم مدرسة بسنجار، وشرط لهم طعاما يطبخ لكل واحد
منهم في كل يوم، وهذا نظر حسن، والفقيه أولى بهذه الحسنة من الفقير،
لاشتغال الفقيه بتكراره ومطالعته عن الفكر فيما يقيته، فعدى على أولاده
ابن عمه صاحب الموصل، فأخذ الملك منهم، فاستغاث بنوه بالملك العادل،
فرد فيهم الملك ودرأ عنهم الضيم، واستقرت بالمملكة لولده قطب الدين
محمد، ثم سار الملك إلى ماردين فحاصرها في شهر رمضان، فاستولى على
ريفها ومعاملتها، وأعجزته قلعتها، فطاف عليها ومشى، وما ظن أحد أنه
تملكها، لان ذلك لم يكن مثبوتا ولا مقدارا.
وفيها ملكت الخزر مدينة بلخ وكسروا الخطا وقهروهم، وأرسل الخليفة إليهم
أن يمنعوا خوارزم شاه من دخول العراق، فإنه كان يروم أن يخطب له
ببغداد.
وفيها حاصر خوارزم شاه مدينة بخارى ففتحها بعد مدة، وقد كانت امتنعت
عليه دهرا ونصرهم الخطا، فقهرهم جميعا وأخذها عنوة، وعفا عن أهلها
وصفح، وقد كانوا ألبسوا كلبا أعور قباء وسموه خوارزم شاه، ورموه في
المنجنيق إلى الخوارزمية، وقالوا هذا مالكم، وكان خوارزم شاه أعور،
فلما قدر عليهم عفا عنهم، جزاه الله خيرا.
__________
(1) في ابن الاثير، وابن خلدون 5 / 330: صرخد، وفي تاريخ الحروب
الصليبية: صلخد.
(*)
(13/21)
المكروه أليمة،
وإذا محاسن الوجه بليت تعفى الثرى عن وجهه الحسن، وكانت مدة مرضه بعد
عوده من الفيوم أسبوعين، وكانت في الساعة السابعة من ليلة الاحد
والعشرين من المحرم، والمملوك في حال تسطيرها مجموع بين مرض القلب
والجسد، ووجع أطراف وعلة كبد، وقد فجع بهذا المولى والعهد بوالده غير
بعيد، والاسى عليه في كل يوم جديد ".
ولما توفي العزيز خلف من الولد عشرة ذكور، فعمد أمراؤه فملكوا عليهم
ولده محمدا، ولقبوه بالمنصور، وجمهور الامراء في الباطن مائلون إلى
تمليك العادل، ولكنهم يستبعدون مكانه، فأرسلوا إلى الافضل وهو بصرخد
فأحضروه على البريد سريعا، فلما حضر عندهم منع رفدهم ووجدوا الكلمة
مختلفة عليه، ولم يتم له ما صار إليه، وخامر عليه أكابر الامراء
الناصرية (1)، وخرجوا من مصر فأقاموا ببيت المقدس وأرسلوا يستحثون
الجيوش العادلية، فأقر ابن أخيه على السلطنة ونوه باسمه على السكة
والخطبة في سائر بلاد مصر (2)، لكن استفاد الافضل في سفرته هذه أن أخذ
جيشا كثيفا من المصريين، وأقبل بهم ليسترد دمشق في غيبة عمه.
وذلك بإشارة أخيه صاحب حلب، وملك حمص أسد الدين، فلما انتهى إليها ونزل
حواليها قطع أنهارها وعقر أشجارها، وأكل ثمارها، ونزل بمخيمه على مسجد
القدم، وجاء إليه أخوه الظاهر وابن عمه الاسد الكاسر وجيش حماه، فكثر
جيشه وقوي بأسه، وقد دخل جيشه إلى البلد، ونادوا بشعاره فلم يتابعهم من
العامة أحد، وأقبل العادل من ماردين بعساكره وقد التف عليه أمراء أخيه
وطائفة بني أخيه، وأمده كل مصر بأكابره، وسبق الافضل إلى دمشق بيومين
فحصنها وحفظها، وقد استناب على ماردين ولده محمدا الكامل.
ولما دخل دمشق خامر إليه أكثر الامراء من المصريين وغيرهم، وضعف أمر
الافضل ويئس من برهم وخيرهم، فأقام محاصر البلد بمن معه حتى انسلخ
الحول ثم انفصل الحال في أول السنة الآتية على ما سيأتي.
وفيها شرع في بناء سور بغداد بالآجر والكلس، وفرق على الامراء وكملت
عمارته بعد هذه السنة، فأمنت بغداد من الغرق والحصار، ولم يكن لها سور
قبل ذلك.
وفيها توفي:
السلطان أبو محمد (3) يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن، صاحب المغرب
والاندلس بمدينته (4)، وكان قد بنى عندها مدينة مليحة
__________
(1) وكان مقدم الامراء الناصرية فخر الدين إياس جهاركس مولى صلاح الدين
(انظر ابن الاثير 12 / 140 وابن خلدون 5 / 335 تاريخ أبي الفداء 3 /
95).
(2) يذكر ابن الاثير أن سبب إقرار العادل لابن أخيه الافضل بالسلطنة
على مصر قال: فلم يسر إليهم لانه كانت أطماعه قد قويت في أخذ ماردين،
وقد عجز من بها عن حفظها فظن أنه يأخذها (انظر ابن خلدون 5 / 335).
(3) في ابن الاثير وتاريخ أبي الفداء: أبو يوسف.
(4) وهي مدينة سلا.
(*)
(13/22)
سماها المهدية،
وقد كان دينا حسن السيرة صحيح السريرة، وكان مالكي المذهب، ثم صار
ظاهريا حزميا ثم مال إلى مذهب الشافعي، واستقضى في بعض بلاده منهم
قضاة، وكانت مدة ملكه خمس عشرة سنة، وكان كثير الجهاد رحمه الله، وكان
يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان قريبا إلى المرأة والضعيف رحمه الله.
وهو الذي كتب إليه صلاح الدين يستنجده على الفرنج فلما لم يخاطبه بأمير
المؤمنين غضب من ذلك ولم يجبه إلى ما طلب منه، وقام بالملك بعده ولده
محمد فسار كسيرة والده، ورجع إليه كثير من البلدان اللاتي كانت قد عصت
على أبيه، ثم من بعد ذلك تفرقت بهم الاهواء وباد هذا البيت بعد الملك
يعقوب.
وفيها ادعى رجل أعجمي بدمشق أنه عيسى بن مريم، فأمر الامير صارم الدين
برغش نائب القلعة، بصلبه عند حمام العماد الكاتب، خارج باب الفرج مقابل
الطاحون التي بين البابين، وقد باد هذا الحمام قديما، وبعد صلبه بيومين
ثارت العامة على الروافض وعمدوا إلى قبر رجل منهم بباب الصغير يقال له
وثاب فنبشوه وصلبوه مع كلبين، وذلك في ربيع الآخر منها.
وفيها وقعت فتنة كبيرة ببلاد خراسان، وكان سببها أن فخر الدين محمد بن
عمر الرازي وفد إلى الملك غياث الدين الغوري صاحب غزنة، فأكرمه وبنى له
مدرسة بهراة، وكان أكثر الغورية
كرامية فأبغضوا الرازي وأحبوا إبعاده عن الملك، فجمعوا له جماعة من
الفقهاء الحنفية والكرامية، وخلقا من الشافعية، وحضر ابن القدوة (1)
وكان شيخا معظما في الناس، وهو على مذهب ابن كرام وابن الهيصم فتناظر
هو والرازي، وخرجا من المناظرة إلى السب والشتم، فلما كان من الغد
اجتمع الناس في المسجد الجامع، وقام واعظ فتكلم فقال في خطبته: أيها
الناس، إنا لا نقول إلا ماصح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأما علم ارسطا طاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي وما تلبس به
الرازي فإنا لا نعلمها ولا نقول بها، وإنما هو كتاب الله وسنة رسوله،
ولاي شئ يشتم بالامس شيخ من شيوخ الاسلام يذب عن دين الله وسنة رسوله،
على لسان متكلم ليس معه على ما يقول دليل.
قال فبكى الناس وضجوا وبكت الكرامية واستغاثوا، وأعانهم على ذلك قوم من
خواص الناس، وأنهوا إلى الملك صورة ما وقع، فأمر بإخراج الرازي من
بلاده، وعاد إلى هراة، فلهذا أشرب قلب الرازي بغض الكرامية، وصار يلهج
بهم في كلامه في كل موطن ومكان.
وفيها رضي الخليفة عن أبي الفرج بن الجوزي شيخ الوعاظ، وقد كان أخرج من
بغداد إلى واسط فأقام بها خمس سنين، فانتفع به أهلها واشتغلوا عليه
واستفادوا منه، فلما عاد إلى بغداد خلع عليه الخليفة وأذن له في الوعظ
على عادته عند التربة الشريفة المجاورة لقبر معروف [ الكرخي ]، فكثر
الجمع جدا وحضر الخليفة وأنشد يومئذ فيما يخاطب به الخليفة:
__________
(1) وهو القاضي مجد الدين عبد المجيد بن عمر، المعروف بابن القدوة،
وكان من الكرامية الهيصمية، وله عندهم محل كبير لزهده وعلمه وبيته.
وقد تقدم الكلام على مذهب الكرامية القائم على التجسيم والتشبيه.
(*)
(13/23)
وفيها توفي
من الاعيان: العوام (1) بن زيادة كاتب الانشاء بباب الخلافة، وهو أبو
طالب يحيى بن سعيد بن هبة الله بن علي بن زيادة، انتهت إليه رياسة
الرسائل والانشاء والبلاغة والفصاحة في زمانه بالعراق، وله علوم كثيرة
غير ذلك من الفقه على مذهب الشافعي، أخذه عن ابن فضلان، وله معرفة جيدة
بالاصلين الحساب
واللغة، وله شعر جيد وقد ولي عدة مناصب كان مشكورا في جميعها، ومن
مستجاد شعره قوله: لا تحقرن عدوا تزدريه فكم * قد أتعس الدهر جد الجد
باللعب فهذه الشمس يعروها الكسوف لها * على جلالتها بالرأس والذنب وله:
باضطراب الزمان ترتفع الان * ذال فيه حتى يعم البلاء وكذا الماء راكد
فإذا * حرك ثارت من قعره الاقذاء وله أيضا: قد سلوت الدنيا ولم يسلها *
من علقت في آماله والاراجي فإذا ما صرفت وجهي عنها * (قذفتني في بحرها
العجاج يستضيئون بي وأهلك وحدي * فكأني ذبالة في سراج توفي في ذي الحجة
وله ثنتان وسبعون سنة، وحضر جنازته خلق كثير، ودفن عند موسى بن جعفر.
القاضي أبو الحسن علي بن رجاء بن زهير ابن علي البطائحي، قدم بغداد
فتفقه بها وسمع الحديث وأقام برحبة مالك بن طوق مدة يشتغل على أبي عبد
الله بن النبيه الفرضي، ثم ولي قضاء العراق مدة، وكان أديبا، وقد سمع
من شيخه أبي عبد الله بن النبيه ينشد لنفسه معارضا للحريري في بيتيه
اللذين زعم أنهم لا يعزوان ثالثا لهما، وهما قوله: سم ممة يحمد آثارها
* واشكر لمن أعطا ولو سمسمة والمكر مهما اسطعت لا تأته * لتقتني السؤدد
والمكرمة
__________
(1) في شذرات الذهب 4 / 218: قوام الدين.
(*)
(13/24)
فقال ابن
النبيه:
ما الامة الوكساء بين الورى * أحسن من حر أتى ملامه فمه إذا استجديت عن
قول لا * فالحر لا يملا منها فمه الامير عز الدين جرديك (1) كان من
أكابر الامراء في أيام نور الدين، وكان ممن شرك في قتل شاور، وحظي عند
صلاح الدين، وقد استنابه على القدس حين افتتحها، وكان يستند به للمهمات
الكبار فيسدها بنفسه وشجاعته، ولما ولي الافضل عزله عن القدس فترك بلاد
الشام وانتقل إلى الموصل، فمات بها في هذه السنة.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة
فيها كانت وفاة العزيز صاحب مصر
وذلك أنه خرج إلى الصيد فكانت ليلة الاحد العشرين (2) من المحرم، ساق
خلف ذئب فكبا به فرسه فسقط عنه فمات بعد أيام، ودفن بداره، ثم حول إلى
عند تربة الشافعي، وله سبع أو ثمان وعشرون سنة، ويقال: إنه كان قد عزم
في هذه السنة على إخراج الحنابلة من بلده، ويكتب إلى بقية إخوته
بإخراجهم من البلاد، وشاع ذلك عنه وذاع، وسمع ذلك منه وصرح به، وكل ذلك
من معلميه وخلطائه وعشرائه من الجهمية، وقلة علمه بالحديث، فلما وقع
منه هذا ونوى هذه النية القبيحة الفاسدة أهلكه الله ودمره سريعا، وعظم
قدر الحنابلة بين الخلق بمصر والشام، عند الخاص والعام.
وقيل: إن بعض صالحيهم دعا عليه، فما هو إلا أن خرج إلى الصيد فكان
هلاكه سريعا، وكتب الفاضل كتاب التعزية بالعزيز لعمه العادل، وهو محاصر
ماردين ومعه العساكر، وولده محمد الكامل، وهو نائبه على بلاد الجزيرة
المقاربة لبلاد الحيرة، وصورة الكتاب " أدام الله سلطان مولانا الملك
العادل، وبارك في عمره وأعلا أمره بأمره، وأعز نصر الاسلام بنصره، وفدت
الانفس نفسه الكريمة وأصغر الله العظائم بنعمه فيه العظيمة، وأحياه
الله حياة طيبة هو والاسلام في مواقيت الفتوح الجسيمة وينقلب عنها
بالامور المسلمة والعواقب السليمة، ولا نقص له رجالا ولا أعدمه نفسا
ولا ولدا، ولا قصر له ذيلا ولا يدا، ولا
أسخن له عينا ولا كبدا، ولا كدر له خاطرا ولا موردا، ولما قدر الله ما
قدر من موت الملك العزيز كانت حياته مكدرة عليه منغصة مهملة، فلما حضر
أجله كانت بديهة المصاب عظيمة، وطالعة
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: حرديل وهو تحريف، وفي ابن الاثير:
جورديك.
(2) في تاريخ ابن خلدون 5 / 335: آخر المحرم.
وفي بدائع الزهور لابن إياس 1 / 1 / 252: يوم الخميس حادي عشرين محرم.
(*)
(13/25)
لا تعطش الروض
الذي بنيته * بصوب إنعامك قد روضا لا تبر عودا أنت قد رشته * حاشى
لباني المجد أن ينقضا إن كان لي ذنب قد جنيته * فأستأنف العفو وهب لي
الرضا قد كنت أرجوك لنيل المنى * فاليوم لا أطلب إلا الرضا ومما أنشده
يومئذ: شقينا بالنوى زمنا فلما * تلاقينا كأنا ما شقينا سخطنا عند ما
جنت الليالي * وما زالت بنا حتى رضينا ومن لم يحيى بعد الموت يوما *
فإنا بعد ما متنا حيينا وفي هذه السنة استدعى الخليفة الناصر قاضي
الموصل ضياء الدين ابن الشهرزوري فولاه قضاء قضاة بغداد.
وفيها وقعت فتنة بدمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي، وذلك أنه كان
يتكلم في مقصورة الحنابلة بالجامع الاموي، فذكر يوما شيئا من العقائد،
فاجتمع القاضي ابن الزكي وضياء الدين الخطيب الدولعي بالسلطان المعظم،
والامير صارم الدين برغش، فعقد له مجلسا فيما يتعلق بمسألة الاستواء
على العرش والنزول والحرف والصوت، فوافق النجم الحنبلي بقية الفقهاء
واستمر الحافظ على ما يقوله لم يرجع عنه، واجتمع بقية الفقهاء عليه،
وألزموه بإلزامات شنيعة لم يلتزمها، حتى قال له الامير برغش كل هؤلاء
على الضلالة وأنت وحدك على الحق ؟ قال: نعم، فغضب الامير وأمر بنفيه من
البلد، فاستنظره ثلاثة أيام فأنظره، وأرسل برغش الاسارى من
القلعة فكسروا منبر الحنابلة وتعطلت يومئذ صلاة الظهر في محراب
الحنابلة، وأخرجت الخزائن والصناديق التي كانت هناك، وجرت خبطة شديدة،
نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وكان عقد المجلس يوم الاثنين
الرابع والعشرين من ذي الحجة، فارتحل الحافظ عبد الغني إلى بعلبك ثم
سار إلى مصر فآواه المحدثون، فحنوا عليه وأكرموه.
وممن توفي فيها من الاعيان: الامير
مجاهد الدين قيماز الرومي نائب الموصل المستولي على مملكتها أيام ابن
أستاذه نور الدين أرسلان، وكان عاقلا ذكيا فقيها حنفيا، وقيل شافعيا،
يحفظ شيئا كثيرا من التواريخ والحكايات، وقد ابتنى عدة جوامع ومدارس
وربط وخانات، وله صدقات كثيرة دارة، قال ابن الاثير: وقد كان من محاسن
الدنيا.
أبو الحسن محمد بن جعفر ابن أحمد بن محمد بن عبد العزيز العباس
الهاشمي، قاضي القضاة ببغداد، بعد ابن
(13/26)
النجاري، كان
شافعيا تفقه على أبي الحسن بن الخل وغيره، وقد ولي القضاء والخطابة
بمكة، وأصله منها، ولكن ارتحل إلى بغداد فنال منها ما نال من الدنيا،
وآل به الامر إلى ما آل، ثم إنه عزل عن القضاء بسبب محضر رقم خطه عليه،
وكان فيما قيل مزورا عليه.
فالله أعلم، فجلس في منزله حتى مات.
الشيخ جمال الدين أبو القاسم يحيى بن علي بن الفضل بن بركة بن فضلان،
شيخ الشافعية ببغداد، تفقه أولا على سعيد بن محمد الزار مدرس النظامية،
ثم ارتحل إلى خراسان فأخذ عن الشيخ محمد الزبيدي تلميذ الغزالي وعد إلى
بغداد وقد اقتبس علم المناظرة والاصلين، وساد أهل بغداد وانتفع به
الطلبة والفقهاء، وبنيت له مدرسة فدرس بها وبعد صيته، وكثرت تلاميذه،
وكان كثير التلاوة وسماع الحديث، وكان شيخا حسنا لطيفا ظريفا، ومن
شعره:
وإذا أردت منازل الاشراف * فعليك بالاسعاف والانصاف وإذا بغا باغ عليك
فخله * والدهر فهو له مكاف كاف ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة استهلت
هذه السنة والملك الافضل بالجيش المصري محاصر دمشق لعمه العادل، وقد
قطع عنها الانهار والميرة، فلا خبز ولا ماء إلا قليلا، وقد تطاول
الخال، وقد خندقوا من أرض اللوان إلى اللد خندقا لئلا يصل إليهم جيش
دمشق، وجاء فصل الشتاء وكثرت الامطار والاوحال.
فلما دخل شهر صفر قدم الملك الكامل محمد بن العادل على أبيه بخلق من
التركمان، وعساكر من بلاد الجزيرة والرها وحران، فعند ذلك انصرف
العساكر المصرية، وتفرقوا أيادي سبا، فرجع الظاهر إلى حلب والاسد إلى
حمص، والافضل إلى مصر، وسلم العادل من كيد الاعادي، بعدما كان قد عزم
على تسليم البلد.
وسارت الامراء الناصرية خلف الافضل ليمنعوه من الدخول إلى القاهرة،
وكاتبوا العادل أن يسرع السير إليهم، فنهض إليهم سريعا فدخل الافضل مصر
وتحصن بقلعة الجبل، وقد اعتراه الضعف والفشل، ونزل العادل على البركة
وأخذ ملك مصر ونزل إليه ابن أخيه الافضل خاضعا ذليلا، فأقطعه بلادا من
الجزيرة (1)، ونفاه من الشام لسوء السيرة، ودخل العادل القلعة وأعاد
القضاء إلى صدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الكردي، وأبقى
__________
(1) أقطعه ميافارقين وجاني وجبل جور، وخرج الافضل من مصر ليلة السبت
ثامن عشر ربيع الآخر (انظر ابن الاثير) وقال أبو الفداء في تاريخه أن
العادل لم يف لابن أخيه الافضل بوعده فيما أقطعه (انظر ابن خلدون 5 /
337 وابن الاثير 12 / 156).
(*)
(13/27)
الخطبة والسكة
باسم أخيه المنصور، والعادل مستقل بالامور، واستوزر الصاحب صفي الدين
بن شكر لصرامته وشهامته، وسيادته وديانته، وكتب العادل إلى ولده الكامل
يستدعيه من بلاد الجزيرة ليملكه على مصر، فقدم عليه فأكرمه واحترمه
وعانقه والتزمه، وأحضر الملك الفقهاء واستفتاهم في صحة مملكة ابن أخيه
المنصور بن العزيز، وكان ابن عشر سنين، فأفتوا بأن ولايته
لا تصح لانه متولي عليه، فعند ذلك طلب الامراء ودعاهم إلى مبايعته
فامتنعوا فأرغبهم وأرهبهم، وقال فيما قال: قد سمعتم ما أفتى به
العلماء، وقد علمتم أن ثغور المسلمين لا يحفظها الاطفال الصغار، وإنما
يحفظها الملوك الكبار، فأذعنوا عند ذلك وبايعوه، ثم من بعده لولده
الكامل، فخطب الخطباء بذلك بعد الخليفة لهما، وضربت السكة باسمهما،
واستقرت دمشق باسم المعظم عيسى بن العادل، ومصر باسم الكامل.
وفي شوال رجع إلى دمشق الامير ملك الدين أبو منصور سليمان بن مسرور بن
جلدك، وهو أخو الملك العادل لامه، وهو واقف الفلكية داخل باب الفراديس،
وبها قبره، فأقام بها محترما معظما إلى أن توفي في هذه السنة.
وفيها وفي التي بعدها كان بديار مصر غلاء شديد، فهلك بسببه الغني
والفقير، وهرب الناس منها نحو الشام فلم يصل إليها إلا القليل، وتخطفهم
الفرنج من الطرقات وغروهم من أنفسهم واغتالوهم بالقليل من الاقوات،
وأما بلاد العراق فإنه كان مرخصا.
قال ابن الساعي: وفي هذه السنة باض ديك ببغداد فسألت جماعة عن ذلك
فأخبروني به.
وممن توفي فيها من الاعيان: السلطان
علاء الدين خوارزم شاه تكش بن ألب رسلان من ولد طاهر بن الحسين، وهو
صاحب خوارزم وبعض بلاد خراسان والري وغيرها من الاقاليم المتسعة، وهو
الذي قطع دولة السلاجقة، كان عادلا حسن السيرة له معرفة جيدة
بالموسيقى، حسن المعاشرة، فقيها على مذهب أبي حنيفة، ويعرف الاصول،
وبنى للحنفية مدرسة عظيمة، ودفن بتربة بناها بخوارزم، وقام في الملك من
بعده ولده علاء الدين محمد، وكان قبل ذلك يلقب بقطب الدين.
وفيها قتل وزير السلطان خوارزم شاه المذكور: نظام الدين مسعود بن علي
وكان حسن السيرة، شافعي المذهب، له مدرسة عظيمة بخوارزم، وجامع هائل،
وبنى
بمرو جامعا عظيما للشافعية، فحسدتهم الحنابلة (1) وشيخهم بها يقال له
شيخ الاسلام، فيقال إنهم
__________
(1) كذا بالاصل وابن الاثير، وفي هامش المطبوعة: لعله الحنفية فإنه ليس
بمرو حنابلة والله سبحانه أعلم.
(*)
(13/28)
أحرقوه وهذا
إنما يحمل عليه قلة الدين والعقل، فأغرمهم السلطان خوارزم شاه ما غرم
الوزير على بنائه.
وفيها توفي الشيخ المسند المعمر
رحلة الوقت: أبو الفرج بن عبد المنعم بن عبد الوهاب ابن صدقة بن الخضر
بن كليب الحراني الاصل البغدادي المولد والدار والوفاة، عن ست وتسعين
سنة، سمع الكثير وأسمع، وتفرد بالرواية عن جماعة من المشايخ (1)، وكان
من أعيان التجار وذوي الثروة.
الفقيه مجد الدين أبو محمد بن طاهر بن نصر بن جميل (2)، مدرس القدس أول
من درس بالصلاحية، وهو والد الفقهاء بني جميل الدين، كانوا بالمدرسة
الجاروخية، ثم صاروا إلى العمادية والدماعية في أيامنا هذه، ثم ماتوا
ولم يبق إلا شرحهم.
الامير صارم الدين قايماز ابن عبد الله النجي، كان من أكابر الدولة
الصلاحية، كان عند صلاح الدين بمنزلة الاستاذ، وهو الذي تسلم القصر حين
مات العاضد.
فحصل له أموال جزيلة جدا، وكان كثير الصدقات والاوقاف، تصدق في يوم
بسبعة آلاف دينار عينا، وهو واقف المدرسة القيمازية، شرقي القلعة، وقد
كانت دار الحديث الاشرفية دارا لهذا الامير، وله بها حمام، فاشترى ذلك
الملك الاشرف فيما بعد وبناها دار حديث، وأخرب الحمام وبناه مسكنا
للشيخ المدرس بها.
ولما توفي قيماز ودفن في قبره نبشت دوره وحواصله، وكان متهما بمال
جزيل، فتحصل ما جمع من ذلك مائة ألف دينار وكان يظن أن عنده أكثر من
ذلك، وكان يدفن أمواله في الخراب من أراضي ضياعه وقراياه، سامحه الله.
الامير لؤلؤ أحد الحجاب بالديار المصرية، كان من أكابر الامراء في أيام
صلاح الدين، وهو الذي كان متسلم الاسطول في البحر، فكم من شجاع قد أسر،
وكم من مركب قد كسر، وقد كان مع كثرة جهاده دار الصدقات، كثير النفقات
في كل يوم، وقع غلاء بمصر فتصدق بإثني عشر ألف رغيف، لاثني عشر ألف
نفس.
__________
(1) سمع ابن بيان وابن نبهان وابن زيدان الحلواني (انظر العبر للذهبي
وشذرات الذهب).
(2) في شذرات الذهب: جهبل، قال: وهو والد بني جهبل الفقهاء الدمشقيون
(4 / 324).
(*)
(13/29)
الشيخ شهاب
الدين الطوسي (1) أحد مشايخ الشافعية بديار مصر، شيخ المدرسة المنسوبة
إلى تقي الدين شاهنشاه بن أيوب، التي يقال لها منازل العز (2)، وهو من
أصحاب محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، كان له قدر ومنزلة عند ملوك مصر،
يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، توفي في هذه السنة، فازدحم الناس
على جنازته، وتأسفوا عليه.
الشيخ ظهير الدين عبد السلام الفارسي شيخ الشافعية بحلب، أخذ الفقه عن
محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وتتلمذ للرازي، ورحل إلى مصر وعرض عليه أن
يدرس بتربة الشافعي فلم يقبل، فرجع إلى حلب فأقام بها إلى أن مات.
الشيخ العلامة بدر الدين ابن عسكر رئيس الحنفية بدمشق، قال أبو شامة:
ويعرف بابن العقادة.
الشاعر أبو الحسن علي بن نصر بن عقيل بن أحمد بغدادي، قدم دمشق في سنة
خمس وتسعين وخمسمائة، ومعه ديوان شعر له فيه درر حسان، وقد تصدى لمدح
الملك الامجد صاحب بعلبك وله:
وما الناس إلا كامل الحظ ناقص * وآخر منهم ناقص الحظ كامل وإني لمثر من
خيار أعفة * وإن لم يكن عندي من المال كامل
وفيها توفي القاضي الفاضل، الامام العلامة شيخ الفصحاء
والبلغاء: أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الاشرف أبي المجد علي بن الحسن
بن البيساني المولى الاجل القاضي الفاضل، كان أبوه قاضيا بعسقلان فأرسل
ولده في الدولة الفاطمية إلى الديار المصرية، فاشتغل بها بكتابة
الانشاء على أبي الفتح قادوس وغيره، فساد أهل البلاد حتى بغداد، ولم
يكن له في زمانه نظير، ولا فيما بعده إلى وقتنا هذا مثيل، ولما استقر
الملك صلاح الدين بمصر جعله كاتبه وصاحبه ووزيره وجليسه وأنيسه،
__________
(1) وهو أبو الفتح، محمد بن محمود بن محمد بن شهاب الدين توفي بمصر في
ذي القعدة وله 74 سنة وقد وقع بينه وبين الحنابلة أمور، لانه أظهر في
مصر مذهب الاشعري.
(2) منازل العز بمصربنتها السيدة تغريد أم العزيز بالله نزار الفاطمي
ثم اشتراها سنة 566 ه نقي الدين عمر بن شاهنشاه وعملها مدرسة للشافعية
(النجوم الزاهرة 5 / 386).
(*)
(13/30)
وكان أعز عليه
من أهله وأولاده، وتساعدا حتى فتح الاقاليم والبلاد، هذا بحسامه
وسنانه، وهذا بقلمه ولسانه وبيانه وقد كان الفاضل من كثرة أمواله كثير
الصدقات والصلات والصيام والصلاة، وكان يواظب كل يوم وليلة على ختمة
كاملة، مع ما يزيد عليها من نافلة، رحيم القلب حسن السيرة، طاهر القلب
والسريرة له مدرسة بديار مصر على الشافعية والمالكية، وأوقاف على تخليص
الاسارى من يدي النصارى، وقد اقتنى من الكتب نحوا من مائة ألف كتاب،
وهذا شئ لم يفرح به أحد من الوزراء ولا العلماء ولا الملوك، ولد في سنة
ثنتين (1) وخمسمائة، توفي يوم دخل العادل إلى قصر مصر بمدرسته فجأة يوم
الثلاثاء سادس ربيع الآخر، واحتفل الناس بجنازته، وزار قبره في اليوم
الثاني الملك العادل، وتأسف عليه، ثم استوزر العادل صفي الدين بن شكر،
فلما سمع الفاضل بذلك دعا الله أن لا يحييه إلى هذه الدولة لما بينهما
من المنافسة، فمات ولم ينله أحد بضيم
ولا أذى، ولا رأى في الدولة من هو أكبر منه، وقد رثاه الشعراء بأشعار
حسنة، منها قول القاضي هبة الله بن سناء الملك: عبد الرحيم على البرية
رحمة * أمنت بصحبتها حلول عقابها يا سائلي عنه وعن أسبابه * نال السماء
فسله عن أسبابها وأتته خاطبة إليه وزارة * ولطال ما أعيت على خطابها
وأتت سعادته إلى أبوابه * لا كالذي يسعى إلى أبوابها تعنو الملوك لوجهه
بوجوهها * لا بل تساق لبابه برقابها شغل الملوك بما يزول ونفسه *
مشغولة بالذكر في محرابها في الصوم والصلوات أتعب نفسه * وضمان راحته
على إتعابها وتعجل الاقلاع عن لذاته * ثقة بحسن مآلها ومآبها فلتفخر
الدنيا بسائس ملكها * منه ودارس علمها وكتابها صوامها قوامها علامها *
عمالها بذالها وهابها والعجب أن الفاضل مع براعته ليس له قصيدة طويلة،
وإنما له ما بين البيت والبيتين في أثناء رسائله وغيرها شئ كثير جدا،
فمن ذلك قوله: سبقتم بإسداء الجميل تكرما * وما مثلكم فيمن يحدث أو
يحكى وكان ظني أن أسابقكم به * ولكن بلت قبلي فهيج لي البكا وله: ولي
صاحب ما خفت من جور حادث * من الدهر إلا كان لي من ورائه
__________
(1) في وفيات الاعيان وشذرات الذهب: ولد في 15 جمادى الآخرة سنة 529 ه
بمدينة عسقلان.
ولقب بالبيساني لان أباه تولى القضاء بمدينة بيسان فلهذا نسبوا إليها.
(انظر بدائع الزهور لابن إياس 1 / 1 / 253).
(*)
(13/31)
إذا عضني صرف
الزمان فإنني * براياته أسطو عليه ورائه
وله في بدو أمره: أرى الكتاب كلهم جميعا * بأرزاق تعمهم سنينا وما لي
بينهم رزق كأني * خلقت من الكرام الكاتبينا وله في النحلة والزلقطة:
ومغردين تجاوبا في مجلس * منعاهما لاذاهما الاقوام هذا يجود بعكس ما
يأتي به * هذا فيحمد ذا وذاك يلام وله: بتنا على حال تسر الهوى * لكنه
لا يمكن الشرح (1) بوابنا الليل، وقلنا له: * إن غبت عنا هجم الصبح
وأرسلت جارية من جواري الملك العزيز إلى الملك العزيز زرا من ذهب مغلف
بعنبر أسود، فسأل الملك الفاضل عن معنى ما أرادت بإرساله فأنشأ يقول:
أهدت لك العنبر في وسطه * زر من التبر رقيق (2) اللحام فالزر في العنبر
معناهما * زر هكذا مختفيا في الظلام قال ابن خلكان: وقد اختلف في لقبه
فقيل محيي الدين وقيل مجير الدين، وحكي عن عمارة اليمني: أنه كان يذكر
جميل وأن العادل بل الصالح هو الذي استقدمه من الاسكندرية، وقد كان
معدودا في حسناته.
وقد بسط ابن خلكان ترجمته بنحو ما ذكرنا، وفي هذه زيادة كثيرة والله
أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة فيها اشتد
الغلاء بأرض مصر جدا، فهلك خلق كثير جدا من الفقراء والاغنياء،
ثم أعقبه فناء عظيم، حتى حكى الشيخ أبو شامة في الذيل: أن العادل كفن
من ماله في مدة شهر من هذه السنة نحوا من مائتي ألف، وعشرين ألف ميت،
وأكلت الكلاب والميتات فيها بمصر، وأكل من الصغار والاطفال خلق كثير،
يشوي الصغير والداه ويأكلانه، وكثر هذا في الناس جدا حتى صار لا ينكر
بينهم، فلما فرغت الاطفال والميتات غلب القوي الضعيف فذبحه وأكله، وكان
الرجل
يحتال على الفقير فيأتي به ليطعمه أو ليعطيه شيئا، ثم يذبحه ويأكله،
وكان أحدهم يذبح امرأته
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 160: بتنا على حال يسر الهوى * وربما لا يمكن
الشرح (2) في الوفيات: دقيق اللحام.
(*)
(13/32)
ويأكلها وشاع
هذا بينهم بلا إنكار ولا شكوى، بل يعذر بعضهم بعضا، ووجد عند بعضهم
أربعمائة رأس وهلك كثير من الاطباء الذين يستدعون إلى المرضى، فكانوا
يذبحون ويؤكلون، كان الرجل يستدعي الطبيب ثم يذبحه ويأكله، وقد استدعى
رجل طبيبا حاذقا وكان الرجل موسرا من أهل المال، فذهب الطبيب معه على
وجل وخوف، فجعل الرجل يتصدق على من لقيه في الطريق ويذكر الله ويسبحه،
ويكثر من ذلك، فارتاب به الطبيب وتخيل منه، ومع هذا حمله الطمع على
الاستمرار معه حتى دخل داره، فإذا هي خربة فارتاب الطبيب أيضا فخرج
صاحبه فقال له: ومع هذا البطء جئت لنا بصيد، فلما سمعها الطبيب هرب
فخرجا خلفه سراعا فما خلص إلا بعد جهد وشر.
وفيها وقع وباء شديد ببلاد عنزة بين الحجاز واليمن، وكانوا عشرين قرية،
فبادت منها ثماني عشرة لم يبق فيها ديار ولا نافخ نار، وبقيت أنعامهم
وأموالهم لا قاني لها، ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك القرى ولا يدخلها،
بل كان من اقترب إلى شئ من هذه القرى هلك من ساعته، نعوذ بالله من بأس
الله وعذابه، وغضبه وعقابه، أما القريتان الباقيتان فإنهما لم يمت
منهما أحد ولا عندهم شعور بما جرى على من حولهم، بل هم على حالهم لم
يفقد منهم أحد فسبحان الحكيم العليم.
واتفق باليمن في هذه السنة كائنة غريبة جدا، وهي أن رجلا يقال له عبد
الله بن حمزة العلوي كان قد تغلب على كثير من بلاد اليمن، وجمع نحوا من
اثني عشر ألف فارس، ومن الرجالة جمعا كثيرا، وخافه ملك اليمن إسماعيل
بن طغتكين بن أيوب، وغلب على ظنه زوال
ملكه على يدي هذا الرجل، وأيقن بالهلكة لضعفه عن مقاومته، واختلاف
أمرائه معه في المشورة، فأرسل الله صاعقة فنزلت عليهم فلم يبق منهم سوى
طائفة من الخيالة والرجالة، فاختلف جيشه فيما بينهم فغشيهم المعز فقتل
منهم ستة آلاف، واستقر في ملكه آمنا.
وفيها تكاتب الاخوان الافضل من صرخد والظاهر من حلب على أن يجتمعا على
حصار دمشق وينزعاها من المعظم بن العادل، وتكون للافضل، ثم يسيرا إلى
مصر فيأخذاها من العادل وابنه الكامل اللذين نقضا العهد وأبطلا خطبة
المنصور، ونكثا المواثيق، فإذا أخذا مصر كانت للافضل وتصير دمشق مضافة
إلى الظاهر مع حلب، فلما بلغ العادل ما تمالا عليه أرسل جيشا مددا
لابنه المعظم عيسى إلى دمشق، فوصلوا إليها قبل وصول الظاهر وأخيه
إليها، وكان وصولهما إليها في ذي القعدة من ناحية بعلبك، فنزلا على
مسجد القدم واشتد الحصار للبلد، وتسلق كثير من الجيش من ناحية خان
القدم، ولم يبق إلا فتح البلد، لولا هجوم الليل، ثم إن الظاهر بدا له
في كون دمشق للافضل فرأى أن تكون له أولا، ثم إذا فتحت مصر تسلمها
الافضل، فأرسل إليه في ذلك فلم يقبل الافضل، فاختلفا وتفرقت كلمتهما،
وتنازعا الملك بدمشق، فتفرقت الامراء
(13/33)
عنهما، وكوتب
العادل في الصلح فأرسل يجيب إلى ما سألا وزاد في إقطاعهما شيئا من بلاد
الجزيزة (1)، وبعض معاملة المعرة.
وتفرقت العساكر عن دمشق في محرم سنة ثمان وتسعين، وسار كل منهما إلى ما
تسلم من البلاد التي أقطعها، وجرت خطوب يطول شرحها، وقد كان الظاهر
وأخوه كتبا إلى صاحب الموصل نور الدين أرسلان الاتابكي أن يحاصر مدن
الجزيرة التي مع عمهما العادل، فركب في جيشه وأرسل إلى ابن عمه قطب
الدين صاحب سنجار، واجتمع معهما صاحب ماردين الذي كان العادل قد حاصره
وضيق عليه مدة طويلة، فقصدت العساكر حران، وبها الفائز بن العادل،
فحاصروه مدة، ثم لما بلغهم وقوع الصلح عدلوا إلى المصالحة، وذلك بعد
طلب الفائز ذلك منهم، وتمهدت الامور واستقرت على ما كانت عليه.
وفيها ملك غياث الدين وأخوه شهاب الدين الغوريان جميع ما كان يملك
خوارزم شاه من
البلدان والحواصل والاموال، وجرت لهم خطوب طويلة جدا.
وفيها كانت زلزلة عظيمة ابتدأت من بلاد الشام إلى الجزيرة وبلاد الروم
والعراق، وكان جمهورها وعظمها بالشام تهدمت منها دور كثيرة، وتخربت
محال كثيرة، وخسف بقرية من أرض بصرى، وأما سواحل الشام وغيرها فهلك
فيها شئ كثير، وأخربت محال كثيرة من طرابلس وصور وعكا ونابلس، ولم يبق
بنابلس سوى حارة السامرة ومات بها وبقراها ثلاثون ألفا تحت الردم، وسقط
طائفة كثيرة من المنارة الشرقية بدمشق بجامعها، وأربع عشرة شرافة منه،
وغالب الكلاسة والمارستان النوري، وخرج الناس إلى الميادين يستغيثون
وسقط غالب قلعة بعلبك مع وثاقة بنيانها، وانفرق البحر إلى قبرص وقد حذف
بالمراكب منه إلى ساحله، وتعدى إلى ناحية الشرق فسقط بسبب ذلك دور
كثيرة، ومات أمم لا يحصون ولا يعدون حتى قال صاحب مرآة الزمان: إنه مات
في هذه السنة بسبب الزلزلة نحو من ألف ألف ومائة ألف إنسان قتلا تحتها،
وقيل إن أحدا لم يحص من مات فيها والله سبحانه أعلم.
وفيها توفي من الاعيان: عبد الرحمن
بن علي ابن محمد بن علي [ بن عبيد الله ] (2) بن عبد الله بن حمادي بن
أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي - نسبة إلى فرضة نهر البصرة - ابن عبد
الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن
__________
(1) استقر الصلح على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفر طاب وقرى معينة
من المعرة، ويكون للافضل سميساط وسروج ورأس عين وحملين (ابن الاثير 12
/ 163 ابن خلدون 5 / 338).
(2) سقط من عمود نسبه في الاصل، وأثبت في تذكرة الحفاظ ص 1342 ووفيات
الاعيان 3 / 140.
(*)
(13/34)
عبد الله بن
عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، الشيخ الحافظ الواعظ
جمال الدين أبو الفرج المشهور بابن الجوزي، القرشي التيمي البغدادي
الحنبلي، أحد أفراد العلماء، برز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره،
وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوا من ثلاثمائة
مصنف، وكتب بيده نحوا من مائتي مجلدة (1)، وتفرد بفن الوعظ الذي لم
يسبق إليه ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته
وعذوبته وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه وغوصه على المعاني البديعة، وتقريبه
الاشياء الغريبة فيما يشاهد من الامور الحسية، بعبارة وجيزة سريعة
الفهم والادراك، بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة، هذا وله
في العلوم كلها اليد الطولى، والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير
والحديث والتاريخ والحساب والنظر في النجوم والطب والفقه وغير ذلك من
اللغة والنحو، وله من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المكان عن تعدادها،
وحصر أفرادها، منها كتابه في التفسير المشهور بزاد المسير، وله تفسير
أبسط منه ولكنه ليس بمشهور، وله جامع المسانيد استوعب به غالب مسند
أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وجامع الترمذي، وله كتاب المنتظم في تواريخ
الامم من العرب والعجم في عشرين مجلدا، قد أوردنا في كتابنا هذا كثيرا
منه من حوادثه وتراجمه، ولم يزل يؤرخ أخبار العالم حتى صار تاريخا، وما
أحقه بقول الشاعر: ما زلت تدأب في التاريخ مجتهدا * حتى رأيتك في
التاريخ مكتوبا وله مقامات وخطب، وله الاحاديث الموضوعة، وله العلل
المتناهية في الاحاديث الواهية، وغير ذلك.
ولد سنة عشر وخمسمائة، ومات أبوه وعمره ثلاث سنين، وكان أهله تجارا في
النحاس، فلما ترعرع جاءت به عمته إلى مسجد محمد بن ناصر الحافظ، فلزم
الشيخ وقرأ عليه وسمع عليه الحديث وتفقه بابن الزاغوني، وحفظ الوعظ
ووعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها، وأخذ اللغة عن أبي منصور الجواليقي،
وكان وهو صبي دينا مجموعا على نفسه لا يخالط أحدا ولا يأكل ما فيه
شبهة، ولا يخرج من بيته إلا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان، وقد حضر
مجلس وعظه الخلفاء والوزراء والملوك والامراء والعلماء والفقراء، ومن
سائر صنوف بني آدم، وأقل ما كان يجتمع في مجلس وعظه عشرة آلاف، وربما
اجتمع فيه مائة ألف أو يزيدون، وربما تكلم من خاطره على البديهة نظما
ونثرا، وبالجملة كان أستاذا فردا في الوعظ وغيره، وقد كان فيه بهاء
وترفع في نفسه وإعجاب وسمو بنفسه أكثر من مقامه، وذلك ظاهر في كلامه في
نثره ونظمه، فمن ذلك قوله:
ما زلت أدرك ما غلا بل ما علا * وأكابد النهج العسير الاطولا تجري بي
الآمال في حلباته * جري السعيد مدى ما أملا أفضى بي التوفيق فيه إلى
الذي * أعيا سواي توصلا وتغلغلا
__________
(1) انظر تذكرة الحفاظ ص 1343 فقد ذكر فيها تصانيف أبي الفرج بن
الجوزي.
(*)
(13/35)
لو كان هذا
العلم شخصا ناطقا * وسألته هل زار مثلي ؟ قال: لا ومن شعره وقيل هو
لغيره: إذا قنعت بميسور من القوت * بقيت في الناس حرا غير ممقوت ياقوت
يومي إذا ما در حلقك لي * فلست آسي على در وياقوت وله من النظم والنثر
شئ كثيرا جدا، وله كتاب سماه لقط الجمان في كان وكان، ومن لطائف كلامه
قوله في الحديث: " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين " (1) إنما
طالت أعمار من قبلنا لطول البادية، فلما شارف الركب بلد الاقامة قيل
لهم حثوا المطي، وقال له رجل أيما أفضل ؟ أجلس أسبح أو أستغفر ؟ فقال
الثوب الوسخ أحوج إلى البخور.
وسئل عمن أوصى وهو في السياق فقال: هذا طين سطحه في كانون.
والتفت إلى ناحية الخليفة المستضئ وهو في الوعظ فقال: يا أمير المؤمنين
إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، وإن قول القائل لك اتق الله خير
لك من قوله لكم إنكم أهل بيت مغفور لكم، كان عمر بن الخطاب يقول: إذا
بلغني عن عامل لي أنه ظلم فلم أغيره فأنا الظالم، يا أمير المؤمنين.
وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط حتى لا ينسى الجائع، وكان عمر يضرب
بطنه عام الرمادة ويقول قرقرا ولا تقرقرا، والله لا ذاق عمر سمنا ولا
سمينا حتى يخصب الناس.
قال فبكى المستضئ وتصدق بمال كثير، وأطلق المحابيس وكسى خلقا من
الفقراء.
ولد ابن الجوزي في حدود سنة عشر وخمسمائة كما تقدم، وكانت وفاته ليلة
الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان من هذه السنة، وله من العمر
سبع وثمانون سنة، وحملت جنازته على رؤوس الناس، وكان الجمع كثيرا جدا،
ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الامام أحمد، وكان يوما
مشهودا، حتى قيل: إنه أفطر جماعة من الناس من كثرة الزحام وشدة الحر،
وقد أوصى أن يكتب على قبره هذه الابيات: يا كثير العفو يا من * كثرت
ذنبي لديه جاءك المذنب يرجو الص * فح عن جرم يديه أنا ضيف وجزاء ال *
ضيف إحسان إليه وقد كان له من الاولاد الذكور ثلاثة: عبد العزيز - وهو
أكبرهم - مات شابا في حياة والده في سنة أربع وخمسين، ثم أبو القاسم
علي، وقد كان عاقا لوالده إلبا عليه في زمن المحنة وغيرها، وقد تسلط
على كتبه في غيبته بواسط فباعها بأبخس الثمن، ثم محيي الدين يوسف، وكان
أنجب أولاده وأصغرهم ولد سنة ثمانين [ وخمسمائة ] ووعظ بعد أبيه،
واشتغل وحرر وأتقن وساد أقرانه، ثم باشر حسبة بغداد، ثم صار رسول
الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد، ولا سيما بني أيوب بالشام، وقد
__________
(1) أخرجه الترمذي في الدعوات باب (1) وابن ماجه في الزهد باب (27).
(*)
(13/36)
حصل منهم من
الاموال والكرامات ما ابتنى به المدرسة الجوزية بالنشابين بدمشق، وما
أوقف عليها، ثم حصل له من سائر الملوك أموالا جزيلة، ثم صار أستاذ دار
الخليفة المستعصم في سنة أربعين وستمائة، واستمر مباشرها إلى أن قتل مع
الخليفة عام هارون تركي بن جنكيز خان (1)، وكان لابي الفرج عدة بنات
منهن رابعة أم سبطه أبي المظفر بن قزغلي (2) صاحب مرآة الزمان، وهي من
أجمع التواريخ وأكثرها فائدة، وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات فأثنى
عليه وشكر تصانيفه وعلومه.
العماد الكاتب الاصبهاني محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن
علي بن محمود بن هبة الله بن أله - بتشديد اللام وضمها -، المعروف
بالعماد الكاتب الاصبهاني، صاحب المصنفات والرسائل، وهو قرين القاضي
الفاضل، واشتهر في زمنه، ومن اشتهر في زمن الفاضل فهو فاضل، ولد
بأصبهان في سنة تسع عشرة وخمسمائة، وقدم بغداد فاشتغل بها على الشيخ
أبي منصور سعيد بن الرزاز مدرس
النظامية، وسمع الحديث ثم رحل إلى الشام فحظي عند الملك نور الدين
محمود بن زنكي، وكتب بين يديه وولاه المدرسة التي أنشأها داخل باب
الفرج التي يقال لها العمادية، نسبة إلى سكناه بها وإقامته فيها،
وتدريسه بها، لا أنه أنشأها وإنما أنشأها نور الدين محمود، ولم يكن هو
أول من درس بها، بل قد سبقه إلى تدريسها غير واحد، كما تقدم في ترجمة
نور الدين، ثم صار العماد كاتبا في الدولة الصلاحية وكان الفاضل يثني
عليه ويشكره، قالوا: وكان منطوقه يعتريه جمود وفترة، وقريحته في غاية
الجودة والحدة، وقد قال القاضي الفاضل لاصحابه يوما: قولوا فتكلموا
وشبهوه في هذه الصفة بصفات فلم يقبلها القاضي، وقال: هو كالزناد ظاهره
بارد وداخله نار، وله من المصنفات الجريدة جريدة النصر (3) في شعراء
العصر، والفتح القدسي، والبرق الشامي وغير ذلك من المصنفات المسجعة،
والعبارات المتنوعة والقصائد المطولة.
توفي في مستهل رمضان من هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة، ودفن بمقابر
الصوفية.
الامير بهاء الدين قراقوش (4) الفحل الخصي، أحد كبار كتاب أمراء الدولة
الصلاحية، كان شهما شجاعا فاتكا، تسلم
__________
(1) وكان ذلك سنة 653 ه على ما سيرد (وفيات الاعيان 3 / 142).
(2) من وفيات الاعيان، وفي الاصل: مزعلي وهو تحريف.
وكان مولده سنة 581 ببغداد وكانت وفاته في ذي الحجة سنة 654 بدمشق.
ودفن بجبل قاسيون.
(3) كذا بالاصل، والمعروف: خريدة القصر وجريدة العصر.
(4) وهو أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الاسدي، الملقب بهاء الدين، وهو
غير شرف الدين قراقوش التقوي المظفري الذي قام بمغامرات كثيرة في
طرابلس الغرب وأفريقيا.
(*)
(13/37)
القصر لما مات
العاضد وعمر سور القاهرة محيطا على مصر أيضا، وانتهى إلى المقسم وهو
المكان الذي اقتسمت فيه الصحابة ما غنموا من الديار المصرية، وبنى قلعة
الجبل، وكان صلاح الدين سلمه عكا ليعمر فيها أماكن كثيرة فوقع الحصار
وهو بها، فلما خرج البدل منها كان هو من جملة من
خرج، ثم دخلها ابن المشطوب.
وقد ذكر أنه أسر فافتدى نفسه بعشرة آلاف دينار (1)، وعاد إلى صلاح
الدين ففرح به فرحا شديدا، ولما توفي في هذه السنة احتاط العادل على
تركته وصارت أقطاعه وأملاكه للملك الكامل محمد بن العادل.
قال ابن خلكان: وقد نسب إليه أحكام عجيبة، حتى صنف بعضهم (2) جزءا
لطيفا سماه كتاب " الفاشوش في أحكام قراقوش "، فذكر أشياء كثيرة جدا،
وأظنها موضوعة عليه، فإن الملك صلاح الدين كان يعتمد عليه، فكيف يعتمد
على من بهذه المثابة والله أعلم.
مكلبة بن عبد الله المستنجدي كان تركيا عابدا زاهدا، سمع المؤذن وقت
السحر وهو ينشد على المنارة: يا رجال الليل جدوا * رب صوت لا يرد ما
يقوم الليل إلا * من له عزم وجد فبكى مكلبة وقال للمؤذن يا مؤذن زدني،
فقال: قد مضى الليل وولى * وحبيبي قد تخلا فصرخ مكلبة صرخة كان فيها
حتفه، فأصبح أهل البلد قد اجتمعوا على بابه فالسعيد منهم من وصل إلى
نعشه رحمه الله تعالى.
أبو منصور بن أبي بكر بن شجاع المركلسي ببغداد، ويعرف بابن نقطة، كان
يدور في أسواق بغداد بالنهار ينشد كان وكان والمواليا، ويسحر الناس في
ليالي رمضان، وكان مطبوعا ظريفا خليعا، وكان أخوه الشيخ عبد الغني
الزاهد من أكابر الصالحين (3)، له زاوية ببغداد يزار فيها، وكان له
أتباع ومريدون، ولا يدخر شيئا يحصل له من الفتوح، تصدق في ليلة بألف
دينار وأصحابه صيام لم يدخر منها شيئا لعشائهم، وزوجته أم الخليفة
بجارية من خواصها وجهزتها بعشرة آلاف دينار إليه فما حال الحول
__________
(1) قال ابن شداد في سيرة صلاح الدين ص 239: أنه انفك من الاسر يوم
الثلاثاء 11 شوال سنة 588 ه.
(2) وهو الاسعد بن مماتي (انظر وفيات الاعيان 4 / 92).
(3) توفي ببغداد في 4 جمادى الآخرة سنة 583 ودفن في موضع مجاور لمسجده
(الوفيات 4 / 393).
(*)
(13/38)
وعندهم من ذلك
شئ سوى هاون، فوقف سائل ببابه فألح في الطلب فأخرج إليه الهاون فقال:
خذ هذا وكل به ثلاثين يوما، ولا تسأل الناس ولا تشنع على الله عزوجل.
هذا الرجل من خيار الصالحين، و المقصود أنه قال لاخيه أبي منصور: ويحك
أنت تدور في الاسواق وتنشد الاشعار وأخوك من قد عرفت ؟ فأنشأ يقول في
جواب ذلك بيتين مواليا من شعره على البديهة: قد خاب من شبه الجزعة إلى
درة * وقاس قحبة إلى مستحيية حره أنا مغني وأخي زاهد إلى مرة * في الدر
ببرى ذي حلوة وذي مره وقد جرى عنده مرة ذكر قتل عثمان وعلي حاضر، فأنشأ
يقول كان وكان، ومن قتل في جواره مثل ابن عفان فاعتذر، يجب عليه أن
يقبل في الشام عذر يزيد، فأرادت الروافض قتله فاتفق أنه بعض الليالي
يسحر الناس في رمضان إذ مر بدار الخليفة فعطس الخليفة في الطارقة فشمته
أبو منصور هذا من الطريق، فأرسل إليه مائة دينار، ورسم بحمايته من
الروافض، إلى أن مات في هذه السنة رحمه الله.
وفيها توفي مسند الشام: أبو طاهر
بركات بن إبراهيم بن طاهر الخشوعي، شارك ابن عساكر في كثير من مشيخته،
وطالت حياته بعد وفاته بسبع وعشرين سنة فألحق فيها الاحفاد بالاجداد
(1).
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة فيها شرع
الشيخ أبو عمر محمد بن قدامة باني المدرسة بسفح قايسون (2)، في بناء
المسجد الجامع بالسفح، فاتفق عليه رجل يقال له الشيخ أبو داود
محاسن الغامي، حتى بلغ البناء مقدار قامة فنفد ما عنده، وما كان معه من
المال، فأرسل الملك المظفر كوكري بن زين الدين صاحب إربل مالا جزيلا
ليتمه به، فكمل وأرسل ألف دينار ليساق بها إليه الماء من بردى، فلم
يمكن من ذلك الملك المعظم صاحب دمشق، واعتذر بأن هذا فرش قبور كثيرة
للمسلمين، فصنع له بئر
وبغل يدور، ووقف عليه وقفا لذلك.
وفيها كانت حروب كثيرة وخطوب طويلة بين الخوارزمية والغورية ببلاد
المشرق بسطها ابن الاثير (3) واختصرها ابن كثير.
وفيها درس بالنظامية مجد الدين
__________
(1) كذا ذكر المؤلف وفاته في هذه السنة ووافقه أبو شامة في (الذيل 28).
وفي وفيات الاعيان: 1 / 269 ذكر وفاته في 27 صفر سنة 598 وكذا ذكره
الذهبي في العبر قال: توفي في سابع صفر (4 / 302).
(2) كذا بالاصل والمشهور: قاسيون.
(3) انظر الكامل 12 / 173 وما بعدها: في أحداث سنة 598 ه.
(*)
(13/39)
يحيى بن الربيع
وخلع عليه خلعة سنية سوداء وطرحة كحلي، وحضر عنده العلماء والاعيان.
وفيها تولى القضاء ببغداد أبو الحسن علي بن سليمان الجيلي وخلع عليه
أيضا.
وفيها توفي من الاعيان: القاضي ابن
الزكي محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد العزيز أبو المعالي القرشي،
محيي الدين قاضي قضاة دمشق وكل منهما كان قاضيا أبوه وجده وأبو جده
يحيى بن علي، وهو أول من ولي الحكم بدمشق منهم، وكان هو جد الحافظ أبي
القاسم بن عساكر لامه، وقد ترجمه ابن عساكر في التاريخ ولم يزد على
القرشي.
قال الشيخ أبو شامة: ولو كان أمويا عثمانيا كما يزعمون لذكر ذلك ابن
عساكر، إذ كان فيه شرف لجده وخاليه محمد وسلطان، فلو كان ذلك صحيخا لما
خفي على ابن عساكر، اشتغل ابن الزكي على القاضي شرف الدين أبي سعد عبد
الله بن محمد بن أبي عصرون، وناب عنه في الحكم، وهو أول من ترك
النيابة، وهو أول من خطب بالقدس لما فتح كما تقدم، ثم تولى قضاء دمشق
وأضيف إليه قضاء حلب أيضا، وكان ناظر أوقاف الجامع، وعزل عنها قبل
وفاته بشهور، ووليها شمس الدين بن الليثي ضمانا، وقد كان ابن الزكي
ينهى الطلبة عن الاشتغال بالمنطق وعلم الكلام، ويمزق كتب من كان عنده
شئ من ذلك بالمدرسة النورية، وكان يحفظ العقيدة المسماة بالمصباح
للغزالي، ويحفظها أولاده أيضا، وكان له درس في التفسير يذكره
بالكلاسة، تجاه تربة صلاح الدين، ووقع بينه وبين الاسماعيلية فأرادوا
قتله فاتخذ له بابا من داره إلى الجامع ليخرج منه إلى الصلاة، ثم إنه
خولط في عقله، فكان يعتريه شبه الصرع إلى أن توفي في شعبان من هذه
السنة، ودفن بتربته بسفح قاسيون (1) ويقال إن الحافظ عبد الغني دعا
عليه فحصل له هذا الداء العضال، ومات، وكذلك الخطيب الدولعي توفي فيها
وهما اللذان قاما على الحافظ عبد الغني فماتا في هذه السنة، فكانا عبرة
لغيرهما.
الخطيب الدولعي ضياء الدين أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين
التغلبي (2) الدولعي، نسبة إلى قرية بالموصل، يقال لها الدولعية، ولد
بها في سنة ثمان عشرة (3) وخمسمائة، وتفقه ببغداد على مذهب الشافعي
وسمع الحديث فسمع الترمذي على أبي الفتح الكروخي (4)، والنسائي على أبي
الحسن
__________
(1) في الاصل قايسون.
(2) في الاصل: الثعلبي تحريف.
(3) في معجم البلدان ووفيات الاعيان 7 / 203: سنة 507 ه.
(4) في الاصل: الكروجي وهو خطأ.
(*)
(13/40)
علي بن أحمد
البردي ثم قدم دمشق فولي بها الخطابة وتدريس الغزالية، وكان زاهدا
متورعا حسن الطريقة مهيبا في الحق، توفي يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع
الاول، ودفن بمقبرة باب الصغير عند قبور الشهداء، وكان يوم جنازته يوما
مشهودا، وتولى بعده الخطابة ولد أخيه محمد بن أبي الفضل بن زيد سبعا
وثلاثين سنة، وقيل ولده جمال الدين محمد.
وقد كان ابن الزكي ولى ولده الزكي فصلى صلاة واحدة فتشفع جمال الدين
بالامير علم الدين أخي العادل، فولاه إياها فبقي فيها إلى أن توفي سنة
خمس وثلاثين وستمائة.
الشيخ علي بن علي بن عليش اليمني العابد الزاهد، كان مقيما شرقي
الكلاسة، وكانت له أحوال وكرامات، نقلها
الشيخ علم الدين السخاوي عنه، ساقها أبو شامة عنه.
الصدر أبو الثناء حماد بن هبة الله ابن حماد الحراني، التاجر، ولد سنة
إحدى عشرة عام نور الدين الشهيد، وسمع الحديث ببغداد ومصر وغيرها من
البلاد، وتوفي في ذي الحجة، ومن شعره قوله: تنقل المرء في الآفاق يكسبه
* محاسنا لم يكن منها ببلدته أما ترى البيدق الشطرنج أكسبه * حسن
التنقل حسنا فوق زينته الست الجليلة ينفشا بنت عبد الله عتيقة المستضئ،
كانت من أكبر حظاياه، ثم صارت بعده من أكثر الناس صدقة وبرا وإحسانا
إلى العلماء والفقراء، لها عند تربتها ببغداد عند تربة معروف الكرخي
صدقات وبر.
ابن المحتسب الشاعر أبو السكر محمود بن سليمان بن سعيد الموصلي يعرف
بابن المحتسب، تفقه ببغداد ثم سافر إلى البلاد وصحب ابن الشهرزوري وقدم
معه، فلما ولي قضاء بغداد ولاه نظر أوقاف النظامية، وكان يقول الشعر،
وله أشعار في الخمر لا خير فيها تركتها تنزها عن ذلك، وتقذرا لها.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال سبط
ابن الجوزي في مرآته: في ليلة السبت سلخ المحرم هاجت النجوم في السماء
وماجت شرقا وغربا، وتطايرت كالجراد المنتشر يمينا وشمالا، قال: ولم ير
مثل هذا إلا في عام
(13/41)
المبعث، وفي
سنة إحدى وأربعين ومائتين.
وفيها شرع بعمارة سور قلعة دمشق وابتدئ ببرج الزاوية الغربية القبلية
المجاور لباب النصر.
وفيها أرسل الخليفة الناصر الخلع وسراويلات الفتوة إلى الملك العادل
وبينه.
وفيها بعث العادل ولده موسى الاشرف لمحاصرة ماردين، وساعده جيش سنجار
والموصل ثم وقع الصلح على يدي الظاهر، على أن يحمل صاحب ماردين في كل
سنة مائة ألف وخمسين ألف دينار، وأن تكون السكة والخطبة للعادل، وأنه
متى طلبه بجيشه يحضر إليه.
وفيها كمل بناء رباط الموريانية، ووليه الشيخ شهاب الدين عمر بن محمد
الشهرزوري، ومعه جماعة من الصوفية، ورتب لهم من المعلوم والجراية ما
ينبغي لمثلهم.
وفيها احتجر الملك العادل على محمد بن الملك العزيز وإخوته وسيرهم إلى
الرها خوفا من آفاتهم بمصر.
وفيها استحوذت الكرج على مدينة دوين فقتلوا أهلها ونهبوها، وهي من بلاد
آذربيجان، لاشتغال ملكها بالفسق وشرب الخمر قبحه الله، فتحكمت الكفرة
في رقاب المسلمين بسببه، وذلك كله غل في عنقه يوم القيامة.
وفيها توفي: الملك غياث الدين
الغوري أخو شهاب الدين فقام بالملك بعده ولده محمود، وتلقب بلقب أبيه،
وكان غياث الدين عاقلا حازما شجاعا، لم تكسر له راية مع كثرة حروبه،
وكان شافعي المذهب، ابتنى مدرسة هائلة للشافعية، وكانت سيرته حسنة في
غاية الجودة.
وفيها توفي من الاعيان: الامير علم الدين أبو منصور سليمان بن شيروة بن
جندر أخو الملك العادل لابيه، في تاسع عشر من المحرم، ودفن بداره التي
خطها مدرسة في داخل باب الفراديس في محلة الافتراس، ووقف عليها الحمام
بكمالها تقبل الله منه.
القاضي الضياء الشهرزوري أبو الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله بن
القاسم الشهرزوري الموصلي، قاضي قضاة بغداد، وهو ابن أخي قاضي قضاة
دمشق كمال الدين الشهرزوري، أيام نور الدين.
ولما توفي سنة ست وسبعين في أيام صلاح الدين أوصى لولد أخيه هذا
بالقضاء فوليه، ثم عزل عنه بابن أبي عصرون، وعوض بالسفارة إلى الملوك،
ثم تولى قضاء بلدة الموصل، ثم استدعي إلى بغداد فوليها سنتين وأربعة
أشهر، ثم استقال الخليفة فلم يقله لحظوته عنده، فاستشفع في زوجته ست
الملوك على أم الخليفة، وكان لها مكانة عندها، فأجيب إلى ذلك فصار إلى
قضاء حماه لمحبته إياها،
وكان يعاب عليه ذلك، وكانت لديه فضائل وله أشعار رائقة، توفي في حماه
في نصف رجب منها.
(13/42)
عبد الله بن
علي بن نصر بن حمزة (1) أبو بكر البغدادي المعروف بابن المرستانية، أحد
الفضلاء المشهورين.
سمع الحديث وجمعه، وكان طبيبا منجما يعرف علوم الاوائل وأيام الناس،
وصنف ديوان الاسلام في تاريخ دار السلام، ورتبه على ثلاثمائة وستين
كتابا إلا أنه لم يشتهر، وجمع سيرة ابن هبيرة، وقد كان يزعم أنه من
سلالة الصديق فتكلموا فيه بسبب ذلك.
وأنشد بعضهم: دع الانساب لا تعرض لتيم * فإن الهجن من ولد الصميم لقد
أصبحت من تيم دعيا * كدعوى حيص بيص إلى تميم ابن النجا الواعظ علي بن
إبراهيم بن نجا زين الدين أبو الحسن الدمشقي، الواعظ الحنبلي، قدم
بغداد فتفقه بها وسمع الحديث ثم رجع إلى بلده دمشق، ثم عاد إليها رسولا
من جهة نور الدين في سنة أربع وستين، وحدث بها، ثم كانت له حظوة عند
صلاح الدين، وهو الذي نم على عمارة اليمني وذويه فصلبوا، وكانت له
مكانة بمصر، وقد تكلم يوم الجمعة التي خطب فيها بالقدس بعد الفراغ من
الجمعة، وكان وقتا مشهودا، وكان يعيش عيشا أطيب من عيش الملوك في
الاطعمة والملابس، وكان عنده أكثر من عشرين سرية من أحسن النساء، كل
واحدة بألف دينار، فكان يطوف عليهن ويغشاهن وبعد هذا كله مات فقيرا لم
يخلف كفنا، وقد أنشد وهو على منبره للوزير طلائع بن رزيك: مشيبك قد قضى
شرخ الشباب * وحل الباز في وكر الغراب تنام ومقلة الحدثان يقظى * وما
ناب النوائب عنك ناب فكيف بقاء عمرك وهو كنز * وقد أنفقت منه بلا حساب
؟ الشيخ أبو البركات (محمد بن أحمد بن سعيد التكريتي) يعرف بالمؤيد،
كان أديبا شاعرا.
ومما
نظمه في الوجيه النحوي (2) حين كان حنبليا فانتقل حنفيا، ثم صار
شافعيا، نظم ذلك في حلقة النحو بالنظامية فقال: ألا مبلغا عني الوجيه
رسالة * وإن كان لا تجدي لديه الرسائل تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل *
وذلك لما أعوزتك المآكل
__________
(1) في شذرات الذهب 4 / 339: حمرة.
وفي هامشه قال: على الحاء ضمة كما في النسخ وتاريخ الاسلام.
(2) وهو أبو بكر المبارك بن أبي طالب المبارك بن أبي الازهر، الملقب
بالوجيه، المعروف بابن الدهان له ترجمة في وفيات الاعيان 4 / 152 ومرآة
الزمان 2 / 573 وانباه الرواة 3 / 354.
(*)
(13/43)
وما اخترت قول الشافعي ديانة (1) * ولكنما تهوى الذي هو حاصل وعما قليل
أنت لا شك صائر * إلى مالك فانظر (2) إلى ما أنت قائل ؟ الست الجليلة
زمرد خاتون أم الخليفة الناصر لدين الله زوجة المستضئ، كانت صالحة
عابدة كثيرة البر والاحسان والصلات والاوقاف، وقد بنت لها تربة إلى
جانب قبر معروف، وكانت جنازتها مشهورة جدا، واستمر العزاء بسببها شهرا،
عاشت في خلافة ولدها أربعا وعشرين سنة نافذة الكلمة مطاعة الاوامر.
وفيها كان مولد الشيخ شهاب الدين أبي شامة، وقد ترجم نفسه عند ذكر
مولده في هذه السنة في الذيل ترجمة مطولة، فينقل إلى سنة وفاته، وذكر
بدو أمره، واشتغاله ومصنفاته وشيئا كثيرا من شعاره، وما رئي له من
المنامات المبشرة.
وفيها كان ابتداء ملك جنكيز خان ملك التتار، عليه من الله ما يستحقه،
وهو صاحب الباسق وضعها ليتحاكموا إليها - يعني التتار ومن معهم من
أمراء - الترك ممن يبتغي حكم الجاهلية وهو والد تولى، وجد هو لاكو بن
تولى - الذي قتل الخليفة المستعصم وأهل بغداد في سنة ست وخمسين وستمائة
كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في موضعه.
والله سبحانه وتعالى أعلم. |