البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

سنة ستمائة من الهجرة في هذه السنة كانت الفرنج قد جمعوا خلقا منهم ليستعيدوا بيت المقدس من أيدي المسلمين، فأشغلهم الله عن ذلك بقتال الروم، وذلك أنهم اجتازوا في طريقهم بالقسطنطينية فوجدوا ملوكها قد اختلفوا فيما بينهم، فحاصروها حتى فتحوها قسرا، وأباحوها ثلاثة أيام قتلا وأسرا، وأحرقوا أكثر من ربعها، وما أصبح أحد من الروم في هذه الايام الثلاثة إلا قتيلا أو فقيرا أو مكبولا أو أسيرا، ولجأ عامة من بقي منها إلى كنيستها العظمى المسماة بأياصوفيا، فقصدهم الفرنج فخرج إليهم القسيسون بالاناجيل ليتوسلوا إليهم ويتلوا ما فيها عليهم، فما التفتوا إلى شئ من ذلك، بل قتلوهم أجمعين أكتعين أبصعين.
وأخذوا ما كان في الكنيسة من الحلى والاذهاب والاموال التي لا تحصى ولا تعد، وأخذوا ما كان على الصلبان والحيطان، والحمد لله الرحيم الرحمن، الذي ما شاء كان، ثم اقترع ملوك الفرنج وكانوا ثلاثة وهم دوق البنادقة، وكان شيخا أعمى يقاد فرسه، ومركيس الافرنسيس وكندا بلند، وكان أكثرهم عددا وعددا.
فخرجت
__________
(1) في الوافي بالوفيات 2 / 116: وما اخترت رأى الشافعي تدينا.
(2) في الوافي: فافطن لما أنت، وفي وفيات الاعيان: لما أنا.
(*)

(13/44)


القرعة له ثلاث مرات، فولوه ملك القسطنطينية وأخذ الملكان الآخران بعض البلاد (1)، وتحول الملك من الروم إلى الفرنج بالقسطنطينية في هذه السنة ولم يبق بأيدي الروم هنالك إلا ما وراء الخليج، استحوذ عليه رجل من الروم يقال له تسكرى (2)، ولم يزل مالكا لتلك الناحية حتى توفي.
ثم إن الفرنج قصدوا بلاد الشام وقد تقووا بملكهم القسطنطينية فنزلوا عكا وأغاروا على كثير من بلاد الاسلام من ناحية الغور وتلك الاراضي، فقتلوا وسبوا، فنهض إليهم العادل وكان بدمشق، واستدعى الجيوش المصرية والشرقية ونازلهم بالقرب من عكا، فكان بينهم قتال شديد وحصار عظيم، ثم وقع الصلح بينهم والهدنة وأطلق لهم شيئا من البلاد (3) فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها جرت حروب كثيرة بين الخوارزمية والغورية بالمشرق يطول ذكرها.
وفيها تحارب صاحب الموصل نور الدين وصاحب سنجار قطب الدين وساعد الاشرف بن العادل القطب، ثم اصطلحوا وتزوج الاشرف أخت نور الدين، وهي الاتابكية بنت عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واقفة الاتابكية التي بالسفح، وبها تربتها.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بمصر والشام والجزيرة وقبرص وغيرها من البلاد.
قاله ابن الاثير في كامله.
وفيها تغلب رجل من التجار يقال له محمود بن محمد الحميري على بعض بلاد حضرموت ظفار وغيرها، واستمرت أيامه إلى سنة تسع عشرة وستمائة وما بعدها.
وفي جمادى الاولى منها عقد مجلس لقاضي القضاة ببغداد وهو أبو الحسن علي بن عبد الله بن سليمان الجيلي بدار الوزير، وثبت عليه محضر بأنه يتناول الرشا فعزل في ذلك المجلس وفسق ونزعت الطرحة عن رأسه، وكانت مدة ولايته سنتين وثلاثة أشهر.
وفيها كانت وفاة الملك ركن الدين بن قلج أرسلان، كان ينسب إلى اعتقاد الفلاسفة، وكان كهفا لمن ينسب إلى ذلك، وملجأ لهم، وظهر منه قبل موته تجهرم عظيم، وذلك أنه حاصر أخاه شقيقه - وكان صاحب أنكورية، وتسمى أيضا أنقرة - مدة سنين حتى ضيق عليه الاقوات بها فسلمها إليه قسرا، على أن يعطيه بعض البلاد.
فلما تمكن منه ومن أولاده أرسل إليهم من قتلهم غدرا وخديعة ومكرا فلم ينظر بعد ذلك إلا خمسة أيام فضربه الله تعالى بالقولنج سبعة أيام ومات (فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين) [ الدخان: 29 ] وقام بالملك من بعده ولده
__________
(1) أخذ دون البنادقة الجزائر البحرية مثل جزيرة اقريطش ورودس وغيرهما.
ويكون لمركيس الافرنسيين البلاد التي هي شرقي الخليج مثل أزنيق ولاذيق.
(الكامل 12 / 192).
(2) في ابن الاثير: لشكري.
(3) نزل لهم العادل عن جميع المناصفات في الصيدا والرملة، وأعطاهم ناصرة وغيرها.
(الكامل 12 / 195 وابن خلدون 5 / 340).
(*)

(13/45)


أفلح (1) أرسلان، وكان صغيرا فبقي سنة واحدة، ثم نزع منه الملك وصار إلى عمه كنخسرو.
وفيها قتل خلق كثير من الباطنية بواسط.
قال ابن الاثير: في رجب منها اجتمع جماعة من الصوفية برباط ببغداد في سماع فأنشدهم، وهو الجمال الحلي: أعاذلتي أقصري * كفى بمشيبي عذل شباب كأن لم يكن * وشيب كأن لم يزل وبثي (2) ليال الوصا * ل أواخرها والاول وصفرة لون المحب * ب عند استماع الغزل لئن عاد عتبي لكم (3) * حلا لي العيش واتصل فلست أبالي بما نالني * ولست أبالي بأهل ومل قال فتحرك الصوفية على العادة فتواجد من بينهم رجل يقال له أحمد الرازي فخر مغشيا عليه، فحركوه فإذا هو ميت.
قال: وكان رجلا صالحا، وقال ابن الساعي كان شيخا صالحا صحب الصدر عبد الرحيم شيخ الشيوخ فشهد الناس جنازته، ودفن بباب إبرز.
وفيها توفي من الاعيان: أبو القاسم بهاء الدين الحافظ ابن الحافظ أبو القاسم علي بن هبة الله بن عساكر، كان مولده في سنة سبع وعشرين وخمسمائة، أسمعه أبوه الكثير، وشارك أباه في أكثر مشايخه، وكتب تاريخ أبيه مرتين بخطه، وكتب الكثير وأسمع وصنف كتبا عدة، وخلف أباه في إسماع الحديث بالجامع الاموي، ودار الحديث النورية.
مات يوم الخميس ثامن صفر ودفن بعد العصر على أبيه بمقابر باب الصغير شرقي قبور الصحابة خارج الحظيرة.
الحافظ عبد الغني المقدسي ابن عبد الواحد بن علي بن سرور الحافظ أبو محمد المقدسي، صاحب التصانيف المشهورة، من ذلك الكمال في أسماء الرجال، والاحكام الكبرى والصغرى وغير ذلك، ولد بجماعيل في
ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وهو أسن من عميه الامام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، والشيخ أبي عمر، بأربعة أشهر، وكان قدومهما مع أهلهما من بيت
__________
(1) في الكامل: قلج.
وفي تاريخ أبي الفداء: قليج.
(2) في الكامل: وحق.
(3) في الكامل 12 / 198: لئن عاد عيشي بكم.
(*)

(13/46)


المقدس إلى مسجد أبي صالح، خارج باب شرقي أولا، ثم انتقلوا إلى السفح فعرفت محلة الصالحية بهم، فقيل لها الصالحية، فسكنوا الدير، وقرأ الحافظ عبد الغني القرآن وسمع الحديث وارتحل هو والموفق إلى بغداد سنة ستين وخمسمائة، فأنزلهما الشيخ عبد القادر عنده في المدرسة، وكان لا يترك أحدا ينزل عنده، ولكن توسم فيهما الخير والنجابة والصلاح فأكرمهما وأسمعهما، ثم توفي بعد مقدمهما بخمسين ليلة رحمه الله، وكان ميل عبد الغني إلى الحديث وأسماء الرجال، وميل الموفق إلى الفقه واشتغلا على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وعلى الشيخ أبي الفتح بن المنى، ثم قدما دمشق بعد أربع سنين فدخل عبد الغني إلى مصر واسكندرية، ثم عاد إلى دمشق، ثم ارتحل إلى الجزيرة وبغداد، ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها الكثير، ووقف على مصنف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة، قلت: وهو عندي بخط أبي نعيم.
فأخذ في مناقشته في أماكن من الكتاب في مائة وتسعين موضعا، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فبغضوه وأخرجوه منها مختفيا في إزار.
ولما دخل في طريقه إلى الموصل سمع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفية بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضا خائفا يترقب، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلة من جامع دمشق، فاجتمع الناس عليه وإليه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة، فحصل له قبول من الناس جدا، فحسده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجهزوا الناصح الحنبلي، فتكلم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهر بصوته مهما أمكنه، حتى يشوش عليه، فحول عبد الغني ميعاده إلى بعد العصر فذكر يوما عقيدته على الكرسي فثار
عليه القاضي ابن الزكي، وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسا في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين.
وتكلموا معه في مسألة العلو ومسألة النزول، ومسألة الحرف والصوت، وطال الكلام وظهر عليهم بالحجة، فقال له برغش نائب القلعة: كل هؤلاء على الضلالة وأنت على الحق ؟ [ قال: نعم ]، فغضب برغش من ذلك وأمره بالخروج من البلد، فارتحل بعد ثلاث إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون فكان يقرأ الحديث بها فثار عليه الفقهاء بمصر أيضا وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الاول من هذه السنة، وله سبع وخمسون سنة، ودفن بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق رحمهما الله.
قال السبط: كان عبد الغني ورعا زاهدا عابدا، يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة كورد الامام أحمد، ويقول الليل ويصوم عامة السنة، وكان كريما جوادا لا يدخر شيئا، ويتصدق على الارامل والايتام حيث لا يراه أحد، وكان يرقع ثوبه ويؤثر بثمن الجديد، وكان قد ضعف بصره من كثرة المطالعة والبكاء وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ.
قلت: وقد هذب شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي كتابه الكمال في أسماء الرجال - رجال الكتب الستة - بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة، نحوا من ألف موضع، وذلك الامام المزي الذي لا يمارى ولا يجارى، وكتابه التهذيب لم يسبق إلى مثله،

(13/47)


ولا يلحق في شكله فرحمهما الله، فلقد كانا نادرين في زمانهما في أسماء الرجال حفظا وإتقانا وسماعا وإسماعا وسردا للمتون وأسماء الرجال، والحاسد لا يفلح ولا ينال منالا طائلا.
قال ابن الاثير: وفيها توفي: أبو الفتوح أسعد بن محمود العجلي صاحب تتمة التتمة أسعد بن أبي الفضل بن محمود بن خلف العجلي الفقيه الشافعي الاصبهاني الواعظ منتخب الدين، سمع الحديث وتفقه وبرع وصنف تتمة التتمة لابي سعد الهروي، كان زاهدا عابدا، وله شرح مشكلات الوسيط والوجيز، توفي في صفر سنة ستمائة.
البناني الشاعر أبو عبد الله محمد بن المهنا الشاعر المعروف بالبناني، مدح الخلفاء والوزراء وغيرهم، ومدح وكبر وعلت سنه، وكان رقيق الشعر ظريفه قال: ظلما ترى مغرما في الحب تزجره * وغيره بالهوى أمسيت تنكره يا عاذل الصب لو عانيت قاتله * لو جنة وعذار كنت تعذره أفدى الذي بسحر عينيه يعلمني * إذا تصدى لقتلي كيف أسحره يستمتع الليل في نوم وأسهره * إلى الصباح وينساني وأذكره أبو سعيد الحسن بن خلد ابن المبارك النصراني المازداني الملقب بالوحيد، اشتغل في حداثته بعلم الاوائل وأتقنه وكانت له يد طولي في الشعر الرائق، فمن ذلك قوله قاتله الله: أتاني كتاب أنشأته أنامل * حوت أبحرا من فيضها يغرق البحر فوا عجبا أني التوت فوق طرسه * وما عودت بالقبض أنمله العشر وله أيضا: لقد أثرت صدغاه في لون خده * ولاحا كفئ من وراء زجاج ترى عسكرا للروم في الريح مذ بدت * كطائفة تسعى ليوم هياج أم الصبح بالليل البهيم موشح * حكى آبنوسا في صحيفة عاج لقد غار صدغاه على ورد خده * فسيجه من شعره بسياج الطاووسي صاحب الطريقة.

(13/48)


العراقي محمد بن العراقي ركن الدين أبو الفضل القزويني، ثم الهمداني، المعروف بالطاووسي، كان بارعا في علم الخلاف والجدل والمناظرة، أخذ علم ذلك عن رضي الدين النيسابوري الحنفي، وصنف في ذلك
ثلاث تعاليق قال ابن خلكان: أحسنهن الوسطى، وكانت إليه الرحلة بهمدان، وقد بنى له بعض الحجبة بها مدرسة تعرف بالحاجبية، ويقال إنه منسوب إلى طاووس بن كيسان التابعي فالله أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وستمائة فيها عزل الخليفة ولده محمد الملقب بالظاهر عن ولاية العهد بعد ما خطب له سبع (1) عشرة سنة، وولى العهد ولده الآخر عليا، فمات علي عن قريب فعاد الامر إلى الظاهر، فبويع له بالخلافة بعد أبيه الناصر كما سيأتي في سنة ثلاث وعشرين وستمائة.
وفيها وقع حريق عظيم بدار الخلافة في خزائن السلاح، فاحترق من ذلك شئ كثير من السلاح والامتعة والمساكن ما يقارب قيمته أربعة آلاف ألف دينار، وشاع خبر هذا الحريق في الناس، فأرسلت الملوك من سائر الاقطار هدايا أسلحة إلى الخليفة عوضا عن ذلك وفوقه من ذلك شيئا كثيرا.
وفيها عاثت الكرج ببلاد المسلمين فقتلوا خلقا، وأسروا آخرين.
وفيها وقعت الحرب بين أمير مكة قتادة الحسيني، وبين أمير المدينة سالم بن قاسم الحسيني، وكان قتادة قد قصد المدينة فحصر سالما فيها، فركب إليه سالم بعد ما صلى عند الحجرة فاستنصر الله عليه، ثم برز إليه فكسره وساق وراءه إلى مكة فحصره بها، ثم إن قتادة أرسل إلى أمراء سالم فأفسدهم عليه فكر سالم راجعا إلى المدينة سالما.
وفيها ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج بلاد الروم واستلبها من ابن أخيه، واستقر هو بها وعظم شأنه وقويت شوكته، وكثرت عساكره وأطاعه الامراء وأصحاب الاطراف، وخطب له الافضل بن صلاح الدين بسميساط، وسار إلى خدمته.
واتفق في هذه السنة أن رجلا ببغدا نزل إلى دجلة يسبح فيها وأعطى ثيابه لغلامه فغرق في الماء فوجد في ورقة بعمامته هذه الابيات: يا أيها الناس كان لي أمل * قصر بي عن بلوغه الاجل فليتق الله ربه رجل * أمكنه في حياته العمل
ما أنا وحدي بفناء بيت * يرى كل إلى مثله سينتقل
__________
(1) في الاصل: سبعة.
(*)

(13/49)


وفيها توفي من الاعيان: أبو الحسن علي (1) بن عنتر بن ثابت الحلي المعروف بشميم، كان شيخا أديبا لغويا شاعرا جمع من شعره حماسة كان يفضلها على حماسة أبي تمام، وله خمريات يزعم أنها أفحل من التي لابي نواس.
قال أبو شامة في الذيل: كان قليل الدين ذا حماقة ورقاعة وخلاعة، وله حماسة ورسائل.
قال ابن الساعي: قدم بغداد فأخذ النحو عن ابن الخشاب، حصل منه طرفا صالحا، ومن اللغة وأشعار العرب، ثم أقام بالموصل حتى توفي بها.
ومن شعره: لا تسرحن الطرف في مقل المها * فمصارع الآجال في الآمال كم نظرة أردت وما أخرت * وكم يد قبلت أوان قتال سنحت وما سمحت بتسليمة * وأغلال التحية فعلة المحتال وله في التجنيس: ليت من طول بالش * أم ثواه وثوا به جعل العود إلى الزو * راء من بعض ثوابه أترى يوطئني الده * ر ثرى مسك ترابه وأراني نور عيني * موطئا لي وثرى به وله أيضا في الخمر وغيره: أبو نصر محمد بن سعد الله (2) ابن نصر بن سعيد الارتاحي، كان سخيا بهيا واعظا حنبليا فاضلا شاعرا مجيدا وله: نفس الفتى إن أصلحت أحوالها * كان إلى نيل المنى أحوى لها
وإن تراها سددت أقوالها * كان على حمل العلى أقوى لها فإن تبدت حال من لها لها * في قبره عند البلى لها لها
__________
(1) في الوفيات 3 / 339 ومعجم الادباء 13 / 50 وغيرهما: علي بن الحسن بن عنتر.
(2) في النجوم الزاهرة: محمد بن أحمد بن حامد أبو عبد الله.
وفي شذرات الذهب: أبو محمد محمد بن حمد بن حامد بن مفرج بن غياث الانصاري المصري.
(*)

(13/50)


أبو العباس أحمد بن مسعود ابن محمد القرطبي الخزرجي، كان إماما في التفسير والفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والعروض والطب، وله تصانيف حسان، وشعر رائق منه قوله: وفي الوجنات ما في الروض لكن * لرونق زهرها معنى عجيب وأعجب ما التعجب منه * أنى لتيار تحمله عصيب (1) أبو الفداء إسماعيل بن برتعس السنجاري مولى صاحبها عماد الدين زنكي بن مودود، وكان جنديا حسن الصورة مليح النظم كثير الادب ومن شعره ما كتب به إلى الاشرف موسى بن العادل يعزيه في أخ له اسمه يوسف: دموع المعالي والمكارم أذرفت * وربع العلى قاع لفقدك صفصف غدا الجود والمعروف في اللحد ثاويا * غداة ثوى في ذلك اللحد يوسف متى خطفت يد المنية روحه * وقد كان للارواح بالبيض يخطف سقته ليالي الدهر كأس حمامها * وكان بسقي الموت في الحرب يعرف فوا حسرتا لو ينفع الموت حسرة * ووا أسفا لو كان يجدي التأسف وكان على الارزاء نفسي قوية * ولكنها عن حمل ذا الرزء تضعف أبو الفضل بن الياس بن جامع الاربلي تفقه بالنظامية وسمع الحديث، وصنف التاريخ وغيره، وتفرد بحسن كتابة الشروط، وله
فضل ونظم، فمن شعره: أممرض قلبي، ما لهجرك آخر ؟ * ومسهر طرفي، هل خيالك زائر ؟ ومستعذب التعذيب جورا بصده * أما لك في شرع المحبة زاجر ؟ هنيئا لك القلب الذي قد وقفته * على ذكر أيامي وأنت مسافر فلا فارق الحزن المبرح خاطري * لبعدك حتى يجمع الشمل قادر فإن مت فالتسليم مني عليكم * يعاودكم ما كبر الله ذاكر أبو السعادات الحلي التاجر البغدادي الرافضي، كان في كل جمعة يلبس لامة الحرب ويقف خلف باب داره،
__________
(1) كذا بالاصل، والبيت مضطرب.
(*)

(13/51)


والباب مجاف عليه، والناس في صلاة الجمعة، وهو ينتظر أن يخرج صاحب الزمان من سرداب سامرا - يعني محمد بن الحسن العسكري - ليميل بسيفه في الناس نصرة للمهدي.
أبو غالب بن كمنونة اليهودي الكاتب، كان يزور على خط ابن مقلة من قوة خطه، توفي لعنه الله بمطمورة واسط، ذكره ابن الساعي: في تاريخه.
ثم دخلت سنة ثنتين وستمائة فيها وقعت حرب عظيمة بين شهاب الدين محمد بن سام الغوري، صاحب غزنة، وبين بني بوكر (1) أصحاب الجبل الجودي، وكانوا قد ارتدوا عن الاسلام فقاتلهم وكسرهم وغنم منهم شيئا كثيرا لا يعد ولا يوصف، فاتبعه بعضهم حتى قتله غيلة في ليلة مستهل شعبان منها بعد العشاء، وكان رحمه الله من أجود الملوك سيرة وأعقلهم وأثبتهم في الحرب، ولما قتل كان في صحبته فخر الدين الرازي، وكان يجلس للوعظ بحضرة الملك ويعظه، وكان السلطان يبكي حين يقول في آخر مجلسه يا سلطان سلطانك لا يبقى، ولا يبقى الرازي أيضا وإن مردنا جميعا إلى الله، وحين
قتل السلطان اتهم الرازي بعض الخاصكية بقتله، فخاف من ذلك والتجأ إلى الوزير مؤيد الملك بن خواجا، فسيره إلى حيث يأمن وتملك غزنة بعده أحد مماليكه تاج الدر (2)، وجرت بعد ذلك خطوب يطول ذكرها، قد استقصاها ابن الاثير وابن الساعي.
وفيها أغارت الكرج على بلاد المسلمين فوصلوا إلى أخلاط فقتلوا وسبوا وقاتلهم المقاتلة والعامة.
وفيها سار صاحب إربل مظفر الدين كوكري (3) وصحبته صاحب مراغة لقتال ملك أذبيجان، وهو أبو بكر بن البهلول، وذلك لنكوله عن قتال الكرج وإقباله على السكر ليلا ونهارا، فلم يقدروا عليه، ثم إنه تزوج في هذه السنة بنت ملك الكرج، فانكف شرهم عنه.
قال ابن الاثير: وكان كما يقال: أغمد سيفه وسل أيره.
وفيها استوزر الخليفة نصير الدين ناصر بن مهدي ناصر العلوي الحسني وخلع عليه بالوزارة وضربت الطبول بين يديه وعلى بابه في أوقات الصلوات.
وفيها أغار صاحب بلاد الارمن وهو ابن لاون على بلاد حلب فقتل وسبى ونهب، فخرج إليه الملك الظاهر غازي بن الناصر فهرب ابن لاون بين يديه، فهدم الظاهر قلعة
__________
(1) في الكامل وتاريخ أبي الفداء: كوكر.
(2) في ابن الاثير: تاج الدين الدز.
وفي تاريخ أبي الفداء: تاج الدين يلدز.
(3) في تاريخ ابن الاثير: كوكبري.
(*)

(13/52)


كان قد بناها ودكها إلى الارض.
وفي شعبان منها هدمت القنطرة الرومانية عند الباب الشرقي، ونشرت حجارتها ليبلط بها الجامع الاموي بسفارة الوزير صفي الدين بن شكر، وزير العادل، وكمل تبليطه في سنة أربع وستمائة.
وفيها توفي من الاعيان: شرف الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي جمال الاسلام الشهرزوري، بمدينة حمص، وقد كان أخرج إليها من دمشق، وكان قبل ذلك مدرسا بالامينية والحلقة بالجامع تجاه البرادة، وكان لديه علم جيد
بالمذهب والخلاف.
التقي عيسى بن يوسف ابن أحمد العراقي الضرير، مدرس الامينية أيضا، كان يسكن المنارة الغربية، وكان عنده شاب يخدمه ويقود به فعدم للشيخ دراهم فاتهم هذا الشاب بها فلم يثبت له عنده شيئا، واتهم الشيخ عيسى هذا بأنه يلوط به، ولم يكن يظن الناس أن عنده من المال شئ، فضاع المال واتهم عرضه، فأصبح يوم الجمعة السابع من ذي القعدة مشنوقا ببيته بالمأذنة الغربية، فامتنع الناس من الصلاة عليه لكونه قتل نفسه، فتقدم الشيخ فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر فصلى عليه، فائتم به بعض الناس قال أبو شامة: وإنما حمله على ما فعله ذهاب ماله والوقوع في عرضه، قال وقد جرى لي أخت هذه القضية فعصمني الله سبحانه بفضله، قال وقد درس بعده في الامينية الجمال المصري وكيل بيت المال.
أبو الغنائم المركيسهلار البغدادي كان يخدم مع عز الدين نجاح السراي، وحصل أموالا جزيلة، كان كلما تهيأ له مال اشترى به ملكا وكتبه باسم صاحب له يعتمد عليه، فلما حضرته الوفاة أوصى ذلك الرجل أن يتولى أولاده وينفق عليهم من ميراثه مما تركه لهم، فمرض الموصى إليه بعد قليل فاستدعى الشهود ليشهدهم على نفسه أن ما في يده لورثة أبي الغنائم، فتمادى ورثته بإحضار الشهود وطولوا عليه وأخذته سكتة فمات فاستولى ورثته على تلك الاموال والاملاك، ولم يقضوا أولاد أبي الغنائم منها شيئا مما ترك لهم.

(13/53)


أبو الحسن علي بن سعاد الفارسي (1) تفقه ببغداد وأعاد بالنظامية وناب في تدريسها واستقل بتدريس المدرسة التي أنشأتها أم الخليفة وأزيد على نيابة القضاء عن أبي طالب البخاري فامتنع فألزم به فباشره قليلا، ثم دخل يوما إلى مسجد فلبس على رأسه مئزر صوف، وأمر الوكلاء والجلاوذة أن ينصرفوا عنه، وأشهد على
نفسه بعزلها عن نيابة القضاء، واستمر على الاعادة والتدريس رحمه الله.
وفي يوم الجمعة العشرين من ربيع الاول توفيت: الخاتون أم السلطان الملك المعظم عيسى بن العادل، فدفنت بالقبة بالمدرسة المعظمية بسفح قاسيون (2).
الامير مجير الدين طاشتكين المستنجدي أمير الحاج وزعيم بلاد خوزستان، كان شيخا خيرا حسن السيرة كثير العبادة، غاليا في التشيع، توفي بتستر ثاني جمادى الآخرة وحمل تابوته إلى الكوفة فدفن بمشهد علي لوصيته بذلك، هكذا ترجمه ابن الساعي في تاريخه، وذكر أبو شامة في الذيل: أنه طاشتكين بن عبد الله المقتفوي أمير الحاج، حج بالناس ستا وعشرين سنة، كان يكون في الحجاز كأنه ملك، وقد رماه الوزير ابن يونس بأنه يكاتب صلاح الدين فحبسه الخليفة، ثم تبين له بطلان ما ذكر عنه فأطلقه وأعطاه خوزستان ثم أعاده إلى إمرة الحج، وكانت الحلة الشيعية إقطاعه، وكان شجاعا جوادا سمحا قليل الكلام، يمضي عليه الاسبوع لا يتكلم فيه بكلمة، وكان فيه حلم واحتمال، استغاث به رجل على بعض نوابه فلم يرد عليه، فقال له الرجل المستغيث: أحمار أنت ؟ فقال: لا.
وفيه يقول ابن التعاويذي: وأمير على البلاد مولى * لا يجيب الشاكي بغير السكوت كلما زاد رفعة حطنا الل * ه بتفيله إلى البهموت وقد سرق فراشه حياجبة له فأرادوا أن يستقروه عليها، وكان قد رآه الامير طاشتكين حين أخذها فقال: لا تعاقبوا أحدا، قد أخذها من لا يردها، ورآه حين أخذها من لا ينم عليه، وقد كان بلغ من العمر تسعين سنة، واتفق أنه استأجر أرضا مدة ثلاثمائة سنة للوقف، فقال فيه بعض
__________
(1) في تاريخ ابن الاثير: علي بن علي بن سعادة الفارقي.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: قايسون.
(*)

(13/54)


المضحكين: هذا لا يوقن بالموت، عمره تسعون سنة واستأجر أرضا ثلاثمائة سنة، فاستضحك القوم والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة فيها جرت أمور طويلة بالمشرق بين الغورية والخوارزمية، وملكهم خوارزم شاه بن تكش ببلاد الطالقان.
وفيها ولى الخليفة القضاء ببغداد لعبد الله بن الدامغاني.
وفيها قبض الخليفة على عبد السلام بن عبد الوهاب بن الشيخ عبد القادر الجيلاني، بسبب فسقه وفجوره، وأحرقت كتبه وأمواله قبل ذلك لما فيها من كتب الفلاسفة، وعلوم الاوائل، وأصبح يستعطي بين الناس، وهذا بخطيئة قيامه على أبي الفرج بن الجوزي، فإنه هو الذي كان وشى به إلى الوزير ابن القصاب حتى أحرقت بعض كتب ابن الجوزي، وختم على بقيتها، ونفي إلى واسط خمس سنين، والناس يقولون: في الله كفاية وفي القرآن، وجزاء سيئة سيئة مثلها، والصوفية يقولون: الطريق يأخذ.
والاطباء يقولون الطبيعة مكافئة.
وفيها نازلت الفرنج حمص فقاتلهم ملكها أسد الدين شيركوه، وأعانه بالمدد الملك الظاهر صاحب حلب فكف الله شرهم.
وفيها اجتمع شابان (1) ببغداد على الخمر فضرب أحدهما الآخر بسكين فقتله وهرب، فأخذ فقتل فوجد معه (2) رقعة فيها بيتان من نظمه أمر أن تجعل بين أكفانه: قدمت على الكريم بغير زاد * من الاعمال بالقلب السليم وسوء الظن أن تعتد زادا * إذا كان القدوم على كريم وفيها توفي من الاعيان: الفقيه أبو منصور عبد الرحمن بن الحسين بن النعمان النبلي، الملقب بالقاضي شريح لذكائه وفضله وبرعاته وعقله وكمال أخلاقه، ولي قضاء بلده ثم قدم بغداد فندب إلى المناصب الكبار فأباها، فحلف عليه الامير طاشتكين أن يعمل عنده في الكتابة فخدمه عشرين سنة، ثم وشى به الوزير ابن مهدي إلى
المهدي فحبسه في دار طاشتكين إلى أن مات في هذه السنة، ثم إن الوزير الواشي عما قريب حبس بها أيضا، وهذا مما نحن فيه من قوله: كما تدين تدان.
__________
(1) قال في النجوم الزاهرة 6 / 193: أحدهما أبو القاسم أحمد بن المقرئ صاحب ديوان الخليفة.
داعب ابن الامير أصبه، وكان شابا جميلا فرماه بسكين فقتله.
فسلمه الخليفة إلى أولاد ابن أصبه فقتلوه.
قال ابن الاثير: وعمر كل واحد منهما يقارب عشرين سنة (الكامل 12 / 257).
(2) قال ابن الاثير إنه طلب دواة وورقة بيضاء وكتب البيتين لما أرادوا قتله.
(12 / 257).
(*)

(13/55)


عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر كان ثقة عابدا زاهدا ورعا، لم يكن في أولاد الشيخ عبد القادر الجيلاني خير منه، لم يدخل فيما دخلوا فيه من المناصب والولايات، بل كان متقللا من الدنيا مقبلا على أمر الآخرة، وقد سمع الكثير وسمع عليه أيضا.
أبو الحزم مكي بن زيان (1) ابن شبة بن صالح الماكسيني (2)، من أعمال سنجار، ثم الموصلي النحوي، قدم بغداد وأخذ على ابن الخشاب وابن القصار، والكمال الانباري، وقدم الشام فانتفع به خلق كثير منهم الشيخ علم الدين السخاوي وغيره وكان ضريرا، وكان يتعصب لابي العلاء المعري لما بينهما من القدر المشترك في الادب والعمى، ومن شعره: إذا احتاج النوال إلى شفيع * فلا تقبله تصبح قرير عين إذا عيف النوال لفرد من * فأولى أن يعاف لمنتين ومن شعره أيضا: نفسي فداء لاغيد غنج * قال لنا الحق حين ودعنا من ود شيئا من حبه طمعا * في قتله للوداع ودعنا إقبال الخادم جمال الدين أحد خدام صلاح الدين، واقف الاقباليتين الشافعية والحنفية، وكانتا دارين
فجعلهما مدرستين، ووقف عليهما وقفا الكبيرة للشافعية والصغيرة للحنفية، وعليها ثلث الوقف.
توفي بالقدس رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع وستمائة فيها رجع الحجاج إلى العراق وهم يدعون الله ويشكون إليه ما لقوا من صدر جهان البخاري الحنفي، الذي كان قدم بغداد في رسالة فاحتفل به الخليفة، وخرج إلى الحج في هذه السنة،
__________
(1) في وفيات الاعيان 5 / 278 وأنباه الرواة 3 / 320 والشذرات 5 / 11: ديان.
(2) الماكسيني: نسبة إلى ماكسين: وهي بليدة من أعمال الجزيرة الفراتية على نهر الخابور ورغم صغرها تشابه المدن في حسن بنائها.
(*)

(13/56)


فضيق على الناس في المياه والميرة، فمات بسبب ذلك ستة آلاف من حجيج العراق، وكان فيما ذكروا يأمر غلمانه فتسبق إلى المناهل فيحجزون على المياه ويأخذون الماء فيرشونه حول خيمته في قيظ الحجاز ويسقونه للبقولات التي كانت تحمل معه في ترابها، ويمنعون منه الناس وابن السبيل، الآمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، فلما رجع مع الناس لعنته العامة ولم تحتفل به الخاصة ولا أكرمه الخليفة ولا أرسل إليه أحدا، وخرج من بغداد والعامة من ورائه يرجمونه ويلعنونه، وسماه الناس صدر جهنم، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله أن يزيدنا شفقة ورحمة لعباده، فإنه إنما يرحم من عباده الرحماء.
وفيها قبض الخليفة على وزيره ابن مهدي العلوي، وذلك أنه نسب إليه أنه يروم الخلافة، وقيل غير ذلك من الاسباب، والمقصود أنه حبس بدار طاشتكين حتى مات بها، وكان جبارا عنيدا، حتى قال بعضهم فيه: خليلي قولا للخليفة وانصحا (1) * توق وقيت السوء ما أنت صانع وزيرك هذا بين أمرين فيهما * صنيعك يا خير البرية ضائع فإن كان حقا من سلالة حيدر (2) * فهذا وزير في الخلافة طامع وإن كان فيما يدعي غير صادق * فأضيع ما كانت لديه الصنائع
وقيل: إنه كان عفيفا عن الاموال حسن السيرة جيد المباشرة فالله أعلم بحاله.
وفي رمضان منها رتب الخليفة عشرين دارا للضيافة يفطر فيها الصائمون من الفقراء، يطبخ لهم في كل يوم فيها طعام كثير ويحمل إليها أيضا من الخبز النقي والحلواء شئ كثير، وهذا الصنيع يشبه ما كانت قريش تفعله من الرفادة في زمن الحج، وكان يتولى ذلك عمه أبو طالب، كما كان العباس يتولى السقاية، وقد كانت فيهم السفارة واللواء والندوة له، كما تقدم بيان ذلك في مواضعه، وقد صارت هذه المناصب كلها على أتم الاحوال في الخلفاء العباسيين.
وفيها أرسل الخليفة الشيخ شهاب الدين الشهرزوري وفي صحبته سنقر السلحدار إلى الملك العادل بالخلعة السنية، وفيها الطوق والسواران، وإلى جميع أولاده بالخلع أيضا.
وفيها ملك الاوحد بن العادل صاحب ميافارقين مدينة خلاط بعد قتل صاحبها شرف الدين بكتمر، وكان شابا جميل الصورة جدا، قتله بعض مماليكهم (3) ثم قتل القاتل أيضا، فخلا البلد عن ملك فأخذها الا وحد بن العادل.
وفيها ملك خوارزم شاه محمد بن تكش بلاد ما وراء النهر بعد حروب طويلة.
اتفق له في بعض
__________
(1) صدره في ابن الاثير: ألا مبلغ عني الخليفة أحمدا.
(2) في ابن الاثير 12 / 276: أحمد.
(3) انظر حاشية 1 صفحة 10 فيمن توفي من الاعيان في سنة 589 ه.
أقول وبعد مقتل هزار ديناري ملك بلبان خلاط وقد قتله ابن قلج ارسلان غدرا وطمعا في خلاط.
لكن أهلها منعوه منها وأرسلوا يدعون نجم الدين ليملكوه فحضر عندهم وملك خلاط.
(*)

(13/57)


المواقف أمر عجيب، وهو أن المسلمين انهزموا عن خوارزم شاه وبقي معه عصابة قليلة من أصحابه، فقتل منهم كفار الخطا من قتلوا، وأسروا خلقا منهم، وكان السلطان خوارزم شاه في جملة من أسروا، أسره رجل وهو لا يشعر به ولا يدري أنه الملك، وأسر معه أميرا يقال له مسعود، فلما وقع ذلك وتراجعت العساكر الاسلامية إلى مقرها فقدوا السلطان فاختبطوا فيما بينهم واختلفوا اختلافا كثيرا وانزعجت خراسان بكمالها، ومن الناس من حلف أن السلطان قد قتل، وأما ما كان من أمر
السلطان وذاك الامير فقال الامير للسلطان: من المصلحة أن تترك اسم الملك عنك في هذه الحالة، وتظهر أنك غلام لي، فقبل منه ما قال وأشار به، ثم جعل الملك يخدم ذلك الامير يلبسه ثيابه ويسقيه الماء ويصنع له الطعام ويضعه بين يديه، ولا يألو جهدا في خدمته، فقال الذي أسرهما: إني أرى هذا يخدمك فمن أنت ؟ فقال: أنا مسعود الامير، وهذا غلامي، فقال: والله لو علم الامراء أني قد أسرت أميرا وأطلقته لاطلقتك، فقال له: إني إنما أخشى على أهلي، فإنهم يظنون أني قد قتلت ويقيمون المأتم، فإن رأيت أن تفاديني على مال وترسل من يقبضه منهم فعلت خيرا، فقال: نعم، فعين رجلا من أصحابه فقال له الامير مسعود: إن أهلي لا يعرفون هذا ولكن إن رأيت أن أرسل معه غلامي هذا فعلت ليبشرهم بحياتي فإنهم يعرفونه، ثم يسعى في تحصيل المال، فقال: نعم، فجهز معهما من يحفظهما إلى مدينة خوارزم شاه.
فلما دنوا من مدينة خوارزم سبق الملك إليها.
فلما رآه الناس فرحوا به فرحا شديدا، ودقت البشائر في سائر بلاده، وعاد الملك إلى نصابه، واستقر السرور بإيابه، وأصلح ما كان وهى من مملكته بسبب ما اشتهر من قتله، وحاصر هراة وأخذها عنوة.
وأما الذي كان قد أسره فإنه قال يوما للامير مسعود الذي يتوجه لي وينوهون به أن خوارزم شاه قد قتل، فقال: لا، هو الذي كان في أسرك، فقال له: فهلا أعلمتني به حتى كنت أرده موقرا معظما ؟ فقال: خفتك عليه، فقال: سر بنا إليه، فسارا إليه فأكرمهما إكراما زائدا، وأحسن إليهما.
وأما غدر صاحب سمرقند فإنه قتل كل من كان في أسره من الخوارزمية، حتى كان الرجل يقطع قطعتين ويعلق في السوق كما تعلق الاغنام، وعزم على قتل زوجته بنت خوارزم شاه ثم رجع عن قتلها وحبسها في قلعة وضيق عليها، فلما بلغ الخبر إلى خوارزم شاه سار إليه في الجنود فنازله وحاصر سمرقند فأخذها قهرا وقتل من أهلها نحوا من مائتي ألف، وأنزل الملك من القلعة وقتله صبرا بين يديه، ولم يترك له نسلا ولا عقبا، واستحوذ خوارزم شاه على تلك الممالك التي هنالك، وتحارب الخطا وملك التتار كشلي خان المتاخم لمملكة الصين، فكتب ملك الخطا لخوارزم شاه يستنجده على التتار ويقول: متى غلبونا خلصوا إلى بلادك، وكذا وكذا.
وكتب التتار إليه أيضا يستنصرونه على الخطا ويقولون: هؤلاء أعداؤنا وأعداؤك، فكن معنا عليهم، فكتب إلى كل من الفريقين يطيب
قلبه، وحضر الوقعة بينهم وهو متحيز عن الفريقين، وكانت الدائرة على الخطا، فهلكوا إلا القليل منهم، وغدر التتار ما كانوا عاهدوا عليه خوارزم شاه، فوقعت بينهم الوحشة الاكيدة، وتواعدوا للقتال، وخاف منهم خوارزم شاه وخرب بلادا كثيرة متاخمة لبلاد كشلي خان خوفا عليها أن يملكها،

(13/58)


ثم إن جنكيز خان خرج على كشلي خان، فاشتغل بمحاربته عن محاربة خوارزم شاه، ثم إنه وقع من الامور الغريبة ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها كثرت غارات الفرنج من طرابلس على نواحي حمص، فضعف صاحبها أسد الدين شيركوه عن مقاومتهم، فبعث إليه الظاهر صاحب حلب عسكرا قواه بهم على الفرنج، وخرج العادل من مصر في العساكر الاسلامية، وأرسل إلى جيوش الجزيرة فوافوه على عكا فحاصرها، لان القبارصة أخذوا من أسطول المسلمين قطعا فيها جماعة من المسلمين، فطلب صاحب عكا الامان والصلح على أن يرد الاسارى، فأجابه إلى ذلك، وسار العادل فنزل على بحيرة قدس قريبا من حمص، ثم سار إلى بلاد طرابلس، فأقام اثني عشر يوما يقتل ويأسر ويغنم، حتى جنح الفرنج إلى المهادنة (1)، ثم عاد إلى دمشق.
وفيها ملك صاحب آذربيجان الامير نصير (2) الدين أبو بكر بن البهلول مدينة مراغة لخلوها عن ملك قاهر، لان ملكها مات وقام بالملك بعده ولد له صغير، فدبر أمره خادم له.
وفي غرة ذي القعدة شهد محيي الدين أبو محمد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي عند قاضي القضاة أبي القاسم بن الدامغاني، فقبله وولاه حسبة جانبي بغداد، وخلع عليه خلعة سنية سوداء بطرحة كحلية (3)، وبعد عشرة أيام جلس للوعظ مكان أبيه أبي الفرج بباب درب الشريف، وحضر عنده خلق كثير.
وبعد أربعة أيام من يومئذ درس بمشهد أبي حنيفة ضياء الدين أحمد بن مسعود الركساني الحنفي، وحضر عنده الاعيان والاكابر.
وفي رمضان منها وصلت الرسل من الخليفة إلى العادل بالخلع، فلبس هو وولداه المعظم والاشرف ووزيره صفي الدين بن شكر، وغير واحد من الامراء، ودخلوا القلعة وقت صلاة الظهر من باب الحديد، وقرأ التقليد الوزير وهو قائم، وكان يوما مشهودا.
وفيها درس شرف
الدين عبد الله بن زين القضاة عبد الرحمن بالمدرسة الرواحية بدمشق.
وفيها انتقل الشيخ الخير بن البغدادي من الحنبلية إلى مذهب الشافعية، ودرس بمدرسة أم الخليفة، وحضر عنده الاكابر من سائر المذاهب.
وفيها توفي من الاعيان:
__________
(1) قال ابن خلدون 5 / 341: إن الفرنج راسلوا العادل في الصلح فلم يجبهم وأظله الشتاء، وقد عاد من طرابلس إلى قدس، فأذن لعساكر الجزيرة في العودة إلى بلادهم ثم عاد دمشق وشتى بها.
(انظر تاريخ ابن الاثير 12 / 274).
(2) في ابن الاثير: نصرة الدين.
(3) والخلعة جبة أطلس أسود بطراز مذهب وعمامة سوداء بطراز مذهب وطوق ذهب مجوهر تطوق به الملك العادل وسيف جميع قرابه ملبس ذهبا تقلد به وحصان أشهب بمركب ذهب ونشر على رأسه علم أسود مكتوب فيه بالبياض اسم الخليفة (تاريخ أبي الفداء 3 / 109).
(*)

(13/59)


الامير بنيامين بن عبد الله (1) أحد أمراء الخليفة الناصر، كان من سادات الامراء عقلا وعفة ونزاهة، سقاه بعض الكتاب من النصارى سما فمات.
وكان اسم الذي سقاه ابن ساوا، فسلمه الخليفة إلى غلمان بنيامين فشفع فيه ابن مهدي الوزير وقال: إن النصارى قد بذلوا فيه خمسين ألف دينار، فكتب الخليفة على رأس الورقة: إن الاسود أسود الغاب همتها * يوم الكريهة في المسلوب لا السلب فتسلمه غلمان بنيامين فقتلوه وحرقوه، وقبض الخليفة بعد ذلك على الوزير ابن مهدي كما تقدم.
حنبل بن عبد الله ابن الفرج بن سعادة الرصافي الحنبلي، المكبر بجامع المهدي، راوي مسند أحمد عن ابن
الحصين عن ابن المذهب عن أبي مالك عن عبد الله عن أبيه، عمر تسعين سنة وخرج من بغداد فأسمعه بإربل، واستقدمه ملوك دمشق إليها فسمع الناس بها عليه المسند، وكان المعظم يكرمه ويأكل عنده على السماط من الطيبات، فتضيبه التخمة كثيرا، لانه كان فقيرا ضيق الامعاء من قلة الاكل، خشن العيش ببغداد، وكان الكندي إذا دخل على المعظم يسأل عن حنبل فيقول المعظم هو متخوم، فيقول أطعمه العدس فيضحك المعظم، ثم أعطاه المعظم ما لا جزيلا ورده إلى بغداد فتوفي بها، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة، وكان معه ابن طبرزد، فتأخرت وفاته عنه إلى سنة سبع وستمائة.
عبد الرحمن بن عيسى ابن أبي الحسن المروزي (2) الواعظ البغدادي، سمع من ابن أبي الوقت وغيره، واشتغل على ابن الجوزي بالوعظ، ثم حدثته نفسه بمضاهاته وشمخت نفسه، واجتمع عليه طائفة من أهل باب النصيرة ثم تزوج في آخر عمره وقد قارب السبعين، فاغتسل في يوم بارد فانتفخ ذكره فمات في هذه السنة.
__________
(1) في شذرات الذهب 5 / 9: أيتمس مملوك الخليفة الناصر.
(2) في شذرات الذهب 5 / 13 البزوري: نسبة إلى قرية بزورا وهي إحدى قرى دجيل.
(*)

(13/60)


الامير زين الدين قراجا الصلاحي صاحب صرخد، كانت له دار عند باب الصغير عند قناة الزلاقة، وتربته بالسفح في قبة على جادة الطريق عند تربة ابن تميرك، وأقر العادل ولده يعقوب على صرخد.
عبد العزيز الطبيب توفي فجأة، وهو والد سعد الدين الطبيب الاشرفي، وفيه يقول ابن عنين: فراري ولا خلف الخطيب جماعة * وموت ولا عبد العزيز طبيب وفيها توفي:
العفيف بن الدرحي إمام مقصورة الحنفية الغربية بجامع بني أمية.
أبو محمد جعفر بن محمد ابن محمود بن هبة الله بن أحمد بن يوسف الاربلي، كان فاضلا في علوم كثيرة في الفقه على مذهب الشافعي، والحساب والفرائض والهندسة والادب والنحو، وما يتعلق بعلوم القرآن العزيز وغير ذلك.
ومن شعره: لا يدفع المرء ما يأتي به القدر * وفي الخطوب إذا فكرت معتبر فليس ينجي من الاقدار إن نزلت * رأي وحزم ولا خوف ولا حذر فاستعمل الصبر في كل الامور ولا * تجزع لشئ فعقبى صبرك الظفر كم مسنا عسر فصرفه ال * اله عنا وولى بعده يسر لا ييئس المرء من روح الاله فما * ييأس منه إلا عصبة كفروا إني لاعلم أن الدهر ذو دول * وأن يوميه ذا أمن وذا خطر ثم دخلت سنة خمس وستمائة في محرمها كمل بناء دار الضيافة ببغداد التي أنشأها الناصر لدين الله بالجانب الغربي منها للحجاج والمارة لهم الضيافة ما داموا نازلين بها، فإذا أراد أحدهم السفر منها زود وكسي وأغطي بعد ذلك دينارا، جزاه الله خيرا.
وفيها عاد أبو الخطاب ابن دحية الكلبي من رحلته العراقية

(13/61)


فاجتاز بالشام فاجتمع في مجلس الوزير الصفي هو والشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي شيخ اللغة والحديث، فأورد ابن دحية في كلامه حديث الشفاعة حتى انتهى إلى قول إبراهيم عليه السلام " إنما كنت خليلا من وراء وراء " بفتح اللفظتين، فقال الكندي من وراء وراء بضمهما، فقال ابن دحية للوزير ابن شكر: من هذا ؟ فقال: هذا أبو اليمن الكندي، فنال منه ابن دحية، وكان جريئا، فقال الكندي: هو من كلب ينبح كما ينبح الكلب.
قال أبو شامة: وكلتا اللفظتين
محكية، وحكى فيهما الجر أيضا.
وفيها عاد فخر الدين ابن تيمية خطيب من حران من الحج إلى بغداد وجلس بباب بدر للوعظ، مكان محيي الدين يوسف بن الجوزي، فقال في كلامه ذلك: وابن اللبون إذا ما لز في قرن * لم يستطع صولة البزل القناعيس كأنه يعرض بابن الجوزي يوسف، لكونه شابا ابن خمس وعشرين سنة والله أعلم.
وفي يوم الجمعة تاسع محرم دخل مملوك إفرنجي من باب مقصورة جامع دمشق وهو سكران وفي يده سيف مسلول، والناس جلوس ينتظرون صلاة الفجر، فمال على الناس يضربهم بسيفه فقتل اثنين أو ثلاثة، وضرب المنبر بسيفه فانكسر سيفه فأخذ وأودع المارستان، وشنق في يومه ذلك على جسر اللبادين.
وفيها عاد الشيخ شهاب الدين السهروردي من دمشق بهدايا الملك العادل فتلقاه الجيش ومعه أموال كثيرة أيضا لنفسه، وكان قبل ذلك فقيرا زاهدا، فلما عاد منع من الوعظ وأخذت منه الربط التي يباشرها، ووكل إلى ما بيده من الاموال، فشرع في تفريقها على الفقراء والمساكين، فاستغنى منه خلق كثير، فقال المحيي ابن الجوزي في مجلس وعظه: لا حاجة بالرجل يأخذ أموالا من غير حقها ويصرفها إلى من يستحقها، ولو ترك على ما كان تركها أولى به من تناولها، وإنما أراد أن ترتفع منزلته ببذلها.
ويعود على حاله كما كان مباشره لما بذلها، فليحذر العبد الدنيا فإنها خداعة غرارة تسترق فحول العلماء والعباد، وقد وقع ابن الجوزي فيما بعد فيما وقع فيه السهروردي وأعظم.
وفيها قصدت الفرنج حمص وعبروا على العاصي يجسر عدوة، فلما عرف بهم العساكر ركبوا في آثارهم فهربوا منهم فقتلوا خلقا كثيرا منهم وغنم المسلمون منهم غنيمة جيدة ولله الحمد.
وفيها قتل صاحب الجزيرة، وكان من أسوأ الناس سيرة وأخبثهم سريرة، وهو الملك سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر الاتابكي، ابن عم نور الدين صاحب الموصل، وكان الذي تولى قتله ولده غازي، توصل إليه حتى دخل عليه وهو في الخلاء سكران، فضربه بسكين أربع عشرة ضربة، ثم ذبحه، وذلك كله ليأخذ الملك من بعده فحرمه الله إياه، فبويع بالملك لاخيه محمود وأخذ غازي القاتل فقتله من يومه، فسلبه الله الملك والحياة، ولكن أراح الله المسلمين من
ظلم أبيه وغشمه وفسقه.
وفيها توفي من الاعيان:

(13/62)


أبو الفتح محمد بن أحمد بن بخيتار ابن علي الواسطي المعروف بابن السنداي (1)، آخر من روى المسند عن أحمد [ بن حنبل عن ] (2) ابن الحصين، وكان من بيت فقه وقضاء وديانة، وكان ثقة عدلا متورعا في النقل، ومما أنشده من حفظه: ولو أن ليلى مطلع الشمس دونها * وكانت من وراء الشمس حين تغيب لحدثت نفسي بانتظار نوالها * وقال المنى لي: إنها لقريب قاضي القضاة لمصر صدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الكردي والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وستمائة في المحرم وصل نجم الدين خليل شيخ الحنفية من دمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل، ومعه هدايا كثيرة، وتناظر هو وشيخ النظامية مجد الدين يحيى بن الربيع في مسألة وجوب الزكاة في مال اليتيم والمجنون، وأخذ الحنفي يستدل على عدم وجوبها، فاعترض عليه الشافعي فأجاد كل منهما في الذي أورده، ثم خلع على الحنفي وأصحابه بسبب الرسالة، وكانت المناظرة بحضرة نائب الوزير ابن شكر.
وفي يوم السبت خامس جمادى الآخرة وصل الجمال يونس بن بدران المصري رئيس الشافعية بدمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل، فتلقاه الجيش مع حاجب الحجاب، ودخل معه ابن أخي صاحب إربل مظفر الدين كوكري (3)، والرسالة تتضمن الاعتذار عن صاحب إربل والسؤال في الرضا عنه، فأجيب إلى ذلك.
وفيها ملك العادل الخابور ونصيبين وحاصر مدينة سنجار مدة فلم يظفر بها ثم صالح صاحبها ورجع عنها (4).
وفيها توفي من الاعيان:
__________
(1) في ابن الاثير: المنداي، وفي الوافي 2 / 116: المنداءي، وفي غاية النهاية 2 / 56: الميداني.
(2) سقطت من الاصل، واستدركت من ابن الاثير.
(3) في ابن الاثير: كوكبري.
(4) تم الصلح بينهما على اقتسام البلاد التي لقطب الدين محمد بن زنكي بن مودود صاحب سنجار تكون للعادل، وتكون الجزيرة لنور الدين ارسلان صاحب الموصل.
(ابن الاثير 12 / 284).
(*)

(13/63)


القاضي الاسعد بن مماتي أبو المكارم أسعد بن الخطير أبي سعيد مهذب بن مينا بن زكريا الاسعد بن مماتي بن أبي قدامة بن أبي مليح المصري الكاتب الشاعر، أسلم في الدولة الصلاحية وتولى نظر الدواوين بمصر مدة قال ابن خلكان: وله فضائل عديدة، ومصنفات كثيرة، ونظم " سيرة صلاح الدين " و " كليلة ودمنة "، وله ديوان شعر.
ولما تولى الوزير ابن شكر هرب منه إلى حلب فمات بها وله ثنتان وستون سنة.
فمن شعره في ثقيل زاره بدمشق: حكى نهرين وما في الار * ض من يحكيهما أبدا حكى في خلقه ثورا * أراد وفي أخلاقه بردا (1) أبو يعقوب يوسف بن إسماعيل ابن عبد الرحمن بن عبد السلام اللمعاني، أحد الاعيان من الحنفية ببغداد، سمع الحديث ودرس بجامع السلطان، وكان معتزليا في الاصول، بارعا في الفروع، اشتغل على أبيه وعمه، وأتقن الخلاف وعلم المناظرة، وقارب التسعين.
أبو عبد الله محمد بن الحسن المعروف بابن الخراساني، المحدث الناسخ، كتب كثيرا من الحديث وجمع خطبا له ولغيره وخطه جيد مشهور.
أبو المواهب معتوق بن منيع
ابن مواهب الخطيب البغدادي، قرأ النحو واللغة على ابن الخشاب، وجمع خطبا كان يخطب منها، وكان شيخا فاضلا له ديوان شعر، فمنه قوله: ولا ترجو الصداقة من عدو * يعادي نفسه سرا وجهرا فلو أجدت مودته انتفاعا * لكان النفع منه إليه أجرا ابن خروف شارح سيبويه، علي بن محمد بن يوسف أبو الحسن بن خروف الاندلسي النحوي شرح
__________
(1) ثورى وبردى نهران مشهوران بدمشق.
(*)

(13/64)


سيبويه، وقدمه إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار، وشرح جمل الزجاجي، وكان ينتقل في البلاد ولا يسكن إلا في الخانات، ولم يتزوج ولا تسرى، ولذلك علة تغلب على طباع الاراذل، وقد تغير عقله في آخر عمره، فكان يمشي في الاسواق مكشوف الرأس، توفي عن خمس وثمانين سنة (1).
أبو علي يحيى بن الربيع ابن سليمان بن حرار الواسطي البغدادي، اشتغل بالنظامية على فضلان وأعاد عنه، وسافر إلى محمد بن يحيى فأخذ عنه طريقته في الخلاف، ثم عاد إلى بغداد ثم صار مدرسا بالنظامية وناظرا على أوقافها، وقد سمع الحديث وكان لديه علوم كثيره، ومعرفة حسنة بالمذهب، وله تفسير في أربع مجلدات كان يدرس منه، واختصر تاريخ الخطيب والذيل عليه لابن السمعاني وقارب الثمانين.
ابن الاثير صاحب جامع الاصول والنهاية المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد مجد الدين أبو السعادات الشيباني الجزري الشافعي، المعروف بابن الاثير، وهو أخو الوزير وزير الافضل ضياء الدين نصر الله، وأخو الحافظ عز الدين أبي الحسن علي صاحب الكامل في التاريخ، ولد أبو السعادات هذا في
إحدى الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وسمع الحديث الكثير وقرأ القرآن وأتقن علومه وحررها، وكان مقامه بالموصل، وقد جمع في سائر العلوم كتبا مفيدة، منها جامع الاصول الستة الموطأ والصحيحين وسنن أبي داود والنسائي والترمذي، ولم يذكر ابن ماجه فيه، وله كتاب النهاية في غريب الحديث وله شرح مسند الشافعي والتفسير في أربع مجلدات، وغير ذلك في فنون شتى، وكان معظما عند ملوك الموصل، فلما آل الملك إلى نور الدين أرسلان شاه، أرسل إليه مملوكه لؤلؤ أن يستوزره فأبى فركب السلطان إليه فامتنع أيضا وقال له: قد كبرت سني واشتهرت بنشر العلم، ولا يصلح هذا الامر إلا بشئ من العسف والظلم، ولا يليق بي ذلك، فأعفاه.
قال أبو السعادات: كنت أقرأ علم العربية على سعيد بن الدهان، وكان يأمرني بصنعة الشعر فكنت لا أقدر عليه، فلما توفي الشيخ رأيته في بعض الليالي، فأمرني بذلك، فقلت له: ضع لي مثالا أعمل عليه فقال: حب العلا مدمنا إن فاتك الظفر * فقلت أنا: وخد خد الثرى والليل معتكر فالعز في صهوات الليل مركزه * والمجد ينتجه الاسراء والسهر
__________
(1) ذكر أبو الفداء وفاته سنة 609 ه.
(تاريخ أبي الفداء 3 / 115).
(*)

(13/65)


فقال: أحسنت، ثم استيقظت فأتممت عليها نحوا من عشرين بيتا.
كانت وفاته في سلخ ذي الحجة عن ثنتين وستين سنة، وقد ترجمه أخوه في الذيل فقال: كان عالما في عدة علوم منها الفقه وعلم الاصول والنحو والحديث واللغة، وتصانيفه مشهورة في التفسير والحديث والفقه والحساب وغريب الحديث، وله رسائل مدونة، وكان مغلقا يضرب به المثل ذا دين متين، ولزم طريقة مستقيمة رحمه الله، فلقد كان من محاسن الزمان.
قال ابن الاثير وفيها توفي: المجد المطرزي النحوي الخوارزمي كان إماما في النحو له فيه تصانيف حسنة.
قال أبو شامة.
وفيها توفي:
الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل، ودفن في تربة أخيه المعظم بسفح قاسيون (1).
والملك المؤيد: مسعود بن صلاح الدين بمدرسة رأس العين فحمل إلى حلب فدفن بها.
وفيها توفي: الفخر الرازي المتكلم صاحب التيسير والتصانيف، يعرف بابن خطيب الري، واسمه محمد بن عمر بن الحسين بن علي القرشي التيمي البكري، أبو المعالي وأبو عبد الله المعروف بالفخر الرازي، ويقال له ابن خطيب الري، أحد الفقهاء الشافعية المشاهير بالتصانيف الكبار والصغار نحو من مائتي مصنف، منها التفسير الحافل والمطالب العالية، والمباحث الشرقية، والاربعين، وله أصول الفقه والمحصول وغيره (2)، وصنف ترجمة الشافعي في مجلد مفيد، وفيه غرائب لا يوافق عليها، وينسب إليه أشياء عجيبة، وقد ترجمته في طبقات الشافعية، وقد كان معظما عند ملوك خوارزم وغيرهم، وبنيت له مدارس كثيرة في بلدان شتى، وملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار، وغير ذلك من الامتعة والمراكب والاثاث والملابس، وكان له خمسون مملوكا من الترك، وكان يحضر
__________
(1) في الاصل: قايسون.
(2) ذكر الوافي بالوفيات تصانيف كثيرة للفخر الرازي انظر ج 4 / 255 ووفيات الاعيان 4 / 249.
(*)

(13/66)


في مجلس وعظه الملوك والوزراء والعلماء والامراء والفقراء والعامة، وكانت له عبادات وأوراد، وقد وقع بينه وبين الكرامية في أوقات وكان يبغضهم ويبغضونه ويبالغون في الحط عليه، ويبالغ هو أيضا في ذمهم.
وقد ذكرنا طرفا من ذلك فيما تقدم، وكان مع غزارة علمه في فن الكلام يقول: من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز، وقد ذكرت وصيته (1) عند موته وأنه رجع عن مذهب الكلام فيها إلى طريقة السلف وتسليم ما ورد على وجه المراد اللائق بجلال الله سبحانه.
وقال
الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الذيل في ترجمته: كان يعظ وينال من الكرامية وينالون منه سبا وتكفيرا بالكبائر، وقيل إنهم وضعوا عليه من سقاه سما فمات ففرحوا بموته، وكانوا يرمونه بالمعاصي مع المماليك وغيرهم، قال: وكانت وفاته في ذي الحجة، ولا كلام في فضله ولا فيما كان يتعاطاه، وقد كان يصحب السلطان ويحب الدنيا ويتسع فيها اتساعا زائدا، وليس ذلك من صفة العلماء، ولهذا وأمثاله كثرت الشناعات عليه، وقامت عليه شناعات عظيمة بسبب كلمات كان يقولها مثل قوله: قال محمد البادي، يعني العربي يريد به النبي صلى الله عليه وسلم، نسبة إلى البادية.
وقال محمد الرازي يعني نفسه، ومنها أنه كان يقرر الشبهة من جهة الخصوم بعبارات كثيرة ويجيب عن ذلك بأدنى إشارة وغير ذلك، قال وبلغني أنه خلف من الذهب العين مائتي ألف دينار غير ما كان يملكه من الدواب والثياب والعقار والآلات، وخلف ولدين أخذ كل واحد منهما أربعين ألف دينار، وكان ابنه الاكبر قد تجند وخدم السلطان محمد بن تكش.
وقال ابن الاثير في الكامل: وفيها توفي فخر الدين الرازي محمد بن عمر بن خطيب الري الفقيه الشافعي صاحب التصانيف المشهورة والفقه والاصول (2)، كان إمام الدنيا في عصره، بلغني أن مولده سنة ثلاث (3) وأربعين وخمسمائة ومن شعره قوله: إليك إله الخلق وجهي ووجهتي * وأنت الذي أدعوه في السر والجهر وأنت غياثي عند كل ملمة * وأنت ملاذي في حياتي وفي قبري ذكره ابن الساعي عن ياقوت الحموي عن ابن لفخر الدين عنه وبه قال: تتمة أبواب السعادة للخلق * بذكر جلال الواحد الاحد الحق مدبر كل الممكنات بأسرها * ومبدعها بالعدل والقصد والصدق أجل جلال الله عن شبه خلقه * وأنصر هذا الدين في الغرب والشرق إله عظيم الفضل والعدل والعلى * هو المرشد المغوي هو المسعد المشقي ومما كان ينشده:
__________
(1) نسخة وصيته في الوافي بالوفيات 4 / 250.
(2) في ابن الاثير: في الفقه والاصول وغيرهما.
(3) في الوافي: أربع.
وانظر وفيات الاعيان 4 / 252.
(*)

(13/67)


وأرواحنا في وحشة من جسومنا * وحاصل دنيانا أذى (1) ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا (2) * سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ثم يقول: لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلا ولا تشفي عليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الاثبات (الرحمن على العرش استوى) [ طه: 5 ] (إليه يصعد الكلم الطيب) [ فاطر: 10 ] وفي النفي (ليس كمثله شئ) [ الشورى: 11 ] (هل تعلم له سميا) [ مريم: 65 ].
ثم دخلت سنة سبع وستمائة ذكر الشيخ أبو شامة أن في هذه السنة تمالات ملوك الجزيرة: صاحب الموصل وصاحب سنجار وصاحب إربل والظاهر صاحب حلب وملك الروم، على مخالفة العادل ومنابذته ومقاتلته واصطلام الملك من يده، وأن تكون الخطبة للملك كنجر بن قلج أرسلان صاحب الروم، وأرسلوا إلى الكرج ليقدموا لحصار خلاط، وفيها الملك الاوحد ابن العادل، ووعدهم النصر والمعاونة عليه.
قلت: وهذا بغي وعدوان ينهى الله عنه، فأقبلت الكرج بملكهم إيواني فحاصروا خلاط فضاق بهم الاوحد ذرعا وقال: هذا يوم عصيب، فقدر الله تعالى أن في يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الآخر اشتد حصارهم للبلد وأقبل ملكهم إيواني وهو راكب على جواده وهو سكران فسقط به جواده في بعض الحفر التي قد أعدت مكيدة حول البلد، فبادر إليه رجال البلد فأخذوه أسيرا حقيرا، فأسقط في أيدي الكرج، فما أوقف بين يدي الاوحد أطلقه ومن عليه وأحسن إليه، وفاداه على مائتي ألف دينار وألفي أسير (3) من المسلمين، وتسليم إحدى وعشرين قلعة متاخمة لبلاد الاوحد، وأن يزوج ابنته من أخيه الاشرف موسى (4)، وأن يكون عونا له على من يحاربه، فأجابه إلى ذلك كله فأخذت منه الايمان بذلك وبعث الاوحد إلى أبيه يستأذنه في ذلك كله وأبوه نازل بظاهر
حراب في أشد حدة مما قد داهمه من هذا الامر الفظيع، فبينما هو كذلك إذ أتاه هذا الخبر والامر الهائل من الله العزيز الحكيم، لا من حولهم ولا من قوتهم، ولا كان في بالهم، فكاد يذهل من شدة الفرح والسرور، ثم أجاز جميع ما شرطه ولده، وطارت الاخبار بما وقع بين الملوك فخضعوا وذلوا عند ذلك، وأرسل كل منهم يعتذر مما نسب إليه ويحيل على غيره، فقبل منهم اعتذاراتهم وصالحهم صلحا أكيدا واستقبل الملك عصرا جديدا، ووفى ملك الكرج الاوحد بجميع ما شرطه
__________
(1) في الوافي: ردى.
(2) في الوافي: دهرنا..قلت وقالوا.
(3) في تاريخ أبي الفداء: 3 / 113: خمسة الآف أسير ومائة ألف دينار وعقد الهدنة ثلاثين سنة مع المسلمين.
(4) في ابن خلدون 5 / 342 وتاريخ أبي الفداء 3 / 113: أن يزوج ابنته من الملك الاوحد.
(*)

(13/68)


عليه، وتزوج الاشرف ابنته.
ومن غريب ما ذكره أبو شامة في هذه الكائنة أن قسيس الملك كان ينظر في النجوم فقال للملك قبل ذلك بيوم: اعلم أنك تدخل غدا إلى قلعة خلاط ولكن بزي غير ذلك أذان العصر، فوافق دخوله إليها أسيرا أذان العصر.
ذكر وفاة صاحب الموصل نور الدين أرسل الملك نور الدين شاه بن عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل يخطب ابنة السلطان الملك العادل، وأرسل وكيله لقبول العقد على ثلاثين ألف دينار، فاتفق موت نور الدين ووكيله سائر في أثناء الطريق، فعقد العقد بعد وفاته، وقد أثنى عليه ابن الاثير في كامله كثيرا وشكر منه ومن عدله وشهامته وهو أعلم به من غيره، وذكر أن مدة ملكه سبع عشرة سنة وإحدى عشر شهرا، وأما أبو المظفر السبط فإنه قال: كان جبارا ظالما بخيلا سفاكا للدماء فالله أعلم به.
وقام بالملك ولده القاهر عز الدين مسعود، وجعل تدبير مملكته إلى غلامه بدر الدين لؤلؤ الذي صار الملك إليه فيما بعد.
قال أبو شامة: وفي سابع شوال شرع في عمارة المصلى، وبنى له أربع جدر مشرفة، وجعل
له أبوابا صونا لمكانه من الميار ونزول القوافل، وجعل في قبلته محرابا من حجارة ومنبرا من حجارة وعقدت فوق ذلك قبة.
ثم في سنة ثلاث عشرة عمل في قبلته رواقان وعمل له منبر من خشب ورتب له خطيب وإمام راتبان، ومات العادل ولم يتم الرواق الثاني منه، وذلك كله على يد الوزير الصفي ابن شكر.
قال وفي ثاني شوال منها جددت أبواب الجامع الاموي من ناحية باب البريد بالنحاس الاصفر، وركبت في أماكنها.
وفي شوال أيضا شرع في إصلاح الفوارة والشاذروان والبركة وعمل عندها مسجد، وجعل له إمام راتب، وأول من تولاه رجل يقال له النفيس المصري، وكان يقال له بوق الجامع لطيب صوته إذا قرأ على الشيخ أبي منصور الضرير المصدر فيجتمع عليه الناس الكثيرون.
وفي ذي الحجة منها توجهت مراكب من عكا إلى البحر إلى ثغر دمياط وفيها ملك قبرص المسمى إليان فدخل الثغر ليلا فأغار على بعض البلاد فقتل وسبى وكر راجعا فركب مراكبه ولم يدركه الطلب، وقد تقدمت له مثلها قبل هذه، وهذا شئ لم يتفق لغيره لعنه الله.
وفيها عاثت الفرنج بنواحي القدس فبرز إليهم الملك المعظم، وجلس الشيخ شمس الدين أبو المظفر بن قر علي الحنفي وهو سبط ابن الجوزي ابن ابنته رابعة، وهو صاحب مرآة الزمان، وكان فاضلا في علوم كثيرة، حسن الشكل طيب الصوت، وكان يتكلم في الوعظ جيدا وتحبه العامة على صيت جده، وقد رحل من بغداد فنزل دمشق وأكرمه ملوكها، وولي التدريس بها، وكان يجلس كل يوم سبت عند باب مشهد علي بن الحسين زين العابدين إلى السارية التي يجلس

(13/69)


عندها الوعاظ في زماننا هذا، فكان يكثر الجمع عنده حتى يكونوا من باب الناطفانيين إلى باب المشهد إلى باب الساعات، الجلوس غير الوقوف، فحزر جمعه في بعض الايام ثلاثين ألفا من الرجال والنساء، وكان الناس يبيتون ليلة السبت في الجامع ويدعون البساتين، يبيتون في قراءة ختمات وأذكار ليحصل لهم أماكن من شدة الزحام، فإذا فرغ من وعظه خرجوا إلى أماكنهم وليس لهم كلام إلا فيما قال يومهم ذلك أجمع، يقولون قال الشيخ وسمعنا من الشيخ فيحثهم ذلك على
العمل الصالح والكف عن المساوي، وكان يحضر عنده الاكابر، حتى الشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي، كان يجلس في القبة التي عند باب المشهد هو ووالي البلد المعتمد ووالي البر ابن تميرك وغيرهم.
والمقصود أنه لما جلس يوم السبت خامس ربيع الاول كما ذكرنا حث الناس على الجهاد وأمر بإحضار ما كان تحصل عنده من شعور التائبين، وقد عمل منه شكالات تحمل الرجال، فلما رآها الناس ضجوا ضجة واحدة وبكوا بكاء كثيرا وقطعوا من شعورهم نحوها، فلما انقضى المجلس ونزل عن المنبر فتلقاه الوالي مبادر الدين المعتمد بن إبراهيم، وكان من خيار الناس، فمشى بين يديه إلى باب الناطفيين يعضده حتى ركب فرسه والناس من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فخرج من باب الفرج وبات بالمصلى ثم ركب من الغد في الناس إلى الكسوة ومعه خلائق كثيرون خرجوا بنية الجهاد إلى بلاد القدس، وكان من جملة من معه ثلاثمائة من جهة زملكا بالعدد الكثيرة التامة، قال: فجئنا عقبة أفيق والطير لا يتجاسر أن يطير من خوف الفرنج، فلما وصلنا نابلس تلقانا المعظم، قال ولم أكن اجتمعت به قبل ذلك، فلما رأى الشكالات من شعور التائبين جعل يقبلها ويمرغها على عينيه ووجهه ويبكي، وعمل أبو المظفر ميعادا بنابلس وحث على الجهاد وكان يوما مشهودا، ثم سار هو ومن معه وصحبته المعظم نحو الفرنج فقتلوا خلقا وخربوا أماكن كثيرة، وغنموا وعادوا سالمين، وشرع المعظم في تحصين جبل الطور وبنى قلعة فيه ليكون إلبا على الفرنج، فغرم أموالا كثيرة في ذلك، فبعث الفرنج إلى العادل يطلبون منه الامان والمصالحة، فهادنهم وبطلت تلك العمارة وضاع ما كان المعظم غرم عليها والله أعلم.
وفيها توفي من الاعيان: الشيخ أبو عمر باني المدرسة بسفح قاسيون (1) للفقراء المشتغلين في القرآن رحمه الله، محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الشيخ الصالح أبو عمر المقدسي، باني المدرسة التي بالسفح يقرأ بها القرآن العزيز، وهو أخو الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، وكان أبو عمر أسن منه، لانه ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية الساويا، وقيل بجماعيل، والشيخ أبو عمر ربى
الشيخ موفق الدين وأحسن إليه وزوجه، وكان يقوم بمصالحه، فلما قدموا من الارض المقدسة نزلوا بمسجد أبي صالح خارج باب شرقي ثم انتقلوا منه إلى السفح، وليس به من العمارة شئ سوى
__________
(1) في الاصل قايسون.
(*)

(13/70)


دير الحوراني، قال فقيل لنا الصالحيين نسبة إلى مسجد أبي صالح لا أنا صالحون، وسميت هذه البقعة من ذلك الحين بالصالحية نسبة إلينا، فقرأ الشيخ أبو عمر القرآن على رواية أبي عمرو، وحفظ مختصر الخرقي في الفقه، ثم إن أخاه الموفق شرحه فيما بعد فكتب شرحه بيده، وكتب تفسير البغوي والحلية لابي نعيم والابانة لابن بطة، وكتب مصاحف كثيرة بيده للناس ولاهله بلا أجرة، وكان كثير العبادة والزهادة والتهجد، ويصوم الدهر وكان لا يزال متبسما، وكان يقرأ كل يوم سبعا بين الظهر والعصر ويصلي الضحى ثماني ركعات يقرأ فيهن ألف مرة قل هو الله أحد، وكان يزور مغارة الدم في كل يوم اثنين وخميس، ويجمع في طريقه الشيخ فيعطيه الارامل والمساكين، ومهما تهيأ له من فتوح وغيره يؤثر به أهله والمساكين، وكان متقللا في الملبس وربما مضت عليه مدة لا يلبس فيها سراويل ولا قميصا، وكان يقطع من عمامته قطعا يتصدق بها أو في تكميل كفن ميت، وكان هو وأخوه وابن خالهم الحافظ عبد الغني وأخوه الشيخ العماد لا ينقطعون عن غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج، وقد حضروا معه فتح القدس والسواحل وغيرها، وجاء الملك العادل يوما إلى ختمهم أي خصهم لزيارة أبي عمر وهو قائم يصلي، فما قطع صلاته ولا أوجز فيها، فجلس السلطان واستمر أبو عمر في صلاته ولم يلتفت إليه حتى قضى صلاته رحمه الله والشيخ أبو عمر هو الذي شرع في بناء المسجد الجامع أولا بمال رجل فامي، فنفد ما عنده وقد ارتفع البناء قامة فبعث صاحب إربل الملك المظفر كوكري (1) مالا فكمل به، وولى خطابته الشيخ أبو عمر، فكان يخطب به وعليه لباسه الضعيف وعليه أنوار الخشية والتقوى والخوف من الله عزوجل، والمسك كيف خبأته ظهر عليك وبان، وكان المنبر الذي فيه يومئذ ثلاث مراق والرابعة للجلوس، كما كان المنبر النبوي، وقد حكى أبو المظفر: أنه حضر يوما عنده الجمعة وكان الشيخ
عبد الله البوتاني حاضرا الجمعة أيضا عنده، فلما انتهى في خطبته إلى الدعاء للسلطان قال: اللهم أصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب، فلما قال ذلك نهض الشيخ عبد الله البوتاني وأخذ نعليه وخرج من الجامع وترك صلاة الجمعة، فلما فرغنا ذهبت إلى البوتاني فقلت له: ماذا نقمت عليه في قوله ؟ فقال يقول لهذا الظالم العادل ؟ لا صليت معه، قال فبينما نحن في الحديث إذ أقبل الشيخ أبو عمر ومعه رغيف وخيارتان فكسر ذلك الرغيف وقال الصلاة، ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " بعثت في زمن الملك العادل كسرى " فتبسم الشيخ عبد الله البوتاني ومد يده فأكل فلما فرغوا قام الشيخ أبو عمر فذهب فلما ذهب قال لي البوتاني يا سيدنا ماذا إلا رجل صالح.
قال أبو شامة كان البوتاني من الصالحين الكبار، وقد رأيته وكانت وفاته بعد أبي عمر بعشر سنين فلم يسامح الشيخ أبا عمر في تساهله مع ورعه، ولعله كان مسافرا والمسافر لا جمعة عليه، وعذر الشيخ أبي عمر أن هذا قد جرى مجرى الاعلام العادل الكامل الاشرف ونحوه، كما يقال
__________
(1) في ابن الاثير: كوكبري.
(*)

(13/71)


سالم وغانم ومسعود ومحمود، وقد يكون ذلك على الضد والعكس في هذه الاسماء، فلا يكون سالما ولا غانما ولا مسعودا ولا محمودا، وكذلك اسم العادل ونحوه من أسماء الملوك وألقابهم، والتجار وغيرهم، كما يقال شمس الدين وبدر الدين وعز الدين وتاج الدين ونحو ذلك قد يكون معكوسا على الضد والانقلاب ومثله الشافعي والحنبلي وغيرهم، وقد تكون أعماله ضد ما كان عليه إمامه الاول من الزهد والعبادة ونحو ذلك، وكذلك العادل يدخل إطلاقه على المشترك والله أعلم.
قلت: هذا الحديث الذي احتج به الشيخ أبو عمر لا أصل له، وليس هو في شئ من الكتب المشهورة، وعجبا له ولابي المظفر ثم لابي شامة في قبول مثل هذا وأخذه منه مسلما إليه فيه والله أعلم.
ثم شرع أبو المظفر في ذكر فضائل أبي عمر ومناقبه وكراماته وما رآه هو وغيره من أحواله الصالحة.
قال: وكان على مذهب السلف الصالح سمتا وهديا، وكان حسن العقيدة متمسكا
بالكتاب والسنة والآثار المروية يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين، وكان ينهى عن صحبة المتبدعين ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين، وربما أنشدني لنفسه في ذلك: أوصيكم بالقول في القرآن * بقول أهل الحق والاتقان ليس بمخلوق ولا بفان * لكن كلام الملك الديان آياته مشرقة المعاني * متلوة لله باللسان محفوظة في الصدر والجنان * مكتوبة في الصحف بالبنان والقول في الصفات يا إخواني * كالذات والعلم مع البيان إمرارها من غير ما كفران * من غير تشبيه ولا عطلان قال وأنشدني لنفسه: ألم يك ملهاة عن اللهو أنني * بدا لي شيب الرأس والضعف والالم ألم بي الخطب الذي لو بكيته * حياتي حتى يذهب الدمع لم ألم قال ومرض أياما فلم يترك شيئا مما كان يعمله من الاوراد، حتى كانت وفاته وقت السحر في ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الاول فغسل في الدير وحمل إلى مقبرته في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عزوجل، ولم يبق أحد من الدولة والامراء والعلماء والقضاة وغيرهم إلا حضر جنازته، وكان يوما مشهودا، وكان الحر شديدا فأظلت الناس سحابة من الحر، كان يسمع منها كدوي النحل، وكان الناس ينتهبون أكفانه وبيعت ثيابه بالغالي الغالي، ورثاه الشعراء بمراث حسنة، ورئيت له منامات صالحة رحمه الله.
وترك من الاولاد ثلاثة ذكور: عمر، وبه كان يكنى، والشرف عبد الله وهو الذي ولي الخطابة بعد أبيه، وهو والد العز أحمد.
وعبد الرحمن.
ولما توفي الشرف عبد الله

(13/72)


صارت الخطابة لاخيه شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر، وكان من أولاد أبيه الذكور، فهؤلاء أولاد الذكور، وترك من الاناث بنات كما قال الله تعالى (مسلمات مؤمنات قانتات نائبات عابدات
سائحات ثيبات وأبكارا) [ التحريم: 5 ] قال وقبره في طريق مغارة الجوع في الزقاق المقابل لدير الحوراني رحمه الله وإيانا.
ابن طبرزد شيخ الحديث عمر بن محمد بن معمر بن يحيى المعروف بأبي حفص بن طبرزد البغدادي الدراقزي، ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة، سمع الكثير وأسمع، وكان خليعا ظريفا ماجنا، وكان يؤدب الصبيان بدار القز قدم مع حنبل بن عبد الله المكبر إلى دمشق فسمع أهلها عليهما، وحصل لهما أموال وعادا إلى بغداد فمات حنبل سنة ثلاث وتأخر هو إلى هذه السنة في تاسع شهر رجب فمات وله سبع وتسعون (1) سنة، وترك مالا جيدا ولم يكن له وارث إلا بيت المال، ودفن بباب حرب.
السلطان الملك العادل أرسلان شاه نور الدين صاحب الموصل، وهو ابن أخي نور الدين الشهيد، وقد ذكرنا بعض سيرته في الحوادث، كان شافعي المذهب، ولم يكن بينهم شافعي سواه، وبنى للشافعية مدرسة كبيرة بالموصل وبها تربته، توفي في صفر (2) ليلة الاحد من هذه السنة.
ابن سكينة عبد الوهاب بن علي ضياء الدين المعروف بابن سكينة (3) الصوفي، كان يعد من الابدال، سمع الحديث الكثير وأسمعه ببلاد شتى، ولد في سنة تسع عشرة وخمسمائة، وكان صاحبا لابي الفرج بن الجوزي ملازما لمجلسه وكان يوم جنازته يوما مشهودا لكثرة الخلق ولكثرة ما كان فيه من الخاصة والعامة رحمه الله.
مظفر بن ساسير الواعظ الصوفي البغدادي، ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وسمع الحديث، وكان
__________
(1) في شذرات الذهب 5 / 26: عاش تسعين سنة وسبعة أشهر.
وقد ذكر ولادته سنة 516 ه فعلى قوليهما يكون عند وفاته لم يتجاوز 71 سنة.
(2) في ابن الاثير: أواخر رجب، وفي وفيات الاعيان 1 / 193 والوافي 8 / 341: توفي 29 رجب.
(3) وهي جدته.
(*)

(13/73)


يعظ في الاعزية والمساجد والقرى، وكان ظريفا مطبوعا قام إليه إنسان فقال له فيما بينه وبينه: أنا مريض جائع، فقال: احمد ربك فقد عوفيت.
واجتاز مرة على قصاب يبيع لحما ضعيفا وهو يقول أين من حلف لا يغبن، فقال له حتى تحنثه.
قال: وعملت مرة مجلسا بيعقوبا فجعل هذا يقول عندي للشيخ نصفية وهذا يقول عندي للشيخ نصفية وهذا يقول مثله حتى عدوا نحوا من خمسين نصفية، فقلت في نفسي: استغنيت الليلة فأرجع إلى البلد تاجرا، فلما أصبحت إذا صبرة من شعير في المسجد فقيل لي هذه النصافي التي ذكر الجماعة، وإذا هي بكيلة يسمونها نصفية مثل الزبدية، وعملت مرة مجلسا بباصرا فجمعوا لي شيئا لا أدري ما هو، فلما أصبحنا إذا شئ من صوف الجواميس وقرونها، فقام رجل ينادي عليكم عندكم في قرون الشيخ وصوفه، فقلت لا حاجة لي بهذا وأنتم في حل منه.
ذكره أبو شامة.
ثم دخلت سنة ثمان وستمائة استهلت والعادل مقيم على الطور لعمارة حصنه، وجاءت الاخبار من بلاد المغرب بأن عبد المؤمن قد كسر الفرنج بطليطلة كسرة عظيمة، وربما فتح البلد عنوة وقتل منهم خلقا كثيرا.
وفيها كانت زلزلة عظيمة شديدة بمصر والقاهرة، هدمت منها دورا كثيرة، وكذلك بالكرك والشوبك هدمت من قلعتها أبراجا، ومات خلق كثير من الصبيان والنسوان تحت الهدم، ورئي دخان نازل من السماء فيما بين المغرب والعشاء عند قبر عاتكة غربي دمشق.
وفيها أظهرت الباطنية الاسلام وأقامت الحدود على من تعاطى الحرام، وبنوا الجوامع والمساجد، وكتبوا إلى إخوانهم بالشام بمضات وأمثالها بذلك، وكتب زعيمهم جلال الدين إلى الخليفة يعلمه بذلك، وقدمت أمة منهم إلى بغداد لاجل الحج فأكرموا وعظموا بسبب ذلك، ولكن لما كانوا بعرفات ظفر واحد منهم على قريب لامير مكة قتادة الحسيني فقتله ظانا أنه قتادة فثارت فتنة بين سودان مكة وركب العراق، ونهب الركب وقتل منهم خلق كثير.
وفيها اشترى الملك الاشرف جوسق الريس من النيرب من
ابن عم الظاهر خضر بن صلاح الدين وبناه بناء حسنا، وهو المسمى بزماننا بالدهشة.
وفيها توفي من الاعيان: الشيخ عماد الدين محمد بن يونس الفقيه الشافعي الموصلي صاحب التصانيف والفنون الكثيرة، كان رئيس الشافعية بالموصل، وبعث رسولا إلى بغداد بعد موت نور الدين أرسلان، وكان عنده وسوسة كثيرة في الطهارة، وكان يعامل في الاموال بمسألة العينة كما قيل تصفون البعوض من شرابكم وتستر بطون الجمال بأحمالها، ولو عكس الامر لكان خيرا له، فلقيه يوما قضيب الباب الموكه فقال

(13/74)


له: يا شيخ بلغني عنك أنك تغسل العضو من أعضائك بإبريق من الماء فلم لا تغسل اللقمة التي تأكلها لتستنظف قلبك وباطنك ؟ ففهم الشيخ ما أراد فترك ذلك.
توفي بالموصل في رجب عن ثلاث وسبعين سنة.
ابن حمدون تاج الدين أبو سعد الحسن بن محمد بن حمدون، صاحب التذكرة الحمدونية (1)، كان فاضلا بارعا، اعتنى بجمع الكتب المنسوبة وغيرها، وولاه الخليفة المارستان العضدي، توفي بالمدائن وحمل إلى مقابر قريش فدفن بها.
صاحب الروم خسروشاه ابن قلج أرسلان، مات فيها وقام بالملك بعده ولده كيكايرس (2)، فلما توفي في سنة خمس عشرة ملك أخوه كيقباذ صارم الدين برغش العادلي نائب القلعة بدمشق، مات في صفر ودفن بتربته غربي الجامع المظفري، وهذا الرجل هو الذي نفى الحافظ عبد الغني المقدسي إلى مصر وبين يديه كان عقد المجلس، وكان في جملة من قام عليه ابن الزكي والخطيب الدولعي، وقد توفوا أربعتهم وغيرهم ممن قام عليه واجتمعوا عند ربهم الحكم العدل سبحانه.
الامير فخر الدين سركس
ويقال له جهاركس أحد أمراء الدولة الصلاحية وإليه تنسب قباب سركس بالسفح تجاه تربة خاتون وبها قبره.
قال ابن خلكان: هذا هو الذي بنى القيسارية الكبرى بالقاهرة المنسوبة إليه وبنى في أعلاها مسجدا معلقا وربعا، وقد ذكر جماعة من التجار أنهم لم يروا لها نظيرا في البلدان في حسنها وعظمها وإحكام بنائها.
قال: وجهاركس بمعنى أربعة أنفس.
قلت: وقد كان نائبا للعادل على بانياس وتينين وهو بين، فلما توفي ترك ولدا صغيرا فأقره العادل على ما كان يليه أبوه وجعل له مدبرا وهو الامير صارم الدين قطلبا التنيسي، ثم استقل بها بعد موت الصبي إلى سنة خمس عشرة.
__________
(1) قال ابن الاثير: وهو ولد مصنف التذكرة، (انظر الكامل 12 / 299) ووالده أبو المعالي محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون كافي الكفاة بهاء الدين وقد توفي محبوسا سنة 562.
انظر الوافي 2 / 357 ابن خلكان 4 / 380 الفوات 2 / 377 والنجوم الزاهرة 5 / 374.
(2) في تاريخ أبي الفداء 3 / 115: كيكاوس.
(*)

(13/75)


الشيخ الكبير المعمر الرحلة أبو القاسم أبو بكر أبو الفتح منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي النيسابوري، سمع أباه وجد أبيه وغيرهما، وعنه ابن الصلاح وغيره، توفي بنيسابور في شعبان في هذه السنة عن خمس وثمانين سنة.
قاسم الدين التركماني العقيبي والد والي البلد، كانت وفاته في شوال منها والله أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وستمائة فيها اجتمع العادل وأولاده الكامل والمعظم والفائز بدمياط من بلاد مصر في مقاتلة الفرنج فاغتنم غيبتهم سامة (1) الجبلي أحد أكابر الامراء، وكانت بيده قلعة عجلون وكوكب فسار مسرعا إلى دمشق ليستلم البلدين، فأرسل العادل في إثره ولده المعظم فسبقه إلى القدس وحمل عليه فرسم
عليه في كنيسة صهيون، وكان شيخا كبيرا قد أصابه النقرس، فشرع يرده إلى الطاعة بالملاطفة فلم ينفع فيه فاستولى على حواصله وأملاكه وأمواله وأرسله إلى قلعة الكرك فاعتقله بها، وكان قيمة ما أخذه منه قريبا من ألف ألف دينار، من ذلك داره وحمامه داخل باب السلامة، وداره هي التي جعلها البادرائي مدرسة للشافعية، وخرب حصن كوكب ونقلت حواصله إلى حصن الطور الذي استجده العادل وولده المعظم.
وفيها عزل الوزير ابن شكر واحتيط على أمواله ونفي إلى الشرق، وهو الذي كان قد كتب إلى الديار المصرية بنفي الحافظ عبد الغني منها بعد نفيه من الشام، فكتب أن ينفى إلى المغرب، فتوفي الحافظ عبد الغني رحمه الله قبل أن يصل الكتاب، وكتب الله عزوجل بنفي الوزير إلى الشرق محل الزلازل والفتن والشر، ونفاه عن الارض المقدسة جزاء وفاقا.
ولما استولى صاحب قبرص على مدينة أنطاكية حصل بسببه شر عظيم وتمكن من الغارات على بلاد المسلمين، لا سيما على التراكمين الذين حول انطاكية، قتل منهم خلقا كثيرا وغنم من أغنامهم شيئا كثيرا، فقدر الله عزوجل أن أمكنهم منه في بعض الاودية فقتلوه وطافوا برأسه في تلك البلاد، ثم أرسلوا رأسه إلى الملك العادل إلى مصر فطيف به هنالك، وهو الذي أغار على بلاد مصر من ثغر دمياط مرتين فقتل وسبى وعجز عنه الملوك.
وفي ربيع الاول منها توفي الملك الاوحد.
__________
(1) في ابن الاثير: اسامة.
(*)

(13/76)


نجم الدين أيوب ابن العادل صاحب خلاط، يقال إنه كان قد سفك الدماء وأساء السيرة فقصف الله عمره، ووليها بعده أخوه الملك الاشرف موسى، وكان محمود السيرة جيد السريرة فأحسن إلى أهلها فأحبوه كثيرا.
وفيها توفي من الاعيان: فقيه الحرم الشريف بمكة محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي بكر
القفصي المقري المحدث، كتب كثيرا وسمع الكثير ودفن بمقابر الصوفية.
أبو الفتح محمد بن سعد بن محمد الديباجي من أهل مرو، له كتاب المحصل في شرح المفصل للزمخشري في النحو.
كان ثقة عالما سمع الحديث توفي فيها عن ثنتين وتسعين سنة.
الشيخ الصالح الزاهد العابد أبو البقاء محمود بن عثمان بن مكارم النعالي الحنبلي، كان له عبادات ومجاهدات وسياحات، وبنى رباطا بباب الازج يأوي إليه أهل العلم من المقادسة وغيرهم، وكان يؤثرهم ويحسن إليهم، وقد سمع الحديث وقرأ القرآن، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
توفي وقد جاوز الثمانين.