البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة عشر وستمائة فيها أمر العادل أيام الجمع بوضع سلاسل على
أفواه الطرق إلى الجامع لئلا تصل الخيول إلى قريب الجامع صيانة
للمسلمين عن الاذى بهم، ولئلا يضيقوا على المارين إلى الصلاة.
وفيها ولد الملك العزيز للظاهر غازي صاحب حلب، وهو والد الملك الناصر
صاحب دمشق واقف الناصريتين داخل دمشق، إحداهما داخل باب الفراديس،
والاخرى بالسفح ذات الحائط الهائل والعمارة المتينة، التي قيل إنه لا
يوجد مثلها إلا قليلا، وهو الذي أسره التتار الذين مع هلاكو ملك
التتار.
وفيها قدم بالفيل من مصر فحمل هدية إلى صاحب الكرج فتعجب الناس منه
جدا، ومن بديع خلقه.
وفيها قدم الملك الظافر خضر بن السلطان صلاح الدين من حلب قاصدا الحج،
فتلقاه الناس وأكرمه ابن عمه المعظم، فلما لم يبق بينه وبين مكة إلا
مراحل يسيرة تلقته
(13/77)
حاشية الكامل
صاحب مصر وصدوه عن دخول مكة، وقالوا إنما جئت لاخذ اليمن، فقال لهم
قيدوني وذروني أقضي المناسك، فقالوا: ليس معنا مرسوم وإنما أمرنا بردك
وصدك، فهم طائفة من الناس بقتالهم فخاف من وقوع فتنة فتحلل من حجه ورجع
إلى الشام، وتأسف الناس على ما
فعل به وتباكوا لما ودعهم، تقبل الله منه.
وفيها وصل كتاب من بعض فقهاء الحنفية بخراسان إلى الشيخ تاج الدين أبو
اليمن الكندي يخبر به أن السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش تنكر في ثلاثة
نفر من أصحابه، ودخل بلاد التتر ليكشف أخبارهم بنفسه، فأنكروهم فقبضوا
عليهم فضربوا منهم اثنين حتى ماتا ولم يقرا بما جاؤوا فيه واستوثقوا من
الملك وصاحبه الآخر أسرا، فلما كان في بعض الليالي هربا ورجع السلطان
إلى ملكه وهذه المرة غير نوبة أسره في المعركة مع مسعود الامير.
وفيها ظهرت بلاطة وهم يحفرون في خندق حلب فوجد تحتها من الذهب خمسة
وسبعون رطلا، ومن الفضة خمسة وعشرون بالرطل الحلبي.
وفيها توفي من الاعيان: شيخ الحنفية
مدرس مشهد أبي حنيفة ببغداد، الشيخ أبو الفضل أحمد بن مسعود بن علي
الرساني، وكان إليه المظالم، ودفن بالمشهد المذكور.
والشيخ أبو الفضل بن إسماعيل ابن علي بن الحسين فخر الدين الحنبلي،
يعرف بابن الماشطة، ويقال له الفخر غلام ابن المنى، له تعليقة في
الخلاف وله حلقة بجامع الخليفة، وكان يلي النظر في قرايا الخليفة، ثم
عزله فلزم بيته فقيرا لا شئ له إلى أن مات رحمه الله، وكان ولده محمد
مدبرا شيطانا مريدا كثير الهجاء والسعاية بالناس إلى أولياء الامر
بالباطل، فقطع لسانه وحبس إلى أن مات.
والوزير معز الدين أبو المعالي سعيد بن علي بن أحمد بن حديدة، من سلالة
الصحابي قطبة بن عامر بن حديدة الانصاري، ولي الوزارة للناصر في سنة
أربع وثمانين، ثم عزله عن سفارة ابن مهدي فهرب إلى مراغة، ثم عاد بعد
موت ابن مهدي فأقام ببغداد معظما محترما، وكان كثير الصدقات والاحسان
إلى الناس إلى أن مات رحمه الله (1).
__________
(1) ذكر الفخري ص 324: وفاته سنة 616 معزولا ببغداد.
قال وجاءه أبو جعفر محمد بن أبي طالب الشاعر متظلما
من ناظر البصرة فأنشده قصيدة منها: (*)
(13/78)
وسنجر بن عبد
الله الناصري الخليفتي، كانت له أموال كثيرة وأملاك وإقطاعات متسعة،
وكان مع ذلك بخيلا ذليلا ساقط النفس، اتفق أنه خرج أمير الحاج في سنة
تسع وثمانين وخمسمائة، فاعترضه بعض الاعراب في نفر يسير، ومع سنجر
خمسمائة فارس، فدخله الذل من الاعرابي، فطلب منه الاعرابي خمسين ألف
دينار فجباها سنجر من الحجيج ودفعها إليه، فلما عاد إلى بغداد أخذ
الخليفة منه خمسين ألف دينار ودفعها إلى أصحابها وعزله وولى طاشتكين
مكانه.
قاضي السلامية ظهير الدين أبو إسحاق إبراهيم بن نصر بن عسكر، الفقيه
الشافعي الاديب، ذكره العماد في الجريدة وابن خلكان في الوفيات، وأثنى
عليه وأنشد من شعره، في شيخ له زاوية، وفي أصحابه يقال له مكي: ألا قل
لمكي قول النصوح * وحق النصيحة أن تستمع متى سمع الناس في دينهم * بأن
الغنا سنة تتبع ؟ وأن يأكل المرء أكل البعير * ويرقص في الجمع حتى يقع
ولو كان طاوي الحشا جائعا * لما دار من طرب واستمع وقالوا: سكرنا بحب
الاله * وما أسكر القوم إلا القصع كذاك الحمير إذا أخصبت * يهيجها (1)
ريها والشبع تراهم يهزوا لحاهم إذا * ترنم حاديهم بالبدع فيصرخ هذا
وهذا يئن * ويبس لو تلين ما انصدع وتاج الامناء أبو الفضل أحمد بن محمد
بن الحسن بن هبة الله بن عساكر من بيت الحديث والرواية، وهو
أكبر من إخوته زين الفخر والامناء، سمع عميه الحافظ أبي القاسم
والصائن، وكان صديقا للكندي توفي يوم الاحد ثاني رجب ودفن قبلي محراب
مسجد القدم.
__________
= وقبائل الانصار غير قليلة لكن بنو غنم هم الاخيار ولقد نزلت عليك مثل
نزوله في دار جدك والنزيل يجار فعلام أظلم والنبي محمد أنمى إليه،
وقومك الانصار (1) في ابن خلكان 1 / 38: ينقزها.
(*)
(13/79)
والنسابة
الكلبي كان يقال له تاج العلي الحسيني، اجتمع بآمد بابن دحية، وكان
ينسب إلى دحية الكلبي، ودحية الكلبي لم يعقب، فرماه ابن دحية بالكذب في
مسائله الموصلية.
قال ابن الاثير: وفي المحرم منها توفي: المهذب الطبيب المشهور وهو علي
بن أحمد بن مقبل (1) الموصلي، سمع الحديث وكان أعلم أهل زمانه بالطب،
وله فيه تصنيف حسن، وكان كثير الصدقة حسن الاخلاق.
الجزولي صاحب المقدمة المسماة بالقانون وهو أبو موسى عيسى بن عبد
العزيز الجزولي - بطن من البربر - ثم البردكيني النحوي المصري، مصنف
المقدمة المشهورة البديعة، شرحها هو وتلامذته، وكلهم يعترفون بتقصيرهم
عن فهم مراده في أماكن كثيرة منها، قدم مصر وأخذ عن ابن بري، ثم عاد
إلى بلاده وولي خطابة مراكش، توفي في هذه السنة وقيل قبلها فالله أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وستمائة فيها أرسل
الملك خوارزم شاه أميرا من أخصاء أمرائه عنده، وكان قبل ذلك سيروانيا
فصار أميرا خاصا، فبعثه في جيش ففتح له كرمان ومكران وإلى حدود بلاد
السند، وخطب له بتلك البلاد، وكان خوارزم شاه لا يصيف إلا بنواحي
سمرقند خوفا من التتار وكشلي خان أن يثبوا على أطراف تلك البلاد التي
تتاخمهم.
قال أبو شامة: وفيها شرع في تبليط داخل الجامع الاموي وبدأوا من ناحية
السبع الكبير، وكانت أرض الجامع قبل ذلك حفرا وجورا، فاستراح الناس في
تبليطه.
وفيها وسع الخندق مما يلي القيمازية فأخربت دور كثيرة وحمام قايماز
وفرن كان هناك وقفا على دار الحديث النورية.
وفيها بنى المعظم الفندق المنسوب إليه بناحية قبر عاتكة ظاهر باب
الجابية.
وفيها أخذ المعظم قلعة صرخد من ابن قراجا وعوضه عنها وسلمها إلى مملوكه
عز الدين أيبك المعظمي، فثبتت في يده إلى أن انتزعها منه نجم الدين
أيوب سنة أربع وأربعين.
وفيها حج الملك المعظم ابن العادل ركب من الكرك على الهجن في حادي عشر
ذي القعدة ومعه ابن موسك ومملوك أبيه وعز الدين أستاذ داره وخلق، فسار
على طريق تبوك والعلا.
وبنى البركة المنسوبة إليه، ومصانع
__________
(1) في ابن الاثير: ابن هبل.
(انظر شذرات الذهب 5 / 42).
(*)
(13/80)
اخر.
فلما قدم المدينة النبوية تلقاه صاحبها سالم وسلم إليه مفاتيحها وخدمه
خدمة تامة، وأما صاحب مكة قتادة فلم يرفع به رأسا، ولهذا لما قضى نسكه،
وكان قارنا، وأنفق في المجاورين ما حمله إليهم من الصدقات وكر راجعا
استصحب معه سالما صاحب المدينة وتشكى إلى أبيه عند رأس الماء ما لقيه
من صاحب مكة، فأرسل العادل، مع سالم جيشا يطردون صاحب مكة، فلما انتهوا
إليها هرب منهم في الاودية والجبال والبراري، وقد أثر المعظم في حجته
هذه آثارا حسنة بطريق الحجاز أثابه الله.
وبها تعامل أهل دمشق في القراطيس السود العادلية ثم بطلت بعد ذلك
ودفنت.
وفيها مات صاحب اليمن وتولاها سليمان بن شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن
شاهنشاه بن أيوب باتفاق
الامراء عليه، فأرسل العادل إلى ولده الكامل أن يرسل إليها ولده أضسيس،
فأرسله فتملكها فظلم بها وفتك وغشم، وقتل من الاشراف نحوا من ثمانمائة،
وأما من عداهم فكثير، وكان من أفجر الملوك وأكثرهم فسقا وأقلهم حياء
ودينا، وقد ذكروا عنه ما تقشعر منه الابدان وتنكره القلوب، نسأل الله
العافية وفيها توفي من الاعيان:
إبراهيم بن علي ابن محمد بن بكروس الفقيه الحنبلي، أفتى وناظر وعدل عند
الحكام، ثم انسلخ من هذا كله وصار شرطيا بباب النوى يضرب الناس ويؤذيهم
غاية الاذى، ثم بعد ذلك ضرب إلى أن مات وألقي في دجلة وفرح الناس
بموته، وقد كان أبوه رجلا صالحا.
الركن عبد السلام بن عبد الوهاب ابن الشيخ عبد القادر، كان أبوه صالحا
وكان هو متهما بالفلسفة ومخاطبة النجوم، ووجد عنده كتب في ذلك، وقد ولي
عدة ولايات، وفيه وفي أمثاله يقال: نعم الجدود ولكن بئس ما نسلوا.
رأى عليه أبوه يوما ثوبا بخاريا فقال: سمعنا بالبخاري ومسلم، وأما
بخاري وكافر فهذا شئ عجيب، وقد كان مصاحبا لابي القاسم بن الشيخ أبي
الفرج بن الجوزي، وكان الآخر مدبرا فاسقا، وكانا يجتمعان على الشراب
والمردان قبحهما الله.
أبو محمد عبد العزيز بن محمود بن المبارك البزار المعروف بابن الاخضر
البغدادي المحدث المكثر الحافظ المصنف المحرر، له كتب
(13/81)
مفيدة متقنة،
وكان من الصالحين، وكان يوم جنازته يوما مشهودا رحمه الله (1).
الحافظ أبو الحسن علي بن الانجب أبي المكارم المفضل [ بن أبي الحسن علي
بن أبي الغيث مفرج بن حاتم بن الحسن بن جعفر بن إبراهيم بن الحسن ] (2)
اللخمي المقدسي، ثم الاسكندراني المالكي، سمع السلفي وعبد الرحيم
المنذري وكان مدرسا للمالكية بالاسكندرية، ونائب الحكم بها.
ومن شعره قوله:
أيا نفس بالمأثور عن خير مرسل * وأصحابه والتابعين تمسكي عساكي إذا
بالغت في نشر دينه * بما طاب من عرف له أن تمسكي وخافي غدا يوم الحساب
جهنما * إذا لفحت نيرانها أن تمسكي توفي بالقاهرة في هذه السنة قاله
ابن خلكان.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وستمائة فيها شرع
في بناء المدرسة العادلية الكبيرة بدمشق، وفيها عزل القاضي ابن الزكي
وفوض الحكم إلى القاضي جمال الدين بن الحرستاني، وهو ابن ثمانين أو
تسعين سنة، فحكم بالعدل وقضى بالحق، ويقال إنه كان يحكم بالمدرسة
المجاهدية قريبا من النورية عند باب القواسين.
وفيها أبطل العادل ضمان الخمر والقيان جزاه الله خيرا، فزال بزوال ذلك
عن الناس ومنهم شر كثير.
وفيها حاصر الامير قتادة أمير مكة المدينة ومن بها وقطع نخلا كثيرا،
فقاتله أهلها فكر خائبا خاسرا حسيرا، وكان صاحب المدينة بالشام فطلب من
العادل نجدة على أمير مكة، فأرسل معه جيشا فأسرع في الاوبة فمات في
أثناء الطريق، فاجتمع الجيش على ابن أخيه جماز فقصد مكة فالتقاه أميرها
بالصفراء فاقتتلوا قتالا شديدا، فهرب المكيون وغنم منهم جماز شيئا
كثيرا، وهرب قتادة إلى الينبع فساروا إليه فحاصروه بها وضيقوا عليه.
وفيها أغارت الفرنج على بلاد الاسماعيلية فقتلوا ونهبوا.
وفيها أخذ ملك الروم كيكاوس مدينة إنطاكية من أيدي الفرنج ثم أخذها منه
ابن لاون ملك الارمن، ثم منه إبريس طرابلس.
وفيها ملك خوارزم شاه محمد بن تكش مدينة غزنة بغير قتال.
وفيها كانت وفاة ولي العهد أبي
الحسن علي بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، ولما توفي حزن
__________
(1) جنابذي الاصل، بغدادي المولد، يوم الخميس في 18 رجب سنة 524 ه مات
بين العشاءين سادس شوال عن 87 سنة.
وجنابذي نسبة إلى جنابذ، ويقال كنابذ قرية بنيسابور (انظر ابن الاثير -
شذرات الذهب).
(2) ما بين معكوفين زيد في عامود نسبه من ابن خلكان 3 / 290.
(*)
(13/82)
الخليفة عليه
حزنا عظيما، وكذلك الخاصة والعامة لكثرة صدقاته وإحسانه إلى الناس، حتى
قيل إنه لم يبق بيت ببغداد إلا حزنوا عليه، وكان يوم جنازته يوما
مشهودا وناح أهل البلد عليه ليلا ونهارا، ودفن عند جدته بالقرب من قبر
معروف (1)، توفي يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة وصلي عليه بعد صلاة
العصر، وفي هذا اليوم قدم بغداد برأس منكلي الذي كان قد عصي (2) على
الخليفة وعلى أستاذه، فطيف به ولم يتم فرحه ذلك اليوم لموت ولده وولي
عهده، والدنيا لا تسر بقدر ما تضر، وترك ولدين أحدهما المؤيد أبو عبد
الله الحسين، والموفق أبو الفضل يحيى.
وفيها توفي من الاعيان: الحافظ عبد
القادر الرهاوي ابن عبد القادر بن عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد
الحافظ المحدث المخرج المفيد المحرر المتقن البارع المصنف، كان مولى
لبعض المواصلة، وقيل لبعض الجوابين، اشتغل بدار الحديث بالموصل، ثم
انتقل إلى حران، وقد رحل إلى بلدان شتى، وسمع الكثير من المشايخ، وأقام
بحران إلى أن توفي بها، وكان مولده في سنة ست وثلاثين وخمسمائة، كان
دينا صالحا رحمه الله.
الوجيه الاعمى أبو بكر المبارك بن سعيد بن الدهان النحوي الواسطي
الملقب بالوجيه، ولد بواسط وقدم بغداد فاشتغل بعلم العربية، فأتقن ذلك
وحفظ شيئا من أشعار العرب، وسمع الحديث وكان حنبليا ثم انتقل إلى مذهب
أبي حنيفة، ثم صار شافعيا، وولي تدريس النحو بالنظامية، وفيه يقول
الشاعر (3): فمن مبلغ عني الوجيه رسالة * وإن كان لا تجدي إليه الرسائل
(4) تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل * وذلك لما أعوزتك المآكل وما أخذت
برأي الشافعي ديانة (5) * ولكنما تهوى الذي هو حاصل
__________
(1) أي معروف الكرخي.
(2) منكلي وهو صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، قتل في
مدينة ساوة وارسل رأسه إلى الخليفة
ببغداد.
(3) وهو أبو البركات بن زيد التكريتي، وقد تقدمت وفاته، والابيات.
(4) في ابن الاثير: لديه الرسائل.
(5) في الوافي 2 / 116 وابن الاثير 12 / 312: وما اخترت رأي الشافعي
تدينا.
(*)
(13/83)
وعما قليل أنت
لا شك صائر * إلى مالك فانظر (1) إلى ما أنت قائل وكان يحفظ شيئا كثيرا
من الحكايات والامثال والملح، ويعرف العربية والتركية والعجمية
والرومية والحبشية والزنجية، وكانت له يد طولى في نظم الشعر.
فمن ذلك قوله: ولو وقفت في لجة البحر قطرة * من المزن يوما ثم شاء لما
زها ولو ملك الدنيا فأضحى ملوكها * عبيدا له في الشرق والغرب مازها وله
في التجنيس: أطلت ملامي في اجتنابي لمعشر * طغام لئام جودهم غير مرتجى
حموا ما لهم والدين والعرض منهم * مباح، فما يخشون من عاب أو هجا إذا
شرع الاجواد في الجود منهجا * لهم شرعوا في البخل سبعين منهجا وله
مدائح حسنة وأشعار رائقة ومعان فائقة، وربما عرض شعر البحتري بما
يقاربه ويدانيه، قالوا وكان الوجيه لا يغضب قط، فتراهن جماعة مع واحد
أنه إن أغضبه كان له كذا وكذا، فجاء إليه فسأله عن مسألة في العربية
فأجابه فيها بالجواب، فقال له السائل: أخطأت أيها الشيخ، فأعاد عليه
الجواب بعبارة أخرى، فقال: كذبت وما أراك إلا قد نسيت النحو، فقال
الوجيه: أيها الرجل فلعلك لم تفهم ما أقول لك، فقال بلى ولكنك تخطئ في
الجواب، فقال له: فقل أنت ما عندك لنستفيد منك، فأغلظ له السائل في
القول فتبسم ضاحكا وقال له: إن كنت راهنت فقد غلبت، وإنما مثلك مثل
البعوضة - يعني الناموسة - سقطت على ظهر الفيل، فلما أرادت أن تطير
قالت له استمسك فإني أحب أن أطير، فقال لها الفيل: ما أحسست بك حين
سقطت، فما أحتاج أن
أستمسك إذا طرت، كانت وفاته رحمه الله في شعبان منها ودفن بالوردية
(2).
أبو محمد عبد العزيز بن أبي المعالي ابن غنيمة المعروف بابن منينا، ولد
سنة خمس عشرة وخمسمائة وسمع الكثير وأسمعه، توفي في ذي الحجة منها عن
سبع وتسعين سنة.
الشيخ الفقه كمال الدين مودود ابن الشاغوري الشافعي كان يقرئ بالجامع
الاموي الفقه وشرح التنبيه للطلبة، ويتأنى
__________
(1) في الوافي: فافطن لما أنت.
وفي ابن خلكان: فافطن لما أنا (انظر ابن الاثير وتاريخ أبي الفداء).
(2) الوردية: مقبرة بغداد بعد باب أبرز من الجانب الشرقي قريبة من باب
الظفرية (ياقوت).
(*)
(13/84)
عليهم حتى
يفهموا احتسابا تجاه المقصورة.
ودفن بمقابر باب الصغير شمالي قبور الشهداء وعلى قبره شعر ذكره أبو
شامة والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة قال أبو
شامة: فيها أحضرت الاوتاد الخشب الاربعة لاجل قبة النسر، طول كل واحد
اثنان وثلاثون ذراعا بالنجار.
وفيها شرع في تجديد خندق باب السر المقابل لدار الطعم العتيقة إلى جانب
بانياس.
قلت: هي التي يقال لها اليوم اصطبل السلطان، وقد نقل السلطان بنفسه
التراب ومماليكه تحمل بين يديه على قربوس السروج القفاف من التراب
فيفرغونها في الميدان الاخضر، وكذلك أخوه الصالح ومماليكه يعمل هذا
يوما وهذا يوما.
وفيها وقعت فتنة بين أهل الشاغور وأهل العقيبة فاقتتلوا بالرحبة
والصيارف، فركب الجيش إليهم ملبسين وجاء المعظم بنفسه فمسك رؤوسهم
وحبسهم.
وفيها رتب بالمصلى خطيب مستقل، وأول من باشره الصدر معيد الفلكية، ثم
خطب به بعد بهاء الدين بن أبي اليسر، ثم بنو حسان وإلى الآن.
وفيها توفي من الاعيان: الملك
الظاهر أبو منصور
غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان من خيار الملوك وأسدهم سيرة،
ولكن كان فيه عسف ويعاقب على الذنب اليسير كثيرا، وكان يكرم العلماء
والشعراء والفقراء، أقام في الملك ثلاثين سنة (1) وحضر كثيرا من
الغزوات مع أبيه، وكان ذكيا له رأي جيد وعبارة سديدة وفطنة حسنة، بلغ
أربعا وأربعين سنة، وجعل الملك من بعده لولده العزيز غياث الدين محمد،
وكان حينئذ ابن ثلاث سنين، وكان له أولاد كبار ولكن ابنه هذا الصغير
الذي عهد إليه كان من بنت عمه العادل وأخواله الاشرف والمعظم والكامل،
وجده وأخواله لا ينازعونه، ولو عهد لغيره من أولاده لاخذوا الملك منه،
وهكذا وقع سواء، بايع له جده العادل وأخواله، وهم المعظم بنقض ذلك
وبأخذ الملك منه فلم يتفق له ذلك، وقام بتدبير ملكه الطواشي شهاب الدين
طغرلبك الرومي الابيض، وكان دينا عاقلا.
وفيها توفي من الاعيان: زيد بن الحسن ابن زيد بن الحسن (2) بن سعيد بن
عصمة الشيخ الامام وحيد عصره تاج الدين أبو اليمن
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء 3 / 117: إحدى وثلاثين.
(2) في الوافي زاد: ابن الحسن، كرر الحسن ثلاث مرات.
(*)
(13/85)
الكندي، ولد
ببغداد ونشأ بها واشتغل وحصل، ثم قدم دمشق فأقام بها وفاق أهل زمانه
شرقا وغربا في اللغة والنحو وغير ذلك من فنون العلم، وعلو الاسناد وحسن
الطريقة والسيرة وحسن العقيدة، وانتفع به علماء زمانه وأثنوا عليه
وخضعوا له.
وكان حنبليا ثم صار حنفيا.
ولد في الخامس والعشرين من شعبان سنة عشرين وخمسمائة، فقرأ القرآن
بالروايات وعمره عشر سنين، وسمع الكثير من الحديث العالي على الشيوخ
الثقات، وعنى به وتعلم العربية واللغة واشتهر بذلك، ثم دخل الشام في
سنة ثلاث وستين وخمسمائة، ثم سكن مصر واجتمع بالقاضي الفاضل، ثم انتقل
إلى دمشق فسكن بدار العجم منها وحظي عند الملوك والوزراء والامراء،
وتردد إليه العلماء والملوك وأبناؤهم، كان الافضل بن صلاح الدين وهو
صاحب دمشق يتردد إليه إلى منزله، وكذلك أخوه المحسن والمعظم ملك دمشق،
كان ينزل إليه إلى درب العجم يقرأ عليه في المفصل للزمخشري، وكان
المعظم يعطي لمن حفظ المفصل ثلاثين دينارا جائزة، وكان يحضر مجلسه بدرب
العجم جميع المصدرين بالجامع، كالشيخ علم الدين السخاوي ويحيى بن معطي
الوجيه اللغوي، والفخر التركي وغيرهم، وكان القاضي الفاضل يثني عليه.
قال السخاوي: كان عنده من العلوم ما لا يوجد عند غيره.
ومن العجب أن سيبويه قد شرح عليه كتابه وكان اسمه عمرو، واسمه زيد.
فقلت في ذلك: لم يكن في عهد (1) عمرو مثله * وكذا الكندي في آخر عصر
فهما زيد وعمرو إنما * بني النحو على زيد وعمرو قال أبو شامة: وهذا كما
قال فيه ابن الدهان المذكور في سنة ثنتين وتسعين وخمسمائة: يا زيد زادك
ربي من مواهبه * نعما يقصر عن إدراكها الامل النحو أنت أحق العالمين به
* أليس باسمك فيه يضرب المثل وقد مدحه السخاوي بقصيدة حسنة وأثنى عليه
أبو المظفر سبط ابن الجوزي، فقال قرأت عليه وكان حسن القصيدة ظريف
الخلق لا يسأم الانسان من مجالسته، وله النوادر العجيبة والخط المليح
والشعر الرائق، وله ديوان شعر كبير، وكانت وفاته يوم الاثنين سادس شوال
منها وله ثلاث وتسعون سنة وشهر وسبعة عشر يوما وصلي عليه بجامع دمشق ثم
حمل إلى الصالحية فدفن بها، وكان قد وقف كتبه - وكانت نفيسة - وهي
سبعمائة وإحدى وستون مجلدا، على معتقه نجيب الدين ياقوت، ثم على
العلماء في الحديث والفقه واللغة وغير ذلك، وجعلت في خزانة كبيرة في
مقصورة ابن سنان الحلبية المجاورة لمشهد علي بن زين العابدين، ثم إن
هذه الكتب تفرقت وبيع كثير منها ولم يبق بالخزانة المشار إليها إلا
القليل الرث، وهي بمقصورة الحلبية، وكانت قديما يقال لها
__________
(1) في الوافي بالوفيات 15 / 52: عصر.
(*)
(13/86)
مقصورة ابن
سنان، وقد ترك نعمة وافرة وأموالا جزيلة، ومماليك متعددة من الترك
الحسان، وقد كان رقيق الحاشية حسن الاخلاق يعامل الطلبة معاملة حسنة من
القيام والتعظيم، فلما كبر ترك القيام لهم وأنشأ يقول: تركت قيامي
للصديق يزورني * ولا ذنب لي إلا الاطالة في عمري فإن بلغوا من عشر
تسعين نصفها * تبين في ترك القيام لهم عذري ومما مدح فيه الملك المظفر
شاهنشاه ما ذكره ابن الساعي في تاريخه: وصال الغواني كان أورى وأرجا *
وعصر التداني كان أبهى وأبهجا ليالي كان العمر أحسن شافع * تولى وكان
اللهو أوضح منهجا بدا الشيب فانجابت طماعية الصبا * وقبح لي ما كان
يستحسن الحجا بلهنية ولت كأن لم أكن بها * أجلى بها وجه النعيم مسرجا
ولا اختلت في برد الشباب مجررا * ذيولي إعجابا به وتبرجا أعارك غيداء
المعاطف طفلة * وأغيد معسول المراشف أدعجا نقضت لياليها بطيب كأنه *
لتقصيره منها مختطف الدجا فإن أمس مكروب الفؤاد حزينه * أعاقر من در
الصبابة منهجا وحيدا على أني بفضلي متيم * مروعا بأعداء الفضائل مزعجا
فيا رب ديني قد سررت وسرني * وأبهجته بالصالحات وأبهجا ويارب ناد قد
شهدت وماجد * شهدت دعوته فتلجلجا (1) صدعت بفضلي نقصه فتركته * وفي
قلبه شجو وفي حلقه شجا كأن ثنائي في مسامع حسدي * وقد ضم أبكار المعاني
وأدرجا حسام تقي الدين في كل مارق * يقد إلى الارض الكمي المدججا وقال
يمدح أخاه معز الدين فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب: هل أنت راحم عبرة
ومدله * ومجير صب عند ما منه وهي (2)
هيهات يرحم قاتل مقتوله * وسنانه في القلب غير منهنه مذ بل من ذاك
الغرام فإنني * مذ حل بي مرض الهوى لم أنقه (3) إني بليت بحب أغيد ساحر
* بلحاظه رخص البنان بزهوه
__________
(1) كذا بالاصل والبيت غير مستقيم.
(2) في الوافي 15 / 55: وتوله..دهي.
(3) في الوافي: داء الغرام فإنني...لم أنته.
(*)
(13/87)
أبغي شفاء
تدلهي من واله * ومتى يرق مدلل لمدله كم آهة لي في هواه وأنة * لو كان
ينفعني عليه تأوهي ومآرب في وصله لو أنها * تقضى لكانت عند مبسمه الشهي
يا مفردا بالحسن إنك منته * فيه كما أنا في الصبابة منتهي قد لام فيك
معاشر كي أنتهي * باللوم عن حب الحياة وأنت هي أبكي لديه فإن أحس بلوعة
* وتشهق أرمي بطرف مقهقه يا من محاسنه وحالي عنده * حيران بين تفكر
وتكفه ضدان قد جمعا بلفظ واحد * لي في هواه بمعنيين موجه أو لست رب
فضائل لو حاز أد * ناها وما أزهى بها غيري زهي والذي أنشده تاج الدين
الكندي في قتل عمارة اليمني حين كان مالا الكفرة والملحدين على قتل
الملك صلاح الدين، وأرادوا عودة دولة الفاطميين فظهر على أمره فصلب مع
من صلب في سنة تسع وتسعين وخمسمائة: عمارة في الاسلام أبدى خيانة *
وحالف فيها بيعة وصليبا فأمسى شريك الشرك في بعض أحمد * وأصبح في حب
الصليب صليبا وكان طبيب الملتقي إن عجمته * تجد منه عودا في النفاق
صليبا (1)
وله: صحبنا الدهر أياما حسانا * نعوم بهن في اللذات عوما وكانت بعد ما
ولت كأني * لدى نقصانها حلما ونوما أناخ بي المشيب فلا براح * وإن
أوسعته عتبا ولوما نزيل لا يزال على التأني * يسوق إلى الردى يوما
فيوما وكنت أعد لي عاما فعاما * فصرت أعد لي يوما فيوما العز محمد بن
الحافظ عبد الغني المقدسي ولد سنة ست وستين وخمسمائة وأسمعه والده
الكثير ورحل بنفسه إلى بغداد وقرأ بها مسند أحمد وكانت له حلقة بجامع
دمشق، وكان من أصحاب المعظم، وكان صالحا دينا ورعا حافظا رحمه الله
ورحم أباه.
__________
(1) تقدمت الابيات في الجزء الثاني عشر، وتعليقات أبي شامة عليها.
(*)
(13/88)
أبو الفتوح
محمد بن علي بن المبارك الخلاخلي البغدادي، سمع الكثير، وكان يتردد في
الرسلية بين الخليفة والملك الاشرف بن العادل وكان عاقلا دينا ثقة
صدوقا.
الشريف أبو جعفر يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علي العلوي
الحسيني، نقيب الطالبيين بالبصرة بعد أبيه، كان شيخا أديبا فاضلا عالما
بفنون كثيرة لا سيما علم الانساب وأيام العرب وأشعارها، يحفظ كثيرا
منها، وكان من جلساء الخليفة الناصر، ومن لطيف شعره قوله: ليهنك سمع لا
يلائمه العذل * وقلب قريح لا يمل ولا يسلو كأن علي الحب أضحى فريضة *
فليس لقلبي غيره أبدا شغل وإني لاهوى الهجر ما كان أصله * دلالا ولولا
الهجر ما عذب الوصل
وأما إذا كان الصدود ملالة * فأيسر ما هم الحبيب به القتل أبو علي مزيد
بن علي ابن مزيد المعروف بابن الخشكري الشاعر المشهور، من أهل
النعمانية جمع لنفسه ديوانا أورد له ابن الساعي قطعة من شعره فمن ذلك
قوله: سألتك يوم النوى نظرة * فلم تسمحي فعزالا سلم فأعجب كيف تقولين
لا * ووجهك قد خط فيه نعم أما النون يا هذه حاجب * أما العين عين أما
الميم فم أبو الفضل رشوان بن منصور ابن رشوان الكردي المعروف بالنقف
ولد بإربل وخدم جنديا وكان أديبا شاعرا خدم مع الملك العادل، ومن شعره
قوله: سلي عني الصوارم والرماحا * وخيلا تسبق الهوج الرياحا وأسدا
حبيسها سمر العوالي * إذا ما الاسد حاولت الكفاحا فإني ثابت عقلا ولبا
* إذا ما صائح في الحرب صاحا وأورد مهجتي لجج المنايا * إذا ماجت ولم
أخف الجراحا
(13/89)
وكم ليل سهرت
وبت فيه * أراعي النجم أرتقب الصباحا وكم في فدفد فرسي ونضوي * بقائلة
الهجير غدا وراحا لعينك في العجاجة ما ألاقي * وأثبت في الكريهة لا
براحا محمد بن يحيى ابن هبة الله أبو نصر النحاس الواسطي كتب إلى السبط
من شعره: وقائلة لما عمرت وصار لي * ثمانون عاما: عش كذا وابق واسلم
ودم وانتشق روح الحياة فإنه * لاطيب من بيت بصعدة مظلم
فقلت لها: عذري لديك ممهد * ببيت زهير فاعلمي وتعلمي " سئمت تكاليف
الحياة ومن يعش * ثمانين حولا لا محالة يسأم " (1) ثم دخلت سنة أربع
عشرة وستمائة في ثالث المحرم منها كمل تبليط داخل الجامع الاموي وجاء
المعتمد مبارز الدين إبراهيم المتولي بدمشق، فوضع آخر بلاطة منه بيده
عند باب الزيارة فرحا بذلك.
وفيها زادت دجلة ببغداد زيادة عظيمة وارتفع الماء حتى ساوى القبور إلا
مقدار أصبعين، ثم طفح الماء من فوقه وأيقن الناس بالهلكة واستمر ذلك
سبع ليال وثمانية أيام حسوما، ثم من الله فتناقص الماء وذهبت الزيادة،
وقد بقيت بغداد تلولا وتهدمت أكثر البنايات.
وفيها درس بالنظامية محمد بن يحيى بن فضلان وحضر عنده القضاة والاعيان.
وفيها صدر الصدر بن حمويه رسولا من العادل إلى الخليفة.
وفيها قدم ولده الفخر بن الكامل إلى المعظم يخطب منه ابنته على ابنه
أقسيس صاحب اليمن، فعقد العقد بدمشق على صداق هائل.
وفيها قدم السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش من همدان قاصدا
إلى بغداد في أربعمائة ألف مقاتل، وقيل في ستمائة ألف، فاستعد له
الخليفة واستخدم الجيوش وأرسل إلى الخليفة يطلب منه أن يكون بين يديه
على قاعدة من تقدمه من الملوك السلاجقة، وأن يخطب له ببغداد، فلم يجبه
الخليفة إلى ذلك، وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين السهروردي، فلما وصل
شاهد عنده من العظمة وكثرة الملوك بين يديه وهو جالس في حركاة من ذهب
على سرير ساج، وعليه قباء بخاري ما يساوي خمسة دراهم، وعلى رأسه جلدة
ما تساوي درهما، فسلم عليه فلم يرد عليه من الكبر ولم يأذن له في
الجلوس، فقام إلى جانب السرير وأخذ في خطبة هائلة فذكر فيها فضل بني
العباس وشرفهم، وأورد حديثا في النهي
__________
(1) الابيات في الوافي 5 / 199 والبيت الاخير في ديوان زهير ص 16.
والشعراء الستة ص 96.
(*)
(13/90)
عن أذاهم
والترجمان يعيد على الملك، فقال الملك أما ما ذكرت من فضل الخليفة فإنه
ليس كذلك، ولكني إذا قدمت بغداد أقمت من يكون بهذه الصفة، وأما ما ذكرت
من النهي عن أذاهم
فإني لم أوذ منهم أحدا ولكن الخليفة في سجونه منهم طائفة كثيرة
يتناسلون في السجون، فهو الذي آذى بني العباس، ثم تركه ولم يرد عليه
جوابا بعد ذلك، وانصرف السهروردي راجعا، وأرسل الله تعالى على الملك
وجنده ثلجا عظيما ثلاثة أيام حتى طم الحزاكي والخيام، ووصل إلى قريب
رؤوس الاعلام، وتقطعت أيدي رجال وأرجلهم، وعمهم من البلاء ما لا يحد
ولا يوصف، فردهم الله خائبين والحمد لله رب العالمين.
وفيها انقضت الهدنة التي كانت بين العادل والفرنج واتفق قدوم العادل من
مصر فاجتمع هو وابنه المعظم ببيسان، فركبت الفرنج من عكا وصحبتهم ملوك
السواحل كلهم وساقوا كلهم قاصدين معافصة العادل، فلما أحس بهم فر منهم
لكثرة جيوشهم وقلة من معه، فقال ابنه المعظم إلى أين يا أبة ؟ فشتمه
بالعجمية وقال له أقطعت الشام مماليكك وتركت أبناء الناس، ثم توجه
العادل إلى دمشق وكتب إلى واليها المعتمد ليحصنها من الفرنج وينقل
إليها من الغلات من داريا إلى القلعة، ويرسل الماء على أراضي داريا
وقصر حجاج والشاغور، ففزع الناس من ذلك وابتهلوا إلى الله بالدعاء وكثر
الضجيج بالجامع، وأقبل السلطان فنزل مرج الصفر وأرسل إلى ملوك الشرق
ليقدموا لقتال الفرنج، فكان أول من قدم صاحب حمص أسد الدين، فتلقاه
الناس فدخل من باب الفرج وجاء فسلم على ست الشام بدارها عند المارستان،
ثم عاد إلى داره، ولما قدم أسد الدين سرى عن الناس فلما أصبح توجه نحو
العادل إلى مرج الصفر.
وأما الفرنج فإنهم قدموا بيسان فنهبوا ما كان بها من الغلات والدواب،
وقتلوا وسبوا شيئا كثيرا، ثم عاثوا في الارض فسادا يقتلون وينهبون
ويأسرون ما بين بيسان إلى بانياس، وخرجوا إلى أراضي الجولان إلى نوى
وغيرها، وسار الملك المعظم فنزل على عقبة اللبن بين القدس ونابلس خوفا
على القدس منهم، فإنه هو الاهم الاكبر، ثم حاصر الفرنج حصن الطور حصارا
هائلا (1) ومانع عنه الذين به من الابطال ممانعة هائلة، ثم كر الفرنج
راجعين إلى عكا ومعهم الاسارى من المسلمين، وجاء الملك المعظم إلى
الطور فخلع على الامراء الذين به وطيب نفوسهم، ثم اتفق هو وأبوه على
هدمه كما سيأتي.
وفيها توفي من الاعيان: الشيخ
الامام العلامة الشيخ العماد أخو الحافظ عبد الغني، أبو إسحاق إبراهيم
بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي،
__________
(1) استمروا عليه سبعة عشر يوما (ابن الاثير - العبر لابن خلدون).
(*)
(13/91)
الشيخ العمادي
أصغر من أخيه الحافظ عبد الغني بسنتين، وقدم مع الجماعة إلى دمشق سنة
إحدى وخمسين وخمسمائة، ودخل بغداد مرتين وسمع الحديث وكان عابدا زاهدا
ورعا كثير الصيام، يصوم يوما ويفطر يوما، وكان فقيها مفتيا، وله كتاب
الفروع وصنف أحكاما ولم يتمه، وكان يؤم بمحراب الحنابلة مع الشيخ
الموفق، وإنما كانوا يصلون بغير محراب، ثم وضع المحراب في سنة سبع عشرة
وستمائة، وكان أيضا يؤم بالناس لقضاء الفوائت، وهو أول من فعل ذلك.
صلى المغرب ذات ليلة وكان صائما ثم رجع إلى منزله بدمشق فأفطر ثم مات
فجأة، فصلي عليه بالجامع الاموي، صلى عليه الشيخ الموفق عند مصلاهم، ثم
صعدوا به إلى السفح، وكان يوم موته يوما مشهودا من كثرة الناس.
قال سبط ابن الجوزي كان الخلق من الكهف إلى مغارة الدم إلى المنطور لو
بذر السمسم ما وقع إلا على رؤوس الناس، قال فلما رجعت تلك الليلة فكرت
فيه وفي جنازته وكثرة من شهدها وقلت: هذا كان رجلا صالحا ولعله أن يكون
نظر إلى ربه حين وضع في قبره، ومر بذهني أبيات الثوري التي أنشدها بعد
موته في المنام: نظرت إلى ربي كفاحا فقال لي * هنيئا رضائي عنك يا بن
سعيد لقد كنت قواما إذا أظلم الدجى * بعبرة مشتاق وقلب عميد فدونك
فاختر أي قصر أردته * وزرني فإني عنك غير بعيد ثم قلت أرجو أن يكون
العماد رأى ربه كما رآه الثوري، فنمت فرأيت الشيخ العماد في المنام
وعليه حلة خضراء وعمامة خضراء، وهو في مكان متسع كأنه روضة، وهو يرقى
في درج متسعة، فقلت: يا عماد الدين كيف بت فإني والله مفكر فيك ؟ فنظر
إلي وتبسم على عادته التي كنت أعرفه
فيها في الدنيا ثم قال: رأيت إلهي حين أنزلت حفرتي * وفارقت أصحابي
وأهلي وجيرتي وقال: جزيت الخير عني فإنني * رضيت فها عفوي لديك ورحمتي
دأبت زمانا تأمل العفو والرضا * فوقيت نيراني ولقيت جنتي قال فانتبهت
وأنا مذعور وكتبت الابيات والله أعلم.
القاضي جمال الدين ابن الحرستاني عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل أبو
القاسم الانصاري ابن الحرستاني قاضي القضاة بدمشق ولد سنة عشرين
وخمسمائة، وكان أبوه من أهل حرستان، فنزل داخل باب توما وأم بمسجد
الزينبي ونشأ ولده هذا نشأة حسنة سمع الحديث الكثير وشارك الحافظ ابن
عساكر في كثير من شيوخه، وكان يجلس للاسماع بمقصورة الخضر، وعندها كان
يصلي دائما لا تفوته الجماعة
(13/92)
بالجامع، وكان
منزله بالحورية ودرس بالمجاهدية وعمر دهرا طويلا على هذا القدم الصالح
والله أعلم.
وناب في الحكم عن ابن أبي عصرون، ثم ترك ذلك ولزم بيته وصلاته بالجامع،
ثم عزل العادل القاضي ابن الزكي وألزم هذا بالقضاء وله ثنتان وتسعون
سنة وأعطاه تدريس العزيزية.
وأخذ التقوية أيضا من ابن الزكي وولاها فخر الدين ابن عساكر.
قال ابن عبد السلام: ما رأيت أحدا أفقه من ابن الحرستاني، كان يحفظ
الوسيط للغزالي.
وذكر غير واحد أنه كان من أعدل القضاة وأقومهم بالحق، لا تأخذه في الله
لومة لائم، وكان ابنه عماد الدين يخطب بجامع دمشق، وولي مشيخة الاشرفية
ينوب عنه، وكان القاضي جمال الدين يجلس للحكم بمدرسته المجاهدية، وأرسل
إليه السلطان طراحة ومسندة لاجل أنه شيخ كبير، وكان ابنه يجلس بين
يديه، فإذا قام أبوه جلس في مكانه، ثم إنه عزل ابنه عن نيابته لشئ بلغه
عنه، واستناب شمس الدين بن الشيرازي، وكان يجلس تجاهه في شرقي الايوان،
واستناب معه شمس الدين ابن سنا الدولة، واستناب شرف الدين ابن الموصلي
الحنفي، فكان يجلس في محراب المدرسة، واستمر حاكما سنتين
وأربعة أشهر، ثم مات يوم السبت رابع [ ذي ] الحجة وله من العمر خمس
وتسعون سنة، وصلي عليه بجامع دمشق ثم دفن بسفح قاسيون.
الامير بدر الدين محمد بن أبي القاسم الهكاري باني المدرسة التي
بالقدس، كان من خيار الامراء، وكان يتمنى الشهادة دائما فقتله الفرنج
بحصن الطور، ودفن بالقدس بتربة عاملها وهو يزار إلى الآن رحمه الله.
الشجاع محمود المعروف بابن الدماغ كان من أصدقاء العادل يضحكه، فحصل
أموالا جزيلة منهم، كانت داره داخل باب الفرنج فجعلتها زوجته عائشة
مدرسة للشافعية والحنفية، ووقفت عليها أوقافا دارة.
الشيخة الصالحة العابدة الزاهدة شيخة العالمات بدمشق، تلقب بدهن اللوز،
بنت نورنجان، وهي آخر بناته وفاة وجعلت أموالها وقفا على تربة أختها
بنت العصبة المشهورة.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة استهلت
والعادل بمرج الصفر لمناجزة الفرنج وأمر ولده المعظم بتخريب حصن الطور
فأخر به
(13/93)
ونقل ما فيه من
آلات الحرب وغيرها إلى البلدان خوفا من الفرنج (1).
وفي ربيع الاول (2) نزلت الفرنج على دمياط وأخذوا برج السلسلة في جمادى
الاولى، وكان حصنا منيعا، وهو قفل بلاد مصر.
وفيها التقى المعظم والفرنج على القيمون فكسرهم وقتل منهم خلقا وأسر من
الداوية مائة فأدخلهم إلى القدس منكسة أعلامهم.
وفيها جرت خطوب كثيرة ببلد الموصل بسبب موت ملوكها أولاد قرا أرسلان
واحدا بعد واحد، وتغلب مملوك أبيهم بدر الدين لؤلؤ على الامور والله
أعلم.
وفيها أقبل ملك الروم كيكاريس (3) سنجر يريد أخذ مملكة حلب، وساعده على
ذلك الافضل بن صلاح الدين صاحب سميساط، فصده عن ذلك الملك الاشرف موسى
بن العادل وقهر ملك الروم وكسر جيشه ورده خائبا.
وفيها تملك الاشرف مدينة سنجار مضافا إلى ما بيده من
الممالك (4).
وفيها توفي السلطان الملك العادل
أبو بكر بن أيوب، فأخذت الفرنج دمياط ثم ركبوا وقصدوا بلاد مصر من ثغر
دمياط فحاصروه مدة أربعة شهور، والملك الكامل يقاتلهم ويمانعهم،
فتملكوا برج السلسلة وهو كالقفل على ديار مصر، وصفته في وسط جزيرة في
النيل عند انتهائه إلى البحر، ومنه إلى دمياط، وهو على شاطئ البحر
وحافة سلسلة منه إلى الجانب الآخر، وعليه الجسر وسلسلة أخرى لتمنع دخول
المراكب من البحر إلى النيل، فلا يمكن الدخول، فلما ملكت الفرنج هذا
البرج شق ذلك على المسلمين، وحين وصل الخبر إلى الملك العادل وهو بمرج
الصفر تأوه لذلك تأوها شديدا ودق بيده على صدره أسفا وحزنا على
المسلمين وبلادها، ومرض من ساعته مرض الموت لامر يريده الله عز وجل،
فلما كان يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة توفي بقرية غالقين (5)، فجاءه
ولده المعظم مسرعا فجمع حواصله وأرسله في محفة ومعه خادم بصفة أن
السلطان مريض، وكلما جاء أحد من الامراء ليسلم عليه بلغهم الطواشي عنه،
أي أنه ضعيف، عن الرد عليهم، فلما انتهى به إلى القلعة دفن بها مدة ثم
حول إلى تربته بالعادلية الكبيرة، وقد كان الملك سيف الدين أبو بكر بن
أيوب بن شادي من خيار الملوك وأجودهم سيرة، دينا عاقلا صبورا وقورا،
أبطل المحرمات والخمور والمعازف من مملكته كلها وقد كانت ممتدة من أقصى
بلاد مصر واليمن والشام والجزيرة إلى همدان كلها، أخذها بعد أخيه صلاح
الدين سوى حلب فإنه
__________
(1) كان السبب في تخريب قلعة الطور قربها من عكا وتعذر حفظها والدفاع
عنها في الظروف المعروفة انذاك.
(2) في صفر كما في ابن الاثير وابن خلدون.
(3) في ابن الاثير وتاريخ أبي الفداء: كيكاوس.
(4) قال ابن الاثير ان صاحب سنجار أرسل إلى الاشرف بتسليمها إليه
ويعوضه بها الرقة فأجابه الاشرف إلى ذلك وتسلم سنجار مستهل جمادى
الاولى سنة سبع عشرة وستمائة (12 / 344).
(5) في ابن الاثير: عالقين، وفي تاريخ أبي الفداء: عالقين وهي عند عقبة
أفيق.
وفي تاريخ ابن خلدون 5 / 345 خانقين.
(*)
(13/94)
أقرها بيد ابن
أخيه الظاهر غازي لانه زوج ابنته صفية الست خاتون.
وكان العادل حليما صفوحا صبورا على الاذى كثير الجهاد بنفسه ومع أخيه
حضر معه مواقفه كلها أو أكثرها في مقاتلة الفرنج، وكانت له في ذلك اليد
البيضاء، وكان ماسك اليد وقد أنفق في عام الغلاء بمصر أموالا كثيرة على
الفقراء وتصدق على أهل الحاجة من أبناء الناس وغيرهم شيئا كثيرا جدا،
ثم إنه كفن في العام الثاني من بعد عام الغلاء في الفناء مائة ألف
إنسان من الغرباء والفقراء، وكان كثير الصدقة في أيام مرضه حتى كان
يخلع جميع ما عليه ويتصدق به وبمركوبه، وكان كثير الاكل ممتعا بصحة
وعافية مع كثرة صيامه، كان يأكل في اليوم الواحد أكلات جيدة، ثم بعد
هذا يأكل عند النوم رطلا بالدمشقي من الحلوى السكرية اليابسة، وكان
يعتريه مرض في أنفه في زمن الورد وكان لا يقدر على الاقامة بدمشق حتى
يفرغ زمن الورد، فكان يضرب له الوطاق بمرج الصفر ثم يدخل البلد بعد
ذلك.
توفي عن خمس وسبعين سنة (1)، وكان له من الاولاد جماعة (2): محمد
الكامل صاحب مصر، وعيسى المعظم صاحب دمشق، وموسى الاشرف صاحب الجزيرة،
وخلاط وحران وغير ذلك، والاوحد أيوب مات قبله، والفائز إبراهيم،
والمظفر غازي صاحب الرها، والعزيز عثمان والامجد حسن وهما شقيقا
المعظم، والمقيت محمود، والحافظ أرسلان صاحب جعبر، والصالح إسماعيل،
والقاهر إسحاق، ومجير الدين يعقوب، وقطب الدين أحمد، وخليل وكان
أصغرهم، وتقي الدين عباس وكان آخرهم وفاة، بقي إلى سنة ستين وستمائة،
وكان له بنات أشهرهن الست صفية خاتون زوجة الظاهر غازي صاحب حلب وأم
الملك العزيز والد الناصر يوسف الذي ملك دمشق، وإليه تنسب الناصريتان
إحداهما بدمشق والاخرى بالسفح وهو الذي قتله هلاكو كما سيأتي.
صفة أخذ الفرنج دمياط لما اشتهر
الخبر بموت العادل ووصل إلى ابنه الكامل وهو بثغر دمياط مرابط الفرنج،
أضعف ذلك أعضاء المسلمين وفشلوا، ثم بلغ الكامل خبر آخر أن الامير ابن
المشطوب وكان أكبر أمير
بمصر، قد أراد أن يبايع للفائز عوضا عن الكامل، فساق وحده جريدة فدخل
مصر ليستدرك هذا الخطب الجسيم، فلما فقده الجيش من بينهم انحل نظامهم
واعتقدوا أنه قد حدث أمر أكبر من موت العادل، فركبوا وراءه فدخلت
الفرنج بأمان إلى الديار المصرية، واستحوذوا على معسكر الكامل وأثقاله،
فوقع خبط عظيم جدا، وذلك تقدير العزيز العليم، فلما دخل الكامل مصر لم
يقع مما ظنه شئ، وإنما هي خديعة من الفرنج، وهرب منه ابن المشطوب إلى
الشام، ثم ركب
__________
(1) زيد في ابن الاثير: وشهورا.
(2) قال أبو الفداء في تاريخه 3 / 120: خلف ستة عشر ولدا ذكرا غير
البنات.
أما ابن إياس في بدائع الزهور قال: خلف من الاولاد ثلاثة.
(*)
(13/95)
من فوره في
الجيش إلى الفرنج (1) فإذا الامر قد تزايد، وتمكنوا من البلدان وقتلوا
خلقا وغنموا كثيرا، وعاثت الاعراب التي هنالك على أموال الناس، فكانوا
أضر عليهم من الفرنج، فنزل الكامل تجاه الفرنج يمانعهم عن دخولهم إلى
القاهرة بعد أن كان يمانعهم عن دخول الثغر، وكتب إلى إخوانه يستحثهم
ويستنجدهم ويقول الوحا الوحا العجل العجل، أدركوا المسلمين قبل تملك
الفرنج جميع أرض مصر.
فأقبلت العساكر الاسلامية إليه من كل مكان، وكان أول من قدم عليه أخوه
الاشرف بيض الله وجهه، ثم المعظم وكان من أمرهم مع الفرنج ما سنذكره
بعد هذه السنة.
وفيها ولي حسبة بغداد الصاحب محيي الدين يوسف بن أبي الفرج ابن الجوزي،
وهو مع ذلك يعمل ميعاد الوعظ على قاعدة أبيه، وشكر في مباشرته للحسبة.
وفيها فوض إلى المعظم النظر في التربة البدرية تجاه الشبلية عند الجسر
الذي على ثور، ويقال له جسر كحيل، وهي منسوبة إلى حسن بن الداية، كان
هو وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي، وقد جعلت في حدود
الاربعين وستمائة جامعا يخطب فيه يوم الجمعة.
وفيها أرسل السلطان علاء الدين محمد بن تكش إلى الملك العادل وهو مخيم
بمرج الصفر رسولا، فرد إليه مع الرسول خطيب
دمشق جمال الدين محمد بن عبد الملك الدولعي، واستنيب عنه في الخطابة
الشيخ الموفق عمر بن يوسف خطيب بيت الابار، فأقام بالعزيزية يباشر عنه،
حتى قدم وقد مات العادل.
وفيها توفي الملك القاهر (2) صاحب
الموصل.
فأقيم ابنه الصغير (3) مكانه.
ثم قتل وتشتت شمل البيت الاتابكي، وتغلب على الامور بدر الدين لؤلؤ
غلام أبيه.
وفيها كان عود الوزير صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر من بلاد الشرق
بعد موت العادل، فعمل فيه علم الدين مقامة بالغ في مدحه فيها، وقد
ذكروا أنه كان متواضعا يحب الفقراء والفقهاء، ويسلم على الناس إذا
اجتاز بهم وهو راكب في أبهة وزارته، ثم إنه نكب في هذه السنة، وذلك أن
الكامل هو الذي كان سبب طرده وإبعاده كتب إلى أخيه المعظم فيه، فاحتاط
على أمواله وحواصله، وعزل ابنه عن النظر من الدواوين، وقد كان ينوب عن
أبيه في مدة غيبته.
وفي رجب منها أعاد المعظم ضمان القيان والخمور والمغنيات وغير ذلك من
الفواحش والمنكرات التي كان أبوه قد أبطلها، بحيث إنه لم
__________
(1) أما ابن الاثير فيقول انه اتصل بالملك الاشرف وصار من جنده (وانظر
تاريخ ابن خلدون 5 / 345).
وابن المشطوب هو عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد المشطوب
وكان مقدما عظيما في الاكراد الهكارية.
(2) وهو عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن
آقسنقر، وكانت وفاته بالحمى ليلة الاثنين لثلاث بقين من ربيع الاول،
وكانت ولايته سبع سنين وتسعة أشهر.
وانقرض بموته ملك البيت الاتابكي، فقد تدبر أمر مملكته بدر الدين لؤلؤ
وصيا على ولدين صغيرين ثم استأثر بالمملكة.
(ابن الاثير - تاريخ أبي الفداء).
وهو أرسلان شاه وكان عمره نحو عشر سنين.
(*)
(13/96)
يكن أحد يتجاسر
أن ينقل ملء كف خمر إلى دمشق إلا بالحيلة الخفية، فجزى الله العادل
خيرا، ولا جزى المعظم خيرا على ما فعل، واعتذر المعظم في ذلك بأنه إنما
صنع هذا المنكر لقلة الاموال على الجند، واحتياجهم إلى النفقات في قتال
الفرنج.
وهذا من جهله وقلة دينه وعدم معرفته بالامور، فإن هذا الصنيع يديل
عليهم الاعداء وينصرهم عليهم، ويتمكن منهم الداء ويثبط الجند عن
القتال، فيولون بسببه الادبار، وهذا مما يدمر ويخرب الديار ويديل
الدول، كما في الاثر
" إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني ".
وهذا ظاهر لا يخفى على فطن.
وممن توفي فيها من الاعيان: القاضي
شرف الدين أبو طالب عبد الله بن زين القضاة عبد الرحمن بن سلطان بن
يحيى اللخمي الضرير البغدادي، كان ينسب إلى علم الاوائل، ولكنه كان
يتستر بمذهب الظاهرية، قال فيه ابن الساعي: الداودي المذهب، المعري
أدبا واعتقادا، ومن شعره: إلى الرحمن أشكو ما ألافي * غداة عدوا على
هوج النياق سألتكم بمن زم المطايا * أمر بكم أمر من الفراق ؟ وهل ذل
أشد من التنائي * وهل عيش ألذ من التلاق ؟ قاضي قضاة بغداد.
عماد الدين أبو القاسم عبد الله بن الحسين بن الدامغاني الحنفي، سمع
الحديث وتفقه على مذهب أبي حنيفة، وولي القضاء ببغداد مرتين نحوا من
أربع عشرة سنة، وكان مشكور السيرة عارفا بالحساب والفرائض وقسمة
التركات.
أبو اليمن نجاح بن عبد الله الحبشي السوداني نجم الدين مولى الخليفة
الناصر، كان يسمى سلمان دار الخلافة، وكان لا يفارق الخليفة، فلما مات
وجد عليه الخليفة وجدا كثيرا، وكان يوم جنازته يوما مشهودا، كان بين
يدي نعشه مائة بقرة وألف شاة وأحمال من التمر والخبز والماورد، وقد صلى
عليه الخليفة بنفسه تحت التاج، وتصدق عنه بعشرة آلاف دينار على
المشاهد، ومثلها على المجاورين بالحرمين، وأعتق مماليكه ووقف عنه
خمسمائة مجلد.
(13/97)
أبو المظفر
محمد بن علوان
ابن مهاجر بن علي بن مهاجر الموصلي، تفقه بالنظامية وسمع الحديث، ثم
عاد إلى الموصل فساد أهل زمانه بها، وتقدم في الفتوى والتدريس بمدرسة
بدر الدين لؤلؤ وغيرها، وكان صالحا دينا.
أبو الطيب رزق الله بن يحيى ابن رزق الله بن يحيى بن خليفة بن سليمان
بن رزق الله بن غانم بن غنام التأخدري المحدث الجوال الرحال الثقة
الحافظ الاديب الشاعر، أبو العباس أحمد بن برتكش بن عبد الله العمادي،
وكان من أمراء سنجار، وكان أبوه من موالي الملك عماد الدين زنكي
صاحبها، وكان أحمد هذا دينا شاعرا ذا مال جزيل، وأملاك كثيرة، وقد
احتاط على أمواله قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي وأودعه سجنا فنسي
فيه ومات كمدا، ومن شعره: تقول وقد ودعتها ودموعها * على خدها من خشية
البين تلتقي مضى أكثر العمر الذي كان نافعا * رويدك فاعمل صالحا في
الذي بقي ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة فيها أمر الشيخ محيي الدين بن
الجوزي محتسب بغداد بإزالة المنكر وكسر الملاهي عكس ما أمر به المعظم،
وكان أمره في ذلك في أول هذه السنة ولله الحمد والمنة.
ظهور جنكيزخان وعبور التتار نهر جيحون وفيها عبرت التتار نهر جيحون
صحبة ملكهم جنكزخان من بلادهم، وكانوا يسكنون جبال طمغاج (1) من أرض
الصين ولغتهم مخالفة للغة سائر التتار، وهم من أشجعهم وأصبرهم على
القتال، وسبب دخولهم نهر جيحون أن جنكزخان بعث تجارا له ومعهم أموال
كثيرة إلى بلاد خوارزم شاه يبتضعون له ثيابا للكسوة، فكتب نائبها إلى
خوارزم شاه يذكر له ما معهم من كثرة الاموال، فأرسل إليه بأن يقتلهم
ويأخذ ما معهم، ففعل ذلك، فلما بلغ جنكزخان خبرهم أرسل يتهدد خوارزم
شاه، ولم يكن ما فعله خوارزم شاه فعلا جيدا، فلما تهدده أشار من أشار
على خوارزم شاه بالمسير إليهم، فسار إليهم وهم في شغل شاغل بقتال كشلي
خان، فنهب خوارزم شاه
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء: طوغاج: وهي واسطة الصين.
(*)
(13/98)
أموالهم وسبى
ذراريهم وأطفالهم، فأقبلوا إليه محروبين فاقتتلوا معه أربعة أيام قتالا
لم يسمع بمثله، أولئك يقاتلون عن حريمهم والمسلمون عن أنفسهم، يعلمون
أنهم متى ولوا استأصلوهم، فقتل من الفريقين خلق كثير، حتى أن الخيول
كانت تزلق في الدماء، وكان جملة من قتل من المسلمين نحوا من عشرين
ألفا، ومن التتار أضعاف ذلك، ثم تحاجز الفريقان وولى كل منهم إلى بلاده
ولجأ خوارزم شاه وأصحابه إلى بخارى وسمرقند فحصنها وبالغ في كثرة من
ترك فيها من المقاتلة، ورجع إلى بلاده ليجهز الجيوش الكثيرة، فقصدت
التتار بخارى وبها عشرون ألف مقاتل فحاصرها جنكزخان ثلاثة أيام، فطلب
منه أهلها الامان فأمنهم ودخلها فأحسن السيرة فيهم مكرا وخديعة،
وامتنعت عليه القلعة فحاصرها واستعمل أهل البلد في طم خندقها وكانت
التتار يأتون بالمنابر والربعات فيطرحونها في الخندق يطمونه بها
ففتحوها قسرا في عشرة أيام (1)، فقتل من كان بها.
ثم عاد إلى البلد فاصطفى أموال تجارها وأحلها لجنده فقتلوا من أهلها
خلقا لا يعلمهم إلا الله عزوجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا معهن
الفواحش بحضرة أهليهن، فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من
أسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء
والاطفال والرجال، ثم ألقت التتار النار في دور بخارى ومدارسها
ومساجدها فاحترقت حتى صارت بلاقع خاوية على عروشها، ثم كروا راجعين
عنها قاصدين سمرقند، وكان من أمرهم ما سنذكره في السنة الآتية.
وفي مستهل هذه السنة خرب سور بيت المقدس عمره الله بذكره، أمر بذلك
المعظم خوفا من استيلاء الفرنج عليه بعد مشورة من أشار بذلك، فإن
الفرنج إذا تمكنوا من ذلك جعلوه وسيلة إلى أخذ الشام جميعه، فشرع في
تخريب السور في أول يوم المحرم فهرب منه أهله خوفا من الفرنج أن يهجموا
عليهم ليلا أو نهارا، وتركوا أموالهم وأثاثهم وتمزقوا في البلاد كل
ممزق، حتى قيل إنه بيع القنطار الزيت بعشرة دراهم والرطل النحاس بنصف
درهم.
وضج الناس وابتهلوا إلى الله
عند الصخرة وفي الاقصى، وهي أيضا فعلة شنعاء من المعظم مع ما أظهر من
الفواحش في العام الماضي، فقال بعضهم يهجو المعظم بذلك.
في رجب حلل الحميا * وأخرب القدس في المحرم وفيها استحوذت الفرنج على
مدينة دمياط ودخلوها بالامان فغدروا بأهلها وقتلوا رجالها وسبوا نساءها
وأطفالها، وفجروا بالنساء وبعثوا بمنبر الجامع والربعات ورؤوس القتلى
إلى الجزائر، وجعلوا الجامع كنيسة.
وفيها غضب المعظم على القاضي زكي الدين بن الزكي، وسببه أن عمته ست
الشام بنت أيوب مرضت في دارها التي جعلتها بعدها مدرسة فأرسلت إلى
القاضي لتوصي إليه، فذهب
__________
(1) في ابن الاثير: اثني عشر يوما.
(*)
(13/99)
إليها بشهود
معه فكتب الوصية كما قالت، فقال المعظم يذهب إلى عمتي بدون إذني، ويسمع
هو والشهود كلامها ؟ واتفق أن القاضي طلب من جابي العزيزية حسابها
وضربه بين يديه بالمقارع، وكان المعظم يبغض هذا القاضي من أيام أبيه،
فعند ذلك أرسل المعظم إلى القاضي ببقجة فيها قباء وكلوتة، القباء أبيض
والكلوتة صفراء.
وقيل بل كانا حمراوين مدرنين، وحلف الرسول عن السلطان ليلبسنهما ويحكم
بين الخصوم فيهما، وكان من لطف الله أن جاءته الرسالة بهذا وهو في
دهليز داره التي بباب البريد، وهو منتصب للحكم، فلم يستطع إلا أن
يلبسهما وحكم فيهما، ثم دخل داره واستقبل مرض موته، وكانت وفاته في صفر
من السنة الآتية بعدها، وكان الشرف بن عنين الزرعي الشاعر قد أظهر
النسك والتعبد، ويقال: إنه اعتكف بالجامع أيضا فأرسل إليه المعظم بخمر
ونرد ليشتغل بهما.
فكتب إليه ابن عنين: يا أيها الملك المعظم سنة * أحدثتها تبقى على
الآباد تجري الملوك على طريقك بعدها * خلع القضاة وتحفة الزهاد وهذا من
أقبح ما يكون أيضا، وقد كان نواب ابن الزكي أربعة: شمس الدين بن
الشيرازي إمام مشهد علي، كان يحكم بالمشهد بالشباك، وربما برز إلى طرف
الرواق تجاه البلاطة السوداء.
وشمس الدين ابن سنى الدولة، كان يحكم في الشباك الذي في الكلاسة تجاه
تربة صلاح الدين عند الغزالية، وكمال الدين المصري وكيل بيت المال كان
يحكم في الشباك الكمالي بمشهد عثمان، وشرف الدين الموصلي الحنفي كان
يحكم بالمدرسة الطرخانية بجبرون والله تعالى أعلم.
وفيها توفي من الاعيان: ست الشام
واقفة المدرستين البرانية والجوانية الست الجليلة المصونة خاتون ست
الشام بنت أيوب بن شادي، أخت الملوك وعمة أولادهم، وأم الملوك، كان لها
من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكا، منهم شقيقها المعظم توران شاه بن
أيوب صاحب اليمن، وهو مدفون عندها في القبر القبلي من الثلاثة، وفي
الاوسط منها زوجها وابن عمها ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن
شادي صاحب حمص، وكانت قد تزوجته بعد أبي ابنها حسام الدين عمر بن
لاجين، وهي وابنها حسام الدين عمر في القبر الثالث، وهو الذي يلي مكان
الدرس، ويقال للتربة والمدرسة الحسامية نسبة إلى ابنها هذا حسام الدين
عمر بن لاجين، وكان من أكابر العلماء عند خاله صلاح الدين، وكانت ست
الشام من أكثر النساء صدقة وإحسانا إلى الفقراء والمحاويج، وكانت تعمل
في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربة وأدوية وعقاقير وغير ذلك
وتفرقه على الناس، وكانت وفاتها يوم الجمعة آخر النهار السادس عشر من
ذي القعدة من هذه السنة في دارها التي جعلتها مدرسة، وهي
(13/100)
عن المارستان
وهي الشامية الجوانية، ونقلت منها إلى تربتها بالشامية البرانية، وكانت
جنازتها حافلة رحمها الله.
أبو البقاء صاحب الاعراب واللباب عبد الله بن الحسين بن عبد الله،
الشيخ أبو البقاء العكبري الضرير النحوي الحنبلي صاحب: " إعراب القرآن
العزيز " (1) وكتاب " اللباب في (2) النحو "، وله حواش على المقامات
ومفصل الزمخشري وديوان المتنبي وغير ذلك، وله في الحساب وغيره، وكان
صالحا دينا، مات
وقد قارب الثمانين رحمه الله، وكان إماما في اللغة فقيها مناظرا عارفا
بالاصلين والفقه، وحكى القاضي ابن خلكان عنه أنه ذكر في شرح المقامات
أن عنقاء مغرب كانت تأتي إلى جبل شاهق (3) عند أصحاب الرس، فربما
اختطفت بعض أولادهم فشكوها إلى نبيهم حنظلة بن صفوان فدعا عليها فهلكت.
قال: وكان وجهها كوجه الانسان وفيها شبه من كل طائر، وذكر الزمخشري في
كتابه: " ربيع الابرار " أنها كانت في زمن موسى لها أربعة أجنحة من كل
جانب، ووجه كوجه الانسان، وفيها شبه كثير من سائر الحيوان، وأنها تأخرت
إلى زمن خالد بن سنان العبسي الذي كان في الفترة فدعا عليها فهلكت
والله أعلم.
وذكر ابن خلكان: أن المعز الفاطمي جئ إليه بطائر غريب الشكل من الصعيد
يقال له عنقاء مغرب.
قلت: وكل واحد من خالد بن سنان وحنظلة بن صفوان كان في زمن الفترة،
وكان صالحا ولم يكن نبينا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا
أولى الناس بعيسى بن مريم لانه ليس بيني وبينه نبي " (4) وقد تقدم ذلك.
الحافظ عماد الدين أبو القاسم علي بن الحافظ بهاء الدين أبي محمد
القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر
الدمشقي، سمع الكثير ورحل فمات ببغداد في هذه السنة، ومن لطيف شعره
قوله في المروحة: ومروحة تروح كل هم * ثلاثة أشهر لا بد منها حزيران
وتموز وآب * وفي أيلول يغني الله عنها ابن الداوي الشاعر وقد أورد له
ابن الساعي جملة صالحة من شعره.
__________
(1) في ابن خلكان 3 / 100: الكريم.
وفي تاريخ ابن النجار: اعرب القرآن.
(2) في وفيات الاعيان: اللباب في علل النحو.
وذكره ابن النجار: اللباب في علل البناء والاعراب.
(3) في الوفيات: جبل رمخ.
(4) أخرجه مسلم في الفضائل ح (145).
(*)
(13/101)
وأبو سعيد بن
الوزان الداوي وكان أحد المعدلين ببغداد وسمع البخاري من أبي الوقت.
وأبو سعيد محمد بن محمود بن عبد الرحمن المروزي الاصل الهمداني المولد
البغدادي المنشأ والوفاة، كان حسن الشكل كامل الاوصاف له خط حسن ويعرف
فنونا كثيرة من العلوم، شافعي المذهب، يتكلم في مسائل الخلاف حسن
الاخلاق ومن شعره قوله: أرى قسم الارزاق أعجب قسمة * لذي دعة ومكدية
لذي كد وأحمق ذو مال وأحمق معدم * وعقل بلا حظ وعقل له حد يعم الغنى
والفقر ذا الجهل والحجا * ولله من قبل الامور ومن بعد أبو زكريا يحيى
بن القاسم ابن الفرج بن درع بن الخضر الشافعي شيخ تاج الدين التكريتي
قاضيها، ثم درس بنظامية بغداد، وكان متقنا لعلوم كثيرة منها التفسير
والفقه والادب والنحو واللغة، وله المصنفات في ذلك كله وجمع لنفسه
تاريخا حسنا.
ومن شعره قوله: لا بد للمرء من ضيق ومن سعة * ومن سرور يوافيه ومن حزن
والله يطلب منه شكر نعمته * ما دام فيها ويبغي الصبر في المحن فكن مع
الله في الحالين معتنقا * فرضيك هذين في سر وفي علن فما على شدة يبقى
الزمان يكن * ولا على نعمة تبقى على الزمن وله أيضا: إن كان قاضي الهوى
علي ولي * ما جار في الحكم من علي ولي يا يوسفي الجمال عندك لم * تبق
لي حيلة من الحيل إن كان قد القميص من دبر * ففيك قد الفؤاد من قبل
صاحب الجواهر الشيخ الامام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس
(1) بن نزار بن عشائر بن عبد الله بن محمد بن شاس (1) الجذامي المالكي
الفقيه، مصنف كتاب: " الجواهر الثمينة في مذهب
عالم المدينة "، وهو من أكثر الكتب فوائد في الفروع، رتبه على طريقة
الوجيز للغزالي.
قال ابن خلكان: وفيه دلالة على غزارة علمه وفضله والطائفة المالكية
بمصر عاكفة عليه لحسنه وكثرة فوائده، وكان مدرسا بمصر ومات بدمياط رحمه
الله، والله سبحانه أعلم.
__________
(1) من وفيات الاعيان 3 / 61 وفي الاصل: ساس.
(*)
(13/102)
ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة
في هذه السنة عم البلاء وعظم العزاء بجنكزخان المسمى بتموجين لعنه الله
تعالى، ومن معه من التتار قبحهم الله أجمعين، واستفحل أمرهم واشتد
إفسادهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى
انتهوا إلى إربل وأعمالها، فملكوا في سنة واحدة وهي هذه السنة سائر
الممالك إلا العراق والجزيرة والشام ومصر، وقهروا جميع الطوائف التي
بتلك النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم، وقتلوا
في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة كبار ما لا يحد
ولا يوصف، وبالجملة فلم يدخلوا بلدا إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة
والرجال، وكثيرا من النساء والاطفال، وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا
إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى أنهم كانوا يجمعون الحرير
الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه،
ويخربون المنازل وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه، وأكثر ما يحرقون المساجد
والجوامع، وكانوا يأخذون الاسارى من المسلمين فيقاتلون بهم ويحاصرون
بهم، وإن لم ينصحوا في القتال قتلوهم.
وقد بسط ابن الاثير في كامله خبرهم في هذه السنة بسطا حسنا مفصلا، وقدم
على ذلك كلاما هائلا في تعظيم هذا الخطب العجيب، قال فنقول: هذا فصل
يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت (1) الليالي
والايام عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم
منذ خلق الله آدم وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن
التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من
الحوادث ما فعل بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب
بيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من
البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل
بالنسبة لما قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني
إسرائيل، ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم،
وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه،
ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء
والاطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الاجنة.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،
لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب
استدبرته الريح، فإن قوما خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان
مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند
وبخارا وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة
منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكا، وتخريبا وقتلا ونهبا، ثم يجاوزونها
إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم
يقصدون بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونه، ويقتلون
__________
(1) في ابن الاثير 12 / 358: عقت.
(*)
(13/103)
أكثر أهلها ولم
ينج منهم إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله، ثم
(1) ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه، ولم يسلم غير قلعته التي بها
ملكهم، وعبروا عندها إلى بلد اللان، [ و ] اللكز ومن في ذلك الصقع من
الامم المختلفة، فأوسعوهم قتلا ونهبا وتخريبا، ثم قصدوا بلاد قفجاق،
وهم من أكثر الترك عددا، فقتلوا كل من وقف لهم وهرب الباقون إلى الغياض
وملكوا عليهم بلادهم، وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها
من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل أفعال هؤلاء وأشد، هذا
ما لم يطرق الاسماع مثله، فإن الاسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك
الدنيا لم يملكها في سنة واحدة (2)، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم
يقتل أحدا بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من
الارض وأطيبه وأحسنه عمارة، وأكثره أهلا وأعدلهم أخلاقا وسيرة في نحو
سنة، ولم يتفق (3) لاحد من
أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف مترقب وصولهم، وهم مع
ذلك يسجدون للشمس إذا طلعت، ولا يحرمون شيئا، ويأكلون ما وجدوه من
الحيوانات والميتات لعنهم الله تعالى.
قال: وإنما استقام لهم هذا الامر لعدم المانع لان السلطان خوارزم شاه
محمدا كان قد قتل الملوك من سائر الممالك واستقر في الامور، فلما انهزم
منهم في العام الماضي وضعف عنهم وساقوا وراءه فهرب فلا يدري أين ذهب،
وهلك في بعض جزائر البحر، خلت البلاد ولم يبق لها من يحميها (ليقضي
الله أمرا كان مفعولا) [ الانفال: 44 ]، وإلى الله ترجع الامور.
ثم شرع في تفصيل ما ذكره مجملا، فذكر أولا ما قدمنا ذكره في العام
الماضي من بعث جنكزخان أولئك التجار بما له ليأتونه بثمنه كسوة ولباسا،
وأخذ خوارزم شاه تلك الاموال فحنق عليه جنكزخان وأرسل يهدده فسار إليه
خوارزم شاه بنفسه وجنوده فوجد التتار مشغولين بقتال كشلي خان، فنهب
أثقالهم ونساءهم وأطفالهم فرجعوا وقد انتصروا على عدوهم، وازدادوا حنقا
وغيظا، فتواقعوا هم وإياه وابن جنكزخان ثلاثة أيام فقتل من الفريقين
خلق كثير، ثم تحاجزوا ورجع خوارزم شاه إلى أطراف بلاده فحصنها ثم كر
راجعا إلى مقره ومملكته بمدينة خوارزم شاه، فأقبل جنكزخان فحصر بخارا
كما ذكرنا فافتتحها صلحا وغدر بأهلها حتى افتتح قلعتها قهرا وقتل
الجميع، وأخذ الاموال وسبى النساء والاطفال وخرب الدور والمحال، وقد
كان بها عشرون ألف مقاتل، فلم يغن عنهم شيئا، ثم سار إلى سمرقند
فحاصرها في أول المحرم من هذه السنة وبها خمسون ألف مقاتل من سمرقند
فنكلوا وبرز إليهم سبعون ألفا من العامة فقتل الجميع في ساعة واحدة
وألقى إليه الخمسون ألف السلم فسلبهم سلاحهم وما يمتنعون به، وقتلهم في
ذلك اليوم واستباح البلد فقتل الجميع وأخذ الاموال وسبى الذرية وحرقه
وتركه بلاقع، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأقام لعنه الله هنالك وأرسل
السرايا إلى
__________
(1) العبارة في ابن الاثير: ثم لما فرغوا من أذربيجان وأرانية
ساروا..(2) في ابن الاثير: لم يملكها في هذه السرعة.
(3) في ابن الاثير: ولم يبق.
(*)
(13/104)
البلدان فأرسل
سرية إلى بلاد خراسان وتسميها التتار المغربة، وأرسل أخرى وراء خوارزم
شاه، وكانوا عشرين ألفا قال: اطلبوه فأدركوه ولو تعلق بالسماء فساروا
وراءه فأدركوه وبينهم وبينه نهر جيحون وهو آمن بسببه، فلم يجدوا سفنا
فعملوا لهم أحواضا يحملون عليها الاسلحة ويرسل أحدهم فرسه ويأخذ بذنبها
فتجره الفرس بالماء وهو يجر الحوض الذي فيه سلاحه، حتى صاروا كلهم في
الجانب الآخر، فلم يشعر بهم خوارزم شاه إلا وقد خالطوه، فهرب منهم إلى
نيسابور ثم منها إلى غيرها (1) وهم في أثره لا يمهلونه يجمع لهم فصار
كلما أتى بلدا ليجتمع فيه عساكره له يدركونه فيهرب منهم، حتى ركب في
بحر طبرستان وسار إلى قلعة في جزيرة فيه فكانت فيها وفاته، وقيل إنه لا
يعرف بعد ركوبه في البحر ما كان من أمره بل ذهب فلا يدري أين ذهب، ولا
إلى أي مفر هرب، وملكت التتار حواصله فوجدوا في خزانته عشرة آلاف ألف
دينار، وألف حمل من الاطلس وغيره وعشرون ألف فرس وبغل، ومن الغلمان
والجواري والخيام شيئا كثيرا، وكان له عشرة آلاف مملوك كل واحد مثل
ملك، فتمزق ذلك كله، وقد كان خوارزم شاه فقيها حنفيا فاضلا له مشاركات
في فنون من العلم، يفهم جيدا، وملك بلادا متسعة وممالك متعددة إحدى
وعشرين سنة وشهورا، ولم يكن بعد ملوك بني سلجوق أكثر حرمة منه ولا أعظم
ملكا منه، لانه إنما كانت همته في الملك لا في اللذات والشهوات، ولذلك
قهر الملوك بتلك الاراضي وأحل بالخطا بأسا شديدا، حتى لم يبق ببلاد
خراسان وما وراء النهر وعراق العجم وغيرها من الممالك سلطان سواه،
وجميع البلاد تحت أيدي نوابه.
ثم ساروا إلى مازندران وقلاعها من أمنع القلاع، بحيث أن المسلمين لم
يفتحوها إلا في سنة تسعين من أيام سليمان بن عبد الملك، ففتحها هؤلاء
في أيسر مدة ونهبوا ما فيها وقتلوا أهاليها كلهم وسبوا وأحرقوا، ثم
ترحلوا عنها نحو الري فوجدوا في الطريق أم خوارزم شاه ومعها أموال
عظيمة جدا، فأخذوها وفيها كل غريب ونفيس مما لم يشاهد مثله من الجواهر
وغيرها، ثم قصدوا الري فدخلوها على حين غفلة من أهلها فقتلوهم وسبوا
وأسروا، ثم ساروا إلى همذان فملكوها ثم إلى زنجان فقتلوا وسبوا، ثم
قصدوا قزوين فنهبوها وقتلوا من أهلها نحوا من أربعين ألفا، ثم تيمموا
بلاد أذربيجان فصالحهم ملكها أزبك بن
البهلوان على مال حمله إليهم لشغله بما هو فيه من السكر وارتكاب
السيئآت والانهماك على الشهوات، فتركوه وساروا إلى موقان فقاتلهم الكرج
في عشرة آلاف مقاتل فلم يقفوا بين أيديهم طرفة عين حتى انهزمت الكرج
فأقبلوا إليهم بحدهم وحديدهم، فكسرتهم التتار وقعة ثانية أقبح هزيمة
وأشنعها.
وههنا قال ابن الاثير (2): ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من
قديم الزمان وحديثه: طائفة تخرج من حدود الصين، لا تنقضي عليهم سنة حتى
يصل بعضهم إلى حدود بلاد أرمينية من هذه الناحية، ويجاوزون العراق من
ناحية همذان، وتالله لا أشك أن من يجئ بعدنا إذا
__________
(1) في ابن الاثير: رحل من نيسابور إلى مازندران.
(2) انظر الكامل 12 / 375.
(*)
(13/105)
بعد العهد،
ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد
ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت
كل من فيه يعلم هذه الحادثة، قد استوى في معرفتها العالم والجاهل
لشهرتها، يسر الله للمسلمين والاسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دفعوا من
العدو إلى أمر عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه
وفرجه، وقد عدم سلطان المسلمين خوارزم شاه.
قال: وانقضت هذه السنة وهم في بلاد الكرج، فلما رأوا منهم ممانعة
ومقاتلة يطول عليهم بها المطال عدلوا إلى غيرهم، وكذلك كانت عادتهم
فساروا إلى تبريز فصالحهم أهلها بمال.
ثم ساروا إلى مراغة فحصروها ونصبوا عليها المجانيق وتترسوا بالاسارى من
المسلمين، وعلى البلد امرأة - ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة - ففتحوا
البلد بعد أيام وقتلوا من أهله خلقا لا يعلم عدتهم إلا الله عزوجل،
وغنموا منه شيئا كثيرا، وسبوا وأسروا على عادتهم لعنهم الله لعنة
تدخلهم نار جهنم، وقد كان الناس يخافون منهم خوفا عظيما جدا حتى إنه
دخل رجل منهم إلى درب من هذه البلد وبه مائة رجل لم يستطع واحد منهم أن
يتقدم إليه، وما زال يقتلهم واحدا بعد واحد حتى قتل الجميع ولم يرفع
منهم أحد يده إليه، ونهب ذلك الدرب وحده.
ودخلت امرأة منهم في زي رجل [ دارا ] (1) فقتلت كل من في
ذلك البيت وحدها ثم استشعر أسير معها أنها امرأة فقتلها لعنها الله، ثم
قصدوا مدينة إربل فضاق المسلمون لذلك ذرعا وقال أهل تلك النواحي هذا
أمر عصيب، وكتب الخليفة إلى أهل الموصل والملك الاشرف صاحب الجزيرة
يقول: إني قد جهزت عسكرا فكونوا معه لقتال هؤلاء التتار، فأرسل الاشرف
يعتذر إلى الخليفة بأنه متوجه نحو أخيه الكامل إلى الديار المصرية بسبب
ما قد دهم المسلمين هناك من الفرنج، وأخذهم دمياط الذي قد أشرفوا
بأخذهم له على أخذ الديار المصرية قاطبة، وكان أخوه المعظم قد قدم على
والي حران يستنجده لاخيهما الكامل ليتحاجزوا الفرنج بدمياط وهو على
أهبة المسير إلى الديار المصرية، فكتب الخليفة إلى مظفر الدين صاحب
إربل ليكون هو المقدم على العساكر التي يبعثها الخليفة وهي عشرة آلاف
مقاتل، فلم يقدم عليه منهم ثمانمائة فارس ثم تفرقوا قبل أن يجتمعوا،
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن الله سلم بأن صرف همة التتار إلى
ناحية همذان فصالحهم أهلها وترك عندهم التتار شحنة، ثم اتفقوا على قتل
شحنتهم فرجعوا إليهم فحاصروهم حتى فتحوها قسرا وقتلوا أهلها عن آخرهم،
ثم ساروا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل (2) ثم تبريز (3) ثم إلى بيلقان
فقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا، وحرقوها
__________
(1) من ابن الاثير.
(2) في ابن الاثير: أردويل.
(3) قال ابن الاثير في تاريخه: وسمعوا بما أهل البلد عليه من اجتماع
الكلمة على قتالهم، أرسلوا يطلبون منهم مالا وثيابا، فاستقر الامر
بينهم على قدر معلوم من ذلك، فسيروه إليهم، فأخذوه ورحلوا إلى مدينة
سراو فنهبوها وقتلوا كل من فيها (12 / 382).
(*)
(13/106)
وكانوا يفجرون
بالنساء ثم يقتلونهن ويشقون بطونهن عن الاجنة ثم عادوا إلى بلاد الكرج
وقد استعدت لهم الكرج فاقتتلوا معهم فكسروهم أيضا كسرة فظيعة، ثم فتحوا
بلدانا كثيرة يقتلون أهلها ويسبون نساءها ويأسرون من الرجال ما يقاتلون
بهم الحصون، يجعلونهم بين أيديهم ترسا يتقون بهم الرمي وغيره، ومن سلم
منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب، ثم ساروا إلى بلاد اللان
والقبجاق فاقتتلوا معهم قتالا عظيما فكسروهم وقصدوا أكبر مدائن القبجاق
وهي مدينة سوداق وفيها من الامتعة والثياب والتجائر من البرطاسي
والقندر والسنجاب شئ كثير جدا، ولجأت القبجاق إلى بلاد الروس وكانوا
نصارى فاتفقوا معهم على قتال التتار فالتقوا معهم فكسرتهم التتار كسرة
فظيعة جدا، ثم ساروا نحو بلقار في حدود العشرين وستمائة ففرغوا من ذلك
كله ورجعوا نحو ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم.
هذا ما فعلته هذه السرية المغربة، وكان جنكزخان قد أرسل سرية في هذه
السنة إلى كلانة وأخرى إلى فرغانة فملكوها، وجهز جيشا آخر نحو خراسان
فحاصروا بلخ فصالحهم أهلها، وكذلك صالحوا مدنا كثيرة أخرى، حتى انتهوا
إلى الطالقان فأعجزتهم قلعتها (1) وكانت حصينة فحاصروها ستة أشهر حتى
عجزوا فكتبوا إلى جنكزخان فقدم بنفسه فحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى
فتحها قهرا، ثم قتل كل من فيها وكل من في البلد بكماله خاصة وعامة، ثم
قصدوا مدينة مرو مع جنكزخان فقد عسكر بظاهرها نحو من مائتي ألف مقاتل
من العرب وغيرهم فاقتتلوا معه قتالا عظيما حتى انكسر المسلمون فإنا لله
وإنا إليه راجعون، ثم حصروا البلد خمسة أيام واستنزلوا نائبها خديعة ثم
غدروا به وبأهل البلد فقتلوهم وغنموهم وسلبوهم وعاقبوهم بأنواع العذاب،
حتى إنهم قتلوا في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان، ثم ساروا إلى نيسابور
ففعلوا فيها ما فعلوا بأهل مرو، ثم إلى طوس فقتلوا وخربوا مشهد علي بن
موسى الرضى سلام الله عليه وعلى آبائه، وخربوا تربة الرشيد الخليفة
فتركوه خرابا، ثم ساروا إلى غزنة فقاتلهم جلال الدين بن خوارزم شاه
فكسرهم ثم عادوا إلى ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم، وأرسل جنكزخان
طائفة أخرى إلى مدينة خوارزم فحاصروها حتى فتحوا البلد قهرا فقتلوا من
فيها قتلا ذريعا، ونهبوها وسبوا أهلها وأرسلوا الجسر الذي يمنع ماء
جيحون منها فغرقت دورها وهلك جميع أهلها ثم عادوا إلى جنكزخان وهو مخيم
على الطالقان فجهز منهم طائفة إلى غزنة فاقتتل معهم جلال الدين بن
خوارزم شاه فكسرهم جلال الدين كسرة عظيمة، واستنقذ منهم خلقا من أسارى
المسلمين، ثم كتب إلى جنكزخان يطلب منه أن يبرز بنفسه لقتاله، فقصده
جنكزخان فتواجها وقد تفرق على جلال الدين بعض جيشه ولم يبق بد من
القتال، فاقتتلوا ثلاثة أيام لم يعهد قبلها
مثلها من قتالهم، ثم ضعفت أصحاب جلال الدين فذهبوا فركبوا بحر الهند
فسارت التتار إلى غزنة فأخذوها بلا كلفة ولا ممانعة، كل هذا أو أكثره
وقع في هذه السنة.
__________
(1) وهي قلعة منصوركوه، وهي قلعة حصينة لا ترام علوا وارتفاعا.
(*)
(13/107)
وفيها أيضا ترك
الاشرف موسى بن العادل لاخيه شهاب الدين غازي ملك خلاط وميا فارقين
وبلاد أرمينية واعتاض عن ذلك بالرها وسروج، وذلك لاشتغاله عن حفظ تلك
النواحي بمساعدة أخيه الكامل ونصرته على الفرنج لعنهم الله تعالى.
وفي المحرم منها هبت رياح ببغداد وجاءت بروق وسمعت رعود شديدة وسقطت
صاعقة بالجانب الغربي على المنارة المجاورة لعون ومعين فثلمتها، ثم
أصلحت، وغارت الصاعقة في الارض.
وفي هذه السنة نصب محراب الحنابلة في الرواق الثالث الغربي من جامع
دمشق بعد ممانعة من بعض الناس لهم، ولكن ساعدهم بعض الامراء في نصبه
لهم، وهو الامير ركن الدين المعظمي، وصلى فيه الشيخ موفق الدين بن
قدامة.
قلت: ثم رفع في حدود سنة ثلاثين وسبعمائة وعوضوا عنه بالمحراب الغربي
عند باب الزيارة، كما عوض الحنفية عن محرابهم الذي كان في الجانب
الغربي من الجامع بالمحراب المجدد لهم شرقي باب الزيارة، حين جدد
الحائط الذي هو فيه في الايام التنكزية، على يدي ناظر الجامع تقي الدين
ابن مراجل أثابه الله تعالى كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله
تعالى.
وفيها قتل صاحب سنجار أخاه فملكها مستقلا بها الملك الاشرف بن العادل.
وفيها نافق الامير عماد الدين بن المشطوب على الملك الاشرف وكان قد
آواه وحفظه من أذى أخيه الكامل حين أراد أن يبايع للفائز، ثم إنه سعى
في الارض فسادا في بلاد الجزيرة فسجنه الاشرف حتى مات كمدا وذلا وعذابا
(1).
وفيها أوقع الكامل بالفرنج الذين على دمياط بأسا شديدا فقتل منهم عشرة
آلاف، وأخذ منهم خيولهم وأموالهم ولله الحمد.
وفيها عزل المعظم المعتمد مفاخر الدين إبراهيم عن ولاية دمشق وولاها
للعزيز خليل، ولما خرج الحاج إلى مكة شرفها الله تعالى كان أميرهم
المعتمد فحصل به خير كثير، وذلك أنه كف عبيد
مكة عن نهب الحجاج بعد قتلهم أمير حاج العراقيين أقباش الناصري، وكان
من أكبر الامراء عند الخليفة الناصر وأخصهم عنده، وذلك لانه قدم معه
بخلع للامير حسين بن أبي عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم
العلوي الحسني الزيدي بولايته لامرة مكة بعد أبيه، وكانت وفاته في
جمادى الاولى من هذه السنة، فنازع في ذلك راجح وهو أكبر أولاد قتادة،
وقال لا يتأمر عليها غيري، فوقعت فتنة أفضى الحال إلى قتل أقباش غلطا،
وقد كان قتادة من أكابر الاشراف الحسنيين الزيديين وكان عادلا منصفا
منعما، نقمة على عبيد مكة والمفسدين بها، ثم عكس هذا السير فظلم وجدد
المكوس ونهب الحاج غير مرة فسلط الله عليه ولده حسنا فقتله وقتل عمه
وأخاه أيضا، فلهذا لم يمهل الله حسنا أيضا، بل سلبه الملك وشرده في
البلاد، وقيل بل قتل كما ذكرنا، وكان قتادة شيخا طويلا مهيبا لا يخاف
من أحد من الخلفاء والملوك، ويرى أنه أحق بالامر من كل
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: نقله من حبس الموصل وحطه مقيدا في جب
بمدينة حران حتى مات سنة 619 ه.
(3 / 125) (*)
(13/108)
أحد، وكان
الخليفة يود لو حضر عنده فيكرمه، وكان يأبى من ذلك ويمتنع عنه أشد
الامتناع، ولم يفد إلى أحد قط ولا ذل لخليفة ولا ملك، وكتب إليه
الخليفة مرة يستدعيه فكتب إليه: ولي كف ضرغام أذل ببطشها * وأشرى بها
بين الورى وأبيع تظل ملوك الارض تلثم ظهرها * وفي بطنها (1) للمجد بين
ربيع أأجعلها تحت الرحى ثم أبتغي * خلاصا لها ؟ إني إذا لرقيع وما أنا
إلا المسك في كل بقعة (2) * يضوع وأما عندكم فيضيع وقد بلغ من السنين
سبعين سنة، وقد ذكر ابن الاثير وفاته في سنة ثماني عشرة فالله أعلم.
وفيها توفي من الاعيان: الملك
الفائز غياث الدين إبراهيم بن العادل، كان قد انتظم له الامر في الملك
بعد أبيه على الديار
المصرية على يدي الامير عماد الدين بن المشطوب، لولا أن الكامل تدارك
ذلك سريعا، ثم أرسله أخوه في هذه السنة إلى أخيهما الاشرف موسى يستحثه
في سرعة المسير إليهم بسبب الفرنج، فمات بين سنجاب والموصل، وقد ذكر
أنه سم فرد إلى سنجاب فدفن بها رحمه الله تعالى.
شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن محمد بن شيخ الشيوخ عماد الدين محمود
بن حمويه الجويني، من بيت رياسة وإمرة عند بني أيوب، وقد كان صدر الدين
هذا فقيها فاضلا، درس بتربة الشافعي بمصر، وبمشهد الحسين وولي مشيخة
سعيد السعداء والنظر فيها، وكانت له حرمة وافرة عند الملوك، أرسله
الكامل إلى الخليفة يستنصره على الفرنج فمات بالموصل بالاسهال، ودفن
بها عند قضيب البان عن ثلاث وسبعين سنة.
صاحب حماه الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن
شاهنشاه بن أيوب، وكان فاضلا له تاريخ في عشر مجلدات سماه المضمار،
وكان شجاعا فارسا، فقام بالملك بعده ولده الناصر قليج أرسلان، ثم عزله
عنها الكامل وحبسه حتى مات رحمه الله تعالى وولى أخاه المظفر بن
المنصور.
__________
(1) في ابن الاثير: وفي وسطها.
(2) في ابن الاثير: في كل بلدة.
(*)
(13/109)
صاحب آمد الملك
الصالح ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق، وكان شجاعا
محبا للعلماء، وكان مصاحبا للاشرف موسى بن العادل يجئ إلى خدمته مرارا،
وملك بعده ولده المسعود، وكان بخيلا فاسقا، فأخذه معه الكامل وحبسه
بمصر ثم أطلقه فأخذ أمواله وسار إلى التتار، فأخذته منه (1).
الشيخ عبد الله اليونيني
الملقب أسد الشام رحمه الله ورضي عنه من قرية ببعلبك يقال لها يونين،
وكانت له زاوية يقصد فيها للزيارة، وكان من الصالحين الكبار المشهورين
بالعبادة والرياضة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، له همة عالية في
الزهد والورع، بحيث إنه كان لا يقتني شيئا ولا يملك مالا ولا ثيابا، بل
يلبس عارية ولا يتجاوز قميصا في الصيف وفروة فوقه في الشتاء، وعلى رأسه
قبعا من جلود المعز، شعره إلى ظاهر، وكان لا ينقطع عن غزاة من الغزوات،
ويرمي عن قوس زنته ثمانون رطلا، وكان يجاور في بعض الاحيان بجبل لبنان،
ويأتي في الشتاء إلى عيون العاسريا في سفح الجبل المطل على قرية دومة
شرقي دمشق، لاجل سخونة الماء، فيقصده الناس للزيارة هناك، ويجئ تارة
إلى دمشق فينزل بسفح قاسيون عند القادسية وكانت له أحوال ومكاشفات
صالحة، وكان يقال له أسد الشام، حكى الشيخ أبو المظفر سبط ابن الجوزي
عن القاضي جمال الدين يعقوب الحاكم بكرك البقاع أنه شاهد مرة الشيخ عبد
الله وهو يتوضأ من ثور عند الجسر الابيض إذ مر نصراني ومعه حمل بغل
خمرا فعثرت الدابة عند الجسر فسقط الحمل فرأى الشيخ وقد فرغ من وضوئه
ولا يعرفه، واستعان به على رفع الحمل فاستدعاني الشيخ فقال: تعال يا
فقيه، فتساعدنا على تحميل ذلك الحمل على الدابة وذهب النصراني فتعجبت
من ذلك وتبعت الحمل وأنا ذاهب إلى المدينة، فانتهى به إلى العقبة
فأورده إلى الخمار بها فإذا خل فقال له الخمار: ويحك هذا خل، فقال
النصراني أنا أعرف من أين أتيت، ثم ربط الدابة في خان ورجع إلى
الصالحية فسأل عن الشيخ فعرفه فجاء إليه فأسلم على يديه، وله أحوال
وكرامات كثيرة جدا، وكان لا يقوم لاحد دخل عليه ويقول: إنما يقوم الناس
لرب العالمين، وكان الامجد إذا دخل عليه جلس بين يديه فيقول له: يا
أمجد فعلت كذا وكذا ويأمره بما يأمره، وينهاه عما ينهاه عنه، وهو يتمثل
جميع ما يقوله له، وما ذاك إلا لصدقه في زهده وورعه وطريقه، وكان يقبل
الفتوح، وكان لا يدخر منه شيئا لغد، وإذا اشتد جوعه أخذ من ورق اللوز
ففركه واستفه ويشرب فوقه الماء البارد رحمه الله تعالى وأكرم مثواه،
وذكروا أنه كان يحج في بعض السنين في الهواء، وقد وقع هذا لطائفة كبيرة
من
__________
(1) كذا بالاصل وتاريخ أبي الفداء، وقد ذكر ابن الاثير وفاته سنة 619
ه.
(*)
(13/110)
الزهاد وصالحي
العباد، ولم يبلغنا هذا عن أحد من أكابر العلماء، وأول من يذكر عنه هذا
حبيب العجمي، وكان من أصحاب الحسن البصري، ثم من بعده من الصالحين
رحمهم الله أجمعين.
فلما كان يوم جمعة من عشر ذي الحجة من هذه السنة صلى الصبح عبد الله
اليونيني وصلاة الجمعة بجامع بعلبك، وكان قد دخل الحمام يومئذ قبل
الصلاة وهو صحيح، فلما انصرف من الصلاة قال للشيخ داود المؤذن، وكان
يغسل الموتى، انظر كيف تكون غدا، ثم صعد الشيخ إلى زاويته فبات يذكر
الله تعالى تلك الليلة ويتذكر أصحابه، ومن أحسن إليه ولو بأدنى شئ
ويدعو لهم، فلما دخل وقت الصبح صلى بأصحابه ثم استند يذكر الله وفي يده
سبحة، فمات وهو كذلك جالس لم يسقط، ولم تسقط السبحة من يده، فلما انتهى
الخبر إلى الملك الامجد صاحب بعلبك فجاء إليه فعاينه كذلك فقال لو
بنينا عليه بنيانا هكذا يشاهد الناس منه آية، فقيل له: ليس هذا من
السنة، فنحي وكفن وصلي عليه ودفن تحت اللوزة التي كان يجلس تحتها يذكر
الله تعالى، رحمه الله ونور ضريحه.
وكانت وفاته يوم السبت وقد جاوز ثمانين عاما أكرمه الله تعالى، وكان
الشيخ محمد الفقيه اليونيني من جملة تلاميذه، وممن يلوذ به وهو جد
هؤلاء المشايخ بمدينة بعلبك.
أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أبي بكر المجلي الموصلي، ويعرف بابن
الجهني، شاب فاضل ولي كتابة الانشاء لبدر الدين لؤلؤ زعيم الموصل، ومن
شعره: نفسي فداء الذي فكرت فيه وقد * غدوت أغرق في بحر من العجب يبدو
بليل على صبح على قمر * على قضيب على وهم على كثب ثم دخلت سنة ثمان
عشرة وستمائة فيها استولت التتر على كثير من البلدان بكلادة وهمذان
وأردبيل وتبريز وكنجة، وقتلوا أهاليها ونهبوا ما فيها، واستأسروا
ذراريها، واقتربوا من بغداد فانزعج الخليفة لذلك وحصن بغداد واستخدم
الاجناد، وقنت الناس في الصلوات والاوراد.
وفيها قهروا الكرج واللان، ثم قاتلوا
القبجاق فكسروهم، وكذلك الروس، وينهبون ما قدروا عليه، ثم قاتلوهم
وسبوا نساءهم وذراريهم، وفيها سار المعظم إلى أخيه الاشرف فاستعطفه على
أخيه الكامل، وكان في نفسه موجدة عليه فأزالها وسارا جميعا نحو الديار
المصرية لمعاونة الكامل على الفرنج الذين قد أخذوا ثغر دمياط واستحكم
أمرهم هنالك من سنة أربع عشرة، وعرض عليهم في بعض الاوقات أن يرد إليهم
بيت المقدس وجميع ما كان صلاح الدين فتحه من بلاد الساحل ويتركوا
دمياط، فامتنعوا من ذلك ولم
(13/111)
يفعلوا (1)،
فقدر الله تعالى أنهم ضاقت عليهم الاقوات فقدم عليهم مراكب فيها ميرة
لهم فأخذها الاسطول البحري وأرسلت المياه على أراضي دمياط من كل ناحية
فلم يمكنهم بعد ذلك أن يتصرفوا في نفسهم، وحصرهم المسلمون من الجهة
الاخرى حتى اضطروهم إلى أضيق الاماكن، فعند ذلك أنابوا إلى المصالحة
بلا معاوضة، فجاء مقدموهم إليه وعنده أخواه المعظم عيسى وموسى الاشرف،
وكانا قائمين بين يديه، وكان يوما مشهودا، فوقع الصلح (2) على ما أراد
الكامل محمد بيض الله وجهه، وملوك الفرنج والعساكر كلها واقفة بين
يديه، ومد سماطا عظيما، فاجتمع عليه المؤمن والكافر والبر والفاجر،
وقام راجح الحلي الشاعر فأنشد: هنيئا فإن السعد راح مخلدا * وقد أنجز
الرحمن بالنصر موعدا حبانا إله الخلق فتحا بدا لنا * مبينا وإنعاما
وعزا مؤبدا تهلل وجه الدهر بعد قطوبه * وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا
ولما طغى البحر الخضم بأهله الط * غاة وأضحى بالمراكب مزبدا أقام لهذا
الدين من سل عزمه * صقيلا كما سل الحسام مجردا فلم ينج إلا كل شلو مجدل
* ثوى منهم أو من تراه مقيدا ونادى لسان الكون في الارض رافعا * عقيرته
في الخافقين ومنشدا أعباد عيسى إن عيسى وحزبه * وموسى جميعا يخدمون
محمدا قال أبو شامة: وبلغني أنه أشار عند ذلك إلى المعظم عيسى والاشرف
موسى والكامل محمد،
قال: وهذا من أحسن شئ اتفق، وكان ذلك يوم الاربعاء التاسع عشر رجب من
هذه السنة، وتراجعت الفرنج إلى عكا وغيرها، ورجع المعظم إلى الشام
واصطلح الاشرف والكامل على أخيهما المعظم.
وفيها ولى الملك المعظم قضاء دمشق كمال الدين المصري الذي كان وكيل بيت
المال بها، وكان فاضلا بارعا يجلس في كل يوم جمعة قبل الصلاة بالعادلية
بعد فراغها لاثبات المحاضر، ويحضر عنده في المدرسة جميع الشهود من كل
المراكز حتى يتيسر على الناس إثبات كتبهم في الساعة الواحدة، جزاه الله
خيرا.
وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) وقد شرطوا لاتمام الصلح أيضا اعطاءهم ثلاثمائة ألف دينار عوضا عن
تخريب القدس ليعمروه بها، إضافة إلى الكرك والشوبك (ابن الاثير - تاريخ
أبي الفداء).
(2) وكان ذلك تاسع رجب سنة 618 ه في اليوم الذي وصلت فيه للفرنج نجدة
بالبحر وقد تسلمها المسلمون، ولو سبقوا إليها لامتنعوا عن تسليم دمياط
إلى المسلمين (ابن الاثير 12 / 330 - تاريخ أبي الفداء 3 / 130 وفيه تم
الصلح تاسع عشر رجب).
(*)
(13/112)
ياقوت الكاتب
الموصلي رحمه الله أمين الدين المشهور بطريقة ابن البواب.
قال ابن الاثير: لم يكن في زمانه من يقاربه، وكانت لديه فضائل جمة
والناس متفقون على الثناء عليه، وكان نعم الرجل.
وقد قال فيه نجيب الدين [ الحسين بن علي ] (1) الواسطي يمدحه بها: جامع
شارد العلوم ولولا * ه لكانت أم الفضائل ثكلى ذو يراع تخاف ريقته الاس
* د، وتعنو له الكتائب ذلا وإذا افتر ثغره عن بياض (2) * في سواد
فالسمر والبيض خجلا أنت بدر والكاتب ابن هلال * كأبيه لا فخر فيمن تولى
إن يكن أولى فإنك بالتفض * يل أولى فقد سبقت وصلى
جلال الدين الحسن من أولاد الحسن بن الصباح مقدم الاسماعيلية، وكان قد
أظهر في قومه شعائر الاسلام، وحفظ الحدود والمحرمات والقيام فيها
بالزواجر الشرعية.
الشيخ الصالح شهاب الدين محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي الزاهد
العابد الناسك، كان يقرأ على الناس يوم الجمعة الحديث النبوي وهو جالس
على أسفل منبر الخطابة بالجامع المظفري، وقد سمع الحديث الكثير، ورحل
وحفظ مقامات الحريري في خمسين ليلة، وكانت له فنون كثيرة، وكان ظريفا
مطبوعا رحمه الله.
والخطيب موفق الدين أبو عبد الله عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل
المقدسي، خطيب بيت الابار، وقد ناب في دمشق عن الخطيب جمال الدين
الدولعي حين سار في الرسلية إلى خوارزم شاه، حتى عاد.
المحدث تقي الدين أبو طاهر إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن بن
الانماطي، قرأ الحديث ورحل وكتبه، وكان
__________
(1) من ابن الاثير.
(2) في ابن الاثير 12 / 405: سواد في بياض فالبيض والسمر خجلى.
(*)
(13/113)
حسن الخط متقنا
في علوم الحديث، حافظا له، وكان الشيخ تقي الدين بن الصلاح يثني عليه
ويمدحه، وكانت له كتب بالبيت الغربي من الكلاسة الذي كان للملك المحسن
بن صلاح الدين، ثم أخذ من ابن الانماطي وسلم إلى الشيخ عبد الصمد
الدكائي، واستمر بيد أصحابه بعد ذلك، وكانت وفاته بدمشق ودفن بمقابر
الصوفية وصلى عليه بالجامع الشيخ موفق الدين، وبباب النصر الشيخ فخر
الدين بن عساكر، وبالمقبرة قاضي القضاة جمال الدين المصري رحمه الله
تعالى.
أبو الغيث شعيب بن أبي طاهر بن كليب ابن مقبل الضرير الفقيه الشافعي،
أقام ببغداد إلى أن توفي، وكانت لديه فضائل وله رسائل، ومن شعره قوله:
إذا كنتم للناس أهل سياسة * فسوسوا كرام الناس بالجود والبذل وسوسوا
لئام الناس بالذل يصلحوا * عليه، فإن الذل أصلح للنذل أبو العز شرف بن
علي ابن أبي جعفر بن كامل الخالصي المقري الضرير الفقيه الشافعي، تفقه
بالنظامية وسمع الحديث ورواه، وأنشد عن الحسن بن عمرو الحلبي: تمثلتم
لي والديار بعيدة * فخيل لي أن الفؤاد لكم معنى وناجاكم قلبي على البعد
بيننا * فأوحشتم لفظا وآنستم معنى أبو سليمان داود بن إبراهيم ابن
مندار الجيلي، أحد المعيدين بالمدرسة النظامية، ومما أنشده: أيا جامعا
أمسك عنانك مقصرا * فإن مطايا الدهر تكبو وتقصر ستقرع سنا أو تعض ندامة
* إذا خان الزمان واقصر (1) ويلقاك رشد بعد غيك واعظ * ولكنه يلقاك
والامر مدبر أبو المظفر عبد الودود بن محمود بن المبارك ابن علي بن
المبارك بن الحسن الواسطي الاصل، البغدادي الدار والمولد، كمال الدين
__________
(1) كذا بالاصل، والبيت مكسور.
(*)
(13/114)
المعروف والده
بالمجيد، تفقه على أبيه وقرأ عليه علم الكلام، ودرس بمدرسته عند باب
الازج، ووكله الخليفة الناصر واشتهر بالديانة والامانة، وباشر مناصب
كبارا، وحج مرارا عديدة، وكان متواضعا حسن الاخلاق وكان يقول:
وما تركت ست وستون حجة * لنا حجة أن نركب اللهو مركبا وكان ينشد: العلم
يأتي كل ذي خف * ض ويأبى على كل آبي كالماء ينزل في الوها * د وليس
يصعد في الروابي ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة فيها نقل تابوت العادل
من القلعة إلى تربته العادلية الكبيرة، فصلي عليه أولا تحت النسر
بالجامع الاموي، ثم جاؤوا به إلى التربة المذكورة فدفن فيها، ولم تكن
المدرسة كملت بعد، وقد تكامل بناؤها في هذه السنة أيضا، وذكر الدرس بها
القاضي جمال الدين المصري، وحضر عنده السلطان المعظم فجلس في الصدر وعن
شماله القاضي وعن يمينه صدر الدين الحصيري شيخ الحنفية، وكان في المجلس
الشيخ تقي الدين بن الصلاح إمام السلطان، والشيخ سيف الدين الآمدي إلى
جانب المدرس، وإلى جانبه شمس الدين بن سناء الدولة، ويليه النجم خليل
قاضي العسكر، وتحت الحصيري شمس الدين بن الشيرازي، وتحته محيي الدين
التركي، وفيه خلق من الاعيان والاكابر، وفيهم فخر الدين بن عساكر.
وفيها أرسل الملك المعظم الصدر الكشهني (1) محتسب دمشق إلى جلال الدين
بن خوارزم شاه يستعينه على أخويه الكامل والاشرف اللذين قد تمالآ عليه،
فأجابه إلى ذلك بالسمع والطاعة، ولما عاد الصدر المذكور أضاف إليه
مشيخة الشيوخ.
وحج في هذه السنة الملك مسعود بن أقسيس بن الكامل صاحب اليمن فبدت منه
أفعال ناقصة بالحرم من سكر ورشق حمام المسجد بالبندق من أعلا قبة زمزم،
وكان إذا نام في دار الامارة يضرب الطائفون بالمسعى بأطراف السيوف لئلا
يشوشوا عليه وهو نوم سكر قبحه الله، ولكن كان مع هذا كله مهيبا محترما
والبلاد به آمنة مطمئنة، وقد كاد يرفع سنجق أبيه يوم عرفة على سنجق
الخليفة فيجري بسبب ذلك فتنة عظيمة، وما مكن من طلوعه وصعوده إلى الجبل
إلا في آخر النهار بعد جهد جهيد.
وفيها كان بالشام جراد كثير أكل الزرع والثمار والاشجار.
وفيها وقعت حروب كثيرة بين القبجاق والكرج، وقتال كثير بسبب ضيق بلاد
القبجاق عليهم.
وفيها ولي قضاء
القضاة ببغداد أبو عبد الله محمد بن فلان.
ولبس الخلعة في باب دار الوزارة مؤيد الدين محمد بن محمد القيمق بحضرة
الاعيان والكبراء وقرئ تقليده بحضرتهم وساقه ابن الساعي بحروفه.
__________
(1) هو صدر الدين أبو الحسن محمد بن أبي الفتح.
(*)
(13/115)
وممن توفي فيها
من الاعيان: عبد القادر بن داود أبو محمد الواسطي الفقيه الشافعي
الملقب بالمحب، استقل بالنظامية دهرا، واشتغل بها، وكان فاضلا دينا
صالحا، ومما أنشده من الشعر: الفرقدان كلاهما شهدا له * والبدر ليلة
تمه بسهاده دنف إذا اعتبق الظلام تضرمت * نار الجوى في صدره وفؤاده
فجرت مدامع جفنه في خده * مثل المسيل يسيل من أطواره شوقا إلى مضنيه لم
أر هكذا * مشتاق مضنى جسمه ببعاده ليت الذي أضناه سحر جفونه * قبل
الممات يكون من عواده أبو طالب يحيى بن علي اليعقوبي الفقيه الشافعي
أحد المعيدين ببغداد، كان شيخا مليح الشيبة جميل الوجه، كان يلي بعض
الاوقاف، ومما أنشده لبعض الفضلاء: لحمل تهامة وجبال أحد * وماء البحر
ينقل بالزبيل ونقل الصخر فوق الظهر عريا * لاهون من مجالسة الثقيل
ولبعضهم أيضا، وهو مما أنشده المذكور: وإذا مضى للمرء من أعوامه *
خمسون وهو إلى التقى لا يجنح عكفت عليه المخزيات فقولها * حالفتنا،
فأقم كذا لا تبرح وإذا رأى الشيطان غرة وجهه * حيا، وقال فديت من لا
يفلح
اتفق أنه طولب بشئ من المال فلم يقدر عليه فاستعمل شيئا من الافيون
المصري فمات من يومه ودفن بالوردية.
وفيها توفي: قطب الدين العادل
بالفيوم ونقل إلى القاهرة.
وفيها توفي إمام الحنابلة بمكة الشيخ نصر بن أبي الفرج المعروف بابن
الحصري، جاور بمكة
(13/116)
مدة لم يسافر،
ثم ساقته المنية إلى اليمن، فمات بها (1) في هذه السنة.
وقد سمع الحديث من جماعة من المشايخ (2).
وفيها في ربيع الاول توفي بدمشق الشهاب عبد الكريم بن نجم النيلي أخو
البهاء والناصح، وكان فقيها مناظرا بصيرا بالمحاكمات، وهو الذي أخرج
مسجد الوزير من يد الشيخ علم الدين السخاوي رحمه الله تعالى بمنه
وكرمه.
ثم دخلت سنة عشرين وستمائة فيها عاد الاشرف
موسى بن العادل من عند أخيه الكامل صاحب مصر.
فتلقاه أخوه المعظم وقد فهم أنهما تمالآ عليه، فبات ليلة بدمشق وسار من
آخر الليل ولم يشعر أخوه بذلك، فسار إلى بلاده فوجد أخاه الشهاب غازي
الذي استنابه على خلاط وميا فارقين وقد قووا رأسه وكاتبه المعظم صاحب
إربل وحسنوا له مخالفة الاشرف، فكتب إليه الاشرف ينهاه عن ذلك فلم
يقبل، فجمع له العساكر ليقاتله.
وفيها سار أقسيس الملك مسعود صاحب اليمن ابن الكامل من اليمن إلى مكة
شرفها الله تعالى فقاتله ابن قتادة ببطن مكة بين الصفا والمروة، فهزمه
أقسيس وشرده، واستقل بملك مكة مع اليمن، وجرت أمور فظيعة وتشرد حسن بن
قتادة قاتل أبيه وعمه وأخيه في تلك الشعاب والاودية.
وممن توفي فيها من الاعيان الشيخ
الامام: موفق الدين عبد الله بن أحمد ابن محمد بن قدامة بن مقدام بن
نصر.
شيخ الاسلام.
مصنف المغني في المذهب، أبو
محمد المقدسي إمام عالم بارع.
لم يكن في عصره، بل ولا قبل دهره بمدة أفقه منه، ولد بجماعيل في شعبان
سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وقدم مع أهله إلى دمشق في سنة إحدى وخمسين،
وقرأ القرآن وسمع الحديث الكثير، ورحل مرتين إلى العراق إحداهما في سنة
إحدى وستين مع ابن عمه الحافظ عبد الغني، والاخرى سنة سبع وستين، وحج
في سنة ثلاث وسبعين، وتفقه ببغداد على مذهب الامام أحمد، وبرع وأفتى
وناظر وتبحر في فنون كثيرة، مع زهد وعبادة وورع وتواضع
__________
(1) قال في تذكرة الحفاظ ص 1383: توفي بالمهجم - من اليمن - في المحرم.
وقال ابن مسدي: أدركه الاجل بالمهجم في ربيع الآخر.
وفي غاية النهاية 2 / 338: مات في المحرم وله 83 سنة.
(2) ومنهم: مسعود بن عبد الواحد الشيباني، وأبو الكرم الشهرزوري، وأبو
بكر الزاغوني، وأحمد بن علي بن السمين، وسعد الله بن الدجاجي وعلي بن
أحمد الازدي وغيرهم (غاية النهاية 2 / 338).
(*)
(13/117)
وحسن أخلاق
وجود وحياء وحسن سمت ونور وبهاء وكثرة تلاوة وصلاة وصيام وقيام وطريقة
حسنة واتباع للسلف الصالح، وكانت له أحوال ومكاشفات، وقد قال الشافعي
رحمه الله تعالى: إن لم تكن العلماء العاقلون أولياء الله فلا أعلم لله
وليا، وكان يؤم الناس للصلاة في محراب الحنابلة هو والشيخ العماد، فلما
توفي العماد استقل هو بالوظيفة، فإن غاب صلى عنه أبو سليمان بن الحافظ
عبد الرحمن بن الحافظ عبد الغني، وكان يتنفل بين العشاءين بالقرب من
محرابه، فإذا صلى العشاء انصرف إلى منزله بدرب الدولعي بالرصيف وأخذ
معه من الفقراء من تيسر يأكلون معه من طعامه، وكان منزله الاصلي
بقاسيون فينصرف بعض الليالي بعد العشاء إلى الجبل، فاتفق في بعض
الليالي أن خطف رجل عمامته وكان فيها كاغد فيه رمل، فقال له الشيخ: خذ
الكاغد وألق العمامة، فظن الرجل أن ذلك نفقة فأخذه وألقى العمامة.
وهذا يدل على ذكاء مفرط واستحضار حسن في الساعة الراهنة، حتى خلص
عمامته من يده بتلطف.
وله مصنفات عديدة مشهورة، منها المغني في شرح مختصر الخرقي في عشرة
مجلدات، والشافي في مجلدين والمقنع للحفظ، والروضة في أصول الفقه، وغير
ذلك من التصانيف المفيدة، وكانت وفاته في يوم عيد الفطر في
هذه السنة، وقد بلغ الثمانين، وكان يوم سبت وحضر جنازته خلق كثير، ودفن
بتربته المشهورة، ورئيت له منامات صالحة رحمه الله تعالى، وكان له
أولاد ذكور وإناث، فلما كان حيا ماتوا في حياته.
ولم يعقب منهم سوى ابنه عيسى ولدين ثم ماتا وانقطع نسله، قال أبو
المظفر سبط ابن الجوزي: نقلت من خط الشيخ موفق رحمه الله تعالى: لا
تجلسن بباب من * يأبى عليك وصول داره وتقول حاجاتي إلي * ه يعوقها إن
لم أداره واتركه واقصد ربها * تقضى ورب الدار كاره ومما أنشده الشيخ
موفق الدين لنفسه رحمه الله تعالى ورضي عنه قوله: أبعد بياض الشعر أعمر
مسكنا * سوى القبر، إني إن فعلت لاحمق يخبرني شيبي بأني ميت * وشيكا ,
فينعاني إلي ويصدق يخرق عمري كل يوم وليلة * فهل مستطاع رقع (1) ما
يتخرق كأني بجسمي فوق نعشي ممددا * فمن ساكت أو معول يتحرق إذا سئلوا
عني أجابوا وعولوا * وأدمعهم تنهل هذا الموفق وغيبت في صدع من الارض
ضيق * وأودعت لحدا فوقه الصخر مطبق ويحثو علي الترب أوثق صاحب *
ويسلمني للقبر من هو مشفق
__________
(1) في شذرات الذهب 5 / 91: رفو.
(*)
(13/118)
فيا رب كن لي
مؤنسا يوم وحشتي * فإني بما أنزلته لمصدق وما ضرني أني إلى الله صائر *
ومن هو من أهلي أبر وأرفق فخر الدين ابن عساكر عبد الرحمن بن الحسن بن
هبة الله بن عساكر أبو منصور الدمشقي شيخ الشافعية بها، وأمه اسمها
أسماء بنت محمد بن الحسن بن طاهر
القدسية المعروف والدها بأبي البركات ابن المران، وهو الذي جدد مسجد
القدم في سنة سبع عشرة وخمسمائة وبه قبره وقبرها، ودفن هناك طائفة
كبيرة من العلماء، وهي أخت آمنة والدة القاضي محيي الدين محمد بن علي
بن الزكي، اشتغل الشيخ فخر الدين من صغره بالعلم الشريف على شيخه قطب
الدين مسعود النيسابوري، فتزوج بابنته ودرس مكانه بالجاروجية، وبها كان
يسكن في إحدى القاعتين اللتين أنشأهما وبها توفي غربي الايوان، ثم تولى
تدريس الصلاحية الناصرية بالقدس الشريف، ثم ولاه العادل تدريس التقوية،
وكان عنده أعيان الفضلاء، ثم تفرغ فلزم المجاورة في الجامع في البيت
الصغير إلى جانب محراب الصحابة يخلو فيه للعبادة والمطالعة والفتاوى،
وكانت تفد إليه من الاقطار، وكان كثير الذكر حسن السمت، وكان يجلس تحت
النسر في كل اثنين وخميس مكان عمه لاسماع الحديث بعد العصر، فيقرأ عليه
دلائل النبوة وغيره، وكان يحضر مشيخة دار الحديث النورية، ومشهد ابن
عروة أول ما فتح، وقد استدعاه الملك العادل بعد ما عزل قاضيه ابن الزكي
فأجلسه إلى جانبه وقت السماط، وسأل منه أن يلي القضاء بدمشق، فقال حتى
أستخير الله تعالى، ثم امتنع من ذلك فشق على السلطان امتناعه، وهم أن
يؤذيه فقيل له أحمد الله الذي فيه مثل هذا.
ولما توفي العادل وأعاد ابنه المعظم الخمور أنكر عليه الشيخ فخر الدين،
فبقي في نفسه منه، فانتزع منه تدريس التقوية، ولم يبق معه سوى
الجاروجية ودار الحديث النورية ومشهد ابن عروة، وكانت وفاته يوم
الاربعاء بعد العصر عاشر رجب من هذه السنة وله خمس وستون سنة، وصلي
عليه بالجامع وكان يوما مشهودا، وحملت جنازته إلى مقابر الصوفية فدفن
في أولها قريبا من قبر شيخه قطب الدين مسعود بن عروة.
سيف الدين محمد بن عروة الموصلي المنسوب إليه مشهد ابن عروة بالجامع
الاموي، لانه أول من فتحه، وقد كان مشحونا بالحواصل الجامعية وبنى فيه
البركة ووقف فيه على الحديث درسا، ووقف خزائن كتب فيه، وكان مقيما
بالقدس الشريف ولكنه كان من خواص أصحاب الملك المعظم، فانتقل إلى دمشق
حين خرب سور بيت المقدس إلى أن توفي بها، وقبره عند قباب أتابك طغتكين
قبلي المصلى رحمه الله.
(13/119)
الشيخ أبو
الحسن الروزبهاري دفن بالمكان المنسوب إليه عند باب الفراديس.
الشيخ عبد الرحمن اليمني كان مقيما بالمنارة الشرقية، كان صالحا زاهدا
ورعا وفيه مكارم أخلاق، ودفن بمقابر الصوفية.
الرئيس عز الدين المظفر بن أسعد ابن حمزة التميمي بن القلانسي، أحد
رؤساء دمشق وكبرائها، وجده أبو يعلى حمزة له تاريخ ذيل به على ابن
عساكر، وقد سمع عز الدين هذا الحديث من الحافظ أبي القاسم بن عساكر
وغيره، ولزم مجالسة الكندي وانتفع به.
الامير الكبير أحد حجاب الخليفة محمد بن سليمان بن قتلمش بن تركانشاه
بن منصور السمرقندي، وكان من أولاد الامراء، وولي حاجب الحجاب بالديوان
العزيز الخليفتي، وكان يكتب جيدا وله معرفة حسنة بعلوم كثيرة، منها
الادب وعلوم الرياضة، وعمر دهرا، وله حظ من نظم الشعر الحسن ومن شعره
قوله: سئمت تكاليف هذي الحياة * وكذا الصباح بها والمساء وقد كنت
كالطفل في عقله * قليل الصواب كثير الهراء أنام إذا كنت في مجلس *
وأسهر عند دخول الغناء وقصر خطوي قيد المشيب * وطال على ما عناني عناء
وغودرت كالفرخ في عشه * وخلفت حلمي وراء وراء وما جر ذلك غير البقاء *
فكيف بدا سوء فعل البقاء وله أيضا، وهو من شعره الحسن رحمه الله: إلهي
يا كثير العفو عفوا * لما أسلفت في زمن الشباب
فقد سودت في الآثام وجها * ذليلا خاضعا لك في التراب فبيضه بحسن العفو
عني * وسامحني وخفف من عذابي ولما توفي صلي عليه بالنظامية ودفن
بالشونيزية ورآه بعضهم في المنام فقال ما فعل بك ربك ؟ فقال: تحاشيت
اللقاء لسوء فعلي * وخوفا في المعاد من الندامة
(13/120)
فلما أن قدمت
على إلهي * وحاقق في الحساب على قلامه وكان العدل أن أصلى جحيما * تعطف
بالمكارم والكرامة وناداني لسان العفو منه * ألا يا عبد يهنيك السلامه
أبو علي الحسن بن أبي المحاسن زهرة بن علي بن زهرة العلوي الحسيني
الحلبي، نقيب الاشراف بها، كان لديه فضل وأدب وعلم بأخبار الناس
والتواريخ والسير والحديث، ضابطا حافظا للقرآن المجيد، وله شعر جيد
فمنه قوله: لقد رأيت المعشوق وهو من ال * هجر تنبو النواظر عنه أثر
الدهر فيه آثار سوء * وأدالت يد الحوادث منه عاد مستذلا ومستبدلا * عزا
بذل كأن لم يصنه أبو علي يحيى بن المبارك ابن الجلاجلي من أبناء
التجار، سمع الحديث وكان جميل الهيئة يسكن بدار الخلافة وكان عنده علم
وله شعر حسن، فمنه قوله: خير إخوانك المشارك في المر * وأين الشريك في
المر أينا الذي إن شهدت سرك في القو * م وإن غبت كان أذنا وعينا مثل
العقيق إن مسه النا * ر جلاه الجلاء فازداد زينا وأخو السوء إن يغب عنك
يش * نئك وإن يحتضر يكن ذاك شينا
جيبه غير ناصح ومناه أن * يصب الخليل إفكا ومينا فاخش منه ولا تلهف
عليه * إن غرما له كنقدك دينا ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة فيها
وصلت سرية من جهة جنكزخان غير الاولتين إلى الري، وكانت قد عمرت قليلا
فقتلوا أهلها أيضا، ثم ساروا إلى ساوة، ثم إلى قم وقاسان (1)، ولم
تكونا طرقتا إلا هذه المرة، ففعلوا بها مثل ما تقدم من القتل والسبي،
ثم ساروا إلى همذان فقتلوا أيضا وسبوا، ثم ساروا إلى خلف
__________
(1) في ابن الاثير: قاشان.
(*)
(13/121)
الخوارزمية إلى
أذربيجان فكسروهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا، فهربوا منهم إلى تبريز
فلحقوهم وكتبوا إلى ابن البهلوان: إن كنت مصالحا لنا فابعث لنا
بالخوارزمية وإلا فأنت مثلهم، فقتل منهم خلقا وأرسل برؤوسهم إليهم، مع
تحف وهدايا كثيرة، هذا كله وإنما كانت هذه السرية ثلاثة آلاف
والخوارزمية وأصحاب البهلوان أضعاف أضعافهم، ولكن الله تعالى ألقى
عليهم الخذلان والفشل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها ملك غياث الدين بن خوارزم شاه بلاد فارس مع ما في يده من مملكة
أصفهان وهمذان وفيها استعاد الملك الاشرف مدينة خلاط من أخيه شهاب
الدين غازي، وكان قد جعلها إليه مع جميع بلاد أرمينية وميا فارقين وجاي
وجبل حور (1)، وجعله ولي عهده من بعده، فلما عصي عليه وتشغب دماغه بما
كتب إليه المعظم من تحسينه له مخالفته، فركب إليه وحاصره بخلاط فسلمت
إليه وامتنع أخوه في القلعة، فلما كان الليل نزل إلى أخيه معتذرا فقبل
عذره ولم يعاقبه بل أقره على ميافارقين وحدها، وكان صاحب إربل والمعظم
متفقين مع الشهاب غازي على الاشرف، فكتب الكامل إلى المعظم يتهدده لئن
ساعد على الاشرف ليأخذنه وبلاده، وكان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل مع
الاشرف، فركب إليه صاحب إربل فحاصره بسبب قلة جنده لانه أرسلهم إلى
الاشرف حين نازل خلاط، فلما انفصلت الامور على ما ذكرنا ندم صاحب إربل،
والمعظم بدمشق أيضا.
وفيها أرسل المعظم ولده الناصر داود إلى صاحب إربل يقويه على مخالفة
الاشرف، وأرسل صوفيا من الشميساطية يقال له الملق إلى جلال الدين بن
خوارزم شاه - وكان قد أخذ أذربيجان في هذه السنة وقوي جأشه - يتفق معه
على أخيه الاشرف، فوعده النصر والرفادة.
وفيها قدم الملك مسعود أقسيس ملك اليمن على أبيه الكامل بالديار
المصرية ومعه شئ كثير من الهدايا والتحف، من ذلك مائتا خادم وثلاثة
أفيلة هائلة، وأحمال عود وند ومسك وعنبر، وخرج أبوه الكامل لتلقيه ومن
نية أقسيس أن ينزع الشام من يد عمه المعظم.
وفيها كمل عمارة دار الحديث الكاملية بمصر (2)، وولى مشيختها الحافظ
أبو الخطاب ابن دحية الكلبي، وكان مكثارا كثير الفنون، وعنده فوائد
وعجائب رحمه الله.
وممن توفي فيها من الاعيان: أحمد بن
محمد ابن علي القادسي الضرير الحنبلي، والد صاحب الذيل على تاريخ ابن
الجوزي، وكان
__________
(1) في ابن الاثير: حاني وجبل جور.
(2) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 1 / 264: أكمل الملك الكامل بناء
مدرسته التي بين القصرين، المعروفة بالكاملية - سنة 630 - وسماها دار
الحديث وهي أول دار بنيت للحديث في القاهرة وكان قد باشر في بنائها سنة
623 ه.
(*)
(13/122)
القادسي هذا
يلازم حضور مجلس الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، ويزهره لما يسمعه من
الغرائب، ويقول والله إن ذا مليح فاستقرض منه الشيخ مرة عشرة دنانير
فلم يعطه، وصار يحضر ولا يتكلم، فقال الشيخ مرة: هذا القادسي لا يقرضنا
شيئا ولا يقول والله إن ذا مليح ؟ رحمهم الله تعالى، وقد طلب القادسي
مرة إلى دار المستضئ ليصلي بالخليفة التراويح فقيل له والخليفة يسمع:
ما مذهبك ؟ فقال حنبلي، فقال له لا تصل بدار الخلافة وأنت حنبلي، فقال
أنا حنبلي ولا أصلي بكم، فقال الخليفة اتركوه لا يصلي بنا إلا هو.
أبو الكرم المظفر بن المبارك ابن أحمد بن محمد البغدادي الحنفي شيخ
مشهد أبي حنيفة وغيره، ولي الحسبة بالجانب الغربي من بغداد، وكان فاضلا
دينا شاعرا ومن شعره: فصن بجميل الصبر نفسك واغتنم * شريف المزايا لا
يفتك ثوابها وعش سالما والقول فيك مهذب * كريما وقد هانت عليك صعابها
وتندرج الايام والكل ذاهب * قليل ويقنى عذبها وعذابها وما الدهر إلا مر
يوم وليلة * وما العمر إلا طيها وذهابها وما الحزم إلا في إخاء عزيمة *
وفيك المعالي صفوها ولبابها ودع عنك أحلام الاماني فإنه * سيسفر يوما
غيها وصوابها محمد بن أبي الفرج بن بركة الشيخ فخر الدين أبو المعالي
الموصلي، قدم بغداد واشتغل بالنظامية وأعاد بها، وكانت له معرفة
بالقراءات، وصنف كتابا في مخارج الحروف، وأسند الحديث وله شعر لطيف.
أبو بكر بن حلبة الموازيني البغدادي كان فردا في علم الهندسة وصناعة
الموازين يخترع أشياء عجيبة، من ذلك أنه ثقب حبة خشخاش سبعة ثقوب وجعل
في كل ثقب شعرة، وكان له حظوة عند الدولة.
أحمد بن جعفر بن أحمد ابن محمد أبو العباس الدبيبي البيع الواسطي، شيخ
أديب فاضل له نظم ونثر، عارف بالاخبار والسير، وعنده كتب جيدة كثيرة،
وله شرح قصيدة لابي العلاء المعري في ثلاث مجلدات، وقد أورد له ابن
الساعي شعرا حسنا فصيحا حلوا لذيذا في السمع لطيفا في القلب.
(13/123)
|