البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة
فيها عاثت الخوارزمية حين قدموا مع جلال الدين بن خوارزم شاه من بلاد
غزنة مقهورين
من التتار إلى بلاد خوزستان ونواحي العراق، فأفسدوا فيه وحاصروا مدنه
ونهبوا قراه.
وفيها استحوذ جلال الدين بن خوارزم شاه على بلاد أذربيجان وكثيرا من
بلاد الكرج، وكسر الكرج وهم في سبعين ألف مقاتل، فقتل منهم عشرين ألفا
من المقاتلة، واستفحل أمره جدا وعظم شأنه، وفتح تفليس فقتل منها ثلاثين
ألفا.
وزعم أبو شامة أنه قتل من الكرج سبعين ألفا في المعركة، وقتل من تفليس
تمام المائة ألف، وقد اشتغل بهذه الغزوة عن قصد بغداد، وذلك أنه لما
حاصر دقوقا سبه أهلها ففتحها قسرا وقتل من أهلها خلقا كثيرا، وخرب
سورها وعزم على قصد الخليفة ببغداد لانه فيما زعم عمل على أبيه حتى
هلك، واستولت التتر على البلاد، وكتب إلى المعظم بن العادل يستدعيه
لقتال الخليفة ويحرضه على ذلك، فامتنع المعظم من ذلك، ولما علم الخليفة
بقصد جلال الدين بن خوارزم شاه بغداد انزعج لذلك وحصن بغداد واستخدم
الجيوش والاجناد، أنفق في الناس ألف ألف دينار، وكان جلال الدين قد بعث
جيشا إلى الكرج فكتبوا إليه أن أدركنا قبل أن نهلك عن آخرنا، وبغداد ما
تفوت، فسار إليهم وكان من أمره ما ذكرنا.
وفيها كان غلاء شديد بالعراق والشام بسبب قلة الامطار وانتشار الجراد،
ثم أعقب ذلك فناء كثير بالعراق والشام أيضا، فمات بسببه خلق كثير في
البلدان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفاة الخليفة الناصر لدين الله وخلافة ابنه
الظاهر
لما كان يوم الاحد آخر يوم (1) من شهر رمضان المعظم من هذه السنة توفي
الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضئ بأمر الله، أبي
المظفر يوسف بن المقتفي لامر الله، أبي عبد الله محمد بن المستظهر
بالله، أبي عبد الله أحمد بن المقتدي بأمر الله، أبي القاسم عبد الله
بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله، أبي جعفر عبد الله بن القادر
بالله، أبي العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد بن محمد المتوكل أبي جعفر
عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله
أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق، أبي أحمد
بن محمد المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن
هارون الرشيد بن المهدي محمد بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد بن
علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي العباسي، أمير
المؤمنين، ولد ببغداد سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وبويع له بالخلافة بعد
موت أبيه سنة خمس
__________
(1) في مرآة الزمان 8 / 635 والوافي بالوفيات 6 / 310 والعبر 5 / 88:
توفي في سلخ رمضان، وفي الجوهر الثمين: وفاته يوم السبت ثاني شوال.
وفي تاريخ أبي الفداء 3 / 135: أول شوال.
(*)
(13/124)
وسبعين [
وخمسمائة ]، وتوفي في هذه السنة وله من العمر تسع وستون سنة وشهران
وعشرون يوما (1)، وكانت مدة خلافته سبعا وأربعين سنة إلا شهرا (2)، ولم
يقم أحد من الخلفاء العباسيين قبله في الخلافة هذه المدة الطويلة، ولم
تطل مدة أحد من الخلفاء مطلقا أكثر من المستنصر العبيدي، أقام بمصر
حاكما ستين سنة، وقد انتظم في نسبه أربعة عشر خليفة، وولى عهد على ما
رأيت، وبقية الخلفاء العباسيين كلهم من أعمامه وبني عمه.
وكان مرضه قد طال به وجمهوره من عسار البول، مع أنه كان يجلب له الماء
من مراحل عن بغداد ليكون أصفى، وشق ذكره مرات بسبب ذلك، ولم يغن عنه
هذا الحذر شيئا، وكان الذي ولي غسله محيي الدين ابن الشيخ أبي الفرج
ابن الجوزي، وصلى عليه ودفن في دار الخلافة، ثم نقل إلى الترب من
الرصافة في ثاني ذي الحجة من هذه السنة، وكان يوما مشهودا، قال ابن
الساعي: أما سيرته فقد تقدمت في الحوادث، وأما ابن الاثير في كامله
فإنه قال: وبقي الناصر لدين الله ثلاث سنين عاطلا من الحركة بالكلية،
وقد ذهبت إحدى عينيه والاخرى يبصر بها إبصارا ضعيفا، وآخر الامر أصابه
دوسنطارية عشرين يوما ومات (3)، وزر له عدة وزراء، وقد تقدم ذكرهم، ولم
يطلق في أيام مرضه ما كان أحدثه من الرسوم الجائرة، وكان قبيح السيرة
في رعيته ظالما لهم، فخرب في أيامه العراق وتفرق أهله في البلاد، وأخذ
أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل الشئ وضده، فمن ذلك أنه عمل دورا للافطار
في رمضان ودورا لضيافة الحجاج، ثم أبطل ذلك، وكان قد أسقط مكوسا ثم
أعادها وجعل جل همه في رمي البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوة.
قال ابن الاثير: وإن كان ما ينسبه العجم إليه صحيحا من أنه هو الذي
أطمع التتار في البلاد وراسلهم فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل
ذنب عظيم.
قلت، وقد ذكر عنه أشياء غريبة، من ذلك أنه كان يقول للرسل
الوافدين عليه فعلتم في مكان كذا وكذا، وفعلتم في الموضع الفلاني كذا،
حتى ظن بعض الناس أو أكثرهم أنه كان يكاشف أو أن جنيا يأتيه بذلك،
والله أعلم.
خلافة الظاهر بن الناصر لما توفي
الخليفة الناصر لدين الله كان قد عهد إلى ابنه أبي نصر محمد هذا ولقبه
بالظاهر، وخطب له على المنابر، ثم عزله عن ذلك بأخيه علي، فتوفي في
حياة أبيه سنة ثنتي عشرة، فاحتاج إلى إعادة هذا لولاية العهد فخطب له
ثانيا، فحين توفي بويع بالخلافة، وعمره يومئذ ثنتان
__________
(1) في ابن الاثير 12 / 439 وتاريخ أبي الفداء 3 / 136: نحو سبعين سنة
تقريبا.
(2) في ابن الاثير: ستا وأربعين سنة وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوما.
وفي أبي الفداء: نحو سبع وأربعين سنة.
وفي الوافي ودول الاسلام 2 / 126: سبعا وأربعين سنة.
وفي مرآة الزمان 8 / 635: سبعا وأربعين سنة إلا شهورا وأياما.
(3) انظر تاريخ أبي الفداء: 3 / 135 والكامل لابن الاثير 12 / 440.
(*)
(13/125)
وخمسون سنة،
فلم يل الخلافة من بني العباس أسن منه، وكان عاقلا وقورا دينا عادلا
محسنا، رد مظالم كثيرة وأسقط مكوسا كان قد أحدثها أبوه، وسار في الناس
سيرة حسنة، حتى قيل: إنه لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز أعدل منه لو
طالت مدته، لكنه لم يحل إلى الحول، بل كانت مدته تسعة أشهر (1) أسقط
الخراج الماضي عن الاراضي التي قد تعطلت، ووضع عن أهل بلدة واحدة وهي
يعقوبا سبعين ألف دينار كان أبوه قد زادها عليهم في الخراج، وكانت صنجة
المخزن تزيد على صنجة البلد نصف دينار في كل مائة إذا قبضوا وإذا
أقبضوا دفعوا بصنجة البلد، فكتب إلى الديوان (ويل للمطففين الذين إذا
اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك
أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين) [ سورة 83: 1 ]
فكتب إليه بعض الكتاب يقول: يا أمير المؤمنين إن تفاوت هذا عن العام
الماضي خمسة وثلاثون ألفا، فأرسل ينكر عليه ويقول: هذا يترك وإن كان
تفاوته ثلثمائة ألف وخمسين ألفا، رحمه الله.
وأمر
للقاضي أن كل من ثبت له حق بطريق شرعي يوصل إليه بلا مراجعة، وأقام في
النظر على الاموال الجردة رجلا صالحا واستخلص على القضاء الشيخ العلامة
عماد الدين أبا صالح نصر بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي في
يوم الاربعاء ثامن ذي الحجة، فكان من خيار المسلمين ومن القضاة
العادلين، رحمهم الله أجمعين.
ولما عرض عليه القضاء لم يقبله إلا بشرط أن يورث ذوي الارحام، فقال:
اعط كل ذي حق حقه واتق الله ولا تتق سواه، وكان من عادة أبيه أن يرفع
إليه حراس الدروب في كل صباح بما كان عندهم في المحال من الاجتماعات
الصالحة والطالحة، فلما ولي الظاهر أمر بتبطيل ذلك كله وقال: أي فائدة
في كشف أحوال الناس وهتك أستارهم ؟ فقيل له: إن ترك ذلك يفسد الرعية،
فقال نحن ندعو الله لهم أن يصلحهم، وأطلق من كان في السجون معتقلا على
الاموال الديوانية، ورد عليهم ما كان استخرج منهم قبل ذلك من المظالم
وأرسل إلى القاضي بعشرة آلاف دينار يوفي بها ديون من في سجونه من
المدينين الذين لا يجدون وفاء، وفرق في العلماء بقية المائة ألف، وقد
لامه بعض الناس في هذه التصرفات فقال: إنما فتحت الدكان بعد العصر،
فذروني أعمل صالحا وأفعل الخير، فكم مقدار ما بقيت أعيش ؟ ! ولم تزل
هذه سيرته حتى توفي في العام الآتي كما سيأتي.
ورخصت الاسعار في أيامه وقد كانت قبل ذلك في غاية الغلاء حتى أنه فيما
حكى ابن الاثير: أكلت الكلاب والسنانير ببلاد الجزيرة والموصل، فزال
ذلك والحمد لله.
وكان هذا الخليفة الظاهر حسن الشكل مليح الوجه أبيض مشربا حلو الشمائل
شديد القوى.
__________
(1) في خلاصة الذهب المسبوك ص 285: تسعة أشهر وأربعة عشر يوما.
وفي الوافي بالوفيات 2 / 96 والعبر 5 / 95: تسعة أشهر ونصفا.
وفي دول الاسلام 2 / 129 فكالاصل.
وفي ابن الاثير 12 / 456: تسعة أشهر وأربعة وعشرين يوما.
(*)
(13/126)
وممن توفي فيها
من الاعيان: أبو الحسن علي الملقب بالملك الافضل
نور الدين بن السلطان صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، كان ولي عهد أبيه،
وقد ملك دمشق بعده مدة سنتين ثم أخذها منه عمه العادل، ثم كان أن يملك
الديار المصرية بعد أخيه العزيز فأخذها منه عمه العادل أبو بكر، ثم
اقتصر على ملك صرخد فأخذها منه أيضا عمه العادل، ثم آل به الحال أن ملك
سميساط وبها توفي في هذه السنة، وكان فاضلا شاعرا جيد الكتابة، ونقل
إلى مدينة حلب فدفن بها بظاهرها.
وقد ذكر ابن خلكان أنه كتب إلى الخليفة الناصر لدين الله يشكو إليه عمه
أبا بكر وأخاه عثمان وكان الناصر شيعيا مثله: مولاي إن أبا بكر وصاحبه
* عثمان قد غصبا بالسيف حق علي وهو الذي كان قد ولاه والده * عليهما
فاستقام الامر حين ولي فخالفاه وحلا عقد بيعته * والامر بينهما والنص
فيه جلي فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقى * من الاواخر ما لاقى من الاول
الامير سيف الدين علي ابن الامير علم الدين بن سليمان بن جندر، كان من
أكابر الامراء بحلب، وله الصدقات الكثيرة ووقف بها مدرستين إحداهما على
الشافعية والاخرى على الحنفية، وبنى الخانات والقناطر وغير ذلك من سبل
الخيرات والغزوات رحمه الله.
الشيخ علي الكردي الموله المقيم بظاهر باب الجابية، قال أبو شامة: وقد
اختلفوا فيه فبعض الدماشقة يزعم أنه كان صاحب كرامات، وأنكر ذلك آخرون،
وقالوا ما رآه أحد يصلي ولا يصوم ولا لبس مداسا، بل كان يدوس النجاسات
ويدخل المسجد على حاله، وقال آخرون كان له تابع من الجن يتحدث على
لسانه حكى السبط عن امرأة قالت جاء خبر بموت أمي باللاذقية أنها ماتت
وقال لي بعضهم: إنها لم تمت، قالت فمررت به وهو عند المقابر فوقفت عنده
فرفع رأسه وقال لي: ماتت ماتت إيش تعملين ؟ فكان كما قال.
وحكى لي عبد الله صاحبي قال: صبحت يوما وما كان معي شئ فاجتزت به فدفع
إلي نصف درهم وقال: يكفي هذا للخبز والفت بدبس، وقال: مر يوما على
الخطيب جمال الدين الدولعي فقال له: يا شيخ علي، أكلت اليوم كسيرات
يابسة وشربت عليها
(13/127)
الماء فكفتني،
فقال له الشيخ علي الكردي: وما تطلب نفسك شيئا آخر غير هذا ؟ قال: لا،
فقال: يا مسلمين من يقنع بكسرة يابسة يحبس نفسه في هذه المقصورة ولا
يقضي ما فرضه الله عليه من الحج.
الفخر ابن تيمية محمد بن أبي القاسم بن محمد الشيخ فخر الدين أبو عبد
الله بن تيمية الحراني، عالمها وخطيبها وواعظها، اشتغل على مذهب الامام
أحمد وبرع فيه وبرز وحصل وجمع تفسيرا حافلا في مجلدات كثيرة وله الخطب
المشهورة المنسوبة إليه، وهم عم الشيخ مجد الدين صاحب المنتقى في
الاحكام، قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: سمعته يوم جمعة بعد الصلاة
وهو يعظ الناس ينشد: أحبابنا قد ندرت مقلتي * ما تلتقي بالنوم أو نلتقي
رفقا بقلب مغرم واعطفوا * على سقام الجسد المحرق (1) كم تمطلوني بليالي
اللقا * قد ذهب العمر ولم نلتق وقد ذكرنا أنه قدم بغداد حاجا بعد وفاة
شيخه أبي الفرج بن الجوزي ووعظ بها في مكان وعظه.
الوزير ابن شكر صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الخالق بن
شكر، ولد بالديار المصرية بدميرة بين مصر واسكندرية سنة أربعين
وخمسمائة، ودفن بتربته عند مدرسته بمصر، وقد وزر للملك العادل وعمل
أشياء في أيامه منها تبليط جامع دمشق وأحاط سور المصلى عليه، وعمل
الفوارة ومسجدها وعمارة جامع المزة، وقد نكب وعزل سنة خمس عشرة وستمائة
وبقي معزولا إلى هذه السنة فكانت فيها وفاته، وقد كان مشكور السيرة
ومنهم من يقول كان ظالما فالله أعلم.
أبو إسحاق إبراهيم بن المظفر ابن إبراهيم بن علي المعروف بابن البذي
الواعظ البغدادي، أخذ الفن عن شيخه أبي الفرج ابن الجوزي وسمع الحديث
الكثير، ومن شعره قوله في الزهد: ما هذه الدنيا بدار مسرة * فتخوفي
مكرا لها وخداعا
__________
(1) في الوفيات 4 / 387: المغرق.
(*)
(13/128)
بينا الفتى
فيها يسر بنفسه * وبماله يستمتع استمتاعا حتى سقته المنية شربة * وحمته
فيه بعد ذاك رضاعا فغدا بما كسبت يداه رهينة * لا يستطيع لما عرته
دفاعا لو كان ينطق قال من تحت الثرى * فليحسن العمل الفتى ما اسطاعا
أبو الحسن علي بن الحسن الرازي ثم البغدادي الواعظ، عنده فضائل وله شعر
حسن، فمنه قوله في الزهد: استعدي يا نفس للموت واسعي * لنجاة فالحازم
المستعد قد تبينت أنه ليس للحي * خلود ولا من الموت بد إنما أنت
مستعيرة ما سو * ف تردين والعواري ترد أنت تسهين والحوادث لا * تسهو
وتلهين والمنايا تجد لا نرجى البقاء في معدن المو * ت ولا أرضا بها لك
ورد أي ملك في الارض أم أي حظ * لامرئ حظه من الارض لحد ؟ كيف يهوى
امرؤ لذاذة أيا * م عليه الانفاس فيها تعد البها السنجاري أبو السعادات
أسعد بن محمد (1) بن موسى الفقيه الشافعي الشاعر، قال ابن خلكان: كان
فقيها وتكلم في الخلاف إلا أنه غلب عليه الشعر، فأجاد فيه واشتهر بنظمه
وخدم به الملوك،
وأخذ منهم الجوائز وطاف البلاد، وله ديوان بالتربة (2) الاشرفية بدمشق،
ومن رقيق شعره ورائقه قوله: وهواك ما خطر السلو بباله * ولانت أعلم في
الغرام بحاله ومتى وشى واش إليك بأنه * سال هواك فذاك من عذاله أو ليس
للكلف المعنى شاهد * من حاله يغنيك عن تسأله جددت ثوب سقامه وهتكت ست *
ر غرامه وصرمت حبل وصاله وهي قصيدة طويلة امتدح فيها القاضي كمال الدين
الشهرزوري.
وله: لله أيامي على رامة * وطيب أوقاتي على حاجر
__________
(1) في ابن خلكان 1 / 214 وشذرات الذهب 5 / 104: يحيى.
(2) يعني في خزانة كتب التربة الاشرفية.
(*)
(13/129)
تكاد للسرعة في
مرها * أولها يعثر بالآخر (1) وكانت وفاته في هذه السنة عن تسعين سنة
رحمه الله بمنه وفضله.
عثمان بن عيسى ابن درباس بن قسر بن جهم بن عبدوس الهدباني الماراني
ضياء الدين أخو القاضي صدر الدين عبد الملك حاكم الديار المصرية في
الدولة الصلاحية، وضياء الدين هذا هو شارح المهذب إلى كتاب الشهادات في
نحو من عشرين مجلدا، وشرح اللمع في أصول الفقه والتنبيه للشيرازي، وكان
بارعا عالما بالمذهب رحمه الله.
أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الرسوي البواريجي ثم البغدادي، شيخ فاضل
له رواية، ومما أنشده: ضيق العذر في الضراعة أنا * لو قنعنا بقسمنا
لكفانا ما لنا نعبد العباد إذا كان * إلى الله فقرنا وغنانا
أبو الفضل عبد الرحيم بن نصر الله ابن علي بن منصور بن الكيال الواسطي
من بيت الفقه والقضاء، وكان أحد المعدلين ببغداد ومن شعره: فتبا لدنيا
لا يدوم نعيمها * تسر يسيرا ثم تبدي المساويا تريك رواء في النقاب
وزخرفا * وتسفر عن شوهاء طحياء عاميا ومن ذلك قوله: إن كنت بعد
الطاعتين تسامحت * بالفحص أجفاني فما أجفاني أو كنت من بعد الاحبة
ناظرا * حسنا بإنساني فما أنساني الدهر مغفور له زلاته * إن عاد أوطاني
على أوطاني أبو علي الحسن بن علي ابن الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن
عمار بن فهر بن وقاح الياسري نسبة إلى عمار بن
__________
(1) الابيات في وفيات الاعيان 1 / 214 و 216.
(*)
(13/130)
ياسر، شيخ
بغدادي فاضل، له مصنفات في التفسير والفرائض، وله خطب ورسائل وأشعار
حسنة وكان مقبول الشهادة عند الحكام.
أبو بكر محمد بن يوسف بن الطباخ الواسطي البغدادي الصوفي، باشر بعض
الولايات ببغداد، ومما أنشده: ما وهب الله لامرئ هبة * أحسن من عقله
ومن أدبه نعما جمال الفتى فإن فقدا * ففقده للحياة أجمل به ابن يونس
شارح التنبيه أبو الفضل أحمد بن الشيخ كمال الدين أبي الفتح موسى بن
يونس بن محمد بن منعة بن مالك بن محمد بن سعد بن سعيد بن عاصم بن عابد
(1) بن كعب بن قيس بن إبراهيم الاربلي
الاصل ثم الموصلي من بيت العلم والرياسة، اشتغل على أبيه في فنونه
وعلومه فبرع وتقدم.
وقد درس وشرح التنبيه واختصر إحياء علوم الدين للغزالي مرتين صغيرا
وكبيرا، وكان يدرس منه.
قال ابن خلكان: وقد ولي بإربل مدرسة الملك المظفر بعد موت والدي في سنة
عشر وستمائة، وكنت أحضر عنده وأنا صغير ولم أر أحدا يدرس مثله، ثم صار
إلى بلده سنة سبع عشرة، ومات يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع
الآخر من هذه السنة عن سبع وأربعين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة فيها
التقى الملك جلال الدين بن خوارزم شاه الخوارزمي مع الكرج فكسرهم كسرة
عظيمة، وصمد إلى أكبر معاقلتهم تفليس ففتحها عنوة وقتل من فيها
من الكفرة وسبى ذراريهم ولم يتعرض لاحد من المسلمين الذين كانوا بها،
واستقر ملكه عليها، وقد كان الكرج أخذوها من المسلمين في سنة خمس عشرة
وخمسمائة، وهي بأيديهم إلى الآن حتى استنقذها منهم جلال الدين هذا،
فكان فتحا عظيما ولله المنة.
وفيها سار إلى خلاط ليأخذها من نائب الملك الاشرف فلم يتمكن من أخذها
وقاتله أهلها قتالا عظيما فرجع عنهم بسبب اشتغاله بعصيان نائبه (2)
بمدينة كرمان وخلافه له، فسار إليهم وتركهم.
وفيها اصطلح الملك الاشرف مع أخيه المعظم وسار إليه إلى دمشق، وكان
المعظم ممالئا عليه مع جلال الدين وصاحب إربل وصاحب ماردين وصاحب
__________
(1) في ابن خلكان 1 / 108: عائد.
(2) وهو بلاق حاجب.
(*)
(13/131)
الروم، وكان مع
الاشرف أخوه الكامل وصاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، ثم استمال أخاه
المعظم إلى ناحيته يقوي جانبه، وفيها كان قتال كبير بين إبرنش (1)
إنطاكية وبين الارمن، وجرت خطوب كثيرة بينهم وفيها أوقع الملك جلال
الدين بالتركمان الايوانية بأسا شديدا، وكانوا يقطعون الطرق على
المسلمين.
وفيها قدم محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين بن الجوزي من بغداد في
الرسلية إلى
الملك المعظم بدمشق، ومعه الخلع والتشاريف لاولاد العادل من الخليفة
الظاهر بأمر الله، ومضمون الرسالة نهيه عن موالاة جلال الدين بن خوارزم
شاه، فإنه خارجي من عزمه قتال الخليفة وأخذ بغداد منهم، فأجابه إلى ذلك
وركب القاضي محيي الدين بن الجوزي إلى الملك الكامل بالديار المصرية،
وكان ذلك أول قدومه إلى الشام ومصر، وحصل له جوائز كثيرة من الملوك،
منها كان بناء مدرسته الجوزية بالنشابين بدمشق.
وفيها ولي تدريس الشبلية بالسفح شمس الدين محمد بن قزغلي سبط ابن
الجوزي بمرسوم الملك المعظم، وحضر عنده أول يوم القضاة والاعيان.
وفاة الخليفة الظاهر وخلافة ابنه المستنصر
كانت وفاة الخليفة رحمه الله يوم الجمعة ضحى الثالث عشر (2) من رجب من
هذه السنة، أعني سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ولم يعلم الناس بموته إلا
بعد الصلاة، فدعا له الخطباء يومئذ على المنابر على عادتهم فكانت
خلافته تسعة أشهر وأربعة عشر يوما (3)، وعمره اثنتان وخمسون سنة، وكان
من أجود بني العباس وأحسنهم سيرة وسريرة، وأكثرهم عطاء وأحسنهم منظرا
ورواء، ولو طالت مدته لصلحت الامة صلاحا كثيرا على يديه، ولكن أحب الله
تقريبه وإزلافه لديه، فاختار له ما عنده وأجزل له إحسانا ورفده، وقد
ذكرنا ما اعتمده في أول ولايته من إطلاق الاموال الديوانية ورد المظالم
وإسقاط المكوس، وتخفيف الخراج عن الناس، وأداء الديون عمن عجز عن
أدائها، والاحسان إلى العلماء والفقراء وتولية ذوي الديانة والامانة،
وقد كان كتب كتابا لولاة الرعية فيه " بسم الله الرحمن الرحيم، اعلموا
أنه ليس إمهالنا إهمالا، ولا إغضاؤنا احتمالا (4)، ولكن لنبلوكم أيكم
أحسن عملا، وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد، وتشريد الرعايا
وتقبيح الشريعة، وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي، حيلة ومكيدة،
__________
(1) في ابن الاثير: البرنس الفرنجي، صاحب أنطاكية.
(2) في ابن الاثير: 12 / 456 ونهاية الارب 23 / 320 وتاريخ أبي الفداء
3 / 136 الرابع عشر.
(3) انظر حاشية 1 من صفحة 126.
(4) في ابن الاثير 12 / 456: إغفالا.
(*)
(13/132)
وتسمية
الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدراكا لاغراض انتهزتم فرصها مختلسة من
براثن ليث باسل، وأنياب أسد مهيب، تنفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد،
وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم، وتمزجون باطلكم بحقه،
فيطيعكم وأنتم له عاصون، ويوافقكم وأنتم له مخالفون والآن قد بدل الله
سبحانه بخوفكم أمنا، وبفقركم غنى، وبباطلكم حقا، ورزقكم سلطانا يقيل
العثرة، ولا يؤاخذ إلا من أصر، ولا ينتقم إلا ممن استمر، يأمركم بالعدل
وهو يريده منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم، يخاف الله تعالى
فيخوفكم مكره، ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته فإن سلكتم مسالك
خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه، وإلا هلكتم و السلام ".
ووجد في داره رقاع مختومة لم يفتحها سترا للناس ودرءا عن أعراضهم رحمه
الله، وقد خلف من الاولاد عشرة ذكورا وإناثا، منهم ابنه الاكبر الذي
بويع له بالخلافة من بعده أبو جعفر المنصور، ولقب بالمستنصر بالله،
وغسله الشيخ محمد الخياط الواعظ، ودفن في دار الخلافة، ثم نقل إلى
الترب من الرصافة.
خلافة المستنصر بالله العباسي أمير
المؤمنين أبي جعفر منصور بن الظاهر محمد بن الناصر أحمد، بويع
بالخلافة يوم مات أبوه يوم جمعة ثالث عشر (1) رجب من هذه السنة، سنة
ثلاث وعشرين وستمائة، استدعوا به من التاج فبايعه الخاصة والعامة من
أهل العقد والحل، وكان يوما مشهودا، وكان عمره يومئذ خمسا وثلاثين سنة
وخمسة أشهر وأحد عشر يوما، وكان من أحسن الناس شكلا وأبهاهم منظرا، وهو
كما قال القائل: كأن الثريا علقت في جبينه * وفي خده الشعرى وفي وجهه
القمر وفي نسبه الشريف خمسة عشر خليفة، منهم خمسة من آبائه ولوا نسقا،
وتلقى هو الخلافة عنهم وراثة كابرا عن كابر، وهذا شئ لم يتفق لاحد من
الخلفاء قبله، وسار في الناس كسيرة أبيه الظاهر في
الجود وحسن السيرة والاحسان إلى الرعية، وبنى المدرسة الكبيرة
المستنصرية التي لم تبن مدرسة في الدنيا مثلها، وسيأتي بيان ذلك في
موضعه إن شاء الله، واستمر أرباب الولايات الذين كانوا في عهد أبيه على
ما كانوا عليه، ولما كان يوم الجمعة المقبلة خطب للامام المستنصر بالله
على المنابر ونثر الذهب والفضة عند ذكر اسمه، وكان يوما مشهودا، وأنشد
الشعراء المدائح والمراثي، وأطلقت لهم الخلع والجوائز، وقدم رسول من
صاحب الموصل يوم غرة شعبان من الوزير ضياء الدين أبي الفتح نصر الله بن
الاثير، فيها التهنئة والتعزية بعبارة فصيحة بليغة.
__________
(1) راجع حاشية 2 صفحة 132.
(*)
(13/133)
ثم إن المستنصر
بالله كان يواظب على حضور الجمعة راكبا ظاهرا للناس، وإنما معه خادمان
وراكب دار، وخرج مرة وهو راكب فسمع ضجة عظيمة فقال: ما هذا ؟ فقيل له
التأذين، فترجل عن مركوبه وسعى ماشيا، ثم صار يدمن المشي إلى الجمعة
رغبة في التواضع والخشوع، ويجلس قريبا من الامام ويستمع الخطبة، ثم
أصلح له المطبق فكان يمشي فيه إلى الجمعة، وركب في الثاني والعشرين من
شعبان ركوبا ظاهرا للناس عامة، ولما كانت أول ليلة من رمضان تصدق
بصدقات كثيرة من الدقيق والغنم والنفقات على العلماء والفقراء
والمحاويج، إعانة لهم على الصيام، وتقوية لهم على القيام.
وفي يوم السابع والعشرين من رمضان نقل تابوت الظاهر من دار الخلافة إلى
التربة من الرصافة، وكان يوما مشهودا، وبعث الخليفة المستنصر يوم العيد
صدقات كثيرة وإنعاما جزيلا إلى الفقهاء والصوفية وأئمة المساجد، على
يدي محيي الدين بن الجوزي.
وذكر ابن الاثير أنه كانت زلزلة عظيمة في هذه السنة، هدمت شيئا كثيرا
من القرى والقلاع ببلادهم، وذكر أنه ذبح شاة ببلدهم فوجد لحمها مرا حتى
رأسها وأكارعها [ ومعاليقها وجميع أجزائها ] (1).
وممن توفي فيها من الاعيان بعد
الخليفة الظاهر كما تقدم: الجمال المصري يونس بن بدران بن فيرور جمال
الدين المصري، قاضي القضاة في هذا الحين، اشتغل
وحصل وبرع واختصر كتاب " الام " للامام الشافعي، وله كتاب مطول في
الفرائض، وولي تدريس الامينية بعد التقي صالح الضرير، الذي قتل نفسه،
ولاه إياه الوزير صفي الدين بن شكر، وكان معتنيا بأمره ثم ولي وكالة
بيت المال بدمشق، وترسل إلى الملوك والخلفاء عن صاحب دمشق، ثم ولاه
المعظم قضاء القضاة بدمشق بعد عزله الزكي بن الزكي، وولاه تدريس
العادلية الكبيرة، حين كمل بناؤها فكان أول من درس بها وحضره الاعيان
كما ذكرنا.
وكان يقول أولا درسا في التفسير حتى أكمل التفسير إلى آخره، ويقول درس
الفقه بعد التفسير، وكان يعتمد في أمر إثبات السجلات اعتمادا حسنا، وهو
أنه كان يجلس في كل يوم جمعة بكرة ويوم الثلاثاء ويستحضر عنده في إيوان
العادلية جميع شهود البلد، ومن كان له كتاب يثبته حضر واستدعى شهوده
فأدوا على الحاكم وثبت ذلك سريعا، وكان يجلس كل يوم جمعة بعد العصر إلى
الشباك الكمالي بمشهد عثمان فيحكم حتى يصلي المغرب، وربما مكث حتى يصلي
العشاء أيضا، وكان كثير المذاكرة للعلم كثير الاشتغال حسن الطريقة، لم
ينقم عليه أنه أخذ شيئا لاحد.
قال أبو شامة: وإنما كان ينقم عليه أنه كان يشير على بعض الورثة
بمصالحة بيت المال، وأنه استناب ولده التاج محمدا ولم يكن مرضى
الطريقة، وأما هو فكان عفيفا في نفسه نزها مهيبا.
قال أبو شامة: وكان يدعي أنه قرشي شيبي
__________
(1) من ابن الاثير 12 / 467.
(*)
(13/134)
فتكلم الناس
فيه بسبب ذلك، وتولى القضاء بعده شمس الدين أحمد بن الخليلي الجويني.
قلت: وكانت وفاته في ربيع الاول من هذه السنة، ودفن بداره التي في رأس
درب الريحان من ناحية الجامع، ولتربته شباك شرق المدرسة الصدرية اليوم،
وقد قال فيه ابن عنين وكان هجاء: ما أقصر المصري في فعله * إذ جعل
التربة في داره أراح للاحياء من رجمه * وأبعد الاموات من ناره المعتمد
والي دمشق المبارز إبراهيم المعروف بالمعتمد والي دمشق، من خيار الولاة
وأعفهم وأحسنهم سيرة
وأجودهم سريرة، أصله من الموصل، وقدم الشام فخدم فروخشاه بن شاهنشاه بن
أيوب، ثم استنابه البدر مودود أخو فروخشاه، وكان شحنة دمشق، فحمدت
سيرته في ذلك، ثم صار هو شحنة دمشق أربعين سنة، فجرت في أيامه عجائب
وغرائب، وكان كثير الستر على ذوي الهيئات، ولا سيما من كان من أبناء
الناس وأهل البيوتات، واتفق في أيامه أن رجلا حائكا كان له ولد صغير في
آذانه حلق فعدا عليه رجل من جيرانهم فقتله غيلة وأخذ ما عليه من الحلي
ودفنه في بعض المقابر، فاشتكوا عليه فلم يقر، فبكت والدته من ذلك وسألت
زوجها أن يطلقها، فطلقها فذهبت إلى ذلك الرجل وسألته أن يتزوجها وأظهرت
له أنها أحبته فتزوجها، ومكثت عنده حينا، ثم سألته في بعض الاوقات عن
ولدها الذي اشتكوا عليه بسببه فقال: نعم أنا قتلته.
فقالت أشتهي أن تريني قبره حتى أنظر إليه، فذهب بها إلى قبر خشنكاشة
ففتحه فنظرت إلى ولدها فاستعبرت وقد أخذت معها سكينا أعدتها لهذا
اليوم، فضربته حتى قتلته ودفنته مع ولدها في ذلك القبر، فجاء أهل
المقبرة فحملوها إلى الوالي المعتمد هذا فسألها فذكرت له خبرها،
فاستحسن ذلك منها وأطلقها وأحسن إليها، وحكى عنه السبط قال: بينما أنا
يوما خارج من باب الفرج، وإذا برجل يحمل طبلا وهو سكران، فأمرت به فضرب
الحد، وأمرتهم فكسروا الطبل، وإذا ذكرة كبيرة جدا فشقوها [ فإذا فيها
خمر ] وكان العادل قد منع أن يعصر خمر ويحمل إلى دمشق شئ منه بالكلية،
فكان الناس يتحيلون بأنواع الحيل ولطائف المكر، قال السبط فسألته من
أين علمت أن في الطبل شيئا ؟ قال: رأيته يمشي ترجف سيقانه فعرفت أنه
يحمل شيئا ثقيلا في الطبل.
وله من هذا الجنس غرائب، وقد عزله المعظم وكان في نفسه منه وسجنه في
القلعة نحوا من خمس سنين، ونادى عليه في البلد فلم يجئ أحد ذكر أنه أخذ
منه حبة خردل، ولما مات رحمه الله دفن بتربته المجاورة لمدرسة أبي عمر
من شامها قبلي السوق، وله عند تربته مسجد يعرف به رحمه الله.
واقف الشبلية التي بطريق الصالحية شبل الدولة كافور الحسامي نسبة إلى
حسام الدين محمد بن لاجين، ولد ست الشام، وهو
(13/135)
الذي كان
مستحثا على عمارة الشامية البرانية لمولاته ست الشام، وهو الذي بنى
الشبلية للحنفيه والخانقاه على الصوفية إلى جانبها، وكانت منزله، ووقف
القناة والمصنع والساباط، وفتح للناس طريقا من عند المقبرة غربي
الشامية البرانية إلى طريق عين الكرش، ولم يكن الناس لهم طريق إلى
الجبل من هناك، إنما كانوا يسلكون من عند مسجد الصفي بالعقبية، وكانت
وفاته في رجب ودفن إلى جانب مدرسته، وقد سمع الحديث على الكندي وغيره
رحمه الله تعالى.
واقف الرواحية بدمشق وحلب أبو القاسم هبة الله المعروف بابن رواحة، كان
أحد التجار، وفي الثروة والمقدار ومن المعدلين بدمشق، وكان في غاية
الطول والعرض ولا لحية له، وقد ابتنى المدرسة الرواحية داخل باب
الفراديس ووقفها على الشافعية، وفوض نظرها وتدريسها إلى الشيخ تقي
الدين بن الصلاح الشهرزوري، وله بحلب مدرسة أخرى مثلها، وقد انقطع في
آخر عمره في المدرسة التي بدمشق وكان يسكن البيت الذي في إيوانها من
الشرق، ورغب فيما بعد أن يدفن فيه إذا مات فلم يمكن من ذلك، بل دفن
بمقابر الصوفية، وبعد وفاته شهد محيي الدين ابن عربي الطائي الصوفي،
وتقي الدين خزعل النحوي المصري ثم المقدسي إمام مشهد علي شهدا على ابن
رواحة بأنه عزل الشيخ تقي الدين عن هذه المدرسة، فجرت خطوب طويلة ولم
ينتظم ما راماه من الامر، ومات خزعل في هذه السنة أيضا فبطل ما سلكوه.
أبو محمد محمود بن مودود بن محمود البلدجي الحنفي الموصلي، وله بها
مدرسة تعرف به، وكان من أبناء الترك، وصار من مشايخ العلماء وله دين
متين وشعر حسن جيد، فمنه قوله: من ادعى أن له حالة * تخرجه عن منهج
الشرع فلا تكونن له صاحبا * فإنه خرء بلا فع كانت وفاته بالموصل في
السادس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وله نحو من ثمانين سنة.
ياقوت ويقال له يعقوب بن عبد الله نجيب الدين متولي الشيخ تاج الدين
الكندي، وقد وقف إليه الكتب التي بالخزانة بالزاوية الشرقية الشمالية
من جامع دمشق، وكانت سبعمائة وإحدى وستين مجلدا، ثم على ولده من بعده
(13/136)
ثم على العلماء
فتمحقت هذه الكتب وبيع أكثرها، وقد كان ياقوت هذا لديه فضيلة وأدب وشعر
جيد، وكانت وفاته ببغداد في مستهل رجب، ودفن بمقبرة الخيزران بالقرب من
مشهد أبي حنيفة.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة فيها كانت
عامة أهل تفليس الكرج فجاؤوا إليهم فدخلوها فقتلوا العامة والخاصة،
ونهبوا وسبوا وخربوا وأحرقوا، وخرجوا على حمية، وبلغ ذلك جلال الدين
فسار سريعا ليدركهم فلم يدركهم.
وفيها قتلت الاسماعيلية أميرا كبيرا من نواب جلال الدين بن خوارزم شاه،
فسار إلى بلادهم فقتل منهم خلقا كثيرا، وخرب مدينتهم وسبى ذراريهم ونهب
أموالهم، وقد كانوا قبحهم الله من أكبر العون على المسلمين، لما قدم
التتار إلى الناس، وكانوا أضر على الناس منهم.
وفيها تواقع جلال الدين وطائفة كبيرة من التتار (1) فهزمهم وأوسعهم
قتلا وأسرا، وساق وراءهم أياما فقتلهم حتى وصل إلى الري فبلغه أن طائفة
قد جاؤوا لقصده فأقام يثبطهم، وكان من أمره وأمرهم ما سيأتي في سنة خمس
وعشرين.
وفيها دخلت عساكر الملك الاشرف بن العادل إلى أذربيجان فملكوا منها
مدنا كثيرة وغنموا أموالا جزيلة، وخرجوا معهم بزوجة جلال الدين بنت
طغرل، وكانت تبغضه وتعاديه، فأنزلوها مدينة خلاط وسيأتي ما كان من
خبرهم في السنة الآتية.
وفيها قدم رسول الانبور ملك الفرنج في البحر إلى المعظم يطلب منه ما
كان فتحه عمه السلطان الملك الناصر صلاح الدين من بلاد السواحل، فأغلظ
لهم المعظم في الجواب وقال له: قل لصاحبك ما عندي إلا السيف والله
أعلم.
وفيها جهز الاشرف أخاه شهاب الدين غازي إلى الحج في محمل عظيم يحمل
ثقله ستمائة جمل، ومعه خمسون هجينا، على كل هجين مملوك، فسار من ناحية
العراق وجاءته هدايا من الخليفة إلى أثناء الطريق، وعاد على طريقه التي
حج منها.
وفيها
ولي قضاء القضاة ببغداد نجم الدين أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل
الواسطي، وخلع عليه كما هي عادة الحكام، وكان يوما مشهودا.
وفيها كان غلاء شديد ببلاد الجزيرة وقل اللحم حتى حكى ابن الاثير: أنه
لم يذبح بمدينة الموصل في بعض الايام سوى خروف واحد في زمن الربيع،
قال: وسقط فيها عاشر أذار ثلج كثير بالجزيرة والعراق مرتين فأهلك
الازهار وغيرها، قال: وهذا شئ لم يعهد مثله، والعجب كل العجب من العراق
مع كثرة حره كيف وقع فيه مثل هذا.
وممن توفي فيها من الاعيان:
جنكيزخان السلطان الاعظم عند التتار والد ملوكهم اليوم، ينتسبون إليه
ومن عظم القان إنما يريد هذا
__________
(1) وذلك في مدينة دامغان بالقرب من الري (انظر ابن الاثير 12 / 470).
(*)
(13/137)
الملك وهو الذي
وضع لهم السياسا (1) التي يتحاكمون إليها، ويحكمون بها، وأكثرها مخالف
لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شئ اقترحه من عند نفسه، وتبعوه في ذلك،
وكانت تزعم أمه أنها حملته من شعاع الشمس، فلهذا لا يعرف له أب،
والظاهر أنه مجهول النسب (2)، وقد رأيت مجلدا جمعه الوزير ببغداد علاء
الدين الجويني في ترجمته فذكر فيه سيرته، وما كان يشتمل عليه من العقل
السياسي والكرم والشجاعة والتدبير الجيد للملك والرعايا، والحروب، فذكر
أنه كان في ابتداء أمره خصيصا عند الملك أزبك خان، وكان إذ ذاك شابا
حسنا وكان اسمه أولا تمرجي، ثم لما عظم سمى نفسه جنكيزخان، وكان هذا
الملك قد قربه وأدناه، فحسده عظماء الملك ووشوا به إليه حتى أخرجوه
عليه، ولم يقتله ولم يجد له طريقا في ذنب يتسلط عليه به، فهو في ذلك إذ
تغضب الملك على مملوكين صغيرين فهربا منه ولجآ إلى جنكيزخان فأكرمهما
وأحسن إليهما فأخبراه بما يضمره الملك أزبك خان من قتله، فأخذ حذره
وتحيز بدولة واتبعه طوائف من التتار وصار كثير من أصحاب أزبك خان
ينفرون إليه ويفدون عليه فيكرمهم ويعطيهم حتى قويت شوكته وكثرت جنوده،
ثم حارب بعد ذلك أزبك خان فظفر به وقتله واستحوز على مملكته وملكه،
وانضاف إليه
عدده وعدده، وعظم أمره وبعد صيته وخضعت له قبائل الترك ببلاد طمغاج (3)
كلها حتى صار يركب في نحو ثمانمائة ألف مقاتل، وأكثر القبائل قبيلته
التي هو منها يقال لهم قيان، ثم أقرب القبائل إليه بعدهم قبيلتان
كبيرتا العدد وهما أزان وقنقوران (4) وكان يصطاد من السنة ثلاثة أشهر
والباقي للحرب والحكم.
قال الجويني: وكان يضرب الحلقة يكون ما بين طرفيها ثلاثة أشهر ثم
تتضايق فيجتمع فيها من أنواع الحيوانات شئ كثير لا يحد كثرة، ثم نشبت
الحرب بينه وبين الملك علاء الدين خوارزم شاه صاحب بلاد خراسان والعراق
وأذربيجان وغير ذلك والاقاليم والملك، فقهره جنكيزخان وكسره وغلبه
وسلبه، واستحوذ على سائر بلاده بنفسه وبأولاده في أيسر مدة كما ذكرنا
ذلك في الحوادث، وكان ابتداء ملك جنكزخان سنة تسع وتسعين وخمسمائة،
وكان قتاله لخوارزم شاه في حدود سنة ست عشرة وستمائة، ومات خوارزم شاه
في سنة سبع عشرة كما ذكرنا، فاستحوذ حينئذ على الممالك بلا منازع ولا
ممانع، وكانت وفاته في سنة أربع وعشرين وستمائة
__________
(1) السياسا: وفي ابن خلدون 5 / 526: السياسة الكبيرة.
والسياسا كلمة مركبة من سي بمعنى ثلاثة.
ويسا بمعنى الترتيب.
ثم حرفها العرب فقالوا: سياسة.
قال ابن خلدون في تاريخه: كتب جنكيزخان كتاب السياسة وذكر فيه أحكام
السياسة في الملك والحروب والاحكام العامة شبه أحكام الشرائع وأمر أن
يوضع في خزانته وأن تختص بقرابته.
ولم يكن يؤتى بمثله.
(2) قال ابن خلدون في تاريخه: كان اسمه تمرجين ثم أصاروه جنكزوخان -
وهو بمعنى الملك عندهم - وأما نسبته فهي هكذا جنكز بن بيسوكى بن بهادر
بن تومان بن برتيل خان بن تومينه بن باد سنقر بن تيدوان ديوم بن بقا بن
مودنجه.
(3) في ابن خلدون 5 / 526: طوغاج.
(4) في رواية ابن خلدون عن الجويني: أورات ومنفورات.
(*)
(13/138)
فجعلوه في
تابوت من حديد وربطوه بسلاسل وعلقوه بين جبلين هنالك وأما كتابه الياسا
فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويحمل على بعير عندهم، وقد ذكر بعضهم
أنه كان يصعد جبلا ثم ينزل
ثم يصعد ثم ينزل مرارا حتى يعيى ويقع مغشيا عليه، ويأمر من عنده أن
يكتب ما يلقى على لسانه حينئذ، فإن كان هذا هكذا فالظاهر أن الشيطان
كان ينطق على لسانه بما فيها.
وذكر الجويني أن بعض عبادهم كان يصعد الجبال في البرد الشديد للعبادة
فسمع قائلا يقول له إنا قد ملكنا جنكيزخان وذريته وجه الارض قال
الجويني: فمشايخ المغول يصدقون بهذا ويأخذونه مسلما.
ثم ذكر الجويني نتفا من الياسا من ذلك: أنه من زنا قتل، محصنا كان أو
غير محصن، وكذلك من لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن سحر قتل، ومن
تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في
الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل، ومن أطعم أسيرا أو سقاه أو كساه
بغير إذن أهله قتل، ومن وجد هاربا ولم يرده قتل، ومن أطعم أسيرا أو رمى
إلى أحد شيئا من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده، ومن أطعم أحدا
شيئا فليأكل منه أولا ولو كان المطعوم أميرا لا أسيرا، ومن أكل ولم
يطعم من عنده قتل، ومن ذبح حيوانا ذبح مثله بل يشق جوفه ويتناول قلبه
بيده يستخرجه من جوفه أولا.
وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الانبياء عليهم
الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله
خاتم الانبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن
تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين.
قال الله تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم
يوقنون) [ المائدة: 50 ] وقال تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك
فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)
صدق الله العظيم [ النساء: 65 ].
ومن آدابهم: الطاعة للسلطان غاية الاستطاعة، وأن يعرضوا عليه أبكارهم
الحسان ليختار لنفسه ومن شاء من حاشيته ما شاء منهن، ومن شأنهم أن
يخاطبوا الملك باسمه، ومن مر بقوم يأكلون فله أن يأكل معهم من غير
استئذان ولا يتخطى موقد النار ولا طبق الطعام، ولا يقف على أسكفة
الخركاه ولا يغسلون ثيابهم حتى يبدو وسخها، ولا يكلفون العلماء من كل
ما ذكر شيئا من الجنايات، ولا يتعرضون لمال ميت، وقد ذكر علاء الدين
الجويني طرفا كبيرا من أخبار جنكيزخان
ومكارم كان يفعلها لسجيته وما أداه إليه عقله وإن كان مشركا بالله كان
يعبد معه غيره، وقد قتل من الخلائق ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم،
ولكن كان البداءة من خوارزم شاه، فإنه لما أرسل جنكيزخان تجارا من جهته
معهم بضائع كثيرة من بلاده فانتهوا إلى إيران فقتلهم نائبها من جهة
خوارزم شاه، وهو والد زوجة كشلي خان، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل
جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعلمه هل وقع هذا الامر عن رضى منه أو أنه
لا يعلم به، فأنكره وقال له فيما
(13/139)
أرسل إليه: من
المعهود من الملوك أن التجار لا يقتلون لانهم عمارة الاقاليم، وهم
الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والاشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء
التجار كانوا على دينك فقتلهم نائبك، فإن كان أمرا أمرت به طلبنا
بدمائهم، وإلا فأنت تنكره وتقتص من نائبك.
فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيزخان لم يكن له جواب سوى أنه أمر
بضرب عنقه فأساء التدبير، وقد كان خرف وكبرت سنه، وقد ورد الحديث "
اتركوا الترك ما تركوكم " فلما بلغ ذلك جنكيزخان تجهز لقتاله وأخذ
بلاده، فكان بقدر الله تعالى ما كان من الامور التي لم يسمع بأغرب منها
ولا أبشع، فمما ذكره الجويني أنه قدم له بعض الفلاحين بالصيد ثلاث
بطيخات فلم يتفق أن عند جنكيزخان أحد من الخزندارية، فقال لزوجته خاتون
أعطيه هذين القرطين اللذين في أذنيك، وكان فيهما جوهرتان نفيستان جدا،
فشحت المرأة بهما وقالت: أنظره إلى غد، فقال إنه يبيت هذه الليلة مقلقل
الخاطر، وربما لا يجعل له شئ بعد هذا، وإن هذين لا يمكن أحد إذا
اشتراهما إلا جاء بهما إليك فانتزعتهما فدفعتهما إلى الفلاح فطار عقله
بهما وذهب بهما فباعهما لاحد التجار بألف دينار، ولم يعرف قيمتهما،
فحملهما التاجر إلى الملك فردهما على زوجته، ثم أنشد الجويني عند ذلك:
ومن قال إن البحر والقطر أشبها * نداه فقد أثنى على البحر والقطر
قالوا: واجتاز يوما في سوق فرأى عند بقال عنابا فأعجبه لونه ومالت نفسه
إليه فأمر الحاجب أن يشتري منه ببالس، فاشترى الحاجب بربع بالس، فلما
وضعه بين يديه أعجبه وقال: هذا كله ببالس ؟ قال وبقي منه هذا - وأشار
إلى ما بقي معه من المال - فغضب وقال: من يجد من يشتري منه
مثلي تمموا له عشرة بوالس.
قالوا: وأهدى له رجل جام زجاج من معمول حلب فاستحسنه جنكيزخان فوهن
أمره عنده بعض خواصه وقال: خوند هذا زجاج لا قيمة له، فقال: أليس قد
حمله من بلاد بعيدة حتى وصل إلينا سالما ؟ أعطوه مائتي بالس.
قال: وقيل له إن في هذا المكان كنزا عظيما إن فتحته أخذت منه مالا
جزيلا، فقال الذي في أيدينا يكفينا، ودع هذا يفتحه الناس ويأكلونه فهم
أحق به منا، ولم يتعرض له (1) قال واشتهر عن رجل في بلاده يقول أنا
أعرف موضع كنز ولا أقول إلا للقان، وألح عليه الامراء أن يعلمهم فلم
يفعل، فذكروا ذلك للقان فأحضره على خيل الاولاق - يعني البريد - سريعا
فلما حضر إلى بين يديه سأله عن الكنز فقال: إنما كنت أقول ذلك حيلة
لارى وجهك.
فلما رأى تغير كلامه غضب وقال له: قد حصل لك ما قلت، ورده إلى موضعه
سالما ولم يعطه شيئا.
قال: وأهدى له إنسان رمانة فكسرها وفرق حبها على الحاضرين وأمر له بعدد
حبها بوالس ثم أنشد:
__________
(1) في هامش المطبوعة: وجد في هامش التركية ما نصه: هذا منقول عن ابنه
قان الذي قام مقامه.
ولعله هو الصحيح لان قان هذا المنسوب إلى الكرم الجبلي العظيم والسخاء
المفرط.
ويحكى عنه حكايات عظيمة في هذا الشأن.
وأما أبوه جنكيزخان فإنه متوسط في الجود بل وفي سائر سجاياه وأخلاقه
وأفعاله إلا في أمر سفك الدماء قبحه الله تعالى.
(*)
(13/140)
فلذاك تزدحم
الوفود ببابه * مثل ازدحام الحب في الرمان قال: وقدم عليه رجل كافر
يقول رأيت في النوم جنكيزخان يقول قل لابي يقتل المسلمين، فقال له هذا
كذب، وأمر بقتله (1).
قال وأمر بقتل ثلاثة قد قضت الياسا بقتلهم، فإذا امرأة تبكي وتطلم.
فقال: ما هذه ؟ أحضروها، فقالت: هذا ابني، وهذا أخي، وهذا زوجي، فقال
اختاري واحدا منهم حتى أطلقه لك، فقالت: الزوج يجئ مثله، والابن كذلك،
والاخ لا عوض له، فاستحسن ذلك منها وأطلق الثلاثة لها.
قال: وكان يحب المصارعين وأهل الشطارة، وقد اجتمع عنده منهم جماعة،
فذكر له إنسان بخراسان فأحضره فصرع جميع من عنده، فأكرمه وأعطاه وأطلق
له بنتا من بنات الملوك حسناء.
فمكثت عنده مدة لا يتعرض لها، فاتفق مجيئها إلى الاردوا
فجعل السلطان يمازحها ويقول: كيف رأيت المستعرب ؟ فذكرت له أنه لم
يقربها، فتعجب من ذلك وأحضره فسأله عن ذلك فقال: يا خوند أنا إنما حظيت
عندك بالشطارة ومتى قربتها نقصت منزلتي عندك، فقال لا بأس عليك وأحضر
ابن عم له وكان مثله، فأراد أن يصارع الاول فقال السلطان: أنتما قرابة
ولا يليق هذا بينكما وأمر له بمال جزيل.
قال: ولما احتضر أوصى أولاده بالاتفاق وعدم الافتراق، وضرب لهم في ذلك
الامثال، وأحضر بين يديه نشابا وأخذ سهما أعطاه لواحد منهم فكسره، ثم
أحضر حزمة ودفعها إليهم مجموعة فلم يطيقوا كسرها، فقال: هذا مثلكم إذا
اجتمعتم واتفقتم، وذلك مثلكم إذا انفردتم واختلفتم، قال: وكان له عدة
أولاد ذكور وإناث منهم أربعة هم عظماء أولاده أكبرهم يوسي وهريول وباتو
وبركة وتركجار (2)، وكان كل منهم له وظيفة عنده.
ثم تكلم الجويني على ملك ذريته إلى زمان هولاكو خان، وهو يقول في اسمه
ياذشاه زاره هولاكو، وذكر ما وقع في زمانه من الاوابد والامور المعروفة
المزعجة كما بسطناه في الحوادث والله أعلم.
السلطان الملك المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، ملك دمشق
والشام، كانت وفاته يوم الجمعة سلخ ذي القعدة من هذه السنة، وكان
استقلاله بملك دمشق لما توفي أبوه سنة خمس عشرة، وكان شجاعا
__________
(1) بهامش المطبوعة: فيه تخليط والصحيح: أن اعرابيا جاء إلى قان وقال
له: رأيت في النوم أباك جنكزخان فقال لي: قل لابني قان يقتل المسلمين،
وكان قان يميل إلى المسلمين، فقال للرجل: هل تعرف اللغة المغولية ؟
فقال: لا.
فقال الملك له: أنت كاذب لان أبي ما كان يعرف من اللغات ودرس غير
المغولية.
فأمر بضرب عنقه وأراح المسلمين من كيده.
(2) ذكر ابن خلدون نقلا عن ابن الحكيم قال: وخلف من الولد: ناخو وبركة
وداوردة وطوفل.
ونقل عن شمس الدين انه لم يترك إلا ولدين: ناظو وبركة (5 / 527).
(*)
(13/141)
باسلا عالما
فاضلا، اشتغل في الفقه على مذهب أبي حنيفة على الحصيري مدرس النورية،
وفي
اللغة والنحو على التاج الكندي، وكان محفوظه مفصل الزمخشري، وكان يجيز
من حفظه بثلاثين دينارا وكان قد أمر أن يجمع له كتاب في اللغة يشمل
صحاح الجوهري والجمهرة لابن دريد والتهذيب للازهري (1) وغير ذلك، وأمر
أن يرتب له مسند الامام أحمد (2)، وكان يحب العلماء ويكرمهم، ويجتهد في
متابعة الخير ويقول أنا على عقيدة الطحاوي، وأوصى عند وفاته أن لا يكفن
إلا في البياض، وأن يلحد له ويدفن في الصحراء ولا يبنى عليه، وكان
يقول: واقعة دمياط أدخرها عند الله تعالى وأرجو أن يرحمني بها - يعني
أنه أبلى بها بلاء حسنا - رحمه الله تعالى، وقد جمع له بين الشجاعة
والبراعة والعلم ومحبة أهله، وكان يجئ في كل جمعة إلى تربة والده فيجلس
قليلا ثم إذا ذكر المؤذنون ينطلق إلى تربة عمه صلاح الدين فيصلي فيها
الجمعة، وكان قليل التعاظم، يركب في بعض الاحيان وحده ثم يلحقه بعض
غلمانه سوقا.
وقال فيه بعض أصحابه وهو محب الدين بن أبي السعود البغدادي: لئن غودرت
تلك المحاسن في الثرى * بوال فما وجدي عليك ببال ومذ غبت عني ما ظفرت
بصاحب * أخي ثقة إلا خطرت ببالي وملك بعده دمشق ولده الناصر داود بن
المعظم، وبايعه الامراء.
أبو المعالي أسعد بن يحيى (3) ابن موسى بن منصور بن عبد العزيز بن وهب
الفقيه الشافعي البخاري، شيخ أديب فاضل خير، له نظم ونثر ظريف، وله
نوادر حسنة وجاوز التسعين.
قد استوزره صاحب حماة في وقت وله شعر رائق أورد منه ابن الساعي قطعة
جيدة.
فمن ذلك قوله: وهواك ما خطر السلو بباله * ولانت أعلم في الغرام بحاله
فمتى وشى واش إليك بشأنه * سائل هواك فذاك من أعداله أو ليس للدنف
المعنى شاهد * من حاله يغنيك عن تسأله جددت ثوب سقامه، وهتكت ست * ر
غرامه، وصرمت حبل وصاله
__________
(1) في ابن الاثير 12 / 472: للارموي.
(2) يعني ترتيبه على الابواب، ويرد كل حديث إلى الباب الذي يقتضيه
معناه، مثاله: أن يجمع أحاديث الطهارة، وكذلك يفعل في الصلاة وغيرها من
الرقائق، والتفسير، والغزوات...(3) تقدم في وفيات سنة 622، وذكره
المؤلف هناك بلقبه المعروف البهاء السنجاري، ولعل ايراده هنا سهو من
الناسخ، أو التبس عليه لقبه بأبي المعالي.
(*)
(13/142)
يا للعجائب من
أسير دأبه * يفدي الطليق بنفسه وبماله وله أيضا: لام العواذل في هواك
فأكثروا * هيهات ميعاد السلو المحشر جهلوا مكانك في القلوب وحاولوا *
لو أنهم وجدوا كوجدي أقصروا صبرا على عذب الهوى وعذابه * وأخو الهوى
أبدا يلام ويعذر أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد ابن أحمد بن حمدان
الطبي المعروف بالصائن، أحد المعيدين بالنظامية، ودرس بالثقفية، وكان
عارفا بالمذهب والفرائض والحساب، صنف شرحا للتنبيه.
ذكره ابن الساعي.
أبو النجم محمد بن القاسم بن هبة الله التكريتي الفقيه الشافعي، تفقه
على أبي القاسم بن فضلان ثم أعاد بالنظامية ودرس بغيرها، وكان يشتغل كل
يوم عشرين درسا، ليس له دأب إلا الاشتغال وتلاوة القرآن ليلا ونهارا،
وكان بارعا كثير العلوم، قد أتقن المذهب والخلاف، وكان يفتي في مسألة
الطلاق الثلاث بواحدة فتغيظ عليه قاضي القضاة أبو القاسم عبد الله بن
الحسين الدامغاني، فلم يسمع منه، ثم أخرج إلى تكريت فأقام بها، ثم
استدعي إلى بغداد، فعاد إلى الاشتغال وأعاده قاضي القضاة نصر بن عبد
الرزاق إلى إعادته بالنظامية، وعاد إلى ما كان عليه من الاشتغال
والفتوى والوجاهة إلى أن توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى.
وهذا ذكره ابن الساعي.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة
فيها كانت حروب كثيرة بين جلال الدين والتتر، كسروه غير مرة، ثم بعد
ذلك كله كسرهم كسرة عظيمة (1)، وقتل منهم خلقا وأمما لا يحصون، وكان
هؤلاء التتر قد انفردوا وعصوا على جنكيزخان فكتب جنكيزخان إلى جلال
الدين يقول له: إن هؤلاء ليسوا منا ونحن أبعدناهم، ولكن سترى منا ما لا
قبل لك به.
وفيها قدمت طائفة كبيرة من الفرنج من ناحية صقلية فنزلوا عكا وصور
وحملوا على مدينة صيدا فانتزعوها من أيدي المؤمنين، وعبروها وقويت
شوكتهم، وجاء الانبرور ملك الجزيرة القبرصية ثم سار فنزل عكا فخاف
المسلمون من شره وبالله المستعان.
وركب الملك الكامل محمد بن العادل صاحب مصر إلى بيت المقدس الشريف
فدخله،
__________
(1) وكان ذلك في أصفهان، وتبع جلال الدين فلولهم إلى الري يقتلهم
ويأسرهم.
(*)
(13/143)
ثم سار إلى
نابلس فخاف الناصر داود بن المعظم من عمه الكامل، فكتب إلى عمه الاشرف
فقدم عليه جريدة، وكتب إلى أخيه الكامل يستعطفه ويكفه عن ابن أخيه،
فأجابه الكامل: بأني إنما جئت لحفظ بيت المقدس وصونه عن الفرنج الذين
يريدون أخذه، وحاشى لله أن أحاصر أخي أو ابن أخي، وبعد أن جئت أنت إلى
الشام فأنت تحفظها وأنا راجع إلى الديار المصرية، فخشي الاشرف وأهل
دمشق إن رجع الكامل أن تمتد أطماع الفرنج إلى بيت المقدس، فركب الاشرف
إلى أخيه الكامل فثبطه عن الرجوع، وأقاما جميعا هنالك جزاهما الله
خيرا، يحوطان جناب القدس عن الفرنج لعنهم الله.
واجتمع إلى الملك جماعة من ملوكهم، كأخيه الاشرف وأخيهما الشهاب غازي
بن العادل وأخيهم الصالح إسماعيل بن العادل، وصاحب حمص أسد الدين
شيركوه بن ناصر الدين، وغيرهم، واتفقوا كلهم على نزع الناصر داود عن
ملك دمشق وتسليمها إلى الاشرف موسى.
وفيها عزل الصدر التكريتي عن حسبة دمشق ومشيخة الشيوخ وولي فيها اثنان
غيره.
قال أبو شامة: وفي أوائل رجب توفي الشيخ الصالح الفقيه أبو الحسن علي
ابن المراكشي المقيم بالمدرسة المالكية، ودفن بالمقبرة التي وقفها
الزين خليل بن زويزان قبلي مقابر الصوفية،
وكان أول من دفن بها رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة استهلت هذه
السنة وملوك بني أيوب مفترقون مختلفون، قد صاروا أحزابا وفرقا،
وقد اجتمع ملوكهم إلى الكامل محمد صاحب مصر، وهو مقيم بنواحي القدس
الشريف، فقويت نفوس الفرنج (1) لعنهم الله بكثرتهم بمن وفد إليهم من
البحر، وبموت المعظم واختلاف من بعده من الملوك، فطلبوا من المسلمين أن
يردوا إليهم ما كان الناصر صلاح الدين أخذ منهم، فوقعت المصالحة بينهم
وبين الملوك أن يردوا لهم بيت المقدس وحده، وتبقى بأيديهم بقية البلاد
(2)،
__________
(1) قال رنسيمان صاحب تاريخ الحروب الصليبية 3 / 330 إن وراء قوة
الفرنج أسبابا هامة ذكرها قال: 1 - قوة فردريك وتفوقه في المساومة
بالمفاوضات الجارية مع الكامل.
2 - حصار الكامل لدمشق لم يلحق الضرر بالناصر داود ابن أخيه.
3 - اخذ جلال الدين خوارزمشاه يوجه اهتمامه من جديد صوب الغرب.
4 - أتم فردريك عمارة استحكامات يافا.
(2) ذكر رنسيمان بنود معاهدة المصلح الموقعة في 18 فبراير سنة 1229 مع
ممثلي الكامل، 3 / 330: - تحصل مملكة بيت المقدس على مدينة القدس ذاتها
وبيت لحم.
- مع شريط من الارض يخترق لد وينتهي عند يافا على البحر فضلا عن
الناصرة وغرب الجليل مع حصني مونتفورت وتبنين.
= (*)
(13/144)
فتسلموا القدس
الشريف، وكان المعظم قد هدم أسواره، فعظم ذلك على المسلمين جدا وحصل
وهن شديد وإرجاف عظيم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم قدم الملك الكامل فحاصر دمشق وضيق على أهلها فقطع الانهار ونهبت
الحواصل وغلت الاسعار، ولم يزل الجنود حولها حتى أخرج منها ابن أخيه
صلاح الدين الملك الناصر داود بن المعظم، على أن يقيم ملكا بمدينة
الكرك والشوبك ونابلس وبرا ما بين الغور والبلقاء ويكون الامير عز
الدين أيبك أستاذ دار المعظم صاحب
صرخد، ثم تقايض الاشرف وأخاه الكامل فأخذ الاشرف دمشق وأعطى أخاه حران
والرها والرقة ورأس العين وسروج، ثم سار الكامل فحاصر حماه وكان صاحبها
الملك المنصور بن تقي الدين عمر قد توفي وعهد بالامر من بعده إلى أكبر
ولده المظفر محمد، وهو زوج بنت الكامل، فاستحوذ على حماة أخوه صلاح
الدين قلج أرسلان فحاصره الكامل حتى أنزله من قلعتها وسلمها إلى أخيه
المظفر محمد، ثم سار فتسلم البلاد التي قايض بها عن دمشق من أخيه الملك
الاشرف كما ذكرنا، وكان الناس بدمشق قد اشتغلوا بعلم الاوائل في أيام
الملك الناصر داود، وكان يعاني ذلك وقديما نسبه بعضهم إلى نوع من
الانحلال فالله أعلم، فنادى الملك الاشرف بالبلدان أن لا يشتغل الناس
بذلك وأن يشتغلوا بعلم التفسير والحديث والفقه، وكان سيف الدين الآمدي
مدرسا بالعزيزية فعزله عنها وبقي ملازما منزله حتى مات في سنة إحدى
وثلاثين كما سيأتي.
وفيها كان الناصر داود قد أضاف إلى قاضي القضاة شمس الدين بن الخولي
القاضي محيي الدين يحيى بن محمد بن علي بن الزكي، فحكم أياما بالشباك،
شرقي باب الكلاسة، ثم صار الحكم بداره، مشاركا لابن الخولي.
وممن توفي فيها من الاعيان: الملك
المسعود اقسيس (1) بن الكامل صاحب اليمن، وقد ملك مكة سنة تسع عشرة
فأحسن بها المعدلة، ونفى الزيدية منها، وأمنت الطرقات والحجاج، ولكنه
كان مسرفا على نفسه، فيه عسف وظلم أيضا.
وكانت وفاته بمكة ودفن بباب المعلى.
__________
(1) = - يظل بأيدي المسلمين من بيت المقدس، منطقة المعبد بما تحتوي
عليه من قبة الصخرة والمسجد الاقصى.
- للمسلمين الحق في التردد إليها وحرية العبادة.
- اطلاق سراح الاسرى عند كل من الجانبين.
- أجلها عشر سنين (مسيحية) الموافقة عشر سنين وخمسة شهور (هجرية) وانظر
تاريخ أبي الفداء 3 / 141.
(1) في تاريخ أبي الفداء: يوسف الملقب أطسز والمعروف بأقسيس: وأقسيس
بلغة اليمن: الموت.
وكانت مدة ملكه
على اليمن 14 سنة وكان عمره يوم مات 26 سنة.
(*)
(13/145)
محمد السبتي
النجار كان يعده بعضهم من الابدال، قال أبو شامة: وهو الذي بنى المسجد
غربي دار الزكاة عن يسار المار في الشارع من ماله، ودفن بالجبل.
وكانت جنازته مشهودة رحمه الله تعالى.
أبو الحسن علي بن سالم ابن يزبك بن محمد بن مقلد العبادي الشاعر من
الحديثة، قدم بغداد مرارا وامتدح المستظهر وغيره، وكان فاضلا شاعرا
يكثر التغزل.
أبو يوسف يعقوب بن صابر الحراني ثم البغدادي المنجنيقي، كان فاضلا في
فنه، وشاعرا مطبقا لطيف الشعر حسن المعاني، قد أورد له ابن الساعي قطعة
صالحة، ومن أحسن ما أورد له قصيدة فيها تعزية عظيمة لجميع الناس وهي:
هل لمن يرتجي البقاء خلود * وسوى الله كل شئ يبيد والذي كان من تراب
وإن * عاش طويلا للتراب يعود فمصير الانام طرا إلى ما * صار فيه آباؤهم
والجدود أين حواء أين آدم إذ فا * تهم الخلد والثوى والخلود ؟ أين
هابيل أين قابيل إذ ه * ذا لهذا معاند وحسود ؟ أين نوح ومن نجامعه
بالفل * ك والعالمون طرا فقيد أسلمته الايام كالطفل للمو * ت ولم يغن
عمره الممدود أين عاد ؟ بل أين جنة عاد * أم ترى أين صالح وثمود ؟ أين
إبراهيم الذي شاد بي * ت الله فهو المعظم المقصود حسدوا يوسفا أخاهم
فكادو * ه ومات الحاسد والمحسود
وسليمان في النبوة والملك * قضى مثل ما قضى داود فغدوا بعد ما أطيع لذا
الخل * ق وهذا له ألين الحديد وابن عمران بعد آياته التس * ع وشق الخضم
فهو صعيد والمسيح ابن مريم وهو روح الل * ه كادت تقضي عليه اليهود وقضى
سيد النبيين والها * دي إلى الحق أحمد المحمود وبنوه وآله الطاهرو * ن
الزهر صلى عليهم المعبود ونجوم السماء منتثرات * بعد حين وللهواء ركود
(13/146)
ولنار الدنيا
التي توقد الصخ * ر خمود وللماء جمود وكذا للثرى غداة يؤم الن * اس
منها تزلزل وهمود هذه الامهات نار وترب * وهواء رطب وماء برود سوف يفنى
كما فنينا فلا * يبقى من الخلق والد ووليد لا الشقي الغوي من نوب الايا
* م ينجو ولا السعيد الرشيد ومتى سلت المنايا سيوفا * فالموالي حصيدها
والعبيد وممن توفي فيها: أبو الفتوح
نصر بن علي البغدادي الفقيه الشافعي ويلقب بثعلب، اشتغل في المذهب
والخلاف ومن شعره قوله: جسمي معي غير أن الروح عندكم * فالجسم في غربة
والروح في وطن فليعجب الناس مني أن لي بدنا * لا روح فيه ولي روح بلا
بدن أبو الفضل جبرائيل بن منصور ابن هبة الله بن جبريل بن الحسن بن
غالب بن يحيى بن موسى بن يحيى بن الحسن بن غالب ابن الحسن بن عمرو بن
الحسن بن النعمان بن المنذر المعروف بابن زطينا البغدادي كاتب الديوان
بها، أسلم - وكان نصرانيا - فحسن إسلامه، وكان من أفصح الناس وأبلغهم
موعظة، ومن ذلك قوله " خير أوقاتك ساعة صفت لله، وخلصت من الفكرة لغيره
والرجاء لسواه، وما دمت في خدمة السلطان فلا تغتر بالزمان، اكفف كفك
واصرف طرفك وأكثر صومك وأقلل نومك يؤمنك، واشكر ربك يحمد أمرك.
وقال: زاد المسافر يقدم على رحيله، فأعد الزاد تبلغ بالمعاد المراد
وقال: إلى متى تتمادى في الغفلة كأنك قد أمنت عواقب المهلة، عمر اللهو
مضى وعمر الشبيبة انقضى، وما حصلت من ربك على ثقة بالرضا، وقد انتهى بك
الامر إلى سن التخاذل وزمن التكاسل، وما حظيت بطائل.
وقال: روحك تخضع وعينك لا تدمع، وقلبك يخشع ونفسك تجشع، وتظلم نفسك
وأنت لها تتوجع، وتظهر الزهد في الدنيا وفي الحال تطمع، وتطلب ما ليس
لك بحق، وما وجب عليك من الحق لا تدفع، وتروم فضل ربك وللماعون تمنع،
وتعيب نفسك الامارة وهي عن اللهو لا ترجع، وتوقظ الغافلين بإنذارك
وتتناوم عن سهمك وتهجع، وتخص غيرك بخيرك ونفسك الفقيرة لا تنفع، وتحوم
على الحق وأنت بالباطل مولع، وتتعثر في المضايق وطرق النجاة مهيع،
وتتهجم على الذنوب وفي المجرمين تشفع، وتظهر القناعة بالقليل وبالكثير
لا تشبع، وتعمر الدار الفانية ودارك الباقية خراب بلقع، وتستوطن في
منزل رحيل كأنك إلى ربك لا
(13/147)
ترجع، وتظن أنك
بلا رقيب وأعمالك إلى المراقب ترفع، تقدم على الكبائر وعن الصغائر
تتورع، وتؤمل الغفران وأنت عن الذنوب لا تقلع، وترى الاهوال محيطة بك
وأنت في ميدان اللهو ترتع، وتستقبح أفعال الجهال وباب الجهل تقرع، وقد
آن لك أن تأنف من التعنيف وعن الدنايا تترفع، وقد سار المخفون وتخلفت
فماذا تتوقع ".
وقد أورد ابن الساعي له شعرا حسنا فمنه: إن سهرت عيناك في طاعة * فذاك
خير لك من نوم أمسك قد فات بعلاته * فاستدرك الفائت في اليوم وله:
إن ربا هداك بعد ضلال * سبل الرشد مستحق للعباده فتعبد له تجد منه عتقا
* واستدم فضله بطول الزهاده وله: إذا تعففت عن حرام * عوضت بالطيب
الحلال فاقنع تجد في الحرام حلا * فضلا من الله ذي الجلال ثم دخلت سنة
سبع وعشرين وستمائة فيها كانت وقعة عظيمة بين الاشرف موسى بن العادل
وبين جلال الدين بن خوارزم شاه، وكان سببها أن جلال الدين كان قد أخذ
مدينة خلاط في الماضي وخربها وشرد أهلها، وحاربه علاء الدين كيقباذ ملك
الروم وأرسل إلى الاشرف يستحثه على القدوم عليه ولو جريدة وحده، فقدم
الاشرف في طائفة كبيرة من عسكر دمشق، وانضاف إليهم عسكر بلاد الجزيرة
ومن تبقى من عسكر خلاط، فكانوا خمسة آلاف مقاتل، معهم العدة الكاملة،
والخيول الهائلة، فالتقوا مع جلال الدين بأذربيجان وهو في عشرين ألف
مقاتل، فلم يقم لهم ساعة واحدة، ولا صبر فتقهقر وانهزم واتبعوه على
الاثر، ولم يزالوا في طلبهم إلى مدينة خوي وعاد الاشرف إلى مدينة خلاط
فوجدها خاوية على عروشها، فمهدها وأطدها، ثم تصالح وجلال الدين وعاد
إلى مستقر ملكه حرسها الله وفيها تسلم الاشرف قلعة بعلبك من الملك
الامجد بهرام شاه بعد حصار طويل (1)، ثم استخلف على دمشق أخاه الصالح
إسماعيل، ثم سار إلى الاشرف بسبب أن جلال الدين
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: وعوضه الملك الاشرف عنها الزبداني وقصير
دمشق الذي هو شماليها ومواضع أخر.
وتوجه الملك الامجد وأقام بداره التي داخل باب النصر بدمشق " دار
السعادة " (3 / 145 ابن خلدون 5 / 352).
(*)
(13/148)
الخوارزمي استحوذ على بلاد خلاط وقتل من أهلها خلقا كثيرا ونهب أموالا
كثيرة، فالتقى معه الاشرف واقتتلوا قتالا عظيما فهزمه الاشرف هزيمة
منكرة، وهلك من الخوارزمية خلق كثير، ودقت
البشائر في البلاد فرحا بنصرة الاشرف على الخوارزمية، فإنهم كانوا لا
يفتحون بلدا إلا قتلوا من فيه ونهبوا أموالهم، فكسرهم الله تعالى.
وقد كان الاشرف رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قبل الوقعة وهو
يقول له: يا موسى أنت منصور عليهم ولما فرغ من كسرتهم عاد إلى بلاد
خلاط فرمم شعثها وأصلح ما كان فسد منها.
ولم يحج أحد من أهل الشام في هذه السنة ولا في التي قبلها، وكذا فيما
قبلها أيضا، فهذه ثلاث سنين لم يسر من الشام أحد إلى الحج.
وفيها أخذت الفرنج جزيرة سورقة وقتلوا بها خلقا وأسروا آخرين، فقدموا
بهم إلى الساحل فاستقبلهم المسلمون فأخبروا بما جرى عليهم من الفرنج.
وممن توفي فيها من الاعيان: زين
الامناء الشيخ الصالح أبو البركات بن الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة
الله بن زين الامناء بن عساكر الدمشقي الشافعي، سمع على عميه الحافظ
أبي القاسم والصائن وغير واحد، وعمر وتفرد بالرواية وجاوز الثمانين
بنحو من ثلاث سنين، وأقعد في آخر عمره فكان يحمل في محفة إلى الجامع
وإلى دار الحديث النورية لاسماع الحديث، وانتفع به الناس مدة طويلة،
ولما توفي حضر الناس جنازته ودفن عند أخيه الشيخ فخر الدين بن عساكر
بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى.
الشيخ بيرم المارديني كان صالحا منقطعا محبا للعزلة عن الناس، وكان
مقيما بالزاوية الغربية من الجامع، وهي التي يقال لها الغزالية، وتعرف
بزاوية الدولعي وبزاوية القطب النيسابوري، وبزاوية الشيخ أبي نصر
المقدسي، قاله الشيخ شهاب الدين أبو شامة، وكان يوم جنازته مشهودا،
ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه. |