البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة استهلت هذه السنة والملك الاشرف موسى بن العادل مقيم بالجزيرة مشغول فيها بإصلاح ما كان جلال الدين الخوارزمي قد أفسده من بلاده، وقد قدمت التتار في هذه السنة إلى الجزيرة وديار
بكر فعاثوا بالفساد يمينا وشمالا، فقتلوا ونهبوا وسبوا على عادتهم خذلهم الله تعالى.
وفيها رتب إمام بمشهد أبي بكر من جامع دمشق وصليت فيه الصلوات الخمس.
وفيها درس الشيخ تقي

(13/149)


الدين بن الصلاح الشهرزوري الشافعي في المدرسة الجوانية في جانب المارستان في جمادى الاولى منها.
وفيها درس الناصر ابن الحنبلي بالصالحية بسفح قاسيون التي أنشأتها الخاتون ربيعة خاتون بنت أيوب أخت ست الشام.
وفيها حبس الملك الاشرف الشيخ علي الحريري بقلعة عزتا.
وفيها كان غلاء شديد بديار مصر وبلاد الشام وحلب والجزيرة بسبب قلة المياه السماوية والارضية، فكانت هذه السنة كما قال الله تعالى (ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) [ البقرة: 155 ] وذكر ابن الاثير كلاما طويلا مضمونه (1) خروج طائفة من التتار مرة أخرى من بلاد ما وراء النهر، وكان سبب قدومهم هذه السنة أن الاسماعيلية كتبوا إليهم يخبرونهم بضعف أمر جلال الدين بن خوارزم شاه، وأنه قد عادى جميع الملوك حوله حتى الخليفة، وأنه قد كسره الاشرف بن العادل مرتين، وكان جلال الدين قد ظهرت منه أفعال ناقصة تدل على قلة عقله، وذلك أنه توفي له غلام خصي يقال له: قلج، وكان يحبه، فوجد عليه وجدا عظيما بحيث إنه أمر الامراء أن يمشوا بجنازته فمشوا فراسخ، وأمر أهل البلد أن يخرجوا بحزن وتعداد عليه فتوانى بعضهم في ذلك فهم بقتلهم حتى تشفع فيهم بعض الامراء ثم لم يسمح بدفن قلج فكان يحمل معه بمحفة، وكلما أحضر بين يديه طعام يقول احملوا هذا إلى قلج فقال له بعضهم: أيها الملك إن قلج قد مات، فأمر بقتله فقتل، فكانوا بعد ذلك يقولون: قبله وهو يقبل الارض، ويقول هو الآن أصلح مما كان - يعني أنه مريض وليس بميت - فيجد الملك بذلك راحة من قلة عقله ودينه قبحه الله.
فلما جاءت التتار اشتغل بهم وأمر بدفن قلج وهرب من بين أيديهم وامتلا قلبه خوفا منهم، وكان كلما سار من قطر لحقوه إليه وخربوا ما اجتازوا به من الاقاليم والبلدان حتى انتهوا إلى الجزيرة وجاوزوها إلى سنجار
وماردين وآمد، يفسدون ما قدروا عليه قتلا ونهبا وأسرا، وتمزق شمل جلال الدين وتفرق عنه جيشه، فصاروا شذر مذر، وبدلوا بالامن خوفا، وبالعز ذلا، وبالاجتماع تفريقا، فسبحان من بيده الملك لا إله إلا هو.
وانقطع خبر جلال الدين فلا يدرى أين سلك، ولا أين ذهب، وتمكنت التتار من الناس في سائر البلاد لا يجدون من يمنعهم ولا من يردعهم، وألقى الله تعالى الوهن والضعف في قلوب الناس منهم، كانوا كثيرا يقتلون الناس فيقول المسلم: لا بالله، لا بالله، فكانوا يلعبون على الخيل ويغنون ويحاكون الناس لا بالله لا بالله، وهذه طامة عظمي وداهية كبرى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وحج الناس في هذه السنة من الشام وكان ممن حج فيها الشيخ تقي الدين أبو عمر بن الصلاح، ثم لم يحج الناس بعد هذه السنة أيضا لكثرة الحروب والخوف من التتار والفرنج، فإنا
__________
(1) تاريخ ابن الاثير 12 / 495.
(*)

(13/150)


لله وإنا إليه راجعون.
وفيها تكامل بناء المدرسة التي بسوق العجم ببغداد المنسوبة إلى إقبال الشرابي، وحضر الدرس بها، وكان يوما مشهودا، اجتمع فيه جميع المدرسين والمفتيين ببغداد، وعمل بصحنها قباب الحلوى فحمل منها إلى جميع المدارس والربط، ورتب فيها خمسة وعشرين فقيها لهم الجوامك الدارة في كل يوم، والحلوى في أوقات المواسم، والفواكه في زمانها، وخلع على المدرس والمعيدين والفقهاء في ذلك اليوم، وكان وقتا حسنا تقبل الله تعالى منه.
وفيها سار الاشرف أبو العباس أحمد ابن القاضي الفاضل في الرسلية عن الكامل محمد صاحب مصر إلى الخليفة المستنصر بالله، فأكرم وأعيد معظما.
وفيها دخل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين صاحب إربل إلى بغداد ولم يكن دخلها قط، فتلقاه الموكب وشافهه الخليفة بالسلام مرتين في وقتين، وكان ذلك شرفا له غبطه به سائر ملوك الآفاق وسألوا أن يهاجروا ليحصل لهم مثل ذلك، فلم يمكنوا لحفظ الثغور، ورجع إلى مملكته معظما مكرما.
وممن توفي فيها من الاعيان:
يحيى بن معطي بن عبد النور النحوي صاحب الالفية وغيرها من المصنفات النحوية المفيدة، ويلقب زين الدين، أخذ عن الكندي وغيره، ثم سافر إلى مصر فكانت وفاته بالقاهرة في مستهل ذي الحجة (1) من هذه السنة، وشهد جنازته الشيخ شهاب الدين أبو شامة، وكان قد رحل إلى مصر في هذه السنة، وحكي أن الملك الكامل شهد جنازته أيضا، وأنه دفن قريبا من قبر المزني بالقرافة في طريق الشافعي عن يسرة المار رحمه الله.
الدخوار (2) الطبيب مهذب الدين عبد الرحيم بن علي بن حامد، المعروف بالدخوار شيخ الاطباء بدمشق، وقد وقف داره بدرب العميد بالقرب من الصاغة العتيقة على الاطباء بدمشق مدرسة لهم، وكانت وفاته بصفر من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون، وعلى قبره قبة على أعمدة في أصل الجبل شرقي الركتية، وقد ابتلي بستة أمراض متعاكسة، منها ريح اللقوة، وكان مولده سنة خمس وستين وخمسمائة وكان عمره ثلاثا وستين سنة قال ابن الاثير: وفيها توفي:
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء 3 / 151 وفي شذرات الذهب 5 / 129: في ذي القعدة.
وذكر ابن إياس في بدائع الزهور وفاته سنة 620 ه.
انظر 1 / 1 / 259.
تاريخ الزمان لابن العبري ص 279: دكوار، وقد ذكر وفاته سنة 630.
(*)

(13/151)


القاضي أبو (1) غانم بن العديم الشيخ الصالح، وكان من المجتهدين في العبادة والرياضة، من العاملين بعلمهم، ولو قال قائل إنه لم يكن في زمانه أعبد منه لكان صادقا، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه، فإنه من جماعة شيوخنا، سمعنا عليه الحديث وانتفعنا برؤيته وكلامه، قال: وفيها أيضا في الثاني عشر من ربيع الاول توفي صديقنا:.
أبو القاسم عبد المجيد بن العجمي الحلبي
وهو وأهل بيته مقدمو السنة بحلب، وكان رجلا ذا مروءة غزيرة، وخلق حسن، وحلم وافر ورياسة كثيرة، يحب إطعام الطعام، وأحب الناس إليه من أكل من طعامه ويقبل يده، وكان يلقى أضيافه بوجه منبسط، ولا يقعد عن إيصال راحة وقضاء حاجة، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.
قلت وهذا آخر ما وجد من الكامل في التاريخ للحافظ عز الدين أبي الحسن علي بن محمد ابن الاثير رحمه الله تعالى.
أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الكريم ابن أبي السعادات بن كريم الموصلي، أحد الفقهاء الحنفيين، شرح قطعة كبيرة من القدوري، وكتب الانشاء لصاحبها بدر الدين لؤلؤ، ثم استقال من ذلك، وكان فاضلا شاعرا، من شعره: دعوة كما شاء الغرام يكون * فلست وإن خان العهود أخون ولينوا له في قولكم ما استطعتم * عسى قلبه القاسي علي يلين وبثوا صباباتي إليه وكرروا * حديثي عليه فالحديث شجون بنفسي الاولى بانوا عن العين حصة * وحبهم في القلب ليس يبين وسلوا على العشاق يوم تحملوا * سيوفا لها وطف الجفون جفون المجد البهنسي وزير الملك الاشرف ثم عزله وصادره، ولما توفي دفن بتربته التي أنشأها بسفح قاسيون وجعل كتبه بها وقفا، وأجرى عليها أوقافا جيدة دارة رحمه الله تعالى.
__________
(1) في الكامل 12 / 505: القاضي ابن غنائم بن العديم الحلبي.
(*)

(13/152)


جمال الدولة خليل بن زويزان رئيس قصر حجاج، كان كيسا ذا مروءة، له صدقات كثيرة، وله زيارة في مقابر الصوفية من ناحية القبلة، ودفن بتربته عند مسجد قلوس رحمه الله تعالى.
وفيها كانت وفاة:
الملك الامجد واقف المدرسة الامجدية بهرام شاه بن فروخشاه بن شاهنشاه ابن أيوب صاحب بعلبك، لم يزل بها حتى قدم الاشرف موسى بن العادل إلى دمشق فملكها في سنة ست وعشرين، فانتزع من يده بعلبك في سنة سبع وعشرين، وأسكنه عنده بدمشق بدار أبيه (1)، فلما كان شهر شوال من هذه السنة عدا عليه مملوك من مماليكه تركي فقتله ليلا، وكان قد اتهمه في صاحبة له وحبسه، فتغلب عليه في بعض الليالي فقتله وقتل المملوك بعده، ودفن الامجد في تربته التي إلى جانب تربة أبيه في الشرق الشمالي رحمه الله تعالى، وقد كان شاعرا فاضلا له ديوان شعر، وقد أورد له ابن الساعي قطعة جيدة من شعره الرائق الفائق، وترجمته في طبقات الشافعية، ولم يذكره أبو شامة في الذيل، وهذا عجيب منه، ومما أورد له ابن الساعي في شاب رآه يقطع قضبان بان فأنشأ على البديهة: من لي بأهيف قال حين عتبته * في قطع كل قضيب بان رائق تحكي شمائله الرشاء إذا انثنى * ريان بين جداول وحدائق سرقت غصون البان لين شمائلي * فقطعتها والقطع حد السارق ومن شعره أيضا رحمه الله تعالى: يؤرقني حنين وادكار * وقد خلت المرابع والديار تناءى الظاعنون ولي فؤاد * يسير مع الهوادج حيث ساروا حنين مثلما شاء التنائي * وشوق كلما بعد المزار وليل بعد بينهم طويل * فأين مضت ليالي القصار ؟ وقد حكم السهاد على جفوني * تساوى الليل عندي والنهار سهادي بعد نأيهم كثير * ونومي بعد ما رحلوا غرار (2)
__________
(1) انظر حاشية 1 ص 148.
(2) غرار: الغرار القليل النوم، وقيل: لبن الناقة.
وهنا الغرار: بمعنى الغفلة.
(*)

(13/153)


فمن ذا يستعير لنا عيونا * تنام وهل ترى عينا تعار فلا ليلي له صبح منير * ولا وجدي يقال له: عثار (1) وكم من قائل والحي غاد * يحجب ظعنه النقع المثار (2) وقوفك في الديار وأنت حي * وقد رحل الخليط عليك عار وله دو بيت: كم يذهب هذا العمر في الخسران * ما أغفلني فيه وما أنساني ضيعت زماني كله في لعب * يا عمر هل بعدك عمر ثاني وقد رآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل الله تعالى بك ؟ فقال: كنت من ديني على وجل * زال عني ذلك الوجل أمنت نفسي بوائقها * عشت لما مت لما رجل رحمه الله وعفا عنه.
جلال الدين تكش وقيل محمود بن علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش الخوارزمي، وهم من سلالة طاهر بن الحسين، وتكش جدهم هو الذي أزال دولة السلجوقية.
كانت التتار قهروا أباه حتى شردوه في البلاد فمات في بعض جزائر البحر، ثم ساقوا وراء جلال الدين هذا حتى مزقوا عساكره شذر مذر وتفرقوا عنه أيدي سبأ، وانفرد هو وحده فلقيه فلاح من قرية بأرض ميافارقين فأنكره لما عليه من الجواهر الذهب، وعلى فرسه، فقال له: من أنت ؟ فقال: أنا ملك الخوارزمية - وكانوا قد قتلوا للفلاح أخا - فأنزله وأظهر إكرامه، فلما نام قتله بفأس كانت عنده، وأخذ ما عليه، فبلغ الخبر إلى شهاب الدين غازي بن العادل صاحب ميافارقين فاستدعى بالفلاح فأخذ ما كان عليه من الجواهر وأخذ الفرس أيضا، وكان الاشرف يقول هو سد ما بيننا وبين التتار، كما أن السد بيننا
وبين يأجوج ومأجوج.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وستمائة فيها عزل القاضيان بدمشق: شمس الخوي وشمس الدين بن سنى الدولة، وولي قضاء القضاة عماد الدين بن الحرستاني، ثم عزل في سنة إحدى وثلاثين وأعيد شمس الدين بن سنى
__________
(1) عثار: الزلل.
(2) النقع المثار: الغبار.
(*)

(13/154)


الدولة كما سيأتي.
وفيها سابع عشر شوالها عزل الخليفة المستنصر وزيره مؤيد الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم القمي، وقبض عليه وعلى أخيه حسن وابنه فخر الدين أحمد بن محمد القمي وأصحابهم وحبسوا، واستوزر الخليفة مكانه أستاذ الدار شمس الدين أبا الازهر، أحمد بن محمد بن الناقد، وخلع عليه خلعة سنية وفرح الناس بذلك.
وفيه أقبلت طائفة من التتار فوصلوا إلى شهزور فندب الخليفة صاحب إربل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأضاف إليه عساكر من عنده، فساروا نحوهم فهربت منهم التتار وأقاموا في مقابلتهم مدة شهور، ثم تمرض مظفر الدين وعاد إلى بلده إربل، وتراجعت التتار إلى بلادها.
وممن توفي فيها من الاعيان: الحافظ محمد بن عبد الغني ابن أبي بكر البغدادي، أبو بكر بن نقطة الحافظ المحدث الفاضل، صاحب الكتاب النافع المسمى بالتقييد في تراجم رواة الكتب والمشاهير من المحدثين، وكان أبوه فقيها فقيرا منقطعا في بعض مساجد بغداد (1)، يؤثر أصحابه بما يحصل له، ونشأ ولده هذا معني بعلم الحديث وسماعه والرحلة فيه إلى الآفاق شرقا وغربا، حتى برز فيه على الاقران، وفاق أهل ذلك الزمان، ولد سنة تسع (2) وسبعين وخمسمائة، وتوفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من صفر من هذه السنة، رحمهم الله تعالى.
الجمال عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي كان فاضلا كريما حييا، سمع الكثير، ثم خالط الملوك وأبناء الدنيا، فتغيرت أحواله ومات ببستان ابن شكر عند الصالح إسماعيل بن العادل، وهو الذي كفنه ودفن بسفح قاسيون.
أبو علي الحسين بن أبي بكر المبارك ابن أبي عبد الله محمد بن يحيى بن مسلم الزبيدي ثم البغدادي، كان شيخا صالحا حنفيا فاضلا ذا فنون كثيرة، ومن ذلك علم الفرائض والعروض، وله فيه أرجوزة حسنة، انتخب منها ابن الساعي من كل بحر بيتين، وسرد ذلك في تاريخه.
__________
(1) توفي ببغداد في رابع جمادى الآخرة سنة 583 ه.
(2) في الوافي بالوفيات 3 / 267: ولد في نيف وسبعين وخمسمائة.
(*)

(13/155)


أبو الفتح مسعود بن إسماعيل ابن علي بن موسى السلماسي، فقيه أديب شاعر، له تصانيف، وقد شرح المقامات والجمل في النحو، وله خطب وأشعار حسنة رحمه الله تعالى.
أبو بكر محمد بن عبد الوهاب ابن عبد الله الانصاري فخر الدين ابن الشيرجي الدمشقي، أحد المعدلين بها، ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وسمع الحديث وكان يلي ديوان الخاتون ست الشام بنت أيوب، وفوضت إليه أمر أوقافها.
قال السبط: وكان ثقة أمينا كيسا متواضعا.
قال وقد وزر ولده شرف الدين للناصر داود مدة يسيرة، وكانت وفاة فخر الدين في يوم عيد الاضحى ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى وعفا عنه.
حسام بن غزي ابن يونس عماد الدين أبو المناقب المحلي المصري، ثم الدمشقي، كان شيخا صالحا فاضلا فقيها شافعيا حسن المحاضرة وله أشعار حسنة.
قال أبو شامة: وله في معجم القوصي ترجمة
حسنة، وذكر أنه توفي عاشر ربيع الآخر ودفن بمقابر الصوفية.
قال السبط: وكان مقيما بالمدرسة الامينية، وكان لا يأكل لاحد شيئا ولا للسلطان، بل إذا حضر طعاما كان معه في كمه شئ يأكله، وكان لا يزال معه ألف دينار على وسطه، وحكي عنه قال: خلع علي الملك العادل ليلة طيلسانا فلما خرجت مشى بين يدي تعاط يحسبني القاضي، فلما وصلت باب البريد عند دار سيف خلعت الطيلسان وجعلته في كمي وتباطأت في المشي، فالتفت فلم ير وراءه أحدا، فقال لي: أين القاضي ؟ فأشرت إلى ناحية النورية وقلت: ذهب إلى داره، فلما أسرع إلى ناحية النورية هرولت إلى المدرسة الامينية واسترحت منه.
قال ابن الساعي كان مولده سنة ستين وخمسمائة، وخلف أموالا كثيرة ورثتها عصبته، قال: وكانت له معرفة حسنة بالاخبار والتواريخ وأيام الناس، مع دين وصلاح وورع، وأورد له ابن الساعي قطعا من شعره فمن ذلك قوله: قيل لي من هويت قد عبث الش * عر في خديه.
قلت ما ذاك عاره حمرة الخد أحرقت عنبر الخا * ل فمن ذاك الدخان عذاره وله: شوقي إليكم دون أشواقكم * لكن لا بد أن يشرح لانني عن قلبكم غائب * وأنتم في القلب لن تبرحوا

(13/156)


أبو عبد الله محمد بن علي ابن محمد بن الجارود الماراني، الفقيه الشافعي، أحد الفضلاء، ولي القضاء بإربل وكان ظريفا خليعا، وكان من محاسن الايام، وله أشعار رائقة ومعان فائقة منها قوله: مشيب أتى وشباب رحل * أحل العناية حيث حل وذنبك جم، ألا فارجعي * وعودي فقد حان وقت الاجل وديني الاله ولا تقصري * ولا يخدعنك طول الامل أبو الثناء محمود بن رالي
ابن علي بن يحيى الطائي الرقي نزيل إربل، وولي النظر بها للملك مظفر الدين، وكان شيخا أديبا فاضلا، ومن شعره قوله: وأهيف ما الخطي إلا قوامه * وما الغصن إلا ما يثنيه لينه وما الدعص إلا ما تحمل خصره * وما النبل إلا ما تريش جفونه وما الخمر إلا ما يروق ثغره * وما السحر إلا ما تكن عيونه وما الحسن إلا كله فمن الذي * إذا ما رآه لا يزيد جنونه ابن معطي النحوي يحيى ترجمه أبو شامة في السنة الماضية، وهو أضبط لانه شهد جنازته بمصر، وأما ابن الساعي فإنه ذكره في هذه السنة، وقال إنه كان حظيا عند الكامل محمد صاحب مصر، وإنه كان قد نظم أرجوزة في القراءات السبع، ونظم ألفاظ الجمهرة، وكان قد عزم على نظم صحاح الجوهري.
ثم دخلت سنة ثلاثين وستمائة فيها باشر خطابة بغداد ونقابة العباسيين العدل مجد الدين أبو القاسم هبة الله بن المنصوري، وخلع عليه خلعة سنية، وكان فاضلا قد صحب الفقراء والصوفية وتزهد برهة من الزمان، فلما دعي إلى هذا الامر أجاب سريعا وأقبلت عليه الدنيا بزهرتها، وخدمه الغلمان الاتراك، ولبس لباس المترفين وقد عاتبه بعض تلامذته بقصيدة طويلة، وعنفه على ما صار إليه، وسردها ابن الساعي بطولها في تاريخه.
وفيها سار القاضي محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج في الرسلية من الخليفة إلى الكامل صاحب مصر، ومعه كتاب هائل فيه تقليده الملك، وفيه أوامر كثيرة مليحة من إنشاء الوزير نصر الدين أحمد بن الناقد، سرده ابن الساعي أيضا

(13/157)


بكماله.
وقد كان الكامل مخيما بظاهر آمد من أعمال الجزيرة، قد افتتحها بعد حصار طويل وهو مسرور بما نال من ملكها.
وفيها فتحت دار الضيافة ببغداد للحجيج حين قدموا من حجهم، وأجريت عليهم النفقات والكساوي والصلات وفيها سارت العساكر المستنصرية صحبة الامير
سيف الدين أبي الفضائل إقبال الخاص المستنصري إلى مدينة إربل وأعمالها، وذلك لمرض مالكها مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأنه ليس له من بعده من يملك البلاد، فحين وصلها الجيش منعه أهل البلد فحاصروه حتى افتتحوه عنوة في السابع عشر من شوال في هذه السنة، وجاءت البشائر بذلك فضربت الطبول ببغداد بسبب ذلك، وفرح أهلها، وكتب التقليد عليها لاقبال المذكور، فرتب فيها المناصب وسار فيها سيرة جيدة، وامتدح الشعراء هذا الفتح من حيث هو، وكذلك مدحوا فاتحها إقبال، ومن أحسن ما قال بعضهم في ذلك: يا يوم سابع عشر شوال الذي * رزق السعادة أولا وأخيرا هنيت فيه بفتح إربل مثلما * هنيت فيه وقد جلست وزيرا يعني أن الوزير نصير الدين بن العلقمي، قد كان وزر في مثل هذا اليوم من العام الماضي، وفي مستهل رمضان من هذه السنة شرع في عمارة دار الحديث الاشرفية بدمشق، وكانت قبل ذلك دارا للامير قايماز وبها حمام فهدمت وبنيت عوضها.
وقد ذكر السبط في هذه السنة أن في ليلة النصف من شعبان فتحت دار الحديث الاشرفية المجاورة لقلعة دمشق، وأملى بها الشيخ تقي الدين بن الصلاح الحديث، ووقف عليها الاشرف الاوقاف، وجعل بها نعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال وسمع الاشرف صحيح البخاري في هذه السنة على الزبيدي، قلت: وكذا سمعوا عليه بالدار وبالصالحية.
قال: وفيها فتح الكامل آمد وحصن كيفا ووجد عند صاحبها خمسمائة حرة للفراش فعذبه الاشرف عذابا أليما.
وفيها قصد صاحب ماردين وجيش بلاد الروم الجزيرة فقتلوا وسبوا وفعلوا ما لم يفعله التتار بالمسلمين.
وممن توفي فيها من الاعيان في هذه السنة من المشاهير: أبو القاسم علي بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي كان شيخا لطيفا ظريفا، سمع الكثير وعمل صناعة الوعظ مدة، ثم ترك ذلك، وكان يحفظ شيئا كثيرا من الاخبار والنوادر والاشعار، ولد سنة إحدى وخمسين وخمسائة، وكانت وفاته في هذه السنة وله تسع وسبعون سنة.
وقد ذكر السبط وفاة:
الوزير صفي الدين بن شكر في هذه السنة، وأثنى عليه وعلى محبته للعلم وأهله، وأن له مصنفا سماه البصائر، وأنه

(13/158)


تغضب عليه العادل ثم ترضاه الكامل وأعاده إلى وزارته وحرمته، ودفن بمدرسته المشهورة بمصر وذكر أن أصله من قرية يقال له دميرة بمصر.
الملك ناصر الدين محمود ابن عز الدين مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن قطب الدين مودود بن عماد الدين بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل، كان مولده في سنة ثلاث عشرة وستمائة، وقد أقامه بدر الدين لؤلؤ صورة حتى تمكن أمره وقويت شوكته، ثم حجر عليه فكان لا يصل إلى أحد من الجواري ولا شئ من السراري، حتى لا يعقب، وضيق عليه في الطعام والشراب، فلما توفي جده لامه مظفر الدين كوكبرى صاحب إربل منعه حينئذ من الطعام والشراب ثلاثة عشر (1) يوما حتى مات كمدا وجوعا وعطشا رحمه الله، وكان من أحسن الناس صورة، وهو آخر ملوك الموصل من بيت الاتابكي.
القاضي شرف الدين إسماعيل بن إبراهيم أحد مشايخ الحنفية، وله مصنفات في الفرائض وغيرها، وهو ابن خالة القاضي شمس الدين بن الشيرازي الشافعي، وكلاهما كان ينوب عن ابن الزكي وابن الحرستاني، وكان يدرس بالطرخانية.
وفيها سكنه، فلما أرسل إليه المعظم أن يفتي بإباحة نبيذ التمر وماء الرمان امتنع من ذلك وقال أنا على مذهب محمد بن الحسن في ذلك، والرواية عن أبي حنيفة شاذة، ولا يصح حديث ابن مسعود في ذلك، ولا الاثر عن عمر أيضا.
فغضب عليه المعظم وعزله عن التدريس وولاه لتلميذه الزين بن العتال، وأقام الشيخ بمنزله حتى مات.
قال أبو شامة: ومات في هذه السنة جماعة من السلاطين منهم المغيث بن المغيث بن العادل، والعزيز عثمان بن العادل، ومظفر الدين صاحب إربل.
قلت أما صاحب إربل فهو:
الملك المظفر أبو سعيد كوكبري (2) ابن زين الدين علي بن تبكتكين أحد الاجواد والسادات الكبراء والملوك الامجاد، له آثار حسنة وقد عمر الجامع المظفري بسفح قاسيون، وكان قد هم بسياقة الماء إليه من ماء بذيرة فمنعه المعظم من ذلك، واعتل بأنه قد يمر على مقابر المسلمين بالسفوح، وكان يعمل المولد الشريف في
__________
(1) في الاصل: ثلاث عشرة.
(2) كوكبري: وهو اسم تركي معناه بالعربية: ذئب أزرق.
(*)

(13/159)


ربيع الاول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان مع ذلك شهما شجاعا فاتكا بطلا عاقلا عالما عادلا رحمه الله وأكرم مثواه.
وقد صنف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلدا في المولد النبوي سماه: " التنوير في مولد البشير النذير "، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك في زمان الدولة الصلاحية، وقد كان محاصر عكا وإلى هذه السنة محمود السيرة والسريرة، قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، وكانت صدقاته في جميع القرب والطاعات على الحرمين وغيرهما، ويتفك من الفرنج في كل سنة خلقا من الاسارى، حتى قيل إن جملة من استفكه من أيديهم ستون ألف أسير، قالت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب (1) - وكان قد زوجه إياها أخوها صلاح الدين، لما كان معه على عكا - قالت: كان قميصه لا يساوي خمسة دراهم فعاتبته بذلك فقال: لبسي ثوبا بخمسة وأتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوبا مثمنا وأدع الفقير المسكين، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وعلى دار الضيافة في كل سنة مائة ألف دينار.
وعلى الحرمين والمياه بدرب الحجاز ثلاثين ألف دينار سوى صدقات السر، رحمه الله تعالى، وكانت وفاته بقلعة إربل،
وأوصى أن يحمل إلى مكة فلم يتفق (2) فدفن بمشهد علي.
والملك العزيز بن عثمان بن العادل وهو شقيق المعظم، كان صاحب بانياس وتملك الحصون التي هنالك، وهو الذي بنى المعظمية.
وكان عاقلا قليل الكلام مطيعا لاخيه المعظم، ودفن عنده وكانت وفاته يوم الاثنين عاشر رمضان ببستانه الناعمة من لهيا (3) رحمه الله وعفا عنه.
أبو المحاسن محمد بن نصر الدين بن نصر ابن الحسين بن علي بن محمد بن غالب الانصاري، المعروف بابن عنين الشاعر.
قال ابن الساعي أصله من الكوفة وولد بدمشق ونشأ بها، وسافر عنها سنين، فجاب الاقطار والبلاد شرقا
__________
(1) قال ابن خلكان 4 / 120: توفيت بدمشق في شعبان سنة 643، وغالب ظني أنها جاوزت ثمانين سنة، ودفنت في مدرستها الموقوفة على الحنابلة بسفح قاسيون.
(2) قال في الوفيات: سيروه مع الركب إلى الحجاز، فرجع الحاج تلك السنة من لينة - وهي منزلة في طريق الحجاز من جهة العراق - لعدم الماء وقاسوا مشقة عظيمة، ولم يصلوا إلى مكة فردوه ودفنوه بالكوفة بالقرب من المشهد.
(3) وهي قرية بيت لهيا.
من صالحية دمشق.
(*)

(13/160)


وغربا ودخل الجزيرة وبلاد الروم والعراق وخراسان وما وراء النهر والهند واليمن والحجاز وبغداد، ومدح أكثر أهل هذه البلاد، وحصل أموالا جزيلة، وكان ظريفا شاعرا مطيقا مشهورا، حسن الاخلاق جميل المعاشرة، وقد رجع إلى بلده دمشق فكان بها حتى مات هذه السنة في قول ابن الساعي، وأما السبط وغيره فأرخوا وفاته في سنة ثلاث وثلاثين، وقد قيل إنه مات في سنة إحدى وثلاثين والله أعلم.
والمشهور أن أصله من حوران مدينة زرع، وكانت إقامته بدمشق في الجزيرة قبلي الجامع، وكان هجاء له قدرة على ذلك، وصنف كتابا سماه مقراض الاعراض، مشتمل على نحو من خمسمائة بيت، قل من سلم من الدماشقة من شره، ولا الملك صلاح الدين ولا أخوه العادل، وقد كان يزن بترك الصلاة المكتوبة فالله أعلم.
وقد نفاه الملك الناصر صلاح الدين إلى
الهند فامتدح ملوكها وحصل أموالا جزيلة، وصار إلى اليمن فيقال إنه وزر لبعض ملوكها، ثم عاد في أيام العادل إلى دمشق ولما ملك المعظم استوزره فأساء السيرة واستقال هو من تلقاء نفسه فعزله، وكان قد كتب إلى الدماشقة من بلاد الهند: فعلام أبعدتم أخا ثقة * لم يقترف ذنبا ولا سرقا ؟ انفوا المؤذن من بلادكم * إن كان ينفى كل من صدقا ومما هجا به الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى: سلطاننا أعرج وكاتبه * ذو عمش ووزيره أحدب والدولعي الخطيب معتكف * وهو على قشر بيضة يثب ولابن باقا وعظ يغش به الن * اس وعبد اللطيف محتسب وصاحب الامر خلقه شرس * وعارض الجيش داؤه عجب وقال في السلطان الملك العادل سيف الدين رحمه الله تعالى وعفا عنه: إن سلطاننا الذي نرتجيه * واسع المال ضيق الانفاق هو سيف كما يقال ولكن * قاطع للرسوم والارزاق وقد حضر مرة مجلس الفخر الرازي بخراسان وهو على المنبر يعظ الناس، فجاءت حمامة خلفها جارح فألقت نفسها على الفخر الرازي كالمستجيرة به، فأنشأ ابن عنين يقول: جاءت سليمان الزمان حمامة (1) * والموت يلمع من جناحي خاطف فرم لواه الجوع حتى ظله * بإزائه [ يجري ] (2) بقلب واجف
__________
(1) في ابن خلكان 4 / 251: بشكوها بدل حمامة.
(2) من ابن خلكان.
(*)

(13/161)


من أعلم (1) الورقاء أن محلكم * حرم وأنك ملجأ للخائف الشيخ شهاب الدين السهروردي
صاحب عوارف المعارف، عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن حمويه (2)، واسمه عبد الله البكري البغدادي، شهاب الدين أبو حفص السهروردي، شيخ الصوفية ببغداد، كان من كبار الصالحين وسادات المسلمين، وتردد في الرسلية بين الخلفاء والملوك مرارا، وحصلت له أموال جزيلة ففرقها بين الفقراء والمحتاجين، وقد حج مرة وفي صحبته خلق من الفقراء لا يعلمهم إلا الله عزوجل، وكانت فيه مروءة وإغاثة للملهوفين، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وكان يعظ الناس وعليه ثياب البذلة، قال مرة في ميعاده هذا البيت وكرره: ما في الصحاب أخو وجد تطارحه * إلا محب له في الركب محبوب فقام شاب وكان في المجلس فأنشده: كأنما يوسف في كل راحلة * وله وفي كل بيت منه يعقوب فصاح الشيخ ونزل عن المنبر وقصد الشاب ليعتذر إليه فلم يجده ووجد مكانه حفرة فيها دم كثير من كثرة ما كان يفحص برجليه عند إنشاد الشيخ البيت.
وذكر له ابن خلكان أشياء كثيرة من أناشيده وأثنى عليه خيرا، وأنه توفي في هذه السنة (3) وله ثلاث وتسعون سنة رحمه الله تعالى.
ابن الاثير مصنف أسد الغابة والكامل هو الامام العلامة عز الدين أبو الحسن علي بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري الموصلي المعروف بابن الاثير مصنف كتاب أسد الغابة في أسماء الصحابة، وكتاب الكامل في التاريخ وهو من أحسنها حوادث، ابتدأه من المبتدأ إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، وقد كان يتردد إلى بغداد خصيصا عند ملوك الموصل، ووزر لبعضهم كما تقدم بيانه، وأقام بها في آخر عمره موقرا معظما إلى أن توفي بها في شعبان في هذه السنة، عن خمس وسبعين سنة رحمه الله.
وأما أخوه أبو السعادات المبارك فهو مصنف كتاب جامع الاصول وغيره، وأخوهما الوزير ضياء الدين أبو الفتح نصر الله كان وزيرا للملك الافضل علي بن الناصر فاتح بيت المقدس، صاحب دمشق كما
__________
(1) في ابن خلكان: من نبأ.
(2) ذكره ابن خلكان 3 / 446: عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمويه.
(3) في الوفيات المطبوع 3 / 448: توفي في مستهل المحرم 632 ببغداد، ودفن من الغد بالوردية.
(*)

(13/162)


تقدم، وجزيرة ابن عمر، قيل إنها منسوبة إلى رجل يقال له عبد العزيز بن عمر، من أهل برقعيد، وقيل بل هي منسوبة إلى ابني عمر، وهما أوس وكامل ابنا عمر بن أوس.
ابن المستوفي الاربلي مبارك بن أحمد بن مبارك بن موهوب بن غنيمة بن غالب العلامة شرف الدين أبو البركات اللخمي الاربلي، كان إماما في علوم كثيرة كالحديث وأسماء الرجال والادب والحساب، وله مصنفات كثيرة وفضائل غزيرة، وقد بسط ترجمته القاضي شمس الدين ابن خلكان في الوفيات، فأجاد وأفاد.
رحمهم الله (1).
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة فيها كمل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد ولم يبن مدرسة قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الاربعة من كل طائفة اثنان وستون فقيها، وأربعة معيدين، ومدرس لكل مذهب، وشيخ حديث وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للايتام وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد.
ولما كان يوم الخميس خامس رجب حضرت الدروس بها وحضر الخليفة المستنصر بالله بنفسه الكريمة وأهل دولته من الامراء والوزراء والقضاة والفقهاء والصوفية والشعراء، ولم يتخلف أحد من هؤلاء، وعمل سماط عظيم بها أكل منه الحاضرون، وحمل منه إلى سائر دروب بغداد من بيوتات الخواص والعوام، وخلع على جميع المدرسين بها والحاضرين فيها، وعلى جميع الدولة والفقهاء والمعيدين، وكان يوما مشهودا، وأنشدت الشعراء الخليفة المدائح الرائقة والقصائد الفائقة، وقد ذكر ذلك ابن الساعي في تاريخه مطولا مبسوطا شافيا كافيا، وقدر لتدريس الشافعية بها الامام محيي الدين أبو عبد الله بن فضلان، وللحنفية الامام العلامة رشيد الدين أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني، وللحنابلة الامام العالم محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، ودرس عنه يومئذ ابنه
عبد الرحمن نيابة لغيبته في بعض الرسالات إلى الملوك، ودرس للمالكية يومئذ الشيخ الصالح العالم أبو الحسن المغربي المالكي نيابة أيضا، حتى يعين شيخ غيره، ووقفت خزائن كتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخها وجودة الكتب الموقوفة بها.
وكان المتولي لعمارة هذه المدرسة مؤيد الدين أبو طالب محمد بن العلقمي الذي وزر بعد ذلك، وقد كان إذ ذاك أستاذ دار الخلافة، وخلع عليه يومئذ وعلى الوزير نصير الدين.
ثم عزل مدرس الشافعية في رابع عشر ذي القعدة بقاضي القضاة
__________
(1) ذكر ابن خلكان وفاته بالموصل في 5 محرم سنة 637 وكان مولده سنة 564 بقلعة اربل (4 / 151 شذرات الذهب 5 / 186).
(*)

(13/163)


أبي المعالي عبد الرحمن بن مقبل، مضافا إلى ما بيده من القضاء، وذلك بعد وفاة محيي الدين بن فضلان، وقد ولي القضاء مدة ودرس بالنظامية وغيرها، ثم عزل ثم رضي عنه ثم درس آخر وقت بالمستنصرية كما ذكرنا، فلما توفي وليها بعده ابن مقبل رحمهم الله تعالى.
وفيها عمر الاشرف مسجد جراح ظاهر باب الصغير.
وفيها قدم رسول الانبرور ملك الفرنج إلى الاشرف ومعه هدايا منها دب أبيض شعره مثل شعر الاسد، وذكروا أنه ينزل إلى البحر فيخرج السمك فيأكله.
وفيها طاووس أبيض أيضا.
وفيها كملت عمارة القيسارية التي هي قبل النحاسين، وحول إليها سوق الصاغة وشغر سوق اللؤلؤ الذي كان فيه الصاغة العتيقة عند الحدادين.
وفيها جددت الدكاكين التي بالزيادة.
قلت وقد جددت شرقي هذه الصاغة الجديدة قيساريتان في زماننا وسكنها الصياغ وتجار الذهب، وهما حسنتان وجميعهما وقف الجامع المعمور.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان: أبو الحسن علي بن أبي علي ابن محمد بن سالم الثعلبي (1)، الشيخ سيف الدين الآمدي (2)، ثم الحموي ثم الدمشقي، صاحب المصنفات في الاصلين وغير ذلك، من ذلك: " أبكار الافكار في الكلام "، و " دقائق الحقائق في الحكمة "، و " أحكام الاحكام في أصول الفقه "، وكان حنبلي المذهب فصار
شافعيا أصوليا منطقيا جدليا خلافيا، وكان حسن الاخلاق سليم الصدر كثير البكاء رقيق القلب، وقد تكلموا فيه بأشياء الله أعلم بصحتها، والذي يغلب على الظن أنه ليس لغالبها صحة، وقد كانت ملوك بني أيوب كالمعظم والكامل يكرمونه وإن كانوا لا يحبونه كثيرا، وقد فوض إليه المعظم تدريس العزيزية، فلما ولي الاشرف دمشق عزله عنها ونادى بالمدارس أن لا يشتغل أحد بغير التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بعلوم الاوائل نفيته، فأقام الشيخ سيف الدين بمنزله إلى أن توفي بدمشق في هذه السنة في صفر، ودفن بتربته بسفح قاسيون.
وذكر القاضي ابن خلكان: أنه اشتغل ببغداد على أبي الفتح نصر بن فتيان بن المنى الحنبلي، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي فأخذ عن ابن فضلان وغيره، وحفظ طريقة الخلاف للشريف وزوائد طريقة أسعد الميهني، ثم انتقل إلى الشام واشتغل بعلوم المعقول، ثم إلى الديار المصرية فأعاد بمدرسة الشافعية بالقرافة الصغرى، وتصدر بالجامع الظافري، واشتهر فضله وانتشرت فضائله، فحسده أقوام فسعوا فيه وكتبوا خطوطهم باتهامه بمذهب الاوائل والتعطيل والانحلال، فطلبوا من بعضهم أن يوافقهم فكتب:
__________
(1) كذا بالاصل وتاريخ أبي الفداء وشذرات الذهب، وفي ابن خلكان 3 / 293: التغلبي.
(2) الآمدي: نسبة إلى آمد وهي مدينة كبيرة في ديار بكر مجاورة لبلاد الروم.
(الوفيات).
(*)

(13/164)


حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه * فالقوم أعداء له وخصوم فانتقل سيف الدين إلى حماه ثم تحول إلى دمشق فدرس بالعزيزية، ثم عزل عنها ولزم بيته إلى أن مات في هذه السنة، وله ثمانون عاما رحمه الله تعالى وعفا عنه.
واقف الركنية الامير ركن الدين منكورس الفلكي غلام فلك الدين أخي الملك العادل، لانه وقف الفلكية كما تقدم، وكان هذا الرجل من خيار الامراء، ينزل في كل ليلة وقت السحر إلى الجامع وحده بطوافه ويواظب على حضور الصلوات فيه مع الجماعة، وكان قليل الكلام كثير الصدقات، وقد بنى المدرسة الركنية بسفح
قاسيون، ووقف عليها أوقافا كثيرة وعمل عندها تربة، وحين توفي بقرية حدود (1) حمل إليها رحمه الله تعالى.
الشيخ الامام العالم رضي الدين أبو سليمان بن المظفر بن غنائم الجيلي الشافعي، أحد فقهاء بغداد والمفتيين بها والمشغلين للطلبة مدة طويلة، له كتاب في المذهب نحو من خمسة عشر مجلدا، يحكي فيه الوجوه الغريبة والاقوال المستغربة وكان لطيفا ظريفا، توفي رحمه الله يوم الاربعاء ثالث ربيع الاول من هذه السنة ببغداد.
الشيخ طي المصري أقام مدة بالشام في زاوية له بدمشق، وكان لطيفا كيسا زاهدا، يتردد إليه الاكابر ودفن بزاويته المذكورة رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الله الارمني (2) أحد العباد الزهاد الذين جابوا البلاد وسكنوا البراري والجبال والوهاد، واجتمعوا بالاقطاب والابدال والاوتاد، وممن كانت له الاحوال والمكاشفات والمجاهدات والسياحات في سائر النواحي والجهات، وقد قرأ القرآن في بدايته وحفظ كتاب القدوري على مذهب أبي حنيفة، ثم اشتغل
__________
(1) في معجم البلدان: جرود، قرية من أعمال غوطة دمشق.
(2) في شذرات الذهب 5 / 146: الارموي.
(*)

(13/165)


بالمعاملات والرياضات، ثم أقام آخر عمره بدمشق حتى مات بها ودفن بسفح قاسيون، وقد حكي عنه أشياء حسنة منها أنه قال: اجتزت مرة في السياحة ببلدة فطالبتني نفسي بدخولها فآليت أن لا أستطعم منها بطعام، ودخلتها فمررت برجل غسال فنظر إلي شزرا فخفت منه وخرجت من البلد هاربا، فلحقني ومعه طعام فقال: كل فقد خرجت من البلد، فقلت له: وأنت في هذا المقام وتغسل الثياب في الاسواق ؟ فقال: لا ترفع رأسك ولا تنظر إلى شئ من عملك، وكن
عبدا لله فإن استعملك في الحش فارض به، ثم قال رحمه الله.
ولو قيل لي مت قلت سمعا وطاعة * وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا وقال اجتزت مرة في سياحتي براهب في صومعة فقال لي: يا مسلم ما أقرب الطرق عندكم إلى الله عزوجل ؟ قلت: مخالفة النفس، قال فرد رأسه إلى صومعته، فلما كنت بمكة زمن الحج إذا رجل يسلم علي عند الكعبة فقلت من أنت ؟ فقال أنا الراهب، قلت: بم وصلت إلى ها هنا ؟ قال بالذي قلت.
وفي رواية عرضت الاسلام على نفسي فأبت، فعلمت أنه حق فأسلمت وخالفتها، فأفلح وأنجح.
وقال بينا أنا ذات يوم بجبل لبنان إذا حرامية الفرنج فأخذوني فقيدوني وشدوا وثاقي فكنت عندهم في أضيق حال، فلما كان النهار شربوا وناموا، فبينا أنا موثوق إذا حرامية المسلمين قد أقبلوا نحوهم فأنبهتهم فلجأوا إلى مغارة هنالك فسلموا من أولئك المسلمين، فقالوا: كيف فعلت هذا وقد كان خلاصك على أيديهم ؟ فقلت إنكم أطعمتموني فكان من حق الصحبة أن لا أغشكم، فعرضوا علي شيئا من متاع الدنيا فأبيت وأطلقوني.
وحكى السبط قال: زرته مرة ببيت المقدس وكنت قد أكلت سمكا مالحا، فلما جلست عنده أخذني عطش جدا وإلى جانبه إبريق فيه ماء بارد فجعلت أستحيي منه، فمد يده إلى الابريق وقد احمر وجهه وناولني وقال خذ، كم تكاسر، فشربت.
وذكر أنه لما ارتحل من بيت المقدس كان سورها بعد قائما جديدا على عمارة الملك صلاح الدين قبل أن يخربه المعظم، فوقف لاصحابه يودعهم ونظر إلى السور، وقال: كأني بالمعاول وهي تعمل في هذا السور عما قريب، فقيل له معاول المسلمين أو الفرنج ؟ فقال بل معاول المسلمين، فكان كما قال.
وقد ذكرت له أحوال كثيرة حسنة، ويقال إن أصله أرمني وإنه أسلم على يدي الشيخ عبد الله اليونيني، وقيل بل أصله رومي من قونية، وأنه قدم على الشيخ عبد الله اليونيني وعليه برنس كبرانس الرهبان، فقال له: أسلم فقال: أسلمت لرب العالمين.
وقد كانت أمه داية امرأة الخليفة، وقد جرت له كائنة غريبة فسلمه الله بسبب ذلك، وعرفه الخليفة فأطلقه.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة فيها خرب الملك الاشرف بن العادل خان الزنجاري الذي كان بالعقيبة فيه خواطئ وخمور
ومنكرات متعددة، فهدمه وأمر بعمارة جامع مكانه سمي جامع التوبة، تقبل الله تعالى منه.

(13/166)


وفيها توفي: القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم بن شداد (1) الحلبي، أحد رؤسائها من بيت العلم والسيادة، له علم بالتواريخ وأيام الناس وغير ذلك، وقد سمع الكثير وحدث، والشيخ شهاب الدين عبد السلام بن المطهر بن عبد الله بن محمد بن أبي عصرون الحلبي أيضا، كان فقيها زاهدا عابدا كانت له نحو من عشرين سرية، وكان شيخا يكثر من الجماع، فاعترته أمراض مختلفة فأتلفته ومات بدمشق ودفن بقاسيون، وهو والد قطب الدين وتاج الدين، والشيخ الامام العالم صائن الدين أبو محمد عبد العزيز الجيلي الشافعي أحد الفقهاء المفتيين المشتغلين بالمدرسة النظامية ببغداد، وله شرح على التنبيه للشيخ أبي إسحاق، توفي في ربيع الاول (1) رحمه الله تعالى.
والشيخ الامام العالم الخطيب الاديب أبو محمد حمد بن حميد بن محمود بن حميد بن أبي الحسن بن أبي الفرج بن مفتاح التميمي الدينوري، الخطيب بها والمفتي لاهلها، الفقيه الشافعي، تفقه ببغداد بالنظامية، ثم عاد إلى بلده المشار إليها، وقد صنف كتبا.
وأنشد عنه ابن الساعي سماعا منه: روت لي أحاديث الغرام صبابتي * بإسنادها عن بانة العلم الفرد وحدثني مر النسيم عن الحمى * عن الدوح عن وادي الغضا عن ربانجد بأن غرامي والاسى قد تلازما * فلن يبرحا حتى أوسد في لحدي وقد أرخ أبو شامة في الذيل وفاة الشهاب السهروردي صاحب عوارف المعارف في هذه السنة، وذكر أن مولده في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وأنه جاوز التسعين.
وأما السبط فإنما أرخ وفاته في سنة ثلاثين كما تقدم.
قاضي القضاة بحلب أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد الاسدي الموصلي الشافعي، كان رجلا فاضلا أديبا مقرئا ذا وجاهة عند الملوك، أقام بحلب وولي القضاء بها، وله تصانيف وشعر،
توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى.
ابن الفارض ناظم التائية (2) في السلوك على طريقة المتصوفة المنسوبين إلى الاتحاد، هو أبو حفص عمر بن
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: لم يكن في أيامه من اسمه شداد بل لعل ذلك في نسب أمه فاشتهر به وغلب عليه، أصله من الموصل، مات في صفر وعمره نحو 93 سنة (3 / 156).
(2) وهي مقدار ستمائة بيت، ولعله يقصد التائية المشهورة ومطلعها: نعم بالصبا قلبي صبا لاحبتي * فيا حبذا ذاك الشذا حين هبت (*)

(13/167)


أبي الحسن علي بن المرشد بن علي، الحموي الاصل، المصري المولد والدار والوفاة، وكان أبوه يكتب فروض النساء والرجال، وقد تكلم فيه غير واحد من مشايخنا بسبب قصيدته المشار إليها، وقد ذكره شيخنا أبو عبد الله الذهبي في ميزانه وحط عليه.
مات في هذه السنة وقد قارب السبعين (1).
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة فيها قطع الكامل وأخوه الاشرف الفرات وأصلحا ما كان أفسده جيش الروم من بلادهما، وخرب الكامل قلعة الرها وأحل بدنيسر بأسا شديدا، وجاء كتاب بدر الدين صاحب الموصل بأن الروم أقبلوا بمائة طلب كل طلب بخمسمائة فارس، فرجع الملكان إلى دمشق سريعا وعاد جيش الروم إلى بلادهما بالجزيرة وأعادوا الحصار كما كان، ورجعت التتار عامهم ذلك إلى بلادهم والله تعالى أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان والمشاهير ابن عنين الشاعر وقد تقدمت ترجمته في سنة ثلاثين.
الحاجري (2) الشاعر صاحب الديوان المشهور، وهو عيسى بن سنجر بن بهرام بن جبريل بن خمارتكين بن طاشتكين الاربلي شاعر مطبق، ترجمه ابن خلكان (3) وذكر أشياء من شعره كثيرة، وذكر أنه كان
صاحبهم وأنه كتب إليه أخيه ضياء الدين عيسى يستوحش منه: الله يعلم ما أبقى سوى رمق * مني فراقك يا من قربه الامل فابعث كتابك واستودعه تعزية * فربما مت شوقا قبل ما يصل وذكر له في الخال رحمه الله تعالى: ومهفهف من شعره وجبينه * أمسى الورى في ظلمة وضياء لا تنكروا الخال الذي في خده * كل الشقيق بنقطة سوداء
__________
(1) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 1 / 266: مولده في رابع ذي القعدة سنة 577، فكانت مدة حياته 54 سنة وستة أشهر.
وفي ابن خلكان 3 / 455: ولد سنة 576.
(2) الحاجري: نسبة إلى حاجر، كانت بليدة بالحجاز لم يبق منها إلا الاثار، ولم يكن الحاجري منها فهو من اربل أصلا ومولدا ومنشأ لكنه استعمل حاجرا كثيرا في شعره فنسب إليها.
(3) ذكر ابن خلكان وفاته ثاني شوال سنة 632 ودفن بمقبرة باب الميدان، وتقدير عمره 50 سنة (انظر شذرات الذهب 5 / 156).
(*)

(13/168)


ابن دحية أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن فرج بن خلف بن قومس بن مزلال بن بلال (1) بن بدر بن أحمد بن دحية بن خليفة الكلبي الحافظ، شيخ الديار المصرية في الحديث، وهو أول من باشر مشيخة دار الحديث الكاملية بها، قال السبط: وقد كان كابن عنين في ثلب المسلمين والوقيعة فيهم، ويتزيد في كلامه فترك الناس الرواية عنه وكذبوه، وقد كان الكامل مقبلا عليه، فلما انكشف له حاله أخذ منه دار الحديث وأهانه، توفي في ربيع الاول بالقاهرة ودفن بقرافة مصر، وقد قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: وللشيخ السخاوي فيه أبيات حسنة.
وقال القاضي ابن خلكان بعد سياق نسبه كما تقدم، وذكر أنه كتبه من خطه، قال وذكر أن أمه أمة الرحمن بنت أبي عبد الله بن [ أبي ] البسام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر بن علي بن
محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فلهذا كان يكتب بخطه ذو النسبين ابن دحية بن الحسن والحسين.
قال ابن خلكان: وكان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء متقنا لعلم الحديث وما يتعلق به، عارفا بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها، اشتغل ببلاد المغرب ثم رحل إلى الشام ثم إلى العراق واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة، فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب " التنوير في مولد السراج المنير " وقرأه عليه بنفسه، فأجازه بألف دينار، قال وقد سمعناه على الملك المعظم في ستة مجالس في سنة ست وعشرين وستمائة.
قلت وقد وقفت على هذا الكتاب وكتبت منه أشياء حسنة مفيدة.
قال ابن خلكان: وكان مولده في سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وقيل ست أو تسع وأربعين وخمسمائة، وتوفي في هذه السنة، وكان أخوه أبو عمرو عثمان قد باشر بعده دار الحديث الكاملية بمصر، وتوفي بعده بسنة.
قلت: وقد تكلم الناس فيه بأنواع من الكلام، ونسبه بعضهم إلى وضع حديث في قصر صلاة المغرب، وكنت أود أن أقف على إسناده لنعلم كيف رجاله، وقد أجمع العلماء كما ذكره ابن المنذر وغيره على أن المغرب لا يقصر، والله سبحانه وتعالى يتجاوز عنا وعنه بمنه وكرمه.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة فيها حاصرت التتار إربل بالمجانيق ونقبوا الاسوار حتى فتحوها عنوة فقتلوا أهلها وسبوا ذراريهم، وامتنعت عليهم القلعة مدة، وفيها النائب من جهة الخليفة، فدخل فصل الشتاء فأقلعوا عنها وانشمروا إلى بلادهم، وقيل إن الخليفة جهز لهم جيشا فانهزم التتار.
وفيها استخدم الصالح أيوب بن الكامل صاحب حصن كيفا الخوارزمية الذين تبقوا من جيش جلال الدين
__________
(1) في ابن خلكان 3 / 448: ملال.
(*)

(13/169)


وانفصلوا عن الرومي، فقوي جأش الصالح أيوب.
وفيها طلب الاشرف موسى بن العادل من أخيه الكامل الرقة لتكون قوة له وعلفا لدوابه إذا جاز الفرات مع أخيه في البواكير، فقال الكامل:
أما يكفيه أن معه دمشق مملكة بني أمية ؟ فأرسل الاشرف الامير فلك الدين بن المسيري إلى الكامل في ذلك، فأغلظ له الجواب، وقال: إيش يعمل بالملك ؟ يكفيه عشرته للمغاني وتعلمه لصناعتهم.
فغضب الاشرف لذلك وبدت الوحشة بينهما، وأرسل الاشرف إلى حماه وحلب وبلاد الشرق مخالف أولئك الملوك على أخيه الكامل، فلو طال عمر الاشرف لافسد الملك على أخيه، وذلك لكثرة ميل الملوك إليه لكرمه وشجاعته وشح أخيه الكامل، ولكنه أدركته منيته في أول السنة الداخلة رحمه الله تعالى.
وممن توفي فيها من الاعيان: الملك العزيز الظاهر صاحب حلب محمد بن السلطان الملك الظاهر غياث الدين غازي بن الملك الناصر صلاح الدين فاتح القدس الشريف، وهو وأبوه وابنه الناصر أصحاب ملك حلب من أيام الناصر، وكانت أم العزيز الخاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان حسن الصورة كريما عفيفا، توفي وله من العمر أربع (1) وعشرون سنة، وكان مدبر دولته الطواشي شهاب الدين، وكان من الامراء رحمه الله تعالى.
وقام في الملك بعده ولده الناصر صلاح الدين يوسف (2)، والله سبحانه وتعالى أعلم.
صاحب الروم كيقباذ الملك علاء الدين صاحب بلاد الروم، كان من أكابر الملوك وأحسنهم سيرة، وقد زوجه العادل ابنته وأولدها، وقد استولى على بلاد الجزيرة في وقت وأخذ أكثرها من يد الكامل محمد، وكسر الخوارزمية مع الاشرف موسى رحمهما الله (3).
الناصح الحنبلي في ثالث المحرم توفي الشيخ ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب بن الشيخ أبي
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: ثلاث وعشرون سنة وشهورا، وقد توفي في ربيع الاول (وفي العبر: في المحرم) بعد حمى قوية أصابته واشتد مرضه.
(2) وكان عمره نحو سبع سنين، وكان المرجع في الامور كلها، ضيفة خاتون والدة الملك العزيز وابنة العادل.
(3) بعد وفاته ملك بلاد الروم ابنه غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ.
(*)

(13/170)


الفرج الشيرازي، وهم ينتسبون إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولد الناصح سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وقرأ القرآن وسمع الحديث، وكان يعظ في بعض الاحيان.
وقد ذكرنا قبل أنه وعظ في حياة الشيخ الحافظ عبد الغني، وهو أول من درس بالصالحية التي بالجبل، وله بنيت، وله مصنفات.
وقد اشتغل على ابن المنى البغدادي، وكان فاضلا صالحا، وكانت وفاته بالصالحية ودفن هناك رحمه الله.
الكمال بن المهاجر التاجر كان كثير الصدقات والاحسان إلى الناس، مات فجأة في جمادى الاولى بدمشق فدفن بقاسيون، واستحوذ الاشرف على أمواله، فبلغت التركة قريبا من ثلثمائة ألف دينار، من ذلك سبحة فيها مائة حبة لؤلؤ، كل واحدة مثل بيضة الحمامة.
الشيخ الحافظ أبو عمرو عثمان بن دحية أخو الحافظ أبي الخطاب بن دحية، كان قد ولي دار الحديث الكاملية حين عزل أخوه عنها، حتى توفي في عامه هذا، وكان ندر في صناعة الحديث أيضا رحمه الله تعالى.
القاضي عبد الرحمن التكريتي الحاكم بالكرك، ومدرس مدرسة الزبداني، فلما أخذت أوقافها سار إلى القدس ثم إلى دمشق، فكان ينوب بها عن القضاة، وكان فاضلا نزها عفيفا دينا رحمه الله تعالى ورضي عنه.