البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة
خمس وثلاثين وستمائة
فيها كانت وفاة الاشرف ثم أخوه الكامل،
أما الاشرف موسى بن العادل باني دار الحديث الاشرفية وجامع التوبة
وجامع جراح، فإنه توفي في يوم الخميس رابع المحرم من هذه السنة،
بالقلعة المنصورة، ودفن بها حتى نجزت تربته التي بنيت له شمالي
الكلاسة، ثم حول إليها رحمه
الله تعالى، في جمادى الاولى، وقد كان ابتداء مرضه في رجب من السنة
الماضية، واختلفت عليه الادواء حتى كان الجرائحي يخرج العظام من رأسه
وهو يسبح الله عزوجل، فلما كان آخر السنة تزايد به المرض واعتراه إسهال
مفرط فخارت قوته فشرع في التهئ للقاء الله عزوجل، فأعتق مائتي غلام
وجارية، ووقف دار فروخشاه التي يقال لها دار السعادة، وبستانه بالنيرب
على ابنيه، وتصدق بأموال جزيلة، وأحضر له كفنا كان قد أعده من ملابس
الفقراء والمشايخ الذين لقيهم من الصالحين.
وقد كان رحمه الله تعالى شهما شجاعا كريما جوادا لاهل العلم، لا سيما
أهل الحديث،
(13/171)
ومقاربيته
الصالحة، وقد بنى لهم دار حديث بالسفح وبالمدينة للشافعية أخرى، وجعل
فيها نعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي ما زال حريصا على طلبه من
النظام ابن أبي الحديد التاجر، وقد كان النظام ضنينا به فعزم الاشرف أن
يأخذ منه قطعة، ثم ترك ذلك خوفا من أن يذهب بالكلية، فقدر الله موت ابن
أبي الحديد بدمشق فأوصى للملك الاشرف به، فجعله الاشرف بدار الحديث،
ونقل إليها كتبا سنية نفيسة، وبنى جامع التوبة بالعقبية، وقد كان خانا
للزنجاري فيه من المنكرات شئ كثير، وبنى مسجد القصب وجامع جراح ومسجد
دار السعادة، وقد كان مولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة، ونشأ بالقدس
الشريف بكفالة الامير فخر الدين عثمان الزنجاري، وكان أبوه يحبه، وكذلك
أخوه المعظم ثم استنابه أبوه على مدن كثيرة بالجزيرة منها الرها وحران،
ثم اتسعت مملكته حين ملك خلاط، وكان من أعف الناس وأحسنهم سيرة وسريرة،
لا يعرف غير نسائه وسراريه، مع أنه قد كان يعاني الشراب، وهذا من أعجب
الامور.
حكى السبط عنه قال: كنت يوما بهذه المنظرة من خلاط إذ دخل الخادم فقال:
بالباب امرأة تستأذن، فدخلت فإذا صورة لم أر أحسن منها، وإذا هي ابنة
الملك الذي كان بخلاط قبلي، فذكرت أن الحاجب علي قد استحوذ علي قرية
لها، وأنها قد احتاجت إلى بيوت الكرى، وأنها إنما تتقوت من عمل النقوش
للنساء، فأمرت برد ضيعتها إليها وأمرت لها بدار تسكنها، وقد كنت قمت
لها حين دخلت وأجلستها بين يدي وأمرتها بستر وجهها حين أسفرت عنه،
ومعها عجوز، فحين قضت شغلها
قلت لها انهضي على اسم الله تعالى، فقالت العجوز: يا خوند إنما جاءت
لتحظى بخدمتك هذه الليلة، فقلت: معاذ الله لا يكون هذا، واستحضرت في
ذهني ابنتي ربما يصيبها نظير ما أصاب هذه، فقامت وهي تقول بالارمني:
سترك الله مثل ما سترتني، وقلت لها: مهما كان من حاجة فانهيها إلي
أقضها لك، فدعت لي وانصرفت، فقالت لي نفسي: في الحلال مندوحة عن
الحرام، فتزوجها، فقلت: لا والله لا كان هذا أبدا، أين الحياء والكرم
والمروءة ؟ قال: ومات مملوك من مماليكي وترك ولدا ليس يكون في الناس
بتلك البلاد أحسن شبابا، ولا أحلى شكلا منه، فأحببته وقربته، وكان من
لا يفهم أمري يتهمني به، فاتفق أنه عدا علي إنسان فضربه حتى قتله،
فاشتكى عليه إلي أولياء المقتول، فقلت أثبتوا أنه قتله، فأثبتوا ذلك
فحاجفت عنه مماليكي وأرادوا إرضاءهم بعشر ديات فلم يقبلوا، ووقفوا لي
في الطريق وقالوا: قد أثبتنا أنه قتله، فقلت خذوه فتسلموه فقتلوه، ولو
طلبوا مني ملكي فداء له لدفعته إليهم، ولكن استحيت من الله أن أعارض
شرعه بحظ نفسي رحمه الله تعالى وعفا عنه.
ولما ملك دمشق في سنة ست وعشرين وستمائة نادى مناديه فيها أن لا يشتغل
أحد من الفقهاء بشئ من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل
بالمنطق وعلوم الاوائل نفي من البلد.
وكان البلد به في غاية الامن والعدل، وكثرة الصدقات والخيرات، كانت
القلعة لا تغلق في ليالي رمضان كلها، وصحون الحلاوات خارجة منها إلى
الجامع والخوانق والربط،
(13/172)
والصالحية وإلى
الصالحين والفقراء والرؤساء وغيرهم، وكان أكثر جلوسه بمسجد أبي الدرداء
الذي جدده وزخرفه بالقلعة، وكان ميمون النقيبة ما كسرت له راية قط، وقد
استدعى الزبيدي من بغداد حتى سمع هو والناس عليه صحيح البخاري وغيره،
وكان له ميل إلى الحديث وأهله، ولما توفي رحمه الله رآه بعض الناس
وعليه ثياب خضر وهو يطير مع جماعة من الصالحين، فقال: ما هذا وقد كنت
تعاني الشراب في الدنيا ؟ فقال ذاك البدن الذي كنا نفعل به ذاك عندكم،
وهذه الروح التي كنا نحب بها هؤلاء فهي معهم، ولقد صدق رحمه الله، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " المرء مع
من أحب " (1) وقد كان أوصى بالملك من بعده لاخيه الصالح إسماعيل (2)،
فلما توفي أخوه ركب في أبهة الملك ومشى الناس بين يديه، وركب إلى جانبه
صاحب حمص وعز الدين أيبك المعظمي حامل الغاشية على رأسه، ثم إنه صادر
جماعة من الدماشقة الذي قيل عنهم أنهم مع الكامل، منهم العالم تعاسيف
وأولاد ابن مزهر وحبسهم ببصرى، وأطلق الحريري من قلعة عزاز، وشرط عليه
أن لا يدخل دمشق، ثم قدم الكامل من مصر وانضاف إليه الناصر داود صاحب
الكرك ونابلس والقدس، فحاصروا دمشق حصارا شديدا، وقد حصنها الصالح
إسماعيل، وقطع المياه ورد الكامل ماء بردى إلى ثورا، وأحرقت العقيبة
وقصر حجاج، فافتقر خلق كثير واحترق آخرون، وجرت خطوب طويلة، ثم آل
الحال في آخر (3) جمادى الاولى إلى أن سلم الصالح إسماعيل دمشق إلى
أخيه الكامل، على أن له بعلبك وبصرى، وسكن الامر، وكان الصلح بينهما
على يدي القاضي محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، اتفق
أنه كان بدمشق قد قدم في رسلية من جهة الخليفة إلى دمشق فجزاه الله
تعالى خيرا.
ودخل الكامل دمشق وأطلق الفلك بن المسيري من سجن الحيات بالقلعة الذي
كان أودعه فيه الاشرف، ونقل الاشرف إلى تربته، وأمر الكامل في يوم
الاثنين سادس جمادى الآخرة أئمة الجامع أن لا يصلي أحد منهم المغرب سوى
الامام الكبير، لما كان يقع من التشويش والاختلاف بسب اجتماعهم في وقت
واحد، ولنعم ما فعل رحمه الله.
وقد فعل هذا في زماننا في صلاة التراويح، اجتمع الناس على قارئ واحد
وهو الامام الكبير في المحراب المقدم عند المنبر، ولم يبق به إمام
يومئذ سوى الذي بالحلبية عند مشهد علي ولو ترك لكان حسنا والله أعلم.
ذكر وفاة الملك الكامل محمد بن العادل رحمه
الله تعالى.
تملك الكامل [ دمشق ] (4) مدة شهرين (5) ثم أخذه أمراض
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) وذلك لانه لم يخلف من الاولاد إلا بنتا واحدة تزوجها الملك الجواد
يونس بن مودود بن الملك العادل.
(3) في تاريخ أبي الفداء 3 / 160: لاحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى
الاولى.
(4) من أبي الفداء وابن إياس.
(5) في تاريخ أبي الفداء: لم يلبث غير أيام.
وفي بدائع الزهور لابن إياس: فأقام في دمشق مدة يسيرة.
(*)
(13/173)
مختلفة، من ذلك
سعال وإسهال ونزلة في حلقه، ونقرس في رجليه، فاتفق موته في بيت صغير من
دار القصبة، وهو البيت الذي توفي فيه عمه الملك الناصر صلاح الدين، ولم
يكن عند الكامل أحد عند موته من شدة هيبته، بل دخلوا فوجدوه ميتا رحمه
الله تعالى.
وقد كان مولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة، وكان أكبر أولاد العادل بعد
مودود، وإليه أوصى العادل لعلمه بشأنه وكمال عقله، وتوفر معرفته، وقد
كان جيد الفهم يحب العلماء، ويسألهم أسئلة مشكلة، وله كلام جيد على
صحيح مسلم، وكان ذكيا مهيبا ذا بأس شديد، عادل منصف له حرمة وافرة،
وسطوة قوية، ملك مصر ثلاثين سنة (1)، وكانت الطرقات في زمانه آمنة،
والرعايا متناصفة، لا يتجاسر أحد أن يظلم أحدا، شنق جماعة من الاجناد
أخذوا شعيرا لبعض الفلاحين بأرض آمد، واشتكى إليه بعض الركبدارية أن
أستاذه استعمله ستة أشهر بلا أجرة، فأحضر الجندي وألبسه قباب
الركبدارية، وألبس الركبداري ثياب الجندي، وأمر الجندي أن يخدم
الركبدار ستة أشهر على هذه الهيئة، ويحضر الركبدار الموكب والخدمة حتى
ينقضي الاجل فتأدب الناس بذلك غاية الادب.
وكانت له اليد البيضاء في رد ثغر دمياط إلى المسلمين بعد أن استحوذ
عليه الفرنج لعنهم الله، فرابطهم أربع سنين حتى استنقذه منهم، وكان يوم
أخذه له واسترجاعه إياه يوما مشهودا، كما ذكرنا مفصلا رحمه الله تعالى.
وكانت وفاته في ليلة الخميس الثاني والعشرين (2) من رجب من هذه السنة،
ودفن بالقلعة حتى كملت تربته التي بالحائط الشمالي من الجامع ذات
الشباك الذي هناك قريبا من مقصورة ابن سنان، وهي الكندية التي عند
الحلبية، نقل إليها ليلة الجمعة الحادي والعشرين من رمضان من هذه
السنة، ومن شعره يستحث أخاه الاشرف من بلاد الجزيرة حين كان محاصرا
بدمياط: يا مسعفي إن كنت حقا مسعفي * فارحل بغير تقيد وتوقف
واطو المنازل والديار ولا تنخ * إلا على باب المليك الاشرف قبل يديه لا
عدمت وقل له: * عني بحسن تعطف وتلطف إن مات صنوك عن قريب تلقه * ما بين
حد مهند ومثقف أو تبط عن إنجاده فلقاؤه * يوم القيامة في عراص الموقف
ذكر ما جرى بعده كان قد عهد لولده العادل وكان صغيرا بالديار المصرية،
وبالبلاد الدمشقية، ولولده
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 268: نحو عشرين سنة، وفي تاريخ أبي الفداء 3 /
161: عشرين سنة، وكان بها نائبا قبل ذلك قريبا من عشرين سنة، فحكم
نائبا وملكا نحو أربعين سنة.
(2) في تاريخ أبي الفداء: لتسع بقين من رجب، وفي بدائع الزهور: في
العشرين من رجب.
(*)
(13/174)
الصالح أيوب
ببلاد الجزيرة، فأمضى الامراء ذلك، فأما دمشق فاختلف الامراء بها في
الملك الناصر داود بن المعظم، والملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود
بن الملك العادل، فكان ميل عماد الدين ابن الشيخ إلى الجواد، وآخرون
إلى الناصر، وكان نازلا بدار أسامة، فانتظم أمر الجواد وجاءت الرسالة
إلى الناصر أن أخرج من البلد، فركب من دار أسامة والعامة وراءه إلى
القلعة لا يشكون في ولايته الملك، فسلك نحو القلعة فلما جاوز العمادية
عطف برأس فرسه نحو باب الفرج، فصرخت العامة: لا لا لا، فسار حتى نزل
القابون عند وطأة برزة.
فعزم بعض الامراء الاشرفية على مسكه، فساق فبات بقصر أم حكيم، وساقوا
وراءه فتقدم إلى عجلون فتحصن بها وأمن.
وأما الجواد فإنه ركب في أبهة الملك وأنفق الاموال والخلع على الامراء
قال السبط: فرق ستة آلاف ألف دينار وخمسة آلاف خلعة، وأبطل المكوس
والخمور، ونفى الخواطئ واستقر ملكه بدمشق، واجتمع عليه الامراء
الشاميون والمصريون، ورحل الناصر داود من عجلون نحو غزة وبلاد
الساحل فاستحوذ عليها، فركب الجواد في طلبه ومعه العساكر الشامية
والمصرية، وقال للاشرفية كاتبوه وأطمعوه، فلما وصلت إليه كتبهم طمع في
موافقتهم، فرجع في سبعمائة راكب إلى نابلس، فقصده الجواد وهو نازل على
جيتين، والناصر على سبسطية، فهرب منه الناصر فاستحوذوا على حواصله
وأثقاله، فاستغنوا بها وافتقر بسببها فقرا مدقعا، ورجع الناصر إلى
الكرك جريدة قد سلب أمواله وأثقاله، وعاد الجواد إلى دمشق مؤيدا
منصورا.
وفيها اختلفت الخوارزمية على الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل
صاحب كيفا، وتلك النواحي، وعزموا على القبض عليه، فهرب منهم ونهبوا
أمواله وأثقاله، ولجأ إلى سنجار فقصده بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل
ليحاصره ويأخذه في قفص إلى الخليفة، وكان أهل تلك الناحية يكرهون
مجاورته لتكبره وقوة سطوته، فلم يبق إلى أخذه إلا القليل، فكاتب
الخوارزمية واستنجد بهم ووعدهم بأشياء كثيرة، فقدموا إليه جرائد
ليمنعوه من البدر لؤلؤ، فلما أحس بهم لؤلؤ هرب منهم فاستحوذوا على
أمواله وأثقاله، فوجدوا فيها شيئا كثيرا لا يحد ولا يوصف، ورجع إلى
بلده الموصل جريدة خائبا، وسلم الصالح أيوب مما كان فيه من الشدة.
وممن توفي فيها من الاعيان: محمد بن
زيد ابن ياسين الخطيب جمال الدين الدولعي، نسبة إلى قرية بأصل الموصل،
وقد ذكرنا ذلك عند ترجمة عمه عبد الملك بن ياسين الخطيب بدمشق أيضا،
وكان مدرسا بالغزالية مع الخطابة،
(13/175)
وقد منعه
المعظم في وقت عن الافتاء، فعاتبه السبط في ذلك، فاعتذر بأن شيوخ بلده
هم الذين أشاروا عليه بذلك، لكثرة خطئه في فتاويه، وقد كان شديد
المواظبة على الوظيفة حتى كاد أن لا يفارق بيت الخطابة، ولم يحج قط مع
أنه كانت له أموال جزيلة، وقف مدرسة بجيرون وسبعا في الجامع.
ولما توفي ودفن بمدرسته التي بجيرون ولي الخطابة بعده أخ له وكان
جاهلا، ولم يستقر فيها وتولاها الكمال بن عمر بن أحمد بن هبة الله بن
طلحة النصيبي، وولي تدريس الغزالية الشيخ عبد
العزيز بن عبد السلام.
محمد بن هبة الله بن جميل الشيخ أبو نصر بن الشيرازي، ولد سنة تسع
وأربعين وخمسمائة، وسمع الكثير على الحافظ ابن عساكر وغيره، واشتغل في
الفقه وأفتى ودرس بالشامية البرانية، وناب في الحكم عدة سنين، وكان
فقيها عالما فاضلا ذكيا حسن الاخلاق عارفا بالاخبار وأيام العرب
والاشعار، كريم الطباع حميد الآثار، وكانت وفاته يوم الخميس الثالث من
جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى.
القاضي شمس الدين يحيى بن بركات ابن هبة الله بن الحسن الدمشقي قاضيها
بن سنا الدولة، كان عالما عفيفا فاضلا عادلا منصفا نزها كان الملك
الاشرف يقول: ما ولي دمشق مثله، وقد ولي الحكم ببلده المقدس وناب بدمشق
عن القضاة، ثم استقل بالحكم، وكانت وفاته يوم الاحد السادس في القعدة،
وصلي عليه بالجامع ودفن بقاسيون، وتأسف الناس عليه رحمه الله تعالى.
وتوفي بعده: الشيخ شمس الدين بن الحوبي القاضي زين الدين عبد الله بن
عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الاسدي، عرف بابن الاستاذ الحلبي
قاضيها بعد بهاء الدين بن شداد، وكان رئيسا عالما عارفا فاضلا، حسن
الخلق والسمت، وكان أبوه من الصالحين الكبار رحمهم الله تعالى.
الشيخ الصالح المعمر أبو بكر محمد بن مسعود بن بهروز البغدادي، ظهر
سماعه من أبي الوقت في سنة خمس عشرة وستمائة فانثال الناس عليه يسمعون
منه، وتفرد بالرواية عنه في الدنيا بعد الزبيدي وغيره، توفي ليلة السبت
التاسع والعشرين من شعبان رحمه الله تعالى.
(13/176)
الامير الكبير
المجاهد المرابط: صارم الدين
خطلبا بن عبد الله مملوك شركس ونائبه بعده مع ولده على تنين وتلك
الحصون، وكان كثير الصدقات، ودفن مع أستاذه بقباب شركس، وهو الذي بناها
بعد أستاذه، وكان خيرا قليل الكلام كثير الغزو مرابطا مدة سنين رحمه
الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وستمائة فيها قضى
الملك الجواد على الصفي بن مرزوق وصادره بأربعمائة ألف دينار، وحبسه
بقلعة حمص، فمكث ثلاث سنين لا يرى الضوء.
وكان ابن مرزوق محسنا إلى الجواد قبل ذلك إحسانا كثيرا.
وسلط الجواد خادما لزوجته يقال له الناصح فصادر الدماشقة وأخذ منهم
نحوا من ستمائة ألف دينار، ومسك الامير عماد الدين بن الشيخ الذي كان
سبب تمليكه دمشق، ثم خاف من أخيه فخر الدين بن الشيخ الذي بديار مصر،
وقلق من ملك دمشق، وقال إيش أعمل بالملك ؟ باز وكلب أحب إلي من هذا.
ثم خرج إلى الصيد وكاتب الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، فتقايضا من
حصن كيفا وسنجار وما تبع ذلك إلى دمشق، فملك الصالح دمشق ودخلها في
مستهل جمادى الاولى (1) من هذه السنة، والجواد بين يديه بالغاشية، وندم
على ما كان منه، فأراد أن يستدرك الفائت فلم يتفق له، وخرج من دمشق
والناس يلعنونه بوجهه، بسبب ما أسداه إليهم من المصادرات، وأرسل إليه
الصالح أيوب ليرد إلى الناس أموالهم فلم يلتفت إليه، وسار وبقيت في
ذمته.
ولما استقر الصالح أيوب في ملك مصر كما سيأتي حبس الناصح الخادم، فمات
في أسوأ حالة، من القلة والقمل، جزاء وفاقا (وما ربك بظلام للعبيد) [
فصلت: 46 ].
وفيها ركب الصالح أيوب من دمشق في رمضان قاصدا الديار المصرية ليأخذها
من أخيه العادل لصغره، فنزل بنابلس واستولى عليها وأخرجها من يد الناصر
داود، وأرسل إلى عمه الصالح إسماعيل صاحب بعلبك ليقدم عليه ليكون في
صحبته إلى الديار المصرية، وكان قد جاء إليه إلى دمشق ليبايعه فجعل
يسوف به ويعمل عليه ويحالف الامراء بدمشق ليكون ملكهم، ولا يتجاسر أحد
من الصالح أيوب لجبروته أن يخبره بذلك، وانقضت السنة وهو مقيم بنابلس
يستدعي إليه وهو يماطله.
وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء: في جمادى الآخرة.
(*)
(13/177)
جمال الدين
الحصيري الحنفي محمود بن أحمد العلامة شيخ الحنفية بدمشق، ومدرس
النورية، أصله من قرية يقال لها حصير من معاملة بخارى، تفقه بها وسمع
الحديث الكثير، وصار إلى دمشق فانتهت إليه رياسة الحنفية بها، لا سيما
في أيام المعظم، كان يقرأ عليه الجامع الكبير، وله عليه شرح، وكان
يحترمه ويعظمه ويكرمه، وكان رحمه الله غزير الدمعة كثير الصدقات، عاقلا
نزها عفيفا، توفي يوم الاحد ثامن صفر ودفن بمقابر الصوفية تغمده الله
برحمته.
توفي وله تسعون سنة، وأول درسه بالنورية في سنة إحدى عشرة (1) وستمائة،
بعد الشرف داود الذي تولاها بعد البرهان مسعود، وأول مدرسيها رحمهم
الله تعالى الامير عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ صدر الدين علي بن
حمويه، كان سببا في ولاية الجواد دمشق ثم سار إلى مصر فلامه صاحبها
العادل بن الكامل بن العادل، فقال الآن أرجع إلى دمشق وآمر الجواد
بالمسير إليك، على أن تكون له اسكندرية عوض دمشق، فإن امتنع عزلته عنها
وكنت أنا نائبك فيها، فنهاه أخوه فخر الدين بن الشيخ عن تعاطي ذلك فلم
يقبل، ورجع إلى دمشق فتلقاه الجواد إلى المصلى وأنزله عنده بالقلعة
بدار المسرة، وخادعه عن نفسه ثم دس إليه من قتله (2) جهرة في صورة
مستغيث به، واستحوذ على أمواله وحواصله، وكانت له جنازة حافلة، ودفن
بقاسيون.
الوزير جمال الدين علي بن حديد (3) وزر للاشرف واستوزره الصالح أيوب
أياما، ثم مات عقب ذلك، كان أصله من الرقة، وكان له أملاك يسيرة يعيش
منها، ثم آل أمره أن وزر للاشرف بدمشق، وقد هجاه بعضهم، وكانت وفاته
بالجواليق في جمادى الآخرة، ودفن بمقابر الصوفية.
جعفر بن علي
ابن أبي البركات بن جعفر بن يحيى الهمداني، راوية السلفي، قدم إلى دمشق
صحبة الناصر داود، وسمع عليه أهلها، وكانت وفاته بها ودفن بمقابر
الصوفية رحمه الله تعالى، وله تسعون سنة.
__________
(1) في الاصل: احدى عشر.
(2) قال أبو الفداء في تاريخه: وجهز على عماد الدين ابن الشيخ من وقف
له بقصة فلما أخذها منه عماد الدين ضربه ذلك الرجل بسكين فقتله.
وقال في شذرات الذهب 5 / 181: جهز عليه من الاسماعيلية من قتله في
جمادى الاولى وله 55 سنة.
(3) في شذرات الذهب 5 / 181: علي بن جرير الرقي.
(*)
(13/178)
الحافظ الكبير
زكي الدين أبو عبد الله (1) محمد بن يوسف بن محمد البرزالي الاشبيلي،
أحد من اعتنى بصناعة الحديث وبرز فيه، وأفاد الطلبة، وكان شيخ الحديث
بمشهد ابن عروة، ثم سافر إلى حلب، فتوفي بحماه في رابع عشر رمضان من
هذه السنة، وهو جد شيخنا الحافظ علم الدين بن القاسم بن محمد البرزالي،
مؤرخ دمشق الذي ذيل على الشيخ شهاب الدين أبي شامة، وقد ذيلت أنا على
تاريخه بعون الله تعالى.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وستمائة
استهلت هذه السنة وسلطان دمشق نجم الدين الصالح أيوب بن الكامل مخيم
عند نابلس، يستدعي عمه الصالح إسماعيل ليسير إلى الديار المصرية، بسبب
أخذها من صاحبها العادل بن الكامل، وقد أرسل الصالح إسماعيل ولده وابن
يغمور إلى صحبة الصالح أيوب، فهما ينفقان الاموال في الامراء ويحلفانهم
على الصالح أيوب للصالح إسماعيل، فلما تم الامر وتمكن الصالح إسماعيل
من مراده أرسل إلى الصالح أيوب يطلب منه ولده ليكون عوضه ببعلبك، ويسير
هو إلى خدمته، فأرسله إليه وهو لا يشعر بشئ مما وقع، وكل ذلك عن ترتيب
أبي الحسن غزال المتطبب
وزير الصالح - وهو الامين واقف أمينية بعلبك - فلما كان يوم الثلاثاء
السابع والعشرين من صفر هجم الملك الصالح إسماعيل وفي صحبته أسد الدين
شيركوه صاحب حمص إلى دمشق، فدخلاها بغتة من باب الفراديس، فنزل الصالح
إسماعيل بداره من درب الشعارين، ونزل صاحب حمص بداره، وجاء نجم الدين
بن سلامة فهنأ الصالح إسماعيل ورقص بين يديه وهو يقول: إلى بيتك جئت.
وأصبحوا فحاصروا القلعة وبها المغيث عمر بن الصالح نجم الدين، ونقبوا
القلعة من ناحية باب الفرج، وهتكوا حرمتها ودخلوها وتسلموها واعتقلوا
المغيث في برج هنالك.
قال أبو شامة: واحترقت دار الحديث وما هنالك من الحوانيت والدور حول
القلعة.
ولما وصل الخبر بما وقع إلى الصالح أيوب تفرق عنه أصحابه والامراء خوفا
على أهاليهم من الصالح إسماعيل، وبقي الصالح أيوب وحده بمماليكه
وجاريته أم ولده خليل، وطمع فيه الفلاحون والفوارنة، وأرسل الناصر داود
صاحب الكرك إليه من أخذه من نابلس مهانا على بغلة بلا مهماز ولا مقدمة،
فاعتقله عنده سبعة أشهر، وأرسل العادل من مصر إلى الناصر يطلب منه أخاه
الصالح أيوب ويعطيه مائة ألف دينار، فما أجابه إلى ذلك، بل عكس ما طلب
منه بإخراج الصالح من سجنه والافراج عنه وإطلاقه من الحبس يركب وينزل،
فعند ذلك حاربت الملوك من دمشق ومصر وغيرهما الناصر
__________
(1) في الاصل: أبو عبد الله بن محمد وهو خطأ.
(*)
(13/179)
داود، وبرز
العادل من الديار المصرية إلى بلبيس قاصدا قتال الناصر داود، فاضطرب
الجيش عليه واختلفت الامراء، وقيدوا العادل واعتقلوه في خركاه، وأرسلوا
إلى الصالح أيوب يستدعونه إليهم، فامتنع الناصر داود من إرساله حتى
اشترط عليه أن يأخذ له دمشق وحمص وحلب بلاد الجزيرة وبلاد ديار بكر
ونصف مملكة مصر، ونصف ما في الخزائن من الحواصل والاموال والجواهر.
قال الصالح أيوب: فأجبت إلى ذلك مكرها، ولا تقدر على ما اشترط جميع
ملوك الارض، وسرنا فأخذته معي خائفا أن تكون هذه الكائنة من المصريين
مكيدة، ولم يكن لي به حاجة، وذكر أنه كان يسكر ويخبط في الامور ويخالف
في الآراء السديدة.
فلما وصل الصالح إلى
المصريين ملكوه عليهم ودخل الديار المصرية سالما مؤيدا منصورا مظفرا
محبورا مسرورا، فأرسل إلى الناصر داود عشرين ألف دينار فردها عليه ولم
يقبلها منه.
واستقر ملكه بمصر (1).
وأما الملك الجواد فإنه أساء السيرة في سنجار وصادر أهلها وعسفهم،
فكاتبوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فقصدهم - وقد خرج الجواد للصيد -
فأخذ البلد بغير شئ وصار الجواد إلى عانة، ثم باعها من الخليفة بعد
ذلك.
وفي ربيع الاول درس القاضي الرفيع عبد العزيز بن عبد الواحد الجيلي
بالشامية البرانية.
وفي يوم الاربعاء ثالث ربيع الآخر ولي الشيخ عز الدين عبد العزيز بن
عبد السلام بن أبي القاسم السلمي خطابة جامع دمشق، وخطب الصالح إسماعيل
لصاحب الروم ببلد دمشق وغيرها، لانه حالفه على الصالح أيوب.
قال أبو شامة: وفي حزيران أيام المشمش جاء مطر عظيم هدم كثيرا من
الحيطان وغيرها، وكنت يومئذ بالمزة.
وممن توفي فيها من الاعيان: صاحب
حمص الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين
شيركوه بن شادي، ولاه إياها الملك الناصر صلاح الدين بعد موت أبيه سنة
إحدى وثمانين وخمسمائة، فمكث فيها سبعا (2) وخمسين سنة، وكان من أحسن
الملوك سيرة، طهر بلاده من الخمور والمكوس والمنكرات، وهي في غاية
الامن والعدل، لا يتجاسر أحد من الفرنج ولا العرب يدخل بلاده إلا أهانه
غاية الاهانة، وكانت ملوك بني أيوب يتقونه لانه يرى أنه أحق بالامر
منهم، لان جده هو
__________
(1) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 1 / 269: الصالح نجم الدين أيوب
وهو السابع من ملوك بني أيوب بمصر، بويع بالسلطنة بعد خلع أخيه العادل،
في يوم الاثنين خامس عشرين ذي القعدة سنة ست وثلاثين وستمائة، وكان له
من العمر لما تولى السلطنة نحو أربع وثلاثين سنة (وفي أبي الفداء: لست
بقين من ذي القعدة سنة 637 ه).
(2) في تاريخ أبي الفداء: نحو ست وخمسين سنة.
(*)
(13/180)
الذي فتح مصر،
وأول من ملك منهم، وكانت وفاته رحمه الله بحمص، وعمل عزاءه بجامع دمشق
عفا الله عنه بمنه.
القاضي الخويي (1) شمس الدين أحمد بن خليل ابن سعادة بن جعفر الخويي
قاضي القضاة بدمشق يومئذ، وكان عالما بفنون كثيرة من الاصول والفروع
وغير ذلك، كانت وفاته يوم السبت بعد الظهر السابع من شعبان، وله خمس
وخمسون سنة بالمدرسة العادلية، وكان حسن الاخلاق جميل المعاشرة، وكان
يقول لا أقدر على إيصال المناصب إلى مستحقيها، له مصنفات منها عروض قال
فيه أبو شامة: أحمد بن الخليل أرشده ال * له لما أرشد الخليل بن أحمد
ذاك مستخرج العروض وه * ذا مظهر السر منه والعود أحمد وقد ولي القضاء
بعد رفيع الدين عبد العزيز بن عبد الواحد بن إسماعيل بن عبد الهادي
الحنبلي مع تدريس العادلية، وكان قاضيا ببعلبك.
فأحضره إلى دمشق الوزير أمين الدين الذي كان سامريا فأسلم، وزر للصالح
إسماعيل، واتفق هو وهذا القاضي على أكل أموال الناس بالباطل.
قال أبو شامة: ظهر منه سوء سيرة وعسف وفسق وجور ومصادرة في الاموال.
قلت: وقد ذكر غيره عنه أنه ربما حضر يوم الجمعة في المشهد الكمالي
بالشباك وهو سكران، وأن قناني الخمر كانت تكون على بركة العادلية يوم
السبت، وكان يعتمد في التركات اعتمادا سيئا جدا، وقد عامله الله تعالى
بنقيض مقصوده، وأهلكه الله على يدي من كان سبب سعادته، كما سيأتي بيانه
قريبا إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة فيها سلم
الصالح إسماعيل صاحب دمشق حصن شقيف أرنون (2) لصاحب صيدا الفرنجي،
فاشتد الانكار عليه بسبب ذلك من الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب
البلد، والشيخ أبي عمرو بن الحاجب شيخ المالكية، فاعتقلهما مدة ثم
أطلقهما وألزمهما منازلهما، وولى الخطابة وتدريس الغزالية لعماد الدين
داود بن عمر بن يوسف المقدسي خطيب بيت الابار، ثم خرج الشيخان من دمشق
فقصد أبو عمرو الناصر داود بالكرك، ودخل الشيخ عز الدين الديار
المصرية، فتلقاه صاحبها أيوب بالاحترام والاكرام، وولاه خطابة القاهرة
وقضاء مصر، واشتغل
__________
(1) من الوافي بالوفيات وشذرات الذهب، وفي الاصل: الحوبي خطأ.
والخويي: نسبة إلى خوي: مدينة باذربيجان من أقليم تبريز.
(2) من تاريخ أبي الفداء 3 / 169.
وفي الاصل: " شعيف أربون " وهو تحريف.
(*)
(13/181)
عليها أهلها
فكان ممن أخذ عنه الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد رحمهما الله تعالى.
وفيها قدم رسول من ملك التتار تولى بن جنكيزخان إلى ملوك الاسلام
يدعوهم إلى طاعته ويأمرهم بتخريب أسوار بلدانهم.
وعنوان الكتاب: من نائب رب السماء ماسح وجه الارض ملك الشرق والغرب قان
قان.
وكان الكتاب مع رجل مسلم من أهل أصبهان لطيف الاخلاق، فأول ما ورد على
شهاب الدين غازي بن العادل بميا فارقين، وقد أخبر بعجائب في أرضهم
غريبة، منها أن في البلاد المتاخمة للسد أناسا أعينهم في مناكبهم،
وأفواههم في صدورهم، يأكلون السمك وإذا رأوا أحدا من الناس هربوا.
وذكر أن عندهم بزرا ينبت الغنم يعيش الخروف منها شهرين وثلاثة، ولا
يتناسل.
ومن ذلك أن بمازندران عينا يطلع فيها كل ثلاثين سنة خشبة عظيمة مثل
المنارة، فتقيم طول النهار فإذا غابت الشمس غابت في العين فلا ترى إلى
مثل ذلك الوقت، وأن بعض الملوك احتال ليمسكوها بسلاسل ربطت فيها فغارت
وقطعت تلك السلاسل، ثم كانت إذا طلعت ترى فيها تلك السلاسل وهي إلى
الآن كذلك.
قال أبو شامة: وفيها قلت المياه من السماء والارض، وفسد كثير من الزرع
والثمار والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان
والمشاهير: محيي الدين بن عربي صاحب " الفصوص " وغيره، محمد بن علي بن
محمد بن عربي أبو عبد الله الطائي الاندلسي (1)، طاف البلاد وأقام بمكة
مدة، وصنف فيها كتابه المسمى ب " الفتوحات المكية " في نحو عشرين
مجلدا، فيها ما يعقل وما لا يعقل، وما ينكر وما لا ينكر، وما يعرف وما
لا يعرف،
وله كتابه المسمى بفصوص الحكم فيه أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح، وله
كتاب العبادلة وديوان شعر رائق، وله مصنفات أخر كثيرة جدا، وأقام بدمشق
مدة طويلة قبل وفاته، وكان بنو الزكي لهم عليه اشتمال وبه احتفال
ولجميع ما يقوله احتمال.
قال أبو شامة: وله تصانيف كثيرة وعليه التصنيف سهل، وله شعر حسن وكلام
طويل على طريق التصوف، وكانت له جنازة حسنة، ودفن بمقبرة القاضي محيي
الدين بن الزكي بقاسيون، وكانت جنازته في الثاني (2) والعشرين من ربيع
الآخر من هذه السنة.
وقال ابن السبط: كان يقول إنه يحفظ الاسم الاعظم ويقول إنه يعرف
الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب، وكان فاضلا في علم التصوف،
وله تصانيف كثيرة.
__________
(1) ولد في شهر رمضان سنة 560 بمرسية من الاندلس له مصنفات كثيرة
أوردها صاحب الوافي (4 / 176).
وله ترجمة طويلة في الشذرات 5 / 190 وما بعدها.
(2) في الوافي: الثامن والعشرين.
(*)
(13/182)
القاضي نجم
الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي
الشافعي، المعروف بابن الحنبلي، كان شيخا فاضلا دينا بارعا في علم
الخلاف، ويحفظ الجمع بين الصحيحين للحميدي، وكان متواضعا حسن الاخلاق،
قد طاف البلدان يطلب العلم ثم استقر بدمشق ودرس بالفداوية والصارمية
والشامية الجوانية وأم الصالح، وناب في الحكم عن جماعة من القضاة إلى
أن توفي بها، وهو نائب الرفيع الجيلي، وكانت وفاته يوم الجمعة سادس
شوال ودفن بقاسيون.
ياقوت بن عبد الله أمين الدين الرولي منسوب إلى بيت أتابك، قدم بغداد
مع رسول صاحب الموصل لؤلؤ.
قال ابن الساعي، اجتمعت به وهو شاب أديب فاضل، يكتب خطا حسنا في غاية
الجودة، وينظم شعرا جيدا، ثم روى عنه شيئا من شعره.
قال وتوفي في جمادى الآخرة محبوسا.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة فيها قصد
الملك الجواد أن يدخل مصر ليكون في خدمة الصالح أيوب، فلما وصل
إلى الرمل توهم منه الصالح أيوب وأرسل إليه كمال الدين ابن الشيخ ليقبض
عليه، فرجع الجواد فاستجار بالناصر داود، وكان إذ ذاك بالقدس الشريف،
وبعث منه جيشا فالتقوا مع ابن الشيخ فكسروه وأسروه فوبخه الناصر داود
ثم أطلقه، وأقام الجواد في خدمة الناصر حتى توهم منه فقيده وأرسله تحت
الحوطة إلى بغداد، فأطلقه بطن من العرب عن قوة ملجأ إلى صاحب دمشق مدة،
ثم انتقل إلى الفرنج، ثم عاد إلى دمشق فحبسه الصالح إسماعيل بعزتا إلى
أن مات في سنة إحدى وأربعين كما سيأتي (1).
وفيها شرع الصالح أيوب في بناء المدارس بمصر، وبنى قلعة بالجزيرة غرم
عليها شيئا كثيرا من بيت المال، وأخذ أملاك الناس وخرب نيفا وثلاثين
مسجدا، وقطع ألف نخلة (2).
ثم أخربها
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه أن هلاكه كان سنة 638 ه.
بعد أن اعتقله الصالح اسماعيل صاحب دمشق ثم خنقه.
(2) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 1 / 271: وكانت هذه القلعة من
محاسن الزمان، وقد أسكن فيها مماليكه - وهو أول من جلب المماليك
الاتراك إلى مصر حتى ضاقت بهم القاهرة وصاروا يشوشوا على الناس وينهبوا
البضائع من الدكاكين فضج الناس بهم - البحرية وعمل لهذه القلعة ستين
برجا محيطة بها وأشحنها بالاسلحة والآلات الحربية وادخر فيها الغلال
خشية من محاصرة الفرنج.
وفيها يقول ابن قادوس: انظر لحسن القلعة الغراء إذ * محاسنها مثل
النجوم تلالا (*)
(13/183)
الترك في سنة
إحدى وخمسين كما سيأتي بيانه.
وفيها ركب الملك المنصور بن إبراهيم بن الملك المجاهد صاحب حمص ومعه
الحلبيون، فاقتتلوا مع الخوارزمية بأرض حران، فكسروهم ومزقوهم كل ممزق،
وعادوا منصورين إلى بلادهم، فاصطلح شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين مع
الخوارزمية وآواهم إلى بلده ليكونوا من حزبه.
قال أبو شامة: وفيها كان دخول الشيخ عز الدين إلى الديار المصرية
فأكرمه صاحبها وولاه الخطابة بالقاهرة وقضاء القضاة بمصر، بعد وفاة
القاضي
شرف الدين المرقع ثم عزل نفسه مرتين وانقطع في بيته رحمه الله تعالى.
قال: وفيها توفي الشمس ابن الخباز
النحوي الضرير في سابع رجب.
والكمال بن يونس الفقيه في النصف من شعبان، وكانا فاضلي بلدهما في
فنهما.
قلت أما: الشمس بن الخباز فهو أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن أحمد بن
معالي بن منصور بن علي، الضرير النحوي الموصلي المعروف بابن الخباز،
اشتغل بعلم العربية وحفظ المفصل والايضاح والتكملة والعروض والحساب،
وكان يحفظ المجمل في اللغة وغير ذلك، وكان شافعي المذهب كثير النوادر
والملح، وله أشعار جيدة، وكانت وفاته عاشر رجب وله من العمر خمسون سنة
رحمه الله تعالى.
وأما: الكمال بن يونس فهو موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك
العقيلي، أبو الفتح الموصلي شيخ الشافعية بها، ومدرس بعدة مدارس فيها،
وكانت له معرفة تامة بالاصول والفروع والمعقولات والمنطق والحكمة، ورحل
إليه الطلبة من البلدان، وبلغ ثمانيا وثمانين عاما، وله شعر حسن.
فمن ذلك ما امتدح به البدر لؤلؤ صاحب الموصل وهو قوله: لئن زينت الدنيا
بما لك أمرها (1) * فمملكة الدنيا بكم تتشرف بقيت بقاء الدهر أمرك نافذ
* وسعيك مشكور وحكمك ينصف (2) كان مولده سنة إحدى وخمسين وخمسمائة،
وتوفي للنصف من شعبان هذه السنة، رحمه الله تعالى قال أبو شامة: وفيها
توفي بدمشق: عبد الواحد الصوفي الذي كان قسا راهبا في كنيسة مريم سبعين
سنة، أسلم قبل موته بأيام، ثم توفي شيخا
__________
(1) البيت في الوفيات 5 / 315 وصدره: لئن شرفت أرض بمالك رقها...(2) في
الوفيات: منصف.
(*)
(13/184)
كبيرا بعد أن
أقام بخانقاه السميساطية أياما، ودفن بمقابر الصوفية، وكانت له جنازة
حافلة، حضرت دفنه والصلاة عليه رحمه الله تعالى.
أبو الفضل احمد بن اسفنديار ابن الموفق بن أبي علي البوسنجي الواعظ،
شيخ رباط الارجوانية.
قال ابن الساعي: كان جميل الصورة حسن الاخلاق كثير التودد والتواضع،
متكلما متفوها منطقيا حسن العبارة جيد الوعظ طيب الانشاد عذب الايراد،
له نظم حسن، ثم ساق عنه قصيدة يمدح بها الخليفة المستنصر.
أبو بكر محمد بن يحيى ابن المظفر بن علم بن نعيم المعروف بابن الحبير
(1) السلامي، شيخ عالم فاضل، كان حنبليا ثم صار شافعيا، ودرس بعدة
مدارس ببغداد للشافعية، وكان أحد المعدلين بها، تولى مباشرات كثيرة،
وكان فقيها أصوليا عالما بالخلاف، وتقدم ببلده وعظم كثيرا، ثم استنابه
ابن فضلان بدار الحريم، ثم صار من أمره أن درس بالنظامية وخلع عليه
ببغلة، وحضر عنده الاعيان، وما زال بها حتى توفي عن ثمانين سنة، ودفن
بباب حرب.
قاضي القضاة ببغداد أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل (2) بن علي الواسطي
الشافعي، اشتغل ببغداد وحصل وأعاد في بعض المدارس، ثم استنابه قاضي
القضاة عماد الدين أبو صالح نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر في أيام
الخليفة الظاهر بن الناصر، ثم ولي قضاء القضاة مستقلا، ثم ولي تدريس
المستنصرية بعد موت أول من درس بها محيي الدين محمد بن فضلان، ثم عزل
عن ذلك كله وعن مشيخة بعض الربط.
ثم كانت وفاته في هذا العام، وكان فاضلا دينا متواضعا رحمه الله تعالى
وعفا عنه.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وثلثمائة
فيها توفي الخليفة المستنصر بالله وخلافة
ولده المستعصم بالله، فكانت وفاة الخليفة أمير
__________
(1) في المطبوعة: الحسر تحريف.
والحبير: تصغير حبر.
(2) في شذرات الذهب 5 / 204: ابن نفيل.
(*)
(13/185)
المؤمنين بكرة
يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة (1)، وله من العمر إحدى وخمسون سنة،
وأربعة أشهر وسبعة أيام (2)، وكتم موته حتى كان الدعاء له على المنابر
ذلك اليوم، وكانت مدة ولايته ست عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوما
(3)، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى الترب من الرصافة.
وكان جميل الصورة حسن السريرة جيد السيرة، كثير الصدقات والبر والصلات،
محسنا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه، كان جده الناصر قد جمع ما يتحصل من
الذهب في بركة في دار الخلافة، فكان يقف على حافتها ويقول: أترى أعيش
حتى أملاها، وكان المستنصر يقف على حافتها ويقول أترى أعيش حتى أنفقها
كلها.
فكان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات، وقد عمل
بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء، لا سيما في شهر رمضان، وكان
يتقصد الجواري اللائي قد بلغن الاربعين فيشترين له فيعتقهن ويجهزهن
ويزوجهن، وفي كل وقت يبرز صلاته ألوف متعددة من الذهب، تفرق في المحال
ببغداد على ذوي الحاجات والارامل والايتام وغيرهم، تقبل الله تعالى منه
وجزاه خيرا، وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الاربعة، وجعل
فيها دار حديث وحماما ودار طب، وجعل لمستحقيها من الجوامك والاطعمة
والحلاوات والفاكهة ما يحتاجون إليه في أوقاته، ووقف عليها أوقافا
عظيمة حتى قيل إن ثمن التبن من غلات ريعها يكفي المدرسة وأهلها.
ووقف فيها كتبا نفيسة ليس في الدنيا لها نظير، فكانت هذه المدرسة جمالا
لبغداد وسائر البلاد (4)، وقد احترق في أول هذه السنة المشهد الذي
بسامرا المنسوب إلى علي الهادي والحسن العسكري، وقد كان بناه أرسلان
البساسيري في أيام تغلبه على تلك النواحي، في حدود سنة خمسين
وأربعمائة، فأمر الخليفة المستنصر بإعادته إلى ما كان عليه، وقد تكلمت
الروافض في الاعتذار عن حريق هذا المشهد بكلام طويل بارد لا حاصل له،
وصنفوا فيه أخبارا وأنشدوا أشعارا كثيرة لا معنى لها، وهو المشهد الذي
يزعمون أنه يخرج منه
المنتظر الذي لا حقيقة له، فلا عين ولا أثر، ولو لم يبن لكان أجدر، وهو
الحسن بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر
الصادق بن علي بن محمد بن الباقر بن علي زين
__________
(1) في نهاية الارب 23 / 322: لعشر خلون من جمادى الاولى، وفي الجواهر
الثمين 1 / 218: في ثاني وعشرين جمادى الآخرة سنة 639 ه.
(2) في دول الاسلام 2 / 145: وله اثنتان وخمسون سنة.
وفي خلاصة الذهب المسبوك ص 288: اثنتان وخمسون سنة وستة أشهر وسبعة عشر
يوما.
(3) في خلاصة الذهب المسبوك ص 289: ست عشرة سنة وعشرة أشهر وعشرين
يوما.
وفي نهاية الارب 23 / 322: سبع عشرة سنة إلا ثلاثة أشهر وثلاثين يوما.
وفي دول الاسلام 2 / 146: سبع عشرة سنة.
(4) وتسمى أيضا بالمدرسة الشاطئية.
قال صاحب مرآة الزمان 8 / 739 فيها: " وليس في الدنيا مثل هذه المدرسة،
ولا بني مثلها في سالف الاعوام، فهي في العراق كجامع دمشق وقبة الصخرة
بالشام " وبشأنها جاء في دول الاسلام حوليات 631 ه: " وفيها تكامل بناء
المدرسة المستنصرية، قيل أن قيمة ما وقف عليها يساوي ألف ألف دينار،
غلت في بعض السنين سبعين ألف دينار ".
(*)
(13/186)
العابدين بن
الحسين الشهيد بكربلاء بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وقبح
من يغلو فيهم ويبغض بسببهم من هو أفضل منهم.
وكان المستنصر رحمه الله كريما حليما رئيسا متوددا إلى الناس، وكان
جميل الصورة حسن الاخلاق بهي المنظر، عليه نور بيت النبوة رضي الله عنه
وأرضاه.
وحكى أنه اجتاز راكبا في بعض أزفة بغداد قبل غروب الشمس من رمضان، فرأى
شيخا كبيرا ومعه إناء فيه طعام قد حمله من محلة إلى محلة أخرى، فقال:
أيها الشيخ لم لا أخذت الطعام من محلتك ؟ أو أنت محتاج تأخذ من
المحلتين ؟ فقال لا والله يا سيدي - ولم يعرف أنه الخليفة - ولكني شيخ
كبير، وقد نزل بي الوقت وأنا أستحي من أهل محلتي أن أزاحمهم وقت
الطعام، فيشمت بي من كان يبغضني، فأنا أذهب إلى غير محلتي فآخذ الطعام
وأتحين وقت كون الناس في صلاة المغرب فأدخل بالطعام إلى منزلي بحيث لا
يراني أحد.
فبكى الخليفة رحمه الله وأمر له بألف دينار، فلما دفعت إليه فرح الشيخ
فرحا شديدا حتى قيل إنه انشق قلبه من شدة الفرح، ولم يعش بعد ذلك إلا
عشرين يوما، ثم مات فخلف الالف دينار إلى الخليفة، لانه لم يترك وارثا.
وقد أنفق منها دينارا واحدا، فتعجب الخليفة من ذلك وقال: شئ قد خرجنا
عنه لا يعود إلينا، تصدقوا بها على فقراء محلته، فرحمه الله تعالى.
وقد خلف من الاولاد ثلاثة، اثنان شقيقان وهما أمير المؤمنين المستعصم
بالله الذي ولي الخلافة بعده وأبو أحمد عبد الله، والامير أبو القاسم
عبد العزيز وأختهما من أم أخرى كريمة صان الله حجابها.
وقد رثاه الناس بأشعار كثيرة أورد منها ابن الساعي قطعة صالحة، ولم
يستوزر أحدا بل أقر أبا الحسن محمد بن محمد القمي على نيابة الوزارة،
ثم كان بعده نصر الدين أبو الازهر أحمد بن محمد الناقد الذي كان أستاذ
دار الخلافة، والله تعالى أعلم بالصواب.
خلافة المستعصم بالله أمير المؤمنين
وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد، وهو الخليفة الشهيد الذي قتله التتار
بأمر هلاكو بن تولى ملك التتار بن جنكيزخان لعنهم الله، في سنة ست
وخمسين وستمائة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وهو أمير المؤمنين
المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله بن أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي
جعفر المنصور بن أمير المؤمنين الظاهر بالله أبي نصر محمد بن أمير
المؤمنين الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن أمير المؤمنين المستضئ
بالله أبي محمد الحسن بن أمير المؤمنين المستنجد بالله أبي المظفر يوسف
بن أمير المؤمنين المقتفي لامر الله أبي عبد الله محمد بن أمير
المؤمنين المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن الخليفة المقتدي بأمر الله
أبي القاسم عبد الله وبقية نسبه إلى العباس في ترجمة جده الناصر،
وهؤلاء الذين ذكرناهم كلهم ولي الخلافة يتلو بعضهم بعضا، ولم يتفق هذا
لاحد قبل
(13/187)
المستعصم، أن
في نسبه ثمانية نسقا ولوا الخلافة لم يتخللهم أحد، وهو التاسع رحمه
الله تعالى بمنه.
لما توفي أبوه بكرة الجمعة عاشر جمادى الآخرة من سنة أربعين وستمائة
استدعي هو من التاج
يومئذ بعد الصلاة فبويع بالخلافة، ولقب بالمستعصم، وله من العمر يومئذ
ثلاثون سنة وشهور، وقد أتقن في شبيبته تلاوة القرآن حفظا وتجويدا،
وأتقن العربية والخط الحسن وغير ذلك من الفضائل على الشيخ شمس الدين
أبي المظفر علي بن محمد بن النيار أحد أئمة الشافعية في زمانه، وقد
أكرمه وأحسن إليه في خلافته، وكان المستعصم على ما ذكر كثير التلاوة
حسن الاداء طيب الصوت، يظهر عليه خشوع وإنابة، وقد نظر في شئ من
التفسير وحل المشكلات، وكان مشهورا بالخير مشكورا مقتديا بأبيه
المستنصر جهده وطاقته، وقد مشت الامور في أيامه على السداد والاستقامة
بحمد الله، وكان القائم بهذه البيعة المستعصمية شرف الدين أبو الفضائل
إقبال المستنصري، فبايعه أولا بنو عمه وأهله من بني العباس، ثم أعيان
الدولة من الامراء والوزراء والقضاة والعلماء والفقهاء ومن بعدهم من
أولي الحل والعقد والعامة وغيرهم، وكان يوما مشهودا ومجمعا محمودا
ورأيا سعيدا، وأمرا حميدا، وجاءت البيعة من سائر الجهات والاقطار
والبلدان والامصار، وخطب له في سائر البلدان، والاقاليم والرساتيق،
وعلى سائر المنابر شرقا وغربا، بعدا وقربا، كما كان أبوه وأجداده،
رحمهم الله أجمعين.
وفيها وقع من الحوادث أنه كان بالعراق وباء شديد في آخر أيام المستنصر
وغلا السكر والادوية فتصدق الخليفة المستنصر بالله رحمه الله بسكر كثير
على المرضى، تقبل الله منه.
وفي يوم الجمعة رابع عشر شعبان أذن الخليفة المستعصم بالله لابي الفرج
عبد الرحمن بن محيي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي - وكان
شابا ظريفا فاضلا - في الوعظ بباب البدرية، فتكلم وأجاد وأفاد وامتدح
الخليفة المستعصم بقصيدة طويلة فصيحة، سردها ابن الساعي بكمالها، ومن
يشابه أباه فما ظلم، والشبل في المخبر مثل الاسد.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين الحلبيين وبين الخوارزمية (1)، ومع
الخوارزمية شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين، فكسرهم الحلبيون كسرة
عظيمة منكرة، وغنموا من أموالهم شيئا كثيرا جدا، ونهبت نصيبين مرة
أخرى، وهذه سابع عشر مرة نهبت في هذه السنين، فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
وعاد الغازي إلى ميافارقين وتفرقت الخوارزمية يفسدون في الارض صحبة
مقدمهم بركات خان، لا بارك الله فيه، وقدم على الشهاب
غازي منشور بمدينة خلاط فتسلمها وما فيها من الحواصل.
وفيها عزم الصالح أيوب صاحب مصر على دخول الشام فقيل له إن العساكر
مختلفة فجهز عسكرا إليها وأقام هو بمصر يدير مملكتها.
__________
(1) وذلك قريب الخابور عند المجدل يوم الخميس لثلاث بقين من صفر، وعاد
صاحب حلب وحمص إلى حلب في مستهل جمادى الاولى مؤيدين منصورين (تاريخ
أبي الفداء 3 / 171).
(*)
(13/188)
وممن توفي فيها من الاعيان:
المستنصر بالله أمير المؤمنين كما تقدم.
والحرمة المصونة الجليلة: خاتون بنت عز الدين مسعود ابن مودود بن زنكي
بن آقسنقر الاتابكية واقفة المدرسة الاتابكية بالصالحية، وكانت زوجة
السلطان الملك الاشرف رحمه الله وفي ليلة وفاتها كانت وقفت مدرستها
وتربتها بالجبل قاله أبو شامة: ودفن بها رحمها الله تعالى وتقبل منها
(1). |