البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

البداية والنهاية - ابن كثير ج 14
البداية والنهاية
ابن كثير ج 14

(14/)


البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 ه.
حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الرابع عشر دار إحياء التراث العربي

(14/1)


بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وستمائة استهلت والخليفة الحاكم العباسي وسلطان البلاد المنصور لاجين ونائبه بمصر مملوكه سيف الدين منكوتمر، وقاضي الشافعية تقي الدين بن دقيق العيد، والحنفي حسام الدين الرازي، والمالكي والحنبلي كما تقدم، ونائب الشام سيف الدين قبجق المنصوري، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها، والوزير تقي الدين توبة، والخطيب بدر الدين بن جماعة.
ولما كان في أثناء المحرم رجعت طائفة من الجيش من بلاد سيس بسبب المرض الذي أصاب بعضهم، فجاء كتاب السلطان بالعتب الاكيد والوعيد الشديد لهم، وأن الجيش يخرج جميعا صحبة نائب السلطنة قبجق إلى هناك ونصب مشانق لمن تأخر بعذر أو غيره، فخرج نائب السلطنة الامير سيف الدين قبجق وصحبته الجيوش وخرج أهل البلد للفرجة على الاطلاب على ما جرت به العادة، فبرز نائب السلطنة في أبهة عظيمة فدعت له العامة وكانوا يحبونه، واستمر الجيش سائرين قاصدين بلاد سيس، فلما وصلوا إلى حمص بلغ الامير سيف الدين قبجق وجماعة من الامراء أن السلطان قد تغلت خاطره بسبب سعي منكوتمر فيهم (1)، وعلموا أن السلطان لا يخالفه لمحبته له،
فاتفق جماعة منهم على الدخول إلى بلاد التتر والنجاة بأنفسهم، فساقوا من حمص فيمن أطاعهم، وهم قبجق وبزلي وبكتمر السلحدار والايلي، واستمروا ذاهبين، فرجع كثير من الجيش إلى دمشق، وتخبطت الامور وتأسفت لعوام على قبجق لحسن سيرته، وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
__________
(1) ذكر المقريزي في السلوك 1 / 833 وما بعدها: أن منكوتمر أمل أن يكون ولي عهد السلطان لاجين خاصة أن السلطان كان قد مرض ولم يكن له ولد ذكر وليا لعهده فعمل على ابعاد منافسيه من الامراء الذين بمصر وتمكن من السعي بهم والقبض عليهم، كما مر معنا في السنة السابقة، وبدا أن السلطان يميل إلى الاحتجاب وتفويض أمور السلطنة إلى منكوتمر.
وبقي عليه أزاحة أمراء الشام وإقامة غيرهم من مماليك السلطان وفي مصر والشام - ليتمكن من مراده.

(14/3)


ذكر مقتل المنصور لاجين وعود الملك إلى محمد بن قلاوون لما كان يوم السبت التاسع عشر من ربيع الآخر وصل جماعة من البريدية وأخبروه بقتل السلطان الملك المنصور لاجين ونائبه سيف الدين منكوتمر، وأن ذلك كان ليلة الجمعة حادي عشره، على يد الامير سيف الدين كرجي الاشرفي (1) ومن وافقه من الامراء، وذلك بحضور القاضي حسام الدين الحنفي وهو جالس في خدمته يتحدثان، وقيل كانا يلعبان بالشطرنج، فلم يشعرا إلا وقد دخلوا عليهم فبادروا إلى السلطان بسرعة جهرة ليلة الجمعة فقتلوه وقتل نائبه صبرا صبيحة يوم الجمعة وألقي على مزبلة، واتفق الامراء على إعادة ابن أستاذهم الملك الناصر محمد بن قلاوون، فأرسلوا وراءه، وكان بالكرك ونادوا له بالقاهرة، وخطب له على المنابر قبل قدومه، وجاءت الكتب إلى نائب الشام قبجق فوجدوه قد فر خوفا من غائلة لاجين، فسارت إليه البريدية فلم يدركوه إلا وقد لحق بالمغول عند رأس العين، من أعمال ماردين، وتفارط الحال ولا قوة إلا بالله.
وكان الذي شمر العزم وراءهم وساق ليردهم الامير سيف الدين بلبان، وقام بأعباء البلد نائب القلعة علم الدين أرجواش، والامير سيف الدين جاعان، واحتاطوا على ما كان له
اختصاص بتلك الدولة، وكان منهم جمال الدين يوسف الرومي محتسب البلد، وناظر المارستان، ثم أطلق بعد مدة وأعيد إلى وظائفه، واحتيط أيضا على سيف الدين جاعان وحسام الدين لاجين والي البر، وأدخلا القلعة، وقتل بمصر الامير سيف الدين (2) طغجي، وكان قد ناب عن الناصر أربعة أيام، وكرجي الذي تولى قتل لاجين فقتلا وألقيا على المزابل، وجعل الناس من العامة وغيرهم يتأملون صورة طغجي، وكان جميل الصورة، ثم بعد الدلال والمال والملك وارتهم هناك قبور، فدفن السلطان لاجين وعند رجليه نائبه منكوتمر، ودفن الباقون في مضاجعهم هنالك.
وجاءت البشائر بدخول الملك الناصر إلى مصر يوم السبت رابع جمادى الاولى (3)، وكان يوما مشهودا، ودقت البشائر ودخل القضاة وأكابر الدولة إلى القلعة، وبويع بحضرة علم الدين أرجواش، وخطب له على المنابر بدمشق وغيرها بحضرة أكابر العلماء والقضاة والامراء، وجاء الخبر بانه قد ركب وشق القاهرة وعليه خلعة الخليفة، والجيش معه مشاة، فضربت البشائر
__________
(1) وهو كرجي بن عبد الله، مقدم المماليك البرجية وهو الذي قتل حسام الدين لاجين فقتله أعوان المنصور لاجين (السلوك 1 / 868 عقد الجمان حوادث سنة 698 ه).
__________
(2) طغجي، ويقال طقجي بن عبد الله (بالقاف) كان أميرا في دولة العادل كتبغا.
__________
(3) قال أبو الفداء في مختصره 4 / 140 واستقر على سرير ملكه يوم السبت رابع عشر جمادى الاولى وفي السلوك 1 / 872: يوم الاثنين سادسه، وجددت له البيعة، وقال في مكان آخر 1 / 869: فأقام التخت بقلعة الجبل خاليا من سلطان (بين مقتل طغجي ووصول الملك الناصر) خمسة وعشرين يوما.

(14/4)


أيضا.
وجاءت مراسيمه فقرئت على السدة وفيها الرفق بالرعايا والامر بالاحسان إليهم، فدعوا له، وقدم الامير جمال الدين آقوش الافرم نائبا على دمشق، فدخلها يوم الاربعاء قبل العصر ثاني عشرين جمادى الاولى، فنزل بدار السعادة على العادة، وفرح الناس بقدومه، وأشعلوا له الشموع، وكذلك يوم الجمعة أشعلوا له لما جاء إلى صلاة الجمعة بالمقصورة.
وبعد أيام أفرج عن جاعان ولاجين والي البر، وعادا إلى ما كانا عليه، واستقر الامير حسام الدين الاستادار أتابكا
للعساكر المصرية، والامير سيف الدين سلار نائبا بمصر، وأخرج الاعسر في رمضان من الحبس وولي الوزارة بمصر، وأخرج قراسنقر المنصوري من الحبس وأعطي نيابة الصبيبة، ثم لما مات صاحب حماة الملك المظفر نقل قراسنقر إليها.
وكان قد وقع في أواخر دولة لاجين بعد خروج قبجق من البلد محنة للشيخ تقي الدين بن تيمية قام عليه جماعة من الفقهاء وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي جلال الدين الحنفي، فلم يحضر فنودي في البلد في العقيدة التي كان قد سأله عنها أهل حماة المسماة بالحموية، فانتصر له الامير سيف الدين جاعان، وأرسل يطلب الذين قاموا عنده فاختفى كثير منهم، وضرب جماعة ممن نادى على العقيدة فسكت الباقون، فلما كان يوم الجمعة عمل الشيخ تقي الدين الميعاد بالجامع على عادته، وفسر في قوله تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم) [ القلم: 4 ] ثم اجتمع بالقاضي إمام الدين يوم السبت واجتمع عنده جماعة من الفضلاء وبحثوا في الحموية وناقشوه في أماكن فيها، فأجاب عنها بما أسكتهم بعد كلام كثير، ثم ذهب الشيخ تقي الدين وقد تمهدت الامور، وسكنت الاحوال، وكان القاضي إمام الدين معتقده حسنا ومقصده صالحا.
وفيها وقف علم الدين سنجر الدويدار رواقه داخل باب الفرج مدرسة ودار الحديث، وولى مشيخته الشيخ علاء الدين بن العطار وحضر عنده القضاة والاعيان، وعمل لهم ضيافة، وأفرج عن قراسنقر.
وفي يوم السبت حادي عشر شوال فتح مشهد عثمان الذي جدده ناصر الدين بن عبد السلام ناظر الجامع، وأضاف إليه مقصورة الخدم من شماليه، وجعل له إماما راتبا، وحاكي به مشهد علي بن الحسين زين العابدين.
وفي العشر الاولى من ذي الحجة عاد القاضي حسام الدين الرازي إلى قضاء الشام، وعزل عن قضاء مصر، وعزل ولده عن قضاء الشام.
وفيها في ذي القعدة كثرت الاراجيف بقصد التتر بلاد الشام وبالله المستعان.
وممن توفي فيها عن الاعيان: الشيخ نظام الدين أحمد بن الشيخ جمال الدين محمود بن أحمد بن عبد السلام الحصري الحنفي، مدرس
النورية ثامن المحرم، ودفن في تاسعه يوم الجمعة في مقابر الصوفية، كان فاضلا، ناب في الحكم

(14/5)


في وقت ودرس بالنورية بعد أبيه، ثم درس بعده الشيخ شمس الدين بن الصدر سليمان بن النقيب.
المفسر الشيخ العالم الزاهد جمال الدين أبو (1) عبد الله محمد بن سليمان بن حسن بن الحسين البلخي، ثم المقدسي الحنفي، ولد في النصف من شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة بالقدس، واشتغل بالقاهرة وأقام مدة بالجامع الازهر ودرس في بعض المدارس هناك، ثم انتقل إلى القدس فاستوطنه إلى أن مات في المحرم منها، وكان شيخا فاضلا في التفسير، وله فيه مصنف حافل كبير جمع فيه خمسين مصنفا من التفسير، وكان الناس يقصدون زيارته بالقدس الشريف ويتبركون به.
الشيخ أبو يعقوب المغربي المقيم بالقدس كان الناس يجتمعون به وهو منقطع بالمسجد الاقصى، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يقول فيه: هو على طريقة ابن عربي وابن سبعين، توفي في المحرم من هذه السنة.
التقي توبة الوزير تقي الدين توبة بن علي بن مهاجر بن شجاع بن توبة الربعي التكريتي، ولد سنة عشرين وستمائة يوم عرفة بعرفة، وتنقل بالخدم إلى أن صار وزيرا بدمشق مرات عديدة (2)، حتى توفي ليلة الخميس ثاني (3) جمادى الآخر ة، وصلي عليه غدوة بالجامع وسوق الخيل، ودفن بتربته تجاه دار الحديث الاشرفية بالسفح، وحضر جنازته القضاة والاعيان، وياشر بعده نظر الدواوين فخر الدين بن الشيرجي، وأخذ أمين الدين بن الهلال نظر الخزانة.
الامير الكبير شمس الدين بيسرى، كان من أكابر الامراء المتقدمين في خدمة الملوك، من زمن قلاوون وهلم جرا، توفي في السجن بقلعة مصر، وعمل له عزاء بالجامع الاموي، وحضره نائب السلطنة
الافرم والقضاة والاعيان.
__________
(1) من السلوك 1 / 881 وتذكره النبيه 1 / 215 والوافي 3 / 136 وفي الاصل: جمال الدين عبد الله بن محمد...وانظر عقد الجمان للعيني حوادث سنة 698 ه.
__________
(2) في السلوك 1 / 881، وتذكره النبيه.
1 / 217: سبع مرات.
__________
(3) في السلوك 1 / 881: ثامن.
(*)

(14/6)


السلطان الملك المظفر تقي الدين محمود بن ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، وابن ملوكها كابرا عن كابر، توفي يوم الخميس الحادي والعشرين ين من ذي القعدة، ودفن ليلة الجمعة (1).
الملك الاوحد نجم الدين يوسف بن الملك داود بن المعظم ناظر القدس، توفي به ليلة الثلاثاء 4 رابع (2) ذي القعدة ودفن برباطه عند باب حطة عن سبعين سنة، وحضر جنازته خلق كثير، وكان من خيار أبناء الملوك دينا وفضيلة وإحسانا إلى الضعفاء.
القاضي شهاب الدين يوسف ابن الصالح محب (3) الدين بن النحاس أحد رؤساء الحنفية، ومدرس الزنجانية والظاهرية، توفي ببستانه بالمزة ثالث عشر ذي الحجة، ودرس بعده بالزنجانية القاضي جلال الدين بن حسام الدين.
الصاحب نصر الدين أبو الغنائم سالم بن محمد بن سالم بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التغلبي، كان أحسن حالا من أخيه القاضي نجم الدين، وقد سمع الحديث وأسمعه، كان صدرا معظما، ولي نظر الدواوين ونظر الخزانة، ثم ترك المناصب وحج وجاور بمكة، ثم قدم دمشق فأقام بها دون السنة ومات،
توفي يوم الجمعة ثامن وعشرين ذي الحجة، وصلي عليه بعد الجمعة بالجامع، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون، وعمل عزاؤه بالصاحبية.
ياقوت بن عبد الله أبو الدر المستعصمي الكاتب، لقبه جمال الدين، وأصله رومي، كان فاضلا مليح الخط
__________
(1) ومولده بحماه ليلة الاحد 15 محرم سنة 659 ه ومدة ملكه خمس عشرة سنة وشهرا ويوما.
ومات وله إحدى وأربعين سنة، وبعد وفاته خرجت حماة عن البيت التقوي وتولاها - كما مر - شمس الدين قراسنقر المنصوري.
(السلوك 1 / 881 تذكرة النبيه 1 / 214).
__________
(2) في السلوك 1 / 881: في رابع عشري ذي الحجة بالقدس.
__________
(3) في السلوك 1 / 882: محي الدين.

(14/7)


مشهورا بذلك كتب ختما حسانا، وكتب الناس عليه ببغداد، وتوفي بها في هذه السنة، وله شعر رائق، فمنه ما أورده البرزالي في تاريخه عنه: تجدد الشمس شوقي كلما طلعت * إلى محياك يا سمعي ويا بصري (1) وأسهر الليل في أنس بلا ونس * إذ طيب ذكراك في ظلماته يسري (2) وكل يوم مضى لا أراك به * فلست محتسبا ماضيه من عمري ليلي نهار إذا ما درت في خلدي * لان ذكرك نور القلب والبصر ثم دخلت سنة تسع وتسعين وستمائة وفيها كانت وقعة قازان (3)، وذلك أن هذه السنة استهلت والخليفة والسلطان هما المذكوران في التي قبلها، ونائب مصر سلار، ونائب الشام آقوش الافرم، وسائر الحكام هم المذكورون في التي قبلها، وقد تواترت الاخبار بقصد التتار بلاد الشام، وقد خاف الناس من ذلك خوفا شديدا، وجفل الناس من بلاد حلب وحماة، وبلغ كري الخيل من حماة إلى دمشق نحو المائتي درهم، فلما كان يوم الثلاثاء ثاني المحرم ضربت البشائر بسبب خروج السلطان من مصر قاصدا
الشام، فلما كان يوم الجمعة ثامن ربيع الاول دخل السلطان إلى دمشق في مطر شديد ووحل كثير، ومع هذا خرج الناس لتلقيه، وكان قد أقام بغزة قريبا من شهرين، وذلك لما بلغه قدوم التتار إلى الشام، فتهيأ لذلك وجاء فدخل دمشق فنزل بالطارمة، وزينت له والبلد، وكثرت له الادعية وكان وقتا شديدا، وحالا صعبا، وامتلا البلد من الجافين النازحين عن بلادهم، وجلس الاعسر وزير الدولة وطالب العمال واقترضوا أموال الايتام وأموال الاسرى لاجل تقوية الجيش وخرج السلطان بالجيش من دمشق يوم الاحد سابع عشر ربيع الاول ولم يتخلف أحد من الجيوش، وخرج معهم خلق كثير من المتطوعة، وأخذ الناس في الدعاء والقنوت في الصلوات بالجامع وغيره، وتضرعوا واستغاثوا وابتهلوا إلى الله بالادعية.
وقعة قازان لما وصل السلطان إلى وادي الخزندار عند وادي سلمية، فالتقى التتر هناك يوم الاربعاء
__________
(1) عجزه في عقد الجمان (وفيات سنة 698 ه): إلى محياك يا شمسي ويا قمري.
(2) في تذكرة النبيه 1 / 219: واسهر الليل ذا أنس بوحشته * إذ طيب ذكرك في ظلمائه سمري وفي درة الاسلاك لابن حبيب ص 145: وأسمر الليل...* في أنفاسه سمري (3) كذا بالاصل ومختصر أبي الفداء، وفي السلوك 1 / 882 وتذكرة النبيه 1 / 220: غازان.
(*)

(14/8)


السابع والعشرين (1) من ربيع الاول فالتقوا معهم فكسروا المسلمين وولى السلطان هاربا فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقتل جماعة من الامراء وغيرهم ومن العوام خلق كثير، وفقد في المعركة قاضي قضاة الحنفية (2)، وقد صبروا وأبلوا بلاء حسنا، ولكن كان أمر الله قدرا مقدورا، فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، ثم كانت العاقبة بعد ذلك للمتقين، غير أنه رجعت العساكر على أعقابها للديار المصرية واجتاز كثير منهم على دمشق، وأهل دمشق في خوف شديد على أنفسهم وأهليهم
وأموالهم، ثم إنهم استكانوا واستسلموا للقضاء والقدر، وماذا يجدي الحذر إذا نزل القدر، ورجع السلطان في طائفة من الجيش على ناحية بعلبك والبقاع، وأبواب دمشق مغلقة، والقلعة محصنة والغلاء شديد والحال ضيق وفرج الله قريب، وقد هرب جماعة من أعيان البلد وغيرهم إلى مصر، كالقاضي إمام الدين الشافعي، وقاضي المالكية الزواوي، وتاج الدين الشيرازي، وعلم الدين الصوابي والي البر، وجمال الدين بن النحاس والي المدينة، والمحتسب وغيرهم من التجار والعوام، وبقي البلد شاغرا ليس فيهم حاكم سوى نائب القلعة.
وفي ليلة الاحد ثاني ربيع الاول كسر المحبوسون بحبس ابا الصغير الحبس وخرجوا منه على حمية، وتفرقوا في البلد، وكانوا قريبا من مائتي رجل فنهبوا ما قدروا عليه وجاءوا إلى باب الجابية فكسروا أقفال الباب البراني وخرجوا منه إلى بر البلد، فتفرقوا حيث شاؤوا لا يقدر أحد على ردهم، وعاثت الحرافشة في ظاهر البلد فكسروا أبواب البساتين وقلعوا من الابواب والشبابيك شيئا كثيرا، وباعوا ذلك بأرخص الاثمان، هذا وسلطان التتار قد قصد دمشق بعد الوقعة، فاجتمع أعيان البلد (3) والشيخ تقي الدين بن تيمية في مشهد علي واتفقوا على المسير إلى قازان لتلقيه، وأخذ الامان منه لاهل دمشق، فتوجهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فاجتمعوا به عند النبك (4)، وكلمه الشيخ تقي الدين كلاما قويا شديدا فيهم مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين ولله الحمد.
ودخل المسلمون ليلتئذ من جهة قازان فنزلوا بالبدرانية وغلقت أبواب البلد سوى باب توما، وخطب الخطيب بالجامع يوم الجمعة، ولم يذكر سلطانا في خطبته، وبعد الصلاة قدم الامير إسماعيل ومعه جماعة من الرسل فنزلوا ببستان الظاهر عند الطرن.
وحضر الفرمان بالامان وطيف به في البلد، وقرئ يوم السبت ثامن الشهر بمقصورة الخطابة، ونثر شئ من الذهب والفضة.
__________
(1) في السلوك 1 / 886: ثامن عشريه (انظر تذكرة النبيه 1 / 220 ومختصر أبي الفداء 4 / 43).
__________
(2) وهو حسام الدين حسن بن أحمد الرومي الحنفي.
__________
(3) ومنهم: قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، والشريف زين الدين..بن عدنان، والصاحب فخر الدين..بن الشيرجي، وعز الدين حمزة بن القلانسي...وغيرهم.
(السلوك 1 / 889) زاد ابن إياس في
بدائع الزهور 1 / 1 / 404: والقاضي نجم الدين بن الصصري، والقاضي عز الدين بن الزكي، والقاضي جلال الدين القزويني..
__________
(4) النبك: قرية بين حمص ودمشق (معجم البلدان).

(14/9)


وفي ثاني يوم من المناداة بالامان طلبت الخيول والسلاح والاموال المخبأة عند الناس من جهة الدولة، وجلس ديوان الاستخلاص إذ ذاك بالمدرسة القيمرية، وفي يوم الاثنين عاشر الشهر قدم سيف الدين قبجق المنصوري فنزل في الميدان واقترب جيش التتر وكثر العيث في ظاهر البلد، وقتل جماعة وغلت الاسعار بالبلد جدا، وأرسل قبجق إلى نائب القلعة ليسلمها إلى التتر فامتنع أرجواش من ذلك أشد الامتناع، فجمع له قبجق أعيان البلد فكلموه أيضا فلم يجبهم إلى ذلك، وصمم على ترك تسليمها إليهم وبها عين تطرف، فإن الشيخ تقي الدين بن تيمية أرسل إلى نائب القلعة يقول له ذلك، لو لم يبق فيها إلا حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت، وكان في ذلك مصلحة عظيمة لاهل الشام فإن الله حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزا لاهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة، حتى ينزل بها عيسى ابن مريم.
وفي يوم دخول قبجق إلى دمشق دخل السلطان ونائبه سلار إلى مصر كما جاءت البطاقة بذلك إلى القلعة، ودقت البشائر بها فقوي جأش الناس بعض قوة، ولكن الامر كما قال: كيف السبيل إلى سعاد ودونها * قلل الجبال ودونهن حتوف الرجل حافية وما لي مركب * والكف صفر والطريق مخوف وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر خطب لقازان على منبر دمشق بحضور المغول بالمقصورة ودعي له على السدة بعد الصلاة وقرئ عليها مرسوم بنيابة قبجق على الشام، وذهب إليه الاعيان فهنؤه بذلك، فأظهر الكرامة وأنه في تعب عظيم مع التتر، ونزل شيخ المشايخ محمود بن علي الشيباني بالمدرسة العادلية الكبيرة.
وفي يوم السبت النصف النصف من ربيع الآخر شرعت التتار وصاحب سيس في نهب الصالحية ومسجد الاسدية ومسجد خاتون ودار الحديث الاشرفية بها واحترق جامع التوبة
بالعقيبية، وكان هذا من جهة الكرج والارمن من النصارى الذين هم مع التتار قبحهم الله.
وسبوا من أهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا، وجاء أكثر الناس إلى رباط الحنابلة فاحتاطت به التتار فحماه منهم شيخ الشيوخ المذكور، وأعطى في الساكن مال له صورة ثم أقحموا عليه فسبوا منه خلقا كثيرا من بنات المشايخ وأولادهم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نكب دير الحنابلة في ثاني جمادى الاولى قتلوا خلقا من الرجال وأسروا من النساء كثيرا، ونال قاضي القضاة تقي الدين أذى كثير، ويقال إنهم قتلوا من أهل الصالحية قريبا من أربعمائة، وأسروا نحوا من أربعة آلاف أسير، ونهبت كتب كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري، وكانت تباع وهي مكتوب عليها الوقفية، وفعلوا بالمزة مثل ما فعلوا بالصالحية، وكذلك بداريا وبغيرها، وتحصن الناس منهم في الجامع بداريا ففتحوه قسرا وقتلوا منهم خلقا وسبوا نساءهم وأولادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وخرج الشيخ ابن تيمية في جماعة من أصحابه يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر إلى ملك

(14/10)


التتر وعاد بعد يومين ولم يتفق اجتماعه به، حجبه عنه الوزير سعد الدين والرشيد مشير الدولة المسلماني ابن يهودي، والتزما له بقضاء الشغل، وذكرا له أن التتر لم يحصل لكثير منهم شئ إلى الآن، ولا بد لهم من شئ، واشتهر بالبلد أن التتر يريدون دخول دمشق فانزعج الناس لذلك وخافوا خوفا شديدا، وأرادوا الخروج منها والهرب على وجوههم، وأين الفرار ولات حين مناص، وقد أخذ من البلد فوق العشرة آلاف فرس، ثم فرضت أموال كثيرة على البلد موزعة على أهل الاسواق كل سوق بحسبه من المال، فلا قوة إلا بالله.
وشرع التتر في عمل مجانيق بالجامع ليرموا بها القلعة من صحن الجامع، وغلقت أبوابه ونزل التتار في مشاهده يحرسون أخشاب المجانيق، وينهبون ما حوله من الاسواق، وأحرق أرجوان ما حول القلعة من الابنية، كدار الحديث الاشرفية وغير ذلك، إلى حد العادلية الكبيرة، وأحرق دار السعادة لئلا يتمكنوا من محاصرة القلعة من أعاليها، ولزم الناس منازلهم لئلا يسخروا في طم الخندق، وكانت الطرقات لا يرى بها أحد إلا القليل،
والجامع لا يصلي فيه أحد إلا اليسير، ويوم الجمعة لا يتكامل فيه الصف الاول وما بعده إلا بجهد جهيد، ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعا، ويظن أنه لا يعود إلى أهله، وأهل البلد قد أذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والمصادرات والتراسيم والعقوبات عمالة في أكابر أهل البلد ليلا ونهارا، حتى أخذ منهم شئ كثير من الاموال والاوقاف، كالجامع وغيره، ثم جاء مرسوم بصيانة الجامع وتوفير أوقافه وصرف ما كان يؤخذ بخزائن السلاح وإلى الحجاز، وقرئ ذلك المرسوم بعد صلاة الجمعة بالجامع في تاسع عشر (1) جمادى الاولى، وفي ذلك اليوم توجه السلطان قازان وترك نوابه بالشام في ستين ألف مقاتل نحو بلاد العراق، وجاء كتابه إنا قد تركنا نوابنا بالشام في ستين ألف مقاتل، وفي عزمنا العود إليها في زمن الخريف، والدخول إلى الديار المصرية وفتحها، وقد أعجزتهم القلعة أن يصلوا إلى حجر منها، وخرج سيف الدين قبجق لتوديع قطلوشاه نائب قازان وسار وراءه وضربت البشائر بالقلعة فرحا لرحيلهم، ولم تفتح القلعة، وأرسل أرجواش ثاني يوم من خروج قبجق القلعية إلى الجامع فكسروا أخشاب المنجنيقات المنصوبة به، وعادوا إلى القلعة سريعا سالمين، واستصحبوا معهم جماعة ممن كانوا يلوذون بالتتر قهرا إلى القلعة، منهم الشريف القمي، وهو شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم المرتضي العلوي، وجاءت الرسل من قبجق إلى دمشق فنادوا بها طيبوا أنفسكم وافتحوا دكاكينكم وتهيئوا غدا لتلقي سلطان الشام سيف الدين قبجق، فخرج الناس إلى أماكنهم فأشرفوا عليها فرأوا ما بها من الفساد والدمار، وانفك رؤساء البلد من التراسيم بعد ما ذاقوا شيئا كثيرا.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: ذكر لي الشيخ وجيه الدين بن المنجا أنه حمل إلى خزانة قازان
__________
(1) في السلوك 1 / 895: ثاني عشر (انظر بدائع الزهور 1 / 1 / 404).

(14/11)


ثلاثة آلاف ألف وستمائه ألف درهم، سوى ما تمحق من التراسيم والبراطيل وما أخذ غيره من الامراء والوزراء، وأن شيخ المشايخ حصل له نحو من ستمائة ألف درهم، والاصيل بن النصير
الطوسي مائة ألف (1)، والصفي السخاوي (2) ثمانون ألفا، وعاد سيف الدين قبجق إلى دمشق يوم الخميس بعد الظهر خامس عشرين جمادى الاولى ومعه الالبكي وجماعة، وبين يديه السيوف مسللة وعلى رأسه عصابة فنزل بالقصر ونودي بالبلد نائبكم قبجق قد جاء فافتحوا دكاكينكم واعملوا معاشكم ولا يغرر أحد بنفسه هذا الزمان والاسعار في غاية الغلاء والقلة، قد بلغت الغرارة إلى أربعمائة، واللحم بنحو العشرة، والخبز كل رطل بدرهمين ونصف، والعشرة الدقيق بنحو الاربعين، والجبن الاوقية بدرهم، والبيض كل خمسة بدرهم، ثم فرج عنهم في أواخر الشهر، ولما كان في أواخر الشهر نادى قبجق بالبلد أن يخرج الناس إلى قراهم وأمر جماعة وانضاف إليه خلق من الاجناد، وكثرت الاراجيف على بابه، وعظم شأنه ودقت البشائر بالقلعة وعلى باب باب قبجق يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة، وركب قبجق بالعصائب في البلد والشاويشية بين يديه، وجهز نحوا من ألف فارس نحو خربة اللصوص، ومشى مشي الملوك في الولايات وتأمير الامراء والمراسيم العالية النافذة، وصار كما قال الشاعر: يالك من قنبرة بمعمري * خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري ثم إنه ضمن الخمارات ومواضع الزنا من الحانات وغيرها، وجعلت دار ابن جرادة خارج من باب توما خمارة وحانة أيضا، وصار له على ذلك في كل يوم ألف درهم، وهي التي دمرته ومحقت آثاره وأخذ أموالا أخر من أوقاف المدارس وغيرها، ورجع بولاي من جهة الاغوار وقد عاث في الارض فسادا، ونهب البلاد وخرب ومعه طائفة من التتر كثيرة، وقد خربوا قرى كثيرة، وقتلوا من أهلها وسبواخلقا من أطفالها، وجبى لبولاي من دمشق أيضا جباية أخرى، وخرج طائفة من القلعة فقتلوا طائفة من التتر ونهبوهم، وقتل جماعة من المسلمين في غبون ذلك، وأخذوا طائفة ممن كان يلوذ بالتتر ورسم قبجق لخطيب البلد وجماعة من الاعيان أن يدخلوا القلعة فيتكلموا مع نائبها في المصالحة فدخلوا عليه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة، فكلموه وبالغوا معه فلم يجب إلى ذلك وقد أجاد وأحسن وأرجل في ذلك بيض الله وجهه.
وفي ثامن رجب طلب قبجق القضاة والاعيان فحلفهم على المناصحة للدولة المحمودية - يعني قازان - فحلفوا له، وفي هذا اليوم خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مخيم بولاي فاجتمع به في
__________
(1) في السلوك 1 / 894: مائتي ألف درهم.
__________
(2) في السلوك 1 / 894: السنجاري، وأخذ مائة ألف درهم.

(14/12)


فكاك من كان معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيرا منهم من أيديهم، وأقام عنده ثلاثة أيام ثم عاد، ثم راح إليه جماعة من أعيان دمشق ثم عا دوا من عنده فشلحوا عند باب شرقي وأخذ ثيابهم وعمائمهم ورجعوا في شر حالة، ثم بعث في طلبهم فاختفى أكثرهم وتغيبوا عنه، ونودي بالجامع بعد الصلاة ثالث رجب من جهة نائب القلعة بأن العساكر المصرية قادمة إلى الشام، وفي عشية يوم السبت رحل بولاي وأصحابه من التتر وانشمروا عن دمشق وقد أراح الله منهم وساروا من على عقبة دمر فعاثوا في تلك النواحي فسادا، ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم أحد، وقد أزاح الله عز وجل شرهم عن العباد والبلاد، ونادى قبجق في الناس قد أمنت الطرقات ولم يبق بالشام من التتر أحد، وصلى قبجق يوم الجمعة عاشر رجب بالمقصورة، ومعه جماعة عليهم لامة الحرب من السيوف والقسي والتراكيش فيها النشاب، وأمنت البلاد، وخرج الناس للفرجة في غيض السفرجل على عادتهم فعاثت عليهم طائفة من التتر، فلما رأوهم رجعوا إلى البلد هاربين مسرعين، ونهب بعض الناس بعضا ومنهم من ألقى نفسه في النهر، وإنما كانت هذه ا الطائفة مجتازين ليس لهم قرار، وتقلق قبجق من البلد ثم إنه خرج منها في جماعة من رؤسائها وأعيانها منهم عز الدين ين القلانسي ليتلقوا الجيش المصري وذلك أن جيش مصر خرج إلى الشام في تاسع رجب وجاءت البريدية بذلك، وبقي البلد ليس به أحد، ونادى أرجواش في البلد احفظوا الاسوار وأخرجوا ما كان عندكم من الاسلحة ولا تهملوا الاسوار والابواب، ولا يبيتن أحد إلا على السور، ومن بات في داره شنق، فاجتمع الناس على الاسوار لحفظ البلاد، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يدور كل ليلة على الاسوار يحرض الناس على الصبر والقتال ويتلو عليهم آيات
الجهاد والرباط.
وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبة بدمشق لصاحب مصر ففرح الناس بذلك، وكان يخطب لقازان بدمشق وغيرها من بلاد الشام مائة يوم سواء.
وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف (1) وأراقوا الخمور، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش، ففرح الناس بذلك، ونودي يوم السبت ثامن عشر رجب بأن تزين البلد لقدوم العساكر المصرية، وفتح باب الفرج مضافا إلى باب النصر يوم الاحد تاسع عشر رجب، ففرح الناس بذلك وانفرجوا لانهم لم يكونوا يدخلون إلا من باب النصر،، وقدم الجيش الشامي صحبة نائب دمشق جمال الدين آقوش الافرم يوم السبت عاشر شعبان، وثاني يوم دخل بقية العساكر وفيهم الاميران شمس الدين قراسنقر المنصوري وسيف الدين قطلبك في تجمل، وفي هذا اليوم فتح باب العريش، وفيه درس القاضي جلال الدين القزويني بالامينية عوضا عن أخيه قاضي
__________
(1) الظروف، جمع ظرف، وهو الوعاء وكل ما يستقر فيه غيره (محيط المحيط).

(14/13)


القضاء إمام الدين توفي بمصر، وفي يوم الاثنين والثلاثاء والاربعاء تكامل دخول العساكر صحبة نائب مصر سيف الدين سلار، وفي خدمته الملك العادل كتبغا، وسيف الدين الطراخي في تجمل باهر، ونزلوا في المرج، وكان السلطان قد خرج عازما على المجئ فوصل إلى الصالحية ثم عاد إلى مصر.
وفي يوم الخميس النصف من شعبان أعيد القاضي بدر الدين بن جماعة إلى قضاء القضاة بدمشق مع الخطابة بعد إمام الدين، ولبس معه في هذا اليوم أمين الدين العجمي خلعة الحسبة، وفي يوم سابع عشره لبس خلعة نظر الدواوين تاج الدين الشيرازي عوضا عن فخر الدين بن الشيرجي، ولبس أقبجاشد الدواوين في باب الوزير شمس الدين سنقر الاعسر، وباشر الامير عز الدين أيبك الدويدار النجيبي ولاية البر، بعد ما جعل من أمراء الطبلخانة، ودرس الشيخ كمال
الدين بن الزملكاني بأم الصالح عوضا عن جلال الدين القزويني يوم الاحد الحادي والعشرين من شعبان، وفي هذا اليوم ولي قضاء الحنفية شمس الدين بن الصفي الحريري عوضا عن حسام الدين الرومي، فقد يوم المعركة في ثاني رمضان، ورفعت الستائر عن القلعة في ثالث رمضان.
وفي مستهل رمضان جلس الامير سيف الدين سلار بدار العدل في الميدان الاخضر وعنده القضاة والامراء يوم السبت، وفي السبت الآخر خلع على عز الدين القلانسي خلعة سنية وجعل ولده عماد الدين شاهدا في الخزانة.
وفي هذا اليوم رجع سلار بالعساكر إلى مصر وانصرفت العساكر الشامية إلى مواضعها وبلدانها.
وفي يوم الاثنين عاشر رمضان درس علي بن الصفي بن أبي القاسم البصراوي الحنفي بالمدينة المقدمية.
وفي شوال فيها عرفت جماعة ممن كان يلوذ بالتتر ويؤذي المسلمين، وشنق منهم طائفة وسمر آخرون وكحل بعضهم وقطعت ألسن وجرت أمور كثيرة.
وفي منتصف شوال درس بالدولعية قاضي القضاة جمال الدين الزرعي نائب الحكم عوضا عن جمال الدين بن الباجريقي، وفي يوم الجمعة العشرين منه ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الافرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية، بسبب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر وهربوا حين اجتازوا ببلادهم، وثبوا عليهم ونهبوهم وأخذوا أسلحتهم وخيولهم، وقتلوا كثيرا منهم، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستتابهم وبين للكثير منهم الصواب وحصل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالا كثيرة يحملونها إلى بيت المال، وأقطعت أراضيهم وضياعهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون أحكام الملة، ولا يديدون دين الحق، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، وعاد نائب السلطنة يوم الاحد ثالث عشر

(14/14)


ذي القعدة وتلقاه الناس بالشموع إلى طريق بعلبك وسط النهار.
وفي يوم الاربعاء سادس عشره
نودي في البلد أن يعلق الناس الاسلحة بالدكاكين، وأن يتعلم الناس الرمي فعملت الاماجات في أماكن كثيرة من البلد، وعلقت الاسلحة بالاسواق، ورسم قاضي القضاة بعمل الاماجات في المدارس، وأن يتعلم الفقهاء الرمي ويستعدوا لقتال العدو إن حضر، وبالله المستعان.
وفي الحادي والعشرين من ذي القعدة استعرض نائب السلطنة أهل الاسواق بين يديه وجعل على كل سوق مقدما وحوله أهل سوقه، وفي الخميس رابع عشرينه عرضت الاشراف مع نقيبهم نظام الملك الحسيني بالعدد والتجمل الحسن، وكان يوما مشهودا، ومما كان من الحوادث في هذه السنة أن جدد إمام راتب عند رأس قبر زكريا، وهو الفقيه شرف الدين أبو بكر الحموي، وحضر عنده يوم عاشوراء القاضي إمام الدين الشافعي، وحسام الدين الحنفي وجماعة، ولم تطل مدته إلا شهورا ثم عاد الحموي إلى بلده وبطلت هذه الوظيفة إلى الآن ولله الحمد.
وممن توفي فيها من الاعيان: القاضي حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن القاضي تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن الحسن أنو شروان الرازي الحنفي، ولي قضاء ملطية مدة عشرين سنة، ثم قدم دمشق فوليها مدة، ثم انتقل إلى مصر فوليها مدة، وولده جلال الدين بالشام ثم صار إلى الشام فعاد إلى الحكم بها، ثم لما خرج الجيش إلى لقاء قازان بوادي الخزندار عند وادي سلمية خرج معهم فقد من الصف ولم يدر ما خبره، وقد قارب السبعين، وكان فاضلا بارعا رئيسا، له نظم حسن، ومولده بإقسيس (1) من بلاد الروم في المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة فقد يوم الاربعاء الرابع والعشرين (2) من ربيع الاول منها، وقد قتل يومئذ عدة من مشاهير الامراء ثم ولي بعده القضاء شمس الدين الحريري (3).
القاضي الامام العالي إمام الدين أبو المعالي عمر بن القاضي سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن الشيخ إمام الدين أبي حفص عمر بن أحمد بن محمد القزويني الشافعي، قدم دمشق هو وأخوه جلال الدين
__________
(1) في تذكرة النبيه 1 / 227: أقسرا، وقيل: قصرا، وهي من بلاد الروم بينهما وبين قونية ثلاث مراحل (تقويم
البلدان ص 382).
__________
(2) في السلوك 1 / 906: السابع عشري ربيع الاول.
__________
(3) وهو محمد بن عثمان بن أبي الحسن الحنفي الانصاري، وقد تولى قضاء القضاة في شعبان، وكانت وفاته سنة 72 ه.

(14/15)


فقررا في مدارس، ثم انتزع إمام الدين قضاء القضاة بدمشق من بدر الدين بن جماعة كما تقدم في سنة سبع وسبعين، وناب عنه أخوه، وكان جميل الاخلاق كثير الاحسان رئيسا، قليل الاذى، ولما أزف قدوم التتار سافر إلى مصر، فلما وصل إليها لم يقم بها سوى أسبوع وتوفي ودفن بالقرب من قبة الشافعي عن ست وأربعين سنة، وصار المنصب إلى بدر الدين بن جماعة، مضافا إلى ما بيده من الخطابة وغيرها، ودرس أخوه بعده بالامينية.
المسند المعمر الرحلة شرف الدين أحمد بن هبة الله بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسن بن عساكر الدمشقي، وله سنة أربع عشرة وستمائة، وسمع الحديث وروى، توفي خامس عشر (1) جمادى الاولى عن خمس وثمانين سنة.
الخطيب الامام العالم موفق الدين أبو المعالي محمد بن محمد بن الفضل النهرواني القضاعي الحموي، خطيب حماة، ثم خطب بدمشق عوضا عن الفاروثي، ودرس بالغزالية ثم عزل بابن جماعة، وعاد إلى بلده، ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها.
الصدر شمس الدين محمد بن سليمان (2) بن حمايل بن علي المقدسي المعروف بابن غانم، وكان من أعيان الناس وأكثرهم مرؤة، ودرس بالعصرونية (3)، توفي وقد جاوز الثمانين كان من الكتاب المشهورين المشكورين، وهو والد الصدر علاء الدين بن غانم:
الشيخ جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن عمر بن عثمان الباجريقي (4) الشافعي، أقام مدة بالموصل يشتغل ويفتي،
__________
(1) في شذرات الذهب 5 / 445: في الخامس والعشرين من أحد الجمادين.
__________
(2) كذا بالاصل، والسلوك 1 / 906 وفي تاريخ الاسلام للذهبي (سلمان).
__________
(3) المدرسة العصرونية بدمشق أنشأها فقيه الشام شرف الدين أبو سعيد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون (الدارس 1 / 391).
__________
(4) الباجريقي نسبة إلى بلدة باجريق قرية شمال العراق بين البقعاء ونصيبين (معجم البلدان).

(14/16)


ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها، وكان قد أقام بها مدة كذلك، ودرس بالقليجية والدولعية، وناب في الخطابة ودرس بالغزالية نيابة عن الشمس الايكي، وكان قليل الكلام مجموعا عن الناس، وهو والد الشمس محمد المنسوب إلى الزندقة والانحلال، وله أتباع ينسبون إلى ما ينسب إليه، ويعكفون على ما كان يعكف عليه، وقد حدث جمال الدين المذكور بجامع الاصول عن بعض أصحاب مصنفات ابن الاثير، وله نظم ونثر حسن، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة سبعمائة من الهجرة النبوية
استهلت والخليفة والسلطان ونواب البلاد والحكام بها هم المذكورون في التي قبلها، غير الشافعي والحنفي، ولما كان ثالث المحرم جلس المستخرج لاستخلاص أجرة أربعة أشهر عن جميع أملاك الناس وأوقافهم بدمشق، فهرب أكثر الناس من البلد، وجرت خبطة قوية وشق ذلك على الناس جدا.
وفي مستهل صفر وردت أخبار بقصد التتر بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر، فانزعج الناس لذلك وازدادوا ضعفا على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكرك والشوبك والحصون المنيعة، فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة وبيع الجمل بألف والحمار بخمسمائة، وبيعت الامتعة والثياب والغلات بأرخص الاثمان، وجلس
الشيخ تقي الدين بن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والاحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الاسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الاموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيرا، وأوجب جهاد التتر حتما في هذه الكرة، وتابع المجالس في ذلك، ونودي في البلاد لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة فتوقف الناس عن السير وسكن جأشهم، وتحدث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر ودقت البشائر لخروجه، لكن كان قد خرج جماعة من بيوتات دمشق كبيت ابن صصرى وبيت ابن فضل الله وابن منجا وابن سويد وابن الزملكاني وابن جماعة.
وفي أول ربيع الآخر قوي الارجاف بأمر التتر، وجاء الخبر بأنهم قد وصلوا إلى البيرة ونودي في البلد أن تخرج العامة من العسكر، وجاء مرسوم النائب من المرج بذلك، فاستعرضوا في أثناء الشهر فعرض نحو خمسة آلاف من العامة بالعدة والاسلحة على قدر طاقتهم، وقنت الخطيب ابن جماعة في الصلوات كلها، واتبعه أئمة المساجد، وأشاع المرجفون بأن التتر قد وصلوا إلى حلب وأن نائب حلب تقهقر إلى حماة، ونودي في البلد بتطييب قلوب الناس وإقبالهم على معايشهم، وأن السلطان والعساكر واصلة، وأبطل ديوان المستخرج وأقيموا، ولكن كانوا قد استخرجوا أكثر مما

(14/17)


أمروا به وبقيت بواقي على الناس الذين قد اختفوا فعفى عما بقي، ولم يرد ما سلف، لا جرم أن عواقب هذه الافعال خسر ونكر، وأن أصحابها لا يفلحون، ثم جاءت الاخبار بأن سلطان مصر رجع عائدا إلى مصر بعد أن خرج منها قاصدا الشام (1)، فكثر الخوف واشتد الحال، وكثرت الامطار جدا، وصار بالطرقات من الاوحال والسيول ما يحول بين المرء وبين ما يريده من الانتشار في الارض والذهاب فيها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وخرج كثير من الناس خفافا وثقالا يتحملون بأهليهم وأولادهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وجعلوا يحملون الصغار في الوحل الشديد والمشقة على الدواب والرقاب، وقد ضعفت الدواب من قلة العلف مع كثرة الامطار والزلق والبرد الشديد والجوع وقلة الشئ فلا حول ولا قوة
إلا بالله.
واستهل جمادى الاولى والناس على خطة صعبة من الخوف، وتأخر السلطان واقرب العدو، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مستهل هذا الشهر وكان يوم السبت إلى نائب الشام في المرج فثبتهم وقوى جأشهم وطيب قلوبهم ووعدهم النصر والظفر على الاعداء، وتلا قوله تعالى (ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور) [ الحج: 60 ] وبات عند العسكر ليلة الاحد ثم عاد إلى دمشق وقد سأله النائب والامراء أن يركب على البزيد ؟ إلى مصر يستحث السلطان على المجئ فساق وراء السلطان، وكان السلطان قد وصل إلى الساحل فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة وتفارط الحال، ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام إن كان لهم به حاجة، وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الامن، ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام، ثم قال لهم: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم، وقوى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكرة، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحا شديدا بعد أن كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ثم قويت الاراجيف بوصول التتر، وتحقق عود السلطان إلى مصر، ونادى ابن النحاس متولي البلد في الناس من قدر على السفر فلا يقعد بدمشق، فتصايح النساء والولدان، ورهق الناس ذلة عظيمة وخمدة، وزلزلوا زلزالا شديدا، وغلقت الاسواق وتيقنوا أن لا ناصر لهم إلا الله عز وجل، وأن نائب الشام لما كان فيه قوة مع السلطان عام أول لم يقو على التقاء جيش التتر فكيف به الآن وقد عزم على الهرب ؟ ويقولون: ما بقي أهل دمشق إلا
__________
(1) جاء في بدائع الزهور 1 / 1 / 409: قيل في سبب رجوعه - (من غزة - إلى مصر) - أن العسكر تقلب عليه هنالك، وطلبوا منه نفقة ثانية لان التبن والشعير كان لا يوجد أصلا.
(انظر السلوك 1 / 908 ومختصر أبي الفداء 4 / 45).

(14/18)


طعمة العدو، ودخل كثير من الناس إلى البراري والقفار والمغر بأهاليهم من الكبار والصغار، ونودي في الناس من كانت نيته الجهاد فليلتحق بالجيش فقد اقترب وصول التتر، ولم يبق بدمشق من أكابرها إلا القليل، وسافر ابن جماعة والحريري وابن صصرى وابن منجا، وقد سبقهم بيوتهم إلى مصر، وجاءت الاخبار بوصول التتر إلى سرقين وخرج الشيخ زين الدين الفارقي والشيخ إبراهيم الرقي وابن قوام وشرف الدين بن تيمية وابن خبارة إلى نائب السلطنة الافرم فقووا عزمه على ملاقاة العدو، واجتمعوا بمهنا أمير العرب فحضروه على قتال العدو فأجابهم بالسمع والطاعة، وقويت نياتهم على ذلك، وخرج طلب سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحرب والقتال بنيات صادقة.
ورجع الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في السابع والعشرين من جمادى الاولى على البريد، وأقام بقلعة مصر ثمانية أيام يحثهم على الجهاد والخروج إلى العدو، وقد اجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة فأجابوه إلى الخروج، وقد غلت الاسعار بدمشق جدا، حتى بيع خاروفان بخمسمائة درهم، واشتد الحال، ثم جاءت الاخبار بأن ملك التتار قد خاض الفرات راجعا عامه ذلك لضعف جيشه وقلة عددهم، فطابت النفوس لذلك وسكن الناس، وعادوا إلى منازلهم منشرحين آمنين مستبشرين.
ولما جاءت الاخبار بعدم وصول التتار إلى الشام في جمادى الآخرة تراجعت أنفس الناس إليهم وعاد نائب السلطنة إلى دمشق، وكان مخيما في المرج من مدة إربعه أشهر متتابعة، وهو من أعظم الرباط، وتراجع الناس إلى أوطانهم: وكان الشيخ زين الدين الفارقي قد درس بالناصرية لغيبة مدرسها كمال الدين بن الشريشي بالكرك هاربا، ثم عاد إليها في رمضان، وفي أواخر الشهر درس ابن الزكي بالدولعية عوضا عن جمال الدين الزرعي لغيبته.
وفي يوم الاثنين قرئت شروط الذمة على أهل الذمة وألزم بها واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات، وأخذوا بالصغار، ونودي بذلك في البلد وألزم النصارى بالعمائم الزرق، واليهود بالصفر، والسامرة (1) بالحمر، فحصل بذلك خير كثير وتميزوا عن المسلمين، وفي عاشر رمضان جاء المرسوم بالمشاركة بين أرجواش والامير سيف الدين أقبجا في نيابة القلعة، وأن يركب كل
واحد منهما يوما، ويكون الآخر بالقلعة يوما، فامتنع أرجواش من ذلك.
وفي شوال درس بالاقبالية الشيخ شهاب الدين بن المجد عوضا عن علاء الدين القونوي بحكم إقامته بالقاهرة، وفي يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة عزل شمس الدين بن الحريري عن قضاء الحنفية بالقاضي جلال الدين بن حسام الدين على قاعدته وقاعدة أبيه، وذلك باتفاق من الوزير شمس الدين سنقر الاعسر ونائب السلطان الافرم.
وفيها وصلت رسل ملك
__________
(1) السامرة أو السمرة طائفة من اليهود، وهم أتباع السامري الذي أخبر الله تعالى عنه بقوله: (واضلهم السامري) انظر صبح الاعشى 13 / 268 المواعظ والاعتبار 2 / 472.

(14/19)


التتار إلى دمشق (1)، فأنزلوا بالقلعة ثم ساروا إلى مصر.
وممن توفي فيها من الاعيان.
الشيخ حسن الكردي المقيم بالشاغور في بستان له يأكل من غلته ويطعم من ورد عليه، وكان يزار، فلما احتضر اغتسل وأخذ من شعره واستقبل القبلة وركع ركعات، ثم توفي رحمه الله يوم الاثنين الرابع من جمادى الاولى، وقد جاوز المائة سنة.
الطواشي صفي الدين جوهر التفليسي المحدث، اعتنى بسماع الحديث وتحصيل الاجزاء وكان حسن الخلق صالحا لين الجانب رجلا حاميا زكيا، ووقف أجزاءه التي ملكها على المحدثين.
الامير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء بن محمد الهيدباني (2) الاربلي متولي دمشق، كان له فضائل كثيرة في التواريخ والشعر وربما جمع شيئا في ذلك، وكان يسكن بدرب سعور فعرف به، فيقال درب ابن أبي الهيجاء، وهو أول منزل نزلناه حين قدمنا دمشق في سنة ست وسبعمائة، ختم الله لي بخير في عافية آمين، توفي ابن أبي الهيجاء في طريق مصر وله ثمانون سنة، وكان مشكورا السيرة حسن
المحاصرة.
الامير جمال الدين آقوش الشريفي والي الولاة بالبلاد القبلية، توفي في شوال وكانت له هيبة وسطوة وحرمة.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والامير سيف الدين سلار بالشام، ونائب دمشق الافرم، وفي أولها عزل الامير قطلبك عن نيابة البلاد الساحلية وتولاها الامير سيف الدين
__________
(1) وكان وصولهم إلى دمشق يوم الثلاثاء ثالث عشري ذي القعدة، وهم نحو عشرين رجلا، حمل منهم ثلاثة إلى مصر في ثامن عشرية (انظر السلوك 1 / 910).
__________
(2) في السلوك 1 / 918: الهمذاني.

(14/20)


استدمر، وعزل عن وزار مصر شمس الدين الاعسر، وتولى سيف الدين أقجبا المنصوري نيابة غزة، وجعل عوضه بالقلعة الامير سيف الدين بها در السيجري، وهو من الرحبة، وفي صفر (1) رجعت رسل ملك التتر من مصر إلى دمشق فتلقاهم نائب السلطنة والجيش والعامة في نصف صفر ولي تدريس النور ية الشيخ صدر الدين علي البصراوي الحنفي عوضا عن الشيخ ولي الدين السمرقندي وإنما كان وليها ستة أيام ودرس بها أربعة دروس بعد بني الصدر سليمان، توفي وكان من كبار الصالحين، يصلي كل يوم مائة ركعة، وفي يوم الاربعاء تاسع عشر ربيع الاول جلس قاضي القضاة وخطيب الخطباء بدر الدين بن جماعة بالخانقاه الشمساطية شيخ الشيوخ بها عن طلب الصوفية له بذلك، ورغبتهم فيه، وذلك بعد وفاة الشيخ يوسف بن حمويه الحموي، وفرحت الصوفية به وجلسوا حوله، ولم تجتمع هذه المناصب لغيره قبله، ولا بلغنا أنها اجتمعت إلى أحد بعده إلى زماننا هذا: القضاء والخطابة ومشيخة الشيوخ.
وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الاول قتل الفتح أحمد بن الثقفي (2) بالديار المصرية، حكم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثبت عنده من تنقيصه للشريعة واستهزائه بالآيات المحكمات،
ومعارضة المشتبهات بعضها ببعض، يذكر عنه أنه كان يحل المحرمات من اللواط والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتمع فيه من الفسقة من الترك وغيرهم من الجهلة، هذا وقد كان له اشتغال وهيئة جميلة في الظاهر، وبزته ولبسته جيدة، ولما أوقف عند شباك دار الحديث الكاملية بين القصرين استغاث بالقاضي تقي الدين بن دقيق العيد فقال: ما تعرف مني ؟ فقال: أعرف منك الفضيلة، ولكن حكمك إلى القاضي زين الدين، فأمر القاضي للوالي أن يضرب عنقه، فضرب عنقه وطيف برأسه في البلد، ونودي عليه هذا جزاء من طعن في الله ورسوله.
قال البر زالي في تاريخه: وفي وسط شهر ربيع الاول ورد كتاب من بلاد حماة من جهة قاضيها يخبر فيه أنه وقع في هذه الايام ببارين من عمل حماة برد كبار على صور الحيوانات مختلفة شتى، سباع وحيات وعقارب وطيور ومعز ونساء، ورجال في أوساطهم حوائص، وأن ذلك ثبت بمحضر عند قاضي الناحية، ثم نقل ثبوته إلى قاضي حماة.
وفي يوم الثلاثاء عاشر ربيع الآخر شنق الشيخ علي الحوير الي بواب الظاهرية على بابها، وذلك أنه اعترف بقتل الشيخ زين الدين السمرقندي.
وفي النصف منه حضر القاضي بدر الدين بن جماعة تدريس الناصرية الجوانية عوضا عن كمال الدين بن الشريشي، وذلك أنه ثبت محضر أنها لقاضي الشافعية بدمشق، فانتزعها من يد ابن الشريشي.
وفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادى الاولى قدم الصدر علاء الدين بن شرف الدين بن
__________
(1) في السلوك 1 / 918: في المحرم عادت رسل غازان مع رسل السلطان بجوابه، وانظر نسخة كتاب ملك التتار إلى السلطان وجوابه عليه في السلوك ملحق رقم 14 (1 / 1016).
__________
(2) في السلوك 1 / 923: البققي، وانظر تفاصيل هذه القضية فيه صفحة 925.

(14/21)


القلانسي على أهله من التتر بعد أسر سنتين وأياما وقد حبس مدة ثم لطف الله به وتلطف حتى تخلص منهم ورجع إلى أهله، ففرحوا به.
وفي سادس جمادى الآخرة قدم البريد من القاهرة وأخبر بوفاة أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، وأن ولده ولي الخلافة من بعده، وهو أبو الربيع سليمان، ولقب بالمستكفي بالله،
وأنه حضر جنازته الناس كلهم مشاة، ودفن بالقرب من الست نفيسة، وله أربعون سنة في الخلافة، وقدم مع البريد تقليد بالقضاء لشمس الدين الحريري الحنفي، ونظر الدواوين لشرف الدين بن مزهر، واستمرت الخاتونية الجوانية بيد القاضي جلال الدين بن حسام الدين بإذن نائب السلطنة.
وفي يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة خطب للخليفة المستكفي بالله وترحم على والده بجامع دمشق وأعيدت الناصرية إلى ابن الشريشي وعزل عنها ابن جماعة ودرس بها يوم الاربعاء الرابع عشر من جمادى الآخرة وفي شوال قدم إلى الشام جراد عظيم أكل الزرع والثمار وجرد الاشجار حتى صارت مثل العصي، ولم يعهد مثل هذا، وفي هذا الشهر عقد مجلس لليهود الخيابرة وألزموا بأداء الجزية أسوة أمثالهم من اليهود، فأحضروا كتابا معهم يزعمون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجزية عنهم، فلما وقف عليه الفقهاء تبينوا أنه مكذوب مفتعل لما فيه من الالفاظ الركيكة، والتواريخ المحبطة، واللحن الفاحش، وحاققهم عليه شيخ الاسلام ابن تيمية، وبين لهم خطأهم وكذبهم، وأنه مزور مكذوب، فأنابوا إلى أداء الجزية، وخافوا من أن تستعاد منهم الشؤون الماضية.
قلت: وقد وقفت أنا على هذا الكتاب فرأيت فيها شهادة سعد بن معاذ عام خيبر، وقد توفي سعد قبل ذلك بنحو من سنتين، وفيه: وكتب علي بن أبي طالب وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين علي، لان علم النحو إنما أسند إليه من طريق أبي الاسود الدؤلي عنه، وقد جمعت فيه جزءا مفردا، وذكرت ما جرى فيه أيام القاضي الماوردي، وكتاب أصحابنا في ذلك العصر، وقد ذكره في الحاوي وصاحب الشامل في كتابه وغير واحد، وبينها ؟ خطأه ولله الحمد والمنة.
وفي هذا الشهر ثار جماعة من الحسدة على الشيخ تقي الدين بن تيمية وشكوا منه أنه يقيم الحدود ويعزر ويحلق رؤوس الصبيان، وتكلم هو أيضا فيمن يشكو منه ذلك، وبين خطأهم، ثم سكنت الامور.
وفي ذي القعدة ضربت البشائر بقلعة دمشق أياما بسبب فتح أماكن من بلاد سيس عنوة، ففتحها المسلمون ولله الحمد.
وفيه قدم عز الدين بن ميسر على نظر الدواوين عوضا عن ابن مزهر.
وفي يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة حضر عبد السيد بن المهذب ديان اليهود إلى دار العدل
ومعه أولاده فأسلموا كلهم، فأكرمهم نائب السلطنة وأمر أن يركب بخلعة وخلفه الدبادب تضرب والبوقات إلى داره، وعمل ليلتئذ ختمة عظمية حضرها القضاة والعلماء، وأسلم على يديه جماعة كبيرة من اليهود، وخرجوا يوم العيد كلهم يكبرون مع المسلمين، وأكرمهم الناس إكراما زائدا.

(14/22)


وقدمت رسل ملك التتار في سابع عشر ذي الحجة فنزلوا بالقلعة وسافروا إلى القاهرة بعد ثلاثة أيام (1) وبعد مسيرهم بيومين مات أرجواس، وبعد موته بيومين قدم الجيش من بلاد سيس وقد فتحوا جانبا منها، فخرج نائب السلطنة والجيش لتلقيهم، وخرج الناس للفرجة على العادة، وفرحوا بقدومهم ونصرهم.
وممن توفي فيها من الاعيان: أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن المسترشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي المصري، بويع بالخلافة بالدولة الظاهر ية في أول سنة إحدى وستين وستمائة، فاستكمل أربعين سنة (2) في الخلافة، وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الاولى، وصلي عليه وقت صلاة العصر بسوق الخيل، وحضر جنازته الاعيان والدولة كلهم مشاة.
وكان قد عهد بالخلافة إلى ولده المذكور أبي الربيع سليمان.
خلافة المستكفي بالله أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله العباسي لما عهد إليه كتب تقليده وقرئ بحضرة السلطان والدولة يوم الاحد العشرين من ذى الحجة (3) من هذه السنة، وخطب له على المنابر بالبلاد المصرية والشامية، وسارت بذلك البريدية إلى جميع البلاد الاسلامية.
وتوفي فيها: الامير عز الدين أيبك بن عبد الله النجيبي الدويدار والي دمشق، وأحد أمراء الطبلخانة بها، وكان مشكور
السيرة، ولم تطل مدته، ودفن بقاسيون، توفي يوم الثلاثاء سادس عشر ربيع الاول.
__________
(1) تقدم أن قدومهم إلى دمشق كان في أواخر سنة 700 ه انظر حاشية رقم 1 صفحة 20 - 21.
__________
(2) في بدائع الزهور 1 / 410: نيفا وأربعين، وفي تذكرة النبيه 1 / 240: أربعين سنة وشهورا.
__________
(3) كذا بالاصل، والسلوك للمقريز وهو خطأ واضح، والصواب " جمادى الاولى " وهو ما تشير إليه التفاصيل السابقة.

(14/23)


الشيخ الامام العالم شرف الدين أبو الحسن (1) علي بن الشيخ الامام العالم العلامة الحافظ الفقيه تقي الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ أبي الحسن (2) أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد اليونيني البعلبكي وكان أكبر من أخيه الشيخ قطب الدين ابن الشيخ الفقيه، ولد شرف الدين سنة إحدى وعشرين وستمائة فأسمعه أبوه الكثير، واشتغل وتفقه، وكان عابدا عاملا كثير الخشوع، دخل عليه إنسان وهو بخزانة الكتب فجعل يضربه بعصا في رأسه ثم بسكين فبقي متمرضا أياما، ثم توفي إلى رحمة الله يوم الخميس حادي عشر رمضان ببعلبك، ودفن بباب بطحا، وتأسف الناس عليه لعلمه وعمله وحفظه الاحاديث وتودده إلى الناس وتواضعه وحسن سمته ومرؤته تغمده الله برحمته.
الصدر ضياء الدين أحمد بن الحسين ابن شيخ السلامية، والد القاضي قطب الدين موسى الذي تولى فيما بعد نظر الجيش بالشام وبمصر أيضا، توفي يوم الثلاثاء عشرين ذي القعدة ودفن بقاسيون، وعمل عزاؤه بالرواحية.
الامير الكبير المرابط المجاهد علم الدين أرجواش بن عبد الله المنصوري، نائب القلعة بالشام، كان ذا هيبة وهمة وشهامة وقصد صالح، قدر الله على يديه حفظ معقل المسلمين لما ملكت التتار الشام أيام قازان، وعصت عليهم القلعة ومنعها الله منهم على يدي هذا الرجل، فإنه التزم أن لا يسلمها إليهم ما دام
بها عين تطرف واقتدت بها بقية القلاع الشامية، وكانت وفاته بالقلعة ليلة السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة وأخرج منها ضحوة يوم السبت فصلي عليه وحضر نائب السلطنة فمن دونه جنازته، ثم حمل إلى سفح قاسيون ودفن بتربته رحمه الله.
الابرقوهي المسند المعمر المصري هو الشيخ الجليل المسند الرحلة، بقية السلف شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن إسحاق بن محمد بن المؤيد بن علي بن إسماعيل بن أبي طالب، الابرقوهي الهمداني ثم المصري، ولد بأبرقوه (2) من بلاد شيراز في رجب أو شعبان سنة خمس عشرة وستمائة، وسمع الكثير من الحديث
__________
(1) في السلوك 1 / 924 وتذكرة النبيه 1 / 224: أبو الحسين.
__________
(2) أبرقوه: بلد مشهور بأرض فارس بنواحي أصبهان (معجم البلدان - وتقويم البلدان الفداء ص 324).

(14/24)


على المشايخ الكثيرين، وخرجت له مشيخات، وكان شيخا حسنا لطيفا مطيقا، توفي بمكة بعد خروج الحجيج بأربعة أيام رحمه الله.
وفيها توفي: صاحب مكة الشريف أبو نمى محمد بن الامير أبي سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني صاحب مكة منذ أربعين سنة، وكان حليما وقورا ذا رأي وسياسة وعقل ومرؤة.
وفيها ولد كاتبه إسماعيل بن عمر ابن كثير القرشي المصري الشافعي عفا الله عنه، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعمائة من الهجرة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي يوم الاربعاء ثاني (1) صفر فتحت جزيرة أرواد بالقرب من أنطرسوس، وكانت من أضر الاماكن على أهل السواحل، فجاءتها المراكب من الديار المصرية في البحر وأردفها جيوش طرابلس، ففتحت ولله الحمد نصف النهار، وقتلوا من أهلها قريبا من ألفين، وأسروا قريبا من خمسمائة، وكان فتحها من تمام فتح السواحل، وأراح الله المسلمين من شر أهلها.
وفي يوم الخميس السابع عشر من شهر صفر وصل البريد إلى دمشق فأخبر
بوفاة قاضي القضاة ابن دقيق العيد، ومعه كتاب من السلطان إلى قاضي القضاة ابن جماعة، فيه تعظيم له واحترام وإكرام يستدعيه إلى قربه ليباشر وظيفة القضاء بمصر على عادته فتهيأ لذلك، ولما خرج خرج معه نائب السلطنة الافرم وأهل الحل والعقد، وأعيان الناس ليودعوه، وستأتي ترجمة ابن دقيق العيد في الوفيات، ولما وصل ابن جماعة إلى مصر أكرمه السلطان إكراما زائدا، وخلع عليه خلعة صوف وبغلة تساوي ثلاثة آلاف درهم، وباشر الحكم بمصر يوم السبت رابع ربيع الاول، ووصلت رسل التتار في أواخر ربيع الاول (2) قاصدين بلاد مصر، وباشر شرف الدين الفزاري مشيخة دار الحديث الظاهرية يوم الخميس ثامن ربيع الآخر عوضا عن شرف الدين الناسخ، وهو أبو حفص عمر بن محمد بن حسن بن خواجا إمام الفارسي، توفي بها عن سبعين سنة، وكان فيه بر ومعروف وأخلاق حسنة، رحمه الله.
وذكر الشيخ شرف الدين المذكور درسا مفيدا وحضر عنده جماعة من الاعيان، وفي يوم الجمعة حادي عشر جمادى الاولى خلع على قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بقضاء الشام عوضا عن ابن جماعة، وعلى الفارقي بالخطابة، وعلى الامير ركن الدين بيبرس العلاوي (3) بشد
__________
(1) في مختصر أبي الفداء 4 / 47: في المحرم، وفي السلوك 1 / 929: ثامن عشر صفر.
__________
(2) في السلوك 1 / 927: في ثامن المحرم قدمت رسل غازان بكتابه فأعيدوا بالجواب.
__________
(3) في السلوك 1 / 929: التلاوي.

(14/25)


الدواوين وهنأهم الناس، وحضر نائب السلطنة والاعيان المقصورة لسماع الخطبة، وقرئ تقليد ابن صصرى بعد الصلاة ثم جلس في الشباك الكمالي وقرئ تقليده مرة ثانية، وفي جمادى الاولى وقع بيد نائب السلطنة كتاب مزور فيه أن الشيخ تقي الدين بن تيمية والقاضي شمس الدين بن الحريري وجماعة من الامراء والخواص الذين بباب السلطنة يناصحون التتر ويكاتبوهم، ويريدون تولية قبجق على الشام وأن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني يعلمهم بأحوال الامير جمال الدين الافرم، وكذلك كمال الدين بن العطار، فلما وقف عليه نائب السلطنة عرف أن هذا مفتعل،
ففحص عن واضعه فإذا هو فقير كان مجاورا بالبيت الذي كان مجاور محراب الصحابة، يقال له اليعفوري، وآخر معه يقال له أحمد الغناري، وكانا معروفين بالشر والفضول، ووجد معهما مسودة هذا الكتاب، فتحقق نائب السلطنة ذلك فعزرا تعزيرا عنيفا، ثم وسطا بعد ذلك وقطعت يد الكاتب الذي كتب لهما هذا الكتاب، وهو التاج المناديلي.
وفي أواخر جمادى الاولى انتقل الامير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصوري إلى نيابة القلعة عوضا عن أرجواش.
عجيبة من عجائب البحر قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه: قرأت في بعض الكتب الواردة من القاهرة أنه لما كان بتاريخ يوم الخميس رابع جمادى الآخرة ظهرت دابة من البحر عجيبة الخلقة من بحر النيل إلى أرض المنوفية، بين بلاد منية مسعود واصطباري والراهب، وهذه صفتها: لونها لون الجاموس بلا شعر، وأذناها كأذن الجمل (1)، وعيناها وفرجها مثل الناقة، يغطي فرجها ذن ب طوله شبر ونصف [ طرفه ] (2) كذنب السمكة، ورقبتها مثل غلظ [ التليس ] (3) المحشو تبنا، وفمها وشفتاها مثل الكربال (4)، ولها أربعة أنياب اثنان فوق واثنان من أسفل، طول كل واحد دون الشبر في عرض أصبعين، وفي فمها ثمان وأربعون ضرسا وسن مثل بيادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها إلى الارض شبران ونصف ومن ركبتها إلى حافرها مثل بطن الثعبان، أصفر مجعد، ودور حافرها مثل السكرجة بأربعة أظافير مثل أظافير الجمل، وعرض ظهرها مقدار ذراعين ونصف، وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدما وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر وزفر مثل السمك، وطعمه كلحم الجمل، وغلظة أربعة أصابع ما تعمل فيه السيوف، وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله على جمل وأحضروه إلى بين يدي السلطان بالقلعة وحشوه تبنا وأقاموه بين يديه والله أعلم.
__________
(1) من السلوك 1 / 929 وفي الاصل: وآذانها كآذان الجمل.
__________
(2) من السلوك.
__________
(3) من السلوك، وفي الاصل: التنين، تصحيف.
والتليس معناه هنا الكيس الذي يستعمل لتعبئة الغلال
والاتبان، ويقال له تليسة أيضا، وفي محيط المحيط: التليس هي الخصية.
__________
(4) الكربال: مندف القطن، وما تكربل به الحنطة أيضا (محيط المحيط).

(14/26)


وفي شهر رجب قويت الاخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك واشتد خوفهم جدا، وقنت الخطيب في الصلوات وقرئ البخاري، وشرع الناس في الجفل إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخر مجئ العساكر المصرية عن إبانها فاشتد لذلك الخوف.
وفي شهر رجب باشر نجم الدين بن أبي الطيب نظر الخزانة عوضا عن أمين الدين سليمان، وفي يوم السبت ثالث شعبان باشرمشيخة الشيوخ بعد ابن جماعة القاضي ناصر الدين عبد السلام، وكان جمال الدين الزرعي يسد الوظيفة إلى هذا التاريخ.
وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة وعلى أبواب الامراء بخروج السلطان بالعساكر من مصر لمناجزة التتار المخذولين، وفي هذا اليوم بعينه كانت وقعة عرض (1) (*) وذلك أنه التقى جماعة من أمراء الاسلام فيهم استدمر وبهادر أخي (2) وكجكن وغرلو العادلي، وكل منهم سيف من سيوف الدين في ألف وخمسمائة فارس، وكان التتار في سبعة آلاف فاقتتلوا وصبر المسلمون صبرا جيدا، فنصرهم الله وخذل التتر، فقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين، وولوا عند ذلك مدبرين، وغنم المسلمون منهم غنائم، وعادوا سالمين لم يفقد منهم إلا القليل ممن أكرمه الله بالشهادة، ووقعت البطاقة بذلك، ثم قدمت الاسارى يوم الخميس نصف شعبان، وكان يوم خميس النصارى.
أوائل وقعة شقحب وفي ثامن عشر قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين فيهم الامير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والامير حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والامير سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعضهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح وأيبك الخزندار فقويت القلوب واطمأن كثير من الناس، ولكن الناس في حفل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهمهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرج
يوم الاحد خامس شعبان، ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الاراضي فسادا، وقلق الناس قلقا عظيما، وخافوا خوفا شديدا، واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وقال الناس لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، وإنما سبيلهم أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة، وتحدث الناس بالاراجيف فاجتمع الامراء يوم الاحد المذكور بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد أن لا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية
__________
(1) عرض: بلدة في برية الشام، من أعمال حلب، بين تدمر والرصافة (معجم البلدان).
وفي مختصر أبي الفداء 4 / 48 في موضع يقال له: الكوم قريبا من عرض.
__________
(2) في السلوك: 1 / 931 بهادر آص.

(14/27)


إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم في القطيعة فأعلمهم بما تحالف عليه الامراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للامراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الامراء: قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.
وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى (ومن بغى عليه لينصرنه الله) [ الحج: 6 0 ].
وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو، فإنهم يظهرون الاسلام وليسوا بغاة على الامام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه.
فقال الشيخ تقي الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالامر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد.
ولما كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكر الشامية فخيمت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاة، فصار الناس فيهم فريقين فريق يقولون إنما ساروا ليختاروا موضعا للقتال فإن المرج فيه مياه كثيرة فلا يستطيعون معها القتال، وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة ليهربوا وليلحقوا بالسلطان.
فلما كانت ليلة الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقويت ظنون الناس في هربهم، وقد وصلت التتار إلى قارة، و قيل إنهم وصلوا إلى القطيعة (1)، فانزعج الناس لذلك شديدا ولم يبق حول القرى والحواضر أحد، وامتلات القلعة والبلد وازدحمت المنازل والطرقات، واضطرب الناس وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه، فظنوا إنما خرج هاربا فحصل اللوم من بعض الناس وقالوا أنت منعتنا من الجفل وها أنت هارب من البلد ؟ فلم يرد عليهم وبقي البلد ليس فيه حاكم، وجلس اللصوص والحرافيش فيه وفي بساتين الناس يخربون وينتهبون ما قدروا عليه، ويقطعون المشمش قبل أوانه والباقلاء والقمح وسائر الخضراوات، وحيل بين الناس وبين خبر الجيش، وانقطعت الطرق إلى الكسوة وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يمينا وشمالا، وإلى ناحية الكسوة فتارة يقولون: رأينا غبرة فيخافون أن تكون من التتر، ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عدتهم وعددهم، أين ذهبوا ؟ فلا يدرون ما فعل الله بهم، فانقطعت الآمال وألح الناس في الدعاء والابتهال وفي الصلوات وفي كل حال، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من
__________
(1) في مختصر أبي الفداء 4 / 48: القطيفة.

(14/28)


شعبان، وكان الناس في خوف ورعب لا يعبر عنه، لكن كان الفرج من ذلك قريبا، ولكن أكثرهم لا يفلحون، كما جاء في حديث أبي رزين " عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب " (1).
فلما كان آخر هذا اليوم وصل الامير فخر الدين إياس المرقبي أحد أمراء دمشق، فبشر
الناس بخير، هو أن السلطان قد وصل وقت اجتمعت العساكر المصرية والشامية، وقد أرسلني أكشف هل طرق البلد أحد من التتر، فوجد الامر كما يحب لم يطرقها أحد منهم، وذلك أن التتار عرجوا من دمشق إلى ناحية العساكر المصرية، ولم يشتغلوا بالبلد، وقد قالوا إن غلبنا فإن البلد لنا، وإن غلبنا فلا حاجة لنا به، ونودي بالبلد في تطييب الخواطر، وأن السلطان قد وصل، فاطمأن الناس وسكنت قلوبهم، وأثبت الشهر ليلة الجمعة القاضي تقي الدين الحنبلي، فإن السماء كانت مغيمة فعلقت القناديل وصليت التراويح واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته، وأصبح الناس يوم الجمعة في هم شديد وخوف أكيد، لانهم لا يعلمون ما خبر الناس.
فبينما هم كذلك إذ جاء الامير سيف الدين غرلو العادلي فاجتمع بنائب القلعة ثم عاد سريعا إلى العسكر، ولم يدر أحد ما أخبر به، ووقع الناس في الاراجيف والخوض.
صفة وقعة شقحب (2) أصبح الناس يوم السبت (3) على ما كانوا عليه من الخوف وضيق الامر، فرأوا من المآذن سوادا وغبرة من ناحية العسكر والعدو، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله عز وجل بالدعاء في المساجد والبلد، وطلع النساء والصغار على الاسطحة وكشفوا رؤوسهم وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس، فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في مرج الصفر، وفيها طلب الدعاء من الناس والامر بحفظ القلعة.
والتحرز على الاسوار فدعا الناس في المآذن والبلد، وانقضى النهار وكان يوما مزعجا هائلا، وأصبح الناس يوم الاحد يتحدثون بكسر التتر، وخرج الناس إلى ناحية الكسوة فرجعوا ومعهم شئ من المكاسب، ومعهم رؤوس من رؤوس التتر، وصارت كسرة التتار تقوى وتتزايد قليلا قليلا حتى اتضحت جملة، ولكن الناس لما عندهم من شدة الخوف وكثرة التتر لا يصدقون، فلما كان بعد الظهر قرئ كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر فيه باجتماع الجيش ظهر يوم السبت
__________
(1) في هامش المطبوعة: " في سنن ابن ماجة في كتاب السنة: " ضحك ربنا الخ " والازل: شدة القنوط ".
(2) شقحب: قرية في الشمال الغربي من جبل غباغب من أعمال حوران من نواحي دمشق، معجم البلدان، وسلوك المقريزي 1 / 932).
(3) وذلك في الثاني من رمضان (مختصر أبي الفداء 4 / 48، السلو / 932 تذكرة النبيه 1 / 246)

(14/29)


بشقحب وبالكسوة، ثم جاءت بطاقة بعد العصر من نائب السلطان جمال الدين آقوش الافرم إلى نائب القلعة مضمونها أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الاحد، وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلا ونهارا وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال، وأنه لم يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك، ودقت البشائر بالقلعة من أول النهار المذكور، ونودي بعد الظهر بإخراج الجفال من القلعة لاجل نزول السلطان بها، وشرعوا في الخروج.
وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر.
وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له وهنأوه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق فسار إليه فحثه على المجئ إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، فجاء هو وإياه جميعا فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرض السلطان على القتال وبشره بالنصر وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الامراء: قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.
وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضا، وكان يدور على الاجناد والامراء فيأكل من شئ معه في يده ليعلمهم أن افطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في الشاميين قوله صلى الله عليه وسلم " إنكم ملاقوا العدو غدا، والفطر أقوى لكم " (1) فعزم عليهم في الفطر عام الفتح كما في حديث أبي سعيد الخدري.
وكان الخليفة أبو الربيع سليمان في صحبة السلطان، ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتا
عظيما، وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف، وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الامراء يومئذ، منهم الامير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ دار السلطان، وثمانية من الامراء المتقدمين معه (2)، وصلاح الدين بن الملك السعيد الكامل بن السعيد بن الصالح إسماعيل، وخلق من كبار الامراء، ثم نزل النصر على المسلمين قريب العصر يومئذ، واستظهر المسلمون عليهم ولله الحمد والمنة.
فلما جاء الليل لجأ التتر إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم - باب في الرخصة للمحارب في الافطار.
__________
(2) ذكر المقريزي منهم في السلوك 1 / 933: أوليا بن قرمان وسنقر الكافري وايدمر الشمسي القشاش، وأقوش الشمسي الحاجب، والحسام علي بن باخل، وزاد في بدائع الزهور 1 / 1 / 41 4:..والامير أيدمر المعروف بالرفا، والامير أيدمر نقيب الجيوش، والامير علاء الدين بن التركماني، والامير بهادر الدكاجكي.

(14/30)


وجل، وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم، ثم اقتحم منهم جماعة الهزيمة فنجا منهم قليل، ثم كانوا يتساقطون في الاودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة شديدة، ولله الحمد والمنة.
ودخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان وبين يديه الخليفة، وزينت البلد، وفرح كل واحد من أهل الجمعة والسبت والاحد، فنزل السلطان في القصر الابلق والميدان، ثم تحول إلى القلعة سوم الخميس وصلى بها الجمعة وخلع على نواب البلاد وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، واستقرت الخواطر، وذهب اليأس وطابت قلوب الناس، وعزل السلطان ابن النحاس عن ولاية المدينة وجعل مكانه الامير علاء الدين أيدغدي أمير علم، وعزل صارم الدين إبراهيم والي الخاص عن ولاية البر وجعل مكانه الامير حسام الدين لاجين الصغير، ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية يوم الثلاثاء ثالث شوال بعد أن صام رمضان وعيد بدمشق.
وطلب الصوفية من نائب دمشق الافرم أن يولي عليهم مشيخة الشيوخ للشيخ صفي الدين الهندي، فأذن له في المباشرة يوم الجمعة سادس شوال عوضا عن ناصر الدين بن عبد السلام، ودخل السلطان القاهرة يوم الثلاثاء ثالث عشرين شوال، وكان يوما مشهودا، وزينت القاهرة.
وفيها جاءت زلزلة عظيمة يوم الخميس بكرة الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وكان جمهورها بالديار المصرية، تلاطمت بسببها البحار فكسرت المراكب وتهدمت الدور ومات خلق كثير لا يعلمهم إلا الله، وشققت الحيطان ولم ير مثلها في هذه الاعصار، وكان منها بالشام طائفة لكن كان ذلك أخف من سائر البلاد غيرها.
وفي ذي الحجة باشر الشيخ أبو الوليد بن الحاج الاشبيلي المالكي إمام محراب المالكية بجامع دمشق بعد وفاة الشيخ شمس الدين محمد الصنهاجي.
وممن توفي فيها من الاعيان: ابن دقيق العيد (1) (*) الشيخ الامام العالم العلامة الحافظ قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد القشيري المصري، ولد يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز، سمع الكثير ورحل في طلب الحديث وخرج وصنف فيه إسنادا ومتنا مصنفات عديدة، فريدة مفيدة، وانتهت إليه رياسة العلم في زمانه، وفاق أقرانه ورحل إليه
__________
(1) واسمه محمد بن الشيخ مجد الدين أبي الحسن علي بن وهب بن مطيع القشيري الشافعي (السلوك 1 / 948 تذكرة النبيه 1 / 254 الطالع السعيد ص 336 شذرات الذهب 6 / 5 الوافي 4 / 193 الدرر الكامنة 4 / 210).

(14/31)


الطلبة ودرس في أماكن كثيرة، ثم ولي القضاء الديار المصرية في سنة خمس وتسعين وستمائة، ومشيخة دار الحديث الكاملية، وقد اجتمع به الشيخ تقي الدين بن تيمية، فقال له تقي الدين بن دقيق العيد لما رأى تلك العلوم منه: ما أظن بقي يخلق مثلك، ومان وقورا قليل الكلام غزير الفوائد كثير العلوم في ديانة ونزاهة، وله شعر رائق، توفي يوم الجمعة حادي عشر شهر صفر،
وصلي عليه يوم الجمعة المذكور بسوق الخيل وحضر جنازته نائب السلطنة والامراء، ودفن بالقرانة الصغرى رحمه الله.
الشيخ برهان الدين الاسكندري إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم، سمع الحديث وكان دينا فاضلا، ولد سنة ست وثلاثين وستمائة، وتوفي يوم الثلاثاء رابع وعشرين شوال عن خمس وستين سنة.
وبعد شهور بسواء (1) كانت وفاة: الصدر جمال الدين بن العطار كاتب الدرج منذ أربعين سنة، أبو العباس أحمد بن أبي الفتح بن محمود بن أبي الوحش أسد ابن سلامة بن فتيان الشيباني، كان من خيار الناس وأحسنهم تقية، ودفن بتربة لهم تحت الكهف بسفح قاسيون، وتأسف الناس عليه لاحسانه إليهم رحمه الله.
الملك العادل زين الدين كتبغا توفي بحماة نائبا عليها بعد صرخد يوم الجمعة يوم عيد الاضحى ونقل إلى تربته بسفح قاسيون غربي الرباط الناصري، يقال لها العادلية، وهي تربة مليحة ذات شبابيك وبوابة ومأذنة، وله عليها أوقاف دارة على وظائف من قراءة وأذان وإمامة وغير ذلك، وكان من كبار الامراء المنصورية، وقد ملك البلاد بعد مقتل الاشرف خليل بن المنصور، ثم انتزع الملك منه لاجين وجلس في قلعة دمشق، ثم تحول إلى صرخد وكان بها إلى أن قتل لاجين وأخذ الملك الناصر بن قلاوون، فاستنابه بحماة حتى كانت وفاته كما ذكرنا، وكان من خيار الملوك وأعدلهم وأكثرهم برا، وكان من خيار الامراء والنواب رحمه الله (2).
__________
(1) وذلك رابع عشرين ذي القعدة (السلوك 1 / 946).
__________
(2) وهو السلطان الملك زين الدين كتبغا المنصوري، مرض في حماه وطال مرضه واسترخى حتى لم يقدر على حركة يديه ورجليه ومات عن بضع وخمسين سنة فتولى نيابة حماه بعده الامير سيف الدين قبجاق المنصوري نائب الشوبك (السلوك 1 / 947 تذكرة النبيه 1 / 254).

(14/32)


تم دخلت سنة ثلاث وسبعمائة استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها.
وفي صفر تولى الشيخ كمال الدين بن الشريشي نظارة الجامع الاموى وخلع عليه وباشره مباشرة مشكوره، وساوى بين الناس وعزل نفسه في رجب منها.
وفي شهر صفر تولى الشيخ شمس الدين الذهبي خطابة كفر بطنا وأقام بها.
ولما توفي الشيخ زين الدين الفارقي في هذه السنة كان نائب السلطنة في نواحي البلقاء يكشف بعض الامور، فلما قدم تكلموا معه في وظائف الفارقي فعين الخطابة لشرف الدين الفزاري، وعين الشامية البرانية ودار الحديث للشيخ كمال الدين بن الشريشي، وذلك بإشارة الشيخ تقي الدين بن تيمية، وأخذ منه الناصرية للشيخ كمال الدين بن الزملكاني ورسم بكتابة التواقيع بذلك، وباشر الشيخ شرف الدين الامامة والخطابة، وفرح الناس به لحسن قراءته وطيب صوته وجودة سيرته، فلما كان بكرة يوم الاثنين ثاني عشرين ربيع الاول وصل البريد من مصر صحبة الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وقد سبقه مرسوم السلطان له بجميع جهات الفارقي مضافا إلى ما بيده من التدريس، فاجتمع بنائب السلطنة بالقصر، وخرج من عنده إلى الجامع ففتح له باب دار الخطابة فنزلها وجاءه الناس يهنؤنه، وحضر عنده القراء والمؤذنون، وصلى بالناس العصر وباشر الامامة يومين فأظهر الناس التألم من صلاته وخطابته، وسعوا فيه إلى نائب السلطنة فمنعه من الخطابة وأقره على التداريس ودار الحديث، وجاء توقيع سلطاني للشيخ شرف الدين الفزاري بالخطابة، فخطب يوم الجمعة سابع عشر جمادى الاولى، وخلع عليه بطرحة، وفرح الناس به، وأخذ الشيخ كمال الدين بن الزملكاني تدريس الشامية البرانية من يد ابن الوكيل، وباشرها في مستهل جمادى الاولى واستقرت دار الحديث بيد ابن الوكيل مع مدرستيه الاوليتين، وأظنهما العذراوية والشامية الجوانية.
ووصل البريد في ثاني عشر جمادى الاولى بإعادة السنجري إلى نيابة القلعة وتولية نائبها الامير سيف الدين الجوكندراني نيابة حمص عوضا عن عز الدين الحموي، توفي.
وفي يوم السبت ثاني
عشر رمضان قدمت ثلاثة آلاف فارس من مصر وأضيف إليها ألفان من دمشق وساروا وأخذوا معهم نائب حمص الجوكندراني ووصلوا إلى حماة فصحبهم نائبها الامير سيف الدين قبجق، وجاء إليهم استدمر نائب طرابلس، وأنضاف إليهم قراسنقر نائب حلب وانفصلوا كلهم عنها فافترقوا فرقتين فرقة سارت صحبة قبجق إلى ناحية ملطية، وقلعة الروم، والفرقة الاخرى صحبة قراسنقر حتى دخلوا الدربندات وحاصروا تل حمدون فتسلموه عنوة في ثالث ذي القعدة بعد حصار طويل، فدقت البشائر بدمشق لذلك، ووقع مع صاحب سيس على أن يكون للمسلمين من نهر جيهان إلى حلب وبلاد ما وراء النهر إلى ناحيتهم لهم، وأن يعجلوا حمل سنتين، ووقعت الهدنة على ذلك، وذلك بعد أن قتل خلق من أمراء الارمن ورؤسائهم، وعادت العساكر إلى دمشق مؤيدين

(14/33)


منصورين، ثم توجهت العساكر المصرية صحبة مقدمهم أمير سلاح إلى مصر.
وفي أواخر السنة كان موت قازان وتولية أخيه خربندا (1).
وهو ملك التتار قازان واسمه محمود بن أرغون بن أبغا، وذلك في رابع عشر شوال أو حادي عشره أو ثالث عشره، بالقرب من همدان ونقل إلى تربته بيبرين بمكان يسمى الشام، ويقال إنه مات مسموما، وقام في الملك بعده أخوه خربندا محمد بن أرغون، ولقبوه الملك غياث الدين، وخطب له على منابر العراق وخراسان وتلك البلاد.
وحج في هذه السنة الامير سيف الدين سلار نائب مصر وفي صحبته أربعون أميرا، وجميع أولاد الامراء، وحج معهم وزير مصر الامير عز الدين البغدادي، وتولى مكانه بالبركة ناصر الدين محمد الشيخي، وخرج سلار في أبهة عظيمة جدا، وأمير ركب المصريين الحاج إباق الحسامي، وترك الشيخ صفي الدين مشيخة الشيوخ فوليها القاضي عبد الكريم بن قاضي القضاة محيي الدين ابن الزكي، وحضر الخانقاه يوم الجمعة الحادي عشر من ذي القعدة وحضر عنده ابن صصرى وعز الدين القلانسي، والصاحب ابن ميسر، والمحتسب وجماعة.
وفي ذي القعدة وصل من التتر مقدم كبير قد هرب منهم إلى بلاد الاسلام وهو الامير بدر
الدين جنكي (2) بن البابا، وفي صحبته نحو من عشرة، فحضروا الجمعة في الجامع، وتوجهوا إلى مصر، فأكرم وأعطي إمرة ألف، وكان مقامه ببلاد آمد، وكان يناصح السلطان ويكاتبه ويطلعه على عورات التتر، فلهذا عظم شأنه في الدولة الناصرية.
وممن توفي فيها من أعيان ملك التتر قازان.
الشيخ القدوة العابد أبو إسحاق أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي بن عبد الكريم الرقي الحنبلي، كان أصله من بلاد الشرق، ومولده بالرقة في سنة سبع وأربعين وستمائة، واشتغل وحصل وسمع شيئا من الحديث، وقدم دمشق فسكن بالمأذنة الشرقية في أسفلها بأهله إلى جانب الطهارة بالجامع، وكان معظما عند الخاص والعام، فصيح العبارة كثير العبادة، خشن العيش حسن المجالسة لطيف الكلام كثير التلاوة، قوي التوجه من أفراد العالم، عارفا بالتفسير والحديث والفقه والاصلين، وله
__________
(1) هو: خدابندا، والعامة تطلق عليه خربندا واسمه بالعربية عبد الله، وعندما ولي السلطة تسمى باسم أولجاتيو محمد خدا بندا.
وكان قد جلس على تخت الملك في ثالث عشري ذي الحجة من هذه السنة ومات سنة 716 ه (السلوك 1 / 954 الدرر الكامنة 3 / 468 تذكرة النبيه 1 / 257 النجوم الزاهرة 9 / 238).
__________
(2) في السلوك 1 / 950: جنغلى.

(14/34)


مصنفات وخطب، وله شعر حسن، توفي بمنزله ليلة الجمعة خامس عشر المحرم وصلي عليه عقيب الجمعة ونق إلى تربة الشيخ أبي عمر بالسفح، وكانت جنازته حافة رحمه الله وأكرم مثواه.
وفي هذا الشهر توفي الامير زين الدين قراجا أستاذ دار الافرم ودفن بتربته بميدان الحصا عند النهر.
والشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام عرف بابن الحبلى، وكان من خيار الناس يتردد إلى عكا أياما حين ما كانت في أيدي الفرنج، في فكاك أسارى المسلمين، جزاه الله خيرا وعتقه من النار وأدخله الجنة برحمته.
الخطيب ضياء الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الخطيب جمال الدين أبي الفرج عبد الوهاب بن علي بن أحمد بن عقيل السلمي خطيب بعلبك نحوا من ستين سنة، هو ووالده، ولد سنة أربع عشرة وستمائة وسمع الكثير وتفرد عن القزويني، وكان رجلا جيدا حسن القراءة من كبار العدول، توفي ليلة الاثنين ثالث صفر، ودفن بباب سطحا.
الشيخ زين الدين الفارقي عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فهر (1) بن الحسن، أبو محمد الفارقي شيخ الشافعية، ولد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، واشتغل ودرس بعدة مدارس، وأفتى مدة طويلة وكانت له همة وشهامة وصرامة، وكان يباشر الاوقاف جيدا، وهو الذي عمر دار الحديث بعد خرابها بيد قازان، وقد باشرها سبعة وعشرين سنة من بعد النواوي إلى حين وفاته، وكانت معه الشامية البرانية وخطابة الجامع الاموي تسعة أشهر، باشر به الخطابة قبل وفاته، وقد انتقل إلى دار الخطابة وتوفي بها يوم الجمعة بعد العصر (2)، وصلي عليه ضحوة السبت، صلى عليه ابن صصرى عند باب الخطابة وبسوق الخيل قاضي الحنفية شمس الدين بن الحريري، وعند جامع الصالحية قاضي الحنابلة تقي الدين سليمان، ودفن بتربة أهله شمالي تربة الشيخ أبي عمر رحمه الله، وباشر بعده الخطابة شرف الدين الفزاري ومشيخة دار الحديث ابن الوكيل، والشامية البرانية ابن الزملكاني وقد تقدم ذلك.
__________
(1) في السلوك 1 / 957: فير، وفي شذرات الذهب، عن الدرر الكامنة: فيروز / 8.
__________
(2) وذلك في حادي عشري صفر (السلوك 1 / 957).

(14/35)


الامير الكبير عز الدين أيبك الحموي ناب بدمشق مدة ثم عزل عنها إلى صرخد، ثم نقل قبل موته بشهر إلى نيابة حمص، وتوفي بها يوم العشرين (1) من ربيع الآخر، ونقل إلى تربته بالسفح غربي زاوية ابن قوام، وإليه ينسب
الحمام بمسجد القصب الذي يقال له حمام الحموي، عمره في أيام نيابته.
الوزير فتح الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد بن خالد بن محمد بن نصر بن صقر القرشي المخزومي ابن القيسراني، كان شيخا جليلا أديبا شاعرا مجودا من بيت رياسة ووزارة، ولي وزارة دمشق مدة ثم أقام بمصر موقعا مدة، وكان له اعتناء بعلوم الحديث وسماعه، وله مصنف في أسماء الصحابة (2) الذين خرج لهم في الصحيحين، وأورد شيئا من أحاديثهم في مجلدين كبيرين موقوفين بالمدرسة الناصرية بدمشق، وكان له مذاكرة جيدة محررة باللفظ والمعنى، وقد خرج عنه الحافظ الدمياطي، وهو آخر من توفي من شيخوخه، توفي بالقاهرة في يوم الجمعة الحادي والعشرين (3) من ربيع الآخر، وأصلهم من قيسارية الشام.
وكان جده موفق الدين أبو البقاء خالد وزيرا لنور الدين الشهيد، وكان من الكتاب المجيدين المتقنين، له كتابة جيدة محررة جدا، توفي في أيام صلاح الدين سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وأبوه محمد بن نصر بن صقر ولد بعكة قبل أخذ الفرنج لهاسنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فلما أخذت بعد السبعين وأربعمائة انتقل أهلهم إلى حلب وكانوا بها، وكان شاعرا مطبقا له ديوان مشهور، وكان له معرفة جيدة بالنجوم وعلم الهيئة وغير ذلك.
ترجمة والد ابن كثير مؤلف هذا التاريخ
وفيها توفي الوالد وهو الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير بن ضوبن كثير بن ضو ابن درع القرشي من بني حصلة، وهم ينتسبون إلى الشرف وبأيديهم نسب، وقف على بعضها شيخنا المزي فأعجبه ذلك وابتهج به، فصار يكتب في نسبي بسبب ذلك: القرشي، من قرية يقال لها الشركوين غربي بصرى، بينها وبين أذرعات، ولد بها في حدود سنة أربعين وستمائة، واشتغل بالعلم عند أخواله بني عقبة ببصرى، فقرأ البداية في مذهب أبي حنيفة، وحفظ جمل
__________
(1) في السلوك 1 / 956: التاسع عشر.
(2) هو كتاب " معرفة الصحابة " كشف الظنون لحاجي خليفة 2 / 1739.
(3) في السلوك 1 / 957: خامس عشري ربيع الآخرة، وفي تذكرة النبيه 1 / 261: في ربيع الآخرة، وكان مولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة، عاش ثمانين سنة.

(14/36)


الزجاجي، وعني بالنحو والعربية واللغة، وحفظ أشعار العرب حتى كان يقول الشعر الجيد الفائق الرائق في المدح والمراثي وقليل من الهجاء، وقرر بمدارس بصرى بمنزل الناقة شمالي البلد حيث يزار، وهو المبرك المشهور عند الناس والله أعلم بصحة ذلك، ثم انتقل إلى خطابة القرية شرقي بصرى وتمذهب للشافعي، وأخذ عن النواوي والشيخ تقي الدين الفزاري، وكان يكرمه ويحترمه فيما أخبرني شيخنا العلامة ابن الزملكاني، فأقام بها نحوا من ثنتي عشرة سنة، ثم تحول إلى خطابة مجيدل القرية التي منها الوالدة، فأقاما بها مدة طويلة في خير وكفاية وتلاوة كثيرة، وكان يخطب جيدا، وله مقول عند الناس، ولكلامه وقع لديانته وفصاحته وحلاوته، وكان يؤثر الاقامة في البلاد لما يرى فيها من الرفق ووجود الحلال له ولعياله، وقد ولد له عدة أولاد من الوالدة ومن أخرى قبلها، أكبرهم إسماعيل ثم يونس وإدريس، ثم من الوالدة عبد الوهاب وعبد العزيز ومحمد وأخوات عدة، ثم أنا أصغرهم، وسميت باسم الاخ إسماعيل لانه كان قد قدم دمشق فاشتغل بها بعد أن حفظ القرآن على والده وقرأ مقدمة في النحو، وحفظ التنبيه وشرحه على العلامة تاج الدين الفزاري وحصل المنتخب في أصول الفقه، قاله لي شيخنا ابن الزملكاني، ثم إنه سقط من سطح الشامية البرانية فمكث أياما ومات، فوجد الوالد عليه وجدا كثيرا ورثاه بأبيات كثيرة، فلما ولدت له أنا بعد ذلك سماني باسمه، فأكبر أولاده إسماعيل وآخرهم وأصغرهم إسماعيل، فرحم الله من سلف وختم بخير لمن بقي، توفي والدي في شهر جمادى الاولى سنة ثلاث وسبعمائة، في قرية مجيدل القرية، ودفن بمقبرتها الشمالية عند الزيتون وكنت إذ ذاك صغيرا ابن ثلاث سنين أو نحوها لا أدركه إلا كالحلم، ثم تحولنا من بعده في سنة سبع وسبعمائة إلى دمشق صحبة كمال الدين عبد الوهاب، وقد كان لنا شقيقا، وبنا رفيقا شفوقا، وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمسين، فاشتغلت على يديه في العلم فيسر الله تعالى منه ما يسر، وسهل منه ما تعسر والله أعلم.
وقد قال شيخنا الحافظ علم الدين البرزالي في معجمه فيما أخبرني عنه شمس الدين محمد بن سعد المقدسي مخرجه له، ومن خط المحدث شمس الدين بن سعد هذا نقلت، وكذلك وقفت على خط الحافظ البرزالي مثله في السفينة الثانية من السفن الكبار: قال عمر بن كثير القرشي خطيب القرية وهي قرية من أعمال بصرى رجل فاضل له نظم جيد ويحفظ كثيرا من اللغز وله همة وقوة.
كتبت عنه من شعره بحضور شيخنا تاج الدين الفزاري.
وتوفي في جمادى الاولى سنة ثلاث وسبعمائة بمجيدل القرية من عمل بصرى، أنشدنا الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير القرشي خطيب القرية بها لنفسه في منتصف شعبان من سنة سبع وثمانين وستمائة: نأى النوم عن جفني فبت مسهدا * أخا كلف حلف الصبابة موجدا سمير الثريا والنجوم مدلها * فمن ولهي خلت الكواكب ركدا طريحا على فرش الصبابة والاسى * فما ضركم لو كنتم لي عودا

(14/37)


تقلبني أيدي الغرام بلوعة * أرى النار من تلقائها لي أبردا ومزق صبري بعد جيران حاجز * سعير غرام بات في القلب موقدا فأمطرته دمعي لعل زفيره * يقل فزادته الدموع توقدا فبت بليل نابغي ولا أرى * على النأي من بعد الاحبة صعدا فيا لك من ليل تباعدا فجره * علي إلى أن خلته قد تخلدا غراما ووجدا لا يحد أقله * بأهيف معسول المراشف أغيدا له طلعة كالبدر زان جمالها * بطرة شعر حالك اللون أسودا يهز من القد الرشيق مثقفا * ويشهر من جفينه سيفا مهندا وفي ورد خديه وآس عذاره * وضوء ثناياه فنيت تجلدا غدا كل حسن دونه متقاصرا * وأضحى له رب الجمال موحدا إذا مارنا واهتزا عند لقائه
سباك، فلم تملك لسانا ولا يدا وتسجد إجلالا له وكرامة * وتقسم قد أمسيت في الحسن أوحدا ورب أخي كفر تأمل حسنه * فأسلم من إجلاله وتشهدا وأنكر عيسى والصليب ومريما * وأصبح يهوى بعد بغد محمدا أيا كعبة الحسن التي طاف حولها * فؤادي، أما للصد عندك من فدا ؟ قنعت بطيف من خيالك طارق * وقد كنت لا أرضى بوصلك سرمدا فقد شفني شوق تجاوزا حده * وحسبك من شوق تجاوز واعتدا سألتك إلا ما مررت بحينا * بفضلك يا رب الملاحة والندا لعل جفوني أن تغيض دموعها * ويسكن قلب مذ هجرت فما هدا غلطت بهجراني ولو كنت صبيا * لما صدك الواشون عني ولا العدا وعدتها ثلات وعشرون بيتا والله يغفر له ما صنع من الشعر.