البداية والنهاية، ط. دار الفكر
غَزْوَةُ بَنِي النضير
وهي التي أنزل الله تعالى فِيهَا سُورَةَ الْحَشْرِ فِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّيهَا سُورَةَ
بَنِي النَّضِيرِ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ بَنُو النَّضِيرِ بَعْدَ بَدْرٍ
بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ قَبْلَ أُحُدٍ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ،
وَهَكَذَا رَوَى حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ هِلَالِ بْنِ الْعَلَاءِ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الرَّقِّيِّ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ
مَازِنٍ الْيَمَانِيِّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَ
غَزْوَةَ بَدْرٍ فِي سَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ سنة ثنتين، قَالَ ثُمَّ
غَزَا بَنِي النَّضِيرِ ثُمَّ غَزَا أُحُدًا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ
ثَلَاثٍ ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ
أَرْبَعٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ كَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ
هِيَ قَبْلَ أُحُدٍ، قَالَ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا بَعْدَهَا
وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ أَيْضًا. قُلْتُ:
هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ بَعْدَ
ذِكْرِهِ بِئْرَ مَعُونَةَ وَرُجُوعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ
وَقَتْلَهُ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ وَلَمْ يَشْعُرْ
بِعَهْدِهِمَا الَّذِي مَعْهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
(4/74)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَقَدْ
قَتَلْتَ رَجُلَيْنِ لَأَدِيَنَّهُمَا» . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي
النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ مِنْ
بَنِي عَامِرٍ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ
لِلْعَهْدِ الَّذِي كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَعْطَاهُمَا وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي عَامِرٍ
عَهْدٌ وَحِلْفٌ فَلَّمَا أَتَاهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالُوا نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ نُعِينُكَ عَلَى مَا أَحْبَبْتَ
ثُمَّ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَقَالُوا إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا
الرَّجُلَ عَلَى مُثُلِ حَالِهِ هَذِهِ (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ
قَاعِدٌ) فَمَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فيلقى عليه صخرة
ويريحنا منه. فاتتدب لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جَحَّاشِ بْنِ كَعْبٍ
فَقَالَ أَنَا لِذَلِكَ فَصَعِدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً كَمَا
قَالَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ فَأَتَى
رَسُولَ اللَّهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ
فَقَامَ وَخَرَجَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا اسْتَلْبَثَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ قَامُوا فِي
طَلَبِهِ فَلَقُوا رَجُلًا مُقْبِلًا مِنَ الْمَدِينَةِ فَسَأَلُوهُ
عَنْهُ فَقَالَ رَأَيْتُهُ دَاخِلًا الْمَدِينَةَ فَأَقْبَلَ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَهَوْا
إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ بِمَا كَانَتْ يَهُودُ أَرَادَتْ
مِنَ الْغَدْرِ بِهِ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ
يَأْمُرُهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ جِوَارِهِ وَبَلَدِهِ فَبَعَثَ
إِلَيْهِمْ أَهْلُ النِّفَاقِ يُثَبِّتُونَهُمْ وَيُحَرِّضُونَهُمْ
عَلَى الْمَقَامِ وَيَعِدُونَهُمُ النَّصْرَ، فَقَوِيَتْ عِنْدَ ذَلِكَ
نُفُوسُهُمْ وَحَمِيَ حُيَيُّ بن أحطب وَبَعَثُوا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ
وَنَابَذُوهُ بِنَقْضِ الْعُهُودِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ النَّاسَ
بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ فَحَاصَرُوهُمْ خَمْسَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ وَالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ. قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ
مَكْتُومٍ وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فَحَاصَرَهُمْ سِتَّ لَيَالٍ،
ونزل تحريم الخمر حينئذ، وتحصنوا فِي الْحُصُونِ فَأَمَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ النَّخِيلِ
وَالتَّحْرِيقِ فِيهَا فَنَادَوْهُ أَنْ يَا مُحَمَّدُ قَدْ كُنْتَ
تَنْهَى عَنِ الفساد وتعيب مَنْ صَنَعَهُ فَمَا بَالُ قَطْعِ
النَّخِيلِ وَتَحْرِيقِهَا، قَالَ وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ بَنِي
عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبِيٍّ
وَوَدِيعَةُ وَمَالِكٌ وَسُوِيدٌ وَدَاعِسٌ قَدْ بَعَثُوا إِلَى بَنِي
النَّضِيرِ أَنِ اثْبُتُوا وَتَمَنَّعُوا فَإِنَّا لَنْ نُسْلِمَكُمْ
إِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا
مَعَكُمْ. فَتَرَبَّصُوا ذَلِكَ مِنْ نَصْرِهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا
وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَسَأَلُوا رَسُولَ
اللَّهِ أَنْ يُجْلِيَهُمْ وَيَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ عَلَى أَنَّ
لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ مِنْ أموالهم الا الحلقة وَقَالَ
الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَعْطَى كُلَّ ثلاثة بعيرا يعتقبونه
وسقا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ محمد
عن الزُّهْرِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ مْسَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بعثه إلى بَنِي النَّضِيرِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَجِّلَهُمْ
فِي الْجَلَاءِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ
أَنَّهُ كَانَتْ لهم ديون مؤجلة فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا. وَفِي صِحَّتِهِ
نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَاحْتَمَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا
اسْتَقَلَّتْ بِهِ الْإِبِلُ فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَهْدِمُ
بَيْتَهُ عَنْ نِجَافِ بَابِهِ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ
فَيَنْطَلِقُ بِهِ فَخَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ
إِلَى الشَّامِ فَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ
(4/75)
مَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ إِلَى خَيْبَرَ
سَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ
أَبِي الْحَقِيقِ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فَلَمَّا نَزَلُوهَا دَانَ
لَهُمْ أَهْلُهَا. فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّهُمُ اسْتُقْبِلُوا بِالنِّسَاءِ وَالْأَبْنَاءِ
وَالْأَمْوَالِ مَعَهُمُ الدُّفُوفُ وَالْمَزَامِيرُ وَالْقِيَانُ
يَعْزِفْنَ خَلْفَهُمْ بِزُهَاءٍ وَفَخْرٍ مَا رُئِيَ مِثْلُهُ لِحَيٍّ
مِنَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ. قَالَ وَخَلَّوُا الْأَمْوَالَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي
النَّخِيلَ والمزارع فكانت له خاصة يضعها حيث شاء فَقَسَّمَهَا عَلَى
الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ إِلَّا أَنَّ سَهْلَ
بْنَ حُنَيْفٍ وَأَبَا دُجَانَةَ ذَكَرَا فَقْرًا فَأَعْطَاهُمَا
(وَأَضَافَ بَعْضُهُمْ إِلَيْهِمَا الْحَارِثَ بْنَ الصِّمَّةِ حَكَاهُ
السُّهَيْلِيُّ) . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ بَنِي
النَّضِيرِ إِلَّا رَجُلَانِ وَهَمَا يَامِينُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ
كَعْبٍ ابْنُ عَمِّ عَمْرِو بْنِ جَحَّاشٍ وَأَبُو سَعْدِ بْنُ وَهْبٍ
فَأَحْرَزَا أَمْوَالَهُمَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ حَدَّثَنِي
بَعْضُ آلِ يَامِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِيَامِينَ: أَلَمْ تَرَ ما لقيت مِنِ ابْنِ عَمِّكَ
وَمَا هَمَّ بِهِ مِنْ شَأْنِي؟ فَجَعَلَ يَامِينُ لِرَجُلٍ جُعْلًا
عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَمْرَو بْنَ جَحَّاشٍ فَقَتَلَهُ لَعَنَهُ
اللَّهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ سُورَةَ
الْحَشْرِ بِكَمَالِهَا يِذْكُرُ فِيهَا مَا أَصَابَهُمْ بِهِ مِنْ
نِقْمَتِهِ وَمَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ بِهِ رَسُولَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ
فِيهِمْ ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ إِسْحَاقَ يُفَسِّرُهَا وَقَدْ
تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا بِطُولِهَا مَبْسُوطَةً فِي كِتَابِنَا
التَّفْسِيرِ وللَّه الْحَمْدُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَبَّحَ
لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ
يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ
فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ
وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي
الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ. مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها
قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ
59: 1- 5. سبح سبحانه وتعالى نفسه الكريمة وأخبر انه يسبح له جميع
مخلوقاته العلوية والسفلية وانه العزيز وهو منيع الجناب فلا ترام عظمته
وكبرياؤه وانه الحكيم في جميع ما خلق وجميع ما قدر وشرع، فمن ذلك
تقديره وتدبيره وتيسيره لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعباده
المؤمنين في ظفرهم بأعدائهم اليهود الذين شاقوا الله ورسوله وجانبوا
رسوله وشرعه وما كان من السبب المفضي لقتالهم كما تقدم حتى حاصرهم
المؤيد بالمرعب والرهب مسيرة شهر ومع هذا فأسرهم بالمحاصرة بجنوده
ونفسه الشريفة ست ليال فذهب بهم الرعب كل مذهب حتى صانعوا وصالحوا على
حقن دمائهم وأن يأخذوا من أموالهم ما استقلت به ركابهم على انهم لا
يصحبون شيئا من السلاح اهانة لهم واحتقارا فجعلوا يخربون بيوتهم
بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الابصار. ثم ذكر تعالى انه لو
لم يصبهم الجلاء وهو التسيير والنفي من جوار الرسول من المدينة لأصابهم
ما هو أشد منه من العذاب الدنيوي وهو القتل مع ما ادخر لهم في الآخرة
من العذاب الأليم المقدر لهم. ثم ذكر
(4/76)
تعالى حكمة ما وقع من تحريق نخلهم وترك ما
بقي لهم وان ذلك كله سائغ فقال ما قطعتم من لينة وَهُوَ جَيِّدُ
التَّمْرِ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أصولها فبإذن الله
إِنَّ الْجَمِيعَ قَدْ أُذِنَ فِيهِ شَرْعًا وَقَدَرًا فَلَا حَرَجَ
عَلَيْكُمْ فِيهِ وَلَنِعْمَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ هُوَ
بِفَسَادٍ كَمَا قَالَهُ شِرَارُ الْعِبَادِ إِنَّمَا هُوَ إِظْهَارٌ
لِلْقُوَّةِ وَإِخْزَاءٌ لِلْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ. وَقَدْ رَوَى
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فأنزل الله
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى
أُصُولِها فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ 59: 5. وَعِنْدَ
الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حرق نخل بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ
وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
وَهَانَ عَلَى سُرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ
مُسْتَطِيرُ
فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ:
أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ ... وَحَرَّقَ فِي نَوَاحِيهَا
السَّعِيرُ
سَتَعْلَمُ أَيُّنَا منها بستر ... وتعلم أي أرضينا نضير
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُ
إِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَتْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فاللَّه
أَعْلَمُ
لَقَدْ خَزِيَتْ بَغَدْرَتِهَا الْحُبُورُ [1] ... كَذَاكَ الدَّهْرُ
ذُو صَرْفٍ يَدُورُ
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَبٍّ ... عَظِيمٍ أَمْرُهُ أَمْرٌ
كَبِيرُ
وَقَدْ أُوتُوا مَعًا فَهْمًا وَعِلْمًا ... وَجَاءَهُمُ مِنَ اللَّهِ
النَّذِيرُ
نَذِيرٌ صَادِقٌ أَدَّى كِتَابًا ... وَآيَاتٍ مُبَيِّنَةً تُنِيرُ
فَقَالُوا مَا أَتَيْتَ بِأَمْرِ صِدْقٍ ... وَأَنْتَ بِمُنْكَرٍ
مِنَّا جَدِيرُ
فَقَالَ بَلَى لَقَدْ أَدَّيْتُ حَقَّا ... يُصَدِّقُنِي بِهِ
الْفَهِمُ الْخَبِيرُ
فَمَنْ يَتْبَعْهُ يهد لكل رشد ... ومن يكفر به يخز الْكَفُورُ
فَلَمَّا أُشْرِبُوا غَدْرًا وَكُفْرًا ... وَجَدَّ بِهِمْ عَنِ
الْحَقِّ النُّفُورُ
أَرَى اللَّهُ النَّبِيَّ بِرَأْيِ صِدْقٍ ... وَكَانَ اللَّهُ
يَحْكُمُ لَا يَجُورُ
فَأَيَّدَهُ وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ ... وَكَانَ نَصِيرُهُ نِعْمَ
النَّصِيرُ
فَغُودِرَ منهم كعب صريعا ... فذلت بعد مصرعه النضير
عَلَى الْكَفَّيْنِ ثُمَّ وَقَدْ عَلَتْهُ ... بِأَيْدِينَا
مُشَهَّرَةٌ ذُكُورُ
بِأَمْرِ مُحَمَّدٍ إِذْ دَسَّ لَيْلًا ... إِلَى كعب أخا كعب يسير
فما كره فأنزله بمكر ... ومحمود أخو ثقة جسور
__________
[1] الحبور جمع حبر، وهم علماء اليهود. من هامش الأصل
(4/77)
فَتِلْكَ بَنُو النَّضِيرِ بَدَارِ سُوءٍ
... أَبَارَهُمُ بِمَا اجْتَرَمُوا الْمُبِيرُ
غَدَاةَ أَتَاهُمُ فِي الزَّحْفِ رَهْوًا ... رَسُولُ اللَّهِ وَهْوَ
بِهِمْ بَصِيرُ
وَغَسَّانُ الْحُمَاةُ مُؤَازِرُوهُ ... عَلَى الْأَعْدَاءِ وَهْوَ
لَهُمْ وَزِيرُ
فَقَالَ السِّلْمُ وَيْحَكُمُ فَصَدُّوا ... وَخَالَفَ أَمْرَهُمُ
كَذِبٌ وَزُورُ
فَذَاقُوا غِبَّ أَمْرِهِمُ وَبَالًا ... لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ
بَعِيرُ
وَأُجْلُوا عَامِدِينَ لِقَيْنُقَاعٍ ... وَغُودِرَ مِنْهُمُ نَخْلٌ
ودور
وقد ذكر ابن إسحاق جوابها لشمال الْيَهُودِيِّ، فَتَرَكْنَاهَا
قَصْدًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّا قِيلَ فِي بَنِي
النَّضِيرِ قَوْلُ ابْنِ لُقَيْمٍ الْعَبْسِيِّ، وَيُقَالُ قَالَهَا
قَيْسُ بْنُ بَحْرِ بْنِ طَرِيفٍ الْأَشْجَعِيِّ:
أَهْلِي فِدَاءٌ لِامْرِئٍ غَيْرِ هَالِكٍ ... أَحَلَّ الْيَهُودَ
بِالْحَسِيِّ الْمُزَنَّمِ
يَقِيلُونَ فِي خمر العضاة وبدلوا ... أهيضب عودا بِالْوَدِيِّ
الْمُكَمَّمِ
فَإِنْ يَكُ ظَنِّي صَادِقًا بِمُحَمَّدٍ ... تَرَوْا خَيْلَهُ بَيْنَ
الصَّلَا وَيَرَمْرَمِ
يَؤُمُّ بِهَا عَمْرَو بْنَ بُهْثَةَ إِنَّهُمْ ... عَدُوٌّ وَمَا
حَيٌّ صَدِيقٌ كَمُجْرِمِ
عَلَيْهِنَّ أَبْطَالٌ مَسَاعِيرُ فِي الْوَغَى ... يَهُزُّونَ
أَطْرَافَ الْوَشِيجِ الْمُقَوَّمِ
وَكُلَّ رَقِيقِ الشَّفْرَتَيْنِ مُهَنَّدٍ ... تُوُورِثْنَ مِنْ
أَزْمَانِ عَادٍ وَجُرْهُمِ
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي قُرَيْشًا رِسَالَةً ... فَهَلْ بَعْدَهُمْ فِي
الْمَجْدِ مِنْ مُتَكَرِّمِ
بِأَنَّ أَخَاهُمْ فَاعْلَمُنَّ مُحَمَّدًا ... تَلِيدُ النَّدَى
بَيْنَ الْحَجُونِ وَزَمْزَمِ
فَدِينُوا لَهُ بِالْحَقِّ تَجْسُمْ أُمُورُكُمْ ... وَتَسْمُو مِنَ
الدُّنْيَا إِلَى كل معظم
نبي تلافته مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ ... وَلَا تَسْأَلُوهُ أَمْرَ غَيْبٍ
مُرَجَّمِ
فَقَدْ كَانَ فِي بَدْرٍ لَعَمْرِي عِبْرَةٌ ... لكم يا قريش
وَالْقَلِيبِ الْمُلَمَّمِ
غَدَاةَ أَتَى فِي الْخَزْرَجِيَّةِ عَامِدًا ... إِلَيْكُمْ مُطِيعًا
لِلْعَظِيمِ الْمُكَرَّمِ
مُعَانًا بِرُوحِ الْقُدُسِ يَنْكِي عَدُوَّهُ ... رَسُولًا مِنَ
الرَّحْمَنِ حَقًّا بِمَعْلَمِ
رَسُولًا مِنَ الرَّحْمَنِ يَتْلُو كِتَابَهُ ... فَلَمَّا أَنَارَ
الْحَقَّ لَمْ يَتَلَعْثَمِ
أَرَى أَمْرَهُ يَزْدَادُ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ ... عُلُوًّا لِأَمْرٍ
حَمَّهُ اللَّهُ مُحْكَمِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ
ابْنُ هِشَامٍ قَالَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ أَرَ
أَحَدًا يَعْرِفُهَا لَعَلِيٍّ:
عَرَفَتُ وَمَنْ يَعْتَدِلْ يَعْرِفِ ... وَأَيْقَنْتُ حَقًّا وَلَمْ
أَصْدِفِ
(4/78)
عن الكلم المحكم اللاء مِنْ ... لَدَى
اللَّهِ ذِي الرَّأْفَةِ الْأَرْأَفِ
رَسَائِلُ تُدْرَسُ فِي الْمُؤْمِنِينَ ... بِهِنَّ اصْطَفَى أَحْمَدَ
الْمُصْطَفِي
فَأَصْبَحَ أَحْمَدُ فِينَا عَزِيزًا ... عَزِيزَ الْمُقَامَةِ
وَالْمَوْقِفِ
فَيَا أَيُّهَا الْمُوعِدُوهُ سَفَاهًا ... وَلَمْ يَأْتِ جَوْرًا
وَلَمْ يَعْنُفِ
أَلَسْتُمْ تَخَافُونَ أَدْنَى الْعَذَابِ ... وَمَا آمِنُ اللَّهِ
كَالْأَخْوَفِ
وَأَنْ تُصْرَعُوا تَحْتَ أَسْيَافِهِ ... كَمَصْرَعِ كَعْبٍ أَبِي
الْأَشْرَفِ
غَدَاةَ رَأَى اللَّهُ طُغْيَانَهُ ... وَأَعْرَضَ كَالْجَمَلِ
الْأَجْنَفِ
فَأَنْزَلَ جِبْرِيلَ فِي قَتْلِهِ ... بِوَحْيٍ إِلَى عَبْدِهِ
مُلْطَفِ
فَدَسَّ الرَّسُولُ رَسُولًا لَهُ ... بِأَبْيَضَ ذِي هَبَّةٍ مُرْهَفِ
فَبَاتَتْ عُيُونٌ لَهُ مُعْوِلَاتٌ ... مَتَى يُنْعَ كَعْبٌ لَهَا
تَذْرِفُ
وَقُلْنَ لِأَحْمَدَ ذَرْنَا قَلِيلًا ... فَإِنَّا مِنَ النَّوْحِ
لِمَ نَشْتَفِ
فَخَلَّاهُمُ ثُمَّ قَالَ اظْعَنُوا ... دُحُورًا عَلَى رَغْمِ
الْآنُفِ
وَأَجْلَى النَّضِيرَ إِلَى غُرْبَةٍ ... وَكَانُوا بِدَارٍ ذَوِي
زُخْرُفِ
إِلَى أَذَرِعَاتٍ رِدَافًا وَهُمْ ... عَلَى كُلِّ ذِي دَبَرٍ
أَعْجَفِ
وتركنا جوابها أيضا من سمال اليهوى قَصْدًا ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى
حُكْمَ الْفَيْءِ وَأَنَّهُ حَكَمَ بِأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَلَّكَهَا
لَهُ فَوَضَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ:
كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ على رسوله
مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فَكَانَ يَعْزِلُ
نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ
وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ
بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ الْفَيْءِ وَأَنَّهُ لِلْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ عَلَى
مِنْوَالِهِمْ وَطَرِيقَتِهِمْ ولِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ
الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما
نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ
الْعِقابِ 59: 7. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَارِمٌ
وَعَفَّانُ قَالَا حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ
حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَجْعَلُ لَهُ مِنْ مَالِهِ
النَّخْلَاتِ أَوْ كَمَا شَاءَ اللَّهُ حَتَّى فُتِحَتْ عَلَيْهِ
قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ قَالَ: فَجَعَلَ يَرُدُّ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَالَ: وَإِنَّ أَهْلِي أَمَرُونِي أن آتى نبي الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلَهُ الَّذِي كَانَ أَهْلُهُ أَعْطُوهُ
أَوْ بَعْضَهُ وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ أُمَّ أَيْمَنَ أَوْ كَمَا شَاءَ اللَّهُ. قَالَ:
فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَعْطَانِيهِنَّ فَجَاءَتْ أُمُّ أَيْمَنَ فَجَعَلَتِ الثَّوْبَ فِي
عُنُقِي وَجَعَلَتْ تَقُولُ: كَلَّا وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ لا أعطيكهن وَقَدْ أَعْطَانِيهِنَّ أَوْ كَمَا قَالَتْ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِ كَذَا
وَكَذَا وَتَقُولُ كَلَّا وَاللَّهِ قَالَ
(4/79)
وَيَقُولُ لَكِ كَذَا وَكَذَا وَتَقُولُ
كَلَّا وَاللَّهِ قَالَ وَيَقُولُ لَكِ كَذَا وَكَذَا حَتَّى
أَعْطَاهَا حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ عَشَرَةَ أَمْثَالِهِ أَوْ قَالَ
قَرِيبًا مِنْ عَشَرَةِ أَمْثَالِهِ أَوْ كَمَا قَالَ أَخْرَجَاهُ
بِنَحْوِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُعْتَمِرٍ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى
ذَامًّا لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ مَالُوا الى بنى النَّضِيرِ فِي
الْبَاطِنِ كَمَا تَقَدَّمَ وَوَعَدُوهُمُ النَّصْرَ فَلَمْ يَكُنْ
مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بَلْ خَذَلُوهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ
وَغَرُّوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ
فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَالله
يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ
مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ
لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ 59: 11- 12 ثُمَّ
ذَمَّهُمْ تَعَالَى عَلَى جُبْنِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَخِفَّةِ
عَقْلِهِمُ النَّافِعِ ثُمَّ ضُرِبَ لَهُمْ مَثَلًا قَبِيحًا شَنِيعًا
بِالشَّيْطَانِ حِينَ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ
قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ
خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ
قِصَّةُ عَمْرِو بْنِ سُعْدَى الْقُرَظِيِّ
حِينَ مَرَّ عَلَى دِيَارِ بَنِي النَّضِيرِ وَقَدْ صَارَتْ يَبَابًا
لَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٍ وَقَدْ كَانَتْ بنو النضير أشرف منى
بَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى حَدَاهُ ذَلِكَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَظْهَرَ
صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
التَّوْرَاةِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتْ بنو النضير من المدينة
أقبل عمرو ابن سُعْدَى فَأَطَافَ بِمَنَازِلِهِمْ فَرَأَى خَرَابَهَا
وَفَكَّرَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَوَجَدَهُمْ فِي
الْكَنِيسَةِ فَنَفَخَ فِي بُوقِهِمْ فَاجْتَمَعُوا فَقَالَ
الزُّبَيْرُ بْنُ بَاطَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَيْنَ كُنْتَ مُنْذُ
اليوم لم تزل وَكَانَ لَا يُفَارِقُ الْكَنِيسَةَ وَكَانَ يَتَأَلَّهُ
فِي الْيَهُودِيَّةِ. قَالَ رَأَيْتُ الْيَوْمَ عِبَرًا قَدْ
عُبِّرْنَا بِهَا، رَأَيْتُ مَنَازِلَ إِخْوَانِنَا خَالِيَةً بَعْدَ
ذَلِكَ الْعِزِّ وَالْجَلَدِ وَالشَّرَفِ الْفَاضِلِ وَالْعَقْلِ
الْبَارِعِ قَدْ تَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ وَمَلَكَهَا غَيْرُهُمْ
وَخَرَجُوا خُرُوجَ ذُلٍّ. وَلَا وَالتَّوْرَاةِ مَا سُلِّطَ هَذَا
عَلَى قَوْمٍ قَطُّ للَّه بِهِمْ حَاجَةٌ وَقَدْ أَوْقَعَ قَبْلَ
ذَلِكَ بِابْنِ الْأَشْرَفِ ذِي عِزِّهِمْ ثُمَّ بَيَّتَهُ فِي
بَيْتِهِ آمِنًا وَأَوْقَعَ بِابْنِ سُنَيْنَةَ سَيِّدِهِمْ وَأَوْقَعَ
بِبَنِي قَيْنُقَاعَ فَأَجْلَاهُمْ وَهُمْ أَهْلُ جَدِّ يَهُودَ
وَكَانُوا أَهْلَ عُدَّةٍ وَسِلَاحٍ وَنَجْدَةٍ فَحَصَرَهُمْ فَلَمْ
يُخْرِجْ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ رَأْسَهُ حَتَّى سَبَاهُمْ وَكُلِّمَ
فِيهِمْ فَتَرَكَهُمْ عَلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ مِنْ يَثْرِبَ. يَا
قَوْمِ قَدْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُمْ فأطيعوني وتعالوا نتبع محمدا
والله إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ قَدْ بَشَّرَنَا بِهِ
وَبِأَمْرِهِ ابْنُ الْهَيْبَانِ أَبُو عُمَيْرٍ وَابْنُ حِرَاشٍ
وَهُمَا أَعْلَمُ يَهُودَ جَاءَانَا يَتَوَكَّفَانِ قُدُومَهُ
وَأَمَرَانَا بِاتِّبَاعِهِ جَاءَانَا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَأَمَرَانَا أَنْ نُقْرِئَهُ مِنْهُمَا السَّلَامَ ثُمَّ مَاتَا عَلَى
دِينِهِمَا وَدَفَنَّاهُمَا بِحَرَّتِنَا هَذِهِ، فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ
فَلَمْ يَتَكَلَّمْ مِنْهُمْ مُتَكَلِّمٌ، ثُمَّ أَعَادَ هَذَا
الْكَلَامَ وَنَحْوَهُ وَخَوَّفَهُمْ بِالْحَرْبِ وَالسِّبَاءِ
وَالْجَلَاءِ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَاطَا: قَدْ وَالتَّوْرَاةِ
قَرَأْتُ صِفَتَهُ فِي كِتَابِ بَاطَا التَّوْرَاةِ الَّتِي نَزَلَتْ
عَلَى مُوسَى لَيْسَ فِي الْمَثَانِي الَّذِي أَحْدَثْنَا، قَالَ
فَقَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: مَا يَمْنَعُكَ
(4/80)
يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ
اتِّبَاعِهِ؟ قَالَ أنت يا كعب. قَالَ كَعْبٌ فَلِمَ وَالتَّوْرَاةِ
مَا حُلْتُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَطُّ، قَالَ الزُّبَيْرُ: بَلْ أَنْتَ
صَاحِبُ عَهْدِنَا وَعَقْدِنَا فَإِنِ اتَّبَعْتَهُ اتَّبَعْنَاهُ
وَإِنْ أَبَيْتَ أَبَيْنَا. فَأَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى عَلَى
كَعْبٍ فَذَكَرَ مَا تُقَاوَلَا فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ قال عمرو مَا
عِنْدِي فِي أَمْرِهِ إِلَّا مَا قُلْتُ:
مَا تَطِيبُ نَفْسِي أَنْ أَصِيرَ تَابِعًا. رَوَاهُ البيهقي
غَزْوَةَ بَنِي لِحْيَانَ
الَّتِي صَلَّى فِيهَا صَلَاةَ الخوف بعسفان ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ
فِي الدَّلَائِلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا ابْنُ إسحاق فيما رأيته من
طريق هِشَامٍ عَنْ زِيَادٍ عَنْهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى من سنة ثنتين
مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ وَهُوَ
أَشْبَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ
الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الجبار وَغَيْرُهُ قَالُوا: لَمَّا أُصِيبَ
خُبَيْبٌ وَأَصْحَابُهُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَالِبًا بِدِمَائِهِمْ لِيُصِيبَ مِنْ بَنِي
لِحْيَانَ غِرَّةً، فَسَلَكَ طَرِيقَ الشَّامِ لِيُرَيَ أَنَّهُ لَا
يُرِيدُ بَنِي لِحْيَانَ، حَتَّى نَزَلَ بِأَرْضِهِمْ فَوَجَدَهُمْ
قَدْ حَذِرُوا وَتَمَنَّعُوا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّا هَبَطْنَا
عُسْفَانَ لَرَأَتْ قُرَيْشٍ أَنَّا قَدْ جِئْنَا مَكَّةَ» فَخَرَجَ
فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ حَتَّى نَزَلَ عُسْفَانَ ثُمَّ بَعَثَ
فَارِسَيْنِ حَتَّى جَاءَا كُرَاعَ الْغَمِيمِ ثُمَّ انْصَرَفَا،
فَذَكَرَ أَبُو عَيَّاشٍ الزُّرَّقِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِعُسْفَانَ صَلَاةَ الْخَوْفِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عن مجاهد عن ابن عَيَّاشٍ
قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِعُسْفَانَ فَاسْتَقْبَلَنَا الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ وَهُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَصَلَّى بِنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الظهر
فقالوا: قد كانوا على حالي لو أصبنا غرتهم. ثم قالوا تأتى الآن عليهم
صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.
قَالَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَ الظَّهْرِ
وَالْعَصْرِ وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ 4: 102
قَالَ فَحَضَرَتْ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذُوا السِّلَاحَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ
صَفَّيْنِ ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعْنَا
جَمِيعًا ثُمَّ سَجَدَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ وَالْآخَرُونَ
قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ فَلَمَّا سَجَدُوا وَقَامُوا جَلَسَ
الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا فِي مَكَانِهِمْ ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ
إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ وَجَاءَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ
قَالَ ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعُوا جَمِيعًا ثُمَّ رَفَعَ فرفعوا جميعا ثم
سجد الصف الَّذِي يَلِيهِ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ
فَلَمَّا جَلَسُوا جَلَسَ الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا ثُمَّ سَلَّمَ
عَلَيْهِمْ ثُمَّ انْصَرَفَ. قَالَ فَصَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ مرة بأرض عسفان وَمَرَّةً
بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ. ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ
شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ نَحْوَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ
وَالنَّسَائِيُّ عَنِ الْفَلَّاسِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ
الصَّمَدِ عَنْ
(4/81)
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى وَبُنْدَارٍ
عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ
وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي
خَيْثَمَةَ زهير بن معاوية عن أبي الزبير عن جَابِرٍ قَالَ غَزْونَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا مِنَ
جُهَيْنَةَ فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَلَمَّا أَنْ صَلَّى
الظَّهْرَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لَوْ مِلْنَا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً
لَاقْتَطَعْنَاهُمْ فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَذَكَرَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَقَالُوا إِنَّهُ
سَتَأْتِيهِمْ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَوْلَادِ»
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ
الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ الظَّهْرَ بِنَخْلٍ فَهَمَّ
بِهِ الْمُشْرِكُونَ ثُمَّ قَالُوا دَعُوهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ صَلَاةً
بَعْدَ هَذِهِ الصَّلَاةِ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ،
قَالَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره فصلى بأصحابه صلاة العصر فصفهم صفين بين
أيديهم رسول الله وَالْعَدُوُّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا جَمِيعًا وَرَكَعُوا
جَمِيعًا ثم سجد الذين يلونهم وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ فَلَمَّا رَفَعُوا
رُءُوسَهُمْ سَجَدَ الْآخَرُونَ ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ وَتَأَخَّرَ
هَؤُلَاءِ فَكَبَّرُوا جَمِيعًا وَرَكَعُوا جَمِيعًا ثُمَّ سَجَدَ
الَّذِينَ يَلُونَهُ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ فَلَمَّا رَفَعُوا
رُءُوسَهُمْ سَجَدَ الْآخَرُونَ، وَقَدِ اسْتَشْهَدَ الْبُخَارِيُّ فِي
صَحِيحِهِ بِرِوَايَةِ هِشَامٍ هَذِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ
جَابِرٍ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْهُنَائِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ بَيْنَ ضَجَنَانَ
وَعُسْفَانَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّ لِهَؤُلَاءِ صَلَاةً هِيَ
أَحَبُّ اليهم من أبنائهم وأبكارهم وَهِيَ الْعَصْرُ فَاجْمَعُوا
أَمْرَكُمْ فَمِيلُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً. وَإِنَّ
جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأمره أن يقيم أصحابه شطرين فيصلي ببعضهم ويقدم الطَّائِفَةُ
الْأُخْرَى وَرَاءَهُمْ وَلِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ
ثُمَّ تَأْتِي الْأُخْرَى فَيُصَلُّونَ مَعَهُ وَيَأْخُذُ هَؤُلَاءِ
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ لِيَكُونَ لَهُمْ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِرَسُولِ
اللَّهِ رَكْعَتَانِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ
حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قُلْتُ إِنْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ شَهِدَ هَذَا فَهُوَ بعد خبير
وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ مُرْسِلَاتِ الصَّحَابِيِّ وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي سِيَاقِ
حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ
الطَّيَالِسِيِّ أَمْرُ عُسْفَانَ وَلَا خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ. بَقِيَ الشَّأْنُ فِي أَنَّ
غَزْوَةَ عُسْفَانَ قَبْلَ الْخَنْدَقِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنَّ مِنَ
الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صَلَاةَ
الْخَوْفِ إِنَّمَا شُرِعَتْ بَعْدَ يَوْمِ الْخَنْدَقِ فَإِنَّهُمْ
أَخَّرُوا الصَّلَاةَ يَوْمَئِذٍ عَنْ مِيقَاتِهَا لِعُذْرِ الْقِتَالِ
وَلَوْ كَانَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ مَشْرُوعَةً إِذْ ذَاكَ لَفَعَلُوهَا
وَلَمْ يُؤَخِّرُوهَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَغَازِي:
إِنَّ غَزْوَةَ بَنِي لِحْيَانَ الَّتِي صَلَّى فِيهَا صَلَاةَ
الْخَوْفِ بُعُسْفَانَ كَانَتْ بَعْدَ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَقَدْ ذَكَرَ
الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ:
لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ لَقِيَتْهُ بِعُسْفَانَ فَوَقَفْتُ بإزائه
وتعرضت له فصلى بأصحابه الظهر أمامنا فَهَمَمْنَا أَنْ نُغِيرَ
عَلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُعْزَمْ لَنَا فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى
(4/82)
مَا فِي أَنْفُسِنَا مِنَ الْهَمِّ بِهِ
فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْعَصْرِ صَلَاةَ الْخَوْفِ. قُلْتُ:
وَعُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ
بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ كَمَا سَيَأْتِي. وَفِي سِيَاقِ
حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ مَا يَقْتَضِي أَنَّ آيَةَ
صَلَاةِ الْخَوْفِ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ يَوْمَ عُسْفَانَ
فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةِ خَوْفٍ صَلَّاهَا
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
كَيْفِيَّةَ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَاخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا فِي
كِتَابِ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ
وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ
غَزْوَةُ ذات الرقاع
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ
شَهْرَيْ رَبِيعٍ وَبَعْضَ جُمَادَى ثُمَّ غَزَا نَجْدًا يُرِيدُ بَنِي
مُحَارِبٍ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطْفَانَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى
الْمَدِينَةِ أَبَا ذَرٍّ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ عُثْمَانُ
بْنُ عَفَّانَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ نَخْلًا
وَهِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ لِأَنَّهُمْ
رَقَّعُوا فِيهَا رَايَاتِهُمْ، وَيُقَالُ لِشَجَرَةٍ هُنَاكَ اسْمُهَا
ذَاتُ الرِّقَاعِ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ بِجَبَلٍ فِيهِ بُقَعٌ حُمْرٌ
وَسُودٌ وَبِيضٌ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: إِنَّمَا سُمِّيَتْ
بِذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَرْبُطُونَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ مِنَ الْخِرَقِ
مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا
مِنْ غَطَفَانَ فَتَقَارَبَ النَّاسُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ
وَقَدْ خَافَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى صَلَّى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ صَلَاةَ
الْخَوْفِ، وَقَدْ أَسْنَدَ ابْنُ هِشَامٍ حَدِيثَ صَلَاةِ الْخَوْفِ
هَاهُنَا عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ التَّنُّورِيِّ عَنْ
يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ وَعَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَعَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ
نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ
الطُّرُقِ غَزْوَةَ نَجْدٍ وَلَا ذَاتِ الرِّقَاعِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ
لِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ وَفِي كَوْنِ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ
الَّتِي كَانَتْ بِنَجْدٍ لِقِتَالِ بَنِي مُحَارِبٍ وَبَنِي
ثَعْلَبَةَ بْنِ غَطَفَانَ قَبْلَ الْخَنْدَقِ نَظَرٌ. وَقَدْ ذَهَبَ
الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ خَيْبَرَ وَاسْتَدَلَّ
عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ شَهِدَهَا كَمَا
سَيَأْتِي وَقَدُومُهُ إِنَّمَا كَانَ لَيَالِيَ خَيْبَرَ صُحْبَةَ
جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَدْ قَالَ
صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
غَزْوَةِ نَجْدٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا
بَعْدَ الْخَنْدَقِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ إِنَّمَا أَجَازَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِتَالِ أَوَّلَ مَا
أَجَازَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نَجْدٍ
فَذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَقَوْلُ الْوَاقِدِيِّ إِنَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ خَرَجَ إِلَى ذَاتِ الرِّقَاعِ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ
وَيُقَالُ سَبْعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِعَشْرٍ
خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ فِيهِ نَظَرٌ، ثُمَّ لَا
يَحْصُلُ بِهِ نَجَاةٌ مِنْ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إِنَّمَا شُرِعَتْ
بَعْدَ الْخَنْدَقِ لِأَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ
خَمْسٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ،
فَتَحَصَّلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَخْلَصٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى وَأَبِي هُرَيْرَةَ فُلَا
(4/83)
قِصَّةُ غَوْرَثِ بْنِ الْحَارِثِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ: حَدَّثَنِي عَمْرُو
بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ
رَجُلًا مِنَ بَنِي مُحَارِبٍ يُقَالُ لَهُ غَوْرَثٌ قَالَ لِقَوْمِهِ
مِنْ غَطَفَانَ وَمُحَارِبٍ: أَلَا أَقْتُلَ لَكُمْ مُحَمَّدًا؟
قَالُوا بَلَى وَكَيْفَ تَقْتُلُهُ؟ قَالَ: أَفْتِكُ بِهِ. قَالَ:
فَأَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ جَالِسٌ، وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حِجْرِهِ. فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ، أَنْظُرُ إِلَى سيفك
هذا؟ قال: نعم، فأخذه ثم جعل يهزه ويهم، فكبته اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ:
يَا مُحَمَّدُ، أَمَا تَخَافُنِي؟ قال: لا، ما أَخَافُ مِنْكَ؟ قَالَ:
أَمَا تَخَافُنِي وَفِي يَدِي السَّيْفُ. قَالَ: لَا، يَمْنَعُنِي
اللَّهُ مِنْكَ. ثُمَّ عَمَدَ إِلَى سَيْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ
فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى الله
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 5: 11. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ أنها انما أنزلت فِي عَمْرِو بْنِ
جَحَّاشٍ أَخِي بَنِي النَّضِيرِ وَمَا هَمَّ بِهِ. هَكَذَا ذَكَرَ
ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ غَوْرَثٍ هَذَا عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ
الْقَدَرِيِّ رَأْسِ الْفِرْقَةِ الضَّالَّةِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَا
يُتَّهَمُ بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّهُ
مِمَّنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْوَى عَنْهُ لِبِدْعَتِهِ وَدُعَائِهِ
إِلَيْهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ
هَذَا الْوَجْهِ وللَّه الْحَمْدُ. فَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ
الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا طُرُقًا لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ عِدَّةِ
أَمَاكِنَ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ
جَابِرٍ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غَزْوَةَ نَجْدٍ فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ
كَثِيرِ الْعِضَاهِ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ
ظِلِّ شَجَرَةٍ فَعَلِقَ بِهَا سَيْفُهُ. قَالَ جَابِرٌ: فَنِمْنَا
نَوْمَةً فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَدْعُونَا فَأَجَبْنَاهُ وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي
يَدِهِ صَلْتًا فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ.
فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ اللَّهُ. فَشَامَ السَّيْفَ
وَجَلَسَ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَفَّانَ عَنْ أَبَانٍ عَنْ
يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ:
أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ، وَكُنَّا إِذَا أَتَيْنَا
عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلَّقٌ
بِشَجَرَةٍ، فَأَخَذَ سَيْفَ رسول الله فَاخْتَرَطَهُ وَقَالَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَافُنِي؟
قَالَ: لَا. قَالَ فَمَنْ يَمْنَعُكَ منى؟ قال: الله يمنعني منك قال:
فهدده أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَغْمَدَ السَّيْفَ وَعَلَّقَهُ. قَالَ: وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ
فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَصَلَّى
بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ قَالَ: فَكَانَتْ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ
وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ وَقَدْ عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ
الْجَزْمِ عَنْ أَبَانٍ بِهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ مُسَدَّدٌ
(4/84)
عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ
إِنَّ اسْمَ الرَّجُلِ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ. وَأَسْنَدَ
الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محارب وغطفان بِنَخْلٍ فَرَأَوْا
مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ
غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيف وقال من يمنعك من قَالَ
اللَّهُ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السيف وَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ
مِنِّي فَقَالَ كُنْ خَيْرَ آخِذٍ. قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ أُعَاهِدُكَ عَلَى أَنْ لَا
أُقَاتِلَكَ وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ، فخلى سبيله
فأتى أصحابه وقال: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ. ثُمَّ
ذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَأَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِكُلِّ
طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ هُنَا طُرُقَ
صَلَاةِ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ عَنْ صَالِحِ بْنِ خُوَّاتِ بْنِ
جُبَيْرٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَحَدِيثَ الزُّهْرِيِّ
عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ بِنَجْدٍ وَمَوْضِعُ
ذَلِكَ كِتَابُ الأحكام. والله أَعْلَمُ
قِصَّةُ الَّذِي أُصِيبَتِ امْرَأَتُهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَمِّي صَدَقَةُ بْنُ
يَسَارٍ عَنْ عَقِيلِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ فَأَصَابَ رَجُلٌ
امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلًا، أَتَى زَوْجُهَا
وَكَانَ غَائِبًا، فَلَمَّا أُخْبِرَ الْخَبَرَ حَلَفَ لَا يَنْتَهِي
حَتَّى يُهَرِيقَ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ دَمًا فَخَرَجَ يَتْبَعُ
أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا فَقَالَ
مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا لَيْلَتَنَا فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَا: نَحْنُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَكُونَا بِفَمِ الشِّعْبِ مِنَ الْوَادِي،
وَهُمَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فَلَمَّا
خَرَجَا إِلَى فَمِ الشِّعْبِ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ لِلْمُهَاجِرِيِّ:
أَيُّ اللَّيْلِ تُحِبُّ أَنْ أَكْفِيَكَهُ أَوَّلَهُ أَمْ آخِرَهُ؟
قَالَ: بَلِ اكْفِنِي أَوَّلَهُ، فَاضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ فَنَامَ
وَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي، قَالَ: وَأَتَى الرَّجُلُ فَلَمَّا
رَأَى شَخْصَ الرَّجُلِ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةُ الْقَوْمِ فَرَمَى
بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَانْتَزَعَهُ وَوَضَعَهُ وَثَبَتَ قَائِمًا
قَالَ: ثُمَّ رَمَى بِسَهْمٍ آخر فوضعه فيه فنزعه فَوَضَعَهُ وَثَبَتَ
قَائِمًا قَالَ ثُمَّ عَادَ لَهُ بِالثَّالِثِ فَوَضَعَهُ فِيهِ
فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ أَهَبَّ صَاحِبَهُ
فَقَالَ: اجْلِسْ فَقَدْ أثبت قال: فوثب الرجل فلما رآهما عَرَفَ
أَنَّهُ قَدْ نَذِرَا بِهِ فَهَرَبَ قَالَ: وَلَمَّا رَأَى
الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالْأَنْصَارِيِّ مِنَ الدِّمَاءِ قَالَ
سُبْحَانَ اللَّهِ أَفَلَا أَهْبَبْتَنِي أَوَّلَ مَا رَمَاكَ قَالَ
كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا
حَتَّى أُنْفِذَهَا فَلَمَّا تَابَعَ عَلَيَّ الرَّمْيَ رَكَعْتُ
فَآذَنْتُكَ وَايْمُ اللَّهِ لَوْلَا أن أضيع ثعرا أَمَرَنِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِهِ لَقَطَعَ
نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا أَوْ أُنْفِذَهَا. هَكَذَا ذَكَرَهُ
ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ
أَبِي تَوْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
الْعُمَرِيِّ عَنْ أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ خُوَّاتٍ عَنْ أَبِيهِ حَدِيثَ صَلَاةِ
(4/85)
الْخَوْفِ بِطُولِهِ قَالَ وَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَصَابَ فِي
مَحَالِّهِمْ نِسْوَةً، وَكَانَ فِي السَّبْيِ جَارِيَةٌ وَضِيئَةٌ
وَكَانَ زَوْجُهَا يُحِبُّهَا فَحَلَفَ لِيَطْلُبَنَّ مُحَمَّدًا وَلَا
يَرْجِعُ حَتَّى يُصِيبَ دَمًا أَوْ يُخَلِّصَ صَاحِبَتَهُ ثُمَّ
ذَكَرَ مِنَ السِّيَاقِ نَحْوَ مَا أَوْرَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
يَقُولُ بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِفَرْخٍ طَائِرٍ
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ
إِلَيْهِ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا حَتَّى
طَرَحَ نَفْسَهُ فِي يَدَيِ الَّذِي أَخَذَ فَرْخَهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ
النَّاسَ عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا الطَّائِرِ أَخَذْتُمْ
فَرْخَهُ فَطَرَحَ نَفْسَهُ رَحْمَةً لِفَرْخِهِ فو الله لَرَبُّكُمْ
أَرْحَمُ بِكُمْ مِنْ هَذَا الطَّائِرِ بِفَرْخِهِ
قِصَّةُ جَمَلِ جَابِرٍ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غَزْوَةِ ذَاتِ
الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ فَلَمَّا قَفَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَتِ
الرِّفَاقُ تَمْضِي وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مالك يَا جَابِرُ؟
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا. قَالَ:
أَنِخْهُ، قَالَ فَأَنَخْتُهُ وَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: أَعْطِنِي هَذِهِ الْعَصَا
مِنْ يَدِكَ أَوِ اقْطَعْ عَصًا مِنْ شَجَرَةٍ فَفَعَلْتُ فَأَخَذَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَخَسَهُ بِهَا
نَخَسَاتٍ ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ فَرَكِبْتُ فَخَرَجَ وَالَّذِي
بَعَثَهُ بِالْحَقِّ يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ مُوَاهَقَةً. قَالَ:
وَتَحَدَّثْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فقال:
أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ؟ قَالَ: قُلْتُ بَلْ أَهِبُهُ
لَكَ قَالَ: لَا وَلَكِنْ بِعْنِيهِ، قَالَ: قُلْتُ فَسُمْنِيهِ،
قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِدِرْهَمٍ، قَالَ قُلْتُ: لَا إِذًا
تَغْبِنُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَبِدِرْهَمَيْنِ، قَالَ:
قُلْتُ لَا، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الْأُوقِيَّةَ، قَالَ فقلت:
أفقد رضيت؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ فَهُوَ لَكَ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ
ثُمَّ قَالَ: يَا جَابِرُ هَلْ تَزَوَجْتَ بَعْدُ، قَالَ قُلْتُ:
نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
أَثِيِّبًا أَمْ بِكْرًا، قَالَ: قُلْتُ بَلْ ثِيِّبًا، قَالَ: أَفَلَا
جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتَلَاعِبُكَ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ بَنَاتٍ لَهُ
سَبْعًا فَنَكَحْتُ امْرَأَةً جَامِعَةً تَجْمَعُ رُءُوسَهُنَّ
فَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ.
قَالَ: أَصَبْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَمَا إِنَّا لَوْ جِئْنَا
صِرَارًا أَمَرْنَا بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا
يَوْمَنَا ذَلِكَ وَسَمِعَتْ بِنَا فَنَفَضَتْ نَمَارِقَهَا، قَالَ:
فَقُلْتُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا نَمَارِقَ، قَالَ:
إِنَّهَا سَتَكُونُ فَإِذَا أَنْتَ قَدِمْتَ فَاعْمَلْ عَمَلًا
كَيِّسًا، قَالَ: فَلَمَّا جِئْنَا صِرَارًا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجزور فنحرت وأقمنا عَلَيْهَا
ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ وَدَخَلْنَا. قَالَ: فَحَدَّثْتُ
الْمَرْأَةَ الْحَدِيثَ وَمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: فَدُونَكَ فَسَمْعٌ وَطَاعَةٌ
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخَذْتُ بِرَأْسِ الْجَمَلِ فَأَقْبَلْتُ بِهِ
حَتَّى أَنَخْتُهُ عَلَى بَابِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْهُ،
قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(4/86)
فَرَأَى الْجَمَلَ فَقَالَ: مَا هَذَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
هَذَا جَمَلٌ جَاءَ بِهِ جَابِرٌ، قَالَ: فَأَيْنَ جَابِرٌ، فَدُعِيتُ
لَهُ، قَالَ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي خُذْ بِرَأْسِ جَمَلِكَ فَهُوَ
لَكَ، قَالَ: وَدَعَا بِلَالًا فَقَالَ: اذْهَبْ بِجَابِرٍ فَأَعْطِهِ
أُوقِيَّةً، قَالَ: فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً وزادني
شيئا يسيرا، قال: فو الله مَا زَالَ يَنْمِي عِنْدِي وَيُرَى مَكَانُهُ
مِنْ بيننا حَتَّى أُصِيبَ أَمْسِ فِيمَا أُصِيبَ لَنَا. يَعْنِي يوم
الحرة. وقد أخرجه صاحب الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ الْعُمَرِيِّ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ
بِنَحْوِهِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ:
فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله
أن الله أحياء وَالِدَهُ وَكَلَّمَهُ فَقَالَ لَهُ تَمَنَّ عَلَيَّ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ شَهِيدٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ 9: 111
وَزَادَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
الْحُسْنى وَزِيادَةٌ 10: 26 ثُمَّ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْعِوَضِ
وَالْمُعَوَّضِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمُ الَّتِي اشْتَرَاهَا
مِنْهُمْ فَقَالَ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ 3: 169
وَالرُّوحُ لِلْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ الْمَطِيَّةِ كَمَا قَالَ
ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
قَالَ: فَلِذَلِكَ اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَنْ جَابِرٍ جَمَلَهُ وَهُوَ مَطِيَّتُهُ فَأَعْطَاهُ
ثَمَنَهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَزَادَهُ مَعَ ذَلِكَ. قَالَ فَفِيهِ
تَحْقِيقٌ لِمَا كَانَ أَخْبَرَهُ بِهِ عَنْ أَبِيهِ. وَهَذَا الَّذِي
سَلَكَهُ السُّهَيْلِيُّ هَاهُنَا إِشَارَةٌ غَرِيبَةٌ وَتَخَيُّلٌ
بَدِيعٌ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ تَرْجَمَ
الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ)
عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ فَقَالَ: باب ما كان
ظَهَرَ فِي غَزَاتِهِ هَذِهِ مِنْ بَرَكَاتِهِ وَآيَاتِهِ فِي جَمَلِ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَهَذَا
الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ عَنْ جَابِرٍ وَأَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ وَفِيهِ
اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِي كِمِّيَّةِ ثَمَنِ الْجَمَلِ وَكَيْفِيَّةِ مَا
اشْتُرِطَ فِي الْبَيْعِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ وَاسْتِقْصَاؤُهُ لَائِقٌ
بِكِتَابِ الْبَيْعِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
جَاءَ تَقْيِيدُهُ بِهَذِهِ الْغَزْوَةِ وَجَاءَ تَقْيِيدُهُ
بِغَيْرِهَا كَمَا سَيَأْتِي وَمُسْتَبْعَدٌ تَعْدَادُ ذَلِكَ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ |